الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
زراعة الأعضاء وحكمه في الشريعة الإسلامية
إعداد
فضيلة الشيخ الشريف محمد عبد القادر
عضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم وكرم بني آدم على سائر الخلائق، وعلمه ما لم يعلم من الكتاب والحكمة، والصلاة والسلام على أفضل البشر وسيد المرسلين محمد وآله وصحبه أجمعين.. أما بعد:
إن العلوم الطبية الجراحية قد تطورت وحققت منجزات باهرة- وأصبحت عمليات نقل الدم وزرع الأعضاء من الأعمال اليومية وتطورت بنوك الدم والأعضاء الإنسانية، ونالت عمليات البيع والتبرع بالدم والأعضاء الإنسانية حية أو مميتة رواجاً عاماً في كل مكان من العالم.
وفي هذه الظروف برزت مسألة تحديد موقف الشريعة الإسلامية من هذه الأمور خاصة مسألة زرع الأعضاء الإنسانية في نفس الجسد الذي بترت منه هذه الأعضاء أو في جسد آخر- وكذلك مسألة التبرع بالأعضاء وبيعها- هل تجيز الشريعة الإسلامية هذه الأمور أم تمنعها؟
ومن أجل التوصل إلى رأي حول هذه الأمور يجب النظر والبت في المسائل التالية:
* أولاً: كرامة الإنسان وحرمة أعضائه.
* ثانياً: ملكية الجسد الإنساني- هل يملك الإنسان جسده أم لا؟
* ثالثاً: نظرة الشريعة الإسلامية حول ضرورة بتر الأعضاء وزرعها.
* رابعاً: مسألة طهارة العضو المبتور وعدمها وحكم زرعه من هذه الناحية.
فلننظر في هذه الأمور لنتعرف على وجهة نظر الشريعة الإسلامية فيها، وفي مقدمتها:
* كرامة الإنسان وجسده:
قال الله ربنا سبحانه وتعالى في محكم كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} [سورة الإسراء: الآية 70] .
إن هذه الكرامة التي منحها الخالق سبحانه وتعالى لأفضل خلقه البشر تشمل نفس الإنسان وجسده- حيث قال سبحانه وتعالى في سورة العلق من كتابه الفرقان المجيد {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} - وأشير في الآية إلى كرامة نفس الإنسان- فإن الإنسان هو الخلق الوحيد الذي فتح الله أمامه أبواب العلم والمعرفة وشرف نفس الإنسان بقوة البحث والتفكير ليخرج بها من الظلمة إلى النور ويتوصل إلى المجهول بواسطة المعروف- وهذه الكرامة النفسية ينفرد بها الإنسان فقط ولم يظفر بها غيره في الخلائق، وبخصوص كرامة الجسد الإنساني، فقد قال الله تعالى في كتابه المجيد {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [سورة التين، آية 4] .
ومن الواجب على الإنسان المحافظة على كرامته النفسية والجسدية ويحرم عليه تغيير هيكل جسده القويم، ولا يجوز للإنسان التصرف بجسده وبأي عضو من جسده بحيث يسيء إلى شرفه وكرامته، ومن ثم منع النبي صلى الله عليه وسلم من كسر عظم الإنسان ولو ميتاً، فقد روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كسر عظم الميت ككسره حياً)) ، وما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ((لعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة)) ، فإن السبب يرجع إلى أن هذه الأعمال لا تليق بشأن جسد الإنسان الكريم وشرفه، ورجع الإمام النووي أسباب لعنة النبي صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة إلى أن هذا الأمر يعتبر تزويراً وتدليساً وتغييراً للخلق وذاك لا يجوز نظراً إلى كرامة الإنسان، حتى منع الإمام النووي رحمه الله الانتفاع بشعر الأدمي وبأي عضو من أعضاء جسده وذلك رعاية لكرامة الإنسان التي بها اختاره الخالق سبحانه من سائر خلقه الذي لا يدريه إلا هو.
ويستنتج مما ذكر أعلاه أن الشريعة الإسلامية لا تجيز التلاعب بأعضاء الجسد الإنساني ولا تجيز معاملته بحيث تسيء إلى كرامته.
* ملكية الإنسان لجسده:
قال الفقيه العلامة الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرحه للحديث النبوي الشريف: ((من قتل نفسه
…
)) الحديث، لأن نفسه ليست ملكاً له مطلقاً بل هي لله تعالى، فلا يتصرف فيها إلا بما أذن له فيه (فتح الباري) - ويدل هذا التصريح من العسقلاني على أن الإنسان لا يملك جسده فلا يجوز له بيعه وبيع أي عضو أو جزء منه كما لا يجوز أن يتبرع به أو بأعضائه أو أجزائه- فإن الهبة والبيع لا يصح إلا من المالك.
* زرع الأعضاء للأغراض الطبية:
إن المسألة التي نحن بصدد البحث عنها هي: هل تجيز الشريعة الإسلامية بتر أي عضو من أعضاء الجسد حياً أو ميتاً مثل العين والأذن والمخ والكلية والقلب واليد والرجل وغيرها وزرعها في نفس الجسد أو في جسد غيره لأغراض طبية؟ وقد أوضحنا فيما أعلاه ضمن البحث عن كرامة الإنسان وجسده أن الشريعة الإسلامية لا تجيز أن يعامل الجسد الإنساني المحترم معاملة تسيء إلى كرامته، وما من شك في أن تقطيع الجسد الإنساني وأعضائه ومعاملته معاملة السلع والبضائع بالبيع والهبة ونقل أعضائه من مكان إلى مكان آخر أومن جسد إلى جسد آخر يعتبر انتهاكاً سافراً لكرامته، وعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار آراء الفقهاء بهذا الخصوص.
قال العلامة الكاساني في كتابه البدائع: "أما عظم الآدمي وشعره فلا يجوز بيعه لا لنجاسته لأنه طاهر في الصحيح من الرواية ولكن احتراماً له، والابتذال بالبيع يشعر بالإهانة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لعن الله الواصلة والمستوصلة! .
وجاء في المبسوط للسرخسي بيع الحر لا يجوز، لأن الحر لا يدخل في العقد، لأن دخول الشيء في العقد هو بصفة المالية والتقوم، وذلك لا يوجد في الحر، وجاء في البحر: "ولبن المرأة أي لم يجز بيع لبن المرأة لأنه جزء الآدمي وهو بجميع أجزائه مكرم ومصون عن الابتذال بالبيع.
وعلاوة على ذلك لا يحق لأحد التبرع بالجسد الإنساني لأن الإنسان لا يملك جسده ملكية مطلقة، بل هو ملك لخالقه سبحانه وتعالى، وليس للإنسان إلا الاستفادة بجسده وأعضائه حسب أحكام الشريعة الإسلامية.
وقال القاضي أحمد بن رشد في بداية المجتهد: (أما الواهب فإنهم اتفقوا عل أن تجوز هبته إذا كان مالكاً صحيح الملك "، فقد تبين من الاقتباسات المذكورة أعلاه من أقوال الفقهاء أنه لا يجوز بيع وهبة جسد الإنسان أو أي جزء من أجزائه حتى لا يجوز لصاحب الجسد بتر أي عضو من جسده لاستخدامه لنفسه، كما جاء في الفتاوى العالمجيري: "مضطر لم يجد ميتة وخاف الهلاك، فقال له رجل: اقطع يدي وكلها، أو قال: اقطع مني قطعة فكلها لا يسعه أن يفعل ذلك ولا يصح أمره، كما لا يصح للمضطر أن يقطع قطعة من لحم نفسه فيأكل ".
وفي المبسوط للسرخسي أن المضطر كما لا يصح له قتل الإنسان ليأكل من لحمه لا يباح له قطع عضو من أعضائه.
ومن المعروف أن العضو المبتور من جسد الإنسان يعتبر نجساً، وحمل النجس وربطه بجسد الإنسان لا يجوز كما لا تجوزه الصلاة في هذه الحالة، وقد يستنتج مما ذكر أعلاه:
أولاً: أن أعضاء الإنسان شيء محترم، فلا يجوز بترها لزرعها في مكان آخر من نفس الجسد أو في جسد آخر حتى ولو كان لغرض العلاج لأن ذلك يعتبر انتهاكاً لكرامة الإنسان وأعضاء جسده.
ثانياً: أن أعضاء جسد الإنسان ليست سلعاً تباع وتشترى، ولا يملك الإنسان أعضاءه ملكاً تاماً، بل هي ملك خالص لله الخالق سبحانه وتعالى أما الإنسان فمجاز باستخدامها حسب أحكامه وإرادته، فلا يجوز للإنسان هبة أو بيع عضو من أعضائه مثل العين والمخ والكلية وغيرها في حين حياته أو بعد موته.
ثالثاً: أن الجثة الهامدة والملقاة في العراء أو في الحي مجهولة الهوية والجثة المشرحة محترمة كجثة أي إنسان آخر فلا يجوز بتر أعضائها وزرعها في جسد آخر لأغراض طبية كما لا يجوز استخدامها لأي غرض آخر.
قد عرضنا فيما مر أقوال كبار الفقهاء المتقدمين والمتأخرين وما يستنتج من أقوالهم حول موضوع زراعة الأعضاء.
وقد رأى بعض الفقهاء قياس مسألة زرع الأعضاء على مسألة التداوي بالحرام عند الضرورة أخذاً في الاعتبار تصنيف العلامة الهموي لأعمال الإنسان في خمسة أصناف الفضول والزينة والمنفعة والحاجة والضرورة، والضرورة تبيح المحظورات، فيجوز زرع الأعضاء في حالة الضرورة كما يجوز التداوي بالحرام فيها، وقد أجاز بعض فقهاء العصر التبرع بالدم للأغراض الطبية ولكنهم اختلفوا في بيعه.
وفي الختام أرجو أن تلتفت أنظار فقهاء العصر إلى المستجدات الباهرة في العلوم الطبية والجراحية والى التطورات والمتقلبات الحديثة في الحياة الإنسانية الفردية والاجتماعية، قد يصاب عدد كبير من أولاد البشر رجالاً ونساءً وأطفالاً بجروح شديدة في لحظة واحدة نتيجة الحروب العصرية والكوارث الطبيعية، وقد حققت العلوم الطبية والجراحية نجاحاً كبيراً في إنقاذ حياة الكثيرين عن طريق نقل الدم وزرع الأعضاء، واكتسبت الأعضاء الإنسانية نوعاً من المالية والتقوم حيث تباع هذه الأعضاء حية أو ميتة، وقد يتبرع بها كمبادرة إنسانية. ومسألة نجاسة الأعضاء المبتورة مما اختلف فيها العلماء، وزراعة العضو يعتبر إعادة الحياة فيها فيبرز سؤال: ألا تعتبر إعادة الحياة في العضو المبتور بمثابة إزالة النجاسة منها وإعادة الطهارة فيها؟ وصحيح أن جسد الإنسان محترم، ألا يجوز اعتبار التبرع بالأعضاء تضحية من قبل إنسان محترم لإنسان محترم آخر بشيء يمكن له الاستغناء عنه؟
ويشهد تاريخ تطور الفقه الإسلامي أن فقهاء الأمة قد غيروا آراءهم وقد عدلوا عن آرائهم السابقة وأجازوا ما منعوه من قبل نظراً إلى التغيرات الواردة في المسألة والمستجدات من الأحوال في الموضوع، فإن جمع سور القرآن الكريم في مصحف كان يعتبر ممنوعاً في عهد النبوة وفي الأيام الأولى من الخلافة وغير الصديق الأكبر والفاروق الأعظم وبالتالي جمهور الصحابة رأيهم بعد أحداث اليمامة حيث استشهد عدد كبير من حفظة القرآن وخشي من فقدان أجزاء القرآن الحكيم، كذلك كان الفقهاء المتقدمون يحرمون الأجرة على الإمامة وتعليم الكتاب والسنة، ولكن الفقهاء المتأخرين أجازوها نظراً إلى انقطاع المنحات الحكومية وقلة رغبة الناس في الإمامة والتعليم، والنظائر والسوابق في هذا المجال كثيرة.
فيجب على فقهاء الأمة وعلماء العصر إمعان النظر في هذه المسألة الاجتهادية آخذين في عين الاعتبار الظروف السائدة والتقلبات العصرية والمصلحة العامة للأمة. هذا والله أعلم بالصواب.
الشريف محمد عبد القادر