الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأدوات المالية الإسلامية
إعداد
سعادة الدكتور سامي حسن حمود
مدير عام شركة البركة
للاستثمارات المالية الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
بيان المحتويات
• إهداء وشكر تقدير.
• الفرع الأول: مفهوم الأدوات المالية وتوزينها بالمعايير الفقهية:
• أولا – تطوير الأدوات المالية وصورها المعاصرة.
• ثانيا – توزين الأدوات المالية المعاصرة بالمعايير الشرعية.
(أ) توزين المسألة بالنسبة لأسهم الشركات.
(ب) توزين المسألة بالنسبة لسندات القرض.
• الفرع الثاني: أسس تطوير الأدوات المالية بما يتفق والشريعة الإسلامية.
• الفرع الثالث: الأدوات المالية الإسلامية القابلة للتطبيق:
أولا – الأسهم العادية في الشركات المساهمة.
ثانيا- الأسهم غير العادية.
ثالثا – سندات المقارضة.
رابعا- سندات الخزينة المخصصة.
• الفرع الرابع: مجالات تطبيق الأدوات المالية في عقود المعاملات الشرعية.
• الخلاصة وخاتمة الكلام.
بسم الله الرحمن الرحيم
إهداء وشكر وتقدير
يسرني أن أقدم هذا العمل الذي يقصد به وجه الله المعبود من كل شيء في الوجود، إلى هذا النفر الكريم من أهل العلم والمتوافدين من شتى أنحاء العالم الإسلامي الناهض للصعود.
كما أقدم الشكر الخالص لمجمع الفقه الإسلامي برئاسته وأمانته العامة على الاهتمام باحتياجات الأمة الإسلامية والنظر في إيجاد الحلول المعاصرة لمشاكل التنمية والنهوض الاقتصادي القائم على أساس من شريعة الله المبنية على العدل والرحمة والإحسان.
ويمثل موضوع الندوة المتعلق بالأسواق المالية بابا من أهم الأبواب التي يقع على عاتق العلماء والاقتصاديين أن يتصدوا لها بالفهم والصبر والعمل. فليس المال بالنسبة لمجموعة الأمة مجرد متاع دنيوي زائل كما هو بالنسبة للأفراد وإنما هو ثروة تحمي الكيان وترد العدوان.
لذلك كان حفظ المال بالمنظور الاجتماعي أمرا يرقى إلى درجة المنع من تصرف المالك فيما يملكه إذا كان ذلك التصرف يؤدي إلى إتلاف هذا المال الذي هو من مال المجتمع في المآل وإن كان مملوكا لفرد أو أفراد في الواقع الحال.
يقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز:
{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} .
أما بالنسبة لموضوع الأسواق المالية، فإن هذا المصطلح هو من المفاهيم الجديدة المطروحة على بساط البحث الفقهي. ذلك أن السوق هو مكان التقاء الناس بالمفهوم العام أو مكان التقاء العرض بالطلب بالمفهوم الخاص لكي يتم التبادل من العارضين والطالبين.
وقد كانت أسواق السلع والبضائع موجودة ومعروفة من قبل الإسلام، حيث نظم النبي صلى الله عليه وسلم بعد الإسلام أحوالها وبيوعها وطريقة العرض والمساومة وانعقاد البيع إلى آخر ما هنالك من علاقات.
أما أسواق المال فهي لم تكن معروفة بالمفهوم الذي تعرفه المجتمعات في هذه الأيام. ومن هنا فإن أسواق المال العالمية القائمة في المراكز الدولية ولدت وتطورات خارج نطاق الضوابط الشرعية، فكانت أدواتها خليطا من الأدوات الجائزة والأدوات الممنوعة بحسب المعايير الإسلامية في التمييز بين الحلال والحرام.
ولما كان العالم الإسلامي يعيش في واقعه المعاصر على هامش التبعية للدول الصناعية المتقدمة، وحيث إن أسواق رأس المال تعتبر في أي نظام مالي هي قمة الهرم المتكامل في سقف البناء الاقتصادي المتطور، فإن الأمر المؤسف حقا أن يكون هذا العالم الإسلامي - رغم اتساع رقعته وكثرة خيراته وموارده - خاليا من أي تنظيم أو تخطيط لتمهيد الوجود لقيام سوق لرأس المال الإسلامي.
وقد استتبع ذلك الأمر أن تخلو ساحة هذا العالم الإسلامي من الأدوات التي تشكل أساس قيام هذه السوق التي كانت ستشد الأواصر بين مختلف دول العالم الإسلامي المشتتة الاتجاه والوجود
فالدول الإسلامية الغنية برأس المال مضطرة للارتماء على أبواب البنوك والمؤسسات المالية المتطورة في خارج العالم الإسلامي بحجة عدم وجود المؤسسات القادرة في الداخل على استيعاب الزخم المالي الفائض عن قدرة الاستيعاب والاستثمار.
أما الدول الإسلامية التي تشكو من قلة رأس المال فإنها تأمل أن يأتيها العون بالمساعدة من الدول الإسلامية الغنية أو بالإقراض الذي يستنزف جهد الناتج القومي الإجمالي بحيث لا تتوفر في البلاد إمكانية التنمية القادرة على إزاحة سيف الفقر عن رقاب العباد.
ولم يساعد وجود البنوك الإسلامية في ساحة العمل المصرفي على كسر حواجز الفقر والغني حيث تسربت الأموال الفائضة لدى تلك البنوك الإسلامية الاتجاه إلى أسواق المال العالمية بعد أن ابتكر لها الجهابذة هناك الوسائل المناسبة للاستثمار الذي لا يخالف المبادئ الشرعية من حيث الشكل والأساس.
وقد كشفت الدراسة الغنية التي قدمها سمو الأمير الحسن بن طلال ولي عهد المملكة الأردنية الهاشمية في المؤتمر السنوي الخامس للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل بيت) الذي جرى عقده في العاصمة الأردنية عمان ما بين 23-27/4/1986 عن جانب هامّ من جوانب قصور التلاقي بين عرض الأموال المتوفرة للقطاع الخاص من جهة وبين شدة الطلب على هذه الأموال من جهة أخرى.
وقد استهدفت الدراسة المشار إليها أعلاه توجيه النظر إلى اقتراح توسط البنك الإسلامي للتنمية لتشجيع انتقال رءوس الأموال بين الدول الإسلامية (1) .
ولما كان تجميع رءوس الأموال في المقام الأول ثم تنظيم انتقال هذه الأموال من مواطن الوفرة إلى أماكن الحاجة يعتمد على وجود الأدوات المناسبة للتجميع والنقل، لذلك كان اهتمام مجمع الفقه الإسلامي ببحث الأدوات المالية الإسلامية يمثل حجر الأساس في إقامة صرح هذا البناء الذي يحتاج إلى عقول مستنيرة وقلوب مؤمنة لكي تزهر ثمار الفكر الإسلامي بأغصان وارفة قوامها العدل بين الناس ولحاؤها الحسن والإحسان في تطهير مسيرة الحياة.
وإن الأمل منوط بأهل الرأي الشرعي في أن يكونوا عند مستوى أداء الأمانة في تفهم احتياجات هذه الأمة الإسلامية، والتي أراد لها الله – سبحانه وتعالى – أن تكون خير أمة أخرجت للناس إذ هي اتبعت شريعته فيما يأمر به هذا الدين من الخير وينهى عنه من الشر.
سائلين الله أن يلهمنا الحق ويعيننا على اتباعه وأن يجنبنا طريق الضلال والعمى عن الاهتداء بنوره الذي أنزله على رسوله الأمين محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن والاه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
*
**
(1) انظر: الدراسة التي أعدها الدكتور سامي حمود لتنفيذ المقترح من سمو الأمير الحسن بن طلال ولي عهد المملكة الأردنية الهاشمية بتاريخ 27/1/1987، حيث أحيلت إلى جهات الاختصاص للمراجعة والتقويم.
الفرع الأول
مفهوم الأدوات المالية وتوزينها بالمعايير الفقهية
أولا – تطور الأدوات المالية وصورها المعاصرة:
عندما تكون الحياة الاقتصادية بسيطة فإن الوسائل المستعملة تكون بسيطة كذلك. لذلك فإن الأفراد في الحياة البدائية يزودون أنفسهم برأس المال اللازم للإنتاج أو يقترضون بالمجان أو يشتركون في الامتلاك.
ومع اتساع الاحتياجات وتطور الإمكانيات يصبح الاعتماد على التمويل الذاتي محدودا وتقل فرص الاقتراض المجاني وتزداد الحاجة للمشاركة من الآخرين.
وقد شهد العالم تطورا متميزا في أنواع المشاركة المالية حيث انتقلت المشاركة من صفة الشريك لذاته (المشاركة الشخصية) إلى نظام الشريك بماله حيث فقد الاعتبار الشخصي أهميته في المشاركة وأصبح انتقال حق المشاركة وملكيتها من شخص الآخر يتم دون أن يؤثر على جوهر استمرار المشاركة سواء كان الشريك زيدا أم بكرا.
وقد كان هذا التطور هو الذي أرسى الأساس لبناء صورة الشركات المساهمة التي يرجع إليها الفضل في إقامة المشروعات الكبرى والتي لا يستطيع الأفراد غالبا أن يتولوا تدير التمويلات الضخمة التي تحتاج إليها هذه المشاريع، وذلك مثل إنشاء شركات الإنتاج الأسمنت والنفط والنقل الجماعي والكهرباء والخدمات السلكية واللاسلكية في بعض البلاد.
ومع اتساع قاعدة المالكين للأنواع المختلفة من أسهم الشركات الكبيرة برزت الحاجة لوجود وسطاء للتداول والتوفيق بين عارضي بيع الأسهم وطالبي شراء هذه الأسهم وذلك إلى أن تطور الأمر إلى وجود أسواق منظمة يتم فيها إجراء عمليات البيع والشراء بطرق تجعل من الميسور إتمام البيع أو الشراء دون حاجة لتوافق رغبة البائع والمشتري في الصفقة الواحدة. فقد يأتي إلى السوق مائة بائع لبيع عشرين نوعا من الأسهم من عدة فئات وأنواع وشركات حيث يأخذهم جميعا وسطاء السوق وتكون لهم محفظتهم التي يبيعون منها ما يشاء الطالبون.
ومع وجود هذه الأدوات التي تمثل حصصا في رأس المال القابل للانتقال من مالك لآخر دون أن يتطلب ذلك الانتقال القيام بإجراء تصفية الشركة أو يؤثر على سيرها جعل من الممكن أن تتهيأ الأذهان لإمكان التبايع في هذه الأموال.
كما أن وجود السوق حوّل من صفة هذه الأسهم التي توصف عادة بأنها من الاستثمارات طويلة الأجل لكي تصبح استثمارا ماليا قصيرا عن طريق سهولة البيع في سوق منتظمة وبأسعار معلنة ليست خاضعة للمساومة بل محكومة بعوامل السوق والملاءة.
كل ذلك أدى إلى بناء الركن الأول من الأركان المنشئة لسوق رأس المال وذلك عن طريق تشجيع رءوس الأموال للانتقال من دائرة الاكتناز إلى دائرة الاستثمار دون خوف من التجميد طالما أن هناك الوسيلة المتاحة لتسييل هذه الاستثمارات.
ويسمى السوق الذي يتجمع فيه رأس المال ابتداء بالسوق الأولى، أما السوق الذي يتم فيه تسييل رأس المال المستثمر وتحوّله وتبديله فإنه يسمى بالسوق الثانوي.
أما الشكل الآخر الذي شهد التطور كذلك إلى جانب وجود الأسهم فإنه يتمثل في الرديف المحرم بالمفهوم الإسلامي وهو السند ذو الفائدة.
ذلك أن المعلوم أن السهم هو حصة مُشارَكة في ملكية الشركة، وأما السند فهو حصة إقراض للشركة، وفي الوقت الذي يأخذ فيه المالك نصيبا من العائد المتحقق ربحًا، فإن المقرض يتقاضى عائدا من المقترض بصفة فائدة والتي تعتبر أنها من الربا الحرام ومهما اختلفت الأشكال والأنواع والمسميات.
وكما تطورت سوق الأسهم واتسعت آفاقها ومجالات عملها، كذلك تطورت سوق السندات وتعددت أشكالها وأنواعها حتى برز من بينها سندات الفائدة المتغيرة وسندات الفائدة المخصومة من أصل القيمة عند البيع المبتدأ وهي السندات التي ظن بعض المأسورين أنهم يستطيعون بها أن يحتالوا على بعض الناس أو أن يخادعوا رب الناس بهذه الأوهام العارية عن كل غطاء.
وقد اشتركت في إصدار سندات الفائدة الشركات المساهمة الكبيرة والمؤسسات المالية العامة والخاصة والحكومات المحلية والسلطات النقدية المركزية حيث اختلطت هذه السندات بعضها ببعض سواء كانت سندات تعطي الفائدة كجزء مقتطع من الأرباح في حالة الشركات المنتجة أم كانت سندات تعطي الفائدة كعائد على القرض الذي اتخذ صورة السندات تسهيلا لتجزئة المال المقترض.
غير أن هناك نوعا جديدا من السندات الذي أطلق عليه اسم سندات المقارضة وذلك على أساس أنها تمثل حصة امتلاك في مشروع أو جملة مشاريع معينة حيث يتحول رأس المال الموزع على صورة حصص إلى سندات ملكية يخضع فيها رأس المال المدفوع لكل ما يخضع له رأسمال المضاربة من موجبات شرعية. ورغم سلامة هذا التصوير الذي أقره مجمع الفقه الإسلامي لسندات المقارضة باعتبارها تمثل حصة شائعة في ملكية المشروع المخصصة له، إلا أن الأمر ما يزال مختلطا على بعض أهل الفكر الإسلامي الذين لم يغوصوا إلى عمق المفاهيم الشرعية للتمييز بين ما يجوز وما لا يجوز في مقاطع الحقوق والشروط.
وقد تعرض الباحث لمثل هذا الهجوم الشكلي عندما طرح فكرة إصدار السندات المقارضة في المملكة الأردنية الهاشمية عام 1980 حيث اعتبر بعض المتدخلين على الفقه الإسلامي أن كلمة السند بحد ذاتها حرام لا يجوز أن تستعمل بهذا المقام رغم أن المفهوم اللغوي للسند هو الوثيقة وأن الحل أو الحرمة إنما تتقرر بالوصف أو الإضافة. فسند القرض أي وثيقة القرض حلال بحد ذاتها ولكن إذا كانت سند قرض بفائدة فإن الحرام هو الفائدة وليس أصل القرض ولو كان السند سند قرض حسن مثلا فإن ذلك السند يكون حلالا.
غير أن العذر الذي يلتمس لهؤلاء الأخوة الذين تشددوا مع كلمة السند مبني على شيوع فكرة السند الربوي أو سند الفائدة وإن كان شيوع الأمر الباطل لا يؤثر في الفهم الشرعي للأمور حيث لم يغير النبي صلى الله عليه وسلم اسم البيع لمجرد مخالفة المشركين فيما يدخلونه في البيوع من بيوع باطلة مثل بيع النجش والمنابذة والملامسة. كذلك لم يغير المشرع لفظ النكاح مع أن الجاهليين كانت لديهم صور عديدة من الأنكحة التي أبطلها الإسلام من الأساس.
والذي يهم الباحث بيانه هو أنه الأدوات المالية المعاصرة تنقسم إلى صورتين رئيستين هما:
(أ) صورة حصة المشاركة القابلة للتداول والمعروفة بأنها من الأسهم التي تمثل حقا من حقوق الملكية أو المشاركة.
(ب) وصورة حصة القرض القابلة أيضا للتداول والمعروفة بأنها من سندات الدين سواء كانت دينا عاما أم خاصا.
ثانيا – توزين الأدوات المالية المعاصرة بالمعايير الشرعية:
(أ) توزين المسألة بالنسبة لأسهم الشركات:
يقوم بالنظر الإسلامي في عقود المعاملات على منهج الحلال والحرام حيث يسقط من سلطان الإرادة التعاقدية للإنسان أمام سلطان الإرادة الإلهية فيما يجيزه الشرع أو يمنعه من التصرفات.
والقاعدة العامة في موضوع الأدوات المالية مبنية على التفريق بين مفهوم الملك ومفهوم القرض.
فكل حصة امتلاك تأخذ عائدا ناتجا عن نماء المال تكون مقبولة شرعا مع مراعاة توافر شرط الغرم بالغنم. وبناء على ذلك فإن السهم في الشركة المساهمة أو حصة المشاركة القابلة للتداول أو سند المقارضة الذي يمثل حصة في ملكية المشروع المعين كل ذلك يعتبر من الأدوات المالية التي لا تتعارض مع الشرع إلا إذا كان هناك شرط مخالف مثل شرط الفائدة للسهم الممتاز إذا قلّت الأرباح عن نسبة معينة أو شرط الاختصاص والتفرد بالأرباح لصنف معين من الأسهم التي تنال نصيب الأسد دون غيرها من الأسهم.
غير أن هنالك تبقى مسألة تتطلب النظر بالنسبة لامتلاك الأسهم في الشركات المساهمة التي تتعامل بالفائدة سواء عن طريق إيداع أموالها لدى البنوك المتعاملة بها أم عن طريق الاقتراض بالفائدة أيضا من تلك البنوك.
وقد انقسم الرأي حول هذه المسألة إلى فريقين:
- فريق يرى أنه طالما كانت أغراض الشركة مشروعة من الأساس مثل شركات التجارة في المواد الحلال وشركات الصناعة كالأسمنت ومصافي النفط ومصانع السيارات وغيرها، فإن امتلاك الأسهم في مثل هذه الشركات جائز وربحها مقبول رغم أن هناك من اشتراط إخراج الجزء من الكسب الحرام إذا أمكن معرفته بالحساب. إما إذا كان غرض الشركة غير جائز أصلا مثل شركات الإقراض بالربا ومصانع الخمور وتسمين الخنزير فإنه لا يجوز شراء أسهم هذه الشركات ولا أخذ الأرباح منها بطبيعة الحال.
- أما الفريق الثاني فلم يميز بين العمل والغرض واعتبر كل مخالفة شبهة توجب الابتعاد مهما كانت الأسباب.
وهناك من ربط المسألة بالغلبة أي بمعنى أنه إذا كان الغالب على الأموال المستعملة في الشركة من أموال المساهمين فإنها تجوز وأما إذا كان الغالب من أموال الاقتراض بالربا، فإن المساهمة في مثل تلك الشركات لا يجوز.
والذي يظهر لنا أن الأحكام المتسرعة في مثل هذه الأمور لا تعود بالمنفعة على المجتمع الإسلامي، حيث لو سلمنا برأي من يقول بالابتعاد عن كل شركة مساهمة فيها شبهة من قريب أو بعيد لكان مؤدى ذلك أن ينسحب المسلمون من الحياة الاقتصادية في المجتمع لينفرد غير الملتزمين بالإسلام بإدارة الدفة الاقتصادية للبلاد دون وازع ولا ضابط ولا انقياد.
وقد كان الأولى أن تتكاثر أسهم الإسلاميين بالفكر والالتزام لكي يفرضوا على مجالس الإدارة من خلال سلطة الانتخاب أن تلتزم الشركة في التعامل بالطرق الحلال كما حدث لدى العديد من الشركات في أكثر من بلد إسلامي خاصة عندما وجدت البنوك الإسلامية.
(ب) توزين المسألة بالنسبة لسند القرض:
لما كانت فكرة السندات مبنية على الاقتراض غير الحسن أي الاقتراض بمقابل فليس هناك مجال من تصحيح المسار الذي نشأ على الاعوجاج من الأساس.
لذلك فإن وضوح المسألة يعفينا من الشرح الزائد من بداية الطريق.
وإن ما يقال عن سندات التنمية والإعمار وكذلك ما يستدرج إليه البعض من أهل العلم الذين ينظرون إلى ترجيح المصلحة المتوهمة التي تطرحها الأفهام القاصرة عند بعض المروجين لشهادات الاستثمار زعما بأن ما يوزع من فوائد إنما يمثل جزءا من عائد المشروعات غير المخصوصة بالبيان، لا يقوم على أساس.
فإن كل ذلك الكلام المبني على حيل أشبه بالصور التلفزيونية المتداخلة لا يجوز أن يكون محلا لإصدار الحكم الشرعي. فالسندات التنموية وشهادات الاستثمار هي أدوات اقتراض تدفع الخزينة عوائدها للمستثمرين.
وإن معنى قيام الخزينة بدفع العوائد أو الفوائد إنما يعني أن الدولة تقتطع هذه الأموال من دخل المواطنين بصورة ضرائب ليكون في ذلك أسوأ تحوير لإعادة توزيع الثروة في المجتمع حين يأخذ المستثمر الذي لا يعمل نصيبا من جهد العامل الذي لا يملك.
ولو شاء الحريصون على مصالح الناس أن يجدوا الطريق الميسر الحلال لكان لهم ما أرادوا من شهادات الاستثمار المخصصة بالمشاريع المعنية وسندات القراض والمقارضة المرتبطة بنشاطات محددة كما قد لا يخطر على بال الكثيرين من الخبراء والعلماء والاقتصاديين.
***
أما الحكم الشرعي فإنه لا يخضع للتصورات الموهومة فيما يظنه البعض أنه من المصالح العامة الراجحة، لأن عدل الله أرحم بالناس من حدبهم على أنفسهم إن أرادوا لأنفسهم الخير الذي قد يتصورون.
فهل هناك من سبيل لتطوير الأدوات المالية الحالية بما يتفق مع الأحكام الشرعية؟
هذا ما سوف نجيب عليه بإذن الله في الفرع الثاني من هذا البحث.
*
**
الفرع الثاني
أسس تطوير الأدوات المالية
بما يتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية
إذا رجع الناظر إلى الغاية الأساسية من طرح الأدوات المالية للتداول العام يتبين أن المسألة تتطلب تحقيق أمرين هامين هما:
* الأول: يتمثل في جمع رأس المال اللازم لتأسيس مشروع معين وذلك عن طريق تقسيم رأس المال المطلوب إلى وحدات متساوية قد تسمى سهما كما هو الشائع عنها أو حصة مشاركة أو صك امتلاك أو غير ذلك من الأسماء. وتسمى الأدوات المالية الهادفة إلى جمع رأس المال اللازم لإنشاء المشاريع المختلفة بالأدوات الأولية ويسمى سوقها بسوق رأس المال الأولي أو الابتدائي.
ويكون المالك للسهم أو الحصة أو الصك شريكا مع الآخرين في ملكية المشروع بكل ما يمثله مركزه المالي من موجودات ومطلوبات وهو يتمتع بهذه الصفة بحق جني الربح ويتحمل الخسارة.
وليس هناك من تعارض في ضوء هذا الوضع مع الأحكام الشرعية للمعاملات سواء كان رأس المال المتجمع مقصودا به إنشاء شركة أملاك أم شركة عقود وسواء كانت الشركة عنانا أم مضاربة عادية أم مساهمة، اللهم إلا إذا كان عدد الشركاء محدودا لأسباب تنظيمية بعدد معين كما في بعض أحوال شركات التضامن وشركات التوصية البسيطة والشركات المحدودة المسئولية.
وبناء على ذلك، فإن الأساس العام للإدارة المالية التي تمثل حصة مملوكة في مجموع قائم من أموال مختلطة تعود لمشروع معين وله مركز مالي محدد يكون أساسا شرعيا طالما كانت المشاركة مرتبطة بالغنم والغرم فيما يتعلق بالأموال الداخلة في هذه المشاركة.
* أما الأمر الثاني: فإنه يتعلق بتداول هذه الأدوات وذلك على أساس إمكان بيع وشراء الأداة المالية بما تمثله من حقوق صافية في المشروع المعين.
فإن هذا التداول المفتوح للأدوات المالية هو الذي يقوم عليه بناء السوق الثانوية لرأس المال.
فإذا كانت الأدوات المالية المنتجة في السوق الأولية مقبولة من الناحية الإسلامية أي بمعنى أنها تمثل حصص امتلاك وليس حقوق إقراض، فإن تداول هذه الأدوات المشروعة من حيث الأساس يعتبر تداولا صحيحا وتكون السوق الثانوية لرأس المال الإسلامي مبنية على أساس سليم.
ومن هنا فإنه يمكن القول بأن أسس تطوير الأدوات المالية بما يتفق مع الشريعة الإسلامية يعتمد على القواعد التالية:
1-
بلورة الأدوات المالية التي تمثل حصص امتلاك مثل الأسهم وما هو في حكمها وذلك على أساس تنقية بعض أحكامها مما يخالف الشريعة الإسلامية وذلك مثل حالات الأسهم التفضيلية وأسهم الامتيازات ذات الفائدة.
2-
توسيع مفهوم المحاصصة أي قسمة رأس المال إلى حصص متساوية كالأسهم في الشركات الشرعية مثل شركة العنان وشركة المضاربة حيث يمكن في شركة المضاربة بالذات تصور قيام شركة مضاربة مساهمة وذلك على أساس أن يكون رأس المال الصادر عبارة عن أسهم يدخل بها رب المال في الشركة وتكون له حقوق رب المال في شركة المضاربة الفردية.
وإن هذا النظام الذي كان للباحث شرف تقديمه للعمل به في دولة البحرين في 1986م حيث أخذت به وزارة التجارة والزراعة كنظام صادر بالقرار رقم 17 لسنة 1986م يشبه إلى حد كبير النظام الإنجليزي الذي يسمح بإصدار نوعين من الأسهم في الشركات المساهمة وهما الأسهم الصوتية (Voting Shares) ، والأسهم غير المصوتة (Non- Voting Shares) .
ولو نظر المدقق في حكم رب المال في شركة المضاربة من ناحية الشرط الفقهي الخاص بعدم تدخل رب المال في إدارة المضاربة لتأكد أن هذا النظام الإنجليزي في الأسهم غير المصوتة منقول بروحه عن الأساس الإسلامي الذي اشترط إعطاء التصرف للعامل في مال المضاربة وإلا فإن العقد يكون فاسدا من الأساس.
3-
فتح أبواب التداول عن طريق المبايعة لحصص المشاركة سواء كانت بصورة أسهم في الشركات المساهمة أو حصص مشاركة في شركات المضاربة أو العنان أو أي صورة من الصور الأخرى طالما أن هناك مجالا لتغيير أشخاص المتعاملين دون أن يؤثر ذلك على مسيرة المشروع.
وتمثل هذه الخطوة نقلة نوعية في مسيرة العمل الجاد لإنشاء سوق رأس المال الإسلامي وذلك عن طريق إيجاد الأدوات المالية التي تقبل التداول بالبيع والشراء رغم أنها تمثل حصص المشاركة. .
وطالما أن هذا التداول مبني على وجود أدوات مقبولة من ناحية الأساس الشرعي، فإن الوجود الواقعي لسوق رأس المال الإسلامي يصبح واقعا مرتبطا بالتطبيق والحياة المعاصرة.
***
وخلاصة القول هو أن الأساس الذي يعتمد عليه إيجاد الأدوات المالية الإسلامية إنما يقوم على اعتبار هذه الأدوات أنها حصص امتلاك في المشروع المعين وليست أجزاء من عملية الإقراض للمشروع المعني. وإن مقتضى هذا الامتلاك أن يكون الريع مرتبطا بحقيقة العائد تبعا لما يحققه المشروع المملوك من ربح أو خسارة حيث يكون الغنم متقابلا مع الغرم الذي يمكن أن يؤدي إلى الخسارة أو نقصان القيمة.
***
فما هي الأشكال الملائمة للتطبيق في هذا المجال؟
هذا ما يجيب عليه الفرع الثالث.
*
**
الفرع الثالث
الأدوات المالية الإسلامية القابلة للتطبيق
أولا – الأسهم العادية في الشركات المساهمة العامة:
تعتبر الأسهم المعروفة في نظام الشركات المساهمة أنها واحدة من الأدوات الأقرب للتطبيق والقبول في العالم الإسلامي وذلك بالنظر لاستقرار التعامل بالأسهم وانتشار الأسواق المالية التي يتم فيها تداول هذه الأسهم بالبيع والشراء دون نكير أو اعتراض من أحد باستثناء بعض الآراء المستهجنة.
وأنه من الواضح أن قبول فكرة التداول في الأسهم رغم أنها تمثل حصصا مالية في موجودات مختلطة من النقود والديون والأعيان إنما يقوم على الأساس الذي يسبق بيانه في الفرع الثاني وهو أن هذه الأسهم تمثل حصص امتلاك في المشروع المعين حيث تباع هذه الحصة بقيمة تزيد أو تنقص تبعا لزيادة قيمة الموجودات أو نقصانها.
وكل ما يهم الباحث التنبيه إليه هو أن الأسهم ذات الأفضلية التي تعطي لمالكها حقوقا متميزة في الأرباح أو أسهم الامتياز التي تضمن للمالك نسبة محددة من الفائدة إنما تعتبر غير مقبولة من الناحية الشرعية الإسلامية حيث يعتبر نظام الشركة الذي يجيز إصدار مثل هذه الأسهم أنه نظام مخالف لفقه المعاملات المالية الإسلامية.
فليس هناك في الإسلام تمييز بين الأموال كما أنه لا يوجد تمييز بين الأشخاص في التكاليف الشرعية. وليس هناك مال ممتاز يأخذ نصيبا محفوظا له من الربح أو نسبة محددة من الفائدة وإنما هناك مساواة لا تتميز فيها دنانير زيد عن دراهم عبيد وطالما أن هذه الدنانير والدراهم شريكة في الخسارة إذا خسر المشروع فإنها كذلك تشارك في الربح إذا نما المال بنفس النسبة على أساس العدل والإنصاف.
ثانيا – الأسهم غير العادية:
وتتمثل هذه الأسهم في صيغة الأسهم غير المصوتة (Non-Voting Shares) ، وهي من نوع رأس مال المضاربة حيث لا يملك رب المال التدخل في الإدارة.
ويمثل هذا النوع من الأسهم بابا من أبواب الخير الذي يحسن بالمفكرين والمشرعين في العالم الإسلامي أن ينتبهوا إليه لإدخاله في التطبيقات المعاصرة.
لقد كانت دولة البحرين – كما سبقت الإشارة إلى ذلك – هي أول دولة إسلامية تتقبل نظام الأسهم غير المصوتة وذلك بصدور القرار الوزاري رقم 17 لسنة 1986م وهو القرار الذي شهدت البلاد على أثره تسجيل عدد من الشركات المالية الإسلامية والتي كان من أوائلها شركة التوفيق للصناديق المالية وشركة الأمني للأوراق المالية حيث طرحت كلتا الشركتين أدوات مالية إسلامية بلغت قيمتها بضعة ملايين من الدولارات.
وإن العالم الإسلامي بحاجة إلى المزيد من التشريعات التي تنظم إصدار مثل هذه الأسهم وذلك لتحقيق ما يلي:
(أ) نشر المزيد من الأدوات المالية الإسلامية.
(ب) التغلب على معوقات الحواجز الإقليمية التي تمنع المواطنين في البلد الإسلامي من المساهمة في الشركات العامة في بلد إسلامي آخر بسبب عوامل الخوف من السيطرة أو انتقال الإدارة إلى غير المواطنين.
(ج) إمكان توفير السوق الثانوية لرأس المال عن طريق تسهيل تداول هذه الأسهم بسهولة أكثر مما يمكن أن تتداول به أسهم الشركات المساهمة العامة العادية.
ثالثا – سندات المقارضة (1) :
وهي نوع من حصص المشاركة في مشروعات معينة مبنية على أساس القابلية للتصفية التدريجية وذلك على نفس الأساس الذي يصفى به رأس المال في شركة المضاربة. فكما أن رب المال في شركة المضاربة يسترد رأسماله وحصته من الربح على أساس الحصة الشائعة المحددة من الابتداء، فإن مالك السند باعتباره مقدما لرأس المال إنما يسترد رأسماله مقسطا مع حصته من الربح الذي ينويه كشريك في المشروع المعين.
وتعتبر سندات المقارضة وبخاصة بعد إقرارها بالشروط التي حددها مجمع الفقه الإسلامي في المؤتمر الرابع المنعقد في مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية عام 1408هـ أنها واحدة من أهم الأدوات المفيدة والقابلة للتطبيق على جميع حالات الاستثمار الإسلامي المخصص في بلاد العالم الإسلامي.
(1) طرح الباحث فكرة سندات المقارضة لأول مرة بمناسبة قيامه بإعداد مشروع قانون البنك الإسلامي الأردني الذي صدر في الأردن بالقانون رقم (13) لسنة 1978م، ثم تبنى فكرة إصدار قانون خاص لسندات المقارضة لإعمار الأملاك الوقفية حيث صدر القانون رقم (80) لسنة 1980م. انظر: الأعمال التحضيرية لمشروع قانون البنوك الإسلامي الأردني، إعداد الدكتور سامي حمود (مطبوع الآلة الكاتبة) .
رابعا – سندات الخزينة المخصصة للاستثمار الإسلامي:
قدم الباحث هذه الصيغة من صيغ الأدوات المالية الإسلامية كفكرة مهداه إلى إحدى الدول العربية الإسلامية تقديرا لمكانتها العالية في نفوس العرب والمسلمين وذلك حين واجهت هذه الدولة في عام 1408هـ عجزا في ميزانيتها بمقدار كان فيه اضطرار لإصدار سندات قرض على أساس نظام سندات الدين العام.
وقد أسس الباحث فكرة إصدار هذه السندات المخصصة على القواعد التالية:
1-
إصدار سندات الخزينة المشاركة في المشاريع المنتجة للدخل وذلك على أساس بيع المشروع المعين أو جملة من المشروعات مقابل إعطاء سندات تمثل حصص امتلاك وانتفاع بريع المشروع أو المشروعات المعينة.
2-
إصدار سندات الخزينة الإيجارية لمشاريع مملوكة لمؤسسات وشركات مساهمة ذات نفع عام وذلك باعتبار أن هذه السندات تمثل حصص امتلاك قابلة للتأجير.
3-
إصدار سندات الخزينة البترولية بطريق السلم وذلك على أساس بيع الإنتاج المستقبل مع تنظيم بيوع السلم الأول والبيوع الموازية من أجل الموازنة بين الكميات المسلم فيها بالبيع والمطلوبة بالشراء.
وتعتبر هذه الأداة واحدة من أنجح الوسائل الملائمة للدول البترولية حيث يساعد الإنتاج البترولي الضخم على اجتذاب آلاف الملايين من الدراهم والدنانير والريالات التي لا تجد طريقها للمشاركة في التنمية الوطنية.
***
وخلاصة القول يتمثل في أن فتح أبواب العمل الاستثماري المنظم على أساس الإصدارات المخصصة لسندات الخزينة تعتبر بالنسبة للعالم الإسلامي بابا من أوسع أبواب الاستقطاب لرءوس الأموال من داخل البلاد الإسلامية وخارجها (1) .
كما أن تضافر جهود البنوك المركزية للدول الإسلامية في سبيل ضمان التغطية وإمكانية إعادة شراء مثل هذه السندات يفتح المجال لقيام سوق رأس المال الإسلامي من أوسع الأبواب.
*
**
(1) انظر: الدراسة المقدمة كإهداء خاص من الدكتور سامي حمود بعنوان: (مقترحات حول إصدار سندات الخزينة السعودية بما يتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية) ، مؤرخة في 19 جمادى الثاني 1408هـ، الموافق 9يناير 1988م.
الفرع الرابع
مجالات تطبيق الأدوات المالية
في عقود المعاملات الشرعية
يدخل تطبيق الأدوات المالية في معظم عقود المعاملات الشرعية وذلك عندما يتطور استعمال هذه العقود من الصورة الفردية إلى الصورة الجماعية.
ويتضح ذلك من استعراض العقود التالية المأخوذة على سبيل المثال وليس الحصر:
1-
عقد المضاربة:
المضاربة نوع من الشركة وهي تقوم على دفع المال من شخص لمن يتجر به والربح بينهما على ما شرطاه (1) .
وتعتبر المضاربة من أوسع أبواب العقود المالية باعتبارها تقوم على أساس إعطاء المال لمن يعمل فيه مقابل حصة من الربح المتحصل من ذلك العمل.
فالمضاربة تقوم أساسا على مفهوم تلاقي رأس المال مع جهد الإنسان لتحقيق عمل مربح.
وكما أن رأس المال يمكن أن يقدمه فرد أو عدد محدود من الناس الراغبين في الاستثمار، فإنه من الممكن كذلك أن يكون رأس المال مقسما على هيئة حصص أو أسهم أو صكوك أو سندات امتلاك إلى غير ذلك من أشكال أو مسميات.
وبما أن رأس المال في المضاربة يتحول من الصورة النقدية إلى صورة الموجودات المختلطة من النقود والديون والأعيان تماما كما هو الحال في تحول رأس المال في الشركات المساهمة، فإن تداول الأجزاء التي ينقسم إليها رأس مال المضاربة بالبيع والشراء أمر ممكن.
صحيح أن الباحث يقرر من باب الأمانة في العرض أنه لم يقع على حالة من الحالات التي تعرض فيها الفقهاء لمسألة شراء رأس المال في المضاربة القائمة ولكن فلسفة الفقه الإسلامي بالمنظور الذي أحل فيه الله البيع وحرم الربا يمكن أن يشمل الكلام أي بيع ليس فيه ما يخالف الشرع.
وأن رأس مال المضاربة الذي يكون مالا مختلطا من النقود والديون والأعيان يمكن أن يكون محلا للبيع بنفس المنطق الذي أجاز فيه الفقهاء مسالة المخارجة في التركة وهي نوع من البيع أو المصالحة القائمة على المعاوضة عن مال بمال.
(1) هذا ما يراه الأحناف في عمل المضاربة ولكن الباحث المدقق يرى أن شركة المضاربة تشمل سائر وجوه النشاط التجاري والصناعي وحتى الاستثمار الزراعي، ويعتبر مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى أنه قد بلغ القمة في توسيع مفهوم شركة المضاربة ومبناها وكذلك العمل الذي تشمله مما ينفى عنها صفة الحصر في الاتجار فقط. (للمزيد من التوسع في ذلك – انظر: سامي حمود – تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية، الطبعة الثانية، الصفحات 375-381) .
2-
عقود المشاركات الأخرى:
ويشمل ذلك جميع عقود المشاركة الشبيهة بالمضاربة مما لا يكون لصاحب رأس المال أثر شخصي في الرضا بالعقد. فلا يستقيم الأمر مثلا في شركة العنان حيث يكون كل من الشريكين مفوضا بالتصرف ووكيلا عن الآخر فيه.
ولكن المشاركة التمويلية أمر آخر فمن يقدم رأس المال اللازم مثلا لإقامة مشروع معين أو إنشاء بناء على أرض مملوكة للأوقاف يكون فيه الأمر خارجا عن الاعتبار الشخصي لصاحب رأس المال. فلو قدمه زيد أو عبيد يكون الأمر سيان. لذلك فإن تداول حصص المشاركة التمويلية بصورة أدوات مالية يكون جائزا ومقبولا.
3-
عقد السلم:
عقد السلم هو من عقود التيسير التي أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة من أول عهد الهجرة وهو عقد على شيء – يصح بيعه – موصوف في الذمة مؤجل بثمن متعلق بثمن مقبوض (1) .
ويقوم هذا العقد على أساس الدفع المقدم للثمن المطلوب فيما يجوز فيه السلم من المكيل أو الموزون أو المعدود المثلى مما يكون محلا للإنتاج حالا أو في المستقبل المعلوم.
وكما يجوز أن يكون رأس مال السلم مدفوعا من شخص واحد أو عدة أشخاص مشتركين في التمويل، فإنه يجوز أن يكون رأس المال مقسما إلى أجزاء موزعة على عدد كبير من المالكين.
وإن عقد السلم يمثل بابا من أبواب التطوير المناسب لإنشاء الأدوات المالية الإسلامية وبخاصة في مجال تخطيط الربح المحسوب على أساس التوقع المنظور.
إن مفهوم تعليق الربح بالاتكال على الله على ما يرزق به لا يتنافى مع التخطيط لتحقيق الربح المتوقع بعد الاتكال على الله.
فإذا كان المسلم (أي صاحب رأس المال في عملية السلم) قد تعاقد على شراء طن القمح بسعر مائة وعشرين دينارا لتسلمه في الأردن مثلا في شهر مايو (أيار) وذلك في الوقت الذي يعلم فيه من السوابق والظروف أن السعر سوف يكون في ذلك الوقت بحدود مائة وأربعين دينارا، فإن هذا التوقع المحسوب للأرباح لا يتنافى مع إمكان التخطيط لتداول الحصص الداخلة في السلم على أساس البيع الموازي.
(1) البهوتي: كشاف القناع عن متن الإقناع (بيروت – عالم الكتب الجزء الثالث صفحة 288) .
إن الممنوع في السلم – كما قال به أهل الفقه – هو بيع المُسْلَم فيه لأنه معدوم وقت العقد، ولكن الفقه لا يمنع من إجراء عقد جديد للسلم الذي يراعى فيه المُسَلِّم الكمية المحتملة فيما أسلم الكمية المحتملة فيما أسلم فيه.
فإذا تعاقد زيد على شراء ألف طن من القمح الشامي يسلم له في شهر مايو (أيار) ، فإنه ليس هناك ما يحول شرعا دون قيامه بإبرام عشرة عقود للسلم يبيع بموجبها قمحا من ذات النوع حيث يكون كل عقد بمائة طن مثلا.
إن فتح أبواب السلم الأصيل والسلم الموازي يمكن أن يغطي ساحة واسعة من ساحة الأدوات المالية الإسلامية في العالم الإسلامي (1) .
4-
عقد الاستصناع:
يعتبر الاستصناع من العقود المبنية على دليل الاستحسان الذي برع فيه الأحناف للتخلص من آثار القياس.
والاستحسان في علم أصول الفقه هو العدول بالمسألة عن حكم نظائرها إلى حكم آخر لوجه أقوى بمقتضى هذا العدول (2) .
والاستصناع هو شراء ما سيصنع بطريق الطلب كأن يقول إنسان لآخر – كما أورد صاحب البدائع – اعمل لي خفا أو آنية من أديم أو نحاس من عندك بثمن كذا ويبين فيه نوع ما يعمل وقدره وصفته فيقول الصانع نعم (3) .
وقد كان الأصل في هذا العقد أنه غير لازم بمعنى أنه يجوز لكل من الطرفين فسخه كما في أصل المذهب الحنفي بلا خوف ما دام الشيء لم يصنع، أما بعد صنعه وإحضاره فيكون للمستصنع حق الفسخ من قبيل خيار الرؤية على المذهب الراجح (4) ، غير أن مجلة الأحكام العدلية أخذت في المادة 392 بلزوم العقد في حق الطرفين منذ انعقاد العقد إلا إذا جاء المصنوع على خلاف الوصف المعين في العقد حيث يكون للمستصنع حق الفسخ بمقتضى خيار فوات الوصف المشروط في العقد وليس بمقتضى عدم اللزوم في عقد الاستصناع (5) .
(1) انظر: بحث الوسائل الشرعية لتداول الحصص الاستثمارية في حالات السلم والإيجار والمرابحة ورقة بحث من إعداد الدكتور سامي حمود مقدمة إلى ندوة البركة الثانية للاقتصاد الإسلامي المنعقدة في تونس من 4-7 نوفمبر 1984م.
(2)
مصطفى أحمد الزرقاء، الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، الجزء الأول المدخل الفقهي العام (دمشق، مطبعة جامعة دمشق، 1959م) الطبعة السادسة، صفحة 48.
(3)
انظر: الكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (بيروت، دار الكتب العلمية، 1986م) .
(4)
انظر: مصطفى الزرقاء، المرجع السابق، نفس الجزء، صفحة 455.
(5)
المرجع السابق: صفحة 455-456.
وبناء على لزوم عقد الاستصناع من ناحية، واستنادا إلى إمكان الالتزام في عقد الاستصناع من طرف المتقبل على أساس أنه يعطيه إلى طرف آخر لصنع المطلوب بنفس الشروط والمواصفات فإن تمويل عقد الاستصناع يمكن أن يتم على أساس تجزئة الحصص لبيعها بسعر الأساس (أي سعر التكلفة الأقل) عن طريق المستصنع الوسيط حيث يقبض المشاركون القيمة البيعية عند تمام التنفيذ والاستلام.
فلو فرضنا أن بيت التمويل الكويتي تعاقد مع شركة الملاحة العربية في الكويت على تصنيع ناقلة نفط بمليون دينار كويتي مثلا، ثم قام بيت التمويل بالتعاقد مع شركة يابانية لصنع الناقلة بالمواصفات المطلوبة بسعر تسعمائة ألف دينار كويتي. فإنه يمكن لبيت التمويل أن يطرح حصص المشاركة في رأس المال اللازم للاستصناع على أساس البيع المجزأ لكل حصة بخمسة وتسعين دينارا كويتيا مثلا لكل حصة.
وبذلك يصبح مالك الحصة شريكا في ملكية الناقلة بمقدار حصته، فإذا سلمت هذه الناقلة إلى شركة الملاحة وتم البيع فإنه يقبض ثمنا لحصته مائة دينار محققا بذلك ربحا قدره خمسة دنانير للحصة الواحدة.
وإذا شاء أن يبيع حصته قبل ذلك فأن يبيع حصة في الناقلة أي أنه يبيع حصته الشائعة في ملكية الناقلة وهذا حقه طالما أنه المالك لهذه الحصة.
وبذلك تكون هذه الأداة المتداولة بصورة سند الملكية الممثلة للحصة الشائعة محلا للبيع والشراء.
*
**
الخلاصة وخاتمة الكلام
من ذلك نتبين أن الأدوات المالية الإسلامية يمكن أن تجد لها مجالا رحبا للتطبيق في ظلال تطور الحياة الإسلامية المعاصرة.
كما أن هذه الأدوات هي أقرب وأرحب من أدوات الاقتراض التي لا تسد الحاجات وإنما تزيد الكروب على المسلمين، وذلك لأن ارتباط رأس المال بالإنتاج يقود إلى طريق الانفراج أما ربط رأس المال بالربا فإنه يقود إلى الأذى.
وإن العالم الإسلامي الذي تزيد موجوداته بمجموعها من الأموال المقتناة بالعملات الأجنبية عن ديونه المقترضة جدير بأن تتفتح لديه التوجهات للاستفادة من أموال البلاد الإسلامية وتوجيهها لخير المسلمين ولخير الإنسان في كل مكان.
ذلك أن هذا العالم الذي نعيش فيه مع ظلام الجهل والابتعاد عن أنوار الهداية والإرشاد الإلهي، لا يكون إلا المسرح المهيأ لممارسة الإنسان ظلمه لنفسه وظلمه لأخيه الإنسان.
ولم يكن العالم في يوم من الأيام بأحوج إلى هداية السماء من هذا الوقت الذي ظن فيه الناس أنهم قد بلغوا بالعلم إلى الهبوط على سطح القمر ولكنهم غفلوا عن أبسط مبادئ العدل في تكريم الإنسان أمام المال.
وإن إيجاد الأدوات المالية الإسلامية القادرة على بناء سوق رأس المال الإسلامي تمثل المنطلق لتحرير المال الإسلامي من الوقوع في شراك الاصطياد السهل، وذلك حتى يعطي هذا المال ما عليه من حقوق لأهل البلاد التي خرج منها بسبب انعدام وسائل التعبئة والتوجيه للاستثمار الحلال.
سائلين الله أن يبارك جهود العاملين الواعين لما يصلح حال هذه الأمة وأحوال العالم التائه في ظلام الجهل والبعد عن الصراط المستقيم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور سامي حسن حمود