المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القبض:صوره، وبخاصة المستجدة منها، وأحكامهاإعدادفضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٦

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد السادس

- ‌كلمةمعالي الأمين العاملمنظمة المؤتمر الإسلاميالدكتور حامد الغابد

- ‌كلمةمعالي رئيس مجمع الفقه الإسلاميالدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌كلمةمعالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدوليالدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌كلمةصاحب السمو الملكيالأمير ماجد بن عبد العزيز

- ‌كلمةمعالي الأستاذ خالد أحمد الجسار

- ‌كلمةمعالي الدكتور حامد الغابد

- ‌كلمةمعالي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائهاإعدادسماحة الشيخ الدكتور محمد سيد طنطاوي

- ‌التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائهاإعدادسعادة الدكتور عبد الله إبراهيم

- ‌التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائهاإعدادفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌الطرق المشروعة للتمويل العقاريإعدادفضيلة القاضي محمد تقي العثماني

- ‌بيع التقسيطإعدادفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌بيع التقسيطإعدادفضيلة الدكتور محمد عطا السيد

- ‌بيع التقسيطإعدادفضيلة الدكتور إبراهيم فاضل الدبور

- ‌البيع بالتقسيط: نظرات في التطبيق العمليإعدادفضيلة الدكتور علي أحمد السالوس

- ‌تقسيط الدين في الفقه الإسلاميإعدادفضيلة الدكتور محمد رضا عبد الجبار العاني

- ‌بيع التقسيط: تحليل فقهي واقتصاديإعدادسعادة الدكتور رفيق يونس المصري

- ‌حكم زيادة السعرفي البيع بالنسيئة شرعًاإعدادفضيلة الدكتور نظام الدين عبد الحميد

- ‌القبضصوره، وبخاصة المستجدة منها وأحكامهاإعدادفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌القبض:صوره، وبخاصة المستجدة منها، وأحكامهاإعدادفضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌القبض:أنواعه، وأحكامه في الفقه الإسلامىإعدادفضيلة الدكتور محمد رضا عبد الجبار العاني

- ‌القبض:صوره وبخاصة المستجدة منها، وأحكامهاإعدادسعادة الدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌القبض:صوره، وبخاصة المستجدة منها، وأحكامهاإعدادفضيلة الدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌القبضتعريفه، أقسامه، صوره وأحكامهاإعدادفضيلة الدكتور سعود بن مسعد الثبيتي

- ‌حُكم قبض الشيكوهل هو قبض لمحتواه؟إعدادفضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌القبض الحقيقي والحكمي: قواعده وتطبيقاتهمن الفقه الإسلاميإعدادفضيلة الشيخ نزيه كمال حماد

- ‌حكم إجراء العقود بوسَائل الاتصَال الحَديثةفي الفقه الإسلامي (موازَنًا بالفقه الوضعي)إعدادسعادة الدكتور إبراهيم كافي دونمز

- ‌الإسلام وإجراء العقودبآلات الاتصال الحديثةإعدادفضيلة الشيخ محمد الحاج الناصر

- ‌الأسواق المالية وأحكامها الفقهيةفي عصرنا الحاضرإعدادفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌أحكام السوق الماليةإعدادفضيلة الدكتور محمد عبد الغفار الشريف

- ‌السوق الماليةإعدادفضيلة الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌الأسواق المالية والبورصة والتجربة التونسيةإعدادسعادة الدكتور مصطفى النابلي

- ‌السوق المالية ومسلسل الخوصصةإعدادسعادة الدكتور الحسن الداودي

- ‌الأدوات المالية الإسلاميةإعدادسعادة الدكتور سامي حسن حمود

- ‌الأدوات المالية الإسلاميةإعدادفضيلة الدكتور حسين حامد حسان

- ‌الأسواق الماليةمن منظور النظام الاقتصادي الإسلامي(دراسة مقارنة)إعدادسعادة الدكتور نبيل عبد الإله نصيف

- ‌الأدوات المالية الإسلاميةوالبورصات الخليجيةإعدادسعادة الدكتور محمد فيصل الأخوة

- ‌الأدوات المالية التقليديةإعدادسعادة الدكتور محمد الحبيب جراية

- ‌الأسواق الماليةإعدادسعادة الدكتور محمد القري بن عيد

- ‌تجلي مرونة الفقه الإسلاميأمام التحديات المعاصرةإعدادفضيلة الأستاذ محمد الأزرق

- ‌وثائقندوة الأسواق الماليةالمنعقدة بالرباط

- ‌زراعة خلايا الجهاز العصبي وبخاصة المخإعدادفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌زراعة خلايا الجهاز العصبي وخاصة المخإعدادفضيلة الشيخ محمد المختار السلامي

- ‌زراعة الأعضاء وحكمه في الشريعة الإسلاميةإعدادفضيلة الشيخ الشريف محمد عبد القادر

- ‌زراعة خلايا المخمجالاته الحالية وآفاقه المستقبليةإعدادسعادة الدكتور مختار المهدي

- ‌إجراء التجارب علىالأجنة المجهضة والأجنة المستنبتةإعدادسعادة الدكتور محمد علي البار

- ‌الاستفادة من الأجنة المجهضة أو الزائدة عن الحاجةفي التجارب العلمية وزراعة الأعضاءإعدادسعادة الدكتور مأمون الحاج علي إبراهيم

- ‌حكم الاستفادة من الأجنة المجهضةأو الزائدة عن الحاجةإعدادفضيلة الدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌الاستفادة من الأجنة المجهضة والفائضةفي زراعة الأعضاء وإجراء التجاربإعدادسعادة الأستاذ الدكتور عبد الله حسين باسلامة

- ‌(أ) استخدام الأجنة في البحث والعلاج(ب) الوليد عديم الدماغمصدراً لزراعة الأعضاء الحيويةإعدادالدكتور حسان حتحوت

- ‌(أ) حقيقة الجنين وحكم الانتفاع به في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية.(ب) حكم زراعة خلايا الدماغ والجهاز العصبي.إعداد فضيلة الدكتور محمد نعيم ياسين

- ‌حكم الانتزاع لعضومن مولود حي عديم الدماغإعدادفضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌الاستفادة من الأجنة المجهضةأو الزائدة عن الحاجةفي التجارب العلمية وزراعة الأعضاءإعدادفضيلة الدكتور عمر سليمان الأشقر

- ‌زراعة الأعضاء من الأجنة المجهضةإعدادفضيلة الشيخ محمد عبده عمر

- ‌حكم إعادة ما قطع بحد أو قصاصإعدادفضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌زراعة عضو استؤصل في حد أو قصاصإعدادفضيلة حجة الإسلام محمد علي التسخيري

- ‌زراعة عضو استؤصل في حدإعدادفضيلة القاضي محمد تقي العثماني

- ‌زراعة عضو استؤصل في حدإعدادفضيلة الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌حكم إعادة اليدبعد قطعها في حد شرعيإعدادفضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌هل يجوز إعادة يد السارقإذا قطعت بصفة شرعية أم لا؟إعدادفضيلة الشيخ مولاي مصطفى العلوي

- ‌زراعة الأعضاء البشريةالأعضاء المنزوعة من الأجنة المجهضة.الغدد والأعضاء التناسلية.زراعة عضو استؤصل في حد كإعادة اليد التي قطعت في حد السرقة.زراعة خلايا الجهاز العصبي.إعدادسعادة الأستاذ أحمد محمد جمال

- ‌إمكانية نقل الأعضاء التناسلية في المرأةإعدادسعادة الدكتور طلعت أحمد القصبي

- ‌أحكام نقل الخصيتين والمبيضين وأحكامنقل أعضاء الجنين الناقص الخلقةفي الشريعة الإسلاميةإعدادفضيلة الدكتور خالد رشيد الجميلي

- ‌نقل وزراعة الأعضاء التناسليةإعدادفضيلة الدكتور محمد سليمان الأشقر

- ‌زرع الغدد التناسلية والأعضاء التناسليةإعدادسعادة الدكتور محمد علي البار

- ‌زراعة الغدد التناسلية أو زراعةرحم امرأة في رحم امرأة أخرىإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌زراعة الأعضاء التناسلية والغدد التناسليةللمرأة والرجلإعدادسعادة الدكتورة صديقة علي العوضي

الفصل: ‌القبض:صوره، وبخاصة المستجدة منها، وأحكامهاإعدادفضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

‌القبض:

صوره، وبخاصة المستجدة منها، وأحكامها

إعداد

فضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

عضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. . وبعد:

فهذا بحث عن: (بيع الإنسان ما اشتراه قبل قبضه) ، أقدمه لمجمع الفقه الإسلامي في دورته السادسة، استجابة لطلبه الكتابة في موضوع:

"القبض: صوره، وبخاصة المستحدثة منها، وأحكامها"

وقد رأيت أن اقصر بحثي في مسألة واحدة من مسائل الموضوع المطلوب الكتابة فيه، هي – في نظري – الصورة التي تحتاج إلى بيان حكم الشرع فيها؛ لأنها كثيرة الوقوع في المعاملات التجارية في وقتنا هذا.

وسأكتب هذا الموضوع في ثلاثة مباحث:

* المبحث الأول: النصوص الواردة في الموضوع وما يستفاد منها.

* المبحث الثاني: آراء الفقهاء في حكم بيع الإنسان ما اشتراه قبل قبضه.

* المبحث الثالث: بعض الصور المستخدمة وحكمها.

ص: 330

المبحث الأول

النصوص الواردة في الموضوع، وما يستفاد منها

1-

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع الرجل طعامًا حتى يستوفيه، قلت لابن عباس: كيف ذلك؟ قال: ذلك دراهم بدراهم، والطعام مرجأ (1)

2-

عبد الله بن دينار قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من ابتاع طعامًا فلا يبيعه حتى يقبضه)) (2)

3-

عن ابن عمر ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع أحد طعامًا اشتراه بكيل حتى يستوفيه)) (3)

4-

عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اشترى طعامًا بكيل، أو وزن، فلا يبيعه حتى يقبضه)) (4)

5-

مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال: كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتاع الطعام فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه (5)

6-

عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من اشترى طعامًا فلا يبيعه حتى يكتاله)) (6)

7-

عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا ابتعت طعامًا فلا تبعه حتى تستوفيه)) (7)

(1) رواه البخاري: صحيح 3/68، وفي رواية للبخاري أيضًا أن سفيان قال: الذي حفظناه من عمرو بن دينار سمع طاوسًا يقول: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: أما الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو الطعام أن يباع حتى يقبض. قال ابن عباس: ولا أحسب: كل شيء إلَاّ مثله. المصدر السابق، وانظر صحيح مسلم: 1/168، والترمذي: 3/586، وانظر أيضًا منتقى الأخبار مع نيل الأوطار: 5/256.

(2)

رواه البخاري ومالك: صحيح البخاري: 3/68، والموطأ: 4/279، وانظر أيضًا منتقى الأخبار مع نيل الأوطار: 5/256

(3)

رواه أبو داود والنسائي: سنن أبي داود: 3/381، وسنن النسائي 7/286

(4)

رواه أحمد: مسند الإمام أحمد: 1/11.

(5)

أخرجه مالك، وأحمد: الموطأ بهامش المنتقى: 1/283، والمسند: 4/56

(6)

رواه مسلم: صحيح مسلم: 1/171، وانظر المنتقى مع نيل الأوطار: 5/256

(7)

رواه مسلم، صحيح مسلم: 1/172، وانظر أيضًا المنتقى مع نيل الأوطار: 5/256

ص: 331

8-

عن ابن عمر قال: كانوا يتبايعون الطعام جزافًا بأعلى السوق فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه (1)

9-

عن حكيم بن حزام قال: قلت: يا رسول الله. إني أشتري بيوعًا فما يحل لي منها وما يحرم علي؟ قال: ((فإذا اشتريت بيعًا فلا تبعه حتى تقبضه)) (2)

10-

عن ابن عمر قال: ابتعت زيتًا في السوق فلما استوجبته لنفسي لقيني رجل فأعطاني به ربحًا حسنًا فأردت أن اضرب على يده فاخذ رجل من خلفي بذراعي فالتفت، فإذا زيد بن ثابت فقال: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك، ((فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم)) . (3)

ما يستفاد من الأحاديث:

تدل هذه الأحاديث على نهي من اشترى طعامًا أن يبيعه قبل قبضه، سواء أكان الطعام معينًا، بأن اشتراه جزافًا، أم غير معين بأن اشتراه على الكيل أو الوزن، وذلك لأن بعض الأحاديث ذكر فيها الطعام مطلقًا، وهي أكثر الأحاديث، وكلها متفق على صحتها، وبعضها ذكر فيه مقيدًا بالجزاف، وهو حديث ابن عمر المتفق على صحته أيضا، وفي حديث آخر لابن عمر جاء الطعام مقيدًا بالكيل، وفي حديث له أيضًا جاء مقيدًا بالكيل والوزن، وهذان الحديثان مقبولان أيضًا، وإن كانا دون مرتبة الأحاديث المطلقة والمقيدة بالجزاف، فمن أجل هذا أخذنا بها جميعا.

(1) رواه الجماعة إلَاّ الترمذي وابن ماجه: منتقى الأخبار: 5/265، والحديث في البخاري بلفظ: عن سالم عن أبيه رضي الله عنه قال: رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى يؤوه إلى رحالهم: صحيح البخاري: 3/68، وفي مسلم بلفظ: سالم بن عبد الله أن أباه قال: قد رأيت الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ابتاعوا الطعام جزافًا يضربون في أن يبيعوه في مكانهم، وذلك حتى يؤوه إلى رحالهم، قال ابن شهاب، وحدثني عبيد الله بن عبد الله بن عمر: أن أباه كان يشتري الطعام جزافًا فيحمله إلى أهله، وفي رواية لمسلم عن سالم عن ابن عمر أنهم كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا طعامًا جزافًا أن يبيعوه في مكانه حتى يحولوه، وفي رواية ثالثة له: عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من اشترى طعامًا فلا يبيعه حتى يستوفيه، قال وكنا نشتري الطعام من الركبان جزافًا فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه: صحيح مسلم: 1/170.

(2)

رواه أحمد، وأخرجه أيضًا الطبراني في الكبير، المسند: 3/402، ومنتقى الأخبار: 5/256، وفيه "شيئًا" بدل "بيعًا" ونيل الأوطار: 5/256، وقال الشوكاني: في إسناد هذا الحديث العلاء بن خالد الواسطي، وقد اختلف فيه، فوثقه ابن حبان، وضعفه موسى بن إسماعيل. وقال ابن رشد: قال أبو عمر: حديث حكيم بن حزام رواه يحيى بن أبي كثير عن يوسف بن ماهك أن عبد الله بن عصمة حدثه أن حكيم بن حزام قال: ويوسف بن ماهك وعبد الله بن عصمة لا أعرف لهما جرحة إلَاّ أنه لم يرو عنهما إلَاّ رجل واحد فقط، وذلك في الحقيقة ليس يجرحه وإن كرهه جماعة من المحدثين، بداية المجتهد: 2/45 وقال ابن حزم عن عبد الله بن عصمة: متروك، ولكن ابن حزم روى هذا الحديث عن طريق آخر ليس فيه عبد الله بن عصمة وقال: إنه سند صحيح: المحلى: 8/519.

(3)

رواه أبو داود، والدارقطني: سنن أبي داود: 3/383، ومنتقى الأخبار: 5/256، وأخرجه أيضًا الحاكم: نيل الأوطار: 5/256، وفي إسناد هذا الحديث أحمد بن خالد الوهبي، وقد قال فيه ابن حزم: إنه مجهول، المحلى: 8/523، ولكن الحاكم وابن حبان صححا هذا الحديث: نيل الأوطار: 5/256.

ص: 332

هل النهي للتحريم أم للكراهة؟

النهي الوارد في الحديث للتحريم، لأن الأصل في صيغة النهي أن تكون للتحريم إلَاّ إذا وجدت قرينة تصرفها إلى الكراهة، وليست هنا قرينة صارفة عن التحريم، بل قد جاء في بعض الروايات الصحيحة ما يؤكد التحريم، وهو أن الناس كانوا يضربون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا طعامًا جزافًا أن يبيعوه قبل تحويله من مكانه، والعقوبة بالضرب لا تكون إلَاّ على أمر محرم.

بيع الطعام قبل قبضه غير صحيح:

وإذا ثبت أن النهي للتحريم فإن بيع الطعام قبل قبضه يكون غير صحيح، وهذا هو ما جرى عليه العمل في عهد الصحابة، فقد كان عمر بن الخطاب ينهى عن بيع الطعام قبل قبضه ويرد البيع إذا وقع، ولا يكون الرد إلَاّ إذا كان البيع غير صحيح. فقد روى مالك عن نافع أن حكيم بن حزام ابتاع طعامًا أمر به عمر بن الخطاب للناس، فباع حكيم الطعام قبل أن يستوفيه، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فرده عليه، وقال: لا تبع طعامًا ابتعته حتى تستوفيه (1)

(1) الموطأ: 4/284 – انظر كيف يصدر هذا من حكيم، مع أنه هو نفسه روى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له:(إذا اشتريت بيعًا فلا تبعه حتى تقبضه) هذا الخبر في نظري يقوي رأي القائلين بضعف الحديث المروي عن حكيم.

ص: 333

وكذلك روي أن مروان بن الحكم أمر برد البيع في الصكوك التي بيعت قبل أن تستوفى بعد استنكار من زيد بن ثابت وأبي هريرة. فقد روى مالك في الموطأ أنه بلغه أن صكوكًا (1) ، خرجت للناس في زمان مروان بن الحكم من طعام الجار (2) ، فتبايع لناس تلك الصكوك بينهم قبل أن يستوفوها، فدخل زيد بن ثابت، ورجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على مروان بن الحكم فقالا: أتحل الربا يا مروان؟ فقال: أعوذ بالله، وما ذاك؟ فقال: هذه الصكوك تبايعها الناس، ثم باعوها قبل أن تستوفى، فبعث مروان بن الحكم الحرس يتبعونها ينزعونها من أيدي الناس، ويردونها إلى أهلها (3) .

وجاء مثل هذا الخبر في المعنى عن أبى هريرة (4) ، ولعله هو الصحابي الذي كان مع زيد بن ثابت، وأشار إليه مالك من غير ذكر اسمه.

ما المراد بالطعام؟ وما المراد بالقبض؟

وإذا كنا قد انتهينا إلى أن بيع الطعام قبل قبضه غير صحيح، فعلينا أن نحدد المراد بهاتين الكلمتين: الطعام والقبض.

(1) الصكوك جمع صك، وهو الورقة المكتوبة بدين، والمراد بها هنا الورقة التي تخرج من ولى الأمر بالرزق لمستحقه، بأن يكتب فيها لفلان كذا وكذا من طعام أو غيره، ومن هذه الصكوك ما يكون بعمل كأرزاق القضاة والعمال، ومنها ما يكون بغير عمل كالعطاء لأهل الحاجة، والظاهر أن تلك الصكوك كانت من الطعام: النووي على مسلم: 10/171، والمنتقى على الموطأ: 4/185.

(2)

الجار موضع بساحل البحر يجمع فيه الطعام، ثم يفرق على الناس بصكاك: الزرقاني على الموطأ: 3/288

(3)

الموطأ بهامش المنتقى: 4/385

(4)

النووي على مسلم: 10/171

ص: 334

المراد بالطعام:

يرى بعض الفقهاء أن الطعام يطلق على القمح خاصة، ويؤيدون رأيهم بما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري قال:(كنا نخرج زكاة الفطر صاعًا من طعام، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من أقط، أو صاعًا من زبيب)(1) . فإن ظاهر هذا الخبر أن الطعام غير الشعير وما ذكر بعده، وقد حكى الخطابي: أن المراد بالطعام هنا الحنطة أي القمح، وان الطعام اسم خاص للقمح، وقد كانت لفظة الطعام تستعمل في القمح عند الإطلاق، حتى إذا قيل: اذهب إلى سوق الطعام فهم منه سوق القمح (2)

ويرى آخرون أن الطعام لا يختص بالقمح، وإنما يشمل كل ما تعارف الناس على إطعامه، ويؤيدون رأيهم بما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري أيضًا، قال: كنا نخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفطر صاعًا من طعام، وقال أبو سعيد: وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر. فهذا نص في أن الطعام يطلق على غير القمح، فلعل أبا سعيد أجمل الطعام في الحديث الأول ثم فسره، أو أراد طعامًا آخر غير القمح، لأن القمح لم يكن قوتًا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كان في زمن معاوية (3)

والذي أرجحه أن الطعام في الحديث يشمل كل ما يطعم من قمح وشعير وسائر أنواع المطعومات، سواء كانت مأكولات كالتمر والفاكهة، أو كانت من الأدم كالزيت والعسل؛ لأنه يستعمل لغة في كل هذا. وإن كان العرب أطلقته على القمح أحيانًا، كما أطلقت المال على الإبل.

ولم أجد تعليلا مقبولا لقصره على القمح في هذا الحديث، وكون الطعام قد أطلق في بعض الأحاديث على القمح لا يعني أنه قد أصبح خاصًا به، لأنه أطلق في أحاديث أخرى على غير القمح أيضًا (4)

المراد بالقبض:

نهت بعض الأحاديث عن بيع الطعام قبل كيله أو وزنه، وهذا لا يكون إلَاّ فيما بيع على الكيل أو الوزن، ونهت بعضها عن بيعه قبل تحويله من مكانه، وخصصت بعضها هذا الحكم بالجزاف، في حين أن بعضًا آخر نهى عن بيع ما اشتري جزافًا من الطعام قبل أن يحوزه التجار إلى رحالهم، وجاء في بعض الأحاديث النهي عن بيع الطعام قبل الاستيفاء، وفي بعضها النهي قبل القبض من غير تقييد بهيئة خاصة للقبض أو الاستيفاء.

ونستطيع أن نأخذ من هذا أن القبض في المكيل والموزون ونحوهما يكون باستيفاء قدره، وان القبض في الجزاف يكون بتحويله إلى رحل المشتري، أو إلى أي مكان آخر غير المكان الذي بيع فيه، ولم تتعرض الأحاديث للقبض في غير الجزاف والمكيل والموزون، فيرجع فيه إلى العرف.

هل النهي خاص بالطعام؟

خصصت كل الأحاديث المتفق على صحتها النهي عن البيع قبل القبض بالطعام، وهذا يدل بمفهومه على إباحة بيع ما عدا الطعام قبل قبضه، لأن تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بالطعام بالنهي عن بيعه قبل قبضه دليل على مخالفة غيره له، وهذا رأي له وجاهته، ولكن مع هذا لا أرى الأخذ به، للأسباب الآتية:

1-

علة النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، سواء كانت الربا أو الغرر، موجودة في بيع غير الطعام قبل قبضه فيجب أن يسوى بينهما في الحكم.

2-

قول ابن عباس "ولا أحسب كل شيء إلَاّ مثله" يعني أن غير الطعام ينبغي أن يقاس على الطعام الثابت النهي عن بيعه قبل قبضه بالسنة، وهذا من تفقه ابن عباس، كما يقول ابن حجر (5) ، وابن عباس هو راوي الحديث وهو أعرف بمرماه.

3-

حديث حكيم بن حزام الذي جاء فيه: ((إذا اشتريت بيعًا فلا تبعه حتى تقبضه)) وحديث زيد بن ثابت الذي ورد فيه النهي عن بيع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم. فإن كلمة (بيع) و (السلع) عامة تشمل الطعام وغيره.

(1) صحيح البخاري: 2/131

(2)

فتح الباري: 3/291

(3)

فتح الباري: 2/291، 292

(4)

انظر، القاموس المحيط، وأساس البلاغة للزمخشري، والنهاية لابن الأثير

(5)

فتح الباري: 4/278، المطبعة البهية

ص: 335

وهذان الحديثان وإن كان في كل منهما مقال إلَاّ أن القياس الصحيح، وقول ابن عباس يقويان الأخذ بهما، ولا يصح تخصيصهما بمفهوم الحديث الخاص، لأن الطعام، كما يقول ابن القيم، وإن كان مشتقًا، فاللقبية أغلب عليه حيث لم يرد معنى يقتضي اختصاص النهي به دون سواه، كما لا يصح تقديم حديث النهي عن بيع الطعام على هذين الحديثين، لأنه لا تعارض بينهما، إذ لا مانع من ذكر الشيء بحكم، وذكر بعضه بذلك الحكم، فالعمل ممكن بكل هذه الأحاديث فوجب الأخذ بها كلها.

لهذا فإني أرى أن ذكر الطعام لم يقصد به التخصيص، وإنما خرج مخرج الغالب، لأنه أكثر ما يتعامل فيه الناس، فالنهي إذن يتناول الطعام وغيره، منقولًا كان أو عقارًا.

هل النهي عن البيع قبل القبض خاص فيما ملك بالشراء؟

كل الأحاديث تدل على أن النهي عن البيع قبل القبض هو فيما ملك بالشراء خاصة، ما عدا حديث ابن عباس فإنه لم يصرح فيه بذلك، ولكن تعليل ابن عباس للنهي يشير إشارة واضحة إلى أنه فيما ملك بالشراء، فإن قوله:(ذلك دراهم بدراهم والطعام مرجأ) يعني أن الشخص إذا دفع مائة درهم في طعام ثم باعه قبل أن يقبضه بمائة وعشرين درهمًا فكأنما باع مائة درهم بمائة وعشرين، وهذا واضح في بيع ما اشترى قبل قبضه، ولهذا فإنى أرى حمل حديث ابن عباس على سائر الأحاديث، فيكون المنهي عنه بالنص هو البيع قبل القبض فيما ملك بعقد البيع، وأما ما ملك بالعقود الأخرى أو ما ملك بغير عقد كالإرث فإن النص لا يتناوله، ولكن القياس يقضي بإلحاق ما تتحقق فيه العلة بالبيع، وإذا نظرنا إلى علة المنع، وهى الغرر أو الربا أو هما معًا، نجد أن العلتين تتحققان معًا فيما ملك بعقد البيع، وأن علة الربا مقصورة على البيع لا تتعداه لغيره من العقود، أما علة الغرر، فإنها تتحقق في كل أسباب الملك حتى الإرث، لأن المال الموروث إذا بيع قبل قبضه قد يهلك قبل القبض، فيعجز البائع عن التسليم، ولكن علة الغرر هذه أقوى فيما ملك بالبيع منها في غيره، لأن فيه غرر انفساخ العقد بهلاك المحل، كما يقول الحنفية، وغرر انفساخه بجحود البائع الأول واحتياله إذا رأى البائع الثاني ربح فيه ربحًا كثيرًا كما يقول ابن تيميه (1) ، ولهذا فإني أرى الوقوف عند النص فلا نمنع البيع قبل القبض إلَاّ فيما ملك بالشراء وحده، وذلك لضعف علة المنع فيما ملك بأسباب التملك الأخرى.

وننتقل بعد هذا إلى بيان ما قاله الفقهاء في هذا الموضوع:

(1) انظر الكلام عن علة منع بيع الشيء المملوك قبل قبضه: ص 18

ص: 336

المبحث الثاني

آراء الفقهاء في حكم بيع الإنسان ما اشتراه قبل قبضه

يستحسن أن نبين أولًا المراد بالقبض عند الفقهاء ثم نذكر الحكم بعده:

المراد بالقبض:

في العقار: إذا كان محل العقد عقارًا فإن قبضه يكون بالتخلية بينه وبين من انتقل إليه الملك، بحيث يتمكن من الانتفاع به الانتفاع المطلوب عرفًاً، وهذا لا خلاف فيه لأنه هو الممكن (1)

في المنقول: أما إذا كان محل العقد مما يمكن نقله وتحويله من مكان إلى آخر، فقد اختلف الفقهاء في تحديد القبض بالنسبة له. فقال الحنفية: القبض في المنقول كالقبض في العقار يكون بالتخلية إلَاّ في المكيل والموزون ونحوهما، فإن قبضه يكون باستيفاء قدره (2) ، والمشهور عن المالكية أن المنقول إن كان جزافًا فقبضه بالتخلية (3) ، وإن كان مقدرًا فباستيفاء قدره، وإن كان حيونًا أو ثيابًا أو دراهم ونحوها فالمرجع فيه إلى العرف (4) .

وقال الشافعية: القبض في المنقول يرجع فيه إلى العرف، فما جرت العادة بنقله وتحويله من مكانه، كالأخشاب والحبوب فقبضه بالنقل إلى مكان لا اختصاص للبائع به، وما جرت العادة بتناوله باليد كالدراهم والثوب والكتاب ونحوها فقبضه بالتناول (5) .

(1) ابن عادين: 4/226، والدسوقي على الشرح الكبير: 3/126، والبحر الزخار: 3/37، والمجموع شرح المهذب 9/283، والمغني: 4/111، والمحلى: 8/518.

(2)

ابن عابدين: 4/226

(3)

الرواية الأخرى أن الجزاف قبضه بنقله من مكانه

(4)

الدسوقي على الشرح الكبير: 3/126، والمنتقى: 4/279-283.

(5)

المجموع شر المهذب: 9/275، 276 و 283.

ص: 337

وعند الحنابلة: قبض كل شيء بحسبه، فما ينقل ويحول إن كان جزافًا فقبضه بنقله، وإن كان مكيلًا فقبضه بكيله، وإن كان دراهم ونحوها فقبضه بتناوله باليد، وذلك لأن القبض ورد مطلقًا في الشرع، فيجب الرجوع فيه إلى العرف، والعرف جرى بقبض هذه الأشياء بهذه الصفة، وقد جاء في الحديث ما يدل على أن قبض الجزاف بنقله وتحويله من مكانه.

وروى أبو الخطاب عن أحمد: أن القبض في كل شيء بالتخلية مع التمييز، لأنه ما دام البائع قد خلى بين المشتري والمبيع من غير حائل، فإن المشتري يعتبر قابضًا للبيع كما في العقار (1) .

والقبض عند الشيعة الزيدية، والإمامية يكون بالتخلية فلا فرق عندهم بين العقار والمنقول، لأن الاستيلاء يحصل بالتخلية وفي مذهب الإمامية قول بأن القبض في القماش هو الإمساك باليد، وفي الحيوان هو نقله (2) .

ويفرق الظاهرية بين الطعام وغيره، والطعام عندهم هو القمح خاصة، فالقبض في غير الطعام يكون بأن يطلق البائع يد المبتاع عليه بألَاّ يحول بينه وبين ما اشتراه، أي بالتخلية. أما الطعام فلا يتم قبضه إلَاّ إذا نقل من مكانه الذي هو فيه إلى مكان آخر إن يبع جزافًا، وإلَاّ إذا كاله المبتاع إن بيع على الكيل (3)

والذي أرجحه من هذه الآراء أن المنقول إذا كان مقدرًا فقبضه يكون باستيفاء قدره، وهو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة، وإذا كان جزافًا فقبضه بنقله من مكانه، وهو مذهب الحنابلة ورواية عند المالكية، وفيما عدا الجزاف والمقدر يكون القبض ما يعتبره العرف قبضًا، وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة وذلك عملًا بالأحاديث الصحيحة المصرحة بالأمر بالكيل فيما بيع بالكيل، والأحاديث المصرحة بالنهي عن بيع الجزاف حتى ينقل، وعملًا بالعرف فيما لم يرد فيه نص.

(1) المحرر: 323، والمغنى: 4/111، 112، و 124

(2)

البحر الزخار: 3/369، والمختصر النافع: 148

(3)

المحلى: 8/518 و 521 و 523

ص: 338

حكم بيع ما لم يقبض:

المجوزون:

ذهب بعض الفقهاء إلى أن القبض ليس شرطًا في صحة البيع فيجوز عندهم بيع كل شيء قبل قبضه، نقل هذا الرأي عن عطاء (1) ، وعثمان البتي (2) ، من غير استدلال عليه وللشيعة الإمامية قولان في بيع ما لم يقبض قول بالكراهة وحجته أن النهي الوارد في الأحاديث الصحيحة محمول على الكراهية، جمعًا بينها وبين ما دلّ على الجواز، وقول بالحرمة، وقد رجح الشيخ الحلي القول بالكراهة، وهذا نص عبارته:(ولا بأس ببيع ما لم يقبض، ويكره فيما يكال أو يوزن، وتتأكد الكراهية في الطعام، وقيل: يحرم)(3) . ورجح الشهيد الثاني القول بالحرمة وها هي عبارته: (والأقوى التحريم وفاقًا للشيخ رحمه الله في المبسوط مدعيًا الإجماع، والعلامة رحمه الله في التذكرة والإرشاد، لضعف روايات الجواز المقتضية لحمل النهي في الأخبار الصحيحة على غير ظاهره)(4) .

المانعون:

اتفق جمهور الفقهاء على أن هناك أشياء لا يجوز يبعها قبل قبضها، عملًا بالأحاديث الصحيحة المصرحة بالنهي عن بيع بعض الأشياء قبل قبضها، بل إن ابن المنذر قد حكى الإجماع على هذا، ولكن جمهور الفقهاء اختلفوا بعد ذلك في تحديد هذه الأشياء التي لا يجوز بيعها قبل قبضها، كما اختلفوا في هل هذا الحكم عام في كل أسباب التملك أم خاص ببعضها دون بعض؟ (5) .

وسنذكر فيما يلي آراءهم مفصلة في هذين الموضوعين:

(1) المحلى: 8/520

(2)

النووي على مسلم: 10/170، قال النووي: وهو قول شاذ، وقال ابن عبد البر: وهذا قول مردود بالسنة، والحجة المجمعة على الطعام، وأظنه لم يبلغه الحديث، ومثل هذا لا يلتفت إليه.

(3)

المختصر النافع: 148

(4)

الروضة البهية: 293، ولم اطلع على دليل الجواز الذي يشيرون إليه

(5)

بداية المجتهد: 2/644، والمغني: 4/109

ص: 339

ما يجوز بيع قبل قبضه وما لا يجوز:

لا يجوز عند الحنفية أن يبيع المشتري المنقول قبل القبض، لأن في هذا البيع غررًا، لأنه لا يدرى هل يبقى المبيع أم يهلك قبل القبض، فيبطل البيع الأول، فينفسخ الثاني، لأنه مبني على الأول، ولا فرق بين أن يبيعه من بائعه أو من غيره، لأن علة المنع تصدق على الحالين.

أما العقار (1) فيجوز بيعه قبل قبضه عند الشيخين استحسانًا؛ لأن تلف العقار غير محتمل فانتفى الغرر. وقال محمد، وزفر: لا يجوز بيعه قبل قبضه كالمنقول، لأن الحديث الوارد فيه النهي عن بيع ما لم يقبض لم يفرق بين العقار والمنقول، أما الشيخان فيريان أن النهي معلل بخشية هلاك المبيع قبل تسليمه، وهذا محتمل في المنقول دون العقار، لذا لو كان العقار يخشى هلاكه قبل القبض، بأن كان على شط النهر أو في موضع لا يؤمن أن تغلب عليه الرمال، فهو كالمنقول لا يجوز بيعه قبل قبضه عند الجميع (2) .

ويفرق المالكية بين الطعام وغيره، فغير الطعام يجوز بيعه قبل قبضه عقارًا كان أو منقولًا، مكيلًا أو غير مكيل، مستدلين بحديث:(من ابتاع طعامًا فلا يبيعه حتى يستوفيه) ووجه الاستدلال أن النبي صلى الله عليه وسلم خص هذا الحكم بالطعام فدل ذلك على أن غير الطعام مخالف له، غير أنه إذا بيع على الكيل أو الوزن فلا يجوز للمشتري أن يبيعه قبل قبضه بثمن مؤجل، وذلك لأن ضمان المكيل والموزون من البائع حتى يستوفى، فإذا باعه للمشتري بثمن مؤجل قبل أن يستوفى كان ذلك من بيع الكالئ بالكالئ (3) .

أما الطعام (4) ، فإن بيع جزافًا يجوز للمشتري أن يبيعه قبل قبضه، أي قبل أن ينقله من مكانه، وذلك لأن الجزاف عندهم يدخل في ضمان المشتري بنفس العقد، لأن استفياءه يكون بتمام العقد، وقد روى الوقار، عن مالك: أنه لا يجوز بيع شيء من المطعومات، بيع على الكيل أو الوزن أو العدد أو على الجزاف، قبل قبضه، وحكى القاضي أبو محمد: أن مالكًا استحب أن يباع بعد نقله، ليخرج من الخلاف (5) . وإن لم يبع الطعام جزافًا بأن بيع مكايلة أو موازنة أو عدًّا فلا يجوز بيعه قبل قبضه، سواء أكان الطعام ربويًّا أم غير ربويّ على الأشهر، وروى ابن وهب عن مالك جواز بيع غير الربوي قبل قبضه (6) .

(1) العقار عند الحنفية هو ما لا يمكن نقله من مكان لآخر، والمنقول ما يمكن نقله من مكان لآخر سواء بقي على حالته أو تغير فهو يشمل كل شيء غير الأرض. انظر: المدخل للفقه الإسلامي للأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور: 473، ط الأولى.

(2)

الأصل لمحمد: 91، والبدائع: 5/180، وابن عابدين: 4/224

(3)

القوانين الفقهية: 341، والمنتقى شرح الموطأ: 4/158 و 162 و 380، و 5/35

(4)

والطعام عندهم يشمل كل ما تجب فيه الزكاة من الحبوب والأدم بجميع أنواعها. الموطأ: 4/289

(5)

القوانين الفقهية: 249، وبداية المجتهد: 2/146، 147، والمنتقى: 4/283، 284

(6)

القوانين الفقهية: 249، وبداية المجتهد: 2/144،145، والمنتقى: 4/279، 280، 289، وانظر فيه دليل كل من الروايتين.

ص: 340

أما الشافعية فلا يجوز عندهم بيع أي مبيع قبل قبضه طعامًا أو غيره، منقولًا أو عقارًا، إلا بإذن البائع ولا بغير إذنه، لا بعد أداء الثمن ولا قبله، وذلك لحديث حكيم بن حزام، وحديث زيد بن ثابت (1) .

وأما الحنابلة فقد اختلفت الروايات في مذهبهم، فروي عنهم أن القبض شرط في المقدرات، فمن اشترى مكيلًا أو موزونًا، أو مزروعًا لم يجز تصرفه فيه قبل قبضه، سواء كان متعينًا كالصبرة أو غير متعين كقفيز منها.

أما غير المقدرات فيجوز تصرف المشتري فيها قبل قبضها على المشهور، وقال القاضي وأصحابه، إذا كان المقدر معينًا كالصبرة يبيعها من غير تسمية كيل، فإنه يجوز للمشتري التصرف فيها قبل قبضها، وقال ابن عبد البر: الأصح عن أحمد أن الذي يمنع من بيعه قبل قبضه هو الطعام وحده، معينًا أو غير معين، للأحاديث الدالة على ذلك وحكى أبو الخطاب عن أحمد: أن القبض شرط في كل مبيع، فلا يجوز بيع شيء قبل قبضه، واختار هذه الرواية ابن عقيل، لقول ابن عباس:"أرى كل شئ بمنزلة الطعام"(2)

والشيعة الزيدية كالشافعية لا يجوز عندهم بيع شيء قبل قبضه لحديث حكيم: "إذا ابتعت مبيعًا فلا تبعه حتى تستوفيه" وهو عام في جميع المبيعات (3) ، ومثلهم الظاهرية (4) .

وروي عن عثمان بن عفان، وسعيد بن المسيب، وابن سيرين، والحسن، والحكم، وحماد بن أبي سليمان، والأوزاعي، وإسحاق، وأبي ثور أن كل ما بيع على الكيل والوزن لا يجوز يبعه قبل قبضه (5) ، وروي عن عبد العزيز بن أبي سلمة، وابن حبيب، وربيعة، ويحيى بن سعيد: أن القبض شرط لصحة البيع في كل مكيل أو موزون أو معدود (6)، وعن الثوري روايتان: رواية بأن القبض شرط في كل مبيع (7) ، وأخرى بأنه شرط في المطعومات خاصة سواء بيعت جزافًا أو بيعت على الكيل أو الوزن، أو العدد (8) .

وقد أيد ابن القيم رأي من يمنع بيع كل شيء قبل قبضه (9) .

وأنا أؤيده أيضًا، لأنه اقرب الآراء إلى ما يفهم من الأحاديث (10)

(1) المجموع شرح المهذب: 9/264 و 271

(2)

المغني: 4/107 – 111 و 113 و 124، والمحرر: 322

(3)

البحر الزخار: 3/311

(4)

المحلى: 8/518 – 519

(5)

المغني: 4/107، وفيه أن إسحاق يمنع أيضًا بيع المعدود. والبحر الزخار: 3/211، وفيه أن سعيد بن المسيب يمنع أيضًا بيع المعدود والمزروع قبل قبضه، والمجموع شرح المهذب: 9/270، وفيه أن أبا ثور يمنعه في المأكول والمشروب، بداية المجتهد: 2/144، والمحلى: 8/520

(6)

بداية المجتهد: 2/145، والمنتقى: 4/280.

(7)

بداية المجتهد 2/144، والمنتقى 4/80

(8)

المنتقى: 4/283

(9)

بدائع الفوائد: 250، 251

(10)

انظر: ص 9 و 10

ص: 341

العقود التي يشترط قبض المحل فيها قبل بيعه

والعقود التي لا يشترط فيها ذلك:

القاعدة العامة في هذا عند الحنفية أن كل عوض ملك بعقد ينفسخ فيه العقد بهلاكه قبل القبض لا يجوز التصرف فيه قبل قبضه كالمهر وبدل العتق، وبدل الصلح عن دم العمد، وفقه هذه القاعدة، أن الصحة هي الأصل في التصرفات الصادرة من الأهل في المحل، وإن الفساد هنا جاء من عارض غرر الانفساخ، وهو غير متوهم في التصرفات التي لا تحتمل الفسخ فبقيت على الأصل، ولهذا جاز بيع الميراث، والموصى به قبل القبض، أما الميراث فلأن معنى الغرر لا يتقرر فيه، ولأن الوارث خلف المورث، ولو كان المورث موجودًا لجاز تصرفه فيه، فكذلك خلفه، وأما الوصية فلأنها أخت الميراث (1)

والحنابلة يوافقون الحنفية في هذه القاعدة، قال ابن قدامة: وكل عوض ملك بعقد ينفسخ بهلاكه قبل القبض لم يجز التصرف فيه قبل قبضه، كالأجرة وبدل الصلح إذا كانا من المكيل أو الموزون أو المعدود، وما لا ينفسخ العقد بهلاكه جاز التصرف فيه قبل قبضه، كعوض الخلع والعتق على مال وبدل الصلح عن دم العمد وأرش الجناية وقيمة المتلف (2) .

والشيعة الزيدية يتفقون مع الحنفية والحنابلة، فقد جاء في البحر الزخار:"كل ما يبطل العقد بتلفه حرم بيعه قبل قبضه، فخرج المهر وجعل الخلع والصلح على دم العمد"(3) .

(1) البدائع: 5/181، وابن عابدين: 4/225

(2)

المغني: 4/114

(3)

البحر الزخار: 3/311 و 313، وفيه أن المؤيد لا يجوز يبع المهر وما بعده قبل قبضه وأنه لا فرق عنده بين ما ملك بعقد من هذه العقود، وما ملك بالبيع، فهو موافق لرأي المالكية

ص: 342

ومذهب المالكية أن عقود المعاوضات التي يقصد بها المكايسة والمغابنة لا يجوز بيع ما ملكت به قبل قبضه. وتلك العقود هي البيع، والإجارة، والزواج بالنسبة للمهر، والصلح ونحو ذلك. . . وأن عقود المعاوضات التي لا يقصد منها المغابنة، وإنما تكون على جهة الرفق يجوز بيع ما ملكت به قبل قبضه، ويشمل هذا القسم القرض فقط، وأن عقود المعاوضات التي تتردد بين قصد المغابنة والرفق، وهي الشركة والتولية والإقالة، يجوز بيع ما ملكن به قبل قبضه إذا لم تدخل هذه العقود زيادة أو نقصان، وذلك للأثر الذي رواه مالك من مرسل سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((من اشترى طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه)) إلَاّ ما كان من شركة، أو تولية، أو إقالة ولأن هذه العقود إذا لم تدخلها زيادة أو نقصان، فإنما يراد منها الرفق لا المغابنة، فانتفت العلة التي من أجلها منع بيع الطعام قبل استيفائه، وهي مشابهته للعينة (1)

وعند الشافعية لا يجوز بيع ما ملك بعقد من عقود المعاوضات قبل قبضه، وذلك كالمبيع، والأجرة، والعوض المصالح عليه عن المال، والصداق على الأصح، ومثله بدل الخلع، وبدل الصلح عن دم العمد (2) . فالشافعية يتفقون مع المالكية في منع بيع الصداق وما بعده، وإن كان تعليل الشيرازي للمنع يستلزم أن يكون رأيهم كرأي الحنفية، وذلك حيث يقول:"ولا يجوز بيع ما لم يستقر ملكه عليه كبيع الأعيان المملوكة بالبيع والإجارة والصداق وما أشبهها من المعاوضات قبل القبض. . . لأنه ربما هلك فانفسخ العقد"(3)

هذا بالنسبة لعقود المعاوضات، وأما ما ملك بعقد لا معاوضة فيه فيجوز عند جمهور الفقهاء بيعه قبل قبضه، وذلك كالوصية، وكذلك ما ملك بغير عقد كالإرث (4)

ويرى الظاهرية أن الطعام، والطعام عندهم هو القمح خاصة، لا يجوز بيعه قبل قبضه سواء أملك بعقد معاوضة كالشراء، أم بغير معاوضة كالهبة، أم بغير عقد كالميراث، وذلك لحديث ابن عباس: أما الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباع حتى يقبض فهو الطعام، فهذا يدل على أن الطعام: بأي وجه ملك لا يجوز بيعه قبل قبضه، أما غير الطعام فلا يجوز بيعه قبل قبضه إذا ملك بالشراء خاصة، وذلك لحديث حكيم بن حزام:"إذا ابتعت بيعًا فلا تبعه حتى تقبضه"، فإنه يدل على أن المنهي عنه هو البيع فقط قبل القبض فيما ملك بالشراء فقط (5) .

(1) بداية المجتهد: 2/146، والمنتقى: 4/280 – 282

(2)

المجموع شرح المهذب: 9/266 و 267

(3)

المهذب: 1/262

(4)

البدائع: 5/181، المنتقى: 4/182، والمهذب: 1/362، والمغني: 4/115، قال ابن قدامة:"ولا اعلم فيه مخالفًا"، وسنرى خلاف الظاهرية فيه بعد هذا مباشرة

(5)

المحلى لابن حزم: 8/518 و 519 و 521

ص: 343

علة منع بيع الإنسان ما اشتراه قبل قبضه:

يعلل الحنفية منع بيع الإنسان ما اشتراه قبل قبضه بالغرر، جاء في تنوير الأبصار وشرحه: صح بيع عقار لا يخشى هلاكه قبل قبضه من بائعه لعدم الغرر لا بيع منقول، قال في الحاشية: أي غرر انفساخ العقد على تقدير الهلاك (1)، ويقول الكاساني: "ومنها، أي من شروط الصحة، القبض في بيع المشترى المنقول فلا يصح بيعه قبل قبضه، ولأنه بيع فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود عليه، لأنه إذا هلك المعقود عليه قبل القبض يبطل البيع الأول، فينفسخ الثاني، لأنه بناه على الأول، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع فيه غرر (2)

ويعلل المالكية منع بيع الطعام قبل قبضه بأنه قد يتخذ ذريعة للتوصل إلى الربا، فهو عندهم من باب سد الذرائع، وذلك كما يقول الباجي: إن صاحب العينة يريد أن يدفع دنانير في أكثر منها، فإذا علم بالمنع في ذلك توصل إليه بأن يذكر حنطة بدينار، ثم يبتاعه بنصف دينار دون استيفاء، ولا قصد لبيعه ولا لابتياعه، فلما كثر هذا وكانت الأقوات مما يتعامل بها في كثير من البلاد، ولاسيما في بلاد العرب، وكان ذلك مما يقصد لهذا المعنى كثيرًا، لمعرفة جميع الناس لثمنه وقيمته، منع ذلك فيها وشرط في صحة توالي البيع فيها القبض، لأن ذلك نهاية التبايع فيها وإتمام العقد ولزومه، ولم يشترط ذلك في سائر المبيعات، لأنه لم يتكرر تعامل أهل العينة بها، لأن ثمنها يخفى في الأغلب ويقل مشتريها (3) .

والشافعية يعللون المنع بالغرر كالحنفية، يقول الشيرازي:(ولا يجوز بيع ما لم يستقر ملكه عليه. . . لأنه ربما هلك فانفسخ العقد، وذلك غرر من غير حاجة)(4) .

(1) ابن عابدين: 4/224

(2)

البدائع: 5/180

(3)

بداية المجتهد: 2/144، والمنتقى: 4/280

(4)

المهذب: 1/262

ص: 344

والحنابلة يتفقون مع الحنفية في أن علة منع بيع الشيء قبل قبضه هي غرر الانفساخ بهلاك المعقود عليه فيقول ابن قدامة: لكن ما يتوهم فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود عليه لم يجز بناء عقد آخر عليه، تحرزًا من الغرر، وما لا يتوهم فيه ذلك الغرر انتفى المانع فجاز العقد عليه (1) .

والعلة عند الشيعة الزيدية هي ضعف الملك قبل القبض (2) .

ويعلل ابن تيمية المنع: بعدم القدرة على التسليم، لأن البائع الأول قد يسلم البائع الثاني المبيع، وقد لا يسلمه، لاسيما إذا رآه قد ربح، فيسعى في رد البيع إما بجحد، أو باحتيال في الفسخ.

وكل هذه العلل ترجع إلى علتين في الواقع:

إحداهما: الربا، وهو ما يراه المالكية، وقد ذهب إلى هذا من قبلهم ابن عباس حين قال:"ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجأ"(3)

كما ذهب إليه أبو هريرة، وزيد بن ثابت حين قالا لمروان:"أحللت بيع الربا"(4) .

وثانيهما: الغرر الناشئ عن عدم القدرة على التسليم، وهو رأي سائر الأئمة، غير أن عدم القدرة على التسليم، وهو رأي سائر الأئمة، غير أن عدم القدرة على التسليم سببها احتمال هلاك المحل عند الحنفية، والشافعية، والحنابلة، وضعف الملك عند الزيدية، واحتمال عدم تسليم البائع الأول عند ابن تيمية، وكلتا العلتين متحققتان في عقد البيع.

ونضيف إلى هذا: أن في النهي عن بيع السلع قبل قبضها إيجاد فرص للعمل، وذلك لأن في بيع السلع قبل قبضها حرمانًا لعدد كبير من العمال الذين يقومون بالكيل والحمل، فإن التاجر يفضل أن يبيع السلعة وهي في مكانها ما دام يجد ربحا، ثم إنا لو أبحنا للتجار بيع السلع قبل قبضها، فإن أسعارها ترتفع وهي في مكانها فتعود الفائدة كلها إلى طبقة التجارة، ولا ينال العامل فائدة من هذه العمليات، في حين أنه يناله ضرر ارتفاع السعر، وفي هذا مصلحة للتاجر، وضرر للعامل، أما منع بيع السلع قبل قبضها فإن فيه مصلحة للعمال ولا ضرر فيه على التجار.

(1) المغني: 4/114

(2)

البحر الزخار: 3/312

(3)

الاختبارات العلمية لابن تيمية مع الفتاوى

(4)

انظر صفحة 6

ص: 345

المبحث الثالث

بعض الصور المستحدثة وحكمها

أذكر في هذا المبحث بعض الصور الممارسة في بيع المرابحة للآمر بالشراء بالنسبة للقبض في بيع المطلوب منه السلعة لطالبها، لأن هذا البيع كثر استعماله في البنوك الإسلامية، وكثيرًا ما يدخله الفساد بسبب التساهل في قبض المطلوب منه السلعة من بائعها قبل أن يبيعها لطالبها.

السلعة المطلوبة في بيع المرابحة للآمر بالشراء قد تكون موجودة في السوق المحلي، فيأتي شخص ويطلب من البنك شراءها وبيعها له مرابحة، وقد يقدم طالب السلعة للبنك فاتورة مبدئية من مالك السلعة تعين فيها السلعة وثمنها، وقد ظهر لي من مراقبتي لأعمال البنوك في هذا البيع أن تطبيقه يتم في أربع صور، اثنتان منهما صحيحتان، واثنتان غير صحيحتين:

فالاثنتان الصحيحتان إحداهما أن يتسلم الموظف المسئول في البنك الفاتورة المبدئية ويذهب إلى مالك السلعة ويشتريها منه للبنك، وينقلها إلى مخازن البنك ثم يعرضها على طالبها، فإذا رغب في شرائها وقَّع معه عقد البيع.

فهذه الصورة لا شبهة في صحتها. والصورة الأخرى أن يتسلم الموظف الفاتورة ويذهب إلى مالكها ويشتريها منه للبنك، ولكنه بدلًا من أن ينقلها إلى مخازن البنك يطلب من البائع أن يتركها عنده إلى أن يرسل له من يتسلمها، فتكون السلعة بعد هذا أمانة عند البائع وتنقلب يده عليها من يد ضمان، بعد البيع وقبل التسليم، إلى يد أمانة، لأنه خلى بين المشتري والسلعة، فإن شاء تسلمها، ولكنه لم يشأ وتركها عند بائعها.

ثم يتصل الموظف بطالب السلعة، ويخبره بأنه اشترى السلعة وهي بمكان كذا، وقد يكون طالب السلعة مع الموظف، فيعرض عليه السلعة، فإذا رغب في شرائها وقع معه عقد البيع، وسلمه السلعة، أو أعطاه إذنًا بتسلمها.

فهذه الصورة شبيهة بالأولى، لأن بيع البنك السلعة لطالبها وقع بعدما تسلَّم موظف البنك السلعة من بائعها بالتخلية بين الموظف والسلعة بعد شرائها منه.

ص: 346

والصورتان غير الصحيحتين، إحداهما أن يتسلم الموظف الفاتورة المبدئية من طالب الشراء، ويشتري السلعة للبنك حسب الفاتورة، وقد يكون هذا الشراء بالتلفون، ثم يبرم عقد البيع مع طالب السلعة، ويعطيه شيكًا بالمبلغ المبين في الفاتورة ليسلمه للبائع، ويتسلم منه السلعة.

هذه الصورة غير صحيحة لأن البنك، وإن كان قد تملك السلعة قبل أن يبيعها لطالبها، إلَاّ أنه لم يتسلمها، لا حقيقة ولا حكما، ولم تدخل في ضمانه.

والصورة الأخرى أن يتسلم الموظف الفاتورة المبدئية من طالب الشراء، ثم يبرم معه عقد البيع للسلعة المبينة في الفاتورة بربح 10 % مثلا، ويعطيه شيكًا بالثمن المبين في الفاتورة ليسلمه للبائع، ويتسلم منه السلعة.

هذه الصورة غير صحيحة قطعًا؛ لأن البنك باع السلعة قبل أن يتسلمها، بل قبل أن يتملكها، فهي عقد قرض بفائدة في صورة بيع.

ويجب على المسئولين في البنوك الإسلامية تحذير الموظفين من ممارسة هاتين الصورتين في بيع المرابحة للآمر بالشراء.

هذا ما يتعلق بالسلعة الموجودة في السوق المحلي، أما السلعة المطلوب استيرادها من بلد آخر فلها حكم مختلف، وسأذكر فيما يلي بالنسبة للسلع المستوردة عن طريق البيع البحري في صوره المعترف بها دوليًّا، والمقصود بالبيع البحري الذي يستلزم نقل البضاعة المبيعة عن طريق البحر، واهم صوره هي:

1-

البيع مع شرط التسليم في ميناء الوصول:

وهذا الشرط يعني أن البائع ملزم بشحن البضاعة على السفينة التي يتفق عليها الطرفان، أو في الموعد الذي يتفقان عليه على أي سفينة يختارها البائع، ولا يتم تسليم البضاعة إلَاّ بعد وصول السفينة إلى الميناء المعنية، ويترتب على هذا الشرط أن البضاعة تكون في ضمان البائع إلى أن يتسلمها المشتري، فإذا هلكت في الطريق هلكت على البائع، ولا تدخل في ضمان المشتري إلَاّ بعد وصول السفينة إلى الميناء، وتسلمه البضاعة تسلمًا حقيقيًّا أو حكميًّا بأن يكون متمكنًا من التسلم، ولو لم يتسلم بالفعل.

في هذه الصورة من البيع لا يجوز لمشتري البضاعة أن يبيعها قبل أن تصل السفينة إلى الميناء، ويتم تسلمه البضاعة على النحو الذي ذكرته.

ص: 347

2-

البيع مع شرط التسليم في ميناء القيام:

في هذه الصورة من البيع يتم تسليم البضاعة للمشتري أو وكيله بعد أن ينقلها البائع إلى الميناء ويشحنها على السفينة التي يعنيها المشتري، وعلى المشتري أو وكيله إبرام عقد النقل مع السفينة ودفع المصاريف، وقد يتولى البائع إبرام عقد النقل بتوكيل من المشتري لحسابه أو بإتفاق في عقد البيع على أن يبرم البائع عقد النقل على السفينة التي يعنيها المشترى، ويدفع جميع المصاريف التي تكون جزءًا من ثمن الشراء.

وفي جميع هذه الحالات يكون المشتري متسلمًا للبضاعة في ميناء القيام، وتدخل في ضمانه، ويتحمل تبعة هلاكها في الطريق فيجوز له على هذا أن يبيعها وهي في الطريق على ظهر السفينة، ويكون البيع بعد تسلم المشتري سند الشحن من البائع الذي يصله عادة قبل وصول البضاعة ويتم البيع بينه وبين المشتري الجديد بتسلمه سند الشحن، لأن هذا السند يمثل البضاعة في العرف التجاري.

وينبغي أن يطبق على هذا النوع من البيع حكم بيع العين الغائبة؛ لأن البائع، وإن كان مالكًا للبضاعة وقابضًا لها، إلَاّ أن البضاعة ليست حاضرة، وسند الشحن فيه وصف للبضاعة المبيعة فيكون هذا البيع من قبيل بيع العين الغائبة على الصفة، وهو جائز عند جمهور الفقهاء، مع اختلافهم في لزومه وعدمه، والرأي المقبول عندي هو أن مشتري العين الغائبة على الصفة إذا وجدها متفقة مع الصفة لزمته، وإذا كانت مختلفة فله الخيار في إمضاء البيع وفسخه، وهذا هو رأي أكثر القائلين بجوز بيع العين الغائبة على الصفة (1)

وينبغي التنبيه أيضًا إلى أن جواز بيع البضاعة في الطريق بعد تسلم سند الشحن خاص بالمشتري الأول، أما المشتري الثاني فلا يجوز له بيع البضاعة التي اشتراها بناء على سند الشحن إلَاّ بعد وصول السفينة، وتسلم البضاعة؛ لأنه لو باعها في السفينة في الطريق يكون قد باع ما اشتراه قبل قبضه.

والله الموفق والهادي إلى الصواب.

(1) انظر تفصيل هذا الموضوع في كتابي الغرر وأثره في العقود: ص 404 - 413

ص: 348

ملخص البحث

وردت أحاديث صحيحة في هذا الموضوع تدل على نهي من اشترى طعامًا أن يبيعه قبل قبضه سواء أكان الطعام معينًا، بأن اشتراه جزافًا، أم غير معين بأن اشتراه على الكيل أو الوزن، والنهي الوارد في الحديث للتحريم فيكون بيع الطعام قبل قبضه غير صحيح، وهو ما جرى عليه العمل في عهد الصحابة.

والمراد بالطعام كل ما يطعم من قمح وشعير وسائر أنواع المطعومات سواء أكانت مأكولات أو كانت من الأدم.

والقبض يكون في المكيل والموزون ونحوهما باستيفاء قدره وفي الجزاف بتحويله إلى مكان آخر غير المكان الذي بيع فيه، وفي غيرها بحسب العرف.

والنهي ليس خاصًا بالطعام، وإنما يتناول الطعام وغيره، منقولا كان أو عقارا لحديث حكيم بن حزام:"إذا اشتريت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه". وحديث زيد بن ثابت الذي ورد فيه النهي عن بيع السلع، حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم، ويقول ابن عباس: ولا احسب كل شيء إلَاّ مثله، ولأن علة النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، وهي الربا والغرر، متحققة في بيع غير الطعام قبل قبضه.

وكل الأحاديث تدل على أن النهي عن البيع قبل القبض هو فيما ملك بالشراء خاصة، ولهذا فإني أرى الوقوف عند نص هذه الأحاديث.

هذا ما فهمته من الأحاديث، أما آراء الفقهاء فتتلخص في الآتي:

اتفق جمهور الفقهاء على أن هناك أشياء لا يجوز بيعها قبل قبضها بل إن ابن المنذر حكى الإجماع على هذا، واختلف الجمهور بعد ذلك في تحديد هذه الأشياء.

كما اختلفوا في هل المنع عام في كل أسباب المتملك أم خاص ببعضها دون بعض؟

ص: 349

فالحنفية لا يجوز عندهم أن يبيع المشتري المنقول قبل قبضه، أما العقار فيجوز بيعه قبل قبضه عند الشيخين استحسانًا، ولا يجوز عند محمد وزفر.

والمالكية يفرقون بين الطعام وغيره، فغير الطعام يجوز بيعه قبل قبضه عقارا كان أو منقولا، مكيلا أو غير مكيل، أما الطعام فإن بيع جزافًا يجوز للمشتري أن يبيعه قبل قبضه، وإن بيع مكايلة أو موازنة أو عدًا فلا يجوز بيعه قبل قبضه.

والشافعية لا يجوز عندهم بيع أي مبيع قبل قبضه، طعامًا أو غيره، منقولا أو عقارا

واختلفت الروايات في مذهب الحنابلة فروي عنهم أن القبض شرط في المقدرات، أما غير المقدرات فيجوز تصرف المشتري فيها قبل قبضها على المشهور، وقال ابن عبد البر: الأصح عن أحمد أن الذي يمنع من بيعه قبل قبضه هو الطعام وحده، وحكى أبو الخطاب عن أحمد: أن القبض شرط في مكان كل مبيع، واختار هذه الرواية ابن عقيل.

وأيد ابن القيم رأي من يمنع بيع كل شيء قبل قبضه.

واتفق الفقهاء على أن القبض في العقار يكون بالتخلية بينه وبين المشتري، واختلفوا في قبض المنقول، فقال الحنفية: القبض في المنقول كالقبض في العقار، يكون بالتخلية إلَاّ في المكيل والموزون ونحوهما، فإن قبضه يكون باستيفاء قدره، والمشهور عن المالكية أن المنقول إن كان جزافا فقبضه بالتخلية، وإن كان مقدرا فباستيفاء قدره، وإن كان حيوانا أو ثيابا أو دراهم ونحوها فالمرجع فيه إلى العرف.

وقال الشافعية القبض في المنقول يرجع فيه إلى العرف.

وعند الحنابلة قبض كل شيء بحسبه. . وروى أبو الخطاب عن أحمد أن القبض في كل شيء بالتخلية مع التمييز.

واتفق الأئمة الأربعة على أن كل ما ملك بعقد لا معاوضة فيه يجوز بيعه قبل قبضه، وذلك كالوصية، وكذلك ما ملك بغير عقد كالإرث.

أما ما ملك بعقد من عقود المعاوضات فالقاعدة العامة عند الحنفية والحنابلة "أن كل عوض ملك بعقد ينفسخ فيه العقد بهلاكه قبل القبض لا يجوز بيعه قبل قبضه" ومذهب الشافعية متفق مع هذه القاعدة.

ص: 350

ومذهب المالكية أن عقود المعاوضات التي يقصد بها المكايسة والمغابنة لا يجوز بيع ما ملكت به قبل قبضه، وأن عقود المعاوضات التي لا يقصد منها المغابنة، وإنما تكون على جهة الرفق يجوز بيع ما ملكت به قبل قبضه، وأن عقود المعاوضات التي تتردد بين قصد المغابنة والرفق، وهي الشركة والتولية والإقالة، يجوز بيع ما ملكت به قبل قبضه، إذا لم تدخلها زيادة أو نقصان.

وعلة منع بيع الإنسان ما اشتراه قبل قبضه هي الربا عند المالكية، والغرر الناشئ عند عدم القدرة على التسليم عند الأئمة الثلاثة، لاحتمال هلاك المحل.

والصور المستحدثة في هذا الموضوع التي رأيت التنبيه إليها في هذا البحث تتصل ببيع المرابحة للآمر بالشراء، الذي كثر العمل به في البنوك الإسلامية، وكثيرًا ما يدخله الفساد بسبب تساهل المطلوب منه السلعة في قبضها من البائع، قبل بيعها لطالبها.

فمن الصور الفاسدة في هذا البيع أن يقدم طالب السلعة للبنك فاتورة مبدئية بما يطلب شراءه، فيشتري الموظف السلعة للبنك حسب الفاتورة، وغالبًا ما يتم هذا الشراء بالتلفون، ثم يبرم عقد البيع مع طالب السلعة ويعطيه شيكًا بالمبلغ المبين في الفاتورة ليسلمه للبائع، ويتسلم منه السلعة، قبل أن يتسلم هو السلعة أو يراها.

وقد يتساهل بعض الموظفين بأكثر من هذا فيبرم عقد البيع مع طالب الشراء بمجرد تقديمه للفاتورة المبدئية بربح 10 % مثلا، ويسلمه شيكًا بالثمن المبين في الفاتورة. فهذا عقد قرض بفائدة، وليس بيعًا.

ومن صور البيع الفاسدة بيع السلعة وهي في الطريق على ظهر السفينة، بناء على تسلم مستند الشحن، إذا كان البيع الأول تم بشرط التسليم في ميناء الوصول، فإن المشتري لا يجوز له أن يبيع السلعة قبل وصولها الميناء وتسلمها، ولو تسلم سند الشحن.

الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

ص: 351