الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القبض:
صوره وبخاصة المستجدة منها، وأحكامها
إعداد
سعادة الدكتور عبد الله محمد عبد الله
مستشار محكمة الاستئناف العليا بالكويت
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على رسوله محمد وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فهذه نظرات سريعة في " القبض، وصوره، وخاصة المستجدة منها، وأحكامها ". . وجعلت الكلام فيه على قسمين:
القسم الأول: وتناولت فيه التعريف لغة واصطلاحًا ثم بينت كيفية القبض وصورة واستعرضت مذاهب الفقهاء (الأحناف، المالكية، الشافعية، الحنابلة) ، ثم بينت أحكام القبض ومذاهب الفقهاء وأدلة كل مذهب في حكم التصرف قبل القبض وحكمته، وذكرت بالتفصيل ما يعتبر قبضًا وما لا يعتبر كذلك ثم بينت مكان القبض ومذاهب الأئمة فيه.
أما القسم الثاني: فقد جعلته لدراسة القبض في التقنينات الوضعية واقتصرت في الدراسة على القوانين المدنية الكويتى، المصرى، السوري، العراقي، اللبناني، الليبي. ثم بينت زمان التسليم ومكانه في هذه القوانين، ثم بينت أحكام القبض في العقود التجارية، وتناولت بالدارسة القبض في شركات المساهمة وبحثت القبض في العقود البحرية (الدولية) وتناولت بالدراسة بيوع الوصول وبيوع القيام، ثم قمت بمقارنة هذه العقود بالعقود في الفقه الإسلامي كبيع الأعيان الغائبة وبيوع الأعيان الموصوفة في الذمة، وختمت البحث بإجراء مقارنة بين هذه العقود في الفقه والقانون واستخلاص حكم القبض كنتيجة وثمرة لهذه المقارنة.
القسم الأول
تعريف القبض:
تعريف القبض لغة: جاء في معجم مقاييس اللغة مادة قبض: أن القاف والباء والضاد أصل واحد يدل على شيء مأخوذ. تقول: قبضت الشيء من المال وغيره قبضًا.
وقال الزمخشري في الأساس: قبض المتاع وأقبضته إياه وقبضته. وتقابض المتبايعان، وقابضته مقابضة وأقبضته.
وفي الاصطلاح: عرفه صاحب البدائع بقوله: وأما تفسير التسليم والقبض، فالتسليم والقبض عندنا هو التخلية والتخلي، وهو أن يخلي البائع بين المبيع وبين المشتري برفع الحائل بينهما على وجه يتمكن المشتري من التصرف فيه، فيجعل البائع مسلمًا للمبيع والمشتري قابضًا له، وكذا تسليم الثمن من المشتري إلى البائع (1) .
ويزيد هذا المعنى توضيحًا فيقول: إن التسليم في اللغة عبارة عن جعله سالمًا خالصًا يقال: سلم فلا لفلان، أي: خلص له قال تعالى: {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} ، أي: سالما خالصا لا يشركه فيه أحد فتسليم المبيع إلى المشتري هو جعل المبيع سالمًا للمشتري، أي: خالصًا بحيث لا ينازعه فيه غيره، وهذا يحصل بالتخلية، فكانت التخلية تسليما من البائع، والتخلي قبضا من المشتري وكذا هذا في تسليم الثمن إلى البائع، لأن التسليم واجب، ومن عليه الواجب لا بد وأن يكون له سبيل الخروج عن عهدة ما وجب عليه. والذي في وسعه هو التخلية ورفع الموانع، فأما الإقباض فليس في وسعه، لأن القبض بالبراجم فعل اختياري للقابض (2)
(1) البدائع: 7 / 3248.
(2)
بدائع الصنائع: 7 / 3248.
كيفية القبض وصوره:
ينقل صاحب البدائع اتفاق أئمة الأحناف في أن أصل القبض يحصل بالتخلية في سائر الأموال إلا أنهم يختلفون في أنها هل هي قبض تام فيها، أم لا؟
ثم قال: وجملة الكلام فيه: أن المبيع لا يخلو إما أن يكون مما له مثل، وإما أن يكون مما لا مثل له.
فإن كان مما لا مثل له من المذروعات والمعدودات المتفاوتة فالتخلية فيها قبض تام بلا خلاف، حتى لو اشترى مذروعًا مذارعة، أو معدودًا معاددة، ووجدت التخلية يخرج عن ضمان البائع، ويجوز بيعه والانتفاع به قبل الذرع والعد بلا خلاف.
وإن كان مما له مثل، فإن باعة مجازفة فكذلك، لأنه لا يعتبر معرفة القدر في بيع المجازفة.
وإن باع مكايلة أو موازنة في المكيل والموزون، وخلي فلا خلاف في أن المبيع يخرج عن ضمان البائع، ويدخل في ضمان المشتري، حتى لو هلك بعد التخلية قبل الكيل والوزن يهلك على المشتري.
وكذا لا خلاف في أنه لا يجوز للمشتري بيعه والانتفاع به قبل الكيل والوزن.
وكذا لو أكتاله المشتري أو اتزنه من بائعه، ثم باعة مكايلة أو موازنة من غيره لم يحل للمشتري منه أن يبيعه أو ينتفع به حتى يكيله أو يزنه، ولا يكتفى باكتيال البائع أو اتزانه من بائعه وإن كان ذلك بحضرة هذا المشتري لما روي ((عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجرى فيه صاعان؛ صاع البائع وصاع المشتري)) وروي أنه عليه الصلاة والسلام:((نهى عن بيع الطعام حتى يكال)) .
حكم بيع المعدودات المتقاربة:
وأما المعدودات المتقاربة إذا بيعت عددا لا جزافًا فحكمها حكم المكيلات والموزنات عند أبى حنيفة حتى لا يجوز بيعها إلا بعد العد.
وعند أبي يوسف ومحمد حكمها حكم المذروعات فيجوز بيعها قبل العد.
وجه قولهما:
أن العددي ليس من أموال الربا كالذرع ولهذا لم تكن المساواة فيها شرطًا لجواز العقد كما لا تشترط في المذروعات فكان حكمه حكم المذروع.
وجه قول أبي حنيفة:
أن القدر في المعدود معقود عليه كالقدر في المكيل والموزون. لأنه لو عده فوجده زائدًا لا تطيب الزيادة له بلا ثمن بل يردها أو يأخذها بثمنها، ولو وجده ناقصًا يرجع بقدر النقصان كما في المكيل والموزون، دل أن القدر فيه معقود عليه، واحتمال الزيادة والنقصان في عدد المبيع ثابت فلابد من معرفة المعقود عليه، وامتيازه من غيره، ولا يعرف قدره إلا بالعد فأشبه المكيل والموزون.
ولهذا كان العد فيه المكيل والموزون في ضمان العدوان إلا أنه لم يجز فيه الربا، لأن المساواة بين واحد وواحد في العد ثبتت باصطلاح الناس، وإهدارهم التفاوت بينهما في الصغر والكبر لكن ما ثبت باصطلاح الناس جاز أن يبطل باصطلاحهم، ولما تبايعا واحد باثنين فقد أهدرا اصطلاح الإهدار واعتبرا الكبر لأنها قصد البيع الصحيح ولا صحة إلا باعتبار الكبر وسقوط العد، فكان أحدهما من أحد الجانبين بمقابلة الكبير من الجانب الآخر فلا يتحقق الربا (1) .
أما هنا فلابد من اعتبار العد إذا بيع عدًّا واذا اعتبر العد لا يجوز التصرف فيه قبل القبض كما في المكيل والموزون بخلاف المذروع، فإن القدر فيه ليس بمعقود عليه، فكانت التخلية فيه قبضًا تامًّا فكان تصرفا في المبيع المنقول بعد القبض وأنه جائر (2) .
(1) البدائع: 7 / 3248 – 3251
(2)
البدائع: 7 / 3252. وهذا بيان للصطلحات: المثلي والقيمي والعدديات المتفاوتة والعدديات المتقاربة وغيرها كما جاء بمحلة الأحكام العدلية مرتبة حسب مواد المجلة. مادة 132 – المقدرات ما تتعين مقاديرها بالكيل أو الوزن أو العدد أو الذراع وهي شاملة للمكيلات، والموزونات والعدديات، والمذورعات. مادة 133 – الكيلي والمكيل هو ما يكال: كالحنطة والشعير. مادة 134 – الوزني والموزون هو ما يوزن: كالدبس والعسل والسكر. مادة 135 – العددي والمعدود وهو ما يعد: كالبيض والجوز والبطيخ. مادة 136- الذرعي والمذروع هو ما يقاس بالذراع. مادة 137 – المحدود هو العقار الذي يمكن تعيين حدود وأطرافه. مادة 138- المشاع ما يحتوي على حصص شائعة (ويشمل المثلي والقيمي والعرضي والنقدي) مادة 145 – المثلي ما يوجد مثله في السوق بدون تفاوت يعتد به. كالجوز والبيض والحنطة والشعير والجوخ والأواني المصنوعة في المعامل: أي أن المثلي يشترط وجود مثله في السوق لا في أيدي الناس فقط، ويشترك أن لا يكون متفاوتًا بالسعر كالكتب المطبوعة التي قل عددها وندر وجودها أو تعالت قيمتها فإنها تصير قيمية. مادة 146 – القيمي ما لا يوجد مثله في السوق أو يوجد لكن مع التفاوت المعتد به في القيمة كالعدديات المتفاوتة والحنطة المخلوطة بالشعير والأواني المصنوعة باليد المختلفة من حيث الصنعة والكتب الخطية والكتب المطبوعة إذا قل عددها وزادت قيمتها. مادة 147 – العدديات المتقاربة هي المعدودات التي لا يكون بين أفرادها وآحادها تفاوت في القيمة فجميعها من المثليات. مادة 148- العدديات المفاوتة هي المعدودات التي يكون بين أفرادها وآحادها تفاوت في القيمة فجميعها من القيميات.
مذهب المالكية:
قالوا: إن قبض العقار يكون بالتخلية (1) واشترطوا في دار السكنى إخلاءها من أمتعه البائع، ولا يكتفي بالتخلية (2) أما غير العقار فمرجع القبض فيه إلى العرف وذلك مما ليس فيه حق توفية، أما ما فيه حق توفية، فإن كان مكيلًا أو موزونًا أو معدودًا أو مذروعًا فقبضه بالكيل أو الوزن أو العد أو الذرع.
وشرطوا في قبض المثلي تسليمه للمشتري وتفريغه في أوعيته (3) وإن كان منقولًا من عروض وأنعام فقبضه بالعرف الجاري بين الناس كاحتياز الثوب وتسليم مقود الدابة (4) وإن كان جزافا فقبضه نقله لحديث ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: كانوا يتبايعون الطعام جزافا بأعلى السوق، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه. وفي رواية " حتى يحولوه "(5) .
(1) مواهب الجليل 4/477
(2)
الشرح الكبير: 3/ 145
(3)
الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 3/ 144:
(4)
الشرح الكبير: 3/145.
(5)
فتح الباري: 4/350، شرح النووي على مسلم
مذهب الشافعية:
قال النووي: الرجوع في القبض إلى العرف وهو ثلاثة أقسام:
أحدها – العقار والثمر على الشجرة فقبضه بالتخلية.
الثاني- ما ينقل في العادة كالأخشاب والحبوب والحيتان نحوها فقبضه بالنقل إلى مكان لا اختصاص للبائع به سواء نقل إلى ملك المشتري أو موات أو شارع أو مسجد أو غيره.
وفي قول حكاه الخراسانيون أنه يكتفى فيه بالتخلية.
والثالث – ما يتناول باليد كالدراهم والدنانير والمنديل والثوب والإناء الخفيف والكتاب ونحوها فقبضه بالتناول بلا خلاف (1) .
ويقول البيضاوي: والمحكم فيه العرف. فقبض العقار بالتخلية والمنقول بالنقل على الأظهر إلى حيز لا يختص بالبائع، فإن اختص به فبإذنه ليكون إعارة مع التقدير إن بيع مقدرًا لأنه عليه الصلاة والسلام ((نهى عن بيع الطعام حتى يجرى فيه الصاعان: صاع البائع، وصاع المشتري)) .
ومجرد التخلية في المنقول أو النقل في المقدر ينقل ضمان العقد ولا يجوز التصرف (2) .
وفصل الرافعي صور القبض فقال: القول الجملي فيه أن الرجوع فيما يكون قبضًا إلى العادة ويختلف باختلاف المال.
وتفصيله: أن المال إما أن يباع من غير اعتبار تقدير فيه، أو يباع معتبرًا فيه التقدير.
* الحالة الأولى: أن لا يعتبر فيه تقدير إما لعدم إمكانه أو مع الإمكان، فينظر إن كان المبيع مما لا ينقل كالدور والأراضي فقبضه بالتخلية بينه وبين المشتري، وتمكينه من اليد والتصرف بتسليم المفتاح إليه ولا يعتبر دخوله وتصرفه فيه. ويشترط كونه فارغاًَ من أمتعة البائع، فلو باع دارًا فيها أمتعة للبائع توقف التسليم على تفريغها، وكذا لو باع سفينة مشحونة بأمتعة لكون البائع مستعملًا للمبيع منتفعًا به.
لو جمع البائع متاعه في بيت من الدار، وخلي بين المشتري وبين الدار حصل القبض فيما عدا ذلك البيت.
وإن كان المبيع من جملة المنقولات: فالمذهب المشهور وبه قال أحمد: إنه لا يكفي فيه التخلية بل لا بد من النقل والتحويل.
وقال مالك وأبو حنيفة: أنه يكفي التخلية كما في العقار. وعن رواية حرملة قول مثله.
وفيه وجه آخر أن التخلية كافية لنقل الضمان إلى المشتري وغير كافية للتسلط على التصرف، لأن البائع أتى بما عليه. والمقصر المشتري حيث لم ينقل فليثبت ما هو حق للبائع.
(1) المجموع: 9 / 264.
(2)
الغاية القصوى في دراية الفتوى: 1/483
وجه ظاهر المذهب:
ما روي عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: كنا نشتري الطعام من الركبان جزافًا فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه.
وأيضا: فإن العادة في قبض المنقول النقل من موضعه، فإن كان دابة فيسوقها ويقودها.
وإن كان المبيع في موضع لا يختص بالبائع كموات أو مسجد أو شارع أو في موضع يختص بالمشتري فالنقل من حيز إلى حيز كافٍّ.
وإن كان في دار البائع أو في بقعة مخصوصة به فالنقل من زاوية إلى زاوية أو من بيت من الدار إلى بيت آخر بدون إذن البائع لا يكفي لجواز التصرف، ولكن يكفي لدخوله في ضمانه.
وإن نقل بإذنه حصل القبض، وكأنه استعار ما نقل اليه المال (1)
الحالة الثانية: أن يباع الشيء باعتبار تقدير فيه: كما إذا اشترى ثوبًا أو أرضًا مذارعة أو متاعًا موازنة أو صبرة حنطة مكايلة أو معدودًا بالعدد، فلا يكفي للقبض ما مر في الحالة الأولى بل لا بد مع ذلك من الذرع أو الوزن أو الكيل أو العدد (2) .
مذهب الحنابلة:
تضمنت مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد في المواد من (333) إلى (336) جملة من الأحكام المتعلقة بالقبض وكيفيته. فقد نصت المادة (333) على أن " قبض كل شيء بحسبه عرفًا، فقبض المنقول المبيع جزافًا يحصل بنقله، وقبض ما يتناول باليد بتناوله كالدراهم، وقبض الحيوان بتمشيته ".
ونصت المادة (334) على أن قبض الدار ونحوها بالتخلية، ولو كان فيها متاع البائع وبتسليم مفتاح الدار، أو فتح بابها للمشتري. ونصت المادة (335) على أن " قبض العقار والثمار على الأشجار وكل ما لا ينقل يحصل بالتخلية".
ونصت المادة (336) على أن " المبيع كيلًا أو وزنًا، أو ذراعًا، أو عدًّا يعتبر قي قبضه إجراء عمل الكيل أو الوزن أو الذرع أو العد بحضور المشتري أو نائبه، ويصح استنابة البائع المشتري في العمل المذكور".
وأورد صاحب المغني آراء الأئمة وأدلتهم في كيفية القبض وصوره وحكى رأيًا آخر للإمام أحمد غير الذي سبق عرضه وجملة ما قال: إن قبض كل شيء بحسبه، فإن كان مكيلًا أو موزونًا بيع كيلًا أو وزنًا فقبضه بكيله ووزنه. وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: التخلية في ذلك قبض. وقد روى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى قال: إن القبض في كل شيء بالتخلية مع التمييز، لأنه خلى بينه وبين المبيع من غير حائل، فكان قبضًا له كالعقار (3) .
(1) فتح العزيز شرح الوجيز بذيل المجموع: 8 / 442 – 445.
(2)
فتح العزيز شرح الوجيز: 8/448
(3)
المغني: 4/101
القبض في بيع الجزاف:
وإن بيع جزافًا فقبضه نقله، لأن ابن عمر قال:" كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا طعامًا جزافًا أن يبيعوه في مكانه حتى يحولوه". وفي لفظ " كنا نبتاع الطعام جزافًا فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من مكانه الذي ابتعناه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه ".
وفي لفظ: " كنا نشتري الطعام من الركبان جزافًا، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله " رواه مسلم.
وهذا يبين أن الكيل إنما وجب فيما بيع كيلًا. وقد دل على ذلك أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم ((إذا سميت الكيل فكل)) رواه الأثرم.
القبض في المنقول:
وإن كان المبيع دراهم أو دنانير فقبضها باليد. وإن كان ثيابًا فقبضها نقلها. وإن كان حيوانًا فقبضه تمشيته من مكانه.
القبض في غير المنقول:
وإن كان مما لا ينقل ويحول فقبضه التخلية بينه وبين مشتريه لا حائل دونه. لأن القبض مطلق في الشرع فيجب الرجوع فيه إلى العرف كالإحراز والتفرق (1) .
أحكام القبض:
للقبض حكمان:
أحدهما: انتقال الضمان إلى المشتري، فالمبيع قبل القبض من ضمان البائع. فلو تلف المبيع بنفسه انفسخ العقد، لأن البائع التزم تسليمه في مقابلة الثمن، فإذا تعذر لزم سقوطه.
وعن مالك وأحمد فيما رواه ابن الصباغ أنه إذا لم يكن المبيع مكيلًا ولا موزونًا ولا معدودًا فهو من ضمان المشتري ومنهم من أطلق رواية الخلاف عنهما (2) .
الثاني: تسليط المشتري على التصرف فإنه عليه الصلاة والسلام " نهى عن بيع ما لم يقبض " وسببه ضعف الملك، وقيل: توالي الضمانين. وتفصيل هذه الأحكام سياتي بيانه في مواضعه إن شاء الله (3) .
(1) المغني: 4/102
(2)
فتح العزيز شرح الوجيز هامش المجموع: 8 / 397، 398، المغني: 4/ 97، 98، القوانين الفقهية: ص 164.
(3)
بدائع الصنائع: 7/3250، الغاية القصوى في دراية الفتوى: 1/485، روضة الطالبين: 3/499، 506، كشاف القناع: 3/241، شرح مجلة الأحكام العدلية على المادة 369، الموسوعة الفقهية: 9/36
التصرف في المبيع قبل القبض
وتحته مبحثان:
• المبحث الأول: حكمة النهي عن بيع المبيع قبل القبض.
• المبحث الثاني: حكم التصرف في المبيع قبل القبض.
المبحث الأول
حكمة النهي عن بيع المبيع قبل القبض
ذهب فريق من العلماء إلى أن النهي عن بيع المبيع قبل القبض تعبدي غير معقول المعني (1)
وذهب آخرون إلى أنه معقول المعنى ولهم في تبيان وجهات نظرهم ما يمكن إجماله في الآتى:
أولًا: فيه سد لباب الربا ويظهر ذلك في كلام ابن عباس – رضي الله عنهما – ردًّا على استفسار طاوس قال: قلت لابن عباس كيف ذاك؟ قال: ذاك دراهم بدراهم، والطعام مرجأ. ومعناه: أنه استفهم عن سبب هذا النهي فأجابه ابن عباس بأنه إذا باعه المشتري قبل القبض وتأخر المبيع في يد البائع فكأنه باعه دراهم بدراهم.
وتوضيح ذلك: أن من اشترى طعامًا بمائة دينار مثلًا، ودفعها للبائع ولم يقبض منه الطعام، ثم باع الطعام لآخر بمائة وعشرين دينارًا وقبضها، والطعام في يد البائع فكأنه باع مائة دينار بمائة وعشرين دينار (2) .
وكذلك وجه من عمم النهي في سائر المبيعات ولم يقصره على الطعام بقول ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا مثله (3) .
ولمسلم من طريق معمر عن ابن طاوس عن أبيه: وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام.
قالوا: وهذا من تفقه ابن عباس، فأجروا المنع في كل أنواع المبيع وهو رأي طائفة من الأئمة على ما سيأتي تفصيلًا (4) .
ثانيا: وعلل آخرون الحرمة بأن غرض الشارع سهولة الوصول إلى الطعام ليتوصل إليه القوي والضعيف، ولو جاز البيع قبل القبض لربما أخفى إمكان شرائه من مالكه وبيعه خفية فلم يتوصل إليه الفقير وليظهر للفقراء فتقوى به قلوب الناس لا سيما في زمن الشدة، ولأجل نفع نحو الكيال والحمال منع الشارع بيع المبيع قبل القبض (5) .
(1) بدائع الصنائع: 7/3248، حاشية الدسوقي: 3/151، الفواكه الدواني: 2/117.
(2)
فتح الباري: 5/252
(3)
فتح الباري: 5/252.
(4)
فتح الباري: 5/252، شرح النووي على مسلم: 10/168
(5)
حاشية الدسوقي: 3/151، 152، الفواكه الدواني: 2/117.
ثالثا: وعلل الأحناف الحرمة لمكان انعدام القبض على التمام بالكيل أو الوزن وذلك أنه كما لا يجوز التصرف في المبيع المنقول بدون قبضه أصلًا لا يجوز بدون قبضه بتمامه.
ووجهوا قولهم بأن الكيل والوزن في المكيل والموزون الذي بيع مكايلة وموازنة من تمام القبض، أن القدر في المكيل والموزون معقود عليه، لأنه لو كيل فازداد لا تطيب له الزيادة بل ترد أو يفرض لما ثمن، ولو نقص يطرح بحصته شيء بصحته شيء من الثمن، ولا يعرف القدر فيهما إلا بالكيل والوزن لا حتمال الزيادة والنقصان، فلا يتحقق قبض قدر المعقود عليه إلا بالكيل والوزن، فكان الكيل والوزن فيه من تمام القبض. ولا يجوز بيع المنقول قبل قبضه بتمامه كما لا يجوز قبل قبضه أصلا بخلاف المذروعات. لأن القدر فيها ليس معقودا عليه بل هو جار مجرى الوصف، والأوصاف لا تكون معقودا عليها، ولهذا سلمت الزيادة للمشتري بلا ثمن. وفي النقصان لا يسقط عنه شيء من الثمن فكانت التخلية فيها قبضا تامًّا فيكتفى بها في جواز التصرف قبل الذرع بخلاف المكيلات والموزونات. إلا أنه يخرج عن ضمان البائع بالتخلية نفسها لوجود القبض بأصله والخروج عن ضمان البائع يتعلق بأصل القبض لا بوصف الكمال، فأما جواز التصرف فيه فيستدعي قبضًا كاملًا لورود النهي عن بيع ما لم يقبض، والقبض المطلق هو القبض الكامل (1) .
رابعا: وعللوا أيضا بأن البيع قبل القبض على غرر انفساخ العقد الأول على تقدير هلاك المبيع في يد البائع، وإذا هلك المبيع قبل القبض ينفسخ العقد فتبين أنه باع ما لا يملك والغرر حرام غير جائز، ولم يفرقوا بين الطعام وغيره من المنقولات (2) .
وقال الشافعية: إن علة النهي لتوالي الضمانين ومعناه أن يكون المبيع مضمونًا في حالة واحدة لاثنين، وبيان ذلك أننا لو صححنا بيعه لكان مضمونًا للمشتري الأول على البائع الأول، والثاني على الثاني وسواء باعه المشتري للبائع أو لغيره. وقالت طائفة بجواز بيعه لبائعه تفريعًا على العلة الثانية وهي توالي الضمان فإنه لا يتوالى إذا كان المشتري هو البائع لأنه لا يصير في الحال مقبوضًا (3) .
وعلل الحنابلة على الرواية التي اختارها ابن عقيل بأنه لم يتم الملك عليه فلم يجز بيعه كما لو كان غير متعين، وكما لو كان مكيلًا أو موزونًا (4) .
(1) بدائع الصنائع: 7/3248
(2)
الموسوعة الفقهية: 9/124
(3)
المجموع: 9/266
(4)
المغني: 4/221
المبحث الثانى
في حكم التصرف في المبيع قبل القبض
وفيه مطلبان:
الأول: في مذاهب العلماء ،وأقوالهم في المسألة
الثاني: في بيان أدلة كل مذهب.
المطلب الأول
في بيان مذاهب العلماء وأقوالهم في المسألة
اختلفت العلماء في مسألة بيع المبيع قبل قبضه على أقوال:
الأول: المنع مطلقًا سواء كان طعامًا أو عقارًا أو منقولًا أو نقدًا أو غيره، وهو قول الشافعي وقول أبي يوسف الأول وقول محمد، ورواية عن أحمد.
الثانى: الجواز مطلقًا في كل مبيع وهو قول عثمان البتي.
الثالث: الجواز في العقار وما في معناه والمنع في غيره، وهو قول أبي حنيفة.
الرابع: لا يجوز في الطعام ويجوز فيما سواه وهو قول مالك ووافقه كثيرون قال ابن المنذر: وهو أصح المذاهب لحديث النهي عن بيع الطعام قبل أن يستوفى.
الخامس: لا يجوز في المكيل والوزون ويجوز فيما سواهما. قال عثمان بن عفان، وسعيد بن المسيب والحسن والحكم وحماد والأوزاعي وأحمد وإسحاق. ورواية المذهب عند الحنابلة أن المكيل والموزون والمعدود – وزاد في الإقناع – والمذروع فإنه لا يصح تصرف المشتري فيه قبل قبضه من بائعه. وأما ما عدا المكيل والموزون ونحوهما فيجوز التصرف فيه قبل قبضه (1) .
وقبل أن ننتقل إلى سوق الأدلة نشير إلى حكم بيع الجزاف:
ذكر صاحب فتح الباري عن مالك في المشهور عنه أنه أجاز بيع الجزاف قبل قبضه وبه قال الأوزاعي وإسحاق واحتج لهم بأن الجزاف مرئي فتكفي فيه التخليه.
وعن أحمد في بيع الجزاف قبل نقله ورايتان: قال ونقلها قبضها (2) .
والقول بحواز البيع قبل النقل اختيار القاضي من الحنابلة (3) .
(1) شرح النووي على مسلم: 10/168- 170، عمدة القاري: 9/332، فتح البارى: 5/253، المجموع: 7/270، المتفقي: 4/280، المغني: 4/97، 98، كشاف القناع 3/241، اختلاف العلماء لأبي عبد الله بن نصر المروزى تحقيق السيد صبححي السامرائي: ص 247 – 249.
(2)
فتح الباري: 5/254، المغني: 4/112
(3)
المغني: 4/112، بداية المجتهد: 2/144، 145، 146
المطلب الثاني
في بيان أدلة كل مذهب
أدلة المذهب الأول:
أستدل أصحاب هذا المذهب بالأحاديث التي نهت عن بيع المبيع قبل قبضه ونقله وتحويله عن المكان الذي بيع فيه. ومن هذه الأحاديث:
1-
حديث: " من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه " قال ابن عباس: وأحسب كل شئ مثله.
2-
" من ابتاع طعامًا فلا بيعه حتى يقبضه " قال أبن عباس: وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام.
3-
وحديث: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يكتاله)) فقلت لابن عباس: لم؟ فقال: ألا تراهم يتبايعون بالذهب والطعام مرجأ؟
4-
عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه)) .
5-
وعنه أيضا قال: ((كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتاع الطعام فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه)) .
فمن هذه الأحاديث أخذ من أطلق المنع في كل شيء سواء كان طعامًا أو عقارًا أو منقولًا أو نقدًا أو غيره (1)
(1) شرح النووي على مسلم: 10/169، 170.
أدلة المذهب الثاني:
وهذا المذهب نقله الأئمة عن عثمان البتي ولم يخل من تعليق عليه.
قال النووي: أما مذهب عثمان البتي فحكاه المازري والقاضي، ولم يحكه الأكثرون، بل نقلوا الإجماع على بطلان بيع الطعام المبيع قبل قبضه، قالوا: وإنما الخلاف فيما سواء فهو شاذ متروك، والله أعلم (1) .
وقال الحافظ شهاب الدين ابن حجر: قال القرطبي: هذه الأحاديث حجة على عثمان البتي حيث أجاز بيع كل شيء قبل قبضه. (2)
وقال ابن قدامة: ولم أعلم بين أهل العلم خلافًا إلا ما حكي عن البتي أنه قال: لا بأس ببيع كل شيء قبل قبضه.
وقال ابن عبد البر: وهذا قول مردود بالسنة والحجة المجمعة على الطعام وأظنه لم يبلغه هذا الحديث، ومثل هذا لا يلتفت اليه (3) .
ويؤخذ من هذا أن إسناد هذا القول إلى عثمان البتي صحيح أما استدلاله على مذهبه فلعل مستنده فيما ذهب إليه عموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} ، فهو يفيد بعمومه جواز بيع المنقول وغير المنقول قبل القبض وبعده.
أدلة المذهب الثالث:
وهم الذين فرقوا بين المنقول والعقار.
قال في درر الحكام: والأظهر لقواعد الأصول ما ذكر في العناية وهو أن الأصل أن يكون بيع المنقول وغير المنقول قبل القبض جائزا لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} لكن خص منه الربا بدليل مستقل مقارن وهو قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} والعالم المخصوص يجوز تخصيصه بخبر الواحد وهو ما روي أنه صلى الله عليه وسلم ((نهى عن بيع ما لم يقبض)) ثم لا يخلو، إما أن يكون معلولًا بغرر الانفساخ أو لا، فإن كان، يثبت المطلوب حيث لا يتناول العقار، وإن لم يكن وقع التعارض بينه وبين ما روي في السنن مسندًا إلى الأعرج عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم ((نهى عن بيع الغرر)) وبينه وبين أدلة الجواز تعارض وذلك يستلزم الترك وجعله معلولًا بذلك إعمال لثبوت التوفيق حينئذ والإعمال متعين لا محالة فيكون مختصًّا بعقد ينفسخ بهلاك العوض قبل القبض (4) .
(1) شرح النووي على مسلم: 10/170
(2)
فتح الباري: 5/253.
(3)
المغني: 4/102
(4)
درر الحكام شرح غرر الأحكام: 2/183.
أدلة المذهب الرابع:
وهم الذين قصروا المنع على الطعام وهم المالكية.
وللإمام الباجي في المنتقي كلام فيه تفصيل نسوقه في فرعين:
الأول: في المبيع الذي لا يجوز بيعه قبل القبض.
والثاني: في بيان العقود التي لا يجوز أن يتوالى منها عقدان لا يتخللهما قبض.
الفرع الأول: في المبيع الذي لا يجوز بيعه قبل القبض.
قال الباجي: المبيع على ضربين: مطعوم، وغير مطعوم.
فالمطعوم على قسمين: قسم يجري فيه الربا، وقسم لا يجري فيه الربا.
فإما ما يجرى فيه الربا فلا خلاف على المذهب في أنه لا يجوز بيعه قبل استيفائه.
وأما ما لا يجرى فيه الربا فعن مالك في كل ذلك روايتان:
أحدهما: أنه لا يجوز بيعه قبل قبضه وهو المشهور من المذهب.
والثانية: روى ابن وهب عن مالك أنه يجوز بيعه قبل قبضه.
وجه الرواية الأولى. ما احتج به من قول النبي صلى الله عليه وسلم ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه)) . وهذا يصح الاحتجاج به في هذا الحكم على قول من يمنع التخصيص بعرف اللغة.
وأما من رأى التخصيص بعرف اللغة فلا يُجَوِّز الاحتجاج بهذا الحديث على هذا الحكم، لأن لفظة الطعام إذا أطلقت فإنما يفهم منها بعرف الاستعمال الحنطة دون غيرها.
ولذلك لو قال رجل: مضيت إلى سوق الطعام لم يفهم منه إلا سوق الحنطة.
وأما من جهة القياس: فإن هذا مطعوم فلم يجز بيعه قبل قبضه الذي يجري فيه الربا.
ووجه الرواية الثانية: أنا ما لا يجوز فيه التفاضل نقدًا فإنه لا يحرم بيعه قبل قبضه كغير المطعوم.
وإذا قلنا بإجراء هذا الحكم في المقتات خاصة فلا فرق بينهما فإذا أجريناه في كل مطعوم فلا فرق بين هذا وبين حكم الربا. وهذا في المطعوم المقتات المكيل أو الموزون.
وروى ابن القاسم عن مالك في المبسوط، وكذلك المعدود لا يجوز ذلك فيه حتى يقبضه.
وقد قال غيره من أصحابنا وهو المذهب.
وأن كان غير مطعون فمذهب مالك أنه لا مدخل لهذا الحكم في غير المطعوم ولا تعلق له به سواء كان مكيلًا أو موزونًا أو غير مكيل ولا موزون (1) .
الفرع الثاني: في بيان العقود التي لا يجوز أن يتوالى منها عقدان لا يتخللهما قبض.
قال: العقود على ضربين: معاوضة، وغير معاوضة.
فإما المعاوضة كالبيع وما في معناه من الإجارة، والمصالحة والمناكحة، والمخالعة كأرزاق القضاة والمؤذنين وأصحاب السوق، فإن هذا كله يؤخذ على وجه المعارضة، وهذا العقود تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1-
قسم يختص بالمغابنة والمكايسة كالإجارة والبيع وما كان في حكمهما.
2-
وقسم يصح أن يقع على وجه المغابنة، ويصح أن يقع على وجه الرفق كالإقالة والشركة والتولية.
3-
وقسم لا يكون إلَاّ على وجه الرفق كالقرض.
فالقسم الأول لا خلاف أنه لا يجوز أن يتوالى منه عقدان من جنس واحد أو من جنسين مختلفين على معين أو ثابت في الذمة لا يتخللهما قبض. والأصل في ذلك الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيع الطعام قبل أن يستوفى.
ومن جهة المعنى الوقاية من الربا ولئلا يتوصل أهل العينة بذلك إلى بيع دنانير بأكثر منها.
(1) المنتقي: 4/279، 280، بداية المجتهد: 2/144، 145
ووبيان ذلك أن صاحب العينة يريد أن يدفع دنانير في أكثر منها نقدًا أو إلى أجل، فإذا علم بالمنع في ذلك توصل إليه بأن يذكر حنطة بدينار ثم يبتاعه بنصف دينار دون استيفاء ولا قصد لبيعه ولا لابتياعه، فلما كثر هذا وكانت الأقوات مما يتعامل بها في كثير من البلاد ولا سيما بلاد العرب، وكان ذلك مما يقصد لهذا المعنى كثيرًا لمعرفة جميع الناس لثمنه وقيمته ووجود أكثر الناس له منع من ذلك فيها، وشرط في صحة توالي البيع فيها تخلل القبض والاستيفاء، لأن ذلك نهاية التبايع فيها وإتمام العقد ولزومه، ولم يشترط ذلك في سائر المبيعات لأنه لم يتكرر تعامل أهل العينة بها، لأن ثمنها يخفى في الأغلب ويقل مشتروها.
والقسم الثاني: وهو ما صح أن يقع من عقود المعاوضة على وجه الإِرفاق ووجه المغابنة كالإِقالة والشركة والتولية، فإن وقع على وجه الرفق فإنه يصح أن يلي البيع في الطعام قبل القبض.
ووجه وقوعه على الرفق، أن يكون على حسب ما وقع عليه البيع فيه، فإن تغير عنه لزيادة ثمن أو صفة أو نقص أو مخالفة في جنس ثمن أو أجل خرج عن وجه الرفق إلى البيع الذي لا يجوز.
والأصل في جواز ذلك إذا وقع على وجه الرفق ما رواه سحنون في المدونة عن ابن القاسم عن سليمان بن يسار عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه إلَاّ ما كان من شركة أو تولية أو إقالة)) .
ومن جهة المعنى: أن هذه عقود مبنية على المعروف والمواصلة دون المغابنة والمكايسة التي لمضارعتها منع بيع الطعام قبل استيفائه.
والقسم الثالث: وهو ما يختص بالرفق من عقود المعاوضة كالقرض، فإنه يجوز أن يتكرر على الطعام قبل قبضه، وأن يلي البيع ويليه البيع لا خلاف في ذلك.
والضرب الثاني: وهو ما كان غير معاوضة، وهو ما يلزم في الذمة من الطعام بغير عقد مثل أن يلزمها بالغصب والتعدي. فقيل إنه كالقرض يجوز بيعه قبل قبضه.
وحكى القاضي أبو محمد أنه كالبيع إن كان مثلًا لمتلف ولا يجوز بيعه قبل قبضه.
وأما ما كان من العقود ليس فيه معاوضة كالهبة والصدقة والعطية فلا بأس أن يتوالى على الطعام قبل قبضه لأنها ليست من عقود المعاوضة ولا يتصور فيها معنى العينة التي لها منع بيع الطعام قبل اسيتفائه (1) .
(1) المنتقى: 4/280-282، بداية المجتهد: 2/143، 144.
دليل المذهب الأخير:
ربط الخرقي في مختصره بين ما يجوز بيعه قبل قبضه وما لا يجوز وبين ما يحتاج إلى قبض ما لا يحتاج إلى قبض فقال: ومن اشترى ما يحتاج إلى قبضه لم يجز بيعه حتى يقبضه. قال صاحب المغني: " قد ذكرنا الذي لا يحتاج إلى قبض والخلاف فيه"(1) . ثم بين ما يحتاج إلى قبض فقال: "وإذا وقع البيع على مكيل أو على موزون أو معدود فتلف قبل قبضه فهو من مال البائع"(2) . وقال في الإِقناع: (ومن اشترى شيئًا بكيل أو وزن أو عدٍّ أو ذرع ملكه بالعقد) . فألحق ما بيع مذارعة بالمكيل والموزون والمعدود (3) .
وقال صاحب المغني: ظاهر كلام الخرقي أن المكيل والموزون والمعدود لا يدخل في ضمان المشتري إلاّ بقبضه سواء كان متعينًا كالصبرة، أو غير متعين كقفيز منها، وهو ظاهر كلام أحمد، ونحوه قول إسحاق.
وروي عن عثمان بن عفان وسعيد بن المسيب والحسن والحكم وحماد بن أبي سليمان: أن كل ما بيع على الكيل والوزن لا يجوز بيعه قبل قبضه، وما ليس بمكيل ولا موزون يجوز بيعه قبل قبضه (4) .
* * *
(1) المغني: 4/102.
(2)
المغني: 4/97.
(3)
كشاف القناع: 3/241.
(4)
المغني: 4/97.
بيان ما يعتبر قبضًا وما لا يعتبر كذلك:
وتفصيل أقواله الأئمة فيه على الوجه التالي:
قال الأحناف: المبيع لا يخلو إما أن يكون في يد البائع، وإما أن يكون في يد المشتري.
فإذا كان في يد البائع فأتلفه المشتري صار قابضًا له، لأنه صار قابضًا بالتخلية فبالإِتلاف أولى، وكذلك كل تصرف نقص منه شيئًا، لأن التخلية تمكين من التصرف في المبيع، والإِتلاف تصرف فيه حقيقة، والتمكين من التصرف دون حقيقة التصرف، لأن هذه الأفعال في الدلالة على التمكين فوق التخلية، وكذلك لو فعل البائع شيئًا من ذلك بأمر المشتري، لأن فعله بأمر المشتري بمنزلة فعل المشتري نفسه.
ولو أعار المشتري المبيع للبائع أو أودعه أو آجره لم يكن شيء من ذلك قبضًا، لأن هذه التصرفات لم تصح من المشتري، لأن يد الحبس بطريقة الأصالة ثابتة للبائع فلا يتصور إثبات يد النيابة له بهذه التصرفات فلم تصح والتحقت بالعدم.
ولو أعاره أو أودعه أجنبيًا صار قابضًا لأن الإِعارة والإِيداع إياه صحيح فقد أثبت يد النيابة لغيره فصار قابضًا.
جناية الأجنبي:
ولو جنى أجنبي على المبيع فاختار المشتري اتباع الجاني بالضمان كان اختياره بمنزلة القبض عند أبي يوسف.
وعند محمد لا يكون. حتى لو توى الضمان على الجاني بأن مات مفلسًا كان التوى على المشتري ولا يبطل البيع عند أبي يوسف ويتقرر عليه الثمن، وعند محمد يبطل البيع والتوي (1) على البائع ويسقط الثمن عن المشتري (2) .
وكذا لو استبدل المشتري الضمان ليأخذ مكانه من الجاني شيئًا آخر جاز عند أبي يوسف.
وعند محمد لا يجوز، لأن هذا تصرف في المعقود عليه قبل القبض، لأن القيمة قائمة مقام العين المستهلكة، والتصرف في المعقود عليه قبل القبض لا يجوز لا من البائع ولا من غيره.
ولو أمر المشتري البائع أن يعمل في المبيع عملًا، فإن كان عملًا لا ينقصه كالقصارة والغسل بأجر أو بغير أجر لا يصير قابضًا، لأن التصرف الذي يوجب نقصان المحل مما يملكه البائع باليد الثابتة كما إذا نقله من مكان إلى مكان فكان الأمر به استيفاء لملك اليد فلا يصير به قابضًا، وتجب الأجرة على المشتري إن كان بأجر، لأن الإِجارة قد صحت، ولأن العمل على البائع ليس بواجب فجاز أن تقابله الأجرة.
وإن كان عملًا ينقصه يصير قابضًا، لأن تنقيصه إتلاف جزء منه وقد حصل بأمره فكان مضافًا إليه كأنه فعله بنفسه (3) .
(1) التوى يقال: توِيَ المال هلك وذهب فهو تو وتاوٍ ومنه: "لا توى على مال أمرئ مسلم" أنيس الفقهاء للقونوي: ص 225.
(2)
بدائع الصنائع: 7/3254.
(3)
بدائع الصنائع: 7/3255.
المبيع في يد المشتري:
وإذا كان المبيع في يد المشتري وقت البيع فهل يصير قابضًا للمبيع بنفس العقد أم يحتاج فيه إلى تجديد القبض؟
لا يخلو الحال من ثلاثة فروض:
إن كان مثل المستحق بالعقد ينوب منابه.
وإن لم يكن مثله:
فإن كان أقوى من المستحق ناب عنه.
وإن كان دونه لا ينوب، لأنه إذا كان مثله أمكن تحقيق التناوب، لأن المتماثلين ينوب كل واحد منهما مناب صاحبه ويسد مسده.
وإن كان أقوى منه يوجد فيه المستحق وزيادة.
وإن كان دونه لا يوجد فيه إلَاّ بعض المستحق فلا ينوب عن كله (1) .
وبيان ذلك: أن المشتري قبل الشراء إما أن تكون يد ضمان وإما أن تكون يد أمانة.
فإن كانت يد ضمان: فإما أن تكون يد ضمان بنفسه، وإما أن تكون يد ضمان بغيره.
فإن كان يد ضمان بنفسه كيد الغاصب يصير المشتري قابضًا للمبيع بنفس العقد ولا يحتاج إلى تجديد القبض سواء كان حاضرًا أو غائبًا، لأن المغصوب مضمون بنفسه، والمبيع بعد القبض مضمون بنفسه فتجانس القبضان فناب أحدهما عن الآخر، لأن التجانس يقتضي التشابه، والمتشابهات ينوب كل واحد منهما مناب صاحبه، ويسد مسده سواء كان المبيع حاضرًا أو غائبًا.
وإن كانت يده يد ضمان لغيره كيد الرهن بأن باع الراهن المرهون من المرتهن فإنه لا يصير قابضًا إلَاّ أن يكون الرهن حاضرًا، أو يذهب إلى حيث الرهن ويتمكن من قبضه، لأن المرهون ليس بمضمون بنفسه بل بغيره وهو الدين، والمبيع مضمون بنفسه فلم يتجانس القبضان فلم يتشابها فلا ينوب أحدهما عن الآخر، ولأن الرهن أمانة في الحقيقة فكان قبضه قبض أمانة، وإنما يسقط الدين بهلاكه لمعنى آخر لا لكونه مضمونًا، وإذا كان أمانة فقبض الأمانة لا ينوب عن قبض الضمان كقبض العارية والوديعة.
(1) بدائع الصنائع: 7/757.
وإن كانت يد المشتري يد أمانة كيد الوديعة والعارية لا يصير قابضًا إلَاّ أن يكون بحضرته أو يذهب إلى حيث يتمكن من قبضه بالتخلي لأن يد الأمانة ليست من جنس يد الضمان فلا يتناوبان (1) .
وقال المالكية: إن إتلاف المشتري لمبيع مقوم أو مثلي زمن ضمان البائع كالقبض فيلزمه الثمن (2) .
وقال في المنتقى: قبض المسلم إليه الطعام من نفسه فإذن المسلم لا يجوز أن يباع به، وكذلك قبض زوجته إلَاّ أن يكون ولده الكبير الذي قد بان الحيازة عنه فلا بأس بذلك (3) .
وقال أيضًا: لو استوفى كيلة منه ثم تركه عنده أو عند غيره جاز له أن يبيعه قبل أخذه منه.
وجه ذلك: أنه لو استوفاه وتركه عنده وديعة، واستيفاء من وهب أو تصدق به عليه أو قرضه يبيح له بيعه، لأنه قد حل محل من كان له (4) .
وقال ابن عبد السلام: إن من كان عنده طعام وديعة وشبهها فاشتراه من مالكه، فإنه لا يجوز له بيعه بالقبض السابق على الشراء لأنه قبض غير تام بدليل أن رب الطعام لو أراد إزالته من يده ومنعه من التصرف فيه كان له ذلك إلَاّ أن يكون ذلك القبض قويًّا كما في حق الوالد لولديه الصغيرين، فإنه إذا باع طعام أحدهما من الآخر وتولى البيع والشراء عليهما كان له أن يبيع ذلك الطعام على من اشتراه له قبل أن يقبضه ثانيًا وكذلك الوصي في يتيمه (5) ، ومثله الرهن (6) .
وقال الخرشي شارحًا لقول خليل: "وطعامًا كلته وصدّقك"وإن أسلمت إلى رجل في مدي حنطة إلى أجل، فلما حل أجله قلت له: كله في غرائرك، أو في ناحية بيتك، أو في غرائر دفعتها إليه فقال له بعد ذلك، قد كلته وضاع عندي، فقال مالك: لا يعجبني هذا – ابن يونس: يريد مالك، ولا يبيعه بذلك القبض. ابن القاسم: وأنا أراه ضامنًا للطعام إلَاّ أن تقوم بينه على كيله أو تصدقه أنت في الكيل، فيقبل قوله في الضياع، لأنه لما اكتاله صرت أنت قابضًا له (7) .
(1) بدائع الصنائع: 8/3258.
(2)
الشرح الصغير: 3/203.
(3)
المنتفى: 4/283.
(4)
المنتقى: 4/282.
(5)
شرح الخرشي على خليل: 5/164.
(6)
حاشية العدوي على الخرشي: 5/164.
(7)
شرح الخرشي على خليل: 5/168.
مذهب الشافعية:
قالوا: المستحق للإِنسان عند غيره، عين، ودين.
والعين ضربان: أمانة، ومضمون.
الضرب الأول: الأمانات يجوز للمالك بيعها لتمام الملك وهي كالوديعة في يد المودع، ومال الشركة والقراض في يد الشريك والعامل، والمال في يد الوكيل في البيع ونحوه. وفي يد المرتهن بعد فكاك الرهن، وفي يد المستأجر بعد فراغ المدة، والمال في يده القيم بعد بلوغ الصبي رشدًا.
والضرب الثاني: المضمونات وهي نوعان:
الأول: المضمون بالقيمة ويسمي ضمان اليد فيصبح بيعه قبل القبض لتمام الملك فيه، ويدخل فيه ما صار مضمونًا بالقيمة لعقد مفسوخ وغيره.
ولو فسخ السلم لانقطاع المسلم فيه، فللمسلم بيع رأس المال قبل استرداده، وكذا للبائع بيع المبيع إذا فسخ بإفلاس المشتري ولم يسترده بعد.
ويجوز بيع المال في يد المستعير والمستام في يد المشتري والمتّهب في الشراء والهبة الفاسدين، ويجوز بيع المغصوب للغاصب (1) .
الثاني: المضمون بعوض في عقد معاوضة لا يصح بيعه قبل القبض لتوهم الانفساخ بتلفه. وذلك كالبيع والأجرة، والعوض المصالح عليه عن المال.
والدين في الذمة ثلاثة أضرب: مثمن، وثمن، وغيرهما.
الضرب الأول: المثمن وهو المسلم فيه فلا يجوز الاستبدال عنه، ولا بيعه، وهل تجوز الحوالة به؟ بأن يحيل المسلم إليه بحقه على من له عليه دين قرض أو إتلاف، أو الحوالة عليه، بأن يحيل المسلم من له دين قرض أو إتلاف، على المسلم إليه؟ .
فيه ثلاثة أوجه: أصحها لا، والثاني نعم، والثالث لا تجوز عليه، وتجوز به.
(1) روضة الطالبين: 3/508، 509.
الضرب الثاني: الثمن، فإذا باع بدراهم أو دنانير في الذمة ففي الاستبدال عنها طريقان:
أحدهما: القطع بالجواز، قاله القاضي أبو حامد وابن القطان، وأشهرهما على قولين: أظهرهما وهو الجديد جوازه، والقديم منعه.
الضرب الثالث: ما ليس بثمن ولا مثمن كدين القرض والإِتلاف فيجوز الاستبدال عنه بلا خلاف، كما لو كان له في غيره مال بغصب أو عارية يجوز بيعه له (1) .
مذهب الحنابلة:
قالوا: إن كان لإِنسان في يد غيره وديعة أو عارية أو مضاربة أو جعله وكيلًا فيه جاز له بيعه ممن هو في يده ومن غيره، لأنه عين مال مقدور على تسليمها لا يخشى انفساخ الملك فيها فجاز بيعها كالتي في يده.
وإن كان غصبًا جاز بيعه ممن هو في يده، لأنه مقبوض معه فأشبه بيع العارية ممن هي في يده.
وأما بيعه لغيره، فإن كان عاجزًا عن استنقاذه، أو ظن أنه عاجز لم يصح شراؤه، لأنه معجوز عن تسليمه إليه فأشبه بيع الآبق والشارد. وإن ظن أنه قادر على استنقاذه ممن هو في يده صح البيع لإِمكان قبضه، فإن عجز عن استنقاذه فله الخيار بين الفسخ والإِمضاء، لأن العقد صح لكونه مظنون القدرة على قبضه، ويثبت له الفسخ للعجز عن القبض فأشبه ما لو باعه فرسًا فشردت قبل تسليمها، أو غائبًا بالصفة فعجز عن تسليمه (2) .
* * *
(1) روضة الطالبين: 3/512-514.
(2)
المغني: 4/103، 104.
مكان القبض وزمانه وبيان من تلزم نفقات المبيع:
الأصل أن يسلم المبيع في المكان الذي وجد فيه حين البيع، وإذا كان مكانه حين البيع غير معلوم فللمشتري خيار كشف الحال، وإذا اشترط تسليم المبيع في مكان معين يجب الوفاء بالشرط.
وقد نظمت مجلة الأحكام العدلية وفقًا للمذهب الحنفي هذه القواعد إذ جاءت نصوصها مبنية وموضوعة، هذه الأحكام في المواد (285) ، (286) ، (287) . حيث نصت المادة (285) على أن "مطلق العقد يقتضي تسليم المبيع في المحل الذي هو موجود فيه".
ونصت المادة (286) على أنه "إذا كان المشتري لا يعلم أن المبيع في أي محل وقت العقد وعلم به بعد ذلك كان مخيرًا إن شاء فسخ البيع، وإن شاء أمضاه وقبض المبيع حيث كان موجودًا".
ونصت المادة (287) على أنه "إذا بيع مال على أن يسلم في محل كذا لزم تسليمه في المحل المذكور".
كما جاءت المواد من 289 – 290 مبينة من تلزم النفقات فنصت على أن المصاريف المتعلقة بالثمن تلزم المشتري والمصاريف المتعلقة بتسليم المبيع تلزم على البائع وحده بخلاف الأشياء المبيعة جزافًا، فإن مؤنتها ومصاريفها على المشتري.
ونصت المادة (291) على أن "ما يباع محمولًا على الحيوان كالحطب والفحم والحنطة والتبن تكون أجرة نقله وإيصاله إلى بيت المشتري جارية على حساب عرف البلدة وعادتها".
وقالت المادة (292) إن "أجرة الكتابة والسندات والحجج وصكوك المبايعات تلزم المشتري لكن يلزم البائع تقرير البيع والإِشهاد عليه في المحكمة".
أما في المذهب المالكي: فإنهم قالوا: الأحسن اشتراط مكان الدفع فإن لم يعينا في العقد مكانًا فمكان العقد، وإن عيناه تعين (1) .
وأما المبيع الغائب فقد قال الخرشي: قبض الغائب والخروج للإِتيان به على المشتري (2) .
كما نصوا في مبحث السلم على أنه يلزم المسلم قبوله لو دفعه المسلم إليه في غير الذي اشترط التسليم فيه أو محل العقد إذا لم يشترطا محلًا (3) .
وعند الشافعية: إن من شروط السلم بيان محل التسليم.
قال النووي: الشرط الرابع، بيان محل التسليم، وفي اشتراط بيان مكان تسليم المسلم فيه المؤجل اختلاف.
أحدها: فيه قولان مطلقًا.
والثاني: إن عقدا في موضع يصلح للتسليم لم يشترط التعيين وإلَاّ اشترط.
والثالث: إن كان لحمله مؤنة اشترط وإلَاّ فلا.
والرابع: إن لم يصلح الموضع اشترط وإلَاّ فقولان.
والخامس: إن لم يكن لحمله مؤنة لم يشترط وإلَاّ فقولان.
والسادس: إن لم يكن له مؤنة اشترط وإلَاّ فقولان.
ثم قال: وأما السلم الحال فلا يشترط فيه التعيين كالبيع، ويتعين موضع العقد للتسليم لكن لو عينا غيره جاز بخلاف البيع (4) .
(1) القوانين الفقهية: ص 178.
(2)
شرح الخرشي: 5/36.
(3)
الشرح الصغير: 3/286.
(4)
روضة الطالبين: 4/13.
وقال الشرقاوي: وحاصله أن الصور ثمانية، لأن السلم إما حالّ أو مؤجل، وعلى كل إما أن يكون لنقله مؤنة أو لا، وعلى كل إما أن يكون المحل صالحًا للتسليم أو لا، فأربعة في الحال، وأربعة في المؤجل.
يجب البيان في خمسة منها، ثلاثة في المؤجل وهي: ما إذا كان الموضع غير صالح للتسليم، سواء كان لنقله مؤنة أم لا، أو صالحًا له ولنقله مؤنة.
واثنتان في الحال وهما: ما إذا كان الموضع غير صالح للتسليم سواء كان لنقله مؤنة أم لا.
ولا يجب في ثلاثة: واحدة في المؤجل، وهي ما إذا كان الموضع صالحًا ولا مؤنة للنقل.
واثنتان في الحال وهما: ما إذا كان صالحًا سواء لنقله مؤنة أم لا (1) .
مذهب الحنابلة:
جاء في مجلة الأحكام الشرعية في المواد من (341 – 425) أحكام القبض والتسليم مكان ومؤنته.
فقد تحدثت المادة (341) أن مقتضى العقد تسليم المبيع في مكان العقد إذا كان محل إقامة. ولو شرط العاقد تسليم المبيع في مكان معين معلوم فمؤنة إيصاله إلى ذلك المكان على البائع.
ونصت المادة (419) فيما يتعلق بتسليم المسلم فيه أن لا يشترط في السلم ذكر مكان الوفاء، ويلزم وفاؤه مكان العقد إلَاّ إذا جرى العقد في مكان ليس محلًّا للتسليم فيشترط ذكره.
وفي كشاف القناع: ولا يشترط للسلم ذكر مكان الإِيفاء إلا أن يكون موضوع العقد لا يمكن الوفاء فيه كبرية وبحر ودار حرب، فيشترط ذكره لتعذر الوفاء في موضع العقد (2) .
* * * *
(1) حاشية الشرقاوي على التحرير: 2/25.
(2)
كشاف القناع: 3/206، 246-248.
القسم الثاني
القبض في التقنينات الوضعية
نتناول في هذا القسم نتفًا من المسائل المتعلقة بالقبض في القوانين المدنية والتجارية والبيوع البحرية (الدولية) بإيجاز مع مقارنتها بأحكام الفقه الإِسلامي.
أولًا – القبض في القوانين المدنية:
من المقرر في القوانين المدنية أن الالتزام بتسليم المبيع هو التزام متفرع عن التزام بنقل الملكية، لأن المبيع قبل تسليمه يهلك على البائع. ومن هنا يجيء أن تبعة الهلاك تدور مع التسليم لا مع نقل الملكية (1) .
وتنص المادة (472) من القانون المدني الكويتي على أن التسليم يحصل بالتخلية بين المبيع والمشتري على وجه يتمكن به المشتري من حيازته والانتفاع به دون حائل ولو لم يقبضه بالفعل، ما دام البائع قد أعلمه بذلك (2) .
ونصت الفقرة الثانية من المادة (472 مدني كويتي) على أنه "يكون التسليم في كل شيء على النحو الذي يتفق مع طبيعته".
وتتفق هذه القوانين على أنه يجوز أن يتم التسليم بمجرد تراضي المتعاقدين إذا كان المبيع في حوزة المشتري عند البيع، أو اتفق على أن يستبقيه البائع في حوزته بعد البيع لسبب آخر غير الملك.
وقد أورد القانون اللبناني تفصيلًا لا مانع من ذكره فتقرر المادة (402) أن التسليم هو أن يضع البائع أو من يمثله الشيء المبيع تحت تصرف المشتري بحيث يستطيع أن يضع يده عليه وأن ينتفع به بدون مانع.
(1) الوسيط للسنهوري: 4/556، 557.
(2)
يقابله في التقنينات الأخرى المادة (435 من القانون المدني المصري، 403 مدني سوري، 538، 540 مدني عراقي، 424 مدني ليبي المادتين 402، 404 من قانون الموجبات والعقود اللباني) .
وتبين المادة (403) الحالات المختلفة للمبيع وكيف يكون التسليم في كل حالة فتقول: يتم التسليم على الأوجه الآتية:
أولًا: إذا كان المبيع عقارًا فبالتخلي عنه، وبتسليم مفاتيحه عند الاقتضاء، بشرط ألا يلاقي المشتري إذ ذاك ما يحول دون وضع يده على المبيع.
ثانيًا: إذا كان المبيع من المنقولات فبالتسليم الفعلي أو بتسليم مفاتيح المباني أو الصناديق المحتوية على تلك المنقولات أو بأي وسيلة أخرى مقبولة عرفًا.
ثالثًا: يتم التسليم حتى بمجرد قبول المتعاقدين، إذا كان إحضار المبيع غير ممكن في ساعة البيع، أو كان المبيع موجودًا تحت يد المشتري لسبب آخر.
رابعًا: ويتم أيضًا بتحويل أو بتسليم شهادة الإِيداع أو سند الشحن أو وثيقة النقل إذا كان المبيع أشياء مودعة في المستودعات العامة.
وتنص المادة (404) على أن تسليم المبيعات غير المادية كحق المرور مثلًا، يكون بتسليم الأسناد التي تثبت وجود الحق أو بإجازة البائع للمشتري أن يستعمله بشرط ألا يحول حائل دون هذا الاستعمال، وإذا كان موضوع الحق غير مادي وكان استعماله يستوجب وضع اليد على شيء ما، فعلى البائع حينئذ أن يمكن المشتري من وضع يده على هذا الشيء بدون مانع.
القبض الحكمي:
من صوره ما نصت عليه المادة (540) من القانون المدني العراقي بأنه إذا أجر المشتري المبيع قبل قبضه إلى بائعه، أو باعه منه أو وهبه إياه أو رهنه له أو تصرف له فيه أي تصرف آخر يستلزم القبض اعتبر المشتري قابضًا للمبيع.
وإذا أجره قبل قبضه لغير البائع أو باعه أو وهبه أو رهنه أو تصرف فيه أي تصرف آخر يستلزم القبض، وقبضه العاقد قام هذا القبض مقام قبض المشتري.
وقد نص على أحكام القبض الحكمي القانون المدني الكويتي في المادة (473) ، والقانون المدني المصري في المادة (435) والقانون المدني العراقي في المادة (539) على أنه إذا كانت العين المبيعة موجودة تحت يد المشتري قبل البيع فاشتراها من المالك فلا حاجة إلى قبض جديد سواء كانت يد المشتري قبل البيع يد ضمان أو يد أمانة.
ويوضح الأستاذ السنهوري أحكام كل قبض فيقول: التسليم الفعلي ينطوي على عنصرين:
أحدهما: وضع المبيع تحت تصرف المشتري بحيث يتمكن من حيازته حيازة يستطيع معها أن ينتفع به الانتفاع المقصود من غير أن يحول حائل دون ذلك.
والثاني: أن يعلم البائع المشتري بوضع المبيع تحت تصرفه على النحو المتقدم.
ثم يستعرض التطبيقات المختلفة فيما إذا كان المبيع عقارًا أو منقولًا أو حقًّا مجردًا بما لا يختلف عما انتظمته النصوص القانونية.
وأما التسليم الحكمي ويسمي التسليم المعنوي: وله صورتان:
إحداهما: أن يكون المبيع في حيازة المشتري قبل البيع بإجارة أو إعارة أو وديعة أو رهن حيازة أو نحو ذلك ثم يقع البيع فيكون المشتري حائزًا فعلًا للمبيع وقت صدور البيع ولا يحتاج إلى استيلاء مادي جديد ليتم التسليم، وإنما يحتاج إلى اتفاق مع البائع على أن يبقي المبيع في حيازته ولكن لا كمستأجر أو مستعير أو مودع عنده أو مرتهن بل كمالك له من طريق الشراء فتتغير نية المشتري في حيازته للمبيع، وإن كانت الحيازة المادية تبقى كما كانت.
والثانية: أن يبقى المبيع في حيازة البائع بعد البيع ولكن لا كمالك فقد خرج عن الملكية بعقد البيع، بل كمستأجر أو مستعير أو مودع عنده أو مرتهن رهن حيازة أو غير ذلك مما يترتب على عقد يتم بين المشتري والبائع بعد البيع ويستلزم نقل حيازة الشيء من المشتري إلى البائع، فبدلًا من أن يسلم البائع المبيع للمشتري بموجب عقد البيع ثم يعود إلى تسلمه من المشتري بموجب عقد الإِيجار أو أي عقد آخر يبقى المبيع في يد البائع بعد أن يتفق الطرفان على أن يعد هذا تسليمًا من البائع للمشتري ثم إعادة حيازته من المشتري للبائع بموجب العقد الجديد الذي تلا عقد البيع، ويصح أن يكون هذا العقد الجديد عقد بيع ثانٍ أو عقد هبة فيبيع المشتري الشيء للبائع بعد أن اشتراه منه أو يهبه إياه ومن ثم يبقى الشيء في حيازة البائع كمالك له ولكن بعقد جديد (1) .
(1) الوسيط: 4/593، 594.
زمان التسليم ومكانه:
تنص المادة (474) من القانون المدني الكويتي على أنه "إذا لم يحدد العقد وقتًا لتسليم المبيع، التزم البائع بتسليمه فور انعقاد العقد، وإذا اتفق على أن يتم التسليم في الوقت الذي يحدده المشتري التزم البائع بإجرائه فيه وذلك كله مع مراعاة المواعيد التي تستلزمها طبيعة المبيع أو يقضي بها العرف ".
ونصت المادة (475) على:
1-
يتم تسليم المبيع في مكان وجوده وقت العقد ما لم يتفق على غير ذلك.
2-
فإذا كان المبيع منقولًا ولم يعين مكان وجوده وجب تسليمه في موطن البائع.
ونصت المادة (476) على أنه "إذا التزم البائع بإرسال المبيع إلى مكان معين فلا يتم التسليم إلا بوصوله فيه ما لم يتفق على غير ذلك".
وهذه الأحكام تتفق جملة وتفصيلًا مع نصوص المواد (404) من القانون المدني السوري، والمادة (436) من القانون المدني المصري، والمادة (425) من القانون المدني الليبي، والمادة (416) من قانون الموجبات والعقود اللبناني.
وهذه الأحكام متطابقة مع ما سبق بيانه في المذاهب الفقهية الإِسلامية ولا تعارضها في شيء من كلياتها أو جزئياتها.
ثانيًا – القبض في العقود التجارية:
العقود التجارية نوعان:
عقود تتم داخل إقليم الدولة وهذه العقود تخضع في مجملها للأحكام العامة التي يخضع لها أي عقد طبقًا لنصوص وقواعد مبينة في القانون المدني، وهناك بيوع وعقود خاصة ينظمها القانون التجاري لما لها من أهمية خاصة في استقرار التعامل مثل: البيع بالمزاد للمنقولات المستعملة، والبيع بالمزاد للمنقولات الجديدة، والبيع بالتقسيط وأهمها في دنيا التعامل بيع الأوراق المالية. وقد نصت التشريعات المختلفة على طريقة نقل ملكية هذه الأوراق والأسهم فنصت من حيث التنظيم أن تتم بوساطة أحد السماسرة المقيدين بالبورصات ونصت من حيث نقل الملكية فيها على أن تثبت ملكية الأسهم بقيدها في دفاتر الشركة ويكون التنازل عن هذه الأسهم بكتابته في الدفاتر المذكورة القصد من ذلك حماية الشركة والغير من تعدد التصرفات التي قد تصدر من مالك السهم الاسمي لأكثر من متصرف إليه وما قد يترتب على ذلك من تزاحم بينهم، فجعل المناط في ثبوت الملكية أو التنازل عنها سواء في مواجهة الشركة أو الغير هو القيد في دفاتر الشركة، والغير هو كل متصرف إليه بادر باتخاذ إجراءات الشهر الواردة بها عن طريق قيد التصرف الصادر له كتابة في دفاتر الشركة، فلا تسري في مواجهة تصرفات المالك غير المقيدة ولو كانت سابقة على تصرفه (1) .
(1) القانون التجاري للدكتور علي جمال الدين عوض: ص 56، 57، الأسهم وتداولها في الشركات المساهمة في القانون الكويتي للدكتور يعقوب يوسف صرخوه: ص 220.
ويقرر الأستاذ السنهوري عن طريقة التسليم والقبض في هذه الأوراق بقوله: وفي الأسهم والكمبيالات والشيكات لحاملها يكون التسليم بالمناولة وفي السندات والشيكات الإِذنية يكون التسليم بالتظهير، وفي السندات الاسمية لا يتم التسليم إلا بعد القيد في دفاتر الشركة (1) .
ومن أهم الشركات في دنيا التعامل هي شركات المساهمة، وهذا النوع من الشركات الذي أخذ في الظهور والانتشار له أهمية بالغة في الميدان الاقتصادي والقيام بالمشروعات الهامة التي لا يستطيع الفرد القيام بها من جهة ومن جهة أخرى تمكين أرباب الأموال التي لا يستطيعون استثمارها بأنفسهم الاستعانة بتنميتها عن طريق الاكتتاب أو عن طريق التأسيس لمثل هذه الشركات.
وتصدر هذه الشركات ثلاثة أنواع من الأوراق المالية هي: (1) الأسهم، (2) السندات، (3) حصص التأسيس.
وهذه الأسهم إما أن تكون متساوية القيمة، وإما أن تمتاز ببعض الميزات كأن يكون لها نصيب أكبر من الربح أو تكون لها الأولوية في استرداد قيمة الأسهم عند القسمة، وأهم ما يختص السهم به كونه قابلًا للتداول بين الأفراد عن طريق البيع أو الهبة والوصية أو الإِرث، وقد تكون الأسهم نقدية وقد تكون عينية وقد تكون اسمية وهي التي تحمل اسم صاحبها، وقد تكون لحاملها وهي التي لا يذكر فيها اسم شخص بعينه وإنما تكون للحامل فيكون أي شخص يحمل هذا الصك هو المساهم في الشركة، وتكون سهمًا للأمر بمعنى أنه يكتب عليها عبارة " لأمر " وتتداول بطريق التظهير. وتختلف قيمة هذه الأسهم إلى اسمية وهي القيمة المبينة في السهم وقيمة الإِصدار وهي القيمة الصادر بها السهم عندما تريد الشركة زيادة رأسمالها، والقيمة الحقيقية والقيمة السوقية وهي قيمة السهم عند طرحه للبيع والشراء. وأما السندات وهي قريبة الشبه بالأسهم وتماثلها في كثير من الأحكام من حيث قبولها للتداول وكونها اسميه أو لحاملها فإذا طهرت من شبهة الربا كانت في جميع الأحكام كالأسهم كتحويل السندات إلى أسهم مثلًا (2) .
(1) الوسيط: 4/592.
(2)
الأسهم وتداولها في الشركات المساهمة: ص 190.
وقد تعرض فقهاؤنا المعاصرون لحكم هذا النوع من الشركات وانقسموا إلى فريقين:
فريق يرى مشروعية شركة المساهمة وجوازها ويرى فيها أنها قريبة الشبه بشركة العنان التي هي مشاركة بين اثنين في المال والعمل (1) ويجوز أن يعمل أحدهما وقد تكون مركبة من شركة عنان ومضاربة.
ويذهب فريق آخر إلى مخالفتها لأحكام الشركات في الفقه الإِسلامي وقد أشرنا إلى طريقة تداول هذه الأسهم.
أما النوع الثاني من العقود التجارية وهي التي يطلق عليها العقود البحرية وقد يطلق عليها أيضًا العقود الدولية وهي التي يكون طرفاها من دولتين مختلفتين يتفقان على شراء بضاعة تنقل من بلد البائع إلى بلد المشتري مقابل ثمن يتم تسديده بطرق معينة (2) .
والتسليم في التجارة الدولية له أهمية قصوى لما للبيع التجاري ذاته من مفهوم خاص قوامه السرعة في إبرام العقد لمعاودة بيعه ثانية أو لتسليمها وتخزينها ثم إعادة بيعها في ظروف أفضل.
وإذا كان التسليم في البيوع بوجه عام هو دفع المبيع إلى المشتري ووضعه تحت تصرفه، أي: تمكينه من السيطرة عليه والانتفاع به، فإنه في التجارة الدولية يتطلب أمرًا زائدًا على هذا وهو نقل المستندات التي تمثل المبيع إلى المشتري، ولا يعتبر البائع قد نفذ التزامه كاملًا إلا إذا كانت المستندات المقدمة منه كاملة ومستوفية للبيانات فإذا لم يقدم المستندات أو قدمها ناقصة أمكن فسخ البيع كما يجوز للمشتري رفض دفع الثمن (3) .
ولهذا يعتبر سند الشحن في البيوع الدولية وإن كان لا ينقل السيطرة المادة على البضائع إلا أن من شأن هذا السند أن يجعل من نقل إليه السند صاحب الحق في طلب تسلم البضاعة عند الوصول والتصرف فيها أثناء الطريق، ويلتزم الربان بتسليم البضائع إلى الحامل القانوني لسند الشحن دون أن يكلف بالبحث عن صفته أو علاقته بالشاحن (4) .
(1) المغني: 5/14.
(2)
دراسة في قانون التجارة الدولية للدكتور ثروت حبيب: ص 15، القانون التجاري للدكتور علي جمال الدين عوض: ص 62، الوسيط شرح القانون البحري الكويتي: 1/443 للدكتور يعقوب يوسف صرخوه، البيوع البحرية للدكتور أحمد حسني: ص 17، التزامات المشتري في البيع الدولي للدكتور محمد محمد الخطيب.
(3)
دراسة في قانون التجارة الدولية: ص 392، 393، القانون التجاري: ص 78، التزامات المشتري في البيوع الدولية: ص 202 وما بعدها.
(4)
البيوع البحرية: ص 42، 43.
أقسام البيوع البحرية أو الدولية:
تنقسم البيوع البحرية إلى مجموعتين:
الأولى: يتم التسليم فيها في ميناء الوصول وتسمى لذلك بيوع الوصول.
والثانية: يتم التسليم فيها في ميناء الشحن وهي بيوع القيام وهي أكثر شيوعًا (1) .
وأمثلة المجموعة الأولى:
(أ) البيع بسفينة معينة: وفي هذه الحالة يلتزم البائع بتسليم البضاعة إلى المشتري في ميناء الوصول ويعلنه باسم السفينة وبذلك يتم تخصيص البضاعة له.
(ب) البيع بسفينة غير معينة: وتعتبر في هذه الحالة البضاعة غير مخصصة على أي وجه قبل وصولها لميناء الوصول (2) .
وأما أمثلة المجموعة الثانية فهي:
(أ) البيع سيف أو كاف: وفيه يتحمل المشتري مخاطر الطريق ويتحمل البائع نفقات النقل والتأمين على البضاعة وينقل سند الشحن وبوليصة التأمين إلى المشتري.
(ب) البيع فوب: وهو يلقي على البائع مجرد التزام بتسليم البضاعة على السفينة التي استأجرها المشتري بمعرفته وتنقل المخاطر إلى المشتري من هذه اللحظة (3) .
(1) دراسة في قانون التجارة الدولية: ص 392، 393، القانون التجاري: ص 78، التزامات المشتري في البيوع الدولية: ص 202 وما بعدها، البيوع البحرية: ص 42، 43.
(2)
القانون التجاري: ص 67.
(3)
البيوع البحرية: ص 17، 18، شرح القانون البحري الكويتي: 1/445، القانون التجاري: ص 63، 65.
مقارنة بين هذه البيوع وبين عقود البيع الأخرى في القانون المدني والتجاري:
أولًا: تخضع هذه العقود للقواعد العامة بوجه عام وتخضع لذات الأحكام التي تقررها أحكام القانون المدني والتجاري وخاصة فيما يتعلق بالتزام البائع بتسليم بضائع مطابقة لما اتفق المتعاقدان عليه والتزام المشتري بدفع الثمن المتفق عليه. وتحقق أركان العقد من الرضا والمحل والسبب، وكذلك ينبغي تحقق شروط الانعقاد وشروط الصحة، ولا يختلف عن البيع العادي إلا في الطريقة التي يتم بها نقل البضاعة بحرًا.
ثانيًا: في بيوع الوصول يتحمل البائع مخاطر الهلاك حتى التسليم فإذا كان الهلاك كليًّا فسخ البيع، وإذا كان جزئيًّا فيؤدي إلى إنقاص الثمن بنسبة الهلاك، أما في بيوع القيام فإن المشتري هو الذي يتحمل المخاطر منذ شحنها على ظهر السفينة في ميناء القيام.
ثالثًا: في البيع سيف وفوب يتسلم المشتري كما سبق المبيع ويتحمل المخاطر منذ شحنه، ولما كان من بين ما تهدف إليه البيوع عند القيام هو تمكين المشتري من التعامل في البضائع أثناء فترة نقلها بطريق البحر وقبل أن يتسلمها ماديًّا فإن سند الشحن يقوم بدور أساسي في هذه المرحلة كأداة للتسليم، فإذا قام المشتري سيف أثناء الرحلة بإعادة بيعها طبقًا للشرط سيف، فإنه لا يستطيع أن يستبقي معه سند الشحن الذي سلمه له بائعه لأنه ملزم في هذه الحالة بالتسليم، ولما كان تسليم البضاعة ماديًّا غير ممكن لوجودها على السفينة الناقلة، فإن السبيل الوحيد للتسليم في هذه الحالة هو نقل سند الشحن إلى المشتري الثاني. فأما في بيع فوب فإن عقدي النقل والتأمين يعقدهما المشتري فيكون سندا الشحن والتأمين بحوزته بخلاف بيع سيف.
* * *
مقارنة العقود البحرية بالعقود في الفقه الإسلامي:
العقود البحرية أو الدولية تتم بين المتعاقدين دون رؤية للمبيع وإنما تتم ببيان نوع البضاعة وصنفها وكميتها وعلاماتها وأرقامها بحيث يمكن تمييزها عن غيرها من البضائع ويشترط عند التسليم أن تكون البضاعة معينة بعلامة خارجية ظاهرة وتفرغ هذه البيانات في سند الشحن وأن تكون بيانات سند الشحن متطابقة مع البيانات الثابتة والمحددة في فواتير البيع، ونظرًا لانتشار وتوسع التبادل التجاري والاقتصادي بين دول العالم، ولما كان البيع هو الأداة القانونية الفعلية التي يتحقق بها هذا النشاط الاقتصادي فقد أخذ المعنيون بالتجارة الدولية بوضع عقود نموذجية تتضمن الشروط العامة للبيع وقواعد التسليم وتفتتح عادة هذه العقود بوضع بعض التعريفات المحددة للمصطلحات والتعبيرات التجارية التي يتكرر استخدامها بعد ذلك في بنود العقد وتحديد صنف البضاعة وبيانها من جهة ذكر صفاتها وخصائصها ودرجة جودتها، كما تتضمن المدد والآجال وما يتعلق بمهلة فحص البضاعة ومدة الأخطار عن عدم مطابقة البضاعة المسلمة للبضاعة المطلوبة وتحديد المدد الخاصة برفع الدعاوي والمطالبات وتشير أيضًا إلى صور الجزاء التي يتعين إعمالها في حالة مخالفة نصوص العقد وأحكامه، كما تتحدث عن ضمان العيب وخاصة بالنسبة للآلات والأدوات والسلع المصنوعة.
ونستطيع بعد هذا العرض الموجز للطريقة التي تتم بها هذه العقود أن نجري دراسة سريعة أيضًا في عرض بعض الملامح الأساسية للعقود المشابهة لها في الفقه الإِسلامي وذلك في مطلبين:
نخصص المطلب الأول في دراسة سريعة لأنواع العقود في الفقه الإِسلامي، ونخصص المطلب الثاني في مقارنة هذه العقود بالعقود الحديثة لاستخلاص أوجه الشبه بينها.
المطلب الأول
في أنواع العقود في الفقه الإِسلامي
البيع في الفقه الإِسلامي على ثلاث أضرب:
الأول: بيع عين حاضرة وهي المرئية الرؤية المعتبرة في صحة البيع وهذا جائز بلا خلاف إذا استجمع الشروط الأخرى.
الثاني: بيع عين غائبة سواء كانت غائبة عن مجلس العقد أو حاضرة فيه ولم يرها المتعاقدان أو أحدهما أو رأياها قبل، فإن لم تتغير عادة كأرض وثياب رأياها منذ نحو شهر أو احتمل تغيرها وعدمه صح أو غلب تغيرها كفاكهة لم يصح.
الثالث: بيع عين في الذمة ويشمل نوعين:
1-
بيع عين موصوفة في الذمة.
2-
عقد السلم.
قال شيخ الإِسلام زكريا الأنصاري عن بيع العين الموصوفة في الذمة: " والعين التي في الذمة يصح بيعها بذكرها مع جنسها وصفتها مع بقية الصفات التي تذكر في السلم، وعد هذا بيعًا لا سلمًا مع أن العين في الذمة اعتبارًا بلفظ البيع فلا يشترط فيه تسليم الثمن قبل التفرق إلا أن يكون ذلك في ربويين فيشترط فيه التقابض قبله كما في العين الحاضرة وهذا إذا لم يذكر بلفظ السلم، فإن ذكر كأن قال: بعتك كذا سلمًا كان سلمًا وعلى كون ذلك بيعًا يشترط تعيين أحد العوضين في المجلس وإلا يصير بيع دين بدين وهو باطل (1) ، ولكن لا يشترط قبضه في المجلس لأن التعيين بمنزلة القبض (2) بخلاف السلم، فإنه يشترط قبض رأس مال السلم في المجلس (3) .
مذاهب العلماء في حكم بيع العين الغائبة:
قال النووي: قد ذكرنا أن أصح القولين في مذهبنا بطلانه.
وقال ابن المنذر فيه ثلاثة مذاهب:
الأول: مذهب الشافعي أنه لا يصح.
الثاني: يصح البيع إذا وصفه وللمشتري الخيار إذا رآه سواء أكان على تلك الصفة أم لا، وهو قول الشعبي والحسن والنخعي والثوري وأبي حنيفة وغيره من أهل الرأي.
والثالث: يصح البيع وللمشتري الخيار إن كان على غير ما وصف وإلا فلا خيار، قاله ابن سيرين وأيوب ومالك وعبيد الله بن الحسن وأحمد وأبو ثور وابن نصر قال ابن المنذر وبه أقول (4) .
(1) حاشية الشرقاوي على التحرير: 2/15-17.
(2)
حاشية الشرقاوي على التحرير: 2/15-17.
(3)
حاشية الشرقاوي على التحرير: 2/23.
(4)
المجموع: 9/301.
دليل القائلين بالصحة:
استدلوا بعموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} ، وقالوا: الآية عامة فلا يخرج من هذا العموم إلا ما جاء بمنعه نص من كتاب أو سنة أو إجماع.
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: ((من اشترى شيئًا لم يره فهو بالخيار إذا رآه إن شاء أخذه وإن شاء تركه)) . وحديث أبي هريرة: ((من اشترى شيئًا لم يره فهو بالخيار إذا رآه)) .
واستدلوا بالقياس أيضًا فقد قاسوه على النكاح، فإنه لا يشترط رؤية الزوجين بالإِجماع، وقياسًا على بيع الرمان والجوز واللوز، وقياسًا على ما لو رآه قبل العقد (1) .
تفصيل مذهب الشافعي في حكم بيع العين الغائبة:
في القديم يصح ويثبت له الخيار إذا رآه واستدل له لما روى ابن أبى مليكة "أن عثمان – رضي الله عنه – ابتاع من طلحة أرضًا بالمدينة ناقلة بأرض له بالكوفة، فقال عثمان بعتك ما لم أره، فقال طلحة إنما النظر إليَّ لأني ابتعت مُغيَّبًا وأنت قد رأيت ما ابتعت، فتحاكما إلى جبير بن مطعم فقضى على عثمان أن البيع جائز وأن النظر لطلحة لأنه ابتاع مُغَيَّبًا"(2) .
ولأنه عقد على عين فجاز مع الجهل بصفته كالنكاح.
وفي الجديد لا يصح: لحديث أبي هريرة: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر)) ولأن في هذا البيع غررًا، ولأنه نوع بيع فلم يصح بالجهل بصفة المبيع كالسلم (3) .
وعلى القول القديم القائل بالصحة هل تفتقر صحة البيع إلى ذكر الصفات أم لا؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه لا يصح حتى تذكر جميع الصفات كالمسلم فيه.
والثاني: لا يصح حتى تذكر الصفات المقصودة.
الثالث: لا يفتقر إلى ذكر شيء من الصفات، لأن الاعتماد على الرؤية ويثبت الخيار إذا رآه فلا يحتاج إلى ذكر الصفات، فإن وصفه ثم وجده على خلاف ما وصف أو أعلى فيه وجهان:
أحدهما: لا خيار له لأنه وجده على ما وصف فلم يكن له خيار كالمسلم فيه.
والثاني: له الخيار لأنه يعرف ببيع خيار الرؤية فلا يجوز أن يخلو من الخيار.
وقيل: الخيار على الفور وهو قول ابن أبي هريرة لأنه خيار تعلق بالرؤية فكان على الفور كخيار الرد بالعيب.
وقال أبو إسحاق: يتقدر الخيار بالمجلس، لأن العقد إنما يتم بالرؤية فيصير كأنه عقد عند الرؤية فيثبت له خيار المجلس (4) .
(1) المجموع: 9/301.
(2)
قوله ناقلة بأرض له بالكوفة أي: بادله بها ونقل كل واحد ملكه إلى موضع آخر (المجموع: 9/288) .
(3)
المجموع: 9/288.
(4)
المجموع:9/ 289
المطلب الثاني
في مقارنة عقود البيع البحرية (الدولية) بعقود البيع في الفقه الإسلامي
مما سبق يظهر أن العقود المسماة بالعقود البحرية متفقة في جملتها مع أحكام بيع العين الغائبة وبيع الأعيان الموصوفة في الذمة فهي:
أولًا: استوفت الأركان والشرائط التي يتطلبها العقد.
ثانيًا: ذكرت فيها المسائل الجوهرية التي تعين محل العقد كبيان الجنس والنوع والقدر وكل العلامات المميزة للمبيع.
ثالثًا: الاتفاق على مكان التسليم ويستوي أن يكون التسليم في ميناء الشحن أو في ميناء الوصول.
رابعًا: يضم إلى ما ذكر أنه يمكن اعتبار تسليم سند الشحن بمثابة تمام القبض كالكيل والوزن في بيع المكيل والموزون عند الحنفية لأن المشتري قبل الحصول على سند الشحن لا يمكنه عملا التصرف في المبيع فكان تسليم سند الشحن من تمام التسليم والقبض.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على رسولنا محمد وعلى آله وأصحابه. . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور عبد الله محمد عبد الله