الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإسلام وإجراء العقود
بآلات الاتصال الحديثة
إعداد
فضيلة الشيخ محمد الحاج الناصر
الباحث الإسلامي (.. كل قول أو فعل يُعده الناس عقدًا فهو عَقد يجب أن يوفوا به كما أمر الله تعالى ما لم يتضمن تحريم حلال أو تحليل حرام مما ثبت في الشرع)
(تفسير المنار، محمد رشيد رضا)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، إياك نعبد وإياك نستعين، وبنورك نستهدي، وبألوهيتك نعتز، وبملكك نحتمي ونعتصم، لا إله إلا أنت، أنت الحق، وقولك الحق، وكتابك حق، ومحمد حق، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وصحابته والتابعين لهم بإحسان، والمقتفين لهديهم بصدق، الذين لا يحيدون عن سننهم ولا تلتبس عليهم سلبهم فتفرقهم شيعًا وتبددهم بين خطل الغلوّ وزلل التحريف ومهاوي الانحراف مع أباطيل الأهواء ومنازع الضلال.
وبعد، فهذه لمح ما يسرَّ الله لنا وأرشدنا إليه في ما عُني به مجمع الفقه الإسلامي من البحث في حكم الله في ما يتصل باستعمال وسائل الاتصال الحديثة، مما أحدثته أو قد تُحدثه ذات يوم اكتشافات العقل البشري لمظاهر الكون وظواهره، واهتداءاته إلى طرق الاستفادة منها فيما درج عليه الناس في معايشهم وخاصة ما يتصل منها بالتزامات بعضهم مع بعض في مجال المعاملات، أو في غيره من المجالات مثل ضبط العلاقات الأسرية والاجتماعية وما إليها.
وقد ارتأينا – استمرارًا في الالتزام بالمنهج الذي آثرناه لأبحاثنا على اختلافها من اعتبار الحقائق اللغوية والنصوص الشرعية القطعية والظنية، واختلاف الأعراف المؤثرة في الاجتهادات والاستنباطات والناتجة عن اختلاف البيئات وتباين أطوار الإنسان الحضرية – أن نمضي في هذا البحث على ذلك النسق، فنسوق ما تعارف عليه اللغويون من معاني كلمة (العقد) ، وهو العروة التي تضبط العلاقات بين الناس في مجال المعاملات أو الشئون الاجتماعية، ثم ما تبلور فيه من معنى هذه الكلمة عند أئمة التفسير وأئمة السنة. وأيمة الفقه، ثم أيمة القانون الوضعي لنصير من ذلك كله إلى اجتلاء وضبط القواعد التي ننطلق منها في تحرير وتقرير ما يترجح لدينا أنه مطابق لمناط التشريع من الرأي في التوفيق بين هذه المستحدثات وسائل للتواصل بين الناس وبين تلك الضوابط التي تواضعوا عليها منذ القديم قواعد وأحكامًا تضفي على التزاماتهم صبغة الشرعية الملزمة لمختلف الأطراف والفرقاء بينهم.
ولا نزعم –في ما نحرر ونقرر- أننا – أو أن أيًّا كان غيرنا- يمكن بأن نجزم بأن ما وصل إليه بحثنا أو بحثه هو حكم الله الحق قطعًا وجزمًا، إنما شأننا –كشأن غيرنا ممن استفرغ مثلنا وسعه وبذل غاية جهده- هو البحث الصادق المخلص عمَّا قد يكون هو الحق، فإن جاءك ما نرجوا فذلك فضل من الله وتوفيق نحمده عليه أصدق الحمد ونشكره أجزل الشكر، وإن أخطأ كان عذرنا وعذر غيرنا ممن بذل ما بذلناه أو أحسن مما بذلناه، أننا قصدنا إلى الحق ابتغاء وجه الله وإسهامًا في التمكين لشريعته، ولم نسأل في ذلك جهدًا و (إنما الأعمال بالنيات) وعلى الله قصد السبيل.
وفيه: ((أن رجلًا كان يبايع وفي عقدته ضعف)) ، أي في رأيه ونظره في مصالح نفسه.
وفي حديث عمر: ((هلك أهل العقد – وفي رواية: العُقَد بضم العين وفتح القاف- ورب الكعبة)) يعني أصحاب الولايات على الأمصار من عقد الألوية للأمراء. ومنه حديث أبي: مات أهل العقدة ورب الكعبة يريد البيعة المعقودة للولاة.
ثم قال: وفيه: فعدلت عن الطريق فإذا عقدة من شجر. العقدة من الأرض: البقعة الكثيرة الشجر.
وفيه ((الخيل معقود في نواصيها الخير)) ، أي ملازم كأنه معقود فيها. وفي حديث ابن عمرو: ألم اكن أعلم السباع هاهنا كثيرًا؟ قيل: نعم ولكنها عُقدت حتى تخالط البهائم ولا تهيجها أي عولجت بالأخذ والطلسمات كما تعالج الروم الهوام ذوات السموم يعني عُقدت ومنعت أن تضر البهائم.
وفي حديث أبي موسى أنه كسى في كفارة اليمين ثوبين ظهرانيًّا ومعقدًا، المعقد ضرب من برود هجر.
وقال النووي في [تهذيب الأسماء واللغات: 4/27]
قال صاحب المحكم: العقد نقيض الحل، عقده يعقده عقدًا وتعاقدًا وعقده واعتقده كعقده وقد انعقد وتعقد.
ثم قال: وعقد العقد واليمين: يعقدهما عقدًا، وعقدهما: أكد عقدهما. والعقد: العهد، والجمع عقود، وعاقده: عاهده، وتعاقدوا: تعاهدوا، والعقيد: الحليف.
وعقد العسل والرب ونحوهما يعقد ويعقد وأعقدته فهو معقد وعقيد، والعقيد: عسل يعقد حتى يخثر. وفي لسانه عقدة وعقد أي التواء. ورجل أعقد: في لسانه عقدة وعقد كلامه أعوصه وعماه. وعقد على الشيء لزمه، وعقد النكاح والبيع وجوبهما.
قال الفارسي: هو من الشد والربط، وعقد كل شيء إبرامه، واعتقد الشيء صلبه، وتعقد الإخاء: استحكم. وعقد الشحم يعقد: انبنى وظهر. والعقد المتراكم من الرمل واحدة: عقدة، والجمع أعقاد. والعقد –بالفتح- لغة في العقد. هذا آخر كلام المحكم.
وقال الأزهري: أعقدت العسل ونحوه ويروي بعضهم: عقدته، والكلام اعتقدت، موضع العقد من الحبل معقد، وجمعه: معاقد، هذا آخر كلام الأزهري.
وقال الليث في (العين) تعقد السحاب إذا صار كأنه عقد مضروب مبني. والعقد: الضيعة، والجمع: العقد، واعتقد الرجل مالًا وأخاه. وعقد الرجل والمرأة، فهو أعقد وهي عقداء إذا كان في لسانه عقدة وغلظ في وسطه. والفعل: عقد يعقد عقدًا.
***
الفصل الثاني
كلمة (عقد) ومشتقاتها في القرآن
وردت كلمة (عقد) ومشتقاتها في سبعة مواضع.
قال الله تعالى في [سورة البقرة: الآية 235] : {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} .
وقال [الأية 237] : {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} .
وقال في [سورة النساء: الآية 33]{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} .
وقال في [سورة المائدة: الآية1] : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} .
وقال [الآية 89] : {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} .
وقال في [سورة طه: الآية 27] : {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} .
وقال في [سورة الفلق: الآية4] : {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} .
وقال الراغب في [مفردات القرآن: ص510] :
العقد: الجمع بين أطراف الشيء. ويستعمل ذلك في الأجسام الصلبة كعقد الحبل وعقد البناء، ثم يستعار ذلك للمعاني نحو عقد البيع والعهد وغيرهما، ويقال: عاقدته وعقدته وتعاقدنا وعقدت. قال الله تعالى: {عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، وقُرئ:(عاقدت أيمانكم) . وقال تعالى: {بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} وقُرئ: (بم عقدتم الإيمان) . ومنه قيل: لفلان عقيدة، وقيل: للقلادة عقد. والعقد مصدر استعمل اسمًا فجمع نحو قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، والعقدة اسم لما يعقد من نكاح أو يمين أو غيرهما. قال تعالى:{وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} . وعقد لسانه: احتبس، وبلسانه عقدة: أي في كلامه حبسة. قال تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} . وقوله تعالى: {النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} جمع عقدة، وهي ما تعقده الساحرة، وأصله من العزيمة ولذلك يقال: لها عزيمة، كما يقال: لها عقدة. ومنه قيل للساحر: معقد وله عقدة ملك. وقيل: ناقة عاقد: عقدت بذنبها ساعة لقاحها. وتيس وكلب أعقد: ملتوي الذنب. وتعاقدت الكلاب: تعاظلت.
قال الرازي في [مفاتيح الغيب: المجلد 3، 6/144] :
فأما قوله تعالى: {عُقْدَةَ النِّكَاحِ} ، فأعلم أن أصل العقد الشد والعهود والأنكحة تسمى عقودًا لأنها تعقد كما يعقد الحبل.
وقال محمد الطاهر بن عاشور في [التحرير والتنوير: 2/ 454، 455] :
وقوله: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} ، والعزم هنا عقد النكاح لا التصميم على العقد، ولهذا فعقدة النكاح منصوب على المفعول به، والمعنى: لا تعقدوا عقدة النكاح، أخذ من العزم بمعنى القطع والبث، قاله النحاس وغيره: ولك أن تجعله بمعناه المشهور أي لا تصمموا على عقدة النكاح، ونهى عن التصميم لأنه إذا وقع، وقع ما صمم عليه.
ثم قال:
والآية صريحة في النهي عن النكاح في العدة وفي تحريم الخطبة في العدة وفي إباحة التعريض فأما النكاح أي عقده في العدة، فهو إذا وقع ولم يقع بناء بها في العدة، فالنكاح مفسوخ اتفاقًا، وإنما اختلفوا هل يتأبد به تحريم المرأة على العاقد أَوْ لا، فالجمهور على أنه لا يتأبد وهو قول عمر بن الخطاب ورواية ابن القاسم عن مالك في المدونة، وحكى ابن الجلاب عن مالك أنه يتأبد ولا يعرف مثله عن غير مالك.
***
الفصل الثالث
تأويلات وأحكام
قال الطبري في [جامع البيان: 2/335، 340] عند تفسير قوله سبحانه وتعالى {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} :
اختلف أهل التأويل في من عنى الله تعالى ذكره بقوله: (الذي بيده عقدة النكاح) ، فقال بعضهم/ هو ولي البكر، وقالوا: ومعنى الآية: أو يترك الذي يلي على المرأة عقدة نكاحها من أوليائها للزوج النصف الذي وجب للمطلقة عليه قبل مسيسه فيصفح له عنه إن كانت الجارية ممن لا يجوز لها أمر في حالها.
ثم ساق بأسانيده مقولات القائلين بهذا التأويل. وأفاض في ذلك على أنهم قلة، وسننقل أسماءهم عن الطبري والرازي إذ ساقاها بإيجاز.
ثم قال: وقال آخرون: بل (الذي بيده عقدة النكاح) الزوج، قالوا: ومعنى ذلك: أو يعفو الذي بيده نكاح المرأة فيعطيها الصداق كاملًا.
ثم ساق كلام هؤلاء وهم كثر مسندة كعادته، وننقل منها رواية واحدة لما فيه من دلالة خاصة.
قال: حدثني يعقوب قال: حدثنا هشيم قال: أخبرنا أبو بشر عن سعيد بن جبير قال: (الذي بيده عقدة النكاح) هو الزوج. قال: وقال مجاهد وطاووس: هو الوالي قال: قلت لسعيد: فإن مجاهدًا وطاووسًا يقولان: هو الولي. قال سعيد: فما تآمروني إذن؟
ثم قال: أرأيت لو أن الولي عفا وأبت المرأة أكان يجوز ذلك؟! ، فرجعت إليهما فحدثتهما فرجعا عن قولها وتابعا سعيدًا.
ثم قال ابن جرير –رحمه الله: أولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: المعنى بقوله (الذي بيده عقدة النكاح) : الزوج، وذلك لإجماع الجميع على أن ولي جارية بكر أو ثيب صبية، صغيرة كانت أو مدركة كبيرة، لو أبرأ زوجها من مهرها قبل طلاقه إياها أو وهبه له أو عفا له عنه، أن إبراءه ذلك وعفوه له عنه باطل، وان صداقها عليه ثابت ثبوته قبل إبرائه إياه منه، فكان سبيل ما أبرأ من ذلك بعد طلاقه إياها سبيل ما أبرأ منه قبل طلاقه إياها.
وأخرى أن الجميع مجمعون على أن ولي امرأة محجور عليها أو غير محجور عليها، لو وهب زوجها لمطلقها بعد بينونتها منه درهمًا من مالها على غير وجه العفو منه عمّا وجب لها من صداقها قبله، أنّ هبته ما وهب من ذلك مردودة باطلة، وهم مع ذلك مجمعون على أن صداقها من مالها فحكمه حكم سائل أموالها.
وأخرى أنّ الجميع مجمعون على أن بني أعمام المرأة البكر وبني إخوتها من أبيها وأمها من أوليائها، وأن بعضهم لو عفا عن مالها بعد دخوله بها أن عفوه ذلك مما عفا له عنه منه باطل، وأن حق المرأة ثابت عليه بحاله، فكذلك سبيل عفو كل ولي لها كائنًا من كان من الأولياء، والدًا كان أو جدًّا أو أخًا، لأن الله تعالى ذكره لم يخصص بعض الذين بأيديهم عقدة النكاح دون بعض في جواز عفوه إذا كانوا ممن يجوز حكمه في نفسه وماله.
ويقال لمن أبى: ما قلنا ممن زعم أن (الذي بيده عقدة النكاح) ولي المرأة، هل يخلو القول في ذلك من أحد أمرين إذا كان (الذي بيده عقدة النكاح) هو الوليّ عندك، إما أن يكون ذلك كل وليّ جاز له تزويج وليته، أو يكون ذلك بعضهم دون بعض فلن يجد إلى الخروج من أحد هذين القسمين سبيلًا فإن قال: إن ذلك كذلك قيل له: فأي ذلك عنا به؟ فإن قال لكل ولي جاز له تزويج وليته قيل له: أفجائز للمعتق أمة تزويج مولاته بإذنها بعد عتقه إياها؟! فإن قال: نعم ، قيل له: أفجائز عفوه إن عفا عن صداقها لزوجها بعد طلاقه إياها قبل المسّ؟! فإن قال: نعم، خرج من قول الجميع، وإن قال: لا، قيل له: ولم؟! وما الذي حظر ذلك عليه وهو وليها. الذي بيده عقدة نكاحها؟!
ثم يعكس القول عليه في ذلك ويسأل الفرق بينه وبين عفو سائر الأولياء غيره وإن قال لبعض دون بعض: سئل البرهان على خصوص ذلك، وقد عمّه الله تعالى ذكره ولم يخصص بعضًا دون بعض؟! ويقال له: من المعني به إن كان المراد بذلك بعض الأولياء دون بعض؟! فإن أومأ في ذلك إلى بعض منهم سئل البرهان عليه، وعكس القول فيه، وعورض في ذلك بخلاف دعواه ثم لن يقول في ذلك قولًا إلا ألزم الآخر مثله.
فإن ظن ظانَّ أن المرأة إذا فارقها زوجها فقد بطل أن يكون بيده عقدة نكاحها، والله تعالى ذكره إنما أجاز عفو الذي بيده عقد نكاح المطلقة فكان مع معلومًا بذلك أن الزوج غير معني به وأن المعني به هو الذي بيده عقدة نكاح المطلقة بعد بينونتها من زوجها وفي بطول ذلك، أن يكون حينئذ بيد الزوج صحة القول بيد الولي الذي بيده عقد النكاح إليها وإذا كان ذلك كذلك صح القول بأن الذي بيده عقدة النكاح) هو الولي فقد غفل وظن خطأ وذلك أن معنى ذلك أن يعفو الذي بيده عقدة نكاحه وإنما أدخلت الألف واللام في النكاح بدلًا من الإضافة إلى الهاء التي كان النكاح ولو لم تكن (أل) فيه مضافًا إليها كما قال الله تعالى ذكره:{فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [سورة النازعات: الآية 41] فإن الجنة مأواه كما قال نابغة بني ذبيان:
لهم حجة لم يعطها الله غيرهم
من الناس فالأحلام غير عوازب
بمعنى: فأحلامهم غير عوازب والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى، فتأويل الكلام {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وهو الزوج الذي بيده عقدة نكاح نفسه في كل حال قبل الطلاق وبعده لا إنّ معناه: أو يعفو الذي بيده عقدة نكاحهن، فيكون تأويل الكلام ما ظنه القائلون أنه ولي المرأة لأن ولي المرأة لا يملك عقد نكاح المرأة بغير إذنها إلا في حال طفولتها، وتلك حال لا يملك العقد عليها إلا بعض أوليائها في قول أكثر من رأي أن {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} الولي ولم يخصَّص الله تعالى ذكره بقوله:{أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} بعضًا منهم فيجوز توجيه التأويل إلى ما تأوَّلوه أو كان لما قالوا في ذلك وجه.
وبعد، فإن الله تعالى ذكره إنما كنَّى بقوله:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} عن ذكر النساء اللائي قد جرى ذكرهن في الآية قبلها وذلك قوله {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} والصبايا لا يسمين نساء وإنما يسمين صبايا أو جواري، وإنما النساء في كلام العرب جمع اسم المرأة ولا تقول العرب للطفلة والصبية والصغيرة: امرأة، كما لا تقول للصَّبي الصغير: رجل، وإذا كان ذلك كذلك وكان قوله:{أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} عند الزاعمين أنه الولي إنما هو أو بعض {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} عما وجب لوليته التي تستحق أن يولي عليها مالها إما لصغر وإما لسفه والله تعالى ذكره إنما اقتصر في الآيتين قصص النساء المطلقات لعموم الذكر دون خصوصه وجعل لهن العفو بقوله: {إَلَّا أَنْ يَعْفُونَ} كان معلومًا بقوله {إَلَّّا أَنْ يَعْفُونَ} أن المعنيات منهن بالآيتين اللتين ذكرهن فيهما جميعهن دون بعضهن إذ كان معلومًا أن عفوَ مَنْ تولى عليه ماله منهن باطل وإذا كان ذلك كذلك فبين أن التأويل في قوله: أو يعفو الذي بيده عقد نكاحهن، يوجب أن يكون لأولياء الثيبات الرشد البوالغ من العفو عما وجب لهن من الصداق بالطلاق قبل المس مثل الذي لأولياء الأطفال الصغار والمولى عليهن أموالهن لسفه وفي إنكار القائلين أنّ {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} الولي عفو أولياء الثيبات الرشد البوالغ على ما وصفناه وتفريقهم بين أحكامهم وأحكام أولياء الأخر ما أبان عن فساد تأويلهم الذي تأولوه في ذلك، ويسأل القائلون بقولهم في ذلك الفرق بين ذلك من أصل أو نظير فلن يقولوا في شيء من ذلك قولًا إلا ألزموا خلاف مثله.
وقال الرازي في [مفاتيح الغيب: المجلد 3، 6/153، 155] :
أما قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} ففيه مسألتان:
(المسألة الأولى) : في الآية قولان:
الأول: هو الزوج وهو قول علي ابن أبي طالب عليه السلام وسعيد بن المسيب وكثير من الصحابة والتابعين وهو قول أبي حنيفة.
والقول الثاني: أنه الولي وهو قول الحسن ومجاهد وعلقمة، وهو قول أصحاب الشافعي.
حجة القول الأول وجوه:
الأول: أنه ليس للولي أن يهب مهر موليته صغيرة كانت أو كبيرة، فلا يمكن حمل هذه الآية على الولي.
والثاني: أن الذي بيد الولي هو عقد النكاح فإذا عقد حصلت العقدة لأن بناء الفعلة يدل على المفعول كالأكلة واللقمة، وأما المصدر فالعقد كالأكل واللقم. ثم من المعلوم أن العقدة الحاصلة بعد العقد في يد الزوج لا في يد الولي.
والثالث: أن في قوله تعالى: {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} ، معناه الذي بيده عقدة نكاح ثابت له لا لغيره كما أن قوله:{وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [سورة النازعات: الآيتان 40-41] ، أي نهى النفس عن الهوى الثابت له لا لغيره كانت الجنة ثابتة له فتكون مأواه.
والرابع: ما روي عن جبير بن مطعم أنه تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها فأكمل صداقها وقال: أنا أحق بالعفو وهذا يدل على أن الصحابة فهموا من الآية العفو الصادر من الزوج.
حجة من قال: المراد هو الولي، وجوه:
الأول: أن الصادر من الزوج هو أن يعطيها كلّ المهر وذلك يكون هبة والهبة لا تسمى عفوًا.
أجاب الأولون عن هذا من وجوه: (أحدهما) ، أنه كان الغالب عندهم أن يسوق المهر إليها عند التزوج فإذا طلقها استحق أن يطالبها بنصف ما ساق إليها فإذا ترك المطالبة فقد عفا عنها. و (ثانيها) ، سمّاه عفوًا على طريق المشاكلة. و (ثالثها) ، أن العفو يراد به التسهيل، يقال: فلان وجد المال عفوًا صفوًا وقد بيَّنَّا وجه هذا القول في تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [سورة البقرة: الآية 178] . وعلى هذا عفو الرجل أن يبعث إليها كل الصداق على وجه السهولة.
أجاب القائلون بأن المراد هو الولي عن السؤال الأول بأن صدور العفو عن الزوج على ذلك الوجه لا يحصل إلا على بعض التقديرات، والله تعالى ندب إلى العفو مطلقًا وحمل المطلق على المقيد خلاف الأصل، وأجابوا عن السؤال الثاني أنّ العفو الصادر عن المرأة هو الإبراء وهذا عفو في الحقيقة، أما الصادر عن الرجل محض الهبة فكيف يسمّى عفوًا؟ وأجابوا عن السؤال الثالث بأنه لو كان العفو هو التسهيل، لكان كل من سهل على إنسان شيئًا يقال: إنه عفا عنه، ومعلوم أن هذا ليس كذلك.
الحجة الثانية للقائلين بأن المراد هو الولي، هو أن ذكر الزوج قد تقدم لقوله عز وجل:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} ، فلو كان المراد بقوله:{أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} هو الزوج، لقال أو تعفو على سبيل المخاطبة، فلما لم يفعل ذلك بل عبر عنه بلفظ المغايبة، علمنا أن المراد منه غير الزوج.
وأجاب الأولون بأن سبب العدول عن الخطاب إلى الغيبة التنبيه على المعنى الذي من أجله يرغب الزوج في العفو، والمعنى إلا أن يعفوا أو يعفو الزوج الذي حبسها بأن ملك عقدة نكاحها عن الأزواج، ثم لم يكن منها سبب في الفراق وإنما فارقها الزوج فلا جرم كان حقيقيًّا بأن لا ينقصها من مهرها ويكمل لها صداقتها.
الحجة الثالثة: للقائلين بأنه هو الولي، هو أن الزوج ليس بيده البتة عقدة النكاح، وذلك لأن قبل النكاح كان الزوج أجنبيًّا عن المرأة ولا قدرة له على التصرف فيها بوجه من الوجوه، ولا يكون له قدرة على إنكاحها البتة. وأما بعد النكاح فقد حصل النكاح، ولا قدرة على إيجاد الموجود له بل (لا قدرة على إزالة النكاح) – كذا ولا تستقيم العبارة وتحريرها: بل القدرة على إزالة النكاح- والله تعالى أثبت العفو لمن في يده وفي قدرته عقدة النكاح، فلما ثبت أن الزوج ليس له يد ولا قدرة على عقد النكاح، ثبت أنه ليس المراد هو الزوج، أما الولي فله قدرة على إنكاحها، فكان المراد من الآية هو الوليّ لا الزوج.
قلت: لم يدفع الرازي هذه الحجة العجيبة مع أن مدفعها واضح جليّ فالقول بأن الزوج لا قدرة له على التصرف قبل النكاح تحصيل للحاصل، فقبل النكاح لا وجود لعقدة النكاح وإنما يتصرف في الشيء أو يقدر على التصرف فيه بعد وجوده، وما من أحد يجادل في أن التصرف في العقدة بعد وجودها بيد الزوج وثبوت العفو يترتب على ثبوت التصرف، في حين أن الولي كما أوضحنا أكثر من مرة لا يملك العقد ولا العقدة، وغاية صلاحياته أن يتولى أصالةً أو بالنيابة إبرام العقد ثم تنتهي صلاحيته، فإذا حصل الطلاق مثلا لم ينله منه شيء إيجابًا ولا سلبًا فكيف يقال أن بيده عقدة النكاح لمجرد اختصاصه بصلاحية محدودة مؤقتة؟
ثم قال الرازي:
ثم إن القائلين بهذا القول أجابوا عن دلائل من قال: المراد هو الزوج.
أما الحجة الأولى، فإن الفعل قد يضاف إلى الفاعل تارة عند المباشرة وأخرى عند السبب يقال: بني الأمير دارًا وضرب دينارًا، وظاهر أن النساء إنما يرجعن في مهماتهن وفي معرفة مصالحهن إلى أقوال الأولياء، والظاهر أنّ كل ما يتعلق بأمر التزويج فإن المرأة لا تخوض فيه بل تفوضه بالكلية إلى رأي الولي، وعلى هذا التقدير يكون حصول العفو باختيار الولي وسعيه، فلهذا السبب أضيف العفو إلى الأولياء.
قلت: لو سلمنا المقدمة الأولى من هذه الحجة وهي تفويض المرأة مهماتها لا سيما ما يتعلق بالزواج لوليها وهذا ما لم يعد واقعًا الآن، والتشريع الإسلامي لكل زمان ومكان، فإننا لا نسلم المقدمة الثانية، وهي أن حصول العفو يكون باختيار الولي وسعيه، ذلك بأن تسليم أمر الزواج لا يعنى تسليم أمر الطلاق، وما يحدثه الطلاق من انفعالات لا يحدثه في الولي ولكن في المرأة، وهي في هذه الحال إنما تتصرف طبقًا لتلك الانفعالات فكيف تسلم أمرها للولي، ثم إن تسليم ما يتصل بالزواج لو حدث لا يعني بالضرورة تسليم ما يترتب عنه، ولو كان ذلك كذلك، لكان على المرأة حين تختلف مع زوجها أن لا تصير على صلح وتراض معه دون استشارة وليها، بل كان عليها أن تستشير الولي كلما وقع بينها وبين زوجها خصام وهذا ما لم يقل به أحد، بل إن تحكيم الحكمين من أهله ومن أهلها هو المصير الأخير الذي شرعه حين يتعذر أن يصلا بمفردهما إلى الاتفاق وهو مصير أريد به محاولة تجنب الطلاق، وبهذا سقطت هذه الحجة.
ثم قال الرازي:
وأما الحجة الثانية: وهي قولهم: (الذي بيد الولي عقد النكاح لا عقدة النكاح)، قلنا: - وهنا أقحم الرازي نفسه وهو شافعي- العقدة يراد بها العقد، قال تعالى:(ولا تعزموا عقدة النكاح) ، وإذا سلمنا أن العقدة هي المعقودة، لكن تلك المعقودة إنما حصلت وتكونت بواسطة العقد، وكان عقد النكاح في يد الولي ابتداء فكانت عقدة النكاح في يد الولي أيضًا بواسطة كونها من نتائج العقد وآثاره.
قلت: ونحن نسلم لكم بل ونحن معكم أن العقدة قد يراد بها العقد وقد يراد بها نتيجة العقد، لكنا لا نسلم لكم أن عقد النكاح بيد الولي لسببين:
الأول: هو أن الولي لو قبل النكاح ورفضته المرأة لم يتم العقد حتى وإن كانت بكرًا راشدة، أما إن كانت غير راشدة ففي فسخه عند بلوغها مقال. ونحن نميل إلى فسخه.
وأما الثاني: فإن صلاحية الولي ليست إبرام العقد لأن إبرام العقد ينبني على موافقة المرأة، إنما صلاحيته التعبير عن موافقتها وتأكيده بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:((الثيب تعرب عن نفسها والبكر تستأذن وإذنها صماتها)) ، وهذا يعني أنها إذا نطقت بالرفض لم يصح العقد وما من أحد قال بهذا فيما نعلم.
ثم قال الرازي:
وأما الحجة الثالثة: وهو قوله: إن المراد من الآية {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} لنفسه، فجوابه أن هذا التقليد لا يقتضيه اللفظ لأنه إذا قيل فلان في يده الأمر والنهي والرفع والخفض لا يراد به أن الذي في يده أمر نفسه ونهى نفسه، بل المراد أن في يده أمر غيره ونهى غيره، فكذا هاهنا.
قلت: ونحن مع أننا لا نقيم وزنًا لهذه الحجة ولا نعتمدها ندفع رد خصومها بأن النكاح إنما وقع بين الطرفين لأحدهما حق التصرف في مصيره بالإبقاء عليه وفسخه وهو الزوج، والإبقاء والفسخ من طرفه داخل في أمر نفسه لأن المطلقة ليست مستأمرة في تطليقها، وعلى هذا الاعتبار يندفع ردهم لهذه الحجة.
ثم قال:
المسألة الثانية: للشافعي أن يتمسك في هذه الآية في بيان أنه لا يجوز النكاح إلا بولي وذلك لأن جمهور المفسرين أجمعوا على أنّ المراد من قوله: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} ، إما الزوج وإما الولي، وبطل حمله على الزوج لما بيَّنَّا أنَّ الزوج لا قدرة له البتة على قدرة النكاح، فوجب حمله على الولي.
إذا ثبت هذا القول قوله: {بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} هذا يفيد الحصر بأنَّ بيده الأمر والنهي معناه أنه بيده لا بيد غيره، قال تعالى:{لَكُمْ دِينَكُمْ} [سورة الكافرون: الآية الأخيرة]، أي: لا غيركم، فهكذا ها هنا بيد الولي عقدة النكاح لا بيد غيره، وإذا كان كذلك فوجب أن يكون بيد المرأة عقدة النكاح فذلك هو المطلوب والله أعلم.
قلت: نسلم لكم دلالة الحصر في قوله تعالى: {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} ، ونعجب لتناقضكم مع أنفسكم، فإذا كانت عقدة النكاح بيد الولي فكيف تقولون أنها بيد المرأة؟! وإذا كانت بيد المرأة فكيف تقولون أنها بيد الولي؟ ولماذا جاء التعبير:{الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وليس التي بيدها عقدة النكاح، ثم لو كانت عقدة النكاح بيد الولي فلماذا لا يستطيع فسخها ولا يملك إبقاءها إذا فسخها الزوج، وكيف يتصور أن من بيده الأمر لا يستطيع له إبقاء أو إزالة، وإذن فكيف يكون بيده؟!
قال القرطبي في [الجامع لأحكام القرآن: 3/206، 208] :
وروي الدارقطني مرفوعًا من حديث قتيبة بن سعيد: حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وليّ عقدة النكاح الزوج)) . وأسند هذا عن علي وابن عباس وسعيد بن المسيب وشريح قال: وكذلك قال نافع بن جبير ومحمد بن كعب وطاووس ومجاهد والشعبي وسعيد بن جبير زاد غيره: ومجاهد والثوري واختاره أبو حنيفة وهو الصحيح من قول الشافعي، كلهم لا يرى سبيلًا للوليّ على شيء من صداقها للإجماع على أن الوليّ لو أبرأ الزوج من المهر قبل الطلاق لم يجز فكذلك بعده، وأجمعوا على أنّ الوليّ لا يملك أن يهب شيئا من مالها، والمهر مالها، وأجمعوا على أنّ من الأولياء من لا يجوز عفوهم وهم: بنوا العم وبنوا الإخوة وكذلك الأب والله أعلم.
ومنهم من قال: هو الوليّ، أسنده الدارقطني أيضًا عن ابن عباس قال: وهو قول إبراهيم وعلقمة والحسن، وزاد غيره: وعكرمة وطاووس وعطاء وأبي الزناد وزيد بن أسلم وربيعة ومحمد بن كعب وابن شهاب والأسود بن يزيد والشعبي وقتادة ومالك والشافعي في القديم، فيجوز للأب العفو عن نصف صداق ابنته البكر إذا طلقت بلغت المحيض أو لم تبلغه. قال عيسى بن دينار: ولا ترجع بشيء منه إلى أبيها.
والدليل على أن المراد الولي أن الله سبحانه وتعالى قال في أول الآية: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} ، فذكر الأزواج وخاطبهم بهذا الخطاب ثم قال:{إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} فذكر النسوان: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} فهو ثالث، فلا يرد إلى الزوج المتقدم إلا لو لم يكن لغيره وجود، وقد وجد وهو الوليّ فهو المراد.
ثم قال: وأيضًا فإن الله تعالى قال: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} ، ومعلوم أنه ليس كل امرأة تعفو، فإن الصغيرة والمحجور عليها لا عفو لها، فعين الله القسمين فقال:{إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} ، أي: كن لذلك أهلا {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} ، وهو الوليّ لأن الأمر فيه إليه، وكذا روى ابن وهب وأشهب وابن عبد الحكم وابن القاسم عن مالك أنه الأب في ابنته البكر والسيد في أمته. وإنما يجوز عفو الولي إذا كان من أهل السداد ولا يجوز عفوه إذا كان سفيهًا.
فإن قيل: لا نسلم أنه الولي بل هو الزوج، وهذا الاسم أولى به لأنه أملك للعقد من الولي على ما تقدم فالجواب: أنا لا نسلم أن الزوج أملك للعقد من الأب في ابنته البكر، بل الأب يملكه خاصة دون الزوج لأن المعقود عليه هو بضع البكر ولا يملك الزوج أن يعقد على ذلك بل الأب يملكه. وقد أجاز شريح عفو الأخ عن نصف المهر، وكذلك قال عكرمة: وكذلك الذي عَقَدَ عَقْدَ النكاح بينهما كان عمًّا أو أخًا وإن كرهت.
قلت: رحم الله مالكًا ومن قال بقوله فكأنهم غفلوا عن الآية السابقة لهذه الآية والمتصلة بها لا تفصل بينهما آية أو حكم وهي قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} ، ذلك بأن الذي نُهي عن عزم عقدة النكاح هو الرجل وليس المرأة بدليل أن المنهي عنه هو الرجل، بدليل أن المرأة المتوفى عنها زوجها ليست هي التي تعرض للرجل بالرغبة في الزواج منه في الأعم الغالب، وإنما الرجل هو الذي يعرض للمرأة وقد يتعجل ذلك وما تزال في عدتها، فأبيح له التعريض كما أبيح له الإكنان، وحرم عليه عزم العقدة لأن المرأة في عدتها ما تزال على حال تشبه بقية من عصمة الزوجية بينه وبينها- وإن احتفظ مودة لها بالرغبة في أن تكون زوجًا له في الآخرة- بقية أثر على تصرفاته في الدنيا، فله أن يتزوج إن شاء يوم وفاة زوجه من الناحية الشرعية وإن كان عملا غير لائق في الاعتبار الخُلُقي الصِّرف.
وبما أن الزوج هو الذي يعرض أو يكن فهو المقصود قطعًا بالنهي عن عزم عقدة النكاح وهو – بالتالي- الموصوف بإنه يملك عقدة النكاح فهو {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وهو المأذون له بالعفو عن بعض الصداق نصفًا أو أقل. في الآية موضوع النقاش، إذ الذي يملك العزم هو الذي يملك العقدة.
أما دعوى الحاجة إلى ثالث فهي دعوى لا تنهض على حجة لأنّ هذا الثالث لا يملك شيئًا وغاية دوره أنه يتصرف نيابة عمَّن يملكها للزوج بعقدة النكاح، وعقدة النكاح لا ينحصر أثرها على البضع كما قال القرطبي، فلو كان منحصرًا على البضع لكان أيضًا من جانب الزوج منحصرًا على بضعه، والعلاقة بين الزوجين ليست منحصرة المجال في فرجيهما وإنّما مجالها يشمل جوانب شتى من حياتهما. وآية ذلك ما يترتب منها على الزوج من القوامة التي تعني الإنفاق والإسكان وما إلى ذلك من كفايات ضرورة الحياة، ومنها الحماية من العدوان وما يترتب منها على الزوجة من صيانة شرف الزوج وغيبته ورعاية ماله وبيته والامتناع عن مخالطة غيره ممّن ليسوا من أولي أرحامها وما إلى ذلك من ألوان التصون والتعفف، فوضح من هذا أن الولي –أيًّا كان- وهو الثالث الذي يقحمه البعض ويجعلون بيده عقدة النكاح ليس بأكثر من نائب عن الزوج القاصرة أو المحجور عليها في التصرف في نطاق محدود، وهذه النيابة لا تجعل شيئًا بيده نتيجة لها، فدوره بها ينتهي عند تمام إجراء ذلك التصرف المحدود وآية ذلك، أنه لا يملك تطليقها كما أن الزوجة نفسها لا تملك تطليق نفسها إلا في حالات قليلة كأن يجعل زوجها أمرها بيدها وهي حالات استثنائية لا تنبني عليها قاعدة عامة تصلح أساسًا لحكم دائم، والذي يملك الطلاق هو الذي يملك عقدة النكاح، لأن ملكيته لفسخها دليل حاسم على ملكيته أيضًا لإبرامها.
ولست أدري كيف غفل مالك –رحمه الله وغيره ممن سبقه من بعض التابعين عن هذين الملحظين على وضوحهما، فذهبوا إلى القول بالطرف الثالث، فتأمل.
وحاول محمد الطاهر بن عاشور في [التحرير والتنوير: 2/463، 464] على أن يدافع عما ذهب إليه من أن {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} هو الولي – فقال:
وقوله: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} ، استثناء من عموم الأحوال أي إلا في حالة عفوهن أي النساء بأن يسقطن هذا النصف، وتسمية هذا الإسقاط عفوًا ظاهرة لأن نصف المهر حق وجب على المطلق للمطلقة قبل البناء بما استخف بها أو بما أوحشها، فهو حق وجب لغرم ضُر فإسقاطه عفو لا محالة أو عند عفو {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} و (أل) في النكاح للجنس وهو المتبادر في عقد نكاح المرأة لا في قبول الزوج وإن كان كلاهما مسمى عقدًا.
قلت: سبحان الله كيف يكون متبادرًا في تصرف أحد الطرفين دون الآخر، والعقد إنما يكون بين طرفين وكيف يكون عقد النكاح كاملا من جانب الزوجة وحدها دون اعتبار إبرامه من الرجل مع أن الرجل هو الذي يملك الطلاق فهو تلقائيًّا الذي يملك العقد؟!
ثم قال:
فهو غير النساء لا محالة لقوله: {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} فهو ذكر، وهو غير المطلق أيضًا لأنه لو كان المطلق لقال: أو تعفو بالخطاب، لأن قبله {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} ولا داعي إلى خلاف يقتضي الظاهر. قلت: لو أعيد الخطاب إلى المراد بقوله {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} دون تعليل لإعادته إليه لقيل: أو تعفون إذ لا داعي لحذف نون الجمع، لكن التعليل هو الذي اقتضى العدول عن الإضمار إلى الإظهار، وحكمة التعليل هو تأكيد الندب فـ:{الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} هو الذي فسخها بالطلاق فوجب عليه نصف الصداق وندب بتأكيد له العفو، أي: التخلي عن النصف الآخر على اعتبار أنّ الأصل في عقد النكاح أداء المهر كاملا عند إبرامه وتأجيل بعضه ليس أصلا، وبناء على هذا الاعتبار كان تخلّي الزوج عن النصف الذي على المطلّقة أن تعيده إليه إذا وقع الطلاق قبل المساس عفوًا بالحقيقة لا بالمجاز.
ثم قال:
وقيل: جيء بالموصول تحريضًا على عفو المطلق لأنه كان بيده عقدة النكاح فأفاتها بالطلاق فكان جديرًا أن يعفو عن إمساك النصف ويترك لها جميع صداقها، وهو مردود بأنه لو أريد هذا المعنى لقال: أو يعفو الذي كان بيده عقدة النكاح.
قلت: لا يتّسق هذا القول مع قوله قبله [نفس المرجع: ص461] :
(فالطلاق فسخ لعقدة النكاح بمنزلة الإقالة في البيع، إلا أنه فسخ لم يشترط فيه رضا كلا المتعاقدين بل اكتفى برضا واحد وهو الزوج تسهيلا للفراق عند الاضطرار إليه، ومقتضى هذا الحكم أن يكون الطلاق قبل البناء بالمرأة ممنوعًا إذا لم تقع تجربة الأخلاق، لكن لما كان الداعي إلى الطلاق قبل البناء لا يكون إلا لسبب عظيم لأن أفعال العقلاء تصان عن العبث، كيف يعمد راغب في امرأة باذل لها ماله ونفسه إلى طلاقها قبل التعرف بها لولا أن قد علم من شأنها ما أزال رجاءه في معاشرتها فكان التخلص وقتئذ قبل التعارف أسهل منه بعد التعارف) .
وهذا القول منه ينبني على أنَّ الذي أوقع الطلاق هو الذي يملكه والذي يملك فسخ العقد هو الذي يملك العقد أي هو الذي بيده العقد وهو حالة فسخه العقد كان بيده، وبما أن الفسخ من عمله، اعتبر في الآية عندما ندب إلى التَّخلِّي عن حقه في نصف الصداق كما لو لم يكن قد فسخ العقد، لأنّ ابتداء وقت الندب كان عند ملكيته للعقد الذي فسخه، فأريد بهذا التعبير البليغ أن يقال للزوج {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} ، عليك أن تعزم على العفو حال عزومك على الفسخ بحيث يكون العفو مقترنًا بالفسخ ويكون العزم عليهما واحدًا وذلك لا يتأتى إلا قبل وقوع الفسخ أي حال العزم عليه.
وهذا ملحظ دقيق لا ندري كيف غاب عن ذهن أستاذنا الجليل وهو أحد أئمة البيان العربي ومن صدورهم.
ثم قال:
فتبين أن يكون أريد به ولي المرأة لأن بيده عقدة نكاحها، إذ لا ينعقد نكاحها إلا به، فإن كان المراد به الولي المجبر وهو الأب في ابنته البكر والسيد في أمته فكونه {بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} ظاهر إلا أنه جعل ذلك من صفته باعتبار ما كان إذا لا يحتمل غير ذلك.
قلت: ولا يحتمل هذا أيضًا لأنّ عقدة النكاح ليست بيده إنما الذي كان بيده قبل إبرامها هو إتمام إبرامها إمَّا أصالة في حال غير البالغة والمحجور عليها، أو نيابة وتأكيدًا للموافقة في حال غيرهما، وآية ذلك أنه لا يملك نقض ما أتمّ إبرامه أي فسخ النكاح لأن عقدته لا يملكها ولا تلك التي أبرم أصالة أو نيابة عنها والذي يملك الفسخ هو الذي يملك العقدة.
ثم قال:
وإن كان المراد مطلق الوليّ فكونه بيده عقدة النكاح من حيث توقف عقد المرأة على حضوره، وكان شأنهم أن يخطبوا الأولياء في ولاياهم، فالعفو في الموضعين حقيقة والإتصاف بالصلة مجاز. وهذا قول مالك إذ جعل في الموطأ {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} ، هو الأب في ابنته البكر والسيد في أمته، وهو قول الشافعي في القديم فتكون الآية ذكرت عفو الرشيدة والمولَّى عليها، ونسب ما يقرب من هذا إلى جماعة من السلف منهم ابن عباس وعلقمة والحسن وقتادة.
قلت: وروي رجوع بعض هؤلاء عن هذا، ثم أننا لو جعلنا الولي هو {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} لكان علينا أن نتساءل ألا يكون تصرفه بمثابة (الاقتداء) ، إذ إنَّ فيه معنى إرادة التخلص من هذا الزوج غير المرغوب فيه والذي وقع إنكاحه عن خطأ وسوء تقدير. ثم ماذا في التي زوجها قاضي المسلمين لامتناع وليِّها عن تزويجها من كفء رغبت فيه عضلا لها أو لسبب آخر من الأسباب، هل يكون له هو أيضًا أن يعفو عن نصف الصداق؟ وكيف يكون له ذلك إذا رفضت المطلقة عفوه؟ وكيف يكون لغيره من الأولياء إذا عفى ورفضت المطلقة الرشيدة المالكة أمرها عفوه؟ وما من أحد يقول بجواز التصرف في أموال الرشيدة لوليٍّ أيًّا كانت درجته بغير إذنها.
ثم قال:
وقيل: {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} هو المطلق لأن بيده عقدُ نفسه وهو القبول.
قلت: الذي بيده هو الرغبة، أما القبول فهو بيد الزوج المخطوبة، والعقد ينبرم طبقًا لرغبته بقبولها وموافقة وليّها لا سيما إن كانت بكرًا أو غير مالكة أمرها.
ثم قال:
ونسب هذا إلى علي وشريح وطاووس ومجاهد وهو قول أبي حنيفة والشافعي في الجديد، ومعنى {بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} أن بيده التصرف فيها بالإبقاء والفسخ في الطلاق، ومعنى عفوه تكميله الصداق أي إعطاؤه كاملًا.
قلت: بل إبقاءه كاملًا لأنّ المفروض – كما ألمعنا آنفًا- أن يتم تسديد الصداق كاملًا عند العقد وتأجيل بعضه استثناء مرخص به.
ثم قال:
وهذا قول بعيد من وجهين، أحدهما أن فعل المطلق حينئذ لا يسمى عفوًا بل تكميلًا وسماحة لأن معناه أن يدفع الصداق كاملًا، قال في (الكشاف) : وتسمية الزيادة على الحق عفوًا فيه نظر إلا أن يقال: كان الغالب عليهم أن يسوق إليها المهر عند التزوج فإذا طلقها استحق أن يطالبها بنصف الصداق، فإذا ترك فقد عفا أو سماه عفوًا على طريق المشاكلة.
قلت: وذلك الغالب في الأصل شرعًا فالتسمية حقيقة لا مشاكلة.
ثم قال:
الثاني: إن دفع المطلق المهر كاملًا للمطلقة إحسان لا يحتاج إلى تشريع مخصوص بخلاف عفو المرأة أو وليها، فقد يظن أحد أن المهر لما كان ركنًا من العقد لا يصح إسقاط شيء منه.
قلت: التشريع لا يعني الإيجاب وإنما يعني الندب وغيره أيضًا ويصرف إلى أحد معانيه بالقرينة والإحسان مما ندب إليه الشرع، وعفو {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} إحسان إلى المطلقة وجبر لخاطرها، ولو لم يشرع الإحسان لما كان الإحسان.
ثم قال:
وقوله: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} تذييل أي العفو من حيث هو، ولذلك حذف المفعول والخطاب لجميع الأمة، وجيء بجمع المذكر للتغليب وليس خطابًا للمطلقين إلا لما شمل عفو النساء مع أنه كان مرغوبًا فيه.
قلت: سبحان الله كيف يستقيم هذا التعليل مع قوله: وجيء بجمع المذكر للتغليب فيما معنى التغليب إذا لم يكن شاملًا عفو النساء، أقول هذا من حيث الشكل، أما من حيث الموضوع فلا أوافقه على هذا المعنى وإنما أميل إلى المعنى الذي يسوقه إذ يقول:
ومن الناس من استظهر بهذه الآية على أنّ المراد بـ: {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} المطلق، لأنه عبر عنه بعد، لقوله:{وَأَنْ تَعْفُوا} وهو ظاهر في الذكر، وقد غفل عن موقع التذييل في آخر القرآن كقوله:{أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [سورة النساء: الآية128] .
قلت: بل لم يغفل من ذهب إلى هذا التأويل عن النسق القرآني من تذييل آية كالآية التي استشهد بها لأنّ وصف العفو بأنه أقرب للتقوى من صميم هذا النسق باعتباره تأكيدًا للندب تعليلًا له وتبيانًا لمناطه، فأين الغفلة في هذا؟ رحم الله أستاذنا ولكل جواد كبوة.
وقد أحسن أبو حيان، أجاد إذ قال في [البحر المحيط: 2/236] بعد أن عرض بإيجاز ما سبق أن نقلناه عن غيره من أقوال المتأولين وبين ترجيحه أن {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} هو الزوج: ولو فرضنا أن قوله: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} من المتشابه لوجب رده إلى المحكم. قال الله تعالى: {وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [سورة النساء: الآية4] . وقال تعالى: {وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [نفس السورة: الآية20] . وقال {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا} الآية [سورة البقرة: الآية 229] . فهذه الآية محكمة – كذا في النسخة المطبوعة ولعل الصواب: فهذه الآيات -تدل على أن الولي لا دخول له في شيء من أخذ مال الزوجة، ورجّح أيضًا أنه الزوج، أن عقدة النكاح كانت بيد الولي فصارت بيد الزوج، وأن العفو إنما يطلق على ملك الإنسان وعفو الولي عفو عما لا يملك وبأن قوله:{وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ} يدل على أن الفضل في هبة الإنسان مال نفسه لا مال غيره.
***
وفي تفسير الآية الأولى من سورة المائدة قال ابن جرير في [جامع البيان: المجلد 4، 6/32، 33]، وساق بعض تعريف اللغويين لكلمة (عقد) مما سبق نقله عنهم في الفصل الأول:
وذلك إذا وافقه على أمر وعاهده عليه عهدًا بالوفاء له بما عاقده من أمان وذمة أو نصرة أو نكاح أو بيع أو شركة أو غير ذلك من العقود.
ذكر من قال المعنى الذي ذكرناه عمن قاله في المراد من قوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، أي: بعقد الجاهلية. ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((أوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقدًا في الإسلام)) . وذكر لنا أن فرات بن حيان العجلي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلف الجاهلية، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم:((لعلك تسأل عن حلف لخم وتيم الله؟ قال: نعم يا نبي الله، قال: لا يزيده الإسلام إلا شدَّة)) (1)
حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: حدثنا معمر عن قتادة {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} قال: عقود الجاهلية الحلف.
ثم قال:
وقال آخرون: بل هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم ويعقدها المرء على نفسه ذكر من قال ذلك.
حدثنا سفيان بن وكيع قال: حدثني أبي عن موسى بن عبيدة عن أخيه عبد الله بن عبيدة قال: العقود خمس: عقدة الأيمان، عقدة النكاح، عقدة العهد، عقدة البيع، وعقدة الحلف.
حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثنا وكيع عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي وعن أخيه عبد الله بن عبيدة نحوه.
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: اخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد في قوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} قال: عقد العهد وعقد اليمين وعقد الحلف وعقد الشركة وعقد النكاح. قال: هذه العقود خمس.
حدثني المثنى قال: حدثنا عتبة بن سعيد الحمصي قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: حدثنا أبي في قول الله جل وعز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، قال: العقود خمس: عقدة النكاح وعقد الشركة وعقد اليمين وعقد العهد وعقد الحلف.
(1) لم نقف على من أسند هذا الحديث لكن في رواية الطبري هذه تصحيف لا نراه إلا من المطبعة فالحديث كما نقله محمد الطاهر بن عاشور – وسيأتي- (لعلك تسأل عن حلف لجيم) ذلك بأنّ لجيمًا هو الجد الثامن لفرات بن حيان [وانظر ترجمة فرات في (الإصابة) : 3/200، 201، ترجمة 6964 لابن حجر. وفي (الاستيعاب) لابن عبد البر على هامش الإصابة: 3 /202] . بنو لجيم بطن من بكر [انظر (لسان العرب) لابن منظور: 12/534، و (المفصل) الجواد علي: 4/496]
وقال أبو حيان في [البحر المحيط: 3/411] عند تفسيره هذه الآية:
والظاهر عموم المؤمنين في الملخص والمظهر، وعموم العقود في كل ربط يوافق الشرع سواء كان إسلاميًّا أو جاهليًّا. ثم ساق حديث فرات العجلي ثم قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((في حلف الفضول وكان شهده في دار عبد الله بن جدعان: ما أحب أن لي به حمر النعم ولو نودي به في الإسلام لأجبت. وساق موجزًا لحلف الفضول)) .
ثم قال:
وكان الوليد بن عقبة أميرًا على المدينة فتحامل على الحسين بن علي في مال فقال: لتنصفني من حقي وإلا أخذت بسيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لأدعون بحلف الفضول. فقال عبد الله بن الزبير: لئن دعاني لآخذن بسيفي ثم لأقومن معه حتى ينتصف من خصمه أو نموت جميعًا، وبلغت المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عثمان بن عبد الله التميمي فقالا مثل ذلك وبلغ ذلك الوليد فأنصفه. ويندرج في هذا العموم كل عقد مع إنسان كأمان ودية ونكاح وبيع وشركة وهبة ورهن وعتق وتدبير وتخيير وتمليك ومصالحة ومزارعة وطلاق وشراء وإجارة وما عاقده مع نفسه لله تعالى طاعة بحج وصوم واعتكاف وقيام ونذر وشبه ذلك.
ثم ساق مجمل ما ذكره الطبري عن محمد بن كعب القرظي وابن زيد وغيرهما في تفسير معنى العقد.
وقال محمد رشيد رضا في [تفسير المنار: 6/120، 124] بعد أن ساق مجمل تأويلات المفسرين لهذه الآية.
وقد تجدد لأهل هذا العصر أنواع من المعاملات تبعها أنواع من العقود يذكرونها في كتب القوانين المستحدثة، منها ما يجيزه فقهاء المذاهب الإسلامية المدونة ومنها ما لا يجيزونه لمخالفته شروطهم التي يشترطونها كاشتراط بعضهم الإيجاب والقبول قولا حتى لو كتب اثنان عقدًا بينهما على شيء قولًا أو كتابة (نحو تعاقد فلان وفلان على أن يقوم الأول بكذا والثاني بكذا) من غير ذكر إيجاب أو قبول بالقول وأمضيا ما كتباه (بتوقيعه أو ختمه)، كذا في النسخة المطبوعة وصوابه عندنا: بتوقيعهما وختمهما –لا يعدونه عقدًا صحيحًا نافذًا، وقد يصيغونه بصيغة الدين فيجعلون التزام المتعاقدين لمباح وإيفاءهما به محرمًا ومعصية لله تعالى لعدم صحة العقد، ويشترطون في بعض العقد شروطًا منها ما يستند على حديث صحيح أو غير صحيح، صريح الدلالة أو خفيّها ومنها ما لا يستند إلا على اجتهاد مشترطه ورأيه، ويجيزون بعض الشروط التي يتعاقد عليها الناس ويمنعون بعضها حتى بالرأي.
وأساس العقود الثابت في الإسلام هو هذه الجملة البليغة المختصرة المفيدة {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، وهي تفيد أنه يجب على كل مؤمن أن يفي بما عقده وارتبط به، وليس لأحد أن يقيد ما أطلقه الشارع إلا ببينة منه، التراضي من المتعاقدين شرط في صحة العقد لقوله تعالى:{عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [سورة النساء: الآية 29] ، وأما الإيجاب والبول فلا نص فيه وإنما عبارة عن العقد نفسه إذ الغالب فيه أن يكون بالصيغة اللفظية قولًا أو كتابة، والإشارة تقوم مقام العبارة عند الحاجة كإشارة الأخرس، والفعل أبلغ من القول في حصول المقصد من العقد كبيع المعاطاة الذي منعه بعضهم تعبدًا بصيغة الإيجاب والقبول اللفظية، ومثل بيع المعاطاة إعطاء الثوب للغسال أو الصباغ أو الكواء، فمتى أخذه منك كان ذلك عقد إجارة بينكما بأجرة المثل، ومن هذا القبيل إعطاء المال لمن بيده تذاكر السفر في سكك الحديد أو البواخر وأخذ التذكرة منه، ومثله دخول الحمام وركوب سفن الملاحين ومركبات الحوذية والذين يأخذون الأجرة بعد إيصال الراكب إلى المكان الذي يقصده.
فكل قول أو فعل يعدُّه الناس عقدًا فهو عقد يجب أن يوفوا به كما أمر الله تعالى ما لم يتضمن تحريم حلال أو تحليل حرام مما ثبت في الشرع كالعقد بالإكراه، أو على إحراق دار أحد، أو قطع شجر بستانه، أو على الفاحشة، أو أكل شيء من أموال الناس بالباطل كالربا والميسر (القمار) والرشوة، فهذه الثلاثة منصوصة في الكتاب والسنة. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر كما في صحيح مسلم وغيره لأنه من قبيل الميسر في كونه مجهول العاقبة وهو من الغش المحرم أيضًا. وقد توسع بعض الفقهاء في تفسير الألفاظ القليلة التي وردت في الكتاب والسنة فأدخلوا في معنى الربا والغرر ما لا تطيقه النصوص من التشديد ودعموا تشديداتهم بروايات لا تصحُّ وأشدُّهم تضييقًا في العقود الشافعية والحنفية وأكثرهم تسامحًا وسَعة المالكية والحنابلة.
ومن الأصول التي بنوا عليها معظم تشديداتهم في ذلك ذهاب بعضهم إلى أن الأصل في العقود والشروط الحظر، فلا يصح منها إلا ما دل الشرع على صحته، وأن كل ما يخالف مقتضى العقد باطل وعدُّوا من هذا ما يمكن أن يقول أنه ليس منه.
وإطلاق الوفاء بالعقود يدل على أنّ الأصل فيها الإباحة وكذلك الشروط ولا سيما العقود والشروط في أمور الدنيا، والحظر لا يثبت إلا بدليل، ويؤيد إطلاق الآية حديث:((الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا والمسلمون على شروطهم)) تعليق: أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وابن حيان والبيهقي عن أبي هريرة.
قال أحمد في [مسنده: 2/366] : حدثنا الخزاعي قال: حدثنا سليمان بن بلال، عن كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((الصلح جائز بين المسلمين)) .
وقال أبو داود في سننه [: 3/304، ح 3594] :
حدثنا سليمان بن داود المهري، أخبرنا ابن وهب، أخبرني سليمان بن بلال.
وحدثنا أحمد بن عبد الواحد الدمشقي، حدثنا مراون –يعني ابن محمد- حدثنا سليمان بن بلال أو عبد العزيز بن محمد – شك الشيخ-، عن كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصلح جائز بين المسلمين)) . زاد أحمد: إلا صلحًا أحلّ حرامًا حلالاّ، وزاد سليمان بن زيد: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((المسلمون على شروطهم)) .
وقال الحاكم في [المستدرك: 2/49، 50] :
حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا الربيع بن سليمان، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرني سليمان بن بلال، عن كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة – رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((المسلمون على شروطهم والصلح جائز بين المسلمين)) .
وتعقبه بقوله: رواة هذا الحديث مدنيون ولم يخرجاه وهذا أصل في الكتاب، وقال الذهبي في (التلخيص) : لم يصححه. وكثير ضعفه النسائي ومشاه غيره.
ثم قال الحاكم: وله شاهد من حديث عائشة وأنس بن مالك- رضي الله عنهما. أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار، حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن زرارة، حدثنا عبد العزيز بن عبد الرحمن الجزري، عن خصيف، عن عروة، عن عائشة – رضي الله عنهما عن رسول الله صلى لله عليه وآله وسلم قال:((المسلمون عند شروطهم)) –رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((المسلمون عند شروطهم ما وافقت الحق)) .
قال خصيف: وحدثني عطاء بن أبي رباح، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق من ذلك)) . وسكت عنه الذهبي في (التلخيص)
وقال ابن حبان في [صحيحه: 7/275، ح 5069] :
أخبرنا احمد بن الفتح السمسار بـ: (سمرقند) قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي قال: حدثنا مروان بن محمد الطاطري قال: حدثنا سليمان بن بلال، حدثني كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح. وساق مثل حديث الحاكم.
وقال البيهقي في [السنن الكبرى: 6/63] :
اخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر بن حفص المقري بن الحمامي بـ: (بغداد) أنبأ أبو بكر احمد بن سليمان الفقيه قال: قرئ على جعفربن محمد بن شاكر وأنا أسمع، حدثنا إبراهيم بن حمزة، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((الصلح جائز بين المسلمين)) .
ثم قال [ص64] :
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا منصور بن سلمة أبو سلمة الخزاعي، حدثنا سليمان بن بلال، عن كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة. وساق الحديث.
أخبرنا أبو علي الروذبادي، أنبأ أبو بكر بن داسة، حدثنا أبو داود، حدثنا أحمد بن عبد الواحد الدمشقي، حدثنا مروان بن محمد، حدثنا سليمان بن بلال أو عبد العزيز بن محمد – شك أبو داود – عن كثير بن زيد، فذكره بنحوه وزاد: إلا صلح حرم حلالًا أو أحل حرامًا.
وأخرجه الترمذي وابن ماجه والبغوي والبيهقي، عن عمرو بن عوف المزني، فقال في [الجامع الصحيح: 3/34، 35، ح 1352] :
حدثنا الحسن بن علي الخلال، حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا والمسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا)) .
وتعقبه الترمذي بقوله: هذا حديث حسن صحيح.
وقال ابن ماجه في [سننه: 2/788، ح 2353] :
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: وساق مثل الطرف الأول من حديث الترمذي.
وقال البغوي في [شرح السنة: 8/209] عند شرحه للحديث رقم (2151) : وروي عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده. وساق مثل حديث الترمذي سواء.
وقال البيهقي [المرجع السابق: ص65] :
اخبرنا أبو علي الروذبادي، أنبأ الحسين بن الحسن بن أيوب الطوسي، أنبأ أبو يحيى بن أبي ميسرة بن زبالة، حدثنا كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حرامًا أو حرم حلالًا)) . وكذا رواه أبو عامر العقدي عن كثير بن عبد الله.
قال البيهقي: والاعتماد على روايته فمحمد بن الحسن بن زبالة ضعيف بمرة- كذا في النسخة المطبوعة ولعل صوابه بالمرة-، ورواية كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني إذا انضمت إلى ما قبلها قويتا. . رواه أبو داود والدارقطني من طريق كثير بن زيد والترمذي والبزار بزيادة ((إلا شرطًا حّرم حلالًا أو أحل حرامًا)) . وقال الترمذي: حسن صحيح والصواب أنه ضعيف أنه ضعيف يعتضد كما قيل بحديث: ((الناس على شروطهم ما وافقت الحق)) (1) . رواه البزار من حديث ابن عمر وهو أشدّ ضعفًا من حديث الصلح الذي ذكره السيوطي في الجامع الصغير بدون زيادة الشرط وعلم عليه بالصحة تعليق: أولا: انظر [الجامع الصغير على هامش فتح القدير للمناوي: 4/240، ح 5256] :
وقد التبس أمر هذا الحديث على رشيد رضا تقليدًا للمناوي شارح (الجامع الصغير) الذي خلط بين كثير بن زيد وكثير بن عبد الله، فنسب على الذهبي في (الميزان) كل ما قاله في كثير بن عبد الله بأنه قاله في كثير بن زيد وهذا نص كلام الذهبي.
(1) الحديث نقله الهيثمي في [مجمع الزوائد: 4/86] فقال: عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المنحة مردودة والناس على شروطهم ما وافق الحق. وتعقبه بقوله: رواه البزار وفيه محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني وهو ضعيف جدًّا.
قال –رحمه الله في [ميزان الاعتدال: 3/406، 408، ترجمة 6943] ما نصه بالحرف: كثير بن عبد الله- ورمز إلى أن أبا داود والترمذي وابن ماجه أخرجوا له - بن عمرو بن عوف بن زيد المزني المدني، عن أبيه، عن جده، وعن محمد بن كعب، ونافع، وعنه معن والقعنبي وإسماعيل بن أبي أويس وخلق.
قال ابن معين: ليس بشيء، وقال الشافعي وأبو داود: ركن من أركان الكذب وضرب أحمد على حديثه، وقال الدارقطني وغيره: متروك، وقال أبو حاتم: ليس بالمتين، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال مطرف بن عبد الله المدني: رأيته وكان كثير الخصومة لم يكن أحد من أصحابه يأخذ عنه.
قال له ابن عمران القاضي: يا كثير أنت رجل بطال تخاصم فيما لا تعرف وتدعي ما ليس لك وما لك بينة فلا تقربني إلا أن تراني تفرغت لأهل البطالة. وقال ابن حبان: له عن أبيه، عن جده نسخة موضوعة، وأما الترمذي فروى من حديثه ((الصلح جائز بين المسلمين)) وصححه. فلهذا لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه. وقال ابن أبي أويس: سمعت منه سنة ثمان وخمسين ومائة وبعدها.
ثم ساق أحاديث مما أسنده عنه.
وكلام ابن حبان الذي ذكره الذهبي هذا نصه بالحرف.
قال في [الجرح والتعديل: 2/221، 222] :
منكر الحديث جدًّا يروي عن أبيه، عن جده نسخة موضوعة لا يحل ذكرها في الكتب ولا الرواية عنه إلا على جهة التعجب.
قلت: وهذه عبارة دأب ابن حبان على ترديدها في كثير ممن جرحوهم.
ثم قال: وكان الشافعي رحمه الله يقول: كثير بن عبد الله المزني ركن من أركان الكذب.
أخبرني محمد (المنذر) - كذا. ولعل صوابه محمد بن المنذر- قال: سمعت عباس بن محمد يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: كثير بن عبد الله لجده صحبة وكثير ضعيف الحديث سمعت يعقوب بن إسحاق يقول: سمعت الدارمي يقول: قلت ليحيى بن معين: كثير بن عبد الله المزني قال: ليس بشيء.
ثم ساق له حديثًا.
أما كلام ابن عدي الذي ذكره الذهبي فهذا نصه بالحرف.
قال –رحمه الله في [كامله: 6/2078، 2083] :
حدثنا يحيى بن زكريا بن حيَّويْه، حدثنا أيوب بن سليمان بن سافري قال: قال لي أبو خثيمة: قال لي أحمد بن حنبل: لا تحدث عن عبد الله بن كثير شيئًا.
حدثنا ابن أبي عصمة حدثنا أبو طالب أحمد بن حميد، سألت أحمد بن حنبل، عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف قال: منكر الحديث ليس بشيء، وسألته عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:((من شهر علينا السلاح فليس منا)) . فقال: منكر الحديث.
حدثنا ابن حماد، حدثنا عبد الله، عن أبيه قال: كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف ليس يسوي شيئًا. قال عبد الله: ضرب أبي على حديث كثير بن عبد الله في المسند ولم يحدث بها.
حدثنا علام، حدثنا ابن أبي مريم، سمعت يحيى بن معين يقول: كثير بن عبد الله المزني حديثه ليس بشيء ولا يكتب.
حدثنا محمد بن علي، حدثنا عثمان بن سعيد. قلت ليحيى بن معين: وكثير بن عبد الله المزني كيف هو؟ قال: كثير بن عبد الله مدني ضعيف.
حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكر وابن حماد، قال: حدثنا عباس عن يحيى قال: كثير بن عبد الله بن عوف لجده صحبة وكثير ضعيف.
حدثنا الجنيدي، حدثنا البخاري قال: إسماعيل بن أبي أويس قال: سمعت كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف بن زيد بن ملحة المزني سنة وخمسين ثم سنة إحدى أو اثنتين وستين ومائة.
روى يحيى بن سعيد الأنصاري، عن كثير بن عبد الله. وقال النسائي: كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف متروك الحديث.
وبعد أن أسند إليه جملة من الأحاديث قال:
ولكثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده قد بقي أحاديث يسيرة، وعامة أحاديثه التي قد ذكرتها وعامة ما يرويه لا يتابع عليه.
وكلام ابن معين الذي ذكروه لفظه في [تاريخه: 2/494، ترجمة607] : كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المدني لجده صحبة، وكثير ضعيف الحديث. قال يحيى: حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف ليس بشيء.
وليس في (تاريخه) بقية ما أسند إليه في كثير هذا.
وأما كلام أبي حاتم فلفظه كما رواه الرازي في [الجرح والتعديل: 7/154، ترجمة 858] بعد أن ذكر بعض من روى عنه:
حدثنا محمد بن حمويه بن الحسن قال: سمعت أبا طالب قال: سمعت أحمد –يعني ابن حنبل - عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف قال: منكر الحديث ليس بشيء.
قرئ على العباس بن محمد الدوري، عن يحيى بن معين أنه قال: كثير بن عبد الله المزني ضعيف الحديث.
سألت أبا زرعة عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف قال: واهي الحديث ليس بقويّ، فقلت له: بهز بن حكيم، وعبد المهيمن، وكثير بن عبد الله أيهم احب إليك؟ قال: بهز وعبد المهيمن أحب إلي منه.
سئل أبي عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف قال: ليس بالمتين.
وأما كلام النسائي فلفظه في [كتاب الضعفاء والمتروكين: ص205، ترجمة 529] : كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف متروك الحديث.
وذكره الدارقطني في [الضعفاء والمتروكين: ص144، ترجمة 446] سردًا مع الآخرين دون تعقيب.
لكن قال ابن حجر في [تهذيب التهذيب: 8/421، 423، ترجمة 751] بعد أن ساق كلامهم فيه:
وقال الترمذي: قلت لمحمد –يعني البخاري -: في حديث كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده في الساعة التي ترجى في يوم الجمعة كيف هو؟ قال: هو حديث حسن إلا أن أحمد كان يحمل على كثير يضعفه، وقد روى يحيى بن سعيد الأنصاري عنه.
ثم قال: وقال أبو نعيم: ضعفه ابن المديني. وقال ابن سعيد: كان قليل الحديث يستضعف.
وقال ابن السكن: يروي عن أبيه، عن جده أحاديث فيها نظر. وقال الحاكم: حدث عن أبيه، عن جده نسخة فيها مناكير. وضعفه الساجي ويعقوب بن سفيان وابن البرقي، وقال ابن عبد البر: مجمع على ضعفه.
ثم قال: وذكره البخاري في (الأوسط) في فصل من مات من الخمسين ومائة إلى الستين:
قلت: في قول ابن عبد البر: (مجمع على ضعفه) نظر، لأن فيمن روى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري وهو من هو، وكما تقدم حسن البخاري حديثًا له ووصف مقولات أحمد فيه بأنه (كان يحمل عليه) ولم يذكره في (الضعفاء الصغير) ترجم له العقيلي في [ (الضعفاء الكبير) : 7/217، ترجمة 945] فقال:
كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، سمع أباهن وروى عنه مروان بن معاوية وإسماعيل بن أبي أويس ويحيى الأنصاري.
ولم يجرحه كعادته غالبًا فيمن يرى تجريحه.
وأما كثير بن زيد راوي حديث أبي هريرة فترجم له البخاري [المرجع السابق: ص216، ترجمة 943] فقال:
كثير بن زيد مولى الأسلميين المدني سمع سالم بن عبد الله والوليد بن رباح، روى عنه حماد بن زيد ووكيع. ولم يضف شيئًا.
وترجم له الرازي في [الجرح والتعديل- المرجع السابق-: ص150، 151، ترجمة 841] فكناه أبا محمد وقال: توفى في آخر زمان أبي جعفر وساق طائفة ممن روى عنهم ثم ممن رووا عنه، وأبرز هؤلاء حماد بن زيد والدراوردي.
ثم قال: أخبرنا أبو بكر بن أبي خيثمة فيما كتب إلى قال: سئل يحيى بن معين عن كثير بن زيد فقال: ليس بذاك القوي.
ثم قال: سئل أبي عن كثير بن زيد فقال: صالح ليس بالقوي يكتب حديثه. قال: سئل أبو زرعة عن كثير بن زيد فقال: هو صدوق فيه لين.
وترجم له ابن عدي في الكامل: [6/2087، 2089] فقال:
يكنى أبو محمد مدني هكذا ذكر الواقدي. حدثنا أحمد بن علي بن بحر، حدثنا عبد الله الدورقي، حدثنا يحيى بن معين قال: كثير بن زيد الأسلمي ليس به بأس.
حدثنا علان، حدثنا ابن أبي مريم سمعت يحيى بن معين قال: كثير بن زيد ثقة سمعت أحمد بن حفص يقول: سُئل أحمد بن حنبل –يعني وهو حاضر- عن التسمية في الوضوء فقال: لا أعلم فيه حديثًا يثبت أقوى شيء فيه حديث كثير بن زيد عن ربيع، وربيع رجل ليس بمعروف. وبعد أن أسند إليه طائفة من الأحاديث كعادته في تراجمه قال:
ولكثير بن زيد غير ما ذكرت من الحديث، ويروي ابن حازم وسفيان بن حمزة وسليمان بن بلال كل واحد منهم، عن كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نسخة، ويرويه عن ابن أبي حازم إبراهيم بن حمزة وأبو مصعب وابن كاسب وغيرهم، ويرويه عن سفيان بن حمزة إبراهيم بن المنذر وابن كاسب وغيرهما، ويروي عن سليمان بن بلال بن وهب فكل واحد منهما ينفرد بهذا الإسناد بنسخة، وربما اتفقوا في شيء منه، ولكثير بن زيد عن غير الوليد بن رباح أحاديث لم أنكرها ولم أر بحديثه بأسًا وأرجو أن لا بأس به.
وذكره الذهبي في [الميزان: 3/ 404، ترجمة 6938] ورمز بأن أبا داود والترمذي وابن ماجه أخرجوا له، ونقل كلام الرازي ونقل عن النسائي تضعيفه.
قلت لكن النسائي لم ينسبه بل اكتفى بقوله في [كتاب الضعفاء والمتروكين: ص206، ترجمة530] :
كثير بن زيد ضعيف:
ثم قال الذهبي: وروى ابن الدورقي عن يحيى: ليس به بأس. وروى ابن أبي مريم عن يحيى: ثقة. وقال ابن المديني: صالح وليس بالقوي، وأسند إليه ثلاثة أحاديث غمز فيها. وذكر ابن حجر في [تهذيب التهذيب: 8/413، 415، ترجمة 743] عند ترجمته له في جملة له من روى عنه مالك بن أنس والدراوردي وحماد بن زيد وآخرين من اللامعين.
ثم ساق كلام ابن معين فيه باختلاف الروايات عنه، ثم قال:
وقال ابن عمار الموصلي: ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: ليس بذاك الساقط وإلى الضعف ماهو. ثم ساق كلام أبي زرعة وأبي حاتم وابن عدي.
ثم قال: ذكره ابن حبان في (الثقات) . وقال ابن سعيد: توفي في خلافة أبي جعفر وكان كثير الحديث، وقال خليفة: توفي في آخر خلافة أبي جعفر وكانت وفاة أبي جعفر سنة 158.
ثم قال: وجزم ابن حبان بوفاته فيها. وقال أبو جعفر الطبري: وكثير بن زيد عندهم ممن لا يحتج بمثله.
قلت: لعل صاحب (المنار) لم يختلط عليه أمر الرجلين تقليدًا للمناوي فحسب بل أيضًا لابن حزم، فقد ذكر ابن حجر –المرجع السابق- أنه خلط بينهما أيضًا وتهجم عليهما وجرح الحديث نتيجة لهذا الخلط، وأحسب مردّ هذا الخلط إلى أن الجد الثالث لكثير بن عبد الله اسمه زيد، وابن حزم كثيرًا ما يتسرع، أما المناوي فلا يمكن اعتماده في الحديث إنما هو ناقل وهو إلى الفقه أقرب.
تعاضد الحديثين وربما أيضًا على ترجيحه توثيق كثير بن زيد، ولعل في نفسه –كما في نفسي- شيء من تجريحهم الشديد لكثير بن عبد الله، ويخيل إلى أن له موقفًا من قضية خلق القرآن ولعل ذلك ما جعل أحمد يحمل عليه، وجعل البخاري يشير إلى حمله عليه كما لو كان غير راضٍ عنه. والله أعلم. .
وقد يعارض على هذا بحديث عائشة في قصة بريرة وهو ((ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، فقضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق)) (1) . رواه الشيخان وغيرهما.
ويجاب بأن المراد بالشرط هنا حاصل المصدر، أعني المشروط لا المصدر الذي هو الاشتراط ولذلك قال:((ولو كان مائة شرط)) وآذن باشتراط الولاء لمكاتبي بريرة وهو موضع الإنكار كما يأتي قريبًا في بيان سبب هذا الحديث.
والمراد بما ليس في كتاب الله ما خالفه كما يؤخذ من سبب الحديث. وإلا كان جميع المسلمين مخالفين لهذا الحديث حتى الظاهرية لأنهم يجيزون في العقود شروطًا لا ذكر لها في كتاب الله تعالى، وليس في كتاب الله تعالى شروط لأنواع العقود فيكتفي بها ويقتصر عليها، وإنما الواجب أن لا يشترط أحد شرطًا يحل ما حرمه كتاب الله أو يحرم ما أحله، فذلك هو الذي يصدق عليه أنه ليس في كتاب الله إذ في كتاب الله ما يخالفه، وأمَّا اشتراط ما أباحه كتاب الله بالنص أو الاقتضاء فهو في كتاب الله تعالى.
(1) الحديث متفق عليه، ورواه البخاري أطرافًا في أكثر من موضع، وهذا لفظه بسنده في كتاب (الشروط) من [صحيحه: 3/177] : حدثنا إسماعيل، حدثنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قال: جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني فقالت: إن أحبوا أن أعدّها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فقالت: إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: خذيها فاشترطي لهم فإنما الولاء لمن أعتق، ففعلت عائشة ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط فقضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق.
وفي هذا الحديث بحث آخر وهو أنه ورد في مسألة دينية من العبادات وهي المكاتبة والعتق والولاء، وسبب الحديث بينته رواية عائشة في الصحيحين قالت: ((جاءتني بريرة وقالت: كاتبت أهلي على تسع أواقٍ في كل عام أوقية فأعينيني فقلت: إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فقالت: إني قد عرضت عليهم فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء، فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق، ففعلت عائشة ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فما بال رجال يشترطون
…
إلخ)) (1) .
(1) لحديث متفق عليه، ورواه البخاري أطرافًا في أكثر من موضع، وهذا لفظه بسنده في كتاب (الشروط) من [صحيحه: 3/177] : حدثنا إسماعيل، حدثنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قال:جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني فقالت: إن أحبوا أن أعدّها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فقالت: إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: خذيها فاشترطي لهم فإنما الولاء لمن أعتق، ففعلت عائشة ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط فقضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق.
فالواقعة في أمر ديني اشترط فيه شرط مخالف لحكم الله فكان لغوًا والأمور الدينية موقوفة على النص، وأما الأمور الدنيوية كالبيع والإجارة والشركات وغيرها من المعاملات الدنيوية فالأصل فيها عرف الناس وتراضيهم ما لم يخالف حكم الشرع في (تحليل حرام أو تحريم حلال) كما تقدم، ومن أدلة هذا الأصل بعد الآية التي نفسرها وما أيَّدناها به حديث ((أنتم أعلم بأمور دينكم)) رواه مسلم من حديث أنس وعائشة (1) . وحديث:((ما كان من أمر دينكم فإليَّ وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به)) (2) ، رواه احمد. لهذا نجد الإمام أحمد أكثر أئمة الفقه تصحيحًا للعقود والشروط على أنَّه أوسعهم رؤية للحديث وأشدهم استمساكًا به، فأبو حنيفة يقدِّم القياس الجليَّ على حديث الآحاد الصحيح وأحمد يقدِّم الحديث الضعيف على القياس.
ومن العقود التي تشدّد بعض الفقهاء في إبطال شروطها عقد النكاح، فترى الذين يجيزون الشروط في البيع وهو من المعاملات الدنيوية الموكولة على العرف لا يجيزون الشروط في عقد النكاح، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:((إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج)) ، رواه أحمد والشيخان في صحيحيهما وأصحاب السنن عن عقبة بن عامر (3) . وقد جوَّز أحمد بهذا الحديث أن تشترط المرأة في عقد النكاح أن لا يتزوج عليها وأن لا تنقل من بلدها أو من الدار، ويجيز لها فسخ النكاح إذا تزوج عليها وقد اشترطت عدم التزوج عليها كما يجيز لها الفسخ بغير ذلك من العيوب والتدليس (4) .
وأجاز اشتراط التسري في شراء الجارية وحينئذ لا تجبر على الخدم (5) . واشتراط أن يأخذ البائع الجارية يثمنها إذا أراد المشتري بيعها (6) . ولكن قال: لا يقربها وله فيها شرط، ومذهبه هذا في الشرط هو الموافق لسهولة الحنفية السمحة ورفع الحرج منها، ولم أر أحدًا من العلماء وفَّى موضوع العقود مؤيدًا بدلائل الكتاب والسنة وآثار السلف ووجوه الاعتبار في مدارك القياس إلا شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله (7)
(1) سيأتي تخريج الحديث في الفصل السادس.
(2)
سيأتي تخريج الحديث في الفصل السادس.
(3)
أخرجه الجماعة وغيرهم. انظر [المزي، تحفة الأشراف: 7/316، ح9953] :
(4)
الذي وقفنا عليه من كلام أحمد في هذا الشأن ما نقله أحمد في [فتح الباري: 9/189] في سياق عرضه لأقوال الصحابة والتابعين وأيمة الاجتهاد في تأويل الحديث الذي سبق تخريجه في التعليق السابق: وقال أحمد وجماعة: يجب الوفاء بالشرط مطلقًا. وانظر ابن قدامة في [المغني: 6/548، 550] .
(5)
لم نستطع تصور هذه المسألة ولم نقف على من تصورها لأن ملك الجارية يبيح لمالكها وطأها دون حاجة للاشتراك وبائعها لم يعد يملك عند بيعه لها شيئًا من أمرها والتسري لا يتأتى إلا بعد عقد البيع أي بعد انتقال أمرها نهائيًّا من البائع إلى المشتري فلا ندري أين يكون محل مثل هذا الشرط ولا ما الذي يدعوا إليه ولا كيف يمكن اعتباره لو وقع؟ ؟!.
(6)
الأصل في ذلك ما أخرجه مالك وغيره من اللفظ لمالك في [الموطأ: ص516، ح5] : عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أخبره أن عبد الله بن مسعود ابتاع جارية من امرأته زينب الثقفية واشترطت عليه أنك إن بعتها فهي لي بالثمن الذي تبيعها به. فسأل عبد الله بن مسعود عن ذلك عمر بن الخطاب، فقال عمر بن الخطاب: لا تقربها وفيها شرط لأحد. لكن عبد الرزاق أضاف في روايته جملة توضح كلام عمر إذ ذكر في [مصنفه: 8/56، ح 14291] : أن عبد الله بن مسعود (أراد أن يشتري من امرأته جارية يتسرى بها)
…
إلخ.
(7)
تقي الدين بن العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، المعروف بابن تيمية، ولد في (حران) في العاشر من ربيع الأول عام 661هـ من أسرة توارثت العلم صاغرًا عن كابر، وبعد أن حفظ القرآن عُني بدراسة الحديث وعلومه والتفسير والفقه وأصوله ثم المنطق والفلسفة وعلم الكلام والجبر والحساب والمقابلة والكيمياء والفلك وغيرها من العلوم التي كانت معروفة لعهده ومن نشأته عرف بتجرده من التقليد وابتغاء الدليل حيث كان مع من كان على خلاف ما كان عليه معاصروه من التقيد بالمذاهب والعكوف على نصوص أيمتها، فأحفظ ذلك عليه علماء عصره واستعدوا عليه الحكام، فجرحوه لديهم ونسبوا إله مقولات لم يقلها، وصوروه لهم مخالفًا للكتاب والسنة والإجماع، لا سيما الصوفية الذين كان ابن تيمية شديدًا عليهم متعقبًا لهم مفندًا أباطيلهم، مما أدى إلى سجنه، لكن سجنه كان خيرًا على العلم والمسلمين إذ أتاح له أن يفرغ للمزيد من الدراسات العلمية والتأليف، فأنتج كتبًا قيمة عز نظيرها في المكتبة الإسلامية.. ومن أبرزها:(مجموع الفتاوى الكبرى) و (منهاج السنة) و (القواعد النورانية) و (رائد العقل والنقل) إلى كثير غيرها، وانتقل إلى جوار ربه رحمه الله في ذي القعدة سنة 728هـ بعد مرض دام بضعا وعشرين يومًا وتخرج عنه خلق كثير.. من أبرزهم نفعًا للإسلام والعلم: الذهبي وابن قيم الجوزية رحمه الله ورضوانه عليهم جميعًا.
وقال محمد الطاهر بن عاشور في [التحرير والتنوير: 5/74، 76] :
والعقود جمع عقد- بفتح العين- وهو الالتزام الواقع بين جانبين في فعلٍ ما، وحقيقته أن العقد هو ربط الحبل العروة ونحوها، وشد الحبل نفسه أيضًا عقد، ثم استعمل في الالتزام فغلب استعماله حتى صار حقيقة عرفية.
ثم قال:
فالعقد في الأصل مصدر سمِّي به ما يعقد، وأطلق مجازًا على الالتزام من الجانبين لشيء ومقابله، والموضع المشدود من الحبل يسمى عقدة، وأطلق العقد أيضًا على الشيء المعقود إطلاقًا للمصدر على المفعول، فالعهود عقود والتحالف من العقود والتبايع والمؤاجرة ونحوها من العقود وهي المراد هنا، ودخل في ذلك الأحكام التي شرعها الله لنا لأنها كالعقود إذا قد التزمها الداخل في الإسلام ضمنًا وفيها عهد الله الذي أخذه على الناس أن يعبدوه ولا يشركون به.
ويقع العقد في اصطلاح الفقهاء على إنشاء تسليم أو تحمل من جانبين، فقد يكون إنشاء تسليم كالبيع بثمن ناضٍ، وقد يكون إنشاء تحمل كالإجارة بثمن ناضٍ، وكالتسليم والقراض، وقد يكون إنشاء تحمل من جانبين كالنكاح إذ المهر لم يعتبر عوضًا وإنما العوض هو تحمل كل من الزوجين حقوقًا للآخر، والعقود كلها تحتاج إلى إيجاب وقبول، والأمر بالإيفاء بالعقود يدل على وجوب ذلك فيتعين أن إيفاء العاقد بعقده حق عليه فلذلك يقضي به عليه لأنَّ العقود شرعت لسدّ حاجات الأمة، فهي من قسم الحاجي فيكون إتمامها حاجيًا لأنَّ مكمل كل قسم من أقسام المناسب الثلاثة يلحق بمكمله إن ضروريًّا أو حاجيًّا أو تحسينيًّا وفي الحديث:((المسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا)) (1) .
فالعقود التي اعتبر الشرع في إنعقادها مجرد الصيغة تلزم بإتمام الصيغة أو ما يقوم مقامها كالنكاح والبيع.
(1) أخرجه البخاري تعليقًا فقال في [صحيحه: 3/52] : وقال النبي صلى الله عليه وسلم: المسلمون عند شروطهم.
والمراد بما يقوم مقام الصيغة نحو الإشارة للأبكم ونحو المعاطاة في البيوع.
والعقود التي اعتبرها الشرع في انعقادها الشروع فيها بعد الصيغة تلزم بالشروع كالجعل والقراض.
وتمييز جزئيات أحد النوعين من جزئيات الآخر مجال الاجتهاد.
وبعد أن نقل كلامًا للقرافي سيأتي في موضعه قال:
واعلم أن العقد قد ينعقد على اشتراط عدم اللزوم كبيع الخيار، فضبطه الفقهاء بمدة يحتاج على مثلها عادة في اختيار المبيع والتشاور في شأنه.
ومن العقود المأمور بالوفاء بها عقود المصالحات والهادنات في الحروب والتعاقد على نص المظلوم وكلُّ تعاقد وقع على غير أمر حرام، وقد أغنت أحكام الإسلام عن التعاقد في هذا إذا اصبح المسلمون كالجسد الواحد، فبقى الأمر متعلقًا بالإيفاء بالعقود المنعقدة في الجاهلية على نصر المظلوم ونحوه كحلف الفضول، وفي الحديث:((أوفوا بعقود الجاهلية ولا تحدثوا عقدًا في الإسلام)) (1) ، وبقى أيضًا ما تعاقد عليه المسلمون والمشركون كصلح الحديبية بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش، وقد رُوي ((أن فرات بن حيان العجلي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلف الجاهلية فقال: لعلك تسأل عن حلف لجيم وتيم قال: نعم، قال: لا يزيده الإسلام إلا شدَّة)) .
قلت: - القائل محمد الطاهر بن عاشور-:
وهذا من أعظم ما عُرف به الإسلام بينهم في الوفاء لغير من يعتدي عليه.
(1) قال أحمد في [المسند، تحقيق شاكر، المجلد 5، ج10، ص167، 168، ح 6692] : حدثنا يزيد، اخبرنا محمد بن إسحاق، عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو. وساق الحديث بطوله وفيه: أنه ما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة ولا حلف في الإسلام.. الحديث. ثم قال [المجلد 6، ج11، ص132، ح 6917] : حدثنا موسى بن داود، حدثنا ابن أبي الزناد، عبد الرحمن بن الحرث، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح يقول: كل حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة ولا حلف في الإسلام. ثم قال [نفس المرجع: ص 140، 141، ح 6933] : حدثنا يزيد، أخبرنا حسين المعلم عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. وساق الحديث طويلا يشبه في ألفاظه الحديث الأول في آخره: وأوفوا بحلف الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة ولا تحدثوا حلفًا في الإسلام ثم قال [ص174، ح6992] : حدثنا عبد الوهاب بن عطاء قال: حدثنا حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: لما فتحت مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:كفوا السلاح. فذكر نحو حديث يحيى ويزيد وقال فيه: وأوفوا بحلف الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة ولا تحدثوا حلفًا في الإسلام. ثم قال [ص187، 188، ح 7012] : حدثنا إبراهيم بن أبي العباس وحسين بن محمد قالا: حدثنا عبد الرحمن، عن أبي الزناد، عن عبد الرحمن بن الحرث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده وساق حديثًا فيه طول. وفيه أيها الناس كل حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة ولا حلف في الإسلام. وقال الترمذي في [الجامع الصحيح: 4/164، ح 1585] : حدثنا حميد بن مسعدة، حدثنا، يزيد بن زريع، حدثنا حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته:أوفوا بحلف الجاهلية فإنه لا يزيده- يعني الإسلام- إلا شدة ولا تحدثوا حلفًا في الإسلام. وتعقبه بقوله: وفي الباب عن عبد الرحمن بن عوف وأم سلمة وجبير بن مطعم وأبي هريرة وابن عباس وقيس بن عاصم. ثم قال: هذا حديث حسن صحيح. وعن أبي عباس وجبير بن مطعم- رضي الله عنهم روايات في هذا المعنى، انظر:[مسند أحمد، بتحقيق شاكر: المجلد2، ج4، ص 325، ح2911، والمجلد3، ج5، ص19، ح3046] . و [مسلم في صحيحه: 4/1961، ح2530] . و [صحيح ابن حبان علاء الدين الفارسي، الإحسان بترتيب صحيح ابن حيان: 6/281، 282، ح4355 و 4356 و4357] . و [البغوي في شرح السنة: 10/202، 203، ح2542] . و [البيهقي السنن الكبرى: 6/262. و8/229] .
الفصل الرابع
كل ما أفهم فهو ملزم
قال البخاري في [صحيحه: 6/175] في كتاب الطلاق (باب الإشارة في الطلاق والأمور) :
قال ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يعذَّب الله بدمع العين ولكن يعذّب بهذا وأشار إلى لسانه)) .
وقال كعب بن مالك: ((أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن خذ النصف)) .
وقالت أسماء صلَّى النبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف فقلت لعائشة: ما شأن الناس؟ فأومأت برأسها إلى الشمس فقلت: آية؟ فأومأت برأسها- وهي تصلي- أن نعم.
وقال أنس: ((أومأ النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى أبي بكر أن يتقدم)) .
((وقال ابن عباس: أومأ النبي صلى الله عليه وسلم بيده لا حرج)) .
وقال أبو قتادة: قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصيد للمُحرم: ((أحد منكم أمره أن يحمل عليها؟ وأشار إليها، قالوا: لا، قال: فأكلوه)) (1) .
حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، حدثنا إبراهيم بن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:((طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعيره وكان كلما أتى على الركن أشار إليه)) .
وقالت زينب: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وهذه، وعقد إصبعين)) .
حدثنا مسدَّد، حدثنا بشر بن مفضل، حدثنا سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ((في الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم قائم يصلي يسأل الله خيرًا إلا أعطاه، وقال بيده ووضع أُنمله على بطن الوسطى والخنصر قلنا: يُزهدها)) .
(1) انظر في تخريج هذه الأحاديث عند البخاري [ابن حجر، تغليق التعليق: 5/472، 474 –وفتح الباري: 9/384، 386] وجلها من عدة طرق.
قال-يعني مسدّد-: وقال الأويسي: حدثنا إبراهيم بن سعد، عن شعبة بن الحجاج، عن هشام بن زيد عن أنس بن مالك قال:((عدا يهودي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جارية، فأخذ أوضاحًا كانت عليها ورضخ رأسها، فأتى بها أهلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في آخر رمق وقد أطمطت، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتلك؟ فلان؟ لغير الذي قتلها، فأشارت برأسها أن لا، قال: فقال لرجل آخر غير الذي قتلها، فأشارت أن لا، فقال: ففلان، لقاتلها، فأشارت أن نعم، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضخ رأسه بين حجرين)) .
حدثني قبيصة، حدثنا سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((الفتنة من هنا وأشار إلى المشرق)) .
حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن أبي إسحاق الشيباني، عن عبد الله بن أبي أوفى، قال كنا في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما غربت الشمس قال لرجل: انزل فاجدح لي. قال: يا رسول الله لو أمسيت، ثم قال: انزل فاجدح لي، فقال: يا رسول الله لو أمسيت، إن عليك نهارًا، ثم قال: انزل فاجدح لي، فنزل فجدح له في الثالثة، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بيده إلى المشرق فقال:((إذا رأيتم الليل قد أقبل من ها هنا فقد أفطر الصائم)) .
حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا يزيد بن زريع، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يمنعن أحدًا منكم نداء بلال- أو قال: أذانه- من سحوره فإنما ينادي- أو قال: يؤذن - ليرجع قائمكم وليس أن يقول- يعني الصبح أو الفجر- وأظهر- يريد يديه- ثم مدّ إحداهما من الأخرى)) .
وقال الليث: حدثني جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز، سمعت أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من لدن ثدييهما إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق شيئًا إلا مادت على جلده حتى تجن بنانه وتعفوا أثره، وأما البخيل فلا يريد ينفق إلا لزمت كل حلقة موضعها، فهو يوسعها ولا تتسع ويشير بأصبعه إلى حلقه)) .
قال ابن حجر في [فتح الباري: 9/384، 386] تعقيبًا على هذه الأحاديث: قال ابن بطال: ذهب الجمهور إلى أن الإشارة إذا كانت مفهمة تتنزل منزلة النطق، وخالفه الحنفية في بعض ذلك، ولعل البخاري ردّ عليهم بهذه الأحاديث التي جعل فيها النبي صلى الله عليه وسلم الإشارة قائمة مقام النطق.
وإذا جازت الإشارة في أحكام مختلفة في الديانة فهي لمن لا يمكنه النطق أولى.
وقال ابن منير: أراد البخاري أن الإشارة بالطلاق وغيره من الأخرس وغيره التي يُفهم منها الأصل والعدد نافذ- كاللفظ، كذا ولعل صوابه: نافذة كاللفظ-. ويظهر لي أن البخاري أورد هذه الترجمة وأحاديثها توطئةً لما يذكره من البحث في الباب الذي يليه مع من فرق بين لِعان الأخرس وطلاقه والله أعلم.
وقد اختلف العلماء في الإشارة المفهمة، فأما في حقوق الله فقالوا: يكفي ولو من القادر على النطق، وأما في حقوق الآدميين كالعقود والإقرار والوصية ونحو ذلك؟ واختلف العلماء فيمن اعتقل لسانه ثالثهما عن أبي حنيفة إن كان مأيوسًا من نطقه. وعن بعض الحنابلة إن اتصل بالموت. ورجحه الطحاوي. وعن الأوزاعي إن سبقه كلام. ونقل عن مكحول إن قال: فلان حرّ ثم أصمت، فقيل له: وفلان؟ فأومأ صحّ، وأما القادر على النطق فال تقوم إشارته مقام نطقه عند الأكثرين واختلف هل يقوم منه – كذا ولعل صوابه: هل تقوم منه بمثناة فوقية- مقام النية كما لو طلق امرأته فقيل له: كم طلقة؟ فأشار بأصبعه.
قلت: لا نرى مسوغًا لهذا الاختلاف لما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من قصة اليهودي الذي رضخ رأس الجارية – وسنذكرها بأسانيدهم عندهم بعد قليل- إذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينتظر إقرار اليهودي حتى وإن أقر كما جاء في بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم اعتمد إشارة الجارية القتيل وهي تحتضر، فأمر بالاقتصاص من اليهودي بنفس طريقة عدوانه، وفعله صلى الله عليه وسلم هذا التشريع ثابت وصريح باعتماد الإشارة، إذ أفهمت ما أريد بها إفهامه بمثل ما كان سيفهم النطق لو كانت قادرة عليه، وهذا التشريع أصل لا نرى وجهًا للاختلاف فيه، لاعتماد كل وسيلة من وسائل التعبير أفهمت.
المقصود التعبير عنه إفهامًا واضحًا يماثل إفهام النطق أو الكتابة مثل الإشارات البرقية والإشارات اللاسلكية الأخرى القابلة لأن تترجم ترجمة يطمأن إليها إلى عبارات أو كلمات، وسنسوق أدلة أخرى تثبت ما رجحناه بعد قصة اليهودي والجارية.
وهذا الحديث أخرجه أحمد في مسنده، فقال: انظر الساعاتي: [الفتح الرباني: 16/34، 35] :
حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك:((أن رجلًا من اليهود قتل جارية من الأنصار على حُلي لها، ثم ألقاها في قليب، ورضخ رأسها بالحجارة، فأُخِذ فأُتِي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر به أن يُرجم حتى يموت، فرجم حتى مات)) .
حدثنا يزيد، أخبرنا شعبة، عن هشام بن يزيد بن أنس، عن أنس بن مالك:((أن جارية خرجت عليها أوضاح، فأخذها يهودي فرضخ رأسها وأخذ ما عليها، فأتي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها رمق، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتلك؟ فلان؟ فقالت برأسها: لا، فقال: فلان؟ فقالت برأسها: لا، فقال: فلان اليهودي؟ فقالت برأسها: نعم، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضخ رأسه بين حجرين)) .
حدثنا يزيد بن هارون، اخبرنا همام عن قتادة، عن انس، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل الطريق الثانية، إلا أن قتادة قال في حديثه: فاعترف اليهودي.
وقال البخاري في [صحيحه: 3/89] :
حدثنا موسى، حدثنا همام، عن قتادة، عن أنس-رضي الله عنه ((أن يهوديًّا رضَّ رأس جارية بين حجرين، قيل من فعل هذا بك؟ أفلان؟ أفلا ن؟ حتى سمَّي اليهودي فأومأت برأسها، فأُخِذ اليهودي فاعترف، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرض رأسه بين حجرين)) .
ثم قال [ص187، 188] /
حدثنا ابن أبي عباد، حدثنا همام، عن قتادة، أن أنس –رضي الله عنه ((أنَّ يهوديًّا رضّ رأس جارية بين حجرين، فقيل لها: من فعل بك؟ أفلان؟ أفلان؟ حتَّى سُمِّي اليهودي فجيء به فلم يزل حتى اعترف، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فرض رأسه بالحجارة)) .
ثم قال: [8/37] :
حدثنا محمد قال: أخبرنا عبد الله بن إدريس، عن شعبة، عن هشام، بن زيد بن أنس، عن جده أنس بن مالك، قال:((خرجت جارية عليها أوضاح بالمدينة، قال: فرماها يهودي بحجر. قال: فجيء بها على النبي صلى الله عليه وسلم وبها رمق، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلان قتلك؟ فرفعت رأسها، فأعاد عليها قال: قال: فلان قتلك؟ فرفعت رأسها، فقال لها في الثالثة: فلان قتلك؟ فخفضت رأسها، فدعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله بين الحجرين)) .
ثم قال [ص38] :
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن هشام بن زيد، عن انس- رضي الله عنه ((أن يهوديًّا قتل جارية على أوضاح لها قتلها بحجر، فجيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبها رمق، فقال، فقال: أقتلك؟ فأشارت برأسها أن لا، ثم قال الثانية، فأشارت برأسها أن لا، ثم سألها الثالثة، فأشارت برأسها أن نعم، فقتله النبي صلى الله عليه وسلم بحجرين)) .
قال مسلم في [صحيحه: 3/1299، 1300، ح1672] :
حدثنا محمد بن المثنى، ومحمد بن بشار – واللفظ لابن المثنى- قالا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن هشام بن زيد، عن أنس بن مالك، ((أن يهوديًّا قتل جارية على أوضاح لها، فقتلها بحجر، قال: فجيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبها رمق، فقال لها: أقتلك فلان؟ فأشارت برأسها أن لا، ثم قال لها الثانية، فأشارت برأسها أن لا، ثم سألها الثالثة، فقالت: نعم، وأشارت برأسها، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين)) .
وحدثني يحيى بن حبيب الحارثي حدثنا خالد- يعني ابن الحارث-.
وحدثنا أبو كريب، حدثنا أبان بن أويس.
كلاهما عن شعبة بهذا الإسناد نحوه، وفي حديث أبي أويس فرضخ رأسه بين حجرين.
حدثنا عبد بن حميد، حدثنا عبد الرازق، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس:((أن رجلا من اليهود قتل جارية من الأنصار على حليّ لها ثم ألقاها في القليب، ورضخ رأسها بالحجارة، فأخذ فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر به أن يرجم حتى يموت، فرجم حتى مات)) .
وحدثني إسحاق بن منصور، اخبرنا محمد بن أبي بكر، أخبرنا ابن جريج، أخبرني معمر، عن أيوب بهذا الإسناد مثله.
وحدثنا هداب بن خالد، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن أنس بن مالك، ((أن جارية وجد رأسها قد رضّ بين حجرين فسألوها: من صنع هذا بك؟ فلان؟ فلان؟ حتى ذكروا يهوديًّا فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي فأقر، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بالحجارة)) .
قال أبو داود في [سننه: 4/180، ح4529] :
حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا ابن إدريس، عن شعبة، عن هشام بن زيد، عن جده أنس، ((أن جارية كان عليها أوضاح لها، فرضخ رأسها يهودي بحجر، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها رمق، فقال لها: من قتلك؟ فلان قتلك؟ فقالت: لا برأسها، قال: فلان قتلك؟ قالت: لا برأسها، قال: فلان قتلك؟ قالت: نعم برأسها، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل بين حجرين)) .
ثم قال [ص182، ح 4535] :
حدثنا محمد بن كثير، حدثنا همام عن قتادة، عن أنس، ((أن جارية وجدت قد رض رأسها بين حجرين، فقيل لها: من فعل بك هذا؟ أفلان؟ أفلان؟ حتى سمّى اليهودي، فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي فاعترف، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بالحجارة)) .
وقال الترمذي في [الجامع الصحيح: 4/16، ح 1294] :
حدثنا علي بن حجر، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا همام، عن قتادة، عن أنس قال:((خرجت جارية عليها أوضاح فأخذها يهودي فرضخ رأسها بحجر وأخذ ما عليها من الحليّ، قال: فأدركت وبها رمق، فأُتي بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من قتلك؟ أفلان؟ قالت برأسها: لا، قال: ففلان؟ حتى سمّى اليهودي، فقالت برأسها أي نعم، قال: فأُخذ فاعترف، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضخ رأسه بين حجرين)) .
وتعقبه بقوله: هذا حديث حسن، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، وهو قول أحمد وإسحاق، وقال بعض أهل العلم:(لا قود إلا بالسيف) .
قال النسائي في [سننه (المجتبي: 8/22] :
أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنبأنا عبدة، عن سعيد، عن قتادة عن أنس – رضي الله عنه ((أن يهوديًّا قتل جارية على أوضاح لها، فأقاده رسول الله صلى الله عليه وسلم بها)) .
أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك، قال: حدثنا أبو هشام، قال: حدثنا أبان بن يزيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك ((أنَّ يهوديًّا أخذ أوضاحًا من جارية، ثم رضخ رأسها بين حجرين، فأدركوها وبها رمق، فجعلوا يتبعون بها الناس هو هذا، هو هذا، قالت: نعم، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضخ رأسه بن حجرين)) .
أخبرنا علي بن حجر قال: أنبأنا يزيد بن هارون، عن هَّمام، عن قتادة، عن أنس بن مالك، قال:((خرجت جارية عليها أوضاح، فأخذها يهودي فرضخ رأسها وأخذ ما عليها من الحلي، فأدركت وبها رمق، فأتي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من قتلك؟ فلان؟ قالت برأسها: لا، قال: فلان؟ قال حتى سمَّى اليهودي، قالت برأسها: نعم، فأخذ فاعترف، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضخ رأسه بين حجرين)) .
قال ابن ماجه في [سننه: 2/889، ح 2665] :
حدثنا علي بن محمد، حدثنا وكيع، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن أنس بن مالك، ((أن يهوديًّا رضخ رأس امرأة بين حجريها فقتلها، فرضخ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه بين حجرين)) .
2666-
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر.
وحدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا النَّضر بن شميل قالا: حدثنا بن شعبة، عن هشام بن زيد، عن أنس بن مالك، ((أنَّ يهوديًّا قتل جارية على أوضاح لها، فقال لها – هكذا في النسخة المطبوعة ولعل صوابه كما في الروايات الأخرى السَّالفة: فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقتلك فلان؟ فأشارت برأسها أنْ لا، ثم سألها الثانية، فأشارت برأسها أنْ لا، ثم سألها الثالثة، فأشارت برأسها أنْ نعم، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين)) .
قال ابن حبان في – صحيحه – علاء الدين الفارسي [الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان: 7/395، ح 5960] :
أخبرنا زكريا بن يحيى، عن عبد الرحمن الساجي، قال: حدثنا محمد بن بشّار، ومحمد بن المثنَّى قالا: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، عن هشام بن زيد بن أنس، عن أنس بن مالك:((أنَّ يهوديًا قتل جارية على أوضاح لها، فقتلها بحجر. قال: فجيء بها وبها رمق، قال لها- ولعل صوابه: قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقتلك فلان؟ فأشارت برأسها أنْ لا، ثم قال لها الثانية، فأشارت برأسها أنْ لا، ثم سألها الثالثة فقالت: نعم وأشارت برأسها، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين)) .
5961-
أخبرنا الحسن بن سفيان قال: حدثنا هدبة بن خالد القيسى قال: حدثنا همّام بن يحيى قال: حدثنا قتادة، عن أنس بن مالك ((أنَّ جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين، فقالوا: من فعل هذا بك؟ فلان وفلان؟ حتى ذكر رجل يهودي فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي فأقرّ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بالحجارة)) .
وقال ابن أبي شيبة في [الكتاب المصنف: 9/295، 296، ح 7528] :
حدثنا أبو عبد الرحمن بقي بن مخلد، قال: حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي شيبة العبسي قال: حدثنا علي بن مسهر، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس، ((أن يهوديًّا رضخ رأس امرأة بحجر، فرضخ النبي صلى الله عليه وسلم رأسه بين حجرين)) .
قلت: قصة اليهودي والجارية هذه رواها عن أنس حفيده هشام بن زيد، وقتادة، وأبو قلابة ورواه عن قتادة هّمام بن يحيى، وأبان بن يزيد، وانفرد همّام بينهم برواية اعتراف اليهودي، أما الباقون فتفهم من رواياتهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وثّق إشارة الجارية، فأمر بقتل اليهودي، بمثل ما قتلها به، ورواة الحديث جميعًا موثقون في الأغلب، وما تحدث به البعض في هذا أو ذاك منهم، لا يكاد يلتفت إليه عدا همّام، فمع أن الجماعة أخرجوا له – وهذا بحسبه توثيقًا – فإنَّ الحديث فيه لا يمكن إغفاله لأنه لم يكن كغيره من أحاديثهم في الآخرين مجرد كلام غير مستند إلى علَّة أو سبب وإنما كان جانب منه معلّلا، وعلى هذا الجانب يمكن حمل ما ليس بمعلَّل، فقد غمزوه في حفظه وكان يحيى بن سعيد شديدًا عليه، لكن جرحوا رأي يحيى فيه لأن همّامًا أمسك عن تعديل يحيى في شهادة شهد بها في حداثته، ولو ثبتت هذه الجرحة لكانت حرية بأن تريب يحيى في أحكامه وهو عندنا أجل من ذلك وأورع من أن يحكم في الآخرين حادثًا شخصيًّا وإن ثبت.
ثم إن ابن حجر نقل في [تهذيب التهذيب: 11/67، 70، ترجمة 108] عن محمد بن المنهال الضرير قوله:
سمعت يزيد بن زريع يقول: همّام حفظه رديء وكتابه صالح. وقال ابن سعد: كان ثقة وربما غلط في الحديث. ونقل عن ابن أبي حاتم قوله: سئل أبي عن همام وأبان – يعني ابن يزيد-: من تقدّم منهما؟ قال: همَّام أحبُّ إلي ما حدث من كتابه، وإذا حدث من حفظه فهما متقاربان في الحفظ والغلط. وسألت أبي عن همام فقال: ثقة، صدوق، في حفظه شيء، وهو أحب إلي من حماد بن سلمة وأبان العطار في قتادة [انظر الرازي (الجرح والتعديل) : 9/107، 109، ترجمة 457] .
ثم قال:
وقال حسن بن علي الحلواني: سمعت عفّان يقول: كان همّام لا يكاد يرجع إلى كتابه ولا ينظر فيه، وكان لا يخالف فلا يرجع إلى كتابه، ثم رجع بعد فنظر في كتبه فقال: يا عفان كنا نخطئ كثيرًا فنستغفر الله تعالى.
وتعقبه ابن حجر بقوله: وهذا يقتضي أنَّ حديث همام بآخرة أصح ممَّن سمع منه قديمًا، وقد نص على ذلك أحمد بن حنبل، وقال أبو بكر البرديجي: همّام صدوق يكتب حديثه ولا يحتج به.
ثم قال:
وقال الساجي: صدوق سيء الحفظ، ما حدث من كتابه فهو صالح وما حدث من حفظه فليس بشيء.
قلت: ومع ما يفهم من كلام بعضهم عن أنَّ أباد بن يزيد يغمز أيضًا بسوء الحفظ وقد يقارن بهمّام في ذلك، فإن هذا الغمز لم تتعدد مصادره كما تعددت في همام، وقد زعم الكديمي أن القطان لم يكن يروي عنه، لكن الكديمي ليس بمعتمد كما قال ابن حجر في [تهذيب التهذيب: ج1 عند ترجمته لأبان، ص110، 111، ترجمة 175] : بل إنَّ ابن معين ذكر أنَّ القطان كان يروي عنه، وابن معين هو المعتمد.
أما أبو قلابة فهو تابعي من الطبقة الثانية وما من أحد غمز فيه بشيء، بل أجمعوا على توقيره وتبجيله [انظر ابن حجر (تهذيب التهذيب) . 5/223، 224، ترجمة 385](عبد الله بن زيد أبو قلابة) .
واتَّفاق أبي قلابة وهشام بن زيد بن أنس وأبان بن يزيد العطّار على خلاف ما روه همّام أو – على الأقل – على عدم ذكر ما رواه من اعتراف اليهودي وما غمزوا به همَّامًا – ونقلناه آنفًا – من سوء الحفظ ومن اعترافه بذلك حين رجع إلى كتابه أمر أن يحملان على الاشتباه في هذا الذي انفرد به همّام من دعوى الاعتراف مع الملاحظة أنَّ أبان العطَّار روى عن قتادة مثل همام وقد يقال إنَّ توثيق جمهور النقد لهمَّام وإنَّ الجماعة أخرجوا له يضعان زيادة همّام في نطاق (الإدراج) وهذا صحيح لولا أنَّ عددا من الذين وثَّقوه تحفظوا من سوء حفظه وأنَّ يحيى القطان كان يغمز في حديثه كافة وهذا مما يمنع الاطمئنان إلى اعتبار زيادته (إدراجًا) من ثقة.
على أننا لو اعتبرناها (إدراجًا) لما أوهى ذلك احتجاجنا بهذا الحديث على أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتبر الإشارة وسيلة تعبير موثقة ينبني عليها الحكم ذلك بأنَّها إن لم تكن في قصة الجارية واليهودي وثيقة إدانة فهي – بلا ريب – وثيقة اتهام ولسنا بصدد الاحتجاج لاعتبار اعتراف الجاني ضروريًّا أم غير ضروري في إدانته فهذا ليس من مجالنا وإنَّما نحن بصدد الاحتجاج لاعتبار الإشارة كغيرها من وسائل الإفهام غير النطق أداة توثيق، وهذا حسبنا من الحديث الشريف.
وقال العيني في [عمدة القاري: 20/884، 885] معقبًا على ما سبق أنْ نقلناه عن البخاري وترجم له (باب الإشارة في الطَّلاق والأمور) :
قال المهلّب: إذا فهمت يحكم بها، وأوكد ما أوتي به من الإشارة ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم في أمر السوداء حين قال لها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء فقال: أعتقها فإنها مؤمنة. فأجاز الإسلام بالإشارة الذي هو أصل الديانة، وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك، فيجب أن تكون الإشارة عامة في سائر الديانات وهو قول عامة الفقهاء. وقال مالك: الأخرس إذا أشار بالطَّلاق يلزمه، وقال الشافعي في الرجل يمرض فيختل لسانه فهو كالأخرس في الطّلاق والرجعة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: أن كانت إشارته تعرف في طلاقه ونكاحه وبيعه فهو جائز عليه وإن كان يشك فيه فهو باطل. وقال: ليس ذلك بقياس إنما هو الاستحسان، والقياس في هذا كله باطل لأنّه لا يتكلَّم ولا تعقل إشارته. وقال ابن المنذر: وفي ذلك إقرار من أبي حنيفة أنه حكم بالباطل لأن القياس عنده حقٌّ، فإذا حكم بضدِّه وهو الاستحسان فإنَّه حكم بضدِّ الحقّ، وفي إظهار القول بالاستحسان وهو ضد القياس دفع منه للقياس الذي هو عنده حق. وتعقبه العيني بقوله: وقول أبي حنفية: القياس، فهذا باطل، هل يستلزم بطلان الأقيسة كلِّها؟ ! وليس الاستحسان ضد القياس بل هو نوع منه لأنَّ القياس على نوعين: جليّ وخفي، والاستحسان قياس خفيّ.
ثم قال:
وقال أصحابنا: إشارة الأخرس وكتابته كالبيان باللسان فيلزمه الأحكام بالإشارة والكتابة حتى يجوز نكاحه وطلاقه وعتقه وبيعه وشراؤه وغير ذلك من الأحكام، بخلاف معتقل اللسان – يعني الذي حبس لسانه – فإنَّ إشارته غير معتبر لأن الإشارة لا تنبئ عن المراد إلا إذا طالت وصارت معهودة كالأخرس.
ثم قال:
وفي (المحيط) ولو أشار بيده إلى امرأة وقال: (زينب) أنت طالق، فإذا (عمرة) طلقت (عمرة) لأنه أشار وسمَّى فالعبرة للإشارة لا للتَّسْمية.
أما الحديث الذي عرض له العيني فيما نقلناه عنه آنفًا من قوله: (وأوكد ما أتي به من الإشارة ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم في السوداء حين قال لها: ((أين الله؟ فأشارت إلى السماء فقال: أعتقها فإنها مؤمنة))
…
إلخ) .
فأخرجه مالك وأحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والبيهقي.
قال مالك في [الموطأ: ص666، ح8] :
عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ((أنَّ رجلًا من الأنصار جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية له سوداء، فقال، يا رسول الله، إنَّ علي رقبة مؤمنة فإن كنت تراها مؤمنة أعتقتها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت: نعم، قال: أتشهدين أنَّ محمَّدًا رسول الله؟ قالت: نعم، قال: أتوقنين بالبعث بعد الموت؟ قالت: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعتقها)) .
قال ابن عبد البر في [التمهيد: 9/113، 115] .
هكذا روى يحيى هذا الحديث فجوّد لفظه، ورواه ابن بكير وابن القاسم بإسناده مثله إلا أنهما لم يذكرا ((فإنْ كنت تراها مؤمنة)) قالا:((فقال: يا رسول الله عليَّ رقبة مؤمنة أفأعتق هذه؟)) .
ورواه القعنبي بإسناده مثله وحذف منه ((أنَّ عليَّ رقبة مؤمنة)) . وقال: ((إنَّ رجلًا من الأنصار أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية له سوداء قال: يا رسول الله أعتقها؟ قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشهدين؟)) وذكر الحديث.
ثم قال:
ورواه ابن وهب، عن يونس بن يزيد ومالك بن أنس، عن ابن شهاب عن عبيد الله ((أنَّ رجلًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية له سوداء فقال: يا رسول الله إنَّ علي رقبة مؤمنة أفأعتق هذه؟)) وساق الحديث إلى آخره مثل رواية ابن القاسم وابن بكير سواء لم يقل: ((فإنْ كنت تراها مؤمنة أعتقها)) .
ولم يختلف الموطأ في إرسال هذا الحديث، ورواه الحسين بن الوليد، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ حديث الموطأ سواء وجعله متصلًا عن أبي هريرة مسندًا، ورواه الحسين هذا أيضًا عن المسعودي، عن عون بن عبد الله بن عتبة، عن عبيد الله بن عتبة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله إلا أنه زاد في حديث المسعودي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أعتقها فإنها مؤمنة)) وليس في الموطأ ((فإنها مؤمنة)) .
وهذا الحديث وإن كان ظاهره الانقطاع في رواية مالك فإنَّه محمول على الاتَّصال للقاء عبيد الله جماعة من الصحابة.
وقد رواه معمر عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن رجل من الأنصار ((أنه جاء بأمة له سوداء فقال: يا رسول الله إن علي رقبة مؤمنة فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقها!)) وساق الحديث بمثل رواية يحيى إلى آخرها ورواية معمر ظاهرها الاتصال.
وروي هذا الحديث عن عبد الله، عون بن عبد الله أخوه فجعله عن أبي هريرة وخالف في لفظه ومعناه.
حدثني أحمد بن قاسم، عن عبد الرحمن قال: حدثنا قاسم بن إصبغ قال: حدثنا الحرث بن أبي أسامة قال: حدثنا عاصم بن علي.
وحدثنا عبد الواحد بن سفيان قال: حدثنا قاسم بن إصبغ قال: حدثنا أبو بكر بن العوام قال: حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا المسعودي.
عن عون بن عبد الله، عن عبيد الله بن عتبة، عن أبي هريرة قال:((جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية أعجمية فقال: يا رسول الله إنَّ عليَّ رقبة مؤمنة أفأعتق هذه؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ فأشارت إلى السماء فقال لها: فمن أنا؟ فأشارت إليه وإلى السماء أي أنت رسول الله قال: أعتقها فإنها مؤمنة)) .
وهذا المعنى رواه مالك عن هلال بن أسامة.
قلت: سنسوق حديث هلال بن أسامة بعد ذكر طرق حديث الجارية السَّوداء هذا. وقال أحمد في [مسنده: 2/291] :
حدثنا يزيد، أنبأنا المسعودي عن عون، عن أخيه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي هريرة ((أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية سوداء أعجمية فقال: يا رسول الله إن علي عتق رقبة مؤمنة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ فأشارت إلى السماء بإصبعها السبابة فقال لها: من أنا؟ فأشارت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى السماء أي أنت رسول الله فقال: إعتقها)) .
وتعقبه أحمد شاكر في تحقيقه للمسند [المجلد 8، ج15، ص31، 32، ح7193] بقوله:
إسناده صحيح، ونقل عن الهيثمي قوله في [مجمع الزوائد: 1/23، 24] ، رواه أحمد والبزار والطبراني في (الأوسط) ورجاله موثقون.
قلت: قال الهيثمي نقلًا عن الطبراني في (الأوسط)((أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: من ربك؟ فأشارت برأسها إلى السماء فقالت: الله)) .
ثم قال أحمد شاكر: ورواه إمام الأئمة ابن خزيمة في [كتاب التوحيد: ص81] ، عن محمد بن رافع، عن يزيد بن هارون بهذا الإسناد.
ثم رواه [ص81، 82] بنحوه بإسنادين من طريق أسد بن موسى ومن طريق أبي داود وهو الطّيالسي كلاهما عن المسعودي.
ثم قال أحمد [3/451، 452] :
حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن عبد الله بن عبد الله، عن رجل من الأنصار ((أنه جاء بأمة سوداء وقال: يا رسول الله، إنَّ عليَّ رقبة مؤمنة فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت: نعم قال: أتشهدين أني رسول الله؟ قالت: نعم قال: أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟ قالت: نعم قال: إعتقها)) .
ثم قال [4/222] .
حدثنا عبد الصمد، حدثنا ابن سلمة، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن الشريد ((أن أمه أوصت أن يعتق عنها رقبة مؤمنة فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: عندي جارية سوداء أو نوبية فأعتقها فقال: إئت بها فدعوتها فجاءت، فقال لها: من ربك؟ قالت الله قال: من أنا؟ فقالت: أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أعتقها فإنها مؤمنة)) .
ثم قال [ص388، 389] .
حدثنا عبد الصمد، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن الشريد ((أن أمه أوصت أن يعتقوا عنها رقبة مؤمنة فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: عندي جارية سوداء نوبية فأعتقها عنها فقالت: ائت بها فدعوتها فجاءت، فقال لها: من ربك؟ قالت: الله. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة)) .
وحدثنا مهنى بن عبد الحميد، قال أبي: كنيته أبو شبل، حدثنا حماد – يعني ابن سلمة- عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن الشريد ((أن أمه أوصت أن يعتق عنها رقبة مؤمنة فقال: يا رسول الله إن أمي أوصت أن يعتق عنها رقبة مؤمنة وعندي جارية نوبية سوداء فقال: أدع بها فجاء بها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: من ربك؟ قالت: الله، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله قال: أعتقها فإنها مؤمنة)) .
وقال أبو داود في [سننه: 3/230، 231، ح3283]
حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن الشريد ((أن أمه أوصته أن يعتق عنها رقبة مؤمنة فأتى بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أمي أوصت أن أعتق عنها رقبة مؤمنة وعندي جارية سوداء نوبية)) فذكر نحوه – يعني نحو حديث معاوية بن الحكم الذي سنسوقه بعد قليل -.
3284-
حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، قال: حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرني المسعودي، عن عون بن عبيد الله، عن عبيد الله بن عتبة، عن أبي هريرة ((أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية سوداء فقال: يا رسول الله إنَّ عليَّ رقبة مؤمنة فقال لها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء بأصبعها فقال لها: فمن أنا؟ فأشارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى السماء يعني أنت رسول الله فقال: إعتقها فإنهَّا مؤمنة)) .
وقال النسائي في [سننه (المجتبي) : 6/252] :
أخبرنا موسى بن سعيد قال: حدثنا هشام بن عبد الملك قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمير، عن أبي سلمة، عن الشريد بن سويد الثقفي ((قال أتيت رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إنَّ أمي أوصت أن تعتق عنها رقبة وإنَّ عندي جارية نوبية أفتجزي عني أعتقها عنها؟ قال: ائتني، بها، فأتيته بها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: من ربك؟ قالت: الله، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: فأعتقها فإنها مؤمنة)) .
وقال ابن حبان في – صحيحه علاء الدين الفارسي، [الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان: 1/206، ح 189] :
أخبرنا أبو خليفة قال: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة.
عن الشريد بن سويد الثقفي قال: ((قلت: يا رسول الله، إنَّ أمي أوصت أن نعتق عنها رقبة وعندي جارية سوداء، قال: (ادع بها) ، فجاءت، فقال: من ربك؟ قالت: الله، قال: من أنا؟ قالت: قالت: رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة)) .
وقال البيهقي في [السنن الكبرى: 7/388] :
أخبرنا أبو علي الروذبادي، أخبرنا أبو بكر بن داسة، حدثنا أبو داود. وساق مثل الحديث الثاني لأبي داود سواء.
ثم قال [10/57] :
أخبرنا أبو زكرياء بن أبي إسحاق وأبو بكر أحمد بن الحسن قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأ محمد بن عبد الله بن الحكم، أنبأ ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة. وساق مثل حديث مالك في (الموطأ) بزيادة يسيرة ليست من شأننا في هذا المجال.
قلت: اعتبار العيني هذا الحديث (حديث الجارية السوداء أوكد ما أوتي به في الإشارة
…
إلخ) لا يتجه عندنا، ومن عجب أن يعتمد العيني أو المهلَّب. وحتى إن كانت هذه المقولة لابن المهلب فإنَّ العيني لم يقف عند ما فيها من ضعف. فحديث الجارية السوداء لا نراه إلا مضطربًا متنًا وإسنادًا إلا أن تكون القصة متعدِّدة، وليست قصة جارية واحدة، ذلك بأنَّ رواية مالك المرسلة والتي وصلها ابن عبد البر ووصلها بعض رواة الموطأ أيضًا جاء فيها وصف الرجل غير المسمى صاحب القصة بأنه من الأنصار كذلك في إحدى روايات أحمد، وقد سمي الرجل في بعض الروايات لغير مالك بأنه الشَّريد الثقفي، وهو ثقفي بالمجاورة أو بالأصالة (1) . فليس أنصاريًّا إذن، فهل قصته غير قصة الأنصاري؟ الراجح عندنا أنها قصة واحدة وأنَّ كلمة الأنصاري كانت وهمًا من بعض الرواة لأن جميع روايات القصة جاءت عن طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود، وليس مستحيلًا لكن بعيدًا أن تتفق طرق الروايات ومعظم ألفاظها مع تعدد القصة.
(1) انظر ابن حجر [الإصابة: 2/148، ترجمة 3892] .
صحيح أنَّ هناك قصة معاوية بن الحكم- وسندرجها بعد قليل – وهي تشبه هذه في مجمع ألفاظها، لكن تختلف عنها في بعض أوصاف الجارية كما سيتضح من رواياته المختلفة حين نسوقها.
وكلمة: (أشارت) لم ترد إلا في الرواية الأولى لأحمد من طريق أبي هريرة، وفي الرواية الثانية لأبي داود، وعند البيهقي عن طريقه، أما بقية الروايات ومنها التي جاء التصريح فيها بأن صاحب القصة هو الشريد الثقفي، فجاءت فيها كلمة (قالت) بدلًا من كلمة (أشارت) . وفي بعض منها مزيد من الأقوال يمكن أن يعتبر إدراجًا، على أن حديث الشريد في ثلاث روايات لأحمد وفي رواية لأبي داود والنسائي وابن حبان، نص على أنَّ أم الشريد أوصت بعتق رقبة، أما في غير هذه الروايات فالرجل غير المسمَّى جاء بالجارية السوداء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر أنَّ عليه عتق رقبة والجارية أعجمية، وبعضهم نسبهم بالتحديد أنها نوبية، ومع ذلك نقلوا عنها القول لا الإشارة. أليس هذا كله مما يصدق عليه وصف الاضطراب؟ (1) . ومن عجيب أن يعتبر أحد هذا الحديث (أوكد ما أوتي به من الإشارة) . ولعل هذا الاضطراب في السَّند والمتن هو الذي جعل الشيخين لا يخرجانه في صحيحهما، ولا ندري كيف أخرجه مالك في (الموطأ) إلا أن يكون لم يبلغ غير حديث الزهري أو ترجَّح عنده لثقته في حفظ الزهري رجحانًا جعله يخفى – في رواية يحيى بن يحيى – عما فيه من الإرسال إذا لم يكن يحيى غفل عما ضبطه الحسين بن الوليد من وصله كما جاء في تعقيب ابن عبد البر في (التمهيد) على رواية يحيى.
وقد يقال: إنَّ من روى بكلمة (قالت) بدلًا من كلمة (أشارت) اعتبر الإشارة بمثابة القول، وهذا تأكيد لما نذهب إليه من اعتبارها عند التعاقد في حكم القول، وهذه المقولة وجيهة يدعمها وصف الجارية بأنَّها أعجمية أو – بالتحديد – نوبية، وما كنا لنعتبر اختلاف الرواة بين كلمة (أشارت) وكلمة (قالت) اضطرابًا في المتن لولا اختلافهم – إن لم تكن القصَّة متعددة – في وصف الرجل صاحبها، فمنهم من سمَّاه الشريد وهو ثقفي وليس أنصاريًّا، ومنهم من نسبه إلى الأنصار ولم يسمِّه.
(1) قال النووي في [التقريب: 1/262] : المضطرب هو الذي يروى على أوجه مختلفة متقاربة. وقال ابن حجر في [النكت على كتاب ابن الصلاح: 2/773] : الاضطراب هو الاختلاف الذي يؤثر قدحًا.
ويتراءى لنا أنَّ التباسًا وقع للرواة بين واقعتين: واقعة الشريد الثقفي، وواقعة معاوية بن الحكم، ويتجلَّى ذلك من حديثه الذي أخرجه مالك وأحمد ومسلم وأبو داود والنسائي والبيهقي وغيرهم.
قال مالك في [المرجع السابق] :
عن هلال بن أسامة، عن عطاء بن يسار، عن عمر بن الحكم، أنه قال:((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إنَّ جارية لي كانت ترعى غنمًا لي فجئتها وقد فقدت من الغنم فسألتها عنها فقالت: أكلها الذئب، فأسفت عليها وكنت من بني آدم فلطمت وجهها وعليَّ رقبة أفأعتقها؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ فقالت: في السماء، فقال: من أنا؟ فقالت: أنت رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعتقها)) .
وقال أحمد في [مسنده: 5/448] :
حدثنا عفّان بن حدثنا همام، سمعت يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة أنَّ عطاء بن يسار حدثه ((أن معاوية بن الحكم حدثه بثلاثة أحاديث حفظها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيه من حديث طويل. وكانت لي غنم فيها جارية لي ترعاها في قبل أحد والجوانية فاطلعت عليها ذات يوم فوجدت الذئب قد ذهب منها بشاة، فأسفت وأنا رجل من بني آدم، آسف مثل ما يأسفون، وأنّي صككتها صكَّة قال: فعظم ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قلت: يا رسول الله، أفلا أعتقها؟ قال: ادعها، فدعوتها، فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: إنَّها مؤمنة فأعتقها)) .
حدثنا يحيى بن سعيد عن حجاج الصواف، حدثني يحيى بن أبي كثير، حدثني هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسار، عن معاوية السلمي قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه من نفس الحديث. ((وبينما جارية لي ترعى غنيمات لي في قبل أحد والجوانية، فاطلعت عليها اطلاعه فإذا الذئب قد ذهب منها بشاة وأنا رجل من بني آدم يأسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة قال: فعظم ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: ألا أعتقها؟ قال: ابعث إليها، قال: فأرسل إليها فجاء بها، فقال: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: فمن أنا؟ قالت: أنت رسول الله؟ قال: أعتقها فإنَّها مؤمنة)) .
وقال مسلم في [صحيحه: 1/381، 382، ح 537] :
حدثنا أبو جعفر محمد بن الصباح وأبو بكر بن أبي شيبة – وتقاربا في لفظ الحديث – قالا: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن حجاج الصواف، عن يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم السلمي قال: وساق حديثه بطوله وفيه:
((وكانت جارية ترعى غنمًا لي قبل أحد والجوانية (1) فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، لكن صككتها صكة (2)، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك علي. قلت: يا رسول الله، أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها، فأتيته بها فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنَّها مؤمنة)) .
حدَّثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عيسى بن يونس، حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير بهذا الإسناد نحوه.
وقال أبو داود في [سننه: 1/244، ح930] :
حدثنا مسدد حدثنا يحيى.
وحدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم المعنَّى، عن حجاج الصواف، حدثني يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة قال:((صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وساق حديثه بطوله وفيه قلت: جارية لي كانت ترعى غنيمات قبل أحد والجوانية إذا اطلعت عليها اطلاعة فإذا الذئب قد ذهب بشاة منها، وأنا من بني آدم آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكّة فعظم ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أفلا أعتقها؟ قال: فائتني بها فجئت بها، فقال: أين الله؟ قالت: في المساء، وقال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: فأعتقها فإنها مؤمنة)) .
ثم قال [3/230، ح 3382] :
حدثنا مسدَّد، حدثنا يحيى. وساق من حديثه الأوَّل قصة الجارية بنفس السند واللفظ سواء.
وقال النسائي في [سننه: 3/14، 18] :
أخبرنا إسحاق بن منصور قال: حدثنا محمد بن يوسف قال: حدثنا الأوزاعي قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة قال: حدثني عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم السلمي قال: قلت: يا رسول الله. وساق حديثه بطوله وفيه: ((ثمَّ أطلعت إلى غنيمات لي ترعاها جارية لي في قبل أحد والجوانية. وإنِّي اطلعت فوجدت الذهب قد ذهب منها بشاة وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، فصككتها صكة ثم انصرفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فعظم ذلك عليَّ، فقلت: يا رسول الله أفلا أعتقها؟ قال: ادعها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الله عز وجل؟ قالت: في السماء، قال: فمن أنا؟ قالت: أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنَّها مؤمنة)) .
(1) موضع قرب أحد.
(2)
الصكة: الضرب باليد مبسوطة.
وقال البيهقي في [السنن الكبرى: 7/387] :
أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب أخبرنا الربيع بن سليمان، أخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك عن هلال بن أسامة. وساق مثل حديث مالك في (الموطأ) .
وتعقبه بقوله: كذا رواه جماعة عن مالك بن أنس – رحمه الله – ورواه يحيى بن يحيى، عن مالك مجوّدًا فقال: عن معاوية بن الحكم قال في آخره: فقال: ((أعتقها فإنها مؤمنة)) .
أخبرناه أبو جعفر كامل بن أحمد المستملي أنبأنا بشر بن أحمد الإسفراييني، حدثنا داود بن الحسن البيهقي، حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن هلال بن أسامة، عن عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم فذكره.
ورواه يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم السلمي في الكهَّان والطِّيَّرة، ورواه الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن معاوية بن الحكم في الكهَّان والطِّيَّرة.
ثم قال [10/57] :
أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق المزكي وأبو بكر أحمد بن الحسين القاضي قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأ محمد بن عبد الله بن عبد الحكيم، أنبأ ابن وهب، أخبرني مالك بن أنس، عن هلال بن أسامة، عن عطاء بن يسار، عن عمرة بن الحكم – رضي الله عنه – قال:((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إنَّ جارية لي كانت ترعى غنمًا لي ففقدت شاة من الغنم فسألتها عنها فقالت: أكلها الذئب فأسفت وكنت من بني آدم فلطمت وجهها وعليَّ رقبة أأعتقها؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ قالت: هو في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها)) .
وتعقبه بقوله: كذا قاله مالك بن أنس، ورواه يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم السلمي، أخبرناه أبو عبد الله الحافظ وأبو عبد الله إسحاق بن محمد بن يوسف السوسي وأبو سعيد بن أبي عمرو قالوا: حدثنا أبو العباس حمد بن يعقوب، أنبأ العباس بن الوليد، أخبرني أبي، حدثنا الأوزاعي، حدثني يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، حدثني عطاء بن يسار، حدثني معاوية بن الحكم السلمي فذكر الحديث في الطيرة والعطاس في الصلاة. قال:((ثم اطلعت غنيمة لي – لعل صوابه: ثم اطلعت على غنيمة لي كما في الروايات الأخرى – ترعاها جارية لي قبل أحد والجوانية، فوجدت الذئب قد أصاب منها شاة وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون فصككتها صكَّة ثم أنصرفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فعظَّم ذلك عليَّ قال: فقلت: يا رسول الله أفلا أعتقها؟ قال: بلى ائتني بها قال: فجئت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: فمن أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: إنَّها مؤمنة فاعتقها)) .
قلت: لا ندري أوهم البيهقي في روايته الأولى حين زعم أن يحيى بن يحيى رواه عن مالك، عن معاوية بن الحكم، والذي في (موطأ) مالك براوية يحيى بن يحيى. ونقلناه آنفًا عن عمر بن الحكم، أم إنَّ يحيى رواه عنهما معًا؟
لكن قال ابن حجر في [الإصابة: 2/517، ترجمة 5437] عند ترجمة لعمر بن الحكم:
وأما رواة مالك عن هلال بن أسامة، عن عطاء بن يسار، عن عمر بن الحكم في قصة الجارية التي ترعى الغنم فقد اتفقوا على أنه وهم فيه، والصواب معاوية بن الحكم.
قلت: ويبدو غير محتمل أن لا يكون ابن حجر – على سعة اطلاعه التي تبلغ درجة الإحاطة غالبًا – قد اطلع على ما ذكره البيهقي منسوبًا إلى يحيى بن يحيى من رواية الحديث عن معاوية بن الحكم إلا أن تكون لمالك روايتان لهذا الحديث رواهما معًا يحيى بن يحيى، لكن لماذا أثبت في روايته للموطأ الرواية عن عمر بن الحكم دون الرواية عن معاوية؟ !
الراجح عندنا أنَّ رواية البيهقي لم تثبت عند ابن حجر لعلة لا نعرفها ولا عند غيره ممن (اتفقوا) على توهيم مالك في روايته التي أثبتها يحيى في الموطأ وما كان ابن حجر ليقول: (فقد اتفقوا) إلا بعد أن استقصى أقوالهم وما كانوا ليتفقوا لو كان لرواية البيهقي أساس ثابت.
ومعاوية بن الحكم هذا وإخوته ليسوا من الأنصار وإن استقر معاوية في المدينة فعرف في الحجازيين (1) .
واستقراره هذا يمكن أن يوهم بأنَّ بعض الرواة اعتبره من الأنصار بناء على مستقرِّه ودون ضبط لنسبه ومحتده لكن حديثًا رواه الطبراني يجعل هذا الوهم بعيدًا.
(1) انظر ابن حجر [الإصابة: 3/432، ترجمة 7064] .
قال في [المعجم الكبير: 19 / 98، ح 193] :
حدثنا محمد بن عاصم الأصبهاني، حدثنا عبد الله بن شبيب، حدثنا داود بن عبد الله الجعفري، حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن ابن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن ابن كعب بن مالك، عن أبيه، قال:((جاءت جارية ترعى غنمًا لي، فأكل الذئب شاة، فضربت وجه الجارية فندمت، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، لو أعلم أنَّها مؤمنة لأعتقتها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للجارية: من أنا؟ قالت: رسول الله، قال: فمن الله؟ قالت: الذي في السماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعتقها فإنَّها مؤمنة)) .
وقال الهيثمي في [مجمع الزوائد: 4/239] :
رواه الطبراني في (الكبير) و (الأوسط) ، وفيه عبد الله بن شبيب، وهو ضعيف (1) .
فإن كان كعب بن مالك هو الذي قصده الرواة بقولهم: (رجلا من الأنصار) أو (رجل أنصاري) ، فهذا يعني أنَّ للحديث أساسًا ثابتًا، وأن ضعف عبد الله بن شبيب يزيح اعتباره اعتضاد الحديث بالأحاديث التي لم يصرح فيها باسم الرجل الأنصاري، بيد أنَّ حديث كعب بن مالك ليس فيه وصف للجارية بأنها أعجمية، ولا وصف لجوابها بأنه إشارة. فهل هي قصة أخرى غير سابقتها؟ وهل هنَّ ثلاث أو أربع قصص كان في بعضها الجواب بالإشارة من أعجمية أو من خرساء، وفي بعض الجواب بالقول إمَّا من أعجمية أجادت العربية وإمَّا من عربية كان سبيها قبل أن تسلم.
مهما يكن، فإنَّ اعتبار جواب التي أجابت بالإشارة أوكد من غيره مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه دلالة على العمل بالإشارة اعتبار لا نراه متجهًا ولا ندري كيف أخذ به العيني أو ابن المهلب.
ومع أننا نعتمد الإشارة مثل غيرها من وسائل الإفهام غير النطق باعتبارها من أدوات التعاقد، ولذلك سقنا من أحاديث أدوات التعاقد، ولذلك سقنا ما سقناه من أحاديث لها بالإشارة علاقة وثقى، فإنَّنا لا نعتمد حديث الأعجمية أو الخرساء في ذاته لما فيه من اضطراب في المتن والسنَّد وإن كنَّا نستأنس به ونراه عاضدًا أو شاهدًا للأحاديث الأخرى الدالة على عمله صلى الله عليه وسلم بالإشارة، وهذا حسبنا في تأكيد ما نذهب إليه من عدم انفراد التعبير النطقي بكونه الوسيلة الوحيدة للتعاقد. والله أعلم.
(1) انظر ابن عدي في [الكامل: 4/1574، 1575] – والذهبي [ميزان الاعتدال: 2/438، 439، ترجمة 4376] . وغير هذين من كتب الجرح والتعديل
الفصل الخامس
أثر الجانب الزمني من دلالة الصيغ
في تكييف الحكم الشرعي
قال مالك في [الموطأ: ص559، ح67] :
عن نافع، عن عبد الله بن عمر: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار)) .
68-
أنه بلغه أن عبد الله بن مسعود كان يحدث أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أيّما بيعين تبايعا فالقول ما قال البائع أو يترادَّان)) .
قال ابن عبد البر في [التمهيد: 14/7، 8] معقبًا على هذا الحديث:
لا خلاف عن مالك في لفظ هذا الحديث بهذا الإسناد، ورواه أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر)) . هكذا قال حماد بن زيد عن أيوب.
ورواه شعبة وسعيد بن أبي عروبة، عن أيوب بإسناده بلفظ حديث مالك ومعناه.
ورواه ابن علية، عن أيوب عن نافع، عن ابن عمر مثله ((البيعان بالخيار حتى يتفرقا أو يكون بيع خيار قال: وربما قال نافع: أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر)) .
ورواه عبد الرزاق في [مصنفه: 8/50، ح 14262] ، عن طريق معمر، فقال:
أخبرنا معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يكون بيع خيار)) .
ورواه عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام، فقال فيه:((ما ما لم يتفرقا أو يكون خيار)) .
ولفظ عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام:((كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار)) .
قلت: أخرجه عبد الرزاق في (المصنف) بهذا اللفظ سواء [8/51، ح 14265] .
وأخرجه ابن أبي شيبة في [الكتاب المصنف: 7/124، ح 2606] فقال:
حدثنا ابن عيينة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار في بيعهما ما لم يتفرقا إلا أن يكون بيعهما عن خيار)) .
ثم قال ابن عبد البر:
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا)) من وجوه كثيرة من حديث سمرة بن جندب وأبي برزة الأسلمي وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وحكيم بن حزام وغيرهم.
قلت: وسنسوق بعض طرق هذا الحديث بعد قليل.
وقال البخاري في [صحيحه: 3/17، 18] :
حدثنا صدقة، أخبرنا عبد الوهاب قال: سمعت يحيى قال: سمعت نافعًا، عن ابن عمر – رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إن المتبايعين بالخيار في بيعهما ما لم يتفرقا أو يكون البيع خيارًا)) . وقال نافع: وكان ابن عمر إذا اشترى شيئًا يعجبه فارق صاحبه.
ثم قال:
حدثنا أبو النعمان، حديثنا حماد بن زيد، حدثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر)) . وربما قال: أو يكون بيع خيار.
ثم قال [ص18] :
حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك. وساق حديث الموطأ سواء.
حدثنا قتيبة، حدثني الليث، عن نافع، عن ابن عمر – رضي الله عنهما – عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:((إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا، وكانا جميعًا، ويخير أحدهما الآخر، فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا، ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع)) .
حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر وساق مثل حديث ابن عبد البر وعبد الرزاق وابن أبي شيبة.
وقال مسلم في [صحيحه: 3/1163، 1164، ح1531] :
حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن نافع، عن ابن عمر: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((البيعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار)) .
قلت: هو حديث الموطأ لكن يخالفه في لفظ (البيعان) ، ففي (الموطأ) – وقد سقناه آنفًا – (المتبايعان) .
حدثنا زهير بن حرب ومحمد بن المثنى قالا: حدثنا يحيى – وهو القطان -.
وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، محمد بن بشر.
كلهم عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وحدثني زهير بن حرب وعلي بن حجر قالا: حدثنا إسماعيل.
وحدثنا أبو الربيع وأبو كامل قالا: حدثنا حماد – وهو ابن زيد -.
جميعًا عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وحدثنا ابن المثنى وابن أبي عمر قالا: حدثنا عبد الوهاب قال: سمعت يحيى بن سعيد.
وحدثنا ابن رافع، حدثنا ابن أبي فديك، أخبرنا الضحاك.
كلاهما عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث مالك، عن نافع.
قلت: يفهم من قول مسلم بعد هذه الأسانيد (نحو حديث مالك عن نافع) أنّ حديثهم جميعًا فيه (البيعان) . الحديث كذلك ثبت عنده أو أنه لا يرى فرقًا في الدلالة بين لفظ (المتبايعان) ولفظ (البيعان) وهو احتمال لا يتجه مع حرصه وحرص أمثاله من أيمة الحديث الكبار على ضبط الألفاظ.
ثم قال: حدثني زهير بن حرب وابن أبي عمر. كلاهما عن سفيان. قال زهير: حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن جريج قال: أملى علي نافع سمع عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا تبايع المتبايعان فكل واحد منهما بالخيار من بيعه ما لم يتفرقا أو يكون بيعهما عن خيار، فإذا كان بيعهما عن خيار فقد وجب)) .
زاد ابن أبي عمر في روايته: قال نافع: فكان إذا بايع رجلًا فأراد أن يقيله قام فمشى هنية – أي شيئًا يسيرًا – ثم رجع إليه.
حدثنا يحيى بن يحيى ويحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر، قال يحيى بن يحيى: أخبرنا، وقال الآخرون: حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار أنه سمع ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار)) .
وقال الترمذي في [الجامع الصحيح: 3/547، 548، ح 1245] :
حدثنا واصل بن عبد الأعلى، حدثنا فضيل، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يختارا)) . قال: وكان ابن عمر إذا ابتاع بيعًا وهو قاعد قام ليجب البيع.
وتعقبه الترمذي بقوله: وفي الباب عن أبي برزة وحكيم بن حزام وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وسمرة وأبي هريرة.
ثم قال: حديث ابن عمر حديث حسن صحيح.
قال النسائي في [سننه (المجتبي) : 7/248] :
أخبرنا محمد بن سلمة والحرث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع واللفظ له عن أبي القاسم قال: حدثني مالك عن نافع، عن عبد الله بن عمر. وساق مثل حديث الموطأ سواء.
أخبرنا عمرو بن علي قال: حدثنا يحيى بن عبيد الله، عن نافع عن ابن عمر. وساق الحديث كما تقدم من طرق سواء، وفي (البيعان) أيضًا.
أخبرنا محمد بن علي المروزي قال: حدثنا محرز الوضّاح، عن إسماعيل، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا إلا أن يكون البيع كان على خيار، فإن كان البيع على خيار فقد وجب البيع)) .
أخبرنا عليّ بن ميمون قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج قال: أملي علي نافع، عن ابن عمر. وساق مثل حديث مسلم أيضًا. أخبرنا عمرو بن علي قال: حدثنا عبد الأعلى قال: حدثنا شعبة ، عن أيوب، عن نافع عن ابن عمر وساق مثل حديث مسلم أيضًا
أخبرنا زياد بن أيوب قال: حدثنا ابن علية قال: أنبأنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار حتى يفترقا أو يكون بيع خيار)) . قال نافع: أو يقول أحدهما للآخر: اختر.
أخبرنا قتيبة قال: حدثنا الليث، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار حتى يفترقا أو يكون بيع خيار)) . وربما قال نافع: أو يقول أحدهما للآخر: اختر
أخبرنا قتيبة قال: اخبرنا الليث عن نافع، عن ابن عمر. وساق مثل حديث البخاري سواء.
أخبرنا عمرو بن علي قال: حدثنا عبد الوهاب قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: سمعت نافعًا يحدث عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إنَّ المتبايعين بالخيار في بيعهما ما لم يفترقا إلا أن يكون البيع خيارًا)) .
قال نافع: وكان عبد الله إذا اشترى شيئًا يعجبه فارق صاحبه.
أخبرنا علي بن حجر قال: حدثنا هشيم، عن يحيى بن سعيد قال: حدثنا نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المتبايعان لا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار)) .
أخبرنا علي بن حُجْر، عن أسماء، عن إسماعيل، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار)) .
أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكيم عن شعيب، عن الليث، عن ابن الهاد، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار)) .
أخبرنا عبد الحميد بن محمد قال: حدثنا مخلد قال: حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار)) .
أخبرنا سليمان بن داود قال: حدثنا إسحاق بن بكر قال: حدثني أبي، عن يزيد بن عبد الله، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرّقا إلا بيع الخيار)) .
أخبرنا عمرو بن يزيد، عن بهز بن أسد قال: حدثنا شعبة قال: حدثنا عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار)) .
أخبرنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يكون بيعهما عن خيار)) .
قال أحمد في [مسنده الساعاتي، الفتح الرباني: 15/57، 58، ح95] :
حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار حتى يتفرقا أو يكون بيع خيار)) . وربما قال نافع: أو يقول أحدهما للآخر: اختر.
حدثنا هاشم، حدثنا ليث، حدثني نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:((إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا فكانا جميعًا أو يخيِّر أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع)) .
قال أبو داود في [سننه: 3/272، 273، ح 3454] :
حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، وساق مثل حديث الموطأ سواء.
3455-
حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه قال:((أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر)) .
قال ابن ماجه في [سننه: 2/736، ح2181] :
حدثنا محمد بن رمح المصري، أنبأنا الليث بن سعد، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إذا تبايع الرجلان وكل واحد منهما بالخيار ما لم يفترقا وكان جميعًا أو يخير أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن افترقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع)) .
قال الدارقطني في [سننه: 3/5، 6 ح12] :
حدثنا أبو بكر النيسابوري، حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، حدثنا الليث أن نافعًا حدثه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إذا تبايع الرجلان وكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعًا أو يخير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع)) .
13-
حدثنا أبو بكر النيسابوري، حدثنا يونس، حدثنا ابن وهب، أخبرني مالك، عن نافع، وعبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك في البيعين.
وتعقبه الدارقطني بقوله: تفرد به ابن وهب عن مالك.
قال ابن أبي شيبة في [الكتاب المصنف: 7/124، ح 2607] :
حدثنا يزيد بن هارون، عن سعيد، عن قتادة، عن صالح أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث، عن حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((البيعان بالخيار ما لم يفترقا)) .
قال أحمد في [مسنده الساعاتي، الفتح الرباني: 15/57 ح 193] :
حدثنا إسماعيل، حدثنا سعيد – يعني ابن أبي عروبة-، عن قتادة عن أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث الهاشمي، عن حكيم بن حزام – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا رزقا بركة بيعهما وإن كذبا وكتما محق بركة بيعهما)) .
قال البخاري في [صحيحه: 3/17] :
حدثنا حفص بن عمر، حدثنا همام، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن عبد الله بن الحرث، عن حكيم بن حزام – رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((البيعان بالخيار ما لم يفترقا)) .
وزاد أحمد: حدثنا بهز قال: قال همام: فذكرت ذلك لأبي التياح فقال: كنت مع أبي الخليل لما حدثه عبد الله بن الحرث بهذا الحديث.
ثم قال [ص18] :
حدثني إسحاق، أخبرنا حبان قال: حدثنا شعبة، قال قتادة: أخبرني عن صالح أبي الخليل، عن عبد الله بن الحرث قال: سمعت حكيم بن حزام – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبيّنا بُرك – ولعل الصواب بورك – لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما)) .
ثم قال:
حدثني إسحاق، حدثنا حبان، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن أبي الخليل، عن عبد الله بن الحرث، عن حكيم بن حزام – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)) . قال همام: وجدت في كتابي.. أو يختار ثلاث مرار، فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما فعسى أن يربحا ربحًا ويمحقا بركة بيعهما.
قال: وحدثنا همام، حدثنا أبو التياح أنه سمع عبد الله بن الحرث يحدث بهذا الحديث عن حكيم بن حزام.
وقال مسلم في (صحيحه: 3/1164، ح1533] :
حدثنا محمد بن المثني، حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة.
وحدثنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي قالا: حدثنا شعبة.
قال قتادة، عن أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث، عن حكيم بن حزام، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك في بيعهما وإن كذبا محقت بركة بيعهما)) .
حدثنا عمرو بن علي، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا همام، عن أبي التّياح قال: سمعت عبد الله بن الحارث يحدث، عن حكيم بن حزام، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.
وقال أبو داود الطيالسي في [مسنده: ص187، ح1316] :
حدثنا شعبة عن قتادة قال: سمعت صالحًا أبا الخليل يحدث عن عبد الله بن الحارث، عن حكيم بن حزام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار حتى يتفرقا وما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محق بركة بيعهما)) .
حدثنا همام، عن قتادة، عن صالح، عن عبد الله بن الحارث، عن حكيم بن حزام، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا.
قال همام: حدثنا أبو التياح قال: سمعت عبد الله بن الحارث يحدث عن حكيم بن حزام، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا.
قال أبو داود في [سننه: 3/273، 274، ح3459] :
حدثنا أبو الوليد الطيالسي، حدثنا شعبة، عن قتادة وساق مثل حديث الطيالسي.
وتعقبه بقوله: وكذلك رواه سعيد بن أبي عروبة وحماد. وأما همام فقال: حتى يتفرقا أو يختار ثلاث مرار.
وقال الترمذي في [الجامع الصحيح: 3/548، ح146] :
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن قتادة، عن صالح أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث، عن حكيم بن حزام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما)) .
وتعقبه بقوله: هذا حديث حسن صحيح.
وقال النسائي في [سننه (المجتبي) : 7/247، 248] :
أخبرنا أبو الأشعث، عن خالد قال: حدثنا سعيد – وهو ابن أبي عروبة – عن قتادة، عن صالح أبي خليل، عن عبد الله بن الحرث، عن حكيم بن حزام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن بيَّنا وصدقا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محق بركة بيعهما)) .
قال ابن حبان في – صحيحه علاء الدين الفارسي، [الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان: 7/203، ح 4884] :
أخبرنا أبو يعلي قال: حدثنا يحيى بن أيوب المقابري قال: حدثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي خليل، عن عبد الله بن الحارث الهاشمي، عن حكيم بن حزام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا وإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محق بركة بيعهما)) .
قال الدارمي في [سننه: 2/250] :
أخبرنا سعيد بن عامر، عن سعيد، عن قتادة، عن صالح (عن أبي الخليل) – كذا وهو خطأ صوابه: عن صالح أبي الخليل، وهو صالح بن أبي مريم الضبعي كما في الروايات الأخرى السابقة – عن عبد الله بن الحارث، عن حكيم بن حزام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محق بركة بيعهما)) .
أخبرنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، عن قتادة بإسناده مثله.
قال النسائي في [سننه (المجتبى) : 7/251] :
أخبرنا عمرو بن علي، حدثنا معاذ بن هشام قال: حدثني أبي عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال:((البيعان بالخيار حتى يتفرقا أو يأخذ كل واحد منهما من البيع ما هوى وينتظران ثلاث مرات)) .
أخبرني محمد بن إسماعيل بن إبراهيم قال: حدثنا يزيد قال: أنبأنا همام عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ويأخذ أحدهما ما رضي من صاحبه أو هوى)) .
قال ابن ماجه في [سننه: 2/736، ح2183] :
حدثنا محمد بن يحيى وإسحاق بن منصور قالا: حدثنا عبد الصمد، حدثنا شعبة عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)) .
وقال الحاكم في [المستدرك: 2/15، 16] :
أخبرنا الشيخ أبو الوليد، حدثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار، حدثنا أبو خثيمة، حدثنا زهير بن حرب، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ويأخذ كل واحد منهما من البيع ما يهوى)) . قالها ثلاثًا.
وتعقبه بقوله: هذا صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه الزيادة، وأقره الذهبي في (التلخيص) .
قال أحمد في [مسنده الساعاتي، الفتح الرباني: 15 / 57، ح194] :
حدثنا أبو كامل، حدثنا حماد بن زيد، عن جميل بن مرة، عن أبي الوضيء قال: كنا في سفر ومعنا أبو برزة، وقال أبو برزة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((البيع بالخيار ما لم يتفرقا)) .
قال ابن أبي شيبة في [الكتاب المصنف: 7/124، 125، ح2608] :
حدثنا الفضل بن دكين قال: حدثنا حماد بن زيد، عن جميل بن مرة، عن أبي الوضوء، عن أبي برزة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)) .
قال أبو داود في [سننه 3/273 ، ح3457]
حدثنا مسدّد حدثنا حماد عن جميل بن مرة، عن أبي الوضيء قال: غزونا غزوة لنا فنزلنا منزلًا، فباع صاحب لنا فرسًا بغلام، ثم أقاما بقية يومهما وليلتهما، فلما أصبحا من الغد حضر الرجل فقام يسرجه فندم، فأتى الرجل وأخذه بالبيع فأبى أن يدفعه إليه فقال: بيني وبينك أبو برزة صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، فأتيا أبا برزة في ناحية العسكر فقالا له هذه القصة فقال: أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)) . قال هشام بن حسان: حدث جميل أنه قال: ما أراكما افترقتما.
قال الترمذي في [الجامع الصحيح: 3/549] تعقيبًا عن حديث حكيم بن حزام.
وهكذا روي عن أبي برزة الأسلمي أن رجلين اختصما إليه في فرس بعدما تبايعا وكانوا في سفينة فقال: لا أراكما افترقتما، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((البيعان بالخيار ما لم يفترقا))
…
قال ابن ماجه في [سننه: 2/736، ح2182] :
حدثنا ابن عبدة وأحمد بن المقدام قالا: حدثنا بن زيد، عن جميل بن مرة، عن أبي الوضيء، عن أبي برزة الأسلمي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)) .
قال الدارقطني في [سننه: 3/6، ح14] :
حدثنا محمد بن زيان، حدثنا إسماعيل بن محمد بن أبي كثير القاضي حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا هشام بن حسان، عن جميل بن مرة، عن أبي الوضيء قال: كنا في سفر في عسكر، فأتى رجل معه فرس فقال له رجل منا: أتبيع هذا الفرس بهذا الغلام؟ قال: نعم، فباعه ثم بات معنا، فلما أصبح قام إلى فرسه فقال له صاحبنا: مالك والفرس؟ أليس قد بعتنيها؟ قال: مالي في هذا البيع من حاجة قال: مالك ذلك، قد بعتني. فقال لهما القوم: هذا أبو برزة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتياه فقال لهما: أترضيان بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالا: نعم، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)) وإني لا أراكما افترقتما.
15-
حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد الوكيل، حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا عباد بن عباد، عن جميل بن مرة، عن أبي الوضيء العبدي قال: كنا في بعض مغازينا فنزلنا منزلًا، فجاء رجل من ناحية المعسكر على فرسه فساومه صاحب لنا بفرسه ثم ذكر نحوه عن أبي برزة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو داود في [سننه: 3/273، ح3456] :
حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث، عن ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله)) .
قال أحمد في [مسنده الساعاتي، الفتح الرباني: 15/58، ح 196] :
حدثنا حماد بن مسعدة، عن ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قال:((البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا إلا أن يكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله)) .
قال النسائي في [سننه (المجتبي) : 7/251، 252] :
أخبرنا قتيبة بن سعيد قال: أنبأنا الليث، عن ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن يكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله)) .
قال الترمذي في [الجامع الصحيح: 3/549، 550، ح1247] :
ومما يقوي قول من يقول: الفرقة بالأبدان لا بالكلام حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أخبرنا بذلك قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث بن سعد، عن ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((البيعان بالخيار ما لم يتفرَّقا إلا أن تكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يقيله)) .
وتعقبه بقوله: هذا حديث حسن.
قال ابن أبي شيبة في [الكتاب المصنف: 7/125، ح2609] :
حدثنا هاشم بن القاسم قال: حدثنا ابن عتبة قال: حدثنا أبو بكر السحيمي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا من بيعهما أو يكون بيعهما بخيار)) .
قال أحمد في [مسنده الساعاتي، الفتح الرباني: 15/58، ح197] :
حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا أيوب – يعني ابن عتبة – حدثنا أبو بكير السحيمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار من بيعهما ما لم يتفرقا أو يكون بيعهما في خيار)) .
198-
حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير، حدثنا يحيى – يعني ابن أيوب من ولد جرير – قال: سمع أبا زرعة يذكر، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يفترق المتبايعان عن بيع إلا عن تراضٍ)) .
قال أبو داود في [سننه: 3/273، ح 3458] :
حدثنا محمد بن حاتم الجرجرائي قال مروان الفزاري: أخبرنا عن يحيى بن أيوب قال: كان أبو زرعة إذا بايع رجلًا خيَّره قال: ثم يقول: خيِّرني ويقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يفترقن اثنان إلا عن تراضٍ)) .
قال ابن أبي شيبة في [الكتاب المصنف: 7/125، 127، ح2610] :
حدثنا جرير بن عبد الحميد، عبد العزيز بن رفيع، عن ابن أبي مليكة وعطاء قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار حتى يفترقا عن رضا)) .
2611-
حدثنا أبو الأحوص عن عبد العزيز بن رفيع، عن ابن أبي مليكة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يفترقا)) .
ثم قال [ح2617] :
حدثنا أبو الأحوص، عن عبد العزيز بن رفيع، عن ابن أبي مليكة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)) .
وقال مالك في [الموطأ: ص569، 570، ح81] :
عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا يبع بعضكم على بيع بعض)) .
82-
عن أبي الزَّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا تلقوا الركبان للبيع ولا يبع بعضكم على بيع بعض)) . الحديث.
وتعقبه بقوله: وتفسير قول رسول الله صلى الله عليه وسلم – فيما نرى والله أعلم -: ((لا يبع بعض على بيع بعض)) ، أنه إنما نهي أن يسوم الرجل على سوم أخيه إذا ركن البائع إلى البائع السائل وجعل يشترط وزن الذهب، يتبرأ من العيوب وما أشبه ذلك مما يعرف به أن البائع قد أراد مبايعة السائم، فهذا الذي نهى عنه والله أعلم.
قال عبد الرزاق في [مصنفه: 8/198، 199، ح14867] :
أخبرنا معمر عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيه: ((ولا يبيع الرجل على بيع أخيه)) . الحديث.
14868-
أخبرنا عبد الله بن عمر عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يبيع الرجل على بيع أخيه)) . الحديث.
14869 – أخبرنا معمر بن همام، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا يبيع أحدكم على بيع أخيه)) . الحديث.
قال أحمد في [المسند، ترتيب أحمد شاكر: مجلد 9، ج17، ص73، 74، ح8914] :
حدثنا محمد بن إدريس، أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج. وساق مثل حديث الموطأ.
ثم قال [18/63، ح9299] :
حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وفيه ((ولا يبيع الرجل على بيع أخيه)) . الحديث.
ثم قال [المجلد 10، 19/69، ح9901] :
حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة قال: سمعت العلاء يحدث عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((لا يستام الرجل على سوم أخيه ولا يخطب على خطبته)) .
ثم قال (ص88، ح9960] :
حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن العلاء، عن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة.
وعن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة.
((أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يستام الرجل على سوم أخيه أو يخطب على خطبة أخيه)) ثم قال أحمد في [الساعاتي، الفتح الرباني: 15/52، 53، ح179] :
حدثنا يحيى عن عبيد الله، حدثني نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((لايبيع أحدكم على بيع أخيه)) . الحديث.
180-
حدثنا يعقوب قال: حدثنا أبي عن أبي إسحاق قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري، عن عبد الرحمن بن شماسة التجيبي قال: سمعت عقبة بن عامر الجهني يقول وهو على منبر مصر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يحل لامرئ بيع على بيع أخيه حتى يذره)) .
181-
حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا عبيد الله بن أبي جعفر، عن زيد بن أسلم قال: سمعت رجلًا سأل عبد الله بن عمر، عن بيع المزايدة فقال ابن عمر:((نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبيع أحدكم على بيع إلا الغنائم والمواريث)) .
ثم قال ح [184] :
حدثنا سليمان أبو داود الطيالسي، حدثنا عمران عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه أو يبتاع على بيع أخيه)) .
قال البخاري في [صحيحه: 3/24] :
حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك عن نافع، عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا يبيع بعضكم على بيع أخيه)) .
حدثنا عليّ بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا الزهري عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد ولا تناجشوا ولا يبيع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها)) .
ثم قال [ص26] :
حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال. وفيه:((ولا يبيع بعضكم على بيع بعض)) . الحديث.
ثم قال [ص28] :
حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك عن نافع، عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا يبيع بعضكم على بيع بعض ولا تلقوا السلع حتى يهبط بها إلى السوق)) .
ثم قال [6/136] :
حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا ابن جريج قال: سمعت نافعًا يحدث أن ابن عمر – رضي الله عنهما – كان يقول: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع بعضكم على بيع بعض ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب)) .
وقال مسلم في [صحيحه: 3/1154، 1156، ح1412] :
حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال. وساق مثل حديث مالك في (الموطأ) سواء.
حدثنا زهير بن حرب ومحمد بن المثنى واللفظ لزهير قال: حدثنا يحيى، عن عبيد الله أخبرني، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لايبيع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه إلا أن يأذن له)) .
حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد بن حجر قالوا: حدثنا إسماعيل – وهو ابن جعفر – عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا يسم المسلم على سوم أخيه)) .
وحدثنيه أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثني عبد الصمد، حدثنا شعبة، عن العلاء وسهيل، عن أبيهما، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وحدثناه محمد بن المثنى، حدثنا عبد الصمد، حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وحدثناه عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن عدي – وهو ابن ثابت – عن أبي حازم، عن أبي هريرة ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يستام الرجل على سوم أخيه)) . وفي رواية الدورقي: على سيمة أخيه.
حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا يتلقى الركبان لبيع ولا يبع بعضكم على بيع بعض)) . الحديث.
حدثنا عبد الله بن معاذ العنبري، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن عدي – وهو ابن ثابت – عن أبي حازم، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن
…
وفيه: ((وأن يستام الرجل على سوم أخيه)) .
وحدثنيه أبو بكر بن نافع، حدثنا غندر.
وحدثناه محمد بن المثنى، حدثنا وهب بن جرير.
وحدثنا عبد الواحد بن عبد الصمد، حدثنا أبي.
قالوا جميعًا: حدثنا شعبة بهذا الإسناد.
في حديث غندر ووهب (نُهِي) ، وفي حديث عبد الصمد ((أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى)) بمثل حديث معاذ، عن شعبة.
قال أبو داود في [سننه: 3/269، ح 3436] :
حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي، عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا يبع بعضكم على بيع بعض ولا تلقوا السلع حتى يهبط بها الأسواق)) .
ثم قال:
قال سفيان: لا بيع بعضكم على بيع بعض أن يقول: إن عندي خيرًا منه بعشرة.
قال الترمذي في [الجامع الصحيح: 3/587، 588، ح 1292] :
حدثنا قتيبة، حدثنا الليث عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((لا يبع بعضكم على بيع بعض ولا يخطب بعضكم على خطبة بعض)) .
وتعقبه الترمذي بقوله: حديث ابن عمر حديث حسن صحيح. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يسوم الرجل على سوم أخيه)) . ومعنى البيع في هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض أهل العلم هو السوم.
قال النسائي في (سننه: المجتبي) : 7/255] :
أخبرني عبد الله بن محمد بن تميم قال: حدثنا حجاج، قال: حدثني شعبة، عن عادل بن ثابت، عن أبي حازم، عن أبي هريرة. وساق مثل الحديث الثامن عند مسلم.
ثم قال:
أخبرنا قتيبة عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، وساق مثل حديث مالك في (الموطأ) سواء.
ثم قال [ص258، 259] :
حدثنا مجاهد بن موسى قال: حدثنا إسماعيل عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وفيه: ((ولا يساوم الرجل على سوم أخيه)) . الحديث.
أخبرنا قتيبة بن سعيد عن مالك والليث واللفظ له.
عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((لا يبع أحدكم على بيع أخيه)) .
أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال: حدثنا أبو معاوية قال: حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا يبيع الرجل على بيع أخيه حتى يبتاع أو يذر)) .
أخبرنا محمد بن يحيى قال: حدثنا بشر بن شعيب قال: حدثنا أبي، عن الزهري أخبرني أبو سلمة وسعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يبيع الرجل على بيع أخيه
…
)) الحديث.
حدثنى محمد بن عبد الأعلى، حدثنا يزيد، حدثنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وفيه ((ولا يزيد الرجل على بيع أخيه)) . الحديث.
وقال ابن ماجه في [سننه: 2/733، 734، ح2171] :
حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا مالك بن أنس عن نافع. وساق مثل حديث (الموطأ) سواء.
2172-
حدثنا هشام بن عمار، حدثنا سفيان، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال:((لا يبيع الرجل على بيع أخيه ولا يسوم علبى سوم أخيه)) .
وقال ابن حبان في [صحيحه الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، علاء الدين الفارسي: 7/223، 224، ح 4944] :
أخبرنا الحسن بن إدريس الأنصاري قال: أخبرنا أحمد بن أبي بكر، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر. وساق مثل حديث (الموطأ) .
4945-
أخبرنا الحسن بن سفيان قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير قال: حدثنا أبي قال: حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا يبيع أحدكم على بيع أخيه إلا بإذنه)) .
4946-
أخبرنا الحسن بن سفيان أخبرنا سعيد بن عبد الجبار، أخبرنا الدراوردي، عن داود بن صالح بن دينار التمار، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري ((أن يهوديًا قد زمن النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث حمل شعير وتمر، فسعر مدًّا بمد النبي صلى لله عليه وسلم بدرهم، وليس في الناس يومئذٍ طعام غيره، وقد أصاب الناس قبل ذلك جوع لا يجدون فيه طعاما (فأتى) – لعل صوابه: فأتوا – النبي صلى الله عليه وسلم يشكون إليه غلاء السعر، فصعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: لألقين الله من قبل أن أعطي أحدًا من مال أحد من غير طيب نفس، إنما البيع عن تراضٍ ولكن في بيوعكم خصالًا أذكرها لكم: لا تضاغنوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا لا يسوم الرجل على سوم أخيه ولا يبيعن حاضر لباد، والبيع عن تراضٍ، وكونوا عباد الله إخوانًا)) .
وقال ابن الجارود في [المنتقى: ص227، ح677] :
حدثنا علي بن خشرم قال: حدثنا سفيان.
عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال علي: يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه: ((ولا يبيع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه)) . الحديث.
وقال الدارقطني في [سننه: 3/11، ح32] :
حدثنا أبو محمد بن صاعد إملاء، حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثني ابن وهب، أخبرني عمر بن مالك، عن عبد الله بن أبي جعفر، عن زيد بن أسلم قال: سمعت رجلًا يقال له: شهر، كان تاجرًا، وهو يسأل عبد الله بن عمر، عن بيع المزايدة فقال:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع أحدكم على بيع أخيه حتى يذر إلا الغنائم والمواريث)) .
33-
حدثنا محمد بن عمر الرَّزَّاز، حدثنا أحمد بن الخليل، حدثنا الواقدي، حدثنا أسامة بن زيد الليثي عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم – ولعل الصواب عن النبي صلى الله عليه وسلم – مثله.
وقال الدرامي في [سننه: 2/250] :
أخبرنا محمد بن عبد الله الرقاشي، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا محمد محمد – هو ابن إسحاق – عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن شماسة، عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يحل لامرئ يؤمن بالله وباليوم الآخر أن يبيع على بيع أخيه حتى يتركه)) .
وقد اضطرب فقهاء المذهب ومتفقهتها في تأويل هذا الحديث، وحديث ((البيعان في الخيار)) اضطرابا شديدًا تبعًا لأصولهم التي دأبوا على تحكيمها في نصوص الكتاب والسنة، فقال مالك في – الموطأ ص569-:
وتفسير قول رسول الله صلى الله عليه وسلم – فيما نرى والله أعلم – ((لا يبيع بعضكم على بيع بعض)) أنه نهى أن يسوم الرجل على سوم أخيه إذا ركن البائع إلى السائم وجعل يشترط وزن الذهب ويتبرأ من العيوب وما أشبه ذلك مما يعرف فيه أن البائع قد أراد مبايعة السائم، فهذا الذي نهى عنه والله أعلم.
وقال الشافعي في [الرسالة: ص314، فقرة 865] معقبًا على حديث نافع، عن ابن عمر في (بيع الخيار) وحديث سعيد عن أبي هريرة في (المساومة) .
وهذا معنى يبيّن أنَّ رسول الله قال: ((المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا)) وأن نهيه عن أن يبيع الرجل على بيع أخيه إنما هو إذا تبايعا قبل أن يتفرقا عن مقامهما الذي تبايعا فيه.
- فقرة 866:
وذلك أنهما لا يكونان متبايعين حتى يعقدا البيع معًا، فلو كان البيع إذا عقداه لزم كل واحد منهما ما ضر البائع أن يبيعه رجل سلعة كسلعته أو غيرها. وقد تم بيعه لسلعته ولكنه لما كان لهما الخيار كان الرجل لو اشترى من رجل ثوبًا بعشرة دنانير فجاءه آخر فأعطاه مثله بسبعة دنانير أشبه بأن يفسخ البيع إذا كان له الخيار قبل أن يفارقه، ولعله يفسخه ثم لا يتم البيع بينه وبين بيعه الآخر، فيكون الآخر قد أفسد على البائع وعلى المشتري أو على أحدهما.
قلت: رحم الله الشافعي كيف وقع في هذا الاضطراب وهو اللغوي والفقيه، الضليع، فالحجة التي ساقها افتراضًا عليه وليست له، فلو كان التفرق الذي جعل حدًّا لبيع الخيار هو التفرق بالأجسام لا بالأقوال، ولو كان البيع الذي نهى أن يمارسه أحد على بيع أخيه هو البيع الذي تمَّ انعقاده فعلًا يتعذَّر أن يتمَّ التبايع بين متعايشين معًا في منزل واحد أو في سفر واحد أو في عمل واحد، والحجة التي ساقها الشافعي نراها دامغة لما ذهب إليه من اعتبار التفرق بالأبدان لا بالأقوال ومن اعتبار البيع لا يطلق إلا على ما تم فيه العقد، ولا يمكن إطلاقه على المساومة أو التراكن كما ذهب إليه مالك، إذ التبايع المحتمل فيه الاختيار دون إضرار بأي من الفريقين هو حال المساومة أو المراكنة، والتبايع الذي يمكن عمليًّا أن يتنافس فيه صاحبا سلعة واحدة هو هذه الحال أيضًا، ومناط في الصورتين كلتيهما واضح بين في غير تمحُّل فجعل كلا المتبايعين بعد عقد البيع في حالة خيار ما لم يتفرقا، يعني أنَّ عليهما إذا أراد إنهاء الخيار أن يتفرقا إجبارًا، وجعل بيع أحد على بيع أخيه هو الذي يكون بعد العقد، معناه أن العقد ليس بملزم وأنَّ المشتري يمكنه أن يفسخ البيع ما لم يفارق صاحبه، وفي هاتين الحالتين من الإضرار بكل من البائع والمشتري ما لا سبيل إلى إنكاره.
ثم قال الشافعي – رحمه الله – فقرة 867] :
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يسوم أحدكم على سوم أخيه فإن كان ثابتًا – ولست أحفظه ثابتًا – فهو مثل ((لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه)) . لا يسوم على سومه إذا رضي البيع وأذن بأن يباع قبل البيع حتى لو بيع لزمه.
قلت: سبحان الله كيف غاب عن الشافعي وهو المحدِّث الصادق الثبت، أن هذا الحديث روي عن طرق عدة وفي بعضها (لا يسم) وفي بعضها (لا يسوم) وفي بعضها (لا يستام) وفي كثير منها (لا يبع) أو (لا يبيع) فلماذا لم ير الشافعي في اختلاف ألفاظ هذا الحديث ما يقتضيه الجمع بينها من أن الحديث رواه البعض بالمعنى، وأنَّ المساومة كانت عندهم مبايعة والسوم بيعًا والسائم بيعًا كالمساوم صاحب السلعة وهو أمر عرفه العرب كما سيأتي.
وقد أبدأ الشافعي وأعاد في تأييد ما ذهب إليه سالكًا منهاج الجدل السقراطي في ج3، من كتابه (الأم)[ص104، وما بعدها، وكذلك ص92] :
ومن أغرب الأشياء استدلال الشافعي بقصة مالك بن أوس بن الحدثان وقول عمر – رضي الله عنهما – له: (والله لا تفارقه) . الحديث. على دعواه بأن التفرق بالأبدان لا بألاقوال، وأن البيع لا يطلق إلا على ما تم العقد فيه. وأن العقد – نتيجة لذلك – غير ملزم للمتعاقدين في بيع إلا بعد أن يتفرقا بالأبدان أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر، فيختار صاحبه، ذلك بأن هذا الاستدلال لا يبعد كثيرًا عن قول الذين قالوا:{قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [سورة البقرة: الآية 275] ، فجوهر الموضوع واحد، إذ أن قصة مالك بن أوس بن الحدثان تستبدل أحد النقدين بالآخر وهي حال نص الشارع فيها، على أنه لا يجوز التفرق بين المتعاملين إلا بعد التقابض، أما في غير النقدين فإن تعليق العقد بالافتراق البدني لا يوجد نص صريح من الشارع فيه، ولا سبيل إلى دعوى الجمع بين وجود عقد – والعقد لا يكون إلا ملزمًا للطرفين المتعاقدين – وقيام حق الخيار الذي يناقض الإلزام بهما أو لأحدهما، وقيام حق الفسخ أيضًا وهو الصورة التي رآها الشافعي تأويلا لحديث منع بيع المسلم على بيع أخيه أو سومه على سوم أخيه.
وعلى هذا النسق جرى البيهقي – وهو من أئمة الشافعية ومحدثيهم – فقال في [السنن الكبرى: 5/345، 346] بعد أن ساق بعد الأحاديث السابقة مما أخرجه البخاري ومسلم أو أحدهما.
وهذا الحديث حديث واحد، واختلف الرواة في اللفظ لأن البخاري رواه على أحد هذه الألفاظ الثلاثة من البيع والسوم والاستيام لم يذكر معه شيئًا من اللفظتين الأخريين إلا رواية شاذة ذكرها مسلم بن الحجاج، عن عمرو الناقد، عن سفيان، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة ذكر فيها لفظ البيع والسوم جميعًا، وأكثر الرواة لم يذكروا عن ابن عيينة لفظ السوم، فإما أن يكون معنى ما رواه ابن المسيب، عن أبي هريرة ما فسَّره غيره من السوم والاستيام، وإما أن ترجح رواية ابن المسيب على رواية غيره فإنه أحفظهم وأفقههم، ومعه من أصحاب أبي هريرة عبد الرحمن الأعرج وأبو سعيد مولى عامر بن كريب وعبد الرحمن بن يعقوب وبعض الروايات عن العلاء، عنه وبأنَّ روايته توافق رواية عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: في هذا الترجيح من البيهقي نظر ولا نراه يتجه فلئن كان سعيد بن المسيب من الحفظ والفقه بحيث لا يزن بريبة فإن في ترجيحه على مالك ونافع وذكوان وغيرهم مجتمعين ومعهم غيرهم نظرًا، لا سيما إذا تدبرنا احتمال أن يكون ذكر السوم والبيع معًا في رواية سعيد قد يكون بالتفسير وقد لا يكون منه وإنما هو من بعض الرواة عنه، وإضافتهم التفسير إلى النص مألوفة فقد كان ابن مسعود وعائشة وأبو هريرة – رضي الله عنهم – ربما أضافوا تفسير بعض الآيات إلى الآيات نفسها في بعض مصاحفهم حتى وهم جمهرة من الناقلين عنهم فحسبوا تأويلاتهم تلك أطرافًا من الآيات التي أوَّلوها ولم يتدبَّروا لاختلاف في الأسلوب وخروج عباراتهم التأويلية عن النَّسق القرآني في التأليف وهذه كتلك عندنا، لكن البيهقي أراد أن ينصر مذهبه في تفسير كلمة (البيع) في حديث ((البيعان في الخيار)) فتكلف هذا الترجيح والله أعلم.
ويرجح أن ذكر اللفظتين معًا في رواية عمرو الناقد إنما هو من زيادة بعض الرواة للتفسير لأن حديث سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة روي من عدة طرق نقلناها آنفًا وليس فيه إلا لفظة واحدة، ففي البخاري جاءت روايته ((ولا يبيع على بيع أخيه)) ، وعند النسائي من طريق الزهري عن سعيد ((ولا يساوم الرجل على سوم أخيه)) ، وعند ابن الجارود ((ولا يبيع الرجل على بيع أخيه)) ، وعند الدارمي عن طريق الزهري وأبي سلمة عن سعيد ((ولا يبيع الرجل على بيع أخيه)) . وعن طريق الزهري عن سعيد ((ولا يزيد الرجل على بيع أخيه)) .
وحديث سعيد عن طريق عمرو الناقد الذي وقف عنده البيهقي أخرجه مسلم في [صحيحه: 2/1033، ح1413] من ثلاث طرق إحداها طريق عمرو هذا وقال مسلم: زاد عمرو في روايته ((ولا يسم الرجل على سوم أخيه)) .
وهذا صريح في أن عَمْرًا انفرد بهذه الزيادة فهل هي منه أو من سفيان أو من سعيد؟
أخرج مسلم حديث سعيد هذا من طريقين آخرين عقب رواية عمرو الناقد وليست فيهما أيضًا هذه الزيادة وجميع هذه الطرق وغيرها من طرق هذا الحديث، عن نافع، عن ابن عمرو، وعن أبي هريرة من غير طريق سعيد، وعن عقبة بن عامر ساقها في كتاب النكاح ولم يخرج رواية عمرو الناقد في كتاب البيوع مع الروايات التي نقلناها عنه آنفًا. ومع أن عَمْرًا الناقد كادوا يجمعون على توثيقه [انظر ابن حجر، تهذيب التهذيب: 8/76، 79، ترجمة 156] فإن في النقدة من تكلم فيه شيئًا بل إن ابن المديني كذبه في حديث رواه عن ابن عيينة وفي قول أحمد فيه: (يتحرى الصدق) ما يشير أن أحمد ينزهه عن الكذب ولكن لا يبلغ به درجة التوثيق المطلق ولعله كان لفقهه يضيف بعض تأويلاته إلى النصوص التي يرويها.
وقد حمل الالتزام بأصل المذهب بعض اللّغويين إلى أن يتمحَّلوا حتى في تأويل نص لغوي ليكيِّفوه بحيث يتسق مع أصلهم. فقال ابن منظور في [لسان العرب: 8/24، 25] بعد أن ساق مقولات الشافعي في تأويل حديث (الخيار) وحديث (المساومة) ولفظتي (البيع)(والبيع) وعرض لمقولات مخالفيه:
وقد تأول بعض من يحتج بأبي حنيفة وذويه وقولهم: لا خيار للمتبايعين بعد العقد بأنهما يسمّيان متبايعين وهما متساومان قبل عقدهما البيع، واحتج في ذلك يقول الشماخ في رجل باع قوسًا:
فوافى بها بعض المواسم فانبرى
لها بيع يغلي لها السوم رائز
قال: فسماه بيع وهو سائم، قال الأزهري – وهو لُغوي شافعي، انظر هداية الله الحسيني طبقات الشافعية، ص94-: وهذا وهم وتمويه ويرد ما تأوله هذا الشيخ شيئان أحدهما أنَّ الشَّمَّاخ قال هذا الشعر بعدما انعقد البيع بينهما وتفرَّقا عن مقامهما الذي تبايعا فيه فسماه بيِّعًا بعد ذلك، ولو لم يكونا أتَّما البيع لم يسمِّه بيِّعًا وأراد بالبيِّع الذي اشترى، وهذا لا يكون حجَّة لمن يجعل المساومين بيِّعين ولما ينعقد بينهما البيع والمعنى الثاني أنه يرد تأويله ما في سياق خبر ابن عمر – رضي الله عنهما – أنه صلى الله عليه وسلم قال:((البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن يخيّر أحدهما صاحبه فإذا قال له: اختر فقد وجب البيع وإن لم يتفرَّقا)) .
قلت: هاتان الحجتان داحضتان ونبدأ بالثانية فنحن لم نقف في حديث ابن عمر – مع تعدد طرقه وألفاظه – على عبارة (وإن لم يتفرَّقا) وهي موضع الشبهة ولا نعرفها حتى من رواية ضعيفة والذي يشبهها وربما اشتبه أمرها على الأزهري حديث ابن عمر، عن طريق الليث. وقد رواه أحمد وابن ماجه وسقناه آنفًا بسنديهما وفيه:((فإن خيَّر أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك وجب البيع، وإن تفرَّقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع)) . فالتفرق الوارد في الحديث بعد حكم التخيير يتصل بحكم آخر هو أن يتفرق المتبايعان ولم يترك واحد منهما البيع فهذه صورة أخرى غير صورة الوجوب نتيجة للاختيار، وطبقًا لهذا الحديث فإن البيع المعني فيه ليس العقد وإنما هو السوم والمبايعة تعني المساومة بدلالة سياق الحديث، والتخيير المنصوص عليه في الحديث هو صيغة يراد بها إتمام البيع، وكان صلى الله عليه وسلم يفعلها ومناطها وهي تخيير البائع بين سلعته والثمن الموضوع بين يديه، فقد يكون البائع راغبًا في النقد المسكوك أو الموزون فإذا قدم المشتري إليه غير النوع الذي يرغب فيه كان له أن يعدل عن البيع لاختلاف نيته حال البيع عن واقع ما أريد إتمامه به، وهذا الاختلاف هو الذي تجنبه الحديث وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بتأكيد البيع بالتخيير وهو طبعًا لا ينطبق على التعامل بنقد واحد معلوم متفق عليه في سلعة حاضرة أو متفق على مواصفاتها والتفرق الذي جاء في الحديث أنه موجب للبيع مناطه أنَّ المساومة على الثمن أو المشارطة على المواصفات وما إليها قد انتهى شأنها بتفرق المتبايعين فوجب البيع إذا لو أن أحدهما غير موافق على ما عرضه الآخر لم يتفرقا عن صمت بل عن إلغاء المبايعة أو تأجيلها إلى أن يتفقا في أجل آخر، وبهذا يتَّضح أن الاحتجاج بحديث ابن عمر باطل وأنَّ الزيادة التي زادها الأزهري ونقلها عنه ابن منظور ليست صحيحة، أما الحجَّة الأولى وهي تأويله لبيت الشمّاخ المبني على الزعم بأنَّ الشماخ قال بيته ذاك وصفًا لحال مضت وانقضت فهو تأويل من الغريب أن يصدر عن لُغوي، ذلك بأنَّ إطلاق الشماخ وصف (البيع) على الذي (انبرى يَغلي السوم، لا يستقيم من عربي صريح أصيل إلا يكون (البيع) عنده هوالمساوم وأنَّ الكلمتين تعنيان معنى واحدًا، فقد كان الشماخ قادرًا، ودون تكلُّف، على أن يضع بدل كلمة (بيع) كلمة (مشتري) ، فتعبير بكلمة (بيع) ووصفه له بأنه (يغلي السوم) لا يساند زعم الأزهري، لأن الاحتجاج ببيت الشماخ وهم وإنما يكشف مدى تمحل البعض حتى في تأويل الألفاظ اللغوية ابتغاء تكييفها مع ما يلتزمون به من أصول مذهبهم.
ويبدو أن الفيروزأبادي كان على خلاف مع الأزهري في تمحله هذا فقال في [القاموس المحيط: 3/8] في مادة (باع) :
وكسيد: البائع والمشتري والمساوم جمع: بيعاء كعنباء وأبعياء
بل إن المرتضى الزبيدي لا يبدو موافقًا للأزهري أيضًا وإن لم يجهر بذلك، فقد قال في [تاج العروس: 5/284] :
والبيع في قول الشماخ يصف قوسًا كما في العباب، وفي اللسان في رجل باع قوسًا. وساق البيت.
ثم قال: هو المساوم لا البائع والمشتري، وقول الشماخ حجة لأبي حنيفة – رحمه الله – حيث يقول:((لا خيار للمتبايعين بعد العقد لأنهما يسميان متبايعين وهما متساومان قبل عقدهما البيع)) . وقال الشافعي – رضي الله عنه: هما متساومان قبل عقد الشراء، فإذا عقد البيع فهما متبايعان ولا يسميان بيعين ولا متبايعين، وهما في السوم قبل العقد، وقد رد الأزهري على المحتج بقول الشماخ بما هو مذكور في (التهذيب) .
قلت: وأدق ما وقفت عليه وأجمعه في تحرير هذا المقام، قول التهانوي في [إعلاء السنن: 14/6، 7] بعد أن عرض لاختلافهم في خيار المجلس وتأويل قوله صلى الله عليه وسلم:(البيعان) و (ما لم يتفرقا) أو (يفترقا) :
إذا عرفت هذا، فاعلم أن الحق في هذا المقام مع أبي حنيف لأن قوله (البيعان) تثنيه للبيع، والبيع صفة مشبهة من البيع، وللبيع معنيان: أحدهما بدل السلعة بالثمن وبهذا المعنى يقال له: البائع، والآخر المشتري ولا يقال لهما: بائعين، والآخر العقد المعروف القائم بين المتعاقدين. وبهذا المعنى يقال لأحدهما: البيع ولهما البيعان ولا يقال لأحدهما: بائع ولا هما بائعان بهذا المعنى (1) .
قلت: وغاب عنه أن يشير إلى الفارق بين الصيغتين (البيع) و (البائع) من حيث تمايز الدلالة، فكلمة (البيع) التي هي صفة مشبهة تعني الوصف المستمر غير المرتبط بزمان معين ولا المتسم بالتكرار والتجدد، بخلاف كلمة (البائع) التي تعني الوصف المرتبط بزمان قد يكون ماضيًا وقد يكون حاليًّا وقد يكون متجددًا، ولا يمكن انصرافه إلى أحد هذه المعاني الثلاثة إلا بقرينة أغلب ما تكون من السياق.
(1) انظر في جميع أحاديث بيع الخيار [البيهقي – السنن الكبرى: 5/268] وما بعدها-.
وقد ألمع إلى ذلك ابن مالك بقوله في [شرح عمدة الحافظ وعدة اللافظ: ص706، 707] :
وقد استصحب الأصل لاسم فاعل (فعل) متعديًا كان أو غير متعد كحبس الشيء فهو (حابس) ، وجلس فهو (جالس) ، وإن جاء بخلاف ذلك فهو محمول على غيره لشبه معنوي كجلي فهو (جليل) ، وطاب فهو (طيب) ، وشاب فهو (أشيب) ، وحملت على عظم فهو (عظيم) ، وجاد فهو (جيد) ، وشمط فهو (أشمط) .
ويساوي فعل في استحقاق (فاعل) فعل المتعدي، كقبل الشيء فهو (قابل) فإن كان (فعل) غير متعدِّ، استغنى فيه عن (فاعل) بـ (فعل) في الأعراض كفرح فهو (فرح) ، وخجل فهو (خجل) . وبـ (أفعل) في الخلق والألوان كشنب فهو (أشنب) ، وسود فهو (أسود) . وبـ (فعلان) في الامتلاء وضده كشبع فهو (شبعان) ، وغرث فهو (غرثان) . وبـ (فعيل) في قوة أو ضعف كقوي فهو (قوي) ، وعمي فهو (عمي) ، وسمن فهو (سمين)، ومرض فهو (مريض) . واستغني في (فعل) غالبًا بـ:(فعيل) كظرف فهو (ظريف) ، وشرف فهو (شريف) . وبـ (فعل) نحو ضخم فهو (ضخم) ، وشهم فهو (شهم) . وبـ (فعل) نحو حسن فهو (حسن) ، وبطل فهو (بطل) . وبـ (فعيل) نحو جاد فهو (جيد) ، وساد فهو (سيد) . وبـ (فعال) نحو جبن فهو (جبان) ، وعبم فهو (عبام)(1) .
وإنما سقنا كلام ابن مالك كله لنبين بالمقارنة تميز صيغة (بيع) عن غيرها من صيغ اسم الفاعل أو الصيغ الدالة عليه.
(1) العبام هو الغليظ الخلقة في حمق والعييّ الأحمق [انظر ابن منظور: لسان العرب: 11/82] .
ثم قال التهانوي:
وبهذا تبين فساد ما قال العيني من أنه أراد بهما البائع والمشتري، وإطلاقه على المشتري بطريق التغليب أو هو من باب إطلاق المشترك وإرادة معنييه معًا إذا البيع جاء لمعنيين فيه خلاف، لأنه ليس في هذا الإطلاق تغليب ولا استعمال مشترك بين المعنيين، بل هو استعمال للبيع في العقد. وظاهر أن العقد قائم بالمتعاقدين فيكونان كلاهما بيعين حقيقة، وإذا كان البيع صفة مشبهة من البيع بمعنى العقد المعروف فيكون هو حقيقة في العاقد حين العقد لا بعد العقد ولا قبله، بل هو مجاز فيهما كالأحمر فإنه حقيقة فيما قام به الحمرة لا ما كان أحمر أو ما يكون كذلك وهو ظاهر جدًّا، وقال به الشافعية، والجواب عنه بأن المتبايعين لا يكونان متبايعين حقيقةً إلا في حين تعاقدهما، لكن عقدهما لا يتم إلا بأحد أمرين، إما إبرام العقد أو بالتفرق على ظاهر الخبر، فصح أنهما متعاقدان ما داما في مجلس العقد، فعلى هذا تسميتهما متبايعين حقيقة مصادرة على المطلوب لأن هذا الجواب مبني على ثبوت خيار المجلس وهو أول النزاع، ومع قطع النظر عن المصادرة هو فاسد أيضًا لأن العقد هو الإيجاب والقبول، فلما انقضيا انقضى العقد، وبقاء حق الفسخ لا يقتضي وجوده إلى ذلك الوقت كما في خيار العيب وخيار الشرط.
قلت: ومن عجب أن المختلفين المتشاكسين في هذا الذي اعتبروه قضية من (خيار المجلس) لم يلتفتوا إلى حقيقة ذات بال، وما كان ينبغي إغفالها وهي هذا الاختلاف بين الرواة في الألفاظ التي رووا بها الحديث سواء في صفة من جاء الحديث الشريف بجعلهما في الخيار أو في صفة تعيين الحال التي ينتهي خيارهما بوقوعها.
ففي (الصيغة) وردت كلمة (البيعان) و (البيعين) – وهي صيغة واحدة اختلف وضعها باختلاف عامل الإعراب – في مجموع الروايات التي سقناها آنفًا ستين مرة.
منها عن ابن عمر: سبع وعشرون مرة. وعن أبي هريرة مرتان، وعن حكيم بن حزام ست عشرة مرة، وعن سمرة بن جندب أربع مرات، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص مرة واحدة، وورد من مراسيل ابن أبي مليكه ثلاث مرات.
أما كلمة (المتبايعان) أو (المتبايعين) فوردت عن ابن عمر أربع عشرة مرة، وعن أبي هريرة مرة واحدة، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص مرتين فيكون المجموع سبع عشرة مرة.
ثم ورد عن ابن عمر ثلاث مرات بصيغة (إذا تبايع) وفي إحداهن (المتبايعان) وفي الأخرين (الرجلان) كما وردت صيغة (تبايعا) عن مالك بلاغًا والضمير يعود إلى (أيما بيعين) .
أما حديث (المساومة) أو (المبايعة) فورد بصيغة (يبع) أو (يبيع) عن ابن عمر ثماني عشرة مرة وعن أبي هريرة ثماني مرات وعن عقبة بن عامر مرة واحدة.
وورد بصيغة (يسوم) أو (يساوم) أو (يستام) أو (يسم) عن أبي هريرة تسع مرات وعن أبي سعيد الخدري، وورد مرة عن أبي هريرة بلفظ (يزيد) بدلًا من (يبيع) أو (يسوم) وما شاكلهما.
وجلي أن هذا الاختلاف دليل على أن الرواة رووا الحديثين بالمعنى وليس باللفظ فإن تكن فيهما رواية باللفظ فالراجح أنها في حديث الخيار التي جاءت بصيغة (البيعان) لأنها أكثر ورودًا ولم يرو غيرها حكيم بن حزام ولا أبو برزة ولا عقبة بن عامر، واشترك مع هؤلاء غيرهم من رواه الحديث من الصحابة في هذه الصيغة وإن امتازوا عنهم بالصيغتين الأخريين، أما في الحديث الثاني فإن تكن فيه رواية باللفظ فهي تلك التي وردت بصيغة (يبيع) وما تصرف منها لأنها الأكثر ورودًا ولم يرد الحديث بصيغة المساومة وما تصرف منها إلا عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري ومع أنه من الممكن أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كرر هذين الحديثين بلفظين مختلفين فإن اختلاف الصيغ في كلا اللفظين يجعل هذا الاحتمال بعيدًا والأقرب منه أن يكون اختلاف البنية في صيغة (البيعان) وصيغة (يبيع) من فعل الرواة وأن يكون أساسهما مسموعًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الترجيح يبلغ بنا إلى حاصل هام وهو أن صيغة (البيع) أو (التبايع) وكلمة (البيع) لا تنصرفان بالضرورة إلى ما تم فيه التعاقد فأصبح ملزمًا للجانبين بل هي قد تدل على المتراكنين وهي الدلالة التي قال بها مالك – رحمه الله – ونؤثرها على (المتساومين) لأن مجرد المساومة لا يدل بالضرورة على الرغبة في الشراء أو في البيع وإنما الذي يدل عليها هو المراكنة، وإنما الذي يصرف تينك الصيغتين إلى إحدى هاتين الدلالتين هو القرينة، لفظية كانت أم حالية (من السياق) .
وهذا التحرير لهذه المسألة الدقيقة ضروري لما سيصير إليه تمحيص الرأي في التعاقد بالوسائل الحديثة من حيث إن الصيغ اللفظية تتحكم في تكييف دلالاتها ما تنطوي عليه من دلالات ومعانٍ لها علاقة بالزمن.
وصيغة أخرى وردت في الحديث الأول (حديث الخيار) وكانت العلة الأساسية والوحيدة لجميع الاختلاف والاضطراب حول ما سمي بـ (خيار المجلس) هي صيغة (تفرقا) أو (افترقا) ، فمجموع ما ورد بصيغة (تفرقا) في طرق الحديث التي سقناها آنفًا واحد وستون مرة.
منها في رواية ابن عمر سبع وثلاثون، وعند حكيم بن حزام تسع، وعند أبي برزة خمس، وعند سمرة بن جندب أربع، وكذلك عند عبد الله بن عمرو بن العاص، وعند أبي هريرة مرة واحدة وكذلك في مرسل عطاء.
أما مجموع ما ورد بصيغة (افترقا) فتسع عشرة مرة. منها في رواية ابن عمر عشر وعند حكيم بن حزام ثلاث، وعند كل من سمرة وأبي هريرة وفي مرسل عطاء اثنتان.
ومع أن الفرق بين دلالة تاء المطاوعة في (تفرقا) ودلالة تاء التكلف والافتعال في (افترقا) – على تمايزهما – في غير مسألة خيار المجلس – ليس بعيد الخطر ولا عميق الأثر في تكييف معنى الحديث الشريف فيما يتصل بخيار المجلس ولا فيما يتصل بالموضوع الذي نحن بصدده (التعاقد بالوسائل الحديثة) ، فإن الوقوف عند اختلاف الروايات له خطره وأثره الذين لا يمكن إغفالهما، إذ يتضح من اختلافها أن الحديث غير مروي باللفظ أو أن بعض الرواة لم يلتزموا التزامًا دقيقًا عند رواياتهم له باللفظ الذي سمعوه، فالاحتمال بعيد أن يكون رواته من الصحابة هم الذين رووه مرة بصيغة (تفرقا) وأخرى بصيغة (افترقا) . وآية ذلك أن صيغة (تفرقا) هي الأغلب عندهم جميعًا وصيغة (افترقا) هي الأقل، فتبين أنه إن كان في الرواة من التزم باللفظ الذي سمعه فهم أولئك الذين رووه بصيغة (تفرقا) أما غيرهم فرواه بالمعنى، والذين رووه بالمعنى هم من التابعين أو ممن بعدهم.
ولعل من المفيد – لتعميق الفائدة – في هذا المجال أن نذكر كيف وردت كملة (فرق) ومشتقاتها من الأفعال في القرآن الكريم، ذلك بأن نصوص الحديث النبوي نصوص تشريعية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينصرف عن صيغة قرآنية إلى غيرها في تنصيصه لتشريع ما إلا لمناط تشريعي اقتضى ذلك.
وردت كلمة (فرق) وما تصرف منها من أفعال في القرآن الكريم اثنتين وعشرين مرة (1) أو لتشريع جديد غير منصوص عليه في القرآن الكريم ، وليس هذا مجال تبيان هذا الملحظ الدقيق الذي كانت غفلة جمهور الفقهاء والمتفقهة عنه سببًا في كثير مما وقعوا فيه من الاختلاف والاضطراب.
(1)(فرقنا)(2) : الآية (50) سورة البقرة، والآية (106) سورة الإسراء. 1- سورة البقرة: الآية 50: وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ. 2- سورة الإسراء: الآية 106: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ. (افرق)(1) : الآية (25) سورة المائدة. سورة المائدة: الآية 25:قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ. (يفرق)(1) : الآية (4) سورة الدخان. سورة الدخان: الآية 4: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. (فرقت)(1) : الآية (94) سورة طه. سورة طه: الآية 94: إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي. (فرقوا)(2) : الآية (159) سورة الأنعام والآية (31-32) سورة الروم. 1- سورة الأنعام: الآية 159:إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا. 2- سورة الروم: الآية 31-32:وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا. (تفرق)(3) : وهكذا بقية الآيات الكريمات في الحاشيتين: 1- سورة البقرة: الآية 136: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. 2- سورة البقرة: الآية 285: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أََحَدٍِ مِنْ رُسُلِهِ. 3- سورة آل عمران: الآية 84: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. (يفرقوا)(2) : 1- سورة النساء: الآية 150: وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، والآية 152: وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ. (يفرّقون)(1) : 1- سورة البقرة: الآية 102: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ. (فارقوهن)(1) : سورة الطلاق: الآيةفَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ. (تفرّق)(1) : سورة البينة: الآية 4: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ. (تفرقوا)(2) : 1- سورة آل عمران: الآية 105: وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ. 2- سورة الشورى: الآية 14:وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ. (تفرق) وتاء المضارعة والإيماء إلى الإضمار منوية غير منطوق بها: 1- سورة الأنعام: الآية 153: وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ. (تفرقوا) كسابقتها: 1- سورة آل عمران: الآية 103:وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ. (تتفرقوا) بتاء المضارعة والإيماء إلى الإضمار منطوق بها: 1- سورة الشورى: الآية 13: أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا (يتفرقا)(1) 1- سورة النساء: الآية 130:وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ. (يتفرّقون)(1) : سورة الروم: الآية 14:وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ.
ولا نعرف في القرآن الكريم من مشتقات كلمة (فرق) ما يحتمل تأويله بأنه يتضمن الانفصال المادي أو الجسدي إلا في آية سورة المائدة من قوله سبحانه وتعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} ، فقد يتراءى احتمال – وإن كان بعيدًا – بأن موسى ربما كان من قصده أن يبعد الله عنه وعن أخيه أولئك القوم الفاسقين ليأمنا من أن يصيبهما ما قد ينزله عليهم من بلاء عقابًا لهم على فسقهم ذاك، لكن يبعد هذا الاحتمال – حتى ليكاد يكون تمحلا – أن موسى عليه السلام يعلم أنه وأخاه مرسلان إلى أولئك الذين سأل الله أن يفرق بينهم وبينهما، وأن عليهما الاستمرار في أداء الرسالة التي يضطلعان بمسئوليتها وتبعتها، فلا يتصور أن يطلب الابتعاد له ولأخيه عمن أرسل إليهم، وغاية ما سأله التمييز بينهما وبينهم إذا كان مقدرًا أن يُنْزِل عليهم بلاءً عقابًا لهم على فسقهم ذاك.
وآية أخرى قد يتوهم البعض أن فيها معنى الانفصال المادي وهي آية سورة النساء في المعلقة التي تعذر الصلح بينها وبين زوجها من قوله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} ، وهذا الوهم يبطله أن المطلقة لها أن تمكث في بيت زوجها حتى تستوفي عدتها، وأن التفرق هنا معنوي يقصد بها انفصال العصمة الواشجة بين الزوجين بالطلاق.
ولا سبيل إلى الوهم بأن التفرق في الدين وما شاكله مما جاء في الآيات الكريمة الأخرى يمكن أن يتضمن الانفصال المادِّي.
وبهذا يتضح أن صيغة (يتفرقا) في حديث الخيار هي الصيغة الأرجح أن تكون رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باللفظ وليس بالمعنى إذ لم نجد في القرآن الكريم التعبير بصيغة (افترق) وما تصرف منها، وقد سبق أن ألمعنا إلى أننا لا نتصور أن يعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث تشريعي عن الصيغة القرآنية إلا لعلة موجبة لذلك، ولا نجد هذه العلة في حديث الخيار.
ثم أنه على فرض أن صيغة: (افترقا) هي المروية باللفظ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعملها في حديث يبعد احتمال أن تكون الصيغة فيه رويت بالمعنى وهي قوله صلى الله عليه وسلم: ((افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة
…
)) الحديث. وهو مشهور وليس من شأننا في هذا المجال تخريجه، وما من أحد يدعى أن صيغة الافتراق الواردة ثلاث مرات في هذا الحديث بصيغة الماضي مرتين والمضارع مرة تعني – أو يمكن أن تتضمن – الانفصال المادي، غاية أمرها أنها تعني نفس المعنى المعبر عنه بالتفرق – بدلًا من الافتراق – في الآيات القرآنية الكريمة الواردة في النهي عن التفرق في الدين، وإنما جاء التعبير في الحديث النبوي الشريف بـ (الافتراق) بدلًا من (التفرق) لملحظ بديع هو أن التفرق الوارد النهي عنه في القرآن الكريم أو التنديد به إما أنه قد حدث كما في سورة البينة:{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} ، وجاء التعبير بـ (تفرق) بدلا من (افترق) لإيضاح أن الفرقة جاءت عن عمد وتكلف وسبق إصرار، وذلك أبلغ في التنديد بها وبمقترفيها.
وإما للنهي عنه وبيان أن اقترافه لا يمكن أن يكون عفوًا ودون قصد، بل لا يتأتى إلا عن عمد وتكلّف وسبق إصرار، فهو لذلك يوجب على مقترفه ما يستحقه من عقاب.
أما كلمة (افترق) في الحديث الشريف فهي إخبار بما حدث ونبوءة بما سيحدث ولئن تضمنت معنى التنديد فإن هذا المعنى لم تتضمنه الصيغة لذاتها وإنما تضمنه كل من الأخبار والنبوءة في مجموعة وليس بصيغة معينة.
ثم إنّ تاء المضارعة والإيحاء بالإضمار معلوم أنها إذا دخلت على الفعل المضاعف تعني في كثير من الأحيان الاجتهاد والتكلف، كما تدل على المطاوعة لفظًا. أما تاء المطاوعة – وهي التي تأتي بين الفاء والعين في الفعل ومشتقاته (افتعل) – كما في صيغة (افترق) فهي تعني من حيث المعنى التكلف والمعاناة بصورة أساسية، وقلَّ أن تخلو من هذا المعنى وليس هذا المجال تفصيل ذلك.
غاية ما نقصد إليه بهذا الإلماع إلى ما تؤمئ إليه التاءان، هو أن نوضح أن الانفصال المادي إذا عبّر عنه بـ (التفرق) و (الافتراق) لا بد من قرينة تصرف العبارة إليه، وأن الصيغتين لا تعنيانه أساسًا كما لا تعنيان غيره من معانيهما وإنما تتصرفان إلى معنى منها بقرينة. وورود إحداهما في القرآن أو في الحديث يتحكم السياق والموضوع في تحديد المعنى المقصود إليه بها، وبذلك يتضح أن جدل الفقهاء والمتفقهة حول ما سموه (خيار المجلس) جدل قائم على وهم قد لا نعجب من صدوره من المتفقهة، إنما نعجب أشد العجب وأبلغه من صدوره من مثل الشافعي – رحمه الله – وهو اللغوي والمحدث والفقيه الذي لا يزن بريبة، ثم من إلحاحه في تقرير ما ذهب إليه إلحاحًا قل أن عهدناه في تقرير أصوله، ويظهر أن موضوع (خيار المجلس) كان لعهده موضوعًا متصلا بإثبات الوجود الفقهي لأرباب المذاهب أو المدارس الفقهية والأصولية، ولعله كان من أهم أسباب الخلاف وأعمقها نفسيًّا وبين أستاذه مالك – رحمه الله – على أن مالكًا كان أسلم منطقًا وأدرك للبيان منه حين اعتبر المبايعة والتبايع وما شاكلهما تعني المراكنة أو ركون أحد الطرفين، وأنَّ (التفرق) أو (الافتراق) يراد به أن يكون بالأقوال لا بالأبدان.
ورحم الله ابن تيمية – وهو حنبلي مجتهد – إذ يقول في [مجموع فتاويه: 29/26، 27] :
.... فأصول مالك في البيوع أجود من أصول غيره، فإنه أخذ ذلك عن سعيد بن المسيب الذي كان يقال: هو أفقه الناس في البيوع كما كان يقال: عطاء أفقه الناس في المناسك، وإبراهيم أفقههم في الصلاة، والحسن أجمعهم لذلك كله. ولهذا وافق أحمد كل واحد من التابعين في أغلب ما فضل فيه لمن استقرأ ذلك من أجوبته والإمام أحمد موافق لمالك في ذلك في الأغلب
…
إلخ) .
والذي يعنينا من صيغتي (التفرق) و (الافتراق) في حديث الخيار، هو بيان أن المراد بهما وقوع الانفصال بالأقوال لا بالأبدان، وهذا أمر أساسي فيما نحن بصدده من محاولة استجلاء المطابقة بين الأحكام الشرعية وبين ما نعايشه اليوم من التعامل بالوسائل الحديثة للتواصل تعاملا كثيرًا ما يدخل في نطاق التعاقد، وتأكيد القاعدة التي نعتمدها أصلا في بحثنا هذا وفي غيره من أن الدلالة الظرفية في الصيغ أساسية في تكييف الحكم المستنبط منها، وهذا ما سيزداد جلاء في الفصول الآتية بحول الله.
لكن قبل أن نختم هذا الفصل نود أن ننقل أروع وأجلى ما وقفنا عليه من كلام السلف الموقفين في ما نحن بصدده من بيان طرائق الاستدلال بالصيغ في تكييف الحكم الشرعي، ذلك هو قول ابن القيم – رحمه الله – في [أعلام الموقعين: 1/219، 220] :
…
والألفاظ ليست تعبدية، والعارف يقول ماذا أراد، واللفظي يقول ماذا قال، كما كان الذين لا يفقهون إذا خرجوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم يقولون بقوله:{مَاذَا قَالَ آَنِفًا} [سورة محمد: الآية 16] . وقد أنكر الله سبحانه عليهم وعلى أمثالهم بقوله: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [سورة النساء: الآية 78] . فذم من لم يفقه كلامه، والفقه أخص من الفهم، وهو فهم مراد المتكلم من كلامه، وهذا قدر زائد على مجرد فهم وضع اللفظ في اللغة، وبحسب تفاوت مراتب الناس في هذا تتفاوت مراتبهم في الفقه.
وقد كان الصحابة يستدلون على إذْن الرب تعالى وإباحته وإقراره وعدم إنكاره عليهم في زمن الوحي، وهذا استدلال على المراد بغير لفظ بل بما عرف من موجب أسمائه وصفاته، وأنه لا يقر على باطل حتى يبينه، وكذلك استدلال الصديقة الكبرى أم المؤمنين خديجة – بما عرفته من حكمة الرب تعالى وكمالًا لأسمائه وصفاته ورحمته – أنه لا يخزى محمدًا صلى الله عليه وسلم، فإنه يصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق، وإِنَّ من كان بهذه المثابة فإن العزيز الرحيم الذي هو أحكم الحاكمين وإله العالمين لا يخزيه ولا يسلط عليه الشيطان، وهذا استدلال منها قبل ثبوت النبوة والرسالة بل استدلال على صحتها وثبوتها في حق من هذا شأنه فهذا معرفة منها بمراد الرب تعالى وما يفعله، من أسمائه وصفاته وحكمته ورحمته وإحسانه ومجازاته المحسن بإحسانه، وأنه لا يضيع أجر المحسنين. وقد كانت الصحابة أفهم الأمة لمراد نبيها وأتبع له، وإنما كانوا يدندنون حول معرفة مراده ومقصوده، ولم يكن أحد منهم يظهر له مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يعدل عنه إلى غيره البتة.
والعلم بمراد المتكلم يعرف تارة من عموم لفظه وتارة من عموم علته، والحوالة على الأول أوضح لأرباب الألفاظ، وعلى الثاني أوضح لأرباب المعاني والفهم والتدبر، وقد يعرض لكل من الفريقين ما يخل بمعرفة مراد المتكلم فيعرض لأرباب الألفاظ التقصير بها من عمومها وهضمها تارة وتحميلها فوق ما أريد بها تارة، ويعرض لأرباب المعاني فيها نظير ما يعرض لأرباب الألفاظ.
ثم قال [3/119، 120] :
ومما يوضح ما ذكرناه – من أن المقصود في العقود معتبرة دون الألفاظ المجردة التي لم تقصد بها معانيها وحقائقها أو قصد غيرها – أن صيغ العقود (بعت) و (اشتريت) و (تزوجت) و (أجرت) إما إخبارات وإما إنشاءات وإما أنها متضمنة للأمرين، فهي إخبارات عما في النفس من المعاني التي تدل على العقود وإنشاءات لحصول العقود في الخارج، فلفظها موجب لمعناها في الخارج، وهي إخبار عما في النفس من تلك المعاني ولا بد في صحتها من مطابقة خبرها لمخبرها.
ثم قال: وقد تقدم أن صيغ العقود إخبارات لما في النفس من المعاني التي هي أصل العقود ومبدأ الحقيقة التي بها يصير اللفظ كلامًا معتبرًا، فإنها لا تصير كلامًا معتبرًا إلا إذا قورنت بمعانيها فتصير إنشاء للعقود والتصرفات من حيث إنها هي التي أثبتت الحكم وبها وجد، وإخبارات من حيث دلالتها على المعاني التي في النفس، فهي تشبه في اللفظ (أحببت) أو (أبغضت) و (كرهت) ، وتشبه في المعنى (قم) و (اقعد) ، وهذه الأقوال إنما تفيد الأحكام إذا قصد المتكلم بها – حقيقةً أو حكمًا – ما جعلت له، وإذا لم يقصد بها ما يناقض معناها، وهذا فيما بينه وبين الله تعالى، فأما في الظاهر فالأمر محمول على الصحة وإلا ما تم عقد ولا تصرف، فإذا قال (بعت) أو (تزوجت) كان هذا اللفظ دليلا على أنه قصد معناه المقصود به وجعله الشارع بمنزلة القاصد إن كان هازلا، وباللفظ والمعنى جميعًا يتم الحكم فكل منها جزء السبب، وهما مجموعة وإن كانت العبرة في الحقيقة بالمعنى واللفظ دليل، ولهذا يصار إلى غيره عند تعذره، وهذا شأن عامة أنواع الكلام فإنه محمول على معناه المحمول منه عند الإطلاق لا سيما الأحكام الشرعية التي علَّق الشارع بها أحكامها، فإنَّ المتكلم عليه أن يقصد بتلك الألفاظ معانيها، والمستمع عليه أن يحملها على تلك المعاني، فإذا لم يقصد المتكلم بها معانيها بل تكلم بها غير قاصد لمعانيها أو قاصدًا لغيرها أبطل الشَّارع عليه قصده، فإن كان هازلا أو لاعبًا لم يقصد المعنى ألزمه الشارع المعني كمن هزل بالكفر والطلاق والنكاح والرجعة، بل لو تكلم الكافر بكلمة الإسلام هازلًا ألزم به وجرت عليه أحكامه ظاهرًا، وإن تكلم بها مخادعًا ماكرًا محتالا مظهرًا خلاف ما أبطن لم يعطه الشارع مقصوده.
الفصل السادس
العرف فيصلا في التشريع
وردت كلمة (عرف) و (معروف) في القرآن الكريم بمعنى الإحسان أو القصد أو العدل سبعًا وعشرين، واحدة منها بصيغة (عرف)، وست وعشرون بصيغة (المعروف) تعليق:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الآية 199 من سورة الأعراف] . {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [الآية 178 من سورة البقرة] . {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [الآية 180من سورة البقرة] . {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [الآية228 من سورة البقرة] . {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [الآية 229 من سور البقرة] . {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الآية 231 من سورة البقرة] . {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الآية 231 من سورة البقرة] . {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [الآية 232 من سورة البقرة] ، {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [الآية 233 من سورة البقرة] . {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [الآية 233 من سورة البقرة] . {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} [الآية 236 من سورة البقرة] . {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} [الآية 240 من سورة البقرة] . {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [الآية 241 من سورة البقرة]
{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [الآية 263 من سورة البقرة] . {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [الآية 6 من سورة النساء] . {فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [الآية 21 من سورة محمد] . {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الآية 12 من سورة الممتحنة] . {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الآية 2 من سورة الطلاق] . {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الآية 2 من سورة الطلاق] . {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الآية 6 من سورة الطلاق] . {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الآية 235 من سورة البقرة] . {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الآية 5 من سورة النساء] . {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الآية 8 من سورة النساء] . {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [الآية 15 من سورة لقمان]{إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} [الآية 6 من سورة الأحزاب] . {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الآية 32 من سورة الأحزاب] . .
وقد تواطأ أهل اللغة والمفسرون والأصوليون والفقهاء تواطُؤًا يكاد يكون تامًّا في تفسير كلمة (العرف) و (المعروف) بالإحسان والعدل والقصد والعادة وما شاكل ذلك.
قال ابن منظور في [لسان العرب: 9/239] :
وقوله: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} ، أي مصاحبا معروفًا، قال الزجاج: العروف هنا ما يستحسن من الأفعال.
ثم قال:
وقوله تعالى: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} ، قال بعض المفسرين فيها: أنها أرسلت بالعرف والإحسان. وقيل: يعني الملائكة أرسلوا للمعروف والإحسان. والعرف والعارفة والمعروف واحد ضدَّ النكر وهو كل ما تعرفه النفس من الخير وتبسأ (1) به وتطمئن إليه.
ثم قال:
وقد تكرر ذكر (المعروف) في الحديث وهو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات وهو من الصفات الغالبة أي أمر معروف بين الناس إذا رأوه لا ينكرونه.
وقال الراغب في [المفردات: ص496] :
والمعروف اسم لكل فعل يعرف بالعقل أو الشرع حسنه والمنكر ما ينكر بهما.
قال تعالى: {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران: الآية 104] .
وقال: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة لقمان: الآية 17] .
وقال: {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [سورة الأحزاب: الآية 32] .
(1) قال ابن منظور في [لسان العرب: 1/36] . بَسَأَ به يَبْسأُ وبُسُوءًا وبَسئَ بَسَأً: أَنِسَ بِهِ
…
إلخ.
ولهذا قيل للاقتصاد في الجود معروف لما كان ذلك مستحسنًا في العقود وبالشرع، نحو قوله تعالى:{وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [سورة النساء: الآية 6] .
وقوله: {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ} [سورة النساء: الآية 114] .
وقوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [سورة الطلاق: الآية 2] .
وقوله: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ} [سورة البقرة: الآية 263] ، أي رد بالجميل ودعاء خير من صدقة كذلك.
والعرف والمعروف من الإحسان.
قال تعالى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [سورة الأعراف: الآية 199] .
وقال الرازي في: [التفسير الكبير: المجلد 3، 5 /59] في تفسير قوله تعالى: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [سورة البقرة: الآية 179] .
البحث الثالث: (الاتباع بالمعروف) أن لا يشدَّد بالمطالبة بل يجرى فيها على العادة.
وقال محمد الطاهر بن عاشور في [التحرير والتنوير: 2/400]، عند تفسير قوله سبحانه وتعالى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [سورة البقرة: الآية 228] .
والمراد به – أي بالمعروف – ما تعرف العقول السالمة المجردة من الانحياز إلى الأهواء أو العادات أو التعاليم الضّالة، وذلك هو الحسن، وهو ما جاء به الشرع نصًّا، أو قياسًا، أو اقتضته المقاصد الشرعية، أو المصلحة العامة التي ليس في الشرع ما يعارضها.
والعرب تطلق المعروف على ما قابل المنكر.
ثم قال محمد الطاهر بن عاشور [ص407] .
{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [سورة البقرة: الآية 229] .
والمعروف هنا هو ما عرفه الناس في معاملاتهم من الحقوق التي قررها الإسلام أو قررتها العادات التي لا تنافي الإسلام.
ثم قال في [التحرير والتنوير: 9/277] عند تفسير هذه الآية:
والعرف اسم مرادف للمعروف من الأعمال، وهو العمل الذي تعرفه النفوس، أي لا تكره إذا خليت وشأنها بدون غرض لها في ضده. وقد دل على مرادفته للمعروف قول النابغة:
(فلا النكر معروف ولا العرف ضائع) .
فقابل النكر بالعرف.
وقال الرازي في [التفسير الكبير: المجلد 8، 15 /100] في معرض تأويل هذه الآية:
والعرف والعارفة والمعروف هو كل أمر عرف أنه لا بد من الإتيان به وأن وجوده خير من عدمه
***
وقد ورد في الحديث الشريف من القول والفعل ما يثبت العمل بالعرف على اختلاف أنواعه التي ألمعنا إليها آنفًا، وسنعود إلى تبيان البعض بعد قليل، وما نريد أن نسوق من ذلك أكثر من أربعة نماذج أحدها لم نقصد إليه لذاته وإنما جاء في معرض كلام للبخاري – رحمه الله – رأينا من المفيد أن نسوقه، فنقلنا عنه طريقًا من طرقه وهي حسبنا ذلك هو حديث هند أم معاوية.
قال البخاري في [صحيحه: 3/36] باب: من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع والإجارة والمكيال والوزن وسننهم على نياتهم ومذاهبهم المشهورة:
وقال شريح (1) للغزالين: (سنتكم بينكم)، وقال.................. عبد الوهاب (2) عن أيوب........................ (3) . عن محمد (4) :(لا بأس العشرة بأحد عشر ويأخذ النفقة) ربحًا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لهند: ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) . وقال تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} واكترى الحسن من عبد الله بن مرداس حمارًا فقال: بكم؟ قال: بدانقين، فركبه ثم جاء مرة أخرى فقال: الحمار الحمار فركبه ولم يشارطه فبعث إليه بنصف درهم. ثم قال: حدثنا أبو النعيم، حدثنا سفيان، عن هشام، عن عروة، عن عائشة – رضي الله عنها – قالت:((قالت هند أم معاوية لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ أبا سفيان رجل شحيح فهل علي جناح أن آخذ من ماله سرًّا، قال: خذي أنت وبنوك ما يكفيك بالمعروف)) .
حدثني إسحاق حدثنا ابن نمير أخبرنا هشام. وحدثني محمد قال: سمعت عثمان بن خرقد قال: سمعت هشام بن عروة يحدث. عن أبيه أنه سمع عائشة – رضي الله عنها – تقول: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} أنزلت في أموال اليتيم الذي يقيم ويصلح في ماله وإن كان فقيرًا أكل بالمعروف. قال ابن حجر في [فتح الباري: 4/338] تعقيبًا على هذه الترجمة – باب: من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع والإجارة والكيل والوزن، وسننهم على نياتهم ومذاهبهم المشهورة.
(1) شريح بن الحارث بن قيس بن أمية القاضي أبوالوليد الكندي الكوفي الفقيه ويقال: شريح بن شرحبيل، هكذا ترجم له الذهبي – رحمه الله في [تذكرة الحفاظ: 1/59، ترجمة 44] ، وهو موجز ما أطنب فيه حول نسبه غيره ممن ترجموا من أيمة الجرح والتعديل وتراجم الرجال ومؤرخي الصدر الأول. ثم قال – بعد أن رمز بأن البخاري ومسلم أخرجوا له-: من المخضرمين استقضاه عمر على الكوفة ثم علي فمن بعده، وحدث عن عمر وعلي وابن مسعود – رضي الله عنهم وعنه الشعبي والنخعي وعبد العزيز بن رفيع ومحمد بن سيرين وطائفة. استعفى من القضاء قبل موته بسنة من الحجاج وعاش مائة وعشرين سنة، وثقه يحيى بن معين وكان فقيهًا شاعرًا فائقًا فيه دعابة. مات سنة ثمان وسبعين وقيل سنة ثمانين. قلت: وصفه علي – رضي الله عنه – بأنه أقضى العرب.
(2)
عبد الوهاب هذا هو عبد الوهاب الثقفي وصفه الذهبي في [تذكرة الحفاظ: 1/321، ترجمة 300] بعد أن رمز إلى أن الجماعة أخرجوا له: بأنه الحافظ الإمام أبو محمد بن عبد المجيد بن السلط بن عبد الله بن عبد الحكم بن العاص الثقفي البصري، حدث عن أيوب السختياني ومالك بن دينار وخالد الحذاء وحميد الطويل وطبقتهم وعنهم أحمد بن حنبل وابن راهويه وأبو حفص القلاس وبندار وحفص بن عمر بن ربال الربالي والحسن بن عرفة وخلق. كان ثقة سريًّا جليل القدر فعن القعنبي قال: كانت غلة عبد الوهاب في السنة نحو أربعين ألفًا ينفقها كلها عن المحدثين. وقال ابن المديني ويحيى: ثقة. وقال قتيبة: ما رأيت مثل هؤلاء الفقهاء الأربعة: مالك والليث وعباد بن عباد عبد الوهاب الثقفي. وقال ابن المديني: ليس في الدنيا كتاب عن يحيى بن سعيد أصح من كتاب عبد الوهاب. قال الذهبي: توفي سنة أربع وتسعين ومائة له أربع وثمانون سنة فيقال إنه تغير بأخرة. قلت: ولا يكاد يخلو كتاب من كتب الجرح والتعديل وتراجم الرجال من ترجمة له وحديث عنه ما بين موجز ومطنب.
(3)
ترجم له الذهبي في (تذكرة الحفاظ) كما ترجم له غيره ممن عنوا بتراجم الرجال وأيمة الجرح والتعديل، فقال:[1/130، 132، ترجمة 117] – بعد أن رمز أن الجماعة أخرجوا له -: أيوب بن تيمية كيسان الإمام أبو بكر السختياني البصري الحافظ أحد الأعلام كان من الموالي سمع عمرو بن سلمة الحرمي وأبا العالية الرياحي وسعيد بن جبير وأبا قلابة وعبد الله بن شقيق وابن سيرين وعدة وعنه شعبة ومعمر والحمادان والسفيانان ومعتمر بن سليمان وابن علية وخلق كثير. قال ابن المديني: له نحو ثمانمائة حديث، وقال شعبة: كان أيوب سيد العلماء، وقال ابن عيينة: لم ألق مثله وقال حماد بن زيد: هو أفضل من جالست وأشده اتباعًا للسنة، وروى وهيب عن الجعد أبي عثمان أنه سمع الحسن يقول: أيوب سيد شباب أهل البصرة قال ابن عون: لما مات محمد بن سيرين قلنا: من ثم؟ قلنا: أيوب، قال ابن سعد: كان أيوب ثقة ثبتًا في الحديث جامعًا كثير العلم حجة عدلا وقال أبو حاتم: ثقة لا يسأل عن مثله، وروى جرير الضبي عن أشعت قال: كان أيوب جهبذ العلماء، وقال هشام بن عروة: لم أر بالبصرة مثل أيوب، وقال إسحاق بن محمد الفروي: سمعت مالكًا يقول: كنا ندخل على أيوب فإذا ذكرنا له حديث النبي صلى الله عليه وسلم بكي حتى نرحمه، وعن هشام بن حسان قال: حج أيوب السختياني أربعين حجة، قال وهيب: سمعت أيوب يقول: إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل، وقال حماد بن زيد: كان أيوب صديقًا ليزيد بن الوليد فلما ولي الخلافة قال: اللهم أنسه ذكري وكان يقول: ليتقي الله رجل وإن زهد فلا يجعلن زهده عذابًا على الناس وكان أيوب يخفي زهده. كان الصبح رفع صوته كأنه قام تلك الساعة. ابن مهدي: أخبرنا أحمد بن زيد سمعت أيوب وقيل له: مالك لا تنظر في هذا؟ يعني الرأي، قال: قيل للحمَّار ألا تجتر؟ قال: أكره مضغ الباطل. وقال حماد: ما رأيت رجلا قط أشد تبسمًا في وجوه الناس من أيوب. وقال ابن عقيل في (شمائل الزهاد) : أخبرنا محمد بن إبراهيم، أخبرنا أبو الربيع، سمعت أبا يعمر بالري يقول: كان أيوب في طريق مكة فأصاب الناس عطش وخافوا فقال أيوب: أتكتمون علي؟ قالوا: نعم فدوّر دائرة ودعا فنبع الماء فرووا وسقوا الجمال. ثم أمر بيده على الموضع فصار كما كان. قال أبو الربيع: فلما رجعت إلى البصرة حدثت حماد بن زيد بهذا فقال: حدثني عبد الواحد بن زياد أنه كان مع أيوب في هذه السفرة التي كان هذا فيها. عن النضر بن كثير السعدي، حدثنا عبد الواحد بن زيد قال: كنت مع أيوب فعطشت عطشًا شديدًا، فقال: تستر علي؟ فقلت: نعم، فغمز برجله على حراء فنبع الماء فشربت حتى رويت وحملت معي. مات أيوب سنة إحدى وثلاثين ومائة في الطاعون وله ثلاث وستون سنة.
(4)
وصفه الذهبي في [تذكرة الحفاظ: 1/77، 78، ترجمة: 84]- ورمز بأن الجماعة أخرجوا له فقال-: أبو بكر مولى أنس بن مالك واصل سيرين من جرْجراية قال أنس بن سيرين: ولد أخي لسنتين بقيتا من خلافة عثمان وولدت بعده بسنة، سمع محمد أبا هريرة وعمران بن حصين وابن عباس وابن عمر وطائفة، وعنه أيوب وابن عون وقرة بن خالد وأبو هلال محمد بن سليم وعوف وهشام بن حسان ويونس ومهدي بن ميمون وجرير بن حازم وخلق كثير. كان فقيهًا إمامًا غزير العلم ثقة ثبتًا علامة في التعبير رأسًا في الورع وأمه صفيه مولاة لأبي بكر الصديق- رضي الله عنه. قال مورق العجلي: ما رأيت أحدًا أفقه في ورعه ولا أورع في فقه من ابن سيرين وقال أبو قلابة: من يطيق مثل ما يطيق محمد؟ يركب مثل حد السناس، وقال شعيب بن الحبحاب: قال لي الشعبي: عليك بذلك الأصم- يعني ابن سيرين- وقال ابن عون: لم تر عيناي مثل ابن سيرين والقاسم ورجاء بن حيوة، وقال أبو عوانة: رأيت ابن سيرين فما رآه أحد إلا ذكر الله تعالى، وذكر الثوري عن زهير الأقطع قال ابن سيرين: إذا ذكرت مات كل عضو منه، قال يونس: كان ابن سيرين صاحب ضحك ومزاح. وتوفي محمد بن الحسن بمائة في شوال سنة عشر ومئة وهو أثبت من الحسن رحمه الله تعالى. وانظر في مزيد من ترجمته كتب الجرح والتعديل وتراجم الرجال كافة.
قال ابن المنير: وغيره مقصود بهذه الترجمة إثبات الاعتماد على العرف وأنه يقضي به على ظواهر الألفاظ، ولو أن رجلا وكَّل رجلا في بيع سلعة فباعها بغير النقد الذي عرف الناس لم يجز، وكذا لو باع موزونًا أو مكيلًا بغير الكيل والوزن المعتاد. وذكر القاضي الحسين من الشافعية أنَّ الرجوع إلى العرف أحد القواعد الخمس التي بني عليها الفقه، فمنها الرجوع إلى العرف في معرفة أسباب الأحكام من الصفة الإضافة كصغر ضبَّة الفِضَّة وكبرها، وغالب الكثافة في اللحية ونادرها، وقرب منزله وبعدِه وكثرة فعل أو كلام وقلته في الصلاة، ومقابلا بعوض في البيع وعينًا، وثمن مثل، ومهر مثل، وكفء نكاح، ومئونة، ونفقة، وكسوة، وسكنى، وما يليق بحال الشخص من ذلك ومنها الرجوع إليه في المقادير كالحيض، والطهر، وأكثر مدة الحمل، وسِنِّ اليأس، ومنها الرجوع إليه في فعل غير منضبط (يترتب) – كذا ولعل صوابه: تترتب – عليه الأحكام كإحياء الموات، والإذن في الضيافة ودخول بيت قريب وتبسط مع صديق، وما يعد قبضًا وإيداعًا وهدية وغصبًا، وحفظ وديعة، وانتفاعًا بعارية. ومنها الرجوع إليه في أمر مخصص كألفاظ الأيمان، والوقف والوصية والتفويض، ومقادير المكاييل والموازين وغير ذلك.
وأما الثلاثة الأخرى فقصدنا قصدًا إلى نقلها وإيراد كل واحد منها من عدة طرق لما سيتبينه القارئ بعد قليل، أما أولها فقوله صلى الله عليه وسلم: ((الوزن وزن أهل المدينة
…
)) الحديث.
قال عبد الرزاق في [مصنفه: 8/67، ح 14335] :
أخبرنا معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:((المكيال على مكيال أهل مكّة والوزن على وزن أهل المدينة)) .
14336-
أخبرنا معمر عن أيوب، عن عطاء بن أبي رباح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المكيال مكيال أهل المدينة والميزان ميزان أهل مكة)) .
14337-
عن الثوري، عن رجل، عن عطاء مثله.
وقال أبو عبيد في [الأموال: 696، الأثر 1606](بتصرف) .
سمعت إسماعيل بن عمرو الواسطي، يحدث عن سفيان، عن حنظلة بن أبي سفيان، عن طاووس، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((المكيال مكيال المدينة والميزان ميزان مكة)) . وبعضهم يرويه: ((الميزان ميزان المدينة والمكيال مكيال مكة)) .
وقال ابن حبان في [الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، علاء الدين الفارسي: 5/119، 120، ح3272] :
أخبرنا عمر بن محمد الهمذاني، حدثنا نصر بن علي الجهضمي، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا سفيان بن حنظلة بن أبي سفيان، عن طاووس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الوزن وزن أهل مكة والمكيال مكيال أهل المدينة)) .
3273-
أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة قال: حدثنا محمد بن يحيى الذهلي، حدثنا إبراهيم بن حمزة الزبيري.
قال ابن خزيمة: وحدثنا محمد بن عبد الله الهاشمي، حدثنا أبو مروان العثماني، حدثنا عبد العزيز بن أبي حزم، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: يا رسول الله، صاعنا أصغر الصيعان ومدنا أصغر الأمداد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم بارك لنا في صاعنا وبارك لنا في قليلنا وكثيرنا واجعل لنا مع البركة بركتين)) .
وتعقبه بقوله: في ترك إنكار المصطفى حيث قالوا: ((صاعنا أصغر الصيعان)) ، بيان واضح أن صاع أهل المدينة أصغر الصيعان ولم يختلف أهل العلم من لدن الصحابة إلى يومنا هذا في الصاع وقدره إلا ما قاله الحجازيون والعراقيون فزعم الحجازيون أن الصاع خمسة أرطال وثلث. وقال العراقيون: الصاع ثمانية أرطال. فلمّا لم نجد بين أهل العلم خلافا في قدر الصاع إلا ما وصفنا صح أن صاع النبي صلى الله عليه وسلم كان خمسة أرطال وثلث، إذ هو أصغر الصيعان وبطل قول من زعم أن الصاع ثمانية أرطال من غير دليل ثبت له على صحته.
وقال أبو داود في [سننه: 3/246، ح 3340] :
حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا ابن دكين، حدثنا سفيان، عن حنظلة، عن طاووس، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الوزن وزن أهل مكة والمكيال مكيال أهل المدينة)) .
وتعقبه بقوله: وكذا رواه الفريابي وأبو أحمد، عن سفيان، وافقهما في المتن. وقال أبو أحمد: عن ابن عباس مكان ابن عمر ورواه الوليد بن مسلم، عن حنظلة قال: وزن المدينة ومكيال مكة.
قال أبو داود: واختلف في المتن في حديث مالك بن دينار، عن عطاء، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا.
وقال النسائي في [سننه: 5/54] :
قال أبو عبيد: وحدثنيه زياد بن أيوب، أخبرنا أحمد بن سليمان قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا سفيان، عن حنظلة، عن طاووس، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((المكيال مكيال أهل المدينة والوزن وزن أهل مكة)) .
ثم [نفس المرجع: 7/284] .
اخبرنا إسحاق بن إبراهيم عن الملائي عن سفيان.
وأنبأنا محمد بن إبراهيم قال: أنبأنا أبو نعيم، عن سفيان، عن حنظلة عن طاووس، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المكيال على مكيال أهل المدينة والوزن على وزن أهل مكة)) واللفظ لإسحاق.
وأخرجه البيهقي في [السنن الكبرى: 6/31]، فقال:
أخبرنا أبو الحسن بن عبدان أنبأ سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني، حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن حنظلة بن أبي سفيان، عن طاووس، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((المكيال مكيال أهل المدينة والوزن وزن أهل مكة)) .
أخبرنا علي، أنبأنا سليمان بن حنبل، حدثنا نصر بن علي.
وأخبرنا سليمان بن محمد بن الوليد الترسي، حدثنا عمرو بن علي، قالا: حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا سفيان، عن حنظلة، عن طاووس، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المكيال مكيال أهل مكة والميزان ميزان أهل المدينة)) .
قال سليمان: هكذا رواه أحمد، قال: عن ابن عباس فخالف أبو نعيم في لفظ الحديث والصواب ما رواه أبو نعيم بالإسناد واللفظ.
وأما الثاني فقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنتم أعلم بأمور دنياكم)) .
قال أحمد في [مسنده: 1/162] :
حدثنا بهز وعفان قالا: حدثنا أبو عوانة، عن سماك عن موسى بن طلحة، عن أبيه، قال:((مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم في رءوس النخل فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قالوا: يلقحونه يجعلون الذكر في الأنثى قال: ما أظن ذلك يغني شيئًا فأخبروا بذلك فتركوه، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن كان ينفعهم فليصنعوه فإني إنما ظننت ظنًّا فلا تؤاخذني بالظن ولكن إذا أخبرتكم عن الله عز وجل بشيء فخذوه فإني لن أكذب على الله شيئًا)) .
قلت: هذا الحديث من هذا الطريق ليس فيه ذكر لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنتم أعلم بأمور دنياكم)) أو ما في معناه مما سيأتي في طرقه الأخرى وإنما سقناه استكمالا لما بين أيدينا من طرقه.
ثم قال: [3/152] :
حدثنا عبد الصمد، حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس قال:((سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصواتًا فقال: ما هذا؟ قالوا: يلقحون النخل فقال: لو تركوه فلم يلحقوه لصلح. فتركوه فلم يلقحوه فخرج شَيْصًا)) (1)((فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما لكم؟ قالوا: تركوه لما قلت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان شيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم به، فإذا كان من أمر دينكم فإلى)) .
وقال مسلم في [صحيحه: 4/1835، 1836، ح2361] :
حدثنا قتيبة بن سعيد الثقفي وأبو كامل الجحدري وتقاربا في اللفظ وهذا حديث قتيبة قالا: حدثنا أبو عوانة، عن سماك، عن موسى بن طلحة، عن أبيه قال:((مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رءوس النخل فقال: ما يصنع هؤلاء؟ فقالوا: يلقحونه يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أظن يغني ذلك شيئًا قال: فأخبروا بذلك فتركوه فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنَّما ظننت ظنًّا فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئًا فخذوا به فإني لن أكذب على الله عز وجل) .
2362-
حدثنا عبد الله بن الرومي اليمامي وعباس بن عبد العظيم العنبري وأحمد بن جعفر المعفري قالوا: حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة – وهو ابن عمار-، حدثنا أبو النجاشي، حدثني رافع بن خديج قال:((قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يأبرون النخل. يقولون: يلقحون النخل. فقال: (ماتصنعون؟)، قالوا: كنا نصنعه. قال: (لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرًا)، فتركوه. فنفضت أو فنقصت. قال: فذكروا ذلك له فقال: ((إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي، فإنما أنا بشر)) )) .
قال عكرمة أو نحو هذا.
قال المعفري: فنفضت. ولم يشك.
2363-
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد، كلاهما عن الأسود بن عامر، قال أبو بكر: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، وعن ثابت، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بقوم يلقحون. فقال:((لو لم تفعلوا لصلح)) . قال: فخرج شيصًا. فمرَّ بهم فقال: ((ما لنخلكم؟)) قالوا: قلت كذا وكذا. قال: ((أنتم أعلم بأمر دنياكم)) .
قال ابن ماجه في [سننه: 2/825، ح2470] :
حدثنا علي بن محمد، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن سماك، أنه سمع موسى بن طلحة بن عبيد الله يحدَّث عن أبيه، قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في نخل، فرأى قومًا يلَّقحون النَّخل، فقال:((ما يصنع هؤلاء؟)) ، قالوا: يأخذون من الذَّكر فيجعلونه في الأنثى، قال:((ما أظن ذلك يغني شيئًا)) ، فبلغهم فتركوه. فنزلوا عنها. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:((إنما هو الظن. إن كان يغني شيئًا فاصنعوه. فإنما أنا بشر مثلكم، وإن الظن يخطئ ويصيب. ولكن ما قلت لكم: قال الله – فلن أكذب على الله)) .
(1) قال ابن منظور [لسان العرب: 7/50] : الشيص والشيصاء رديء التمر وقيل هو فارسي معرَّب واحدته شيصة وشيصاءة ممدودة وقد أشاص النخل وأشاصت وشيص النخل. ثم قال: الفراء: التمر الذي لا يشتد نواه ويقوي وقد لا يكون له نوى أصلا. ثم قال: وإنما يشيص إذا لم يلقح. ثم قال: الأصمعي: شأصأت النخلة إذا صارت شيصًا وأهل المدينة الشيص السخل. وأشاص النخل إشاصة إذا فسد وصار حمله الشيص
2471-
حدثنا محمد بن يحيى. حدثنا عفان، حدثنا حماد، حدثنا ثابت، عن أنس بن مالك وهشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سمع أصواتًا فقال:: ((ما هذا الصوت؟)) قالوا: النخل يؤبرونها. فقال: ((لو لم يفعلوا لصلح)) فلم يؤبروا عامئذٍ، فصار شيصًا. فذكروا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:((إن كان شيئًا من أمر دنياكم، فشأنكم به. وإن كان من أمور دينكم، فإليَّ)) .
قال الهيثمي في (مجمع الزوائد: 1/179] :
وعن جابر بن عبد الله ((أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بقوم يلقحون النخل، فقال: ما أرى هذا يغني شيئا فتركوها ذلك العام فشيصت فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعلم بصلحكم في دنياكم)) .
وتعقبه بقوله: رواه والطبراني في الأوسط بمعناه وفيه مجالد بن سعيد وقد اختلط.
وأمّا الثالث: فقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما رآه المسلمون حسنًا
…
)) الحديث.
قال أحمد في [مسنده: 1/379] :
حدثنا أبو بكر، حدثنا عاصم، عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود، قال: إنّ الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئا فهو عند الله سيء.
قال أبو داود الطيالسي في [مسنده: 1/33، ح247] :
حدثنا المسعودي، عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: إن الله عز وجل نظر في قلوب العباد فاختار محمدًا فبعثه برسالاته وانتخبه بعلمه، ثم نظر في قلوب الناس بعده، فاختار له أصحابه فجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيه صلى الله عليه وسلم، فما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه – كذا ولعل صوابه: رأوه – قبيحًا فهو عند الله قبيح.
وقال الخطيب البغدادي في [الفقيه والمتفقه: 1/166، 167] .
أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن الحسين بن محمد القاسم المخزومي، حدثنا جعفر بن محمد بن نصير الخلدي إملاء، حدثنا عمر بن حفص السدوسي، حدثنا عاصم بن علي، حدثنا المسعودي، عن عاصم، عن أبي وائل، عن ابن معسود قال: إن الله نظر في قلوب العباد فاختار محمدًا فبعثه برسالته وانتخبه بعلمه، ثم نظر في قلوب الناس فاختار أصحابه فجعلهم وزراء نبيه وأنصار دينه فما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن وما رآه المؤمنون قبيحًا فهو عند الله قبيح.
أخبرنا الحسن بن أبي بكر، أخبرنا أحمد بن إسحاق، عن نيخاب الطيبي، حدثنا صالح بن محمد الأزاذواري، حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا معاوية، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: قال عبد الله: ما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن وما رآه المؤمنون سيئًا فهو عند الله سيئ.
قال البغوي في [شرح السنة: 1/214، 215، ح105] :
اخبرنا أبو الفتح نصر بن علي بن أحمد الحاكم الطوسي أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي، حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا أبو الفضل العباس بن محمد الدوري، حدثنا أبو النضرحدثنا المسعودي، حدثنا عبد الرحمن، عن عاصم، عن أبي وائل، قال: قال عبد الله: إن الله تعالى أطَّلع في قلوب العباد فاختار محمدًا فبعثه برسالته وانتخبه بعلمه، ثم نظر في قلوب الناس بعدُ فاختار له أصحابًا فجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيه، فما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المؤمنون قبيحًا فهو عند الله قبيح.
وحدثنا أحمد بن عبد الله الصَّالحي أخبرنا أبو بكر الحميري، حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا أبو عتبة، حدثنا بقية، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله هو المسعودي بهذا الإسناد مثله.
أخرج الطبراني في [المعجم الكبير: 9/112، ح 8582] حديث زّر كما رواه أحمد بسنده، لكن إلى قوله:((يقاتلون على دينه)) .
ثم أخرج [ح 8583] حديث أبي وائل فقال:
حدثنا عمر بن حفص السدوسي، حدثنا عاصم بن علي، حدثنا المسعودي، عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله بن أبي مسعود قال: وساق الحديث بلفظ الخطيب.
ثم قال [ص115، ح8593] :
حدثنا العباس بن الفضل الأسفاطي، حدثنا عبيد الله بن يعيش، حدثنا علي بن قادم، عن عبد السلام بن حرب، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله، قال: إن الله عز وجل اطّلع على قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فذكر نحو حديث عاصم. وذكر محقّق (المعجم) حمدي عبد المجيد السلفي أنّ أبا سعيد الأعرابي أخرجه في [معجمه: 2/84] .
وقال الهيثمي في [مجمع الزوائد: 1/177، 178] بعد أن ساق الحديث لكن بلفظ أحمد:
((وما رآه المسلمون سيئًا فهو – عند الله – سيء)) . رواه أحمد والبزار والطبراني في (الكبير) ورجاله موثقون.
وقال السخاوي في [المقاصد الحسنة: ص367، ح 959] :
حديث ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو – عند الله – حسن)) . أحمد في كتاب السنة ووهم من عزاه للمسند (كذا) .
قلت: الوهم هو السخاوري فقد رواه أحمد في المسند، وعنه نقلناه آنفًا.
ثم قال:
من حديث أبي وائل، عن ابن مسعود. وساق الحديث كاملا.
ثم قال:
وهو موقوف حسن، وكذا أخرجه البزار والطيالسي والطبراني وأبو نعيم في ترجمة ابن مسعود من الحلية بل هو عند البيهقي في الاعتقاد من وجه آخر عن ابن مسعود.
وقال العجلوني في [كشف الخفاء: 2/263، ح 2214] : بعد أن ساق كلام السخاوري ولم ينسبه:
وفي شرح الهداية للعيني روى أحمد بسنده عن ابن مسعود. وساق الحديث، وخلط بين لفظ أحمد ولفظ الطبراني.
ثم قال:
وقال الحافظ بن عبد الهادي: روي مرفوعًا عن أنس بإسناد ساقط والأصح وقفه على ابن مسعود.
حديث وائل عن ابن مسعود: (إنَّ الله نظر في قلوب العباد فاختار محمدًا صلى الله عليه وسلم، فبعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد فاختار له أصحابًا فجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيه، فما رآه المسلمون حسنًا فهو – عند الله – حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا فهو- عند الله – قبيح) . وقد استشهد به الرازي في [المحصول: ج1 القسم 2 ص129، 131] ، في السياق، الدليل الثالث عشر من أدلة الغزالي ومن شايعه من القائلين: إنَّ صيغة (افعل) حقيقة لما في الوجوب فقط، أو في الندب فقط، أو فيهما معًا بالاشتراك، لكنا لا ندري ما هو الحق من هذه الأقسام الثلاثة فلا جرم توقفنا في الكل.
وفي الدليل الثالث عشر هذا، أنَّ الأمر يفيد رجحان الوجود على العدم، وإذا كان كذلك وجب أن يكون مانعًا من الترك.
وإنما قلنا- يعني الغزالي ومن شايعه- أنَّه يفيد الرجحان لأن المأمور به إن لم تكن مصلحته راجحة لكان إما أن يكون خاليًا من المصلحة أو تكون مصلحته مرجوحة أو تكون مساوية للمفسدة.
فإن كان خاليًا من مصلحة كان محض المفسدة، فلا يجوز ورود الأمر به، وإن كان مصلحة مرجوحة فذلك القدر من المصلحة يصير معارضًا بمثله من المفسدة فيبقى القدر الزائد من المفسدة خاليًا من المعارض فيكون ورود الأمر به أمرًا بالمفسدة الخالصة فيعود إلى القسم الأول.
وإن كانت مصلحته معادلة للمفسدة كان ذلك عبثًا وهو غير لائق بالحكيم.
وإذا بطلت هذه الأقسام لم يبق إلا أن تكون مصلحة خالية من المفسدة وإن كان فيه شيء من المفاسد، ولكن تكون مصلحته زائدة وعلى التقديرين يثبت رجحان المصلحة.
وإذا ثبت هذا فنقول: وجب أن لا يرد الأمر بالترك لأنَّ الإذن في تفويت المصلحة الخالصة لأنه إذا وجدت مفسدة مرجوحة فتصير هي معارضة بما يعادلها من المصلحة فيبقى القدر الزائد من المصلحة الخاصة خالصة وإن لم توجد مفسدة أصلا كانت المصلحة خالصة فيكون الإذن في تفويته إذنًا في تفويت المصلحة الخالصة عن شوائب المفسدة وذلك غير جائز عرفًا فوجب أن لا تجوز شرعًا لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو – عند الله – حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا فهو – عند الله – قبيح)) .
فمقتضى هذه الدلالة أن لا يوجد شيء من المندوبات البتة ترك العمل به في حق البعض تخفيفًا من الله تعالى على العباد فوجب أن يبقى الباقي على حكم الأصل.
فإن قيل: ما ذكرتموه معارض بوجه آخر وهو أنه كما في الإذن في تفويت المصلحة الخالصة قبيح عرفًا، فكذا إلزام المكلف استيفاء المصلحة بحيث لو لم يستوفها لاستحق العقاب، قبيح أيضًا لأنه يصير حاصل الأمر أن يقول الشرع: استوف هذه المنافع لنفسك وإلا عاقبتك وهذا قبيح.
والجواب: ما ذكرتموه قائم في كل التكاليف، فلو كان ذلك معتبرًا لما ثبت شيء من التكاليف.
وقال محقق (المحصول) طه فياض:
وهو بعض الحديث المشهور اختلف في رفعه أو وقفه، عن ابن مسعود وهو ما رواه أحمد في كتاب السنة من حديث أبي وائل، عن ابن مسعود بلفظ. (وساق الحديث) .
ثم عاد الرازي في [المحصول: ج1 القسم 3 ص30، 31]، فاستشهد بهذا الحديث في معرض بيانه لاختلافهم في: هل يجوز أو لا يجوز التمسك بالعام ما لم يستقص في طلب المخصص؟ فقال:
وقال الصيرفي: يجوز التمسك به – أي بالعامّ – ابتداء ما لم تظهر دلالة مخصصة.
واحتج الصَّيرفي بأمرين:
أحدهما: لو لم يجز التمسك بالعام إلا بعد طلب أنه هل وجد مخصّص أم لا؟ لما جاز التمسك بالحقيقة إلا بعد طلب أنه هل وجد ما يقتضي صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز؟ وهذا باطل فذاك مثله.
بيان الملازمة: أنه لو لم يجز التمسك بالعام إلا بعد طلب المخصص لكان ذلك لأجل الاحتراز عن الخطأ المحتمل وهذا المعنى قائم في التمسك بحقيقة اللفظ، فيجب اشتراكهما في الحكم.
بيان أنَّ التمسك بالحقيقة لا يتوقف على طلب ما يوجب العدول إلى المجاز هو أن ذلك غير واجب في العرف بدليل أنهم يحملون الألفاظ على ظواهرها من غير بحث عن أنه هل وجد ما يوجب العدول أم لا؟
وإذا وجب ذلك في العرف وجب في الشرع لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو – عند الله – حسن
…
إلخ)) .
قلت: دأب أغلب الأصوليين على الاستشهاد بهذا الحديث باعتباره دليلًا من أدلة الإجماع، وعندي أنَّ هذا وهم؛ ذلك بأنَّ (أل) في حديث (ما رآه المسلمون) ، وإن كانت لاستغراق الجنس لا تعني جماعة المسلمين كافة، فقد تأتي (أل) الاستغراقية ويراد بها الجمهور أو الأغلب أو ما شاكل ذلك، ولا سبيل إلى اعتبارها كلّما وردت دليلًا على الاستغراق المطلق الشامل.
قال ابن هشام في [المغني: 73]، في معرض ذكره لدلالة (أل) :
والجنسية أمَّا لاستغراق الأفراد، وهي التي تخلفها (كل) حقيقة نحو:{وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [سورة النساء: الآية 28]، ونحو:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [سورة العصر: الآية2]، أو لاستغراق خصائص الأفراد وهي التي تخلفها (كل) مجازًا نحو: زيد الرجل علمًا أي الكامل في هذه الصفة ومنه {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [سورة البقرة: الآية 2]، أو لتعريف الماهية وهي التي لا تخلفها (كل) لا حقيقةً ولا مجازًا نحو:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [سورة الأنبياء: الآية30] . وقولك: والله لا أتزوَّج النساء، أو لا ألبس الثياب، ولهذا يقع الحنث بالواحد منهما، وبعضهم يقول في هذه إنّها لتعريف العهد فإن الأجناس أمور معهودة في الأذهان متميز بعضها عن بعض ويقسم المعهود إلى شخص وجنس
…
إلخ) .
وعندي أنَّ اعتبار (أل) في (ما رآه المسلمون) للجنس المعهود هو الأولى، ذلك بأنَّ استحسان المسلمين لشيء لا يتوقف على إجماعهم على استحسانه ضرورة أنهم ليسوا بحاجة لإثبات حسنه إلى أن يجمعوا على ذلك بحسبه أن يراه غيرهم حسنًا ليثبت حسنه، ولا سبيل على القول بأنَّ استحسان البعض وسكوت الباقين قد يعتبر من الإجماع السكوتي عند من قال به، إذ يرد مثل هذا القول بأن ما قد يستحسنه البعض منهم بل قد ينكره، ومن ذلك استحسانهم الاحتفال بالمولد النبويّ، ففي المسلمين من لا يراه حسنًا بل فيهم من ينكره ويراه بدعة، ومع ذلك فإن جمهور المسلمين لم يعدلوا عنه لرأي هؤلاء أو أولئك، فهو عندنا داخل في قوله صلى الله عليه وسلم:((ما رآه المسلمون حسنًا)) . الحديث.
واعتبارًا لهذا ولأنَّ الحديث عندنا ليس دليلًا على حجية الإجماع فهو إذن دليل على نوع من العرف غفل عنه بعض الأصوليين، وهو عرف المسلمين أو بالأحرى عرف جمهور المسلمين، وهو مرتبة بين الإجماع وبين العرف الذي هو العادة والذي اعتمده جماهرة الأصوليين باعتباره مصدرًا من مصادر التشريع يصار إليه عند عدم وجود نصّ أو إجماع عند من لا يقول بالقياس أو عدم وجود أساس قياسي عند من لا يقول بالقياس الخفي أو شبه القياس.
ولا مجال للتردد في اعتبار العادة ملحوظة في التشريع الإسلامي، لأنَّ الشريعة وخاصة في المعاملات وفي كل ما ليس من العبادات الصرفة جاءت لتنظيم تصرفات البشر كما وجدتها، لكن بحيث لا تخرج من إطار العدل وبحيث تتكيف مع الإطار التشريعي العام الذي يجعل من كل تصرف بشري مجالًا من مجالات التعبد حتى وإن يكن دنيويًّا صرفًا لأن من مقاصد الشريعة الإسلامية أن تجعل المسلم في جميع حالاته متصلا بالله متعبدًا له. وفي الحديث الشريف المشهور ((وفي بضع آحادكم صدقة)) تعليق: الحديث أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود وغيرهم بطرق وألفاظ مختلفة. قال أحمد في [مسنده: 5/154] : حدثنا يعلي بن عبيد، حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله ذهب الأغنياء بالأجر يصلون ويصومون ويحجون قال: وأنتم تصلون وتصومون وتحجون قلت: يتصدقون ولا نتصدق قال: وأنت فيك صدقة ، رفعك العظم عن الطريق صدقة ، وهدايتك الطريق وعونك الضعيف بفضل قوتك صدقة ، وبيانك عن الأرثم صدقة – الأرثم: هو الذي لا يصحح كلامه ولا يبينه لآفة في لسانه أو أسنانه وأصله من رثم الحصى وهو ما دق منه بالأخفاف أومن رثمت أنفه إذا كسرته حتى أذنيه فكأن فمه قد كسر فلا يفصح في كلامه [ابن الأثير، النهاية: 2/196]، ومباضعتك امرأتك صدقة قال: قلت: يا رسول الله نأتي شهوتنا ونؤجر؟ قال: أرأيت لو جعلته في حرام أكان تأثم؟ قال: قلت: نعم. قال فتحتسبون بالشر ولا تحتسبون بالخير؟ !
ثم قال [ص167] :
حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي ذر قال:((قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ذهب أهل الأموال بالأجر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن فيك صدقة كثيرة فذكر فضل سمعك وفضل بصرك قال: وفي مباضعتك أهلك صدقة فقال أبو ذر: أيؤجر أحدنا في شهوته؟! قال: أرأيت لو وضعته في غير حل أكان عليك وزر؟ قال: نعم. قال: أتحتسبون بالشر ولا تحتسبون بالخير؟!)) .
حدثنا عارم وعفان قالا: حدثنا مهدي بن ميمون، حدثنا واصل مولى أبي عيينة، عن يحيى بن عقيل، عن يحيى بن يعمر، عن أبي الأسود الديلي، عن أبي ذر قال:((قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو ليس قد جعل الله لكم ما تتصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة وبكل تحميدة صدقة وفي بضع أحدكم صدقة قال: قالوا يارسول الله أيأتي أحدنا شهوته يكون بها أجر؟! قال: أرأيت لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر. قال عفان: تصدقون وقال: وتهليلة وتكبيرة صدقة وأمر بمعروف صدقة ونهي عن منكر صدقة وفي بُضْع)) .
ثم قال [ص168، 169] :
حدثنا وهب بن جرير، حدثنا مهدي بن ميمون، عن واصل، عن يحيى بن عقيل، عن يحيى بن يعمر، عن أبي الأسود الديلي، عن أبي ذر قال ((قيل يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم قال: أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إنه بكل تسبيحة صدقة وبكل تكبيرة صدقة وبكل تهليلة صدقة وبكل تحميدة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة وفي بضع أحدكم صدقة قالوا: يا رسول الله يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أليس كان يكون عليه وزر أو الوزر؟ قالوا: بلى قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال يكون الأجر)) . ثم قال: حدثنا عبد الملك بن عمرو، حدثنا علي – يعني ابن المبارك - عن يحيى، عن زيد بن سلام، عن أبي سلام، قال أبو ذر ((على كل نفس في كل يوم طلعت فيه الشمس صدقة منه على نفسه قلت: يا رسول الله من أين أتصدق وليس لنا أموال قال: لأن من أبواب الصدقة التكبير وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله وأستغفر الله، وتأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وتعزل الشوكة عن طريق الناس والعظم والحجر وتهدي الأعمى وتسمع الأصم والأبكم حتى يفقه وتدل المستدل على حاجة له قد علمت مكانها وتسعى بشدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف كل ذلك أبواب الصداقة منك على نفسك ولك في جماعك زوجتك أجر. قال أبو ذر: وكيف يكون أجر في شهوتي؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو كان لك ولد فأدرك ورجوت خيره أكنت تحتسب به؟ قال: نعم، قال: فأنت خلقته؟ قال: بل الله خلقه، قال: فأنت هديته؟ قال: بل الله هداه، قال فأنت ترزقه؟ قال: بل الله كان يرزقه قال: كذلك فضعه في حلاله وجنبه حرامه، فإن شاء الله أحياه وإن شاء أماته ولك أجر)) .
وقال مسلم في [صحيحه: 2/697، 698، ح1006] :
حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء الضبعي، حدثنا مهدي بن ميمون، حدثنا واصل مولى أبي عيينة، عن يحيى بن عقيل، عن يحيى بن يعمر، عن أبي الأسود الديلي عن أبي ذر أن ناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ((قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم، يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموال، قال: أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن منكر وفي بُضع أحدكم صدقة قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)) .
وقال أبو داود في [سننه: 2/26، 27، ح 1285] :
حدثنا أحمد بن منيع، عن عباد بن عباد.
وحدثنا مسدد، حدثنا حماد بن زيد (المعنى) .
عن واصل، عن يحيى بن عقيل، عن يحيى بن يعمر، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((يصبح على كل سلامى من بني آدم صدقة: تسليمه على من لقي صدقة ونهيه عن المنكر صدقة وإماطته الأذى عن الطريق صدقة وبُضعة أهله صدقة ويجزئ من ذلك كله ركعتان من الضحى)) .
وتعقبه أبو دواود بقوله: وحديث عباد أتم ولم يذكر مسدد الأمر والنهي وزاد في حديثه: وقال: كذا وكذا، وزاد ابن منيع في حديثه ((قالوا: يا رسول الله أحدنا يقضي شهوته وتكون له صدقة؟! قال: أرأيت لو وضعها في غير حلِّها ألم يكن يأثم؟))
ثم قال [4/362، ح 5243] :
حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد.
وحدثنا أحمد بن منيع، عن عباد بن عباد وهذا لفظه وهو أتم من واصل
…
وساق الحديث. .
قال الشاطبي رحمه الله في [الاعتصام: 2/79] :
ثبت في الأصول الشرعية أنه لا بد في كل عادي من شائبة التعبد لأن ما لم يعقل معناه على التفصيل من المأمور به أو المنهي عنه فهو المراد بالتعبدي، وما عقل معناه وعرفت مصلحته أو مفسدته فهو المراد بالعادي.
وقال- رحمه الله في [الموافقات: 2/279، 281] :
لما كان التكليف مبنيا على استقرار عوائد المكلفين - قلت: لا حظ جيدا قوله: (على استقرار عوائد المكلفين) - وجب أن ينظر في حكم العوائد لما ينبني عليها بالنسبة إلى دخول المكلف تحت حكم التكليف.
فمن ذلك أن مجاري العادات في الوجود أمر معلوم لا مظنون، وأعني في الكليات لا في خصوص الجزئيات، والدليل على ذلك أمور:
أحدها: أن الشرائع بالاستقراء إنما جيء بها على ذلك ولنعتبر بشريعتنا فإن التكاليف الكلية فيها بالنسبة إلى من يكلف من الخلق موضوعة على وِزَان واحد، وعلى مقدار واحد، وعلى ترتيب واحد، لا اختلاف فيه بحب متقدم ولا متأخر. وذلك واضح في الدلالة على أن موضوعات التكليف – وهي أفعال المكلفين- كذلك. وأفعال المكلفين إنما تجري على ترتيبها إذا كان الوجود باقيًا على ترتيبه، ولو اختلفت العوائد في الموجودات لاقتضى ذلك اختلاف التشريع واختلاف الترتيب واختلاف الخطاب فلا تكون الشريعة على ما هي عليه، وذلك باطل.
الثاني: أن الإخبار الشرعي قد جاء بأحوال هذا الوجود على أنها دائمة غير مختلفة إلى قيام الساعة كالإخبار عن السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما من المنافع والتصاريف والأحوال، وأن سنَّة الله لا تبديل لها وأنَّ {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [سورة الروم: الآية 30] ، كما جاء بإلزام الشرائع على ذلك الوِزَان أيضًا، والخبر من الصادق لا يكون بخلاف مخبره بحال، فإن الخلاف بينهما محال.
الثالث: أنه لولا أنَّ اطَّراد العادات معلوم لما عرف الدين من أصله فضلا عن تعرف فروعه لأن الدين لا يعرف إلا عند الاعتراف بالنبوة، ولا سبيل إلى الاعتراف بها إلا بواسطة المعجزة، ولا معنى للمعجزة إلا أنها فعل خارق للعادة، ولا يحصل فعل خارق للعادة إلا بعد تقرير اطِّراد العادة في الحال والاستقبال كما اطَّردت في الماضي، ولا معنى للعادة إلا أنَّ الفعل المفروض لو قدر وقوعه غير مقارن للتحدِّي لم يقع إلا على الوجه المعلوم في أمثاله، فإذا وقع مقترنًا بالدعوة خارقًا للعادة علم أنه لم يقع كذلك مخالفًا لما اطرد إلا والدَّاعي صادق. فلو كانت العادة غير معلومة لما حصل العلم بصدقه اضطرارًا لأن وقوع مثل ذلك الخارق لم يكن يُدَّعى بدون اقتران الدعوة والتحدى. لكن العلم حاصل على أنَّ ما انبنى عليه العلم معلوم أيضًا وهو المطلوب.
ثم قال [ص282، 288] :
العوائد المستمرة ضربان:
أحدهما: العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها، ومعنى ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجابًا أو ندبًا أو نهى عنها كراهة أو تحريمًا أو أذن فيها فعلا وتركا.
والضرب الثاني: هي العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي.
أما الأول: فثابت أبدًا كسائر الأمور الشرعية كما قالوا في سلب العبد أهلية الشهادة، وفي الأمر بإزالة النجاسات، وطهارة المتأهب للمناجاة وستر العورات، وللنهي عن الطواف بالبيت للعري، وما اشبه ذلك من العوائد الجارية في الناس إمَّا حسنة عند الشارع أو قبيحة، فإنَّها من جملة الأمور الداخلة تحت حكم الشرع، فلا تبديل لها وإن اختلفت آراء المكلفين فيهان فلا يصح أن ينقلب الحسن فيها قبيحًا ولا القبيح حسنًا حتى يقال مثلا: إن قبول شهادة العبد لا تأباه محاسن العادات الآن فلنجزه أو أن كشف العورة الآن ليس بعيب ولا قبيح فلنجزه أو غير ذلك إذ لو صحَّ مثل هذا لكان نسخًا للأحكام المستقرة المستمرة والنسخ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم باطل فرفع العوائد الشرعية باطل.
وأما الثاني: فقد تكون العوائد ثابتة وقد تتبدل، ومع ذلك فهي أسباب لأحكام تترتب عليها.
فالثابتة كوجود شهوة الطعام والشراب والوقاع والنظر والكلام والبطش والمشي وأشباه ذلك. وإذا كانت أسبابًا لمسببات حكم بها الشارع فلا إشكال في اعتبارها والبناء عليها والحكم على وفقها دائمًا.
والمتبدلة:
منها ما يكون متبدلا في العادة من حسن إلى قبح، والعكس مثل كشف الرأس فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع فهو لذوي المروءات قبيح في البلاد المشرقية وغير قبيح في البلاد المغربية فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك فيكون عند أهل المشرق قادحًا في العدالة وعند أهل المغرب غير قادح.
ومنها ما يختلف في التعبير عن المقاصد فتنصرف العبارة عن معنى إلى عبادة أخرى – لعل الصواب: (إلى معنى عبارة أخرى) – أما بالنِّسبة إلى اختلاف الاسم كالعرب مع غيرهم أو بالنسبة إلى الأمة الواحدة كاختلاف العبارات بحسب اصطلاح أرباب الصناعة في صنائعهم مع اصطلاحهم الجمهوري أو بالنسبة إلى غلبة الاستعمال في بعض المعاني حتى صار ذلك اللفظ إنما يسبق منه إلى الفهم معنى ما، وقد كان يفهم منه قبل ذلك شيء آخر أو كان مشتركًا فاختص، وما أشبه ذلك. فالحكم أيضًا يتنزَّل على ما هو معتاد فيه بالنسبة إلى من أعتاده دون من لم يعتده وهذا المعنى يجري كثيرًا في الأيمان والعقود والطلاق كناية وتصريحًا.
ومنها ما يختلف في الأفعال في المعاملات ونحوها كما إذا كانت العادة في النكاح قبض الصداق قبل الدخول أو في البيع الفلاني أن يكون بالنقد لا بالنَّسيئة أو بالعكس أو إلى أجل كذا دون غيره، فالحكم أيضًا جار على ذلك حسبما هو مسطور في كتب الفقه.
ثم قال:
واعلم أن ما جرى ذكره هنا من اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد فليس في الحقيقة باختلاف في أصل الخطاب لأن الشَّرع موضوع على أنه دائم أبدي لو فرض بقاء الدنيا من غير نهاية، والتكليف كذلك لم يحتج في الشرع إلى مزيد وإنما الاختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها.
ثم قال:
العوائد الجارية ضرورية الاعتبار شرعًا كانت شرعية في أصلها أو غير شرعية، أي سواء كانت مقررة بالدليل شرعًا أمرًا أو نهيًا أو إذنًا أم لا. أما المقّررة بالدليل فأمر ظاهر، وأما غيرها فلا يستقيم إقامة التكليف إلا بذلك.
ثم قال:
ووجه ثانٍ وهو ما تقدم في مسألة العلم بالعاديات فإنه جارٍ هنا – وقد تقدم في الفقرة الأولى التي نقلناها آنفًا-.
ووجه ثالث: وهو أنه لما قطعنا بأنَّ الشارع جاء باعتبار المصالح، لزم القطع بأنه لا بد من اعتباره العوائد لأنه إذا كان التشريع على وزان واحد دل على جريان المصالح على ذلك لأنَّ أصل التشريع سبب المصالح، والتشريع دائم كما تقدم فالمصالح كذلك وهو معنى اعتباره العادات في التشريع.
ووجه رابع: وهو أنَّ العوائد لو لم تعتبر لأدَّى إلى تكليف ما لا يطاق وهو غير جائز أو غير واقع، وذلك أنَّ الخطاب إمَّا أن يعتبر فيه العلم والقدرة على (المكلف به) – لعل صوابه: على التكلف به أو لدى المكلف به – وما أشبه ذلك من العاديات المعتبرة في توجه التكليف أولى. فإن اعتبر فهو ما أردنا ، وإن لم يعتبر فمعنى ذلك أن التكليف متوجه على العالم والقادر وعلى غير العالم والقادر وعلى من له مانع ومن لا مانع له، وذلك عين تكليف ما لا يطاق، والأدلة على هذا المعنى واضحة كثيرة.
ثم قال: [ص300] :
الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبَّد دون الالتفات إلى المعاني، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني.
ثم قال [ص305، 307] :
وأما أن الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني فلأمور:
أولها: الاستقراء، فإنا وجدنا الشارع قاصدًا لمصالح العباد والأحكام العادية تدور معه حيثما دار فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا كان فيه مصلحة جاز كالدرهم بالدرهم إلى أجل يمتنع في المبايعة ويجوز في القرض، وبيع الرطب باليابس يمتنع حيث يكون مجرد غرر وربا من غير مصلحة، ويجوز إذا كان فيه مصلحة راجحة، ولم نجد هذا في باب العبادات مفهومًا كما فهمناه في العادات.
ثم قال:
والثاني: أن الشارع توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات كما تقدَّم تمثيله، وأكثر ما علل فيها بالمناسب الذي إذا عرض على العقول تلقته بالقبول ففهمنا من ذلك أن الشارع قصد فيها اتباع المعاني لا الوقوف مع النصوص بخلاف باب العبادات فإن المعلوم فيه خلاف ذلك، وقد توسع في هذا القسم مالك – رحمه الله تعالى – حتى قال فيه بقاعدة المصالح المرسلة وقال فيه بالاستحسان، ونقل عنه أنه قال: إنه تسعة أعشار العلم حسب ما يأتي إن شاء الله.
والثالث: أنَّ الالتفات إلى المعاني قد كان معلومًا في الفترات، واعتمد عليه العقلاء حتى جرت بذلك مصالحهم وأعملوا كلياتها على الجملة فاطَّردت لهم سواء في ذلك أهل الحكمة الفلسفية وغيرهم، إلا أنهم قصّروا في جملة من التفاصيل فجاءت الشريعة لتتم مكارم الأخلاق، فدل على أنَّ المشروعات في هذا الباب جاءت متممة لجريان التفاصيل في العادات على أصولها المعهودات، ومن ههنا أقرَّت هذه الشريعة جملة من الأحكام التي جرت في الجاهلية كالدِّية والقسامة والاجتماع يوم العروبة وهي الجمعة للوعظ والتذكير والقراض وكسوة الكعبة وأشباه ذلك مما كان عند أهل الجاهلية محمودًا وما كان من محاسن العوائد ومكارم الأخلاق التي تقبلها العقول وهي كثيرة.
ثم قال:
فإذا تقّرر هذا وأن الغالب في العادات الالتفات إلى المعاني، فإذ وجد فيها التعبد فلا بد من التسليم والوقوف مع النصوص.
وقال عز الدين بن عبد السلام في [قواعد الأحكام: 2/115] :
وأما إشارة الأخرس المفهمة فهي كصريح المقال إن فهمها جميع الناس كما لو قيل له: كم طلقت امرأتك؟ فأشار بأصابعه الثلاثة أو كم أخذت من الدراهم؟ فأشار بأصابعه الخمس.
وإن كانت مما يفهمه الناس نزلت منزلة الظواهر، وإن كانت مما يتردد فيه نزلت منزلة الكنايات.
وكذلك من اعتقل لسانه بمرض أو غيره فقيل له: لفلان عليك ألف؟ فأشار برأسه – أي نعم – أو أشار برأسه إلى فوق – أي لا شيء له – وكذا لو قيل له: قتلت زيدًا؟ وكذلك كتابته تقوم مقام إشارته.
ثم قال:
فصل في حمل الألفاظ على ظنون مستفادة من العادات لمسيس الحاجة إلى ذلك وله أمثلة. وساق ثلاثةً وعشرين مثالًا لإثبات ذلك.
ثم قال [ص122] :
اعلم أنَّ الله تعالى شرع في كل تصرف من التصرفات ما يحصل مقاصده ويوفر مصالحة فشرع في باب ما يحصل مصالحة العامَّة والخاصة، فإن عمَّت المصلحة جميع التصرفات شرعت تلك المصلحة في كلِّ تصرف وإن أختصّت ببعض التصرُّفات شرعت فيما اختصت به دون ما لم تختص به.
بقل قد يشترط في بعض الأبواب ما يكون مبطلا في غيره نظرًا إلى مصلحة البابين، كما يشترط استقصاء أوصاف المحكوم له والمحكوم عليه أن ينتهي إلى عزَّة وجود المشارك في تلك الأوصاف كي لا يقع الحكم على مبهم. ولو وقع ذلك في السلم لأفسده لأنه مؤدٍّ إلى تعذر تحصيل مقصوده، ولذلك شرط التوقيت في الإجارة والمساقاة والمزارعة ولو وقع التوقيت في النكاح لأفسده لمنافاة مقصوده، وكذلك شرط في العقود اللازمة على المنافع أن يكون أجلها معلومًا، وجعل أجل النكاح مقدرًا لعمر أقصر الزوجين، عمرًا، فمن ذلك أن الشرع منع من بيع المعدوم وإجارته وهبته لما في ذلك من الغرر وعدم الحاجة وجوَّز عقود المنافع من عدمها، ولا يتصور وجودها حال التعاقد ولا تحصل منافعها إلا كذلك.
ثم قال [ص148] :
وأما ما خالف القياس في المعاوضات وغيرها من التصرفات فله أمثلة.
أحدها: أنَّ الرضا شرط في جميع التصرفات إلا أن يتعدَّد رضا المتصرِّف والعامل ورضا نائبهما فإن الحاكم يتصرف فيما لزمه من التصرفات القابلة للنيابة مع غيبته أو امتناعه على كره (منهم) – لعل صوابه: منه – إيصالا للحق إلى مستحقه ونفعًا للممتنع ببراءته من الحق.
ثم قال:
ولا بد لهذا الرضا من لفظ يدل عليه سواء كان مما يستقل به الإنسان كالطَّلاق والعتاق والعفو والإبراء، أما ما لا يستقل به كالبيع والإجارة، فإن لم يقم مقام اللفظ عرف تعين اللفظ إلا فيمن خرس لسانه وتعذَّر بيانه فإن إشارته تقوم مقام لفظه للحاجة إذ لا مندوحة عنه ولا خلاص منه وفي إقامة الكتابة مقام اللفظ في حق الناطق خلاف.
وإن حصل عرف دال على ما يدل عليه اللفظ كالمعاطاة في محقرات المبايعات واستعمال الصناع وتقديم الطعام إلى الضيفان، ففي إقامة العرف مقام اللفظ خلاف لاشتراكهما في الدلالة على الرضا على المقصود، فإن حصل العلم أو الاعتقاد أو ظن قوي يربي على الظن الذي ذكرناه أقيم ذلك مقام اللفظ لقوة دلالة العرف واطراده.
قال محمد الطاهر بن عاشور في – مقاصد الشريعة الإسلامية، [ص102] :
قد يستكن في معتقد كثير من العلماء – قبل الفحص والغوص في تصرفات التشريع – أن الشريعة إنما جاءت لتغيير أحوال الناس والتحقيق أن للتشريع مقامين:
المقام الأول: تغيير الأحوال الفاسدة وإعلان فسادها، وهذا المقام هو المشار إليه بقوله تعالى:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الآية 257 من سورة البقرة]، وقوله:{وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الآية 16 من سورة المائدة] .
ثم قال:
والمقام الثاني: تقرير أحوال صالحة قد اتبعها الناس وهي الأحوال المعبر عنها بالمعروف في قوله تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [الآية 157 من سورة الأعراف] ، وأنت إذا افتقدت الأشياء التي انتحاها البشر منذ القدم وأقاموا عليها قواعد المدنية البشرية تجدها أمورًا كثيرة من الصلاح والخير توورثت من نصائح الآباء والمعلمين والمربين والرسل والحكماء والحكام العادلين حتى رسخت في البشر.
ثم قال:
إلا أنَّ هذه الفضائل والصالحات ليست متساوية الفشو في الأمم والقبائل، فلذلك لم يكن للشريعة العامة غنية من تطرق هذه الأمور ببيان أحكامها من وجوب أو ندب أو إباحة وبتحديد حدودها التي تناط أحكامها عندها، فالنظر إلى اختلاف الأمم والقبائل في الأحوال من أهمِّ ما تقصده شريعة عامة كما أنبأ عن ذلك حديث الموطأ والصحيحين، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لقد هممت أن أحرم الغيلة في الرضاع لولا أن قومًا من فارس يفعلونها ولا تضر أطفالهم)) (1) .
وكذلك النظر إلى اختلاف النفوس في الشرع إلى النزوع عن الصالحات عند طروء معارضها في شهواتهم من جهة ما في الصالحات من الكلفة كما نرى في تحريض الشريعة على التزوج ومن إيجابها نفقة القرابة.
وأكثر ما يحتاج إليه في مقام التقرير هو حكم الإباحة لإبطال غلو المتغالين بحمله على مستوى السَّواد الأعظم من البشر الصالح كما قال الله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الآيات السابقة] ، فإن الطيبات تناولها الناس وشذَّ فيها بعض الأمم وبعض القبائل فحرَّموا على أنفسهم طيِّبات كثيرة، وقد كان ذلك فشيًّا في قبائل العرب.
وبعد أن ساق لذلك أمثلة قال:
والتقدير لا يحتاج إلى القول فقد علمت أن الاحتياج إلى القول فيه لا يكون إلا من سبب دعا إلى القول من إبطال وهم أو جواب سؤال أو تحريض على التناول. وفي ما عدا تلك الأسباب ونحوها يعتبر سكوت الشارع تقريرًا لما عليه الناس، فلذلك كانت الإباحة أكثر أحكام الشريعة لأنَّ أنواع متعلقاتها لا تنحصر، وقد تواتر هذا المعنى تواترًا من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وتصرفاته، ويشهد له ويعضده الحديث الذي رواه الدارقطني وغيره عن أبي ثعلبة الخشني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودًا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها)) تعليق: لم نقف على هذا الحديث في (سنن الدارقطني) رغم شدة البحث في مظانه منها لكن ساقه التبريزي في [مشكاة المصابيح: 1/69، ح197] فقال: وعن أبي ثعلبة الخشني
…
وساق الحديث. وتعقبه بقوله: وروى الأحاديث الثلاثة – يعني هذا الحديث واللذين من قبله – الدارقطني وأقره الألباني في تعليقه فقال: والثالث [ص502] رجاله ثقات ولكنه منقطع بين مكحول وأبي ثعلبة وله عند الدارقطني [ص550] شاهد من حديث أبي الدرداء وفيه نهشل الخراساني وهو كذاب كما قال ابن راهويه فلا قيمة لشهادته ومع ذلك فقد قال النووي في الأربعين بعد أن عزاه للدارقطني: حديث حسن، وتعقبه ابن رجب [ص200] بالانقطاع الذي ذكرناه. اهـ. كلام الألباني.
ولم يذكر إن كان الدارقطني أخرجه في (السنن) أم في غيره من كتبه ولم تبلغ صفحات أي جزء من أجزائها الأربعة رقم الخمسمائة ولا قريبًا منها ولا نعرفها طبعت أكثر من مرة ولم يخرجه البغوي في (شرح السنة) .
لكن أخرجه البيهقي في [السنن الكبرى: 10/12، 13] من حديث أبي ثعلبة الخشني فقال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا حفص بن غياث، عن داود – هو ابن أبي هند – عن مكحول، عن أبي ثعلبة – رضي الله عنه – قال: إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودًا فلا تعتدوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رخصةً لكم ليس بنسيان فلا تبحثوا عنها. وتعقبه بقوله: هذا موقوف. وأنبأنيه شيخنا أبو عبد الله الحافظ في (المستدرك) في ما لم يقرأ عليه إجازة. وساق حديث الحاكم في (المستدرك) .
قال الحاكم [4/15] :
حدثنا علي بن عيسى، حدثنا محمد بن عمرو الحرشي، حدثنا القعنبي، حدثنا علي بن مسهر، عن داود بن أبي هند، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله حد حدودًا فلا تعتدوها وفرض لكم فرائض فلا تضيعوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وترك أشياء من غير نسيان من ربكم ولكن رحمة بكم فاقبلوها ولا تبحثوا فيها)) . وسكت عنه الذهبي في التلخيص.
قلت: والمشكلة التي وقعوا فيها من سند هذا الحديث هي اضطرابهم في مكحول هل سمع أول لم يسمع من أبي ثعلبة الخشني، والعجب من الذهبي – رحمه الله – وهو من هو أن يقع في هذا الاضطراب، فعند ترجمته لأبي ثعلبة الخشني في [سير أعلام النبلاء: 2/567، 570، ترجمة 120] في معرض ذكره لبعض من روى عنه: ومكحول إن كان سمع منه.
(1) علق على هذه العبارة بقوله: عبّرت بالأجناس لأن أردت إثبات نحو الوجوب والحرمة ونحو الصحة والبطلان ونحو الغرم والعقوبة والجزاء الحسن وغير ذلك من آثار الأعمال.
ثم قال في ترجمته لمكحول [نفس المرجع: 5/155، 160 ترجمة 571] في معرض ذكره لبعض من روى عنهم:
أرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث وأرسل عن عدة من الصحابة لم يدركهم كأبي بن كعب وثوبان وعبادة بن الصامت وأبي هريرة وأبي ثعلبة الخشني
…
إلخ.
ولسنا ندري كيف جزم بأن مكحولًا لم يدرك أبا ثعلبة مع أنه نقل عن أبي حسان الزيادي وأبي عبيد أن أبا ثعلبة توفي سنة خمس وسبعين، ومن قبل ذلك نص بأنه (نزل الشام وقيل سكن داريا، وقيل قرية البلاط - وهذه موجودة عامرة حتى الآن في ضواحي دمشق – وله بها ذرية) .
في حين أن مكحول عرف بـ (مكحول الشامي) إذ هاجر من مصر إلى الشام بعد أن عتق، وكان مولى لبعض سكانها وفيها توفى، وكانت وفاته ما بين سنتي اثنتي عشرة وثماني عشرة ومائة، وما من أحد ممن ترجم له ذكر أنه توفي دون الكهولة وهذا يعني أنه عند وفاة أبي ثعلبة الخشني سنة خمس وسبعين كان في سن تحمل الرواية، والظاهر أن اضطرابهم في أمره نتج عن سببين:
السبب الأول، اتهام بعضهم لمكحول بالقول بالقدر اتهامًا ألح فيه البعض إلحاحًا شديدًا، ولعل من هؤلاء من أراد تدعيم توهين مكحول بالتشكيك في لقائه لبعض من أسند إليهم من الصحابة.
أما السبب الثاني: فيما يبدو لنا فهو ما كان بين الحجازيين والعراقيين والشاميين المحدَّثين من تنافس بلغ حد تشكيك بعضهم في بعض والتماس أيسر الأسباب وأوهى الشبهات لتدعيم هذا التشكيك، وقد يكون ثمة سبب ثالث وهو أنهم درجوا على التمييز بين كلمة (عن) وكلمة (حدثنا) أو (حدثني) واعتبار كلمة (عن) في الإسناد دون التصريح بالتحديث مرتبة، بل والتذرع بها أحيانًا إلى دعوى (التدليس) على حين أن المتأمل في نهج الرواية عند الصدر الأول من التابعين ومن نحا نحوهم من الجيل الثاني منهم بل وعند الصحابة عامة يتبين أن كلمة (عن) هي التي كانت سائدة لديهم في الإسناد ولم يلتزموا بكلمة (حدثنا) أو (حدثني) إلا بعد أن ظهر الوضع من بعض خصوم الإسلام والتزييف بهدف الاستكثار من بعض أدعياء العلم لدوافع من أبرزها الازدلاف إلى الأمويين من عصر معاوية فما بعده والمناهضة لهم من خصومه وكلا الفريقين كان فيهم من يعمد إلى الاستكثار بتزييف الأسانيد ومن تتجاوز به الجرأة هذا الحد فيعمد إلى الوضع.
مهما يكن فليس هذا مجال البسط لهذا الشأن حسبنا أن نشير إليه لمجرد تبيان أن اعتماد النووي ومن نحا نحوه لهذا الحديث إذا كان مما اختاره في الأربعين ومما اعتمده نفر من الأصوليين في معرض الاحتجاج لمذهبه في المسكوت عنه هل هو مباح أم معفو عنه كان له أساس سليم عندنا هو عدم الالتفات إلى ما كان من صراع أحيانًا وتنافس أحيانًا أخرى بين الأقران ثم بين أصحاب مدرسة كل واحد من الأقران نشأ عنه الكثير من الأخذ والرد الذي ينبغي أن تمحص منه مناهج ومصادر الجرح والتعديل.
وقد ذكر ابن حجر في [الإصابة: 4/29، 30، ترجمة 177] عند ترجمته لثعلبة: مكحولا فيمن أخذ عنه لكنه قال: ومنهم من لم يدركه ولم يشكك في مكحول بالذات.
على أنه نص في [تهذيب التهذيب: 12/9/49، 51، ترجمة 198] عند ترجمة لأبي ثعلبة: على أن مكحولا وأبا قلابة لم يدركاه ولسنا ندري من أين له ذلك إذ محال أن يكون ذلك على أساس اعتبار السن.
ثم إنه ذكر أبا ثعلبة فيمن أخذ عنهم مكحول عند ترجمته في [تهذيب التهذيب: 10/288، 293، ترجمة 509] ، ثم روى أقوال من شككوا في سماع مكحول من أبي ثعلبة وغيره ممن يروي عنهم بالعنعنة.
ويظهر أن المزي ومن قبله ابن ماكولا لم يترجما له لأن ابن حجر رمز في (تهذيب التهذيب) وهو يترجم له إلى أن هذه الترجمة من زوائده، على (تهذيب الكمال) .
وتحسب أن البخاري – رحمه الله – كان ممن ارتاب في بعض مرويات مكحول فلم يخرج على حين أخرج له مسلم والأربعة.
وقد أخرج هذا الحديث ابن عدي في [الكامل: 1/394، 397] عند ترجمته لأصرم بن حوشب ولفظه بسنده – بعد أحاديث ساقها له -.
حدثنا أحمد بن عبد الله بن شجاع الصوفي، حدثنا عثمان بن صالح الخياط، حدثنا أصرم بن حوشب، حدثنا قرة، عن الضحاك عن طاووس قال: سمعت أبا الدرداء يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله تبارك وتعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودًا فلا تعتدوها وحرم محارم فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة من الله فاقبلوها)) .
وتعقبه مع الأحاديث التي ساقها قبله بقوله: وهذه الأحاديث بواطل عن قرة بن خالد كلها لا يحدث بها عنه غير أصرم هذا، وكان قد نقل عن يحيى بن معين قوله في أصرم بن حوشب، كذاب خبيث وعن البخاري قوله: متروك الحديث.
ويظهر أن الخلط وقع في الإسناد إذ لا يعرف هذا اللفظ عن أبي الدرداء من غير هذا الطريق لكن يعرف له ما يشبهه.
قال البيهقي – المرجع السابق-:
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو جعفر محمد بن علي الشيباني، حدثنا أحمد بن حازم الغيفاري، حدثنا أبو نعيم، حدثنا عاصم بن رجاء بن حيوة عن أبيه، عن أبي الدرداء – رضي الله عنه – يرفع الحديث قال: ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عافيته فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن نسيًّا ثم تلا هذه الآية: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [الآية 94 من سورة مريم] .
قلت: والظاهر أن أصرم أو قرة أو غيرهما التبس عليه الحديثان لوحدتهما في المعنى فنسب لفظ أبي ثعلبة الخشني على لفظ أبي الدرداء وكلاهما كان يسكن الشام وهذه إحدى آفات الاعتماد على الاحتفاظ عند بعض من كان يحب أن يتظاهر بقوة الحفظ وأن يتجنب الوصمة التي كانوا في الصدر الأول يصمون بها من كانوا يعتمدون في الرواية على الكتابة إذ يسمونهم (صحفيين) . . ولأجل ذلك كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل لأن السؤال عن المشكل عبث.
ولا يستثنى من دلالة السكوت على التقدير إلا الأحوال التي دل النقل على إلحاقها بأصول لها حكم غير الإباحة وهي دلالة القياس بمراتبها.
ثم قال:
ومن رحمة الشريعة أنها أثبتت للأمم معتادها وأحوالها الخاصة إذا لم يكن فيها استرسال على فساد، ففي الموطأ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((أيما دار أو أرض قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية وأيّما دار أو أرض أدركها الإسلام ولم تقسم فهي على قسم الإسلام)) (1)، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة:((وهل ترك لنا عقيل من دار؟)) (2) يريد أن عقيل بن أبي طالب فرقها في حكم الجاهلية فلم ينقضه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة.
ثم قال [ص105، 106] :
…
إن مقاصد الشريعة من أحكامها كلها إثبات أجناس تلك الأحكام (3) لأحوال وأوصاف وأفعال من التصرفات خاصها وعامها باعتبار ما تشتمل عليه تلك الأحوال والأوصاف والأفعال من المعاني المنتجة صلاحًا ونفعًا أو فسادًا وضرًّا قويين أو ضعيفين فإياك أن تتوهم أن بعض الأحكام منوط بأسماء الأشياء أو بأشكالها الصورية غير المستوفاة للمعاني الشرعية فتقع في أخطاء في الفقه مثل قول بعض الفقهاء في صنف من الحيتان يسميه البعض خنزير البحر أنه يحرم أكله لأنه خنزير، ومن يقول بتحريم، نكاح امرأة زَوَّجها إياه وليها بمهر وزوَّج هو ذلك الوليَّ امرأةً هو وليُّها بمهر مساوٍ لمهر الأخرى أو غير مساوٍ لاعتقاد أن هذا من الشغار، لأن شكله الظاهر كشكل الشغار مغمض العينين عن المعنى والوصف الذي لأجله أبطلت الشريعة نكاح الشغار وإنما حق الفقيه أن ينظر إلى الأسماء الموضوعة للمسمى أصالة أيامً التشريع، وإلى الأشكال المنظور إليها عند التشريع من حيث إنهما طريق لتعرف الحالة الملحوظة وقت التشريع لتهدينا إلى الوصف المرعي للشارع كما سيجيء في مبحث نوط التشريع بالضبط والتحديد. ولقد أخطأ من هنا بعض الفقهاء أخطاء كثيرة مثل ما أفتى بعض الفقهاء بقتل المشعوذ باعتبار أنهم يسمونه سحارًا مغمضين أعينهم عن تحقيق معنى السحر الذي ناط الشرع به حكم القتل، فمن حق الفقيه إذا تكلم على السحر أو سئل عنه أن يبين أو يستبين صفته وحقيقته وأن لا يفتى بمجرد ذكر اسم السحر فيقول: يقتل الساحر ولا تقبل توبته إن ذلك عظيم.
(1) أخرجه مالك في [الموطأ: 639، ح 40] عن ثور بن زيد الديلي بلاغًا فقال: عن ثور بن زيد الديلي أنه قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيما دار أو أرض قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية وأيما دار أو أرض أدركها الإسلام ولم تقسم فهي على قسم الإسلام. وقال ابن عبد البر في [التمهيد: 2/48] : هكذا هذا الحديث في الموطأ لم يتجاوز به ثور بن زيد أنه بلغه عند جماعة رواة الموطأ والله أعلم ورواه إبراهيم بن طهمان، عن مالك، عن ثور بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس تفرد به عن مالك بهذا الإسناد وهو ثقة. وقد روي هذا الحديث مسندًا من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس، ورواه ابن عيينة عن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، ثم ساق الحديثين لكن بلفظ مختلف وإن اتحدا مع حديث ثور في المعنى. وأخرجه البيهقي في [السنن الكبرى: 9/122] من طريق الشافعي عن مالك: ونقل عن الشافعي قوله: ونحن نروي فيه حديثًا أثبت من هذا بلغني بمثل معناه. وساق البيهقي بإسنادين حديث عمرو عن جابر بن زيد عن ابن عباس الذي ألمعنا إليه آنفًا.
(2)
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من عدة طرق وبألفاظ فيها اختلاف. انظر [المزي، تحفة الأشراف: 1/57، 58 ح 114] . وأخرجه غيرهم من أصحاب مدونات السنة معاجمها لا سيما من عنوا بالمغازي والأموال، وننقل من ألفاظه وطرقه عندهم ما أخرجه أبو عبيد في [الأموال: ص208، ح 527] فقال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن الليث، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب قال: أخبرني علي بن حسين أن عمرو بن عثمان أخبره عن أسامة بن زيد أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة – يعني في حجة الوداع -: أتنزل في دارك؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور؟ قال: وكان عقيل ورث أبا طالب ولم يرثه جعفر ولا علي لأنهما كانا مسلمين وكان عقيل وطالب كافرين.
(3)
أطلق – رحمه الله كلمة (أجناس) في هذا المجال على ما يشبه أن يكون بمعنى الكليات، يريد أن الشارع شرع أنواعًا من الأحكام تنطبق على ماهيات الأحداث والأشياء والعبادات وليس على أشكالها أو أسمائها وهذا ملحظ في غاية الدقة والعمق والجلال. فتأمل.
ثم قال:
وكذلك فإن الأسماء الشرعية إنما تعتبر باعتبار مطابقتها للمعاني الملحوظة شرعًا في مسمياتها عند وضع المصطلحات الشرعية، فإذا تغير المسمَّى لم يكن لوجود الاسم اعتبار.
وقال ابن تيمية في [مجموع الفتاوى: 19/235] :
الأسماء التي علَّق الله بها الأحكام في الكتاب والسنة منها ما يعرف حدّه ومسمَّاه بالشرع، فقد بينه الله ورسوله كاسم الصلاة والزكاة والصيام والحج والإيمان والإسلام والكفر والنفاق، ومنه ما يعرف حدّه باللغة كالشمس والقمر والسماء والأرض والبر والبحر، ومنه ما يرجع حدّه على عادة الناس وعرفهم فيتنوّع بحسب عاداتهم كاسم البيع والنكاح والقبض والدرهم والدينار ونحو ذلك من الأسماء التي لم يحددها الشارع بحد ولا لها حد واحد، فيشترك فيه جميع أهل اللغة بل يختلف قدره وصفته باختلاف عادات الناس (1) .
ثم قال [28/386] في معرض بيانه بأنَّ الأموال يجب الحكم بين الناس فيها بالعدل:
والأصل في هذا أنه لا يحرم على الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها إلا ما دل الكتاب والسنة على تحريمه، كما لا يشرع لهم من العبادات التي يتقرّبون بها إلى الله إلا ما دلَّ الكتاب والسنَّة على شرعه، إذ الدين ما شرعه الله والحرام ما حرَّمه الله بخلاف الذين ذمهم الله حيث حرموا من دين الله ما لم يحرمه الله وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وشرعوا له من الديَّن ما لم يأذن به الله.
ثم قال: [29/5، 8] :
وأما العقود في المعاملات المالية والنكاحية وغيرها فنذكر فيها قواعد جامعة عظيمة المنفعة، فإن القول فيها كالقول في العبادات، فمن ذلك صفة العقود فالفقهاء فيها على ثلاثة أقوال:
أحدها أنَّ الأصل في العقود أنها لا تصح إلا بالصيغة وهي العبارات التي يخصها بعض الفقهاء باسم الإيجاب والقبول سواء في ذلك البيع والإجارة والهبة والنكاح والعتق والوقف وغير ذلك، وهذا ظاهر قول الشافعي وهو قول في مذهب أحمد يكون تارة رواية منصوصة في بعض المسائل كالبيع والوقف ويكون تارة رواية مخرجه كالهبة والإجارة.
ثم هؤلاء يقيمون الإشارة مقام العبارة عند العجز عنها كما في إشارة الأخرس، ويقيمون الكتابة في مقام العبارة عند الحاجة، وقد يستثنون مواضع دلت النصوص على جوازه إذا مسَّت الحاجة إليها.
(1) لكن الدينار والدرهم في الزكاة خاصة لا يمكن اعتبارهما من هذا القبيل فقد حددهما الشرع وزنًا وقيمة بفعله صلى الله عليه وسلم، ثم بفعل عمر – رضي الله عنه – ثم بإجماع الصحابة والتابعين لا سيما في عهد عبد الملك – انظر بيان ذلك في كتابنا (تغيير العملة نقدًا أو عينًا وآثاره في المعاملات الإسلامية) -.
ثم قال:
لكن الأصل عندهم هو اللفظ لأن الأصل في العقود هو التراضي المذكور في قوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [الآية 29 من سورة النساء]، وقوله:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [الآية 4 من سورة النساء] . والمعاني التي في النفس لا تنضبط إلا بالألفاظ التي جعلت لإبانة ما في القلب إذ الأفعال من المعاطاة ونحوها تحتمل وجوهًا كثيرة، ولأن العقود من جنس الأقوال فهي في المعاملات كالذكر والدعاء في العبادات.
والقول الثاني: أنها تصح بالأفعال فيما كثر عقده بالأفعال كالمبيعات بالمعاطاة وكالوقف فيمن بنى مسجدًا وأذن للناس بالصلاة فيه أو سبل أرضًا للدفن فيها أو بنى مطهرة وسبلها للناس، وكأنواع بعض الإجارة كمن دفع ثوبه إلى غسال أو خياط يعمل بالأجرة أو راكب سفينة ملاح وكالهدية ونحو ذلك، فإن هذه العقود لو لم تعقد بالأفعال الدالة عليها لفسدت أمور الناس ولأنَّ الناس من لدن النبي صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا ما زالوا يتعاقدون في مثل هذه الأشياء بلا لفظ بل بالفعل الدَّالِّ على العقود، وهذا هو الغالب على أصول أبي حنيفة وهو قول في مذهب أحمد ووجه في مذهب الشافعي بخلاف المعاطاة في الأموال الجليلة، فإنه لا حاجة إليه ولم يجر به العرف (1) .
القول الثالث: أنها تنعقد بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل، فكل ما عدَّه الناس بيعًا وإجارة فهو بيع وإجارة وإن اختلف اصطلاح الناس في الألفاظ والأفعال انعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه بينهم من الصيغ والأفعال، وليس لذلك حد مستمر لا في شرع ولا في لغة بل يتنوع اصطلاح الناس كما تتنوع لغاتهم.
ثم قال:
ولا يجب على الناس التزام نزع معين من الاصطلاحات في المعاملات ولا يحرم عليهم التعاقد بغير ما يتعاقد به غيرهم إذا كان ما تعاقدوا به دالا على مقصودهم، وإن كان قد يستحب بعض الصفات وهذا هو الغالب على أصول مالك وظاهر مذهب أحمد، ولهذا يصح في ظاهر مذهبه بيع المعاطاة مطلقًا وإن كان قد وجد اللفظ من أحدهما والفعل من الآخر بأن يقول: خذ هذا لله فيأخذه أو يقول: اعطني خبزًا بالدرهم فيعطيه، أو لم يوجد لفظ من أحدهما بان يضع الثمن ويقبض جرزة البقل أو الحلواء أو غير ذلك كما يتعامل غالب الناس، أو يضعوا المتاع ليوضع له بدله فإذا وضع البدل الذي يرضى به أخذه كما يجلبه التجار على عادة بعض أهل المشرق.
(1) ومفهومه إذ جرى به العرف فأصبح قاعدة بين الناس يتعاملون بمتقضاها جرى حكمه على حكم ما ليس بجليل في مذهب أبي حنيفة وعند القائلين به في مذهب احمد إذ أن الأصل عند هؤلاء هو العرف. فتأمل.
فكل ما عده الناس بيعًا فهو بيع وكذلك في الهبة مثل الهدية ومثل تجهيز الزوجة بما يحمل معها إلى بيت زوجها إذا كانت العادة جارية بأنه عطية لا عارية.
ثم قال [ص15، 18] :
ونحن نعلم بالاضطرار من عادات الناس في أقوالهم وأفعالهم أنهم يعملون التراضي وطيب النفس بطرق متعددة، والعلم به ضروري في غالب ما يعتاد من العقود وهو ظاهر في بعضها وإذا وجد تعلق الحكم بها بدلالة القرآن، وبعض الناس قد يحمله اللدد في نصره لقول معين على أن يجحد ما يعلمه الناس من التراضي وطيب النفس، فلا عبرة بجحد مثل هذا فإنَّ جحد الضروريات قد يقع كثيرًا عن مواطأة وتلقين في الأخبار والمذاهب، فالعبرة بالفطرة السليمة التي لم يعارضها ما يغيرها ولهذا قلنا: إن الأخبار المتواترة يحصل بها العلم حيث لا تواطؤ على الكذب، لأنَّ الفطر السليمة لا تتفق على الكذب فأما مع التواطؤ والاتفاق فقد يتفق جماعات على الكذب.
ثم قال:
وما لم يكن له حدّ في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى عرف الناس كالقبض المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه)) (1) ، ومعلوم أن البيع والإجارة والهبة ونحوها لم يحد الشارع لها حدًّا لا في كتاب الله ولا سنَّة رسوله، ولا نقل عن أحد من الصحابة والتباعين أنَّه عيَّن للعقود صفة معيَّنة من الألفاظ أو غيرها أو قال ما يدل على ذلك من أنَّها لا تنعقد إلا بالصِّيغ الخاصة.
ثم قال:
فإذا لم يكن له حد في الشرع ولا في اللغة كان المرجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم، فما سموه بيعًا وما سموه هبة فهو هبة.
ثم قال:
…
إنَّ تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم وعادات يحتاجون إليها في دنياهم، فباستقراء أصول الشريعة علم أنَّ العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع، وأما العادات العادات فهي ما أعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصل فيه عدم الحظر فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى وذلك لأنَّ الأمر والنهي هما شرع الله.
(1) الحديث أخرجه النسائي في [سننه (المجتبي) : 7/285] فقال: أخبرنا محمد بن سلمة قال: أنبأنا ابن القاسم، عن مالك، عن ابن دينار، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه. ثم قال [ص 286] : أخبرنا سليمان بن منصور قال: حدثنا أبو الأحوص، عن عبد العزيز بن رفيه، عن عطاء بن أبي رباح، عن حزام بن حكيم، قال: قال حكيم بن حزام: ابتعت طعامًا من طعام الصدقة فربحت فيه قبل أن أقبضه فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال: لا تبعه حتى تقبضه.
ثم قال:
والعادات الأصل فيها العفو فلا يحظر منها إلا ما حرمه وإلا دخلنا في معنى قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا} [الآية 59 من سورة يونس] .
ثم قال:
وهذه قاعدة عظيمة نافعة وإذا كان كذلك فنقول: البيع والهبة والإجارة وغيرها من العادات التي يحتاج الناس إليها في معاشهم – كالأكل والشرب واللباس – فإن الشريعة قد جاءت في هذه العادات بالآداب الحسنة فحرمت منها ما فيه فساد وأوجبت ما لا بد منه، وكرهت ما لا ينبغي واستحبت ما فيه مصلحة راجحة في أنواع هذه العادات ومقاديرها وصفاتها.
وإذا كان كذلك فالناس يتبايعون ويستأجرون كيف شاءوا ما لم تحرم الشريعة، كما يأكلون ويشربون كيف شاءوا ما لم تحرم الشريعة وإن كان بعض ذلك قد يستحب أو يكون مكروهًا وما لم تحد الشريعة في ذلك حدًّا فيبقون فيه على الإطلاق الأصلي.
ثم قال [ص 150، 154] :
…
إن العقود والشروط من باب الأفعال العادية والأصل فيها عدم التحريم فيستحب عدم التحريم فيها حتى يدل دليل على التحريم كما في الأعيان الأصل فيها عدم التحريم، وقوله تعالى:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الآية 119 من سورة الأنعام] ، عام في الأعيان والأفعال وإذا لم تكن حرامًا لم تكن فاسدة، لأن الفساد إنما ينشأ من التحريم وإذا لم تكن فاسدة كانت صحيحة.
وأيضًا ليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود والشروط إلا ما ثبت حلّه بعينه.
ثم قال:
وإن انتفاء دليل التحريم دليل على عدم التحريم فثبت بالاستصحاب العقلي وانتفاء الدليل الشرعي عدم التحريم فيكون فعلها إما حلالا وإما عفوًا كالأعيان التي لم تحرم.
وغالب ما يستدل به على أنَّ الأصل في الأعيان عدم التحريم من النصوص العامة والأقيسة الصحيحة والاستصحاب العقلي وانتفاء الحكم لانتفاء دليله فإنه يستدل أيضًا به على عدم تحريم العقود والشروط فيها سواء سمي ذلك حلالا أو عفوًا على الاختلاف المعروف.
ثم قال:
…
إنَّ الأحكام الثابتة بأفعالنا كالملك الثابت بالبيع وملك البضع الثابت بالنكاح، نحن أحدثنا أسباب تلك الأحكام والشارع أثبت الحكم لثبوت سببه منا ولم يبثته ابتداء كما أثبت إيجاب الواجبات وتحريم المحرمات المبتدأة فإذا كنا نحن المثبتين لذلك الحكم ولم يحرم الشارع علينا رفعه لم يحرم علينا رفعه.
ثم قال:
وهذه نكتة المسألة التي يتبين بها مأخذها وهو أن الأحكام الجزئية – من حلّ هذا المال لزيد وحرمته على عمرو – لم يشرعها الشارع شرعًا جزئيًّا وإنما شرعها شرعًا كليًّا.
ثم قال:
وهذا الحكم الكلي الثابت سواء وجد هذا البيع معين أو لم يوجد فإذا وجد بيع معين أثبت ملكًا معينًا فهذا المعين سببه فعل العبد فإذا رفعه العبد، فإنما رفع ما أثبته هو بفعله لا ما أثبته الله من الحكم الكلي إذ ما أثبته الله من الحكم الجزئي إنما هو تابع الفعل العبد سببه لا أن الشارع أثبته ابتداء.
ثم قال [ص340] :
وأصل العقود أنّ العبد لا يلزمه شيء إلا بإلزامه أو بإلزام الشارع له فما التزمه فهو ما عاهد عليه فلا ينقص العهد ولا يغدر.
وقال ابن قيم الجوزية – رحمه الله – في [أعلام الموقعين: 1/87، 88] أثناء شرحه لرسالة عمر إلى أبي موسى المشهورة:
ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهم الواقع والفقيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علمًا.
والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرًا، فالعالم من يتوصل- بمعرفة الواقع والفقه فيه – إلى معرفة حكم الله ورسوله كما توصل شاهد يوسف- بشق القميص من دُبُر- إلى معرفة براءته وصدقه وكما توصل سليمان - صلى الله عليه - بقوله ائتوني بالسكين حتى أشق الولد بينكما إلى معرفة عين الأم، وكما توصل أمير المؤمنين على عليه السلام – بقوله للمرأة التي حملت كتاب حاطب لما أنكرته لتخرجن الكتاب أو لنجردنك – إلى استخراج الكتاب منها، وكما توصل الزبير بين العوام بتعذيب أحد ابني أبي الحقيق بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دلهم على كَنْز حُيَيّ لما ظهر له كذبه في دعوى ذهابه بالإنفاق بقوله: المال كثير والعهد أقرب من ذلك. وكما توصل النعمان بن بشير – بضرب المتهمين بالشرقة – إلى ظهور المال المسروق عندهم، فإن ظهر وإلا ضرب من اتهمهم كما ضربهم، وأخبر أن هذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله.
قال ابن القيم – رحمه الله – في [أعلام الموقعين: 1/344، 345] في معرض مناقشة خصومه -:
الخطأ الرابع لهم اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على البطلان حتى يقوم دليل على الصحة. فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة شرط أو عقد أو معاملة استصحبوا بطلانه فأفسدوا بذلك كثيرًا من معاملاتهم الناس وعقودهم وشروطهم بلا برهان من الله بناء على هذه الأصل، وجمهور الفقهاء على خلافه، وأنَّ الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه وهذا هو القول الصحيح، فإنَّ الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتأثيم، ومعلوم أنَّه لا حرام إلا ما حرَّمه الله ورسوله ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله، كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله، ولا حرام إلا ما حرَّمه الله، ولا دين إلا ما شرعه، فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر، والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم، والفرق بينهما أن الله سبحانه لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله، فإن العبادة حقه على عباده وحقه الذي أحقه هو ورضي به وشرعه، وأما العقود والشروط والمعاملات فهي عفو حتى يحرمها، ولهذا نهى الله سبحانه المشركين عن مخالفة هذين الأصلين، وهو تحريم ما لم يحرمه والتقرب إليه بما لم يشرعه – وهو سبحانه لو سكت عن إباحة ذلك وتحريمه لكان ذلك عفوًا لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله، فإن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه، وما سكت عنه فهو عفو، فكل شرط وعقد ومعاملة سكت عنها فإنه لا يجوز القول بتحريمها لأنه سكت عنها رحمة منه من غير نسيان وإهمال، فكيف وقد صرحت النصوص بأنها على الإباحة في ما عدا ما حرمه الله. ثم ساق أدلة من الكتاب والسنَّة تؤكد هذه القاعدة التي أقرها ولا نريد أن نطيل بإيرادها.
قال ابن القيم في [أعلام الموقعين: 4/228، 229] بين ما ساقه من فوائد وإرشادات تتعلق بالإفتاء:
الفائدة الثالثة والأربعون: لا يجوز له – أي المفتي – أن يفتي في الإقرار والأيمان والوصايا وغيرها مما يتعلق باللفظ بما اعتاده هو من فهم تلك الألفاظ دون أن يعرف عرف أهلها والمتكلمين بها فيحملها على ما اعتادوه وعرفوه وإن كان مخالفًا لحقائقها الأصلية فمتى لم يفعل ذلك ضلَّ وأضلَّ.
فلفظ الدينار عند طائفة اسم لثمانية دراهم، وعند طائفة اسم لاثنى عشر درهمًا، والدّرهم عند غالب البلاد اليوم – يعني في عصر ابن القيم – اسم للمغشوش.
قلت: وهو عندنا اليوم في بعض البلاد اسم لعملة ورقية لا علاقة لها من حيث القيمة بالدّرهم الشرعي الذي تنبنى عليه أحكام الزكاة وما شاكلها من الشرائع التعبدية.
ثم قال:
فإذا أقّر له بدراهم أو حلف ليعطينه أو أصدقها امرأة لم يجز للمفتي ولا للحاكم أن يلزمه بالخالصة، فلو كان في بلد إنما يعرفون الخالصة لم يجز له أن يلزم المستحق بالمغشوشة.
وكذلك في ألفاظ الطلاق والعتاق، فلو جرى عرف أهل بلد أو طائفة في استعمالها لفظ الحرية في العفّة دون العتق، فإذا قال أحدهم عن مملوكه (إنه حرّ) أو عن جاريتها (إنها حرّة) ، وعادته استعمال ذلك في العفة لم يخطر بباله غيرها لم يعتق بذلك قطعًا وإن كان اللفظ صريحًا عند من ألف استعماله في العتق، وكذلك إذا جرى عرف طائفة في الطلاق بلفظ التسميح بحيث لا يعرفون لهذا المعنى غيره فإذا قالت:(اسمح لي) فقال: (سمحت لك) فهذا صريح في الطلاق عندهم. وقد تقدَّم في هذا الأصل مشبعًا وأنه لا يسوغ أن يقبل تفسير من قال لفلان عليَّ (مال جليل) أو (عظيم) بدانق أو درهم ونحو ذلك، ولا سيما إن كان المقرّ من الإغنياء المكثرين أو الملوك، وكذلك لو أوصى له بقوس في محلّة لا يعرفون أقواس البندق أو الأقواس العربية أو الأقواس الرِّجل، أو حلف لا يشمّ الريحان في محل لا يعرفون إلا هذا الفارسي، أو حلف لا يركب دابة في موضع عرفهم بالدابة الحمار أو الفرس، أو حل لا يأكل تمرًا في بلد عرفهم في التّمار نوع واحد منها لا يعرفون غيره، أو حلف لا يلبس ثوبًا في بلد عرفهم في الثياب القمص وحدها دون الأردية والأزر والجلباب ونحوها، تقيدت يمينه بذلك وحده في جميع هذه الصور واختصت بعرفه دون موضوع اللفظ لغة أو في عرف غيره.
بل لو قالت امرأة لزوجها الذي لا يعرف التكلم بالعربية ولا يفهمها قل لي: (أنت طالق ثلاثًا) وهو لا يعلم موضوع هذه الكلمة فقال لها، لم تطلق قطعًا في حكم الله تعالى ورسوله.
وكذلك لو قال الرجل الآخر: (أنا عبدك ومملوكك) على جهة الخضوع له كما يقول الناس لم يستبح ملك رقبته في ذلك ومن لم يراع المقاصد والنيات والعرف في الكلام فإنه يلزمه أن يجوز له بيع هذا القائل وملك رقبته بمجرد هذا اللفظ.
وهذا باب عظيم يقع فيه المفتي الجاهل فيغر الناس ويكذب على الله ورسوله ويغير دينه ويحرم ما لم يحرّمه الله ويوجب ما لم يوجبه الله والله المستعان.
وقال السرخسي في [أصوله: 1/190، 191] في بيان جملة ما تترك به الحقيقة:
تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال عرفًا لأن الكلام موضوع للإفهام، والمطلوب به ما تسبق إليه الأوهام، فإذا تعارف الناس استعماله لشيء عينًا كان كذلك بحكم الاستعمال كالحقيقة فيه، وما سوى ذلك – لانعدام العرف – كالمهجور لا يتناوله إلا بقرينة، ألا ترى أن اسم الدّراهم – كذا ولعل صوابه: الدرهم – عند الإطلاق يتناول نقد البلد لوجود العرف الظاهر في التعامل به ولا يتناول غيره إلا لقرينة لترك التعامل به ظاهرًا في ذلك الوضع وإن لم يكن بين النوعين فرق فيما وضع له الاسم حقيقة وبيان هذا الاسم للصلاة فإنها للدعاء حقيقة.
ثم قال: وهي مجاز للعبادة المشروعة بأركانها سمّيت به لأنها شرعت للذكر قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [الآية 14 من سورة طه] وفي الدعاء ذِكْر وإن كان يشوبه سؤال، ثم عند الإطلاق ينصرف إلى العبادة المعلومة بأركانها سواء كان فيها دعاء أو لم يكن كصلاة الأخرس وإنما تركت لحقيقة الاستعمال عرفًا، وكذلك الحج فإن اللفظ للقصد حقيقة ثم سميت العبادة بها لما فيها من العزيمة والقصد للزيارة، فعند الإطلاق الاسم يتناول العبادة للاستعمال عرفًا والعمرة والصوم والزكاة وغيرها، على هذا فإن نظائر هذا أكثر من أن تحصى ولهذا قلنا: من نذر صلاة أو حجًّا أو مشيًا إلى بيت الله يلزمه العبادة وإن لم ينو ذلك، فالمشي إلى بيت الله تعالى غير الحج حقيقة، ولكن الاستعمال عرفًا ينصرف مطلق اللفظ إليه وكذلك لو قال: لله عليَّ أن أضرب بثوبي حطيم الكعبة يلزمه التصدق بالثوب للاستعمال عرفًا، فاللفظ حقيقة في غير ذلك، ومن حلف أن لا يشتري رأسًا ينصرف يمينه إلى ما يتعارف بيعه في الأسواق من الرءوس على حسب ما اختلفوا فيه وكل ذلك للاستعمال عرفًا.
فأما من حيث الحقيقة الاسم يتناول كل رأس.
ومن حلف ألا يأكل بيضًا يتناول يمينه بيض الدجاج والأوز خاصة لاستعمال ذلك عند الأكل عرفًا ولا يتناول بيض الحمام والعصفور وما أشبه ذلك.
وقال ابن نجيم في [الأشباه والنظائر: ص93، 101] :
القاعدة السادسة: (العادة محكّمة) .
وأصلها قوله عليه الصلاة والسلام ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن)) . قال العلائي: لم أجده مرفوعًا في كتب الحديث أصلا ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال وإنما هو من قول عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه موقوفًا عليه أخرجه أحمد في مسنده.
قلت: سبق أن ذكرنا تخريج هذا الحديث لكن من أغرب ما وقفنا عليه حوله قول ابن عابدين في [رسائله: ص120] .
(رسالة نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف) . _ ويظهر أنه نقل على القُنْيَة) -:
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن خميرة يتعاطاها الجيران أيكون ربا؟ فقال: ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح)) .
ولم نقف فيما بين أيدينا من مدونات السلف للفقه أو الحديث أو آثار الصحابة والتابعين على رواية لهذا الحديث بهذا اللفظ ولا ندري من أين جاء به.
ثم قال ابن نجيم:
واعلم أن اعتبار العادة والعرف يرجع إليه في اللغة في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلا فقالوا في الأصول في باب ما تترك به الحقيقة، تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة كما ذكر فخر الإسلام فاختلف في عطف العادة على الاستعمال فقيل: هما مترادفان وقيل: المراد من الاستعمال نقل اللفظ عن موضوعه الأصلي إلى معناه المجازي شرعًا وغلبة استعمال فيه ومن العادة نقله إلى معناه المجازي عرفًا. ثم قال:
وذكر الهندي في (شرح المغني) : العادة عبارة عما يستقر في النفوس من الأمور المتكررة المقبولة عند الطباع السليمة وهي أنواع ثلاثة: العرفية العامة كوضع القدم. والعرفية الخاصة كاصطلاح كل طائفة مخصوصة كالرفع للنّحاة والفرق والجمع والنقض للنظار. والعرفية الشرعية كالصلاة والزكاة والحج تركت معانيها اللغوية بمعانيها الشرعية.
ثم ذكر ممّا فرّع على هذه القاعدة (ألفاظ الواقفين تنبني على عرفهم وكذا لفظ النادر الموصي والحالف وكذا الأقارير تنبني عليه) غالبًا.
ثم قال:
فإذا تعارضا قُدِّم عرف الاستعمال خصوصًا في الأيمان – أي العرف والشرع-.
ثم قال:
صرَّح الزيلعي وغيره بأنَّ الأيمان مبنية على العرف لا على الحقائق اللّغوية.
ثم ساق قولهم: (المعروف عرفًا كالمشروط شرعًا) .
ثم قال:
العرف الذي تحمل عليه الألفاظ إنما هو المقارن السابق دون المتأخر ولذا قالوا: لا عبرة بالعرف الطارئ، فلذا اعتبر العرف في المعاملات ولم يعتبر في التعليق فيبقى على عمومه ولا يخصُّه العرف.
*
**
الفصل السابع
ظَاهرة حَضَاريَّة
الاختلاف المتمثل في النصوص التي سقناها في الفصول السابقة ليس في جوهره اختلافًا في تأويل نصوص القرآن والسنة وإنما هو اختلاف في فقه المناط، نشأ بعضه من افتقار البعض إلى الحاسة الفقهية مع تمسّك شديد بألفاظ النصوص افتقارًا يشهد له قوله صلى الله عليه وسلم: ((رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه
…
)) الحديث تعليق: الحديث مشهور أخرجه من الستة بهذا اللفظ أبو داود والترمذي وابن ماجه كما أخرجه عدد من أصحاب السنن غيرهم.
أما أبو داود فرواه في [سننه: 3/322، ح 3660] عن زيد بن ثابت – فقال – حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن شعبة، حدثني عمر بن سليمان من ولد عمر بن الخطاب، عن عبد الرحمن بن أبان، عن أبيه، عن زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((نضر الله امرءًا سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه)) .
وقال الترمذي في [الجامع الصحيح: 5/33، 35، ح2656] :
حدثنا محمود بن غيلان حدثنا أبو داود، أخبرنا شعبة، أخبرنا عمر بن سليمان من ولد عمر بن الخطاب قال: سمعت عبد الرحمن بن أبان بن عثمان يحدث عن أبيه، قال: خرج زيد بن ثابت من عند مروان نصف النهار، قلنا: ما بعث إليه في هذه الساعة إلا لشيء سأله عنه فسألناه فقال: نعم سألناه عن أشياء سمعناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((نضر الله امرءًا سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه غيره فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه)) .
قال الترمذي: وفي الباب عن عبد الله بن مسعود وجبير بن مطعم وأبي الدرداء وأنس: ثم قال: حديث زيد حديث حسن.
ثم قال: [ح2658] :
حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود يحدث عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((نضر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها وحفظها فبلغها فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أيمة المسلمين، ولزوم جماعتهم فإن الدعوة تحيط من ورائهم)) .
وقال ابن ماجه في [سننه: 1/84، 86، ح 230] :
حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير وعلي بن محمد قالا: حدثنا محمد بن فضيل، حديثنا ليث بن أبي سليم، عن يحيى بن عباد، عن أبي هريرة الأنصاري عن أبيه، عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نضر الله امرءًا سمع مقالتي فبلغها فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)) .
زاد فيه علي بن محمد: ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أيمة المسلمين، ولزوم جماعتهم.
231-
حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، عن عبد السلام، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيف في مني: ((نضر الله امرءًا سمع مقالتي فبلغها فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)) . حدثنا علي بن محمد حدثنا خالي يعلي.
وحدثنا هشام بن عمار، حدثنا سعيد بن يحيى قالا: حدثنا محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
ثم قال [ح236] :
حدثنا محمد بن إبراهيم الدمشقي، حدثنا مبشر بن إسماعيل الحلبي، عن معان بن رفاعة، عن عبد الله بن بخت المكي، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نضر الله عبدًا سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها عني فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)) .
ثم قال [2/1015، 1016، ح 3056] :
حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، وساق مثل الحديث السابق سندًا ولفظًا سواء. . ونشأ بعضه من حال حضارية كانت سائدة عندهم فوقفوا عند مقتضياتهم في تكييف مفاهيمهم للنصوص.
ولو قد مضينا نتقصى مقولات الفقهاء والمتفقَّهة في مجالات العقود لملأنا مجلّدات من أعاجيبها وهي جميعًا – على تغاير وتعارضها وأحيانًا على تناقضها – لتكاد تخرج عند التمحيص عن هذين السببين اللذين ألمعنا إليهما إلا ما كان تمحّلات المقلدة الذين واجهتهم بعض التغيرات الحضارية، وقعد بها التقليد عن تجاوز مقولات أسلافهم والرجوع إلى نصوص القرآن والسنة لقراءتها وفهمها من جديد، فطفقوا يبدءون ويعيدون في تيه فقهي عجيب لا يكادون يجدون منه منفذًا، فكان أن تراءى للمحدثين من الراغبين في المواءمة بين الشريعة الإسلامية ومقتضيات الحضارة المعاصرة كما لو كان التشريع الإسلامي يعسر التوفيق بينه وبينها لأنهم حسبوا أنّ مقولات المقلدة من متفقهة عهود التحجر الواقفين أنفسهم في ما أرهقوها بوضعه من الشروح والحواشي والتقارير على ألوان من التمحلات تقديسًا لمقولات أسلافهم وجمودًا لها واعتبارًا لها مقدمة على نصوص الكتاب والسنة كما لو كان فهم تلك النصوص مقصورًا على السلف الأول محظورًا على غيره ممن يأتي بعدهم. أقول لأنَّ المحدثين حسبوا أن هذه المقولات هي لب الفقه الإسلامي وخلاصته وصفوته، فوقف جلهم عندها يحاولون هم أيضًا أن يجدوا سبيلا إلى التوفيق بينها وبين ما يعايشونه من أحوال حضارية وضرورية وحاجية محاولة كثيرًا ما أعجزتهم فاستسلموا وقليل منهم من اكتشف الواقع المرّ لتلك المقولات فتجاوزها باحثًا عن حقيقة التشريع الإسلامي في نصوص الكتاب والسنة، مسترشدًا بالقلّة النادرة من الفقهاء الموفقين أمثال الشاطبي وابن تيمية وابن القيم ومحمد الطاهر بن عاشور، أولئك الذين استطاعوا أن ينفذوا ببصائرهم إلى سرائر التشريع الإسلامي وأن يحكموا في استفقاههم له مياسم المناط وملامح الحكمة، وبذلك رسموا نهجًا نيرًا انفردوا به فجاء متكاملا عجبًا من التوفيق والسداد لما ينبغي أن يتخذ نبراسًا لتفهم الشريعة الإسلامية والتوفيق بينها وبين مقتضيات الحضارة مهما تطورت وتغايرت أوضاعها ومستلزماتها.
وفيما يلي نتبين تأثير التغير الحضاري في تصورات ومقولات السلف الأول في الجانب المتصل بالعقود من تشريعات المعاملات والأحوال الشخصية.
لعل من أبرز ما يجلو تأثير المقتضيات الحضارية في فهم النصوص وفقه ما جاءت به من تشريع قضية (خيار المجلس) ومصدرها وما سقناه في الفصل الخامس من حديث ابن عمر وحكيم بن حزام وأبي هريرة وغيرهم، وفيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)) وما شاكل ذلك من ألفاظ، فقد وقف ابن عمر – رضي الله عنه عند لفظه فكان إذا صفق بيعًا مع مشترٍ قام فمشى خطوات ثم عاد إلى مجلسه ليكون بذلك فارقه فتم العقد، وعللوا ذلك فيما جاء في بعض روايات الحديث من أنَّ عدم الافتراق قد يوجب على المتبايعين أن يقيل أحدهما صاحبه إذا استقاله، وحاول ابن حجر في التلخيص مناصرة لمذهبه أن يعتذر لابن عمر بقوله [2/20، ح1182] :
لم يبلغ ابن عمر النهي المذكور فكان إذا بايع رجلا فأراد أن يتم بيعه قام فمشى هنيهة ثم رجع إليه. انتهى كلام ابن حجر.
وهو اعتذار عجب كما ترى ليس لأن ابن عمر لم يكن يقصد إلى معنى هذا الاعتذار، بل لأن ابن حجر جاء بعد ثمانية قرون ليدعم موقف الشافعي إمامه من قضية (خيار المجلس) ، إذا كان شديد التشبث – كما بينا في الفصل الخامس – بمقولة التفرق بالأبدان باعتباره شرطًا لانعقاد البيع وانتهاء حق المتبايعين في الخيار ما لم يشترطه أحدهما.
ومرد فهم ابن عمر ومن سار مساره ومنهم الشافعي لهذا النص إلى أنهم كانوا في ذلك العهد ومن قبله لا يعرفون في التجارة إلا التعامل المباشر سواء كان أساسه مقايضة أو ثمنًا، وكان الثمن نفسه يشبه المقايضة في الجزيرة العربية وفي غيرها من الأقطار التي لم تكن تسلك النقود بل كانت تستوردها أو تتعامل بمعدنيها وزنًا، وفي كلتا الحالتين كان لخيار المجلس معناه باعتبار التفرق تفرق أبدان لأن التصافق – وهو صيغة إتمام البيع عندهم يومئذ – على معاملة أساسها المقايضة قد يتم بسرعة يتعذر معها استكناه كلتا السلعتين المقايض بهما استكناهًا يستحيل معه خفاء ما يكون في إحداهما أو فيهما معًا من عيب، ولأن اضطراب أسعار العملة المسكوكة وأسعار الذهب والفضة الموزونين كل منهما بالنسبة إلى الآخر تبعا لتقلبات السوق الناتجة عن الطوارئ غير المقدر لها، ثم ما يكون أحيانًا في الدرهم أو الدينار من زيف كثير أو قليل بل وحتى في معدني الذهب والفضة نفسيهما، كل ذلك يسوغ فهمهم يومئذ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ما لم يفترقا)) أو ((ما لم يتفرقا)) على أنه افتراق أو تفرق بالأبدان، فما دام المتبايعان معًا في مجلسهما فقد يشعر أحدهما بالغبن لِمَا يكتشف من زيف أو نقص في وزن الدرهم أو الدينار أو لِمَا يطرأ على أحد النقدين من انخفاض أو ارتفاع فيحاول التحلل من صفقة بالاستقالة أو بدعوى عدم انعقاد البيع، ولذلك وقر في فهمهم من رأى التفرق بالأبدان أنَّ الافتراق والتفرّق الوارد في الحديث أراد أن يحسم مثل ذلك الاحتمال بابتعاد أحد المتبايعين عن الآخر، وإن بضع خطوات إنهاء لعملية المبايعة.
وهذا الوضع الحضاري السائد يومئذ ما لبث أن تغير إذ ضولت عمليات المقايضة في المعاملات وساد التعامل بالنقد وتقلص العمل بالوزن لانتشار العملة المسكوكة وقل في الفترة الأولى - بصورة ظاهرة - وجود الزيف في العملة المسكوكة لكثرة الذهب والفضة في أيدي الناس ولشدّة رقابة الدولة الأموية على سك النقود واحتكارها الذي يكون تامًا له، كما تغيرت أساليب التجارة تدريجيًّا باتساع رقعة الدولة الإسلامية واشتداد قوتها وتمكنها اشتدادا جعل الدول الأخرى ترغب رغبة أكيدة متزايدة في التعامل معها تصديرًا واستيرادًا.
وكان من أئمة الفقه من اتخذ من التجارة مصدرًا لمعاشه ومنهم مالك بن أنس – رحمه الله – ونتيجة لذلك اتسع أفق الفهم لديه فاستقر على أنَّ الصفق وتبادل الأثمان والسلع هو التفرّق أو الافتراق المراد من الحديث، فكانت مقولته التفرّق بالأقوال.
والذي يعنينا من هذه القضية ما أصبح عليه التعامل يومئذ بين الناس من الاتساع والتنوع بحيث انحسر وكاد ينعدم التعامل مواجهة في المعاملات الكبرى، بل أخذ ينحسر حتى في المعاملات الصغرى، وساد بين الناس التعامل - حتى في المدينة الواحدة والحي الواحد- بالهاتف، وخارج المدينة والحي كان بالبرق ثم أصبح – إلى جانب الهاتف الصوتي – بالوثائق المتناقلة كهربائيًّا (تلكس – TELEX) ، والمصورة هاتفيًّا (تلفاكس – TELEFAX) ، بل قد أخذت تظهر وسيلة جديدة يوشك أن تقضي على الهاتف الصوتي المجرد وهي (الهاتف المرئي –TELECOME) ، أي الذي ينقل لكل من المتخاطبين – مع صوت مخاطبه – صورته، وفضلا عن ذلك أخذ ينتشر الهاتف المشترك وهو الذي يتيح لعدة أفراد أماكن مختلفة وقد يكونون في قارات مختلفة أن يتخاطبوا جميعًا في حالة واحدة كما لو كانوا في مجلس واحد متجاورين أو متواجهين.
فما حكم الشريعة الإسلامية في هذه الأنواع من المعاملات؟ هل تعتبر داخلة في نطاق (خيار المجلس) ؟ وإذن فعلى قول القائلين بالتفرّق بالأبدان كيف يتمّ هذا التَّفرُّق. هل يكون على أحد المتخاطبين أن يضع سمّاعة الهاتف الصوتي أو الهاتف المصور؟ أو أن ينصرف عن (الهاتف المصور للوثائق - TELEFAX) ، أو عن (الجهاز الناقل كهربائيًّا للمراسلات - TELEX) ؟ وإذن فكيف يتسنى المخاطبة أن يتبين أن صاحبه قد غير مجلسه فمشى خطوات فقطع عليه بذلك حق الخيار أو الاستقالة؟
ثم لو قلنا بالتفرّق بالأبدان في (خيار المجلس) فما هو الحكم فيما إذا كان أحد المتبايعين قد ألزم نفسه أثناء اتصاله بصاحبه عن طريق أحد الأجهزة المشار إليها آنفًا أو ما شاكلها بسعر معين بيعًا أو شراء وبمواصفات معينة أيضًا للسلعة المباعة أو المشتراة وقبل أن يتلقى جواب صاحبه بالقبول – وهذا يتبين جليًّا في التعامل بآلات النقل والتصوير الكهربائي – تلقى بواسطة جهاز آخر إشعارًا عن تغيّر السعر في السوق إمّا سعر السلعة أو سعر العملة المتبايع بها، في حين أنَّ صاحبه قد قبل فعلا وهو بصدد إرسال الإجابة بالقبول أو لم يجب بعد في حالة التعامل بالأجهزة الصوتية لأنه استطرد في حديث آخر مع صاحبه، فهل يكون لهذا الذي تلقّى إشعارًا بتغيّر السعر في السوق أن يسحب موافقته بعد أن قطع بها على نفسه عهدًا وقبل بها صاحبه وإن لم يبلغه قبوله بعد؟ وفي هذه الحال أفلا يكون في ذلك إخلال بما أمر الله سبحانه وتعالى به من الوفاء بالعقود؟! وهل يجدي في تسويغ هذا الإخلال التشبث بحكاية التفّرق بالأبدان لو حاولنا تكييفها بحيث تنطبق أيضًا على هذا النوع من المعاملات التي تقع بين متباعدين اثنين أو أكثر، وفي هذا العصر الذي أصبح (الحسيب)(1) وفيه يقوم مقام المتعاملين أو المتعاملين الكثر وينجز العمليات التجارية في لحظات؟ ما موقع التفرّق بالأبدان من عملياته؟ وفي هذا العصر الذي تهيمن فيه أسواق الأوراق المالية مسيّرة بـ (الحسيب) خاضعة لسيطرته على مختلف أنواع المعاملات المالية وخاصة النقدية منها، إذ لم يعد النقد معدنًا أو مادة يتعامل بها لذاته بل أصبح اعتباريًّا وشبه وثائق تقديرية لقيم يتعامل بها وهميًّا. وقد يتغير سعر العملة من تلك التي يتعامل بها عالميًّا أكثر من مرة في الدقيقة الواحدة كيف يستقيم (خيار المجلس) على أساس التفرق بالأبدان أساسًا للمعاملات دون أن يحدث اضطرابًا وفوضى لا حدود لهما تختل بهما جميع العمليات المتداولة بين الناس والمتوقف عليها حياتهم المعاشية والحضارية؟!
لا نريد أن نستبق مسار البحث فنبلغ إلى غايته قبل نهايته إن نريد إلا أن نرسم معالم النهج الذي يتعين – ولا يصلح غيره – لفهم النصوص التشريعية لاسيما ما يتصل منها بالمعاملات وبعبارة عامة ما ليس منها تعبديًّا صرفًا ذلك بأنَّ الظروف التي كيفت أفهام ابن عمر والشافعي ومن نحا نحوهما لحديث الخيار ولمعنى عبارة التفرّق والافتراق منه قد تكون مسوّغة لذلك النوع من الفهم لعهدهما لكن لا سبيل إلى اعتبارها ولا إلى اعتبار الفهم المتكيف بها في حال تغيرت فيه جوهريًّا طرائق الحياة وأساليب التعامل بين الناس.
(1) وهو الاسم الذي نفضله لـ (الكومبيوتر) بدلا من (الحاسوب) الذي شاع إطلاقه عليه لأنه أحق في التعبير عن طبيعة هذا الجهاز من كلمة (الحاسوب) التي تحصر طبيعته في الحساب ووظيفته في المحاسبة.
وملحظ التأثير الزمني والبيئي في تكييف أفهام الناس ودلالات الصيغ – ألفاظًا كانت أوعباراتٍ – ملحظ دقيق على أنه ضروري لاستنباط الأحكام الشرعية وفهم النصوص الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان.
لذلك كان العرف والعادة مؤثرين تأثيرًا بليغًا في ضبط معاني الصيغ ودلالاتها وفي تحديد مناهج استنباط الأحكام وتعيين قواعده ومعالم مساره.
وقد يزيد من تبيان هذا الملحظ تأمل قضية (التعبير) الذي ينعقد به البيع وهي قضية أبدأ فيها المتفقهة وأعادوا ما شاءت لهم طرائقهم في فهم النصوص واستنباط الأحكام منها فاضطربوا أعجب اضطراب وأغربه في تعيين صيغ الإيجاب والقبول في عقود المعاملات والأنكحة وما شاكلها، فلما واجهتهم أفعال وأقوال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجدوا سبيلا إلى التشكيك فيها أثبتت اعتماده صلى الله عليه وسلم لغير اللفظ المقول أساسًا للحكم ذهب بعضهم يحاولون تضييق نطاق هذا الأساس وتحديد فعاليته بضوابط وحدود لا مسوِّغ لتمحلها إلا وقوفهم عند ظواهر بعض النصوص أو جمود بعضهم على مقولات أهل مذاهبهم حتى كانوا يؤثرونها على الثابت من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فعله فيحكمونها فيه.
وشاء الله أن تتطّور الحضارة البشرية فينحسر مجال التّعامل بالقول المسموع لا سيما في المعاملات التجارية انحسارًا أوشك أن يلغيه فيما يتسع مجال التعامل بالتعبير المرتكز بعضه على الكتابة سواء كانت باليد أو بالإجهزة الناقلة كهربائيًّا، ويرتكز جانب منه على نوع آخر من الكتابة هو تحويل الألفاظ التي يراد تحويلها كتابة إلى رموز وإشارات، ثم ترجمة تلك الإشارات مرة أخرى بعد أن تنقل كهربائيًّا بين مكانين متباعدين – إلى تلك الألفاظ نفسها أو إلى ما يعبر عنها -، وذلك هو الشأن في التواصل البرقي أواللاسلكي غير البرقي مثل القائم على النقل الكهربائي للعبارات (التلكس – TELEX) وما شاكله، بل إن التواصل الصوتي نفسه يتحول بين الطرفين المتخاطبين ذبذبات كهربائية بعد أن يصير ألفاظًا مسموعة يتبادلانها، وهذه الذبذبات لا تختلف في جوهر طبيعتها عن تلك الرموز والإشارات التي تعمل بها غير الأجهزة الصوتية من أجهزة الاتّصال اللاسلكي.
فلو وقفنا حيث وقف أولئك المتفقّهة من تحديد صيغ الإيجاب والقبول في تحقيق العقود تعذَّر أو استحال إنجاز التعامل بين الناس بهذه الأجهزة المستحدثة والتي تتوقّف عليها توقّفًا كاملا معاملات البشر اليوم.
وحتى إذا أمكن اعتبار بعض تلك الأجهزة – مثل أجهزة الاّتصال الصوتي – غير غريبة أو غير مستحيل التعامل بها في نطاق تحديدهم لصيغ الإيجاب والقبول، فإنّ التعامل بغيرها وخاصة (الحسيب) لا سبيل إلى إيجاد علاقة (شكلية) بينه وبين تلك الصيغ لاستحالة وجود صوت أو عبارة لفظية بذاتها يمكن له إلحاقها بها.
لكن فهم فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله مما سقنا بعضًا منه في الفصل الرابع إذ اعتمد الإشارة أساسًا للحكم في قصة الجارية المعتاد عليها مثلا، بل اعتمد عدم التعبير والإمساك عنه أساسًا لإبرام العقد بقوله صلى الله عليه وسلم:((الثيب تعرب عن نفسها والبكر إعرابها صمتها)) تعليق: الحديث بهذا اللفظ أخرجه أحمد وابن ماجه والبيهقي من حديث عدي بن عدي بن عميرة. قال أحمد في [مسنده: 4/192] :
حدثنا إسحاق بن عيسى قال: حدثني ليث يعني ابن سعد قال: حدثني عبد الله بن عبد الرحمن، عن ابن أبي حسين، عن عدي بن عدي الكندي، عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((الثيب تعرب عن نفسها والبكر رضاها صمتها)) .
ثم قال:
حدثنا علي بن عياش وإسحاق بن عيسى وهذا حديث علي قال: حدثنا الليث بن سعد قال: حدثني عبد الله بن عبد الرحمن، عن ابن أبي حسين المكي، عن عدي بن عدي الكندي، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أشيروا على النساء في أنفسهن فقالوا: إن البكر تستحي يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((الثيب تعرب عن نفسها بلسانها والبكر رضاها صمتها)) .
وقال ابن ماجه في [سننه: 1/602، ح 1872] :
حدثنا عيسى بن حماد المصري، أنبأنا الليث بن سعد، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن ابن أبي حسين، عن عدي بن عدي الكندي، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الثيب تعرب عن نفسها والبكر رضاها صمتها)) .
وتعقبه الكتاني في [المصباح: 1/330، ح 674] بقوله:
هذا إسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع. عدي لم يسمع من أبيه عدي بن عميرة يدخل بينهما العرس بن عميرة قاله أبو حاتم وغيره.
وقال المزي: رواه يحيى بن أيوب المصري عن ابن أبي حسين، عن عدي بن عدي، عن أبيه، عن العرس رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال:
وهكذا رواه الحاكم في (المستدرك) من طريق عمرو بن الربيع، عن طارق، عن يحيى بن أيوب فذكره بإسناده ومتنه. ورواه البيهقي في (سننه الكبرى) عن الحاكم به، ورواه الإمام أحمد في (مسنده) عن طريق عدي بن عدي. ورواه ابن أبي شيبة في مسنده عن يحيى بن إسحاق، عن ليث بن سعد وأبو يعلي الموصلي، حدثنا زهير، حدثنا إسحاق بن عدي، حدثنا ليث فذكره.
ثم قال:
وله شاهد من حديث ابن عباس وأبي هريرة في (صحيح مسلم) وغيره.
قلت: لم أقف على هذا الحديث في مظانه من (مستدرك) الحاكم ولا من (الكتاب المصنف) لابن أبي شيبة لكن رواه البيهقي عن الحاكم فقال في [السنن الكبرى: 7/113] :
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن إسحاق حدثنا عمرو بن الربيع بن طارق، أخبرني يحيى بن أيوب، عن أبيه، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي، أنه أخبره عن عدي بن عدي الكندي، عن أبيه، عن عرس بن عميرة الكندي رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((وأمروا النساء في أنفسهم فإن الثيب تعرب عن نفسها والبكر رضاها صمتها)) .
وأخبرنا أبو زكريا ابن أبي إسحاق التركي وأبو بكر بن الحسن القاضي قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأ محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أنبأ ابن وهب، أخبرني الليث بن سعد، عن عبد الله بن عبد الرحمن القرشي، عن عدي بن عدي الكندي، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ((شاوروا النساء في أنفسهن فقيل له: يا رسول الله إن البكر تستحي قال: الثيب تُعَرِّف عن نفسها والبكر رضاها صمتها)) . ولم يذكر العرس في إسناده. . واعتباره الأساس الحق دون غيره لتحديد أساليب إبرام العقود. أقول لكن ذلك هو الذي يخرج بنا من دوامة تمحلات المتفقهة وتعقيداتهم في تحديد صيغ التعاقد وأساليبه، ويبين المعجزة الإلهية العجيبة المتجلّية في إثبات أنّ الشريعة الإسلامية شريعة أبديَّة لا تتخلّف عن زمان ولا تختلف في بيئة ليس بدلالات النصوص القرآنية فحسب بل وبدلالات ما ثبت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله.
وفي هذا المجال أيضًا يتجلَّى تأثير الأعراف والعادات في تكييف مناهج استنباط الأحكام وفهم النصوص وتعيين أساليب التعامل وصِيَغِه طبقًا لها في غير عناء ولا تمحل، وذلك لما للأعراف والعادات التي تؤثر في صنعها تأثيرًا بليغًا مستحدثات الحضارة البشرية ومقتضياتها من أثر حاسم في توجيه وتكييف أفهام الناس للنصوص واستنباطهم الأحكام منها وفقههم لأسرارها وحكمها التشريعية.
على أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وضع الأساس العملي بطريقة عملية لهذه الحقيقة حقيقة تحكيم الأعراف والعادات في ضبط طرائق المعاملات وأساليب صياغة العقود بين الناس بما أقرّ من معظم ما وجد عليه الناس في حياتهم المعاشية وتصحيح وتقويم بعضها مما لم يكن ملتزمًا بقواعد العدل التي هي أساس التشريع الإسلامي وكل تشريع سبقه.
ومن أبرز ما يشخص ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((الوزن وزن مكة والكيل كيل المدينة)) . وما شاكل هذا القول من ألفاظ الحديث. وإقراره التعامل بالدينار والدرهم نقدًا ووزنًا وهو ما كان عليه العمل في الحجاز عندئذ.
وجلي أن تعيين المبيع بالكيل والوزن وما شاكلهما وتعيين الثمن بالنقد المسكوك أو الموزون أساسان ضروريان لتحقيق العدل ونفي الغرر والاعتساف في المعاملات المالية وما شاكلها.
ولو شاء صلى الله عليه وسلم لوضع للناس كيلا جديدًا ووسيلة أخرى للتثمين غير ما كانوا تعوَّدوا التعامل به، لكنه صلى الله عليه وسلم بإقراره لما وجده عادة عادلة درجوا عليها في تعيين المبيع وتحديد الثمن شَرَعَ تشريعًا يتجاوز هذين الأمرين، ومداه أنَّ كل عادة وكل عرف لا يخرج عن نطاق العدل والإنصاف مشروع له قوة النص بل له قوة التحكّم في تحديد ما يفهم من النص وما يفقه من دلالاته الشرعية، وبهذا التشريع يتحقق أساس قابلية التطور للنصوص الشرعية الحافظة وحدها لأساس العدل بين الناس ولبقاء العلاقة الضرورية بين معاملاتهم وبين ما تجب عليهم مراعاته من الالتزام بضوابط ومعايير شرع الله.
ولبيان أن هذا الأساس أساس طبيعي متجانس مع ما جرى عليه التطور الحضاري البشري نسوق فيما يلي شواهد مما درج عليه وتطور التشريع الوضعي لدى غير المسلمين واقتبسته دول إسلامية دأبت على التكيف بالمناهج التشريعية الوضعية في تشريعاتها.
*
**
الفصل الثامن
العقد كما يتصور في التشريع البشري
قال السنهوري في [مصادر الحق: 3/144، 146] :
الوحدة في العقد كانت تضاهي الوحدة في الدعوى والعقد كالدعوى كانت تسوده البساطة العامة فكان لا يشتمل إلا على صفقة واحدة ولا ينشئ إلا حقًّا واحدًا، وبقدر تعدّد السلطات والحقوق كان من الواجب أن تتعدد العقود، كان لا يجوز أن يجتمع حقّان من طبيعة مختلفة، حق عيني وحق شخصي في عقد واحد، بل كان لا يجوز أن يجتمع حقان من طبيعة واحدة في عقد واحد سواء كانا حقّين عينيين أو حقين شخصيين.
كان لا يجوز أن يجتمع حق عيني وحق شخصي في عقد واحد يتجلى أثر ذلك في الرهن، فقد بدأت فكرة الرهن تدخل النظام القانوني على الوجه الآتي: كان الرهن ينقل ملكية العين المرهونة إلى الدائن المرتهن ثم يفرض عليه التزامًا أن يعيد إليه هذه الملكية عند وفاء الدين المضمون بالرهن، فكانت عملية الرهن على هذا الوجه تتضمن نقل حق عيني وإنشاء التزام شخصي ولكن لم يكن يجتمع الأمران معًا في عقد واحد فينقل الراهن في العقد ملكية العين المرهونة ويشترط في نفس العقد أن تعاد إليه الملكية عند وفاء الدين، بل كانت تنقل إلى المرتهن في عقد شكلي (MANCIPATION) مستقل والالتزام بإعادة نقلها إلى الدائن يفرض في عقد شكلي آخر (CONVENTION ACCESSOIRLAFIDUCIA) متميز عن العقد الأول، كذلك إذا أراد المولى أن يعتق عبده وأراد في الوقت ذاته أن يخدمه العبد بعد العتق لم يكن المولى يستطيع في عقد واحد أن يجمع بين العتق واشتراط الخدمة، بل كان عليه أن يعتق العبد بتصرف قانوني قائم بذاته غير مقترن بأي شرط ثم يشترط عليه الخدمة في عقد آخر متميز عن التصرف الذي تضمن الإعتاق.
وكان أيضًا لا يجوز أن يجتمع حقان عينيَّان في عقد واحد كأن يجتمع حق الملكية مع الارتفاق حتى إن المالك كان إذا أراد أن ينقل ملكية العقار إلى شخص آخر على أن ينشىء لمصلحته حق ارتفاق على هذا العقار لم يكن ينقل ملكية العقار كاملة، ثم يشترط في العقد ذاته إنشاء حق الارتفاق بل كان ينقل حق الملكية منقوصًا منه حق الارتفاق الذي يستبقيه لنفسه، فلم يكن العقد يتضمن صفقتين إحداهما نقل حق الملكية والأخرى إنشاء حق الارتفاق بل كان يتضمن صفقة واحدة هي الملكية الناقصة بعد الاحتفاظ بحق الارتفاق ولم يكن حق الارتفاق ينشأ بالعقد بل يستبقي على أصل الملك الأول.
وكان أخيرًا لا يجوز أن يجتمع حقان شخصيان في عقد واحد، كبيع وإيجار أو بيع وقرض ذلك أن الصناعة القانونية كانت تقضي بأن يكون لكل عقد صيغة خاصة لا ينعقد إلا بها، ولا ينعقد بها غيره من العقود. وكان يراد التعامل. ومن ثم كان المتعاقدان لا يستطيعان استعمال صيغة عقد البيع في الوقت الذي يستعملان صيغة الإيجار أو صيغة عقد القرض، وكان لا يمكن تبعًا لذلك أن يجمع المتعاقدان صفقتين في صفقة واحدة.
ثم إن العقد طبقًا للصناعة القانونية القديمة هو أيضًا وحدة زمانية في وقت معين – هو الوقت الذي يبرم فيه العقد – يتركز كل شيء يتعلق بهذا العقد من ناحية تمامه والفراغ منه، ومن ناحية الشروط الواجب توافرها فيه ومن ناحية الآثار التي تترتب عليه.
1-
فمن ناحية تمام العقد والفراغ منه تتجلى وحدة الزمان في أن المتعاقدين يجب أن يحضرا في مكان واحد وأن يبرما العقد في وقت واحد ذلك بأن وحدة الزمان تقتضي وحدة المكان، ففي مكان واحد وفي وقت واحد يبرم العقد الواحد وذلك هو مجلس العقد.
ويقول أهرنج [روح القانون الروماني: 4/149] في هذا الصدد: في جميع التصرفات القانونية التي تستلزم اشتراك أشخاص متعددين كانت وحدة التصرف تقتضي حضور هؤلاء الأشخاص في مكان واحد، فالوحدة في العقد أي الوحدة في الزمان تقتضي الوحدة في المكان ومن ثمَّ كان لا يجوز أن يدخل على العقد بعد إبرامه أي تعديل، وإذا أريد تعديل العقد وجب أولا إنهاؤه ثم إبرام عقد جديد ينشئ ابتداء الروابط القانونية على الوجه المعدل ذلك أن جواز تعديل العقد مع بقائه قائمًا يخل بالوحدة الزمانية في إبرامه فقد كان ينبغي جمع كل التعديلات المطلوبة وإدماجها في العقد وقت إبرامه حتى تتحقق الوحدة الزمانية.
ثم علّق السنهوري على هذه الفقرة مضيفًا إليها فقرة أخرى نقلها أيضًا عن أهرنج [نفس المرجع: ص52] وهي قوله: (على أن اتساع الرقعة الجغرافية وتعقد طرق المواصلات وانتشار الحضارة، كل أولئك دعا بعد ذلك إلى استعمال وسائل المراسلة من رسول وكتب ونحو ذلك، فوجد العقد بالتراسل والكتابة واختلت وحدة الزمان والمكان) .
قلت: وعلى هذه القاعدة من التطور الحضاري وتأثيره في تكييف طرائق التعاقد بين الناس عادت الوحدة الزمانية لتصبح من جديد أساسًا فعالا في وحدة العقد ذلك بأن (إلغاء المسافة) بوسائل التواصل المستحدثة جعلت من الممكن بل من الأيسر عمليًّا أن يتعاقد أثنان أو أكثر في لحظة واحدة مهما تباعدت مواقعهما، فوسائل الاتصال السلكي واللاسلكي أعادت للوحدة الزمانية موقعها وتأثيرها في التعاقد بين الناس ولا عبرة بالثواني أو الدقائق التي تفصل بين الرسائل والأخرى عند استعمال وسائل الاتصال الكتابي لا سلكيًّا فهي لا تختلف في شيء عن تلك الثواني أو الدقائق التي يستغرقها ويستلزمها التفاوض بين اثنين أو أكثر على الثمن أو على نوع البضاعة أو على طرق تسليمها أو موعده أو ما إلى ذلك مما هو ضروري لضبط قواعد التعامل في السلع الكبرى والعقارات وما إليها ما لا سبيل إلى تصوُّر تناوله في مجلس العقد.
وإذا اعتبرنا الوحدة المكانية يمكن أن تشمل لزوم كل من المتعاقِدَيْنِ أو المتعاقِدِينَ مكانه حال التعاقد لا يَرِيمُه حتى يتم العقد وإن كانت بينهما أو بينهم مسافة أو مسافات فاصلة على أن الأصل في اعتبار الوحدة المكانية هي عدم الانتقال الذي يقضي على الوحدة الزمانية فإن وسائل الاتصال الحديثة أعادت أيضًا لهذه الوحدة موقعها وتأثيرها في تكييف العقود ولا عبرة باحتمال أن ينهض أحد المتعاقدين من كرسيه ليأخذ ملفًا في خزانة بجانبه أو بطاقة من درج بدافع الحاجة إلى مراجعة بعض المواصفات أو العناصر التي يترتب عليها التعاقد إذ إن مثل هذا التحرك يمكن أن يحدث في مجلس العقد بين متواجهين في مكان واحد وما من أحد يمكن أن يقول أنه يعتبر تفرقًا – حتى على مذهب الشافعي – يلغي الوحدة المكانية أو الوحدة الزمانية.
ومن هذا يتضح أن (خيار المجلس) – على اختلافهم في تصوره وضبط مقتضياته – لا يختلف في التشريع الإسلامي عما كان عليه العمل في التشريع الوضعي لدى الشعوب غير الإسلامية السابقة إلى الانضباط بالشرائع الوضعية في تعاملها، وهذا دليل آخر على ما سبق أن أوضحناه من أن التشريع الإسلامي لم يأت بالتغيير في جل المعاملات البشرية وإنما جاء بتنظيمها وضبطها وإقرارها على قواعد أوفر عدالة وأحق إنصافًا.
ثم قال السنهوري في [الوسيط: 1/137، فقرة 36] :
يميز بعض الفقهاء بين الاتفاق والعقد، فالاتفاق (CONVENTION) هو توافق إرادتين أو أكثر على إنشاء التزام أو نقله أو تعديله، أو إنهائه. فالاتفاق على إنشاء التزام، مثله عقد البيع البيع، ينشئ التزامات في جانب كل من البائع والمشتري. والاتفاق على نقل التزام،مثله الحوالة ، تنقل الحق أو الدين من دائن لدائن آخر أو من مدين لمدين آخر. والاتفاق على تعديل التزام ، مثله الاتفاق على اقتران أجل بالالتزام أو إضافة شرط له. والاتفاق على إنهاء التزام، مثله الوفاء ينتهي به الدين.
والعقد (CONTRA) أخص من الاتفاق فهو توافق إرادتين على إنشاء التزام أو على نقله، ومن ذلك يتضح أن كل عقد يكون اتفاقا. أما الاتفاق فلا يكون عقدًا إلا إذا كان منشئًا لالتزام أو ناقلا له، فإذا كان يعدِّل الالتزام أو ينهيه فهو ليس بعقد.
ثم قال [فقرة 37، ص138] :
ولا نرى أهمية للتمييز بين الاتفاق والعقد ونتفق في هذا مع أكثر الفقهاء. وإذا كان الفقهاء الذين يقولون بالتمييز يرون أهمية له من حيث الأهلية، فهي تختلف في العقد عنها في الاتفاق، فإنه يلاحظ على هذا الرأي أن الأهلية تختلف باختلاف العقود ذاتها فهي في عقود التبرع مثلًا غيرها في عقود المعاوضة، ومع ذلك لم يقل أحد أن هنالك فرقًا ما بين الهبة والبيع من حيث أن كلا منهما عقد بمجرد أن الأهلية تختلف في أحدهما عن الآخر.
وفي معرض بيانه للتعبير عن الإرادة، قال [ص175، 178، فقرة 76] :
نصت المادة (90) من القانون المدني الجديد – يعني المصري – على ما يأتي:
1-
التعبير عن الإرادة يكون باللفظ، وبالكتابة، وبالإشارة المتداولة عرفًا، كما يكون باتخاذ موقف لا تدع ظروف الحال شكًّا في دلالته على حقيقة المقصود.
2-
ويجوز أن يكون التعبير عن الإرادة ضمنًا إذا ما نص القانون أولم يتفق الطرفان على أن يكون صريحا.1212
ونرى من ذلك أن التعبير عن الإرادة - وهو مظهرها الخارجي وعنصرها المادي المحسوس - يكون تارة تعبيرًا صريحًا وطَوْرًا تعبيرًا ضمنيًّا.
ويكون التعبير عن الإرادة صريحًا إذا كان المظهر الذي اتخذه – كلامًا أو كتابة أو إشارة أو نحو ذلك – مظهرًا موضوعًا في ذاته للكشف عن هذه الإرادة حسب المألوف بين الناس. فالتعبير الصريح يكون بالكلام وذلك بإيراد الألفاظ الدالة على المعنى الذي تنطوي عليه الإرادة، وقد يؤدي اللسان هذه الألفاظ مباشرة وقد يؤديها بالواسطة كالمخاطبة التليفونية وكإيفاد رسول لا يكون نائبًا وقد يكون التعبير الصريح بالكتابة في أي شكل من أشكالها، عرفية كانت أو رسمية، في شكل سند أو كتاب أو نشرة أو إعلان، موقعًا عليها أو غير موقّع، مكتوبة باليد أو بالآلة الكاتبة أو بالآلة الطابعة أو بأية طريقة أخرى أصلا كانت أو صورة.
وبديهي أن الإثبات بالكتابة يتطلب شروطًا أشد مما يتطلبه التعبير بالكتابة، ويكون التعبير الصريح أيضًا بالإشارة المتداولة عرفًا فإشارة الأخرس غير المبهمة تعبير صريح عن إرادته، وأية إشارة من غير الأخرس تواضعت الناس على أن لها معنى خاصًّا يكون تعبيرًا صريحًا عن الإرادة كهز الرأس عموديًّا دلالة على القبول وهزها أفقيًّا أو هز الكف دلالة على الرفض. ويكون التعبير الصريح – أخيرًا – باتخاذ أي موقف آخر لا تدع ظروف الحال شكًّا في دلالته على حقيقة المقصود، فعرض التاجر بضاعته على الجمهور مع بيان أثمانها يعتبر إيجابًا صريحًا، ووقوف عربات الركوب ونحوها في الأماكن المعدة لذلك عرض صريح على الجمهور، ووضع آله ميكانيكية لتأدية عمل معين كميزان أو آلة لبيع الحلوى أو توزيع طوابع البريد أو نحو ذلك، كل هذا يعد تعبيرًا صريحًا.
ثم قال:
وأي مظهر من مظاهر التعبير الصريحة أو الضمنية يكفي بوجه عام في التعبير عن الإرادة مع مراعاة أن هناك عقودًا شكلية سبقت الإشارة إليها تستلزم أن يتخذ التعبير مظهرًا خاصًّا في شكل معين ومع مراعاة أن هناك قواعد للإثبات تستوجب الكتابة في كثير من الفروض، ولكن الكتابة في هذه الحالة الأخيرة ليست مظهرًا للتعبير عن الإرادة بل طريقًا لإثبات وجودها من بعد أن يسبق التعبير عنها ومع ذلك فهناك أحوال يجب التعبير عن الإرادة فيها تعبيرًا صريحًا ولا يكتفي بالتعبير الضمني.
وقال في تعليق له قبل هذه الفقرة الأخيرة:
وهناك رأي يذهب إلى أن التعبير الصريح هو التعبير المباشر أو التعبير الذي يقصد به إيصال العلم بطريق مباشر إلى من توجَّه إليه هذه الإرادة.
قلت: على أن الكتابة بالوسائل اللاسلكية الحديثة الناسخة منها والناقلة لصور الوثائق يمكن أن تعتبر جامعة بين كونها وسيلة للتعبير الصريح عن الإرادة ووسيلة لإثبات وجودها باعتبار أن مجموع الرسائل أو الوثائق المتبادلة لا سلكيًّا تكون وثيقة العقد، ففي هذه الحالة تكون الوثيقة – في آن واحد – معبرة عن الإرادة ومثبتة لوجودها.
ثم قال [ص237، 245] :
.... يحدث كثيرًا أن يتم التعاقد بين غائبين لا يجمعهما مجلس واحد ويتم ذلك بالمراسلة بأية طريقة من طرقها المختلفة، البريد أو البرق أو رسول خاص لا يكون نائبًا أو غير ذلك.
وليس الذي يميز بين الفرضين في حقيقة الأمر هو أن يجمع المتعاقدين مجلس العقد أو ألا يجتمعا في مجلس واحد، بل إن المميز هو أن تفصل فترة من الزمن بين صدور القبول وعلم الموجب به في التعاقد ما بين حاضرين تمحي هذه فترة من الزمن ويعلم الموجب بالقبول في الوقت الذي يصدر فيه. أما في التعاقد ما بين غائبين فإن القبول يصدر ثم تمضي فترة من الزمن هي المدة اللازمة لوصول القبول إلى علم الموجب ومن ثم يختلف وقت صدور القبول عن وقت العلم به.
والذي يؤكد ما تقدم، أننا نستطيع أن نتصور تعاقدًا ما بين غائبين لا يفصل زمن فيه ما بين صدور القبول والعلم كالتعاقد بالتليفون وعندئذٍ تنطبق قواعد التعاقد ما بين حاضرين على ما صدر، ونستطيع أن نتصور تعاقدًا ما بين حاضرين يفصل زمن فيه بين صدور القبول والعلم به وعندئذٍ تنطبق قواعد التعاقد ما بين غائبين، ويكفي لتحقق ذلك أن نتصور أن المتعاقدين افترقا بعد صدور الإيجاب الملزم وقبل صدور القبول، ثم صدور القبول بعد ذلك وأتى من صدر منه القبول بنفسه يبلغ الموجب قبوله.
وعلق على هذه الفقرة بقوله:
ولو قبل شخص إيجابًا صدر من أصم وهما في مجلس واحد فلم يسمع الموجب القبول فكتبه له الطرف الآخر فإن معرفة الوقت الذي تم فيه العقد هل هو وقت صدور القبول أو وقت كتابة القبول للموجب؟ وتمكن هذا من قراءته تتبع فيه قواعد التعاقد ما بين غائبين.
قلت: وافتراض آخر لم يتصوره السنهوري – رحمه الله – ولا نقله عمن نقل عنهم الفرض السابق وهو أن يكون أحد الطرفين أعمى والآخر أصم فأوجب الأعمى وقبل الأصم، وطبيعي في هذه الحالة أن يكون جواب الأصم كتابة وعلم الأعمى بعد قراءة ما كتب الأصم، وإذا تصورنا أن كاتب الأعمى الذي يبصر به إذ هو الذي يقرأ له ويقوده غاب لحظتئذٍ عن المجلس لبضع ثوانٍ أو دقائق فإن فترة زمنية تمر قبل أن يعلم القبول.
ثم قال السهنوري:
فالعبرة إذن ليست باتحاد المجلس أو اختلافه بل يتخلل فترة من الزمن بين صدور القبول والعلم به.
ثم قال:
ومتى وضعنا المسألة على النحو الذي قدمناه تبين في الحال ماذا يترتب على هذا الوضع، فما دام هناك فترة من الزمن تفصل ما بين صدور القبول والعلم به وجب التساؤل إذن متى يتم العقد؟ أو وقت صدور القبول أم وقت العلم به؟ فإن تعين الوقت الذي يتم فيه العقد تعين أيضًا المكان الذي يتم فيه: يتم في المكان الذي يتم فيه الموجب إذ قلنا: إن العقد لا يتم إلا إذا علم الموجب بالقبول ويتم في المكان الذي يوجد فيه من صدر منه القبول إذا قلنا العقد يتم بمجرد صدور القبول.
فزمان العقد هو الذي يحدد مكانه وهذا هو الأصل وقد يختلف مكان العقد عن زمانه في بعض الفروض أهمها التعاقد بالتليفون فإنه لا يفصل زمن ما بين صدور القبول والعلم به كما رأينا فهو من ناحية الزمان بمثابة تعاقد ما بين حاضرين، أما من ناحية المكان فالمتعاقدان في جهتين مختلفتين فتجرى في تعيينه قواعد التعاقد ما بين غائبين.
ثم قال [فقرة 122] :
الفقه في البلاد التي ليس فيها تشريع يعين الزمان والمكان اللَّذَيْنِ يتم فيهما العقد – كما في فرنسا – وفي مصر في ظل القانون القديم – منقسم متشعب الرأي وذلك بالرغم من أهمية تعيين زمان العقد ومكانه على ما سنرى.
وذلك أن خاصية التعاقد بالمراسلة في ما بين غائبين هي - كما قدمنا - الفترة من الزمن التي تفصل ما بين صدور القبول والعلم به
وأضاف معلقًا على هذا قوله:
وهنالك أمر آخر يقع في التعاقد بالمراسلة وهو أن تبلغ أحد المتعاقدين إرادة الآخر على غير حقيقتها، فكثير ما يقع في المراسلات البرقية خطأ في نقل ما يريد المرسل تبليغه للمرسل إليه فيعتمد هذا على ما بلغه خطأ مثل ذلك أن يظن المشتري أن البائع يعرض عليه البيع بثمن هو دون الثمن الذي يرضى به ويكون هذا نتيجة لوقوع خطأ في البرقية التي أرسلها البائع للمشتري، فإذا قبل المشتري التعاقد فهل يتم العقد؟ العقد لا يتم إذا أخذنا بالإرادة الباطلة وهذا ما ذهب إليه القضاء في مصر.
وبعد أن أثبت مراجع لهذا الرأي قال:
ويتم العقد إذا أخذنا بالإرادة الظاهرة ولكن يرجع المتعاقد الذي أصابه ضرر بالتعويض على المسئول عن الخطأ الذي وقع.
قلت: حدوث هذا وارد الاحتمال في البرقيات لأنها تحول إلى إشارات ثم تترجم من تلك الإشارات لمن أرسلت إليه ويحتمل - لكن بصورة أقل - أن يحدث في الاتصال بوسيلة النقل الكتابية (التلكس - TELEX) ، لكن حدوثه في هذه الوسيلة يشاكل حدوثه في المراسلات الكتابية الخطية أو المطبعية وأي حكم يعتمد في حال حدوثه في هذه ينطبق على حدوثه في تلك. أما وسائل النقل اللاسلكي للوثائق بالتصوير وكذلك التعاقد بالهاتف فلا سبيل إلى احتمال مثل هذا الخطأ.
ثم استأنف السنهوري قائلا:
والحق أن التعاقد إذا تم بين غائبين تعذر الوقوف على وقت يعلم فيه المتعاقدان معًا بتلاقي الإرادتين فلا يمكن أن يعلم الموجب بصدر القبول بل يجب أيضًا أن يعلم القابل بهذا العلم. وهكذا. وهذا هو الدور وهو ممتنع بل إن تلاقي الإرادتين في التعاقد ما بين غائبين لا يمكن الجزم به فقد يعدل الموجب عن إيجابه ولا يصل هذا العدول إلى علم القابل إلا بعد وصول القبول إلى علم الموجب، وقد يعدل القابل عن قبوله ولا يصل هذا العدول إلى علم الموجب إلا بعد وصول القبول إلى علمه وفي الحالتين يتم العقد وفي الحالتين لم تتلاق الإرادتان.
وعلق على هذا بقوله:
وقد قيل: إن الوقوف عند وقت صدور القبول في التعاقد ما بين الغائبين يلقي الموجب في حيرة فهو لا يعلم متى تم العقد ولكن هذا القول مردود بأن الوقوف عند وقت العلم بالقبول هو أيضًا من شأنه أن يوقع القابل في حيرة، إذ هو لا يدري متى وصل القبول إلى علم الموجب فلا يعلم متى تم العقد، ونرى من ذلك أن اعتبار وقت صدور القبول من شأنه أن لا يطمئن الموجب واعتبار وقت العلم بالقبول من شأنه أن لا يطمئن القابل فلا ميزة لقول على آخر من حيث اطمئنان المتعاقدين.
قلت: ولكن هذا الاعتبار يكاد يمحي باستعمال وسائل الاتصال السلكية واللاسلكية الحديثة غير البرقية إذ إن الفترة الفاصلة بين تلقي القابل الرسالة الكتابية بالتلكس (TELEX) أو بالتلفاكس (TELEFAX) الوثيقة مصورة لا يعدو بضع ثوان أو بضع دقائق على أبعد احتمال. أما الهاتف فلا يوجد فاصل زمني إطلاقًا وهذا ما يرجح بوسائل الاتصال الحديثة 0 غير البرق – عن غيرها من وسائل التعاقد بين غائبين أو أكثر.
ثم استأنف السنهوري قائلا:
فليس يعنينا إذن في التعاقد ما بين الغائبين أن يعلم المتعاقدان معًا بتلاقي الإرادتين ولا بأن تتلاقى الإرادتان فعلا فإن هذا وذاك قد يتعذر تحققه كما قدمنا ولا يبقى أمامنا – وقد صدر القبول في وقت متقدم على الوقت الذي علم فيه الموجب بهذا القبول – إلا أن نختار بين الوقتين، وقت صدور القبول ووقت العلم به.
فإذا نحن وقفنا عند صدور القبول فعلينا أن نختار بين الوقت الذي أعلن فيه القابل قبوله – وهذا هو مذهب إعلان القبول (SYSTEME DE DECLARATION) – هذه هي مذاهب أربعة ولكل مذهب منها أنصار يقولون به.
[فقرة 123] :
أما أنصار مذهب إعلان القبول فيقولون: إن نظريتهم هي المنطبقة على القواعد العامة، فالعقد توافق إرادتين ومتى أعلن الطرف الآخر قبوله للإيجاب المعروض عليه فقد توافقت الإرادتان وتم العقد، هذا إلى أن المذهب يتفق مع مقتضيات الحياة التجارية من وجوب السرعة في التعامل.
ويؤخذ على هذا المذهب خروجه على القواعد العامة من ناحيتين، فليس من الضروري أن تكون الإرادتان متوافقتين بإعلان القبول إذ يجوز أن يعدل الموجب ولا يصل عدوله إلى القابل إلا بعد صدور القبول، كذلك ليس من الصحيح أن القبول ينتج أثره بمجرد صدوره فالقبول إرادة لا تنتج أثرها إلا من وقت العلم بها.
[فقرة 124] :
مذهب تصدير القبول: وأنصار هذا المذهب يتفقون في الواقع مع أنصار المذهب الأول فهم يكتفون بإعلان القبول ولكنهم يشترطون أن يكون هذا الإعلان نهائيًّا لا رجوع فيه ولا يكون ذلك إلا إذا كان من صدر عنه القبول قد بعث فعلا بقبوله إلى الموجب بحيث لا يملك أن يسترده بأن ألقاه في صندوق البريد أو سلمه لعامل البرق فبعث به أو أبلغه لرسول انطلق ليخبر به الموجب.
ويؤخذ على هذا المذهب أنه إذا كان مذهب القبول كافيًا لتمام العقد فليس من القانون ولا من المنطق أن يزيد التصدير أية قيمة قانونية على أن القبول المصدر يمكن استرداده كما تقضي بذلك لوائح البريد في كثير من البلاد، والكتاب في البريد ملك للمرسل حتى يتسلمه المرسل إليه.
[فقرة 125] :
مذهب تسليم القبول: وأنصار هذا المذهب يرون أن القبول لا يكون نهائيًّا بتصديره إذ يمكن استرداده وهو في الطريق وهو لا يكون نهائيًّا لا يسترد إلا إذا وصل إلى الموجب ففي هذا الوقت يتم العقد سواء علم الموجب أو لم يعلم على أن وصول القبول إلى الموجب قرينة على علم هذا به.
ومن ذلك نرى أن مذهب تسلم القبول يتذبذب بين مذهبي التصدير والعلم فهو بين أن يكون قد أخذ بمذهب التصدير مستأنيًا إذ لا يرى التصدير باتًّا حتى يصل القبول إلى الموجب وبين أن يكون قد أخذ بمذهب العلم متعجلا إذ يجعل وصول القبول قرينة على هذا العلم.
والمذهب من حيث إنه صورة معدلة لمذهب التصدير لا يزيد في قيمته عن هذا، فإن وصول القبول إلى الموجب دون علمه به لا يزيد إعلان القبول شيئًا من الناحية القانونية، وإذا قيل إن الكتاب يصبح ملكًا للمرسل إليه فإن المقصود من هذا هو الملكية المادية، أما الملكية المعنوية فتبقى للمرسل، أما إذا أريد بالتسليم أن يكون قرينة على العلم، فإن كانت القرينة قاطعة أعوزها النص وإن كانت غير قاطعة فقد المذهب استدلاله واختلط بمذهب القبول الذي نتولى الآن بحثه.
[فقرة 126] :
مذهب العلم بالقبول: والواقع أن المذهبين الرئيسين هما: مذهب إعلان القبول ومذهب العلم بالقبول وما عداهما فمتفرع عنهما ويرد إليهما ولمذهب العلم بالقبول أنصار كثيرون وهم لا يكتفون من القبول بإعلانه بل يشترطون علم الموجب به شأن كل إرادة يراد بها أن تنشئ أثرًا قانونيًّا فهي لا يترتب عليها هذا الأثر إلا إذا علم بها من هي موجهة إليه وهم يتخذون من وصول القبول قرينة على علم الموجب ولكنها قرينة قضائية يؤخذ بها أو لا يؤخذ وهي على كل حال تقبل إثبات العكس.
[فقرة 127] :
النتائج التي تترتب على الأخذ بمذهب دون آخر: ونقارن الآن بين المذهبين الرئيسيين: مذهب الإعلان ومذهب العلم في النتائج التي تترتب على الأخذ بمذهب منهما دون الآخر فيتبين الفرق بينهما فيما يأتي:
1-
إذا عدل الموجب عن إيجابه ووصل العدول إلى علم القابل بعد إعلان القبول وقبل علم الموجب به فإن العقد يتم وفقًا لمذهب الإعلان ولا يتم وفقًا لمذهب العلم، كذلك من صدر عنه القبول لو عدل عن قبوله ووصل العدول إلى الموجب غير متأخر عن وصول القبول، فإن العقد يتم وفقًا لمذهب الإعلان ولا يتم وفقًا لمذهب العلم.
2-
إذا كان العقد بيعًا واقعًا على منقول معين بالذات فإن ملكيته تنتقل إلى المشتري من وقت تمام العقد وتكون الثمار للمشتري من ذلك الوقت أي من وقت العلم بالقبول إذا أخذنا بمذهب العلم أو من وقت إعلان القبول إذا أخذنا بمذهب الإعلان وكعقد البيع أي عقد آخر ناقل للملكية.
3-
هناك مواعيد تري من وقت تمام العقد كمواعيد التقادم، بالنسبة إلى الالتزامات المنجزة التي تنشأ من العقد فتسري هذه المواعيد من وقت العلم بالقبول وفقًا لنظرية العلم ومن وقت إعلان القبول وفقًا لنظرية الإعلان.
4-
في الدعوى البوليصية – لعلها إشارة إلى ما يسمى في الشرق العربي بوليصة الثمن أي وثيقة شحن البضاعة في الباخرة أو الطائرة – لا يستطيع الدائن الطعن في عقد صدر من مدينه إضرارًا بحقه إلا إذا كان هذا العقد متأخرًا في التاريخ عن الحق الثابت له في ذمة المدين، فلو أن هذا الحق قد ثبت ذمة المدين في الفترة ما بين إعلان القبول والعلم به في العقد الذي يريد الدائن الطعن فيه فإنه يجوز للدائن الطعن في العقد وفقًا لنظرية العلم ولا يجوز له ذلك وفقًا لنظرية الإعلان.
5-
العقود التي صدرت من تاجر شَهَرَ إفلاسَه يتوقف نصيبها من الصحة والبطلان على معرفة وقت تمامها وتختلف حظ – لعل صوابه: حظوظ – هذه العقود بحسب ما إذا كانت قد تمت قبل المدة المشتبه فيها أو في أثناء هذه المدة أو بعد التوقف عن الدفع أو بعد شهر الإفلاس، فمهم إذن معرفة وقت تمام العقد في مثل هذه الفروض فقد يعلن القبول في مرحلة من هذه المراحل ويحصل العلم به في مرحلة أخرى فيختلف الحكم على العقد باختلاف المذهب الذي يؤخذ به.
6-
تقضي قواعد القانون الدولي الخاص بأن القانون الذي يخضع له العقد هو القانون الذي أراد المتعاقدان وفقًا لنظرية سلطان الإرادة ويكون هذا القانون عادة هو قانون الجهة التي تم فيها العقد (LEX LOCI COTRACTU) ، فإذا تم عقد بين شخصين وكان من صدر منه الإيجاب موجودًا في مصر وعلم بالقبول فيها ومن صدر منه القبول كان موجودًا في فرنسا وقت صدور القبول فإن العقد يخضع للقانون المصري إذا أخذنا بمذهب العلم ويخضع للقانون الفرنسي إذا أخذنا بمذهب الإعلان والأخذ بأي المذهبين في تحديد المكان يحدد الزمان كذلك.
7-
وقد يكون ارتكاب جريمة في بعض الفروض متوقفًا على تمام عقد مدني كجريمة التبديد فإنها تتم بتمام عقد البيع الذي يتصرف بموجبه المبدد في الأشياء التي كان مؤتمنًا عليها، فيهم أن نعرف في أي مكان تم عقد البيع، فإن هذا المكان هو الجهة التي وقعت فيه الجريمة، ومحكمة هذه الجهة هي المحكمة المختصة بالنظر في التبديد فإذا فرض أن المبدد وقت أن باع كان في بلد غير البلد الذي كان فيه المشتري فإن المحكمة المختصة تكون محكمة هذا البلد أو ذاك تبعًا للمذهب الذي يؤخذ به وهذا المذهب الذي يعين أيضًا وقت تمام العقد.
[فقرة 128] :
وتأخذ بعض التقنيات الأجنبية الحديثة، بمذهب العلم بالقبول: أخذ به القانون الألماني (م130) والمشروع الفرنسي الإيطالي (م2، ف1) ، والتقنين التجاري الإيطالي (م36) ، والتقنين الإسباني (م262، ف2) .
وأخذ تقنين الالتزامات السويسري بمذهب تصدير القبول (م10) .
ثم قال: أما في فرنسا حيث لا يوجد نص تشريعي فالقضاء منقسم بين مذهبي إعلان القبول والعلم بالقبول، وتقضي محكمة النقض الفرنسية بأن تحديد وقت تمام العقد ومكانه مسألة يرجع فيها إلى نية المتعاقدين وهي مسألة موضوعية لا رقابة لمحكمة النقض عليها.
وقال أنور طلبة في كتابة [طرق وأدلة الإثبات في المواد المدنية والتجارية والأحوال الشخصية: ص245، 246، فقرة 209] :
للرسائل الموقع عليها قوة الدليل الكتابي – من حيث الإثبات – فتكون حجة على المرسل بصحة المدون فيها إلى أن يثبت هو العكس بالطرق المقررة قانونًا للإثبات.
ثم قال [فقرة 212] :
إن الرسائل والبرقيات لها قيمة الورقة العرفية في الإثبات، متى كانت هذه الرسائل وأصل البرقيات موقعًا عليها من مرسلها.
ثم قال [فقرة 213] :
لا يلزم لانعقاد العقد إثبات الإيجاب والقبول في محرر واحد، فإذا كان الحكم قد اعتمد في إثبات مشارطة إيجار السفينة على تسلسل البرقيات والمكاتبات المتبادلة بين الطرفين وما استخلصه من أن الإيجار قد صادفه قبول، فإن الحكم في قضائه على أساس ثبوت مشارطة الإيجار لا يكون قد خالف القانون.
وقال مأمون كزبري في [شرح القانون المدني المغربي: 1/62، 72، فقرة 39] :
لا يكفي لتمام العقد أن يصدر إيجاب وقبول متطابقان – كذا وصوابه: متطابقين – بل يجب أن يقترن القبول بالإيجاب وتختلف صور اقتران القبول بالإيجاب باختلاف طرق التعاقد.
فالتعاقد يكون بين طرفين حاضرين يضمهما مجلس واحد هو مجلس العقد، وقد يتم بالمراسلة وقد يحصل بواسطة رسول أو وسيط يحمل الإيجاب إلى من هو موجه إليه وقد يجري بالهاتف (أي بالتليفون) وكل طريقة من هذه الطرق لها أحكامها.
غير أنها جميعًا تخضع لبعض القواعد العامة.
ثم قال: [فقرة 40] :
أولًا.............................................................................. في البيع مثلًا لا بدَّ أن يكون بالإيجاب والقبول قد تطابقا من حيث تعيين المبيع وتحديد الثمن وكذلك من حيث سائر ما يعتبر البائع والمشتري أساسيًّا لإنجاز البيع كتعيين أجل دفع الثمن إذا كان البيع بأجل، أما إذا كان التراضي قد اقتصر على بعض العناصر الأساسية وأهملت عناصر أساسية أخرى لم يتناولها الإيجاب والقبول كأن يقول أحد لآخر: بعتك هذه الدار، ويقبل الطرف الآخر الشراء دون أن يحدد الطرفان المثمن فإن العقد يعتبر غير تام ولا ملزم.
ثم قال:
ثانيًا: إذا أقام المتعاقدان فور إبرامهما اتفاقًا على إجراء تعديلات على هذا الاتفاق كأن يكون تضمن العقد الذي أبرم بين البائع والمشتري أداء الثمن ودفعة واحدة، ثم اتفق الطرفان في مجلس العقد على أن يؤدي الثمن أقساطًا، فإن هذا الاتفاق لا يعتبر عقدًا جديدًا قائمًا بذاته جاء معدلا لعقد سابق بل إنما يعتبر جزءًا لا يتجزأ من العقد القديم ومن طلبه، هذا ما لم يعلن الطرفان عكس ذلك.
ثم قال:
ثالثًا: إذا وقع تراضي الطرفين على بعض شروط العقد وأسقط الطرفان صراحة (شروط) – كذا صوابه: شروطا – أخرى معينة لتكون مدار اتفاق لاحق، فإن العقد لا يتم والشروط التي تم الاتفاق عليها تبقى نفسها مجردة من أي أثر قانوني حتى لو حرر الطرفان ما تم الاتفاق عليه كتابة، فإذا ما اتفق البائع والمشتري مثلا على تعيين المبيع وتحديد الثمن ونظمًا عقدًا خطيًّا بذلك ونَصَّا فيه على أنهما يحتفظان لعقد لاحق (الاتفاق) – كذا صوابه: بالاتفاق – على بيان زمان أداء الثمن ومكانه وبيان ما إذا كانت الثمار الموجودة في المبيع وقت العقد تبقى للبائع أو تئول للمشتري فإن عقد البيع لا يعتبر قد تم بينهما ولا يلزمان بالشروط التي اتفقا عليها.
ثم قال:
رابعًا: العبرة في التراضي (للإرادة) – كذا، وصوابه (بالإرادة – الظاهرة (VOLONTE EXTERNE) التي اطمأن إليها كل من الموجب والطرف الآخر الذي قبل الإيجاب لا (إلى) – صوابه:(بـ) – الإرادة الباطنة (VOLONTE INTERNE) الكامنة في النفس والتي ليس بالوسع الإحاطة بها، وعليه فالتحفظات والقيود التي يحتفظ بها أحد المتعاقدين في قرارة نفسه والتي لا تتصل بعلم المتعاقد الآخر لا يعتد بها ولا تؤثر على ما تم عليه الاتفاق بمقتضى الإرادة الظاهرة، فلو أن تاجرًا مثلا عرض على آخر بضاعة بثمن معين وقبل الطرف الآخر هذا الإيجاب فليس باستطاعة الموجب أن يطالب بزيادة مئوية على الثمن معللا طلبه بالزيادة بأنه إنما كان محتفظًا في قرارة نفسه بالمطالبة بالزيادة باسم عمولة، ولو أن شخصًا اشترى مؤسسة تجارية وقبل الشراء دون تحفظ أو قيد فليس له منع البائع من فتح مؤسسة شبيهة بالمؤسسة المبيعة تأسيسًا على أن إرادته الباطنة كانت منصرفة إلى أن من حقه التمسك بهذا المنع، مثل هذه التحفظات التي بقيت سرًّا مكتومًا من الطرف الآخر ليست بملزمة ولا يمكن الاحتجاج بها.
ثم قال: [فقرة 42] :
(أ) التعاقد بين غائبين بالمراسلة هو الذي يتم بين متعاقدين لا يضمهما مجلس واحد ويجري بتبادل رسائل بين الموجب من جهة والقابل من جهة أخرى بأن يرسل تاجر من فاس رسالة إلى تاجر في الرباط يعرض عليه فيها بعض بضاعة بشروط معينة ويجيب التاجر في الرباط برسالة يُضَمِّنُهَا قبوله الشراء بالشروط المفروضة.
(ب) وهذا يطرح سؤالان – كذا، وصوابه: سؤالين -.
السؤال الأول: يتعلق بالزمان الذي تم فيه العقد.
والسؤال الثاني: يتعلق بالمكان الذي يعتبر أن العقد قد انعقد فيه.
ففي المثال الأول الذي سقناه أعلاه هل نعتبر العقد قد تم في الزمان الذي صدر فيه قبول من وجه إليه الإيجاب أم أننا نعتبر أنه لم يتم إلا في الزمان الذي وصل فيه القبول إلى علم الموجب؟
ثم هل نعتبر أن العقد قد انعقد في الرباط حيث صدر القبول أم نعتبر أنه انعقد في فاس حيث اتصل القبول بعلم الموجب.
(ج) و (يترتب) – كذا، وهو سليم ولكن الأفصح: وتترتب – على تحديد زمان العقد ومكانه نتائج هامة:
فمعرفة زمان العقد يتوقف عليها مبدأ لترتيب آثاره التي عقد من أجلها وكذلك تحديد القانون (الواجب تطبيقه) – استعمال دارج في ألسنة الناس وصوابه: (واجب التطبيق) أو (الواجب تطبيقه) – استعمال دارج في ألسنة الناس وصوابه: (واجب التطبيق) أو (الواجب تطبيقه) – عند تنازع القوانين الزماني، ففي البيع الواقع على منقول معين بالذات مثلا تنقل ملكية المبيع إلى المشتري وتكون ثماره إليه من وقت صدور القبول إذا أخذنا بمذهب الإعلان ويتأخر تريتب هذه الآثار إلى وقت وصول القبول إلى علم الموجب وإذا أخذنا بمذهب العلم بالقبول، ولو أن قانونًا صدر في الفترة ما بين إعلان القبول وبين وصوله إلى علم الموجب وعدل في أحكام البيع المقررة بمقتضى التشريع السابق فإن عَقْدَ البيعِ يخضع للتشريع القديم إذا ما اعتمدنا نظرية الإعلان بينهما هو يخضع للقانون الجديد إذا ما أخذنا بنظرية العلم بالقبول.
ومعرفة مكان العقد تتوقف عليها معرفة القانون الذي يسوده عند تنازع القوانين المكاني كما يتوقف عليها أحيانًا تعيين المحكمة المختصة للنظر في النزاع الذي يقوم بشأنه فلو أن عقدًا أبرم بين شخصين يقطن كل منهما بلدًا يختلف تشريعه عن تشريع البلد الآخر وجب بمقتضى مبادئ القانون الدولي الخاص إخضاع هذا العقد من حيث شروط انعقاده وصحته ومن حيث آثاره إلى قانون البلد الذي تم إبرامه فيه وعليه إذا ما اتبعنا مذهب إعلان القبول تعين تطبيق قانون بلد من وجه إليه الإيجاب، أما إذا اتبعنا مذهب الإعلام بالقبول، فإنه يتعين تطبيق قانون بلد الموجب في الحالات التي يجيز فيها قانون المسطرة – أي الإجراءات – المدنية إقامة الدعوى أمام محكمة التعاقد كما في المنازعات المتعلقة بالتوريدات والأشغال والكراء والاستصناع والشغل فإن المحكمة المختصة للنظر (بـ) كذا وهو تعبير ألفه الشوام وصوابه: في – الدعوى تكون محكمة المكان الذي صدر فيه القبول إذا اعتنقنا مذهب إعلان القبول وتصبح محكمة المكان الذي وصل فيه القبول إلى علم الموجب إذا اعتنقنا مذهب العلم بالقبول.
(د) وقد انقسمت القوانين في الإجابة على السؤالين المتعلقين بمعرفة زمان ومكان العقد الذي يتم بالمراسلة.
فبعضها أخذ بالمذهب المعروف، بمذهب إعلان القبول أو التصريح بالقبول (Systeme de declaration)، واعتبر أن العقد يتم في الزمان والمكان اللذين يعلن فيهما من وُجِّهَ إليه الإيجاب عن قبوله ومن القوانين التي اتبعت هذا المذهب (القانوني) – كذا وصوابه: القانون – التونسي والقانون السوري وقانون الموجبات والعقود اللبناني والقانون السويسري والقانون الألماني.
وبعضها أخذ بالمذهب المعروف بمذهب العلم بالقبول (Systeme de I information) ، واعتبر أن العقد لا يتم إلا في الزمان والمكان اللذين يصل فيهما القبول إلى علم الموجب ومن القوانين التي اتبعت هذا المذهب القانون الإسباني والقانون التجاري الإيطالي والقانون المصري.
وجدير بالذكر أن التقنين الفرنسي سكت عن هذا الموضوع لذلك انقسم الفقه والاجتهاد في فرنسا بين المذهبين وإن كان الاجتهاد يميل أكثر فأكثر إلى ترجيح مذهب التصريح بالقبول الذي يكاد يسوم اليوم في فرنسا.
(هـ) أما قانون الالتزامات والعقود المغربي فقد نَهَجَ نَهْجَ القانون التونسي من حيث الأخذ بنظرية التصريح بالقبول وقرر في (المادة 24) أن العقد الحاصل بالمراسلة يكون تامًّا في الوقت والمكان اللذين يرد فيهما من تلقى الإيجاب بقبوله.
ولكنه لا بد من لفت النظر إلى أن اعتبار العقد تامًّا في الوقت الذي يرد فيه من تلقي الإيجاب بقبوله يبقى معلقًا على شرط واقف وهو وصول الرد بالقبول إلى الموجب قبل انصرام الوقت المناسب الذي يكفي عادة لوصوله إليه (المادة 30) أو قبل انقضاء الأجل الذي يكون الموجب قد حدده للقبول (المادة 29) فإذا تحقق الشرط ووصل الرد بالقبول في الوقت المناسب أو داخل الأجل المحدد قام العقد بصورة نهائية وأنتج آثاره منذ صدور القبول عن الموجب أما إذا تخلف الشرط ولم يصل الرد بالقبول إلا بعد فوات الوقت المناسب أو خارج الأجل المحدد فإن الموجب يتحلل من إيجابه ولا يستطيع القابل التمسك بهذا الإيجاب لسقوطه، وسقوط الإيجاب يحول طبعًا دون قيام العقد على أن يبقى في هذه الحالة للقابل حق مقاضاة المسئول عن التأخير بالتعويض عن الضرر الذي أصابه من جراء حرمانه الاستفادة من العقد.
ثم قال [فقرة 44] :
(أ) لقد اعتبر قانون الالتزامات والعقود – يعني المغربي – التعاقد بالهاتف كالتعاقد بين حاضرين من حيث الزمان إذ هو بعد أن نص في الفقرة الأولى من (المادة 23) على أن الإيجاب الموجه لشخص حاضر.... يعتبر كأن لم يكن إذا لم يقبل على الفور من الآخر، قرر في الفقرة الثانية من المادة نفسها وجوب سريان الحكم على الإيجاب المقدم من شخص إلى آخر بطريق التليفون ذلك أن المتعاقدين بالهاتف وإن كان لا يضمها مجلس واحد وكان كل منهما بعيدًا عن الآخر (إلا أن) – تعبير عامي والفصيح أن يقال (فإن) – الحوار المتبادل بينهما يجري بصورة آنية دون فاصل زمني فباستطاعة الطرفين والحالة هذه، التأكد في برهة واحدة من تلاقي إرادتهما ومن اقتران قبول أحدهما لإيجاب الآخر وعليه أن يسوي في الحكم بين العقد المعقود بالهاتف والعقد المعقود بين أشخاص حاضرين من حيث زمان الانعقاد وأن يعتبر تبعًا لذلك أن العقد بالهاتف قد تم في الوقت الذي جرت فيه المخاطبة الهاتفية.
وهذا الرأي الذي أخذ به المشرع المغربي هو المعول عليه في فرنسا بدون نص وهو الذي أخذت به التشريعات العربية الحديثة كالقانون المدني المصري والقانون المدني السوري وقانون الموجبات والعقود اللبناني.
(ب) أما من حيث مكان انعقاد العقد بالهاتف فإن المشرع المغربي قد التزم السكوت شأنه في ذلك شأن المشرع المصري والمشرع السوري اللذين اختارا هما أيضًا أن لا يعرضا للموضوع بنص صريح.
وفي الواقع لما كان المتعاقدان بالهاتف يختلف مكان أحدهما عن الآخر فإن وضعهما وضع متعاقدين غائبين لا وضع متعاقدين حاضرين في مجلس واحد، فإن الفقه في فرنسا يميل إلى اعتبار التعاقد بالهاتف (بحكم) – كذا وصوابه: في حكم – التعاقد بين غائبين من حيث تحديد مكان العقد.
وانطلاقًا من هذا الاعتبار الحري بالتأييد وتأسيسًا على أن المشرع المغربي أقر مذهب انعقاد العقد بين الغائبين بمجرد إعلان القبول فإنه يتعين القول بأن العقد بالهاتف يعتبر منعقدًا في مكان القابل.
*
**
النتيجة
مما سبق يمكن أن نستخلص ما يأتي:
1-
ليس في نصوص الكتاب والسنَّة تحديد حاصر لصيغ التعاقد ولا لوسائله، غاية ما جاءت به نصوصهما:
(أ) تنظيم ما كان عليه الناس عامة والعرب خاصة من وسائل وصيغ تواضعوا على التعاقد بها.
(ب) تكييف تلك الوسائل والصيغ بما يضمن بها العدل والإنصاف لطرفي التعاقد أو أطرافه، ويعصمها من الإجحاف بأي طرف سواء كان موجبًا أو قابلا.
2-
اختلافهم في (خيار المجلس) أو بالأحرى في ما سموه (خيار المجلس) ليس أكثر من مجرد اختلاف في فهم نصوص سنية أحادية مردّه إلى ما ألفته كل طائفة من أساليب وصيغ التعامل في البيع والشراء وما شاكلهما وفي بعضهما إلى ما بلغ هذه الطائفة ولم يبلغ تلك، أو لم يثبت عندها من نصوص سنية لو بلغتها أو ثبتت عندها لتغير فهمها ثم حكمها الذي استقرت عليه نتيجة لعدم اطلاعها على تلك النصوص أو تأكدها من صحتها، وجلي أن سبب ذلك هو أحادية النصوص وتوزع الصحابة رواتها في الأقطار التي افتتحها الإسلام فاستوطنوها وتحكم المسافة يومئذٍ في أسباب التواصل العلمي بين الناس لما كانت عليه وسائل الاتصال من البدائية وعدم المقدرة على إخضاع المسافة لرغبات الإنسان وحاجاته. وعند تجميع النصوص السنية وتأملها يتبين أن ما ذهب إليه مالك وأصحابه من اعتبار الافتراق في الخيار افتراقًا قوليًّا وليس بدنيًّا هو المطابق والمستجيب لمجموع مقتضيات تلك النصوص ولما يستوجبه تيسير التعامل بين الناس وتطور أساليبه تبعًا لتطور أنماط معايشهم وأساليبهم الحضارية.
3-
لا خلاف بين السلف في أن الوفاء بالعقود واجب على كل مسلم بنص قرآني صريح هو نص الآية الأولى من سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} .
4-
وعند التدبر والتمحيص الدقيق لمجموع نصوص القرآن والسنة المبينة لحكم الله في العقود لا سبيل إلى الالتباس في أن كل ما عبّر عن إرادة الإنسان صح أن يكون صيغة للتعاقد لأن الصيغة ليست مطلوبة لذاتها وإنما هي مطلوبة باعتبارها أداة للتعبير عن إرادة المتعاقدين فالالتزام بصيغة معينة أو بلغة معينة أو بأداة معينة لتحقيق توصل الصيغ بين طرفي التعاقد أو أطرافه التزام ليس له أساس من النصوص الشرعية بل هو مجرد اجتهاد بعض الفقهاء مرده إلى ما تواضعوا عليه في العصور السالفة وألفوا استعماله في تعاملهم وتعاقدهم من الصيغ والوسائل والجمود على تلك الصيغ والوسائل تعطيل لتطبيق الشريعة الإسلامية في العصور التي تغيرت أساليب التعامل فيها بين الناس بتغير أنماطها الحضارية نتيجة للتطور الطبيعي للحضارة الإنسانية.
5-
ويتضح من هذا أن العرف هو الفيصل في تعيين صيغ وأساليب التعاقد ووسائله بين الناس وليس له من ضابط غير تحقيق المناط الشرعي لنصوص الكتاب والسنة القاضي بكفالة العدالة بين طرفي أو أطراف التعاقد وعدم الإجحاف بحقوق أي طرف أو إيثار طرف على آخر وإن بمجرد التيسير ماديًّا أو زمنيًّا أو بيئويًّا.
6-
وعلى هذه القاعدة يمكن القول بأن مبدأ التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة لا سبيل إلى الاختلاف في أنه مباح شرعًا إذا التزم بما سبق أن بيناه من ضوابط تحقيق العدالة ومنع الإجحاف.
7-
لكن هذه الوسائل تتمايز ضوابطها تبعًا لتمايز طبيعتها وأساليب التعامل بها وبيان ذلك:
(أ) أن البرق أو الوسائل البرقية يجري التعامل فيها بتحويل الكلمات إلى إشارات من الطرف المرسل إليه وهذا العمل يقوم به طرف ثالث ويحتمل أن يحدث خطأ في التحويل الأول أو في التحويل الثاني من شأنه أن يجحف بحقوق أحد الطرفين إجحافًا قد يترتب عنه تغيير جوهري أو ذو أثر بليغ في طبيعة العقد أو في الهدف المبتغى منه وفي هذه الحال لا يمكن القول ببطلان العقد وإنما الذي يجب القول به هو تضمين الطرف الثالث الذي قام بالتحويل وكان منه الخطأ بحيث يتحمل جميع المسئوليات المادية الناتجة عن خطئه.
(ب) إن الاتصال الهاتفي لا يمكن لأي طرف من طرفي العقد أو أطرافه أن يزعم حدوث خطأ فيه لأن المتعاقدَيْن أو المتعاقدِين يسمع بعضهم بعضًا سواء كان الهاتف ثنائيًّا كما هو الشأن في الهاتف التقليدي أو مشتركًا لأكثر من اثنين كما أصبح عليه الطوار الجديد للهاتف، وإذن فهو وسيلة مضمونة لسلامة التعاقد بين طرفين أو أكثر وفيها ينعدم تمامًا كل التباس بما سمي قديمًا (خيار المجلس) لأن المكان في ذاته ليس مقصودًا وإنما المقصود انعدام فاصل زمني بين المتعاملين قد يحدث أثناءه تغير في السوق مثلًا أو في ظروف أحد المتعاملين يغير من طبيعة الدافع إلى التعاقد لأحد الطرفين أو الأطراف.
(ج) إن الجهاز الناقل كتابة (تلكس) لرسائل طرفي التعاقد أو أطرافه لا سبيل إلى الغمز فيما ينقل إذ إنه في حال الاشتباه في صحة رسالة من طرف إلى آخر يمكن للطرف المشتبه في صحتها أن يراجع الطرف المرسل للتأكد من جلية ما اشتبه فيه، ومجموع ما يتم تبادله بين طرفي التعاقد أو أطرافه من الرسائل يألف العقد وليس بعض منها دون بعض، وقد يقال في هذا المجال أن تبادل الرسائل يقتضي فاصلا زمنيًّا قد يحدث أثناءه ما يجعل أحد الطرفين أو الأطراف راغبًا في تعديل إيجابه أو قبوله أو شرط من شروط الإيجاب أو القبول.
وهنا تبرز مشكلة ما سُمِيَ قديمًا (خيار المجلس) لكن هذا الاعتراض يزول ولا يبقى له أي اعتبار بالقاعدة التي لا سبيل إلى الجدال فيها وهي وجوب الوفاء بالوعد، فسواء كان البائع أو المشتري هو الذي قد يحاول التملص من الإيجاب أو من القبول أو من شرط اقترن به الإيجاب أو القبول بعد أن ألزم به نفسه نتيجة لأنباء بلغته أثناء تبادل الرسائل اللاسلكية بالجهاز الناقل (تلكس) أو بـ (الحسيب - COMPUTER) عن تغير السوق وذلك ما يكثر حدوثه عادة في الأسواق (البورصات - LES BOURSES) المالية منها وغير المالية من تقلبات قد تسابق الدقائق فإن عليه أن ينضبط بالضابط الخلقي الذي جعله الشرع الحكيم محكَّمًا في التعامل بأنه إذا تحلل من هذا الضابط الخلقي الذي جعله الشرع الحكيم محكَّمًا في التعامل بأنه إذا تحلل من هذا الضابط ترتب عن تحلله إضرار بالطرف الآخر في حين أنه لا يضار بالانضباط به وإن كان تقلب السوق قد يتسبب له ببعض الخسارة نتيجة للارتفاع أو الانخفاض في المادة المتعاقد عليها وهي خسارة ما من شك في أنها تضر بمصالحة، لكن هذا الإضرار باعتباره مفسدة يرجح عنه ضرر آخر أشد إفسادًا وهو الإخلال بالضابط الخلقي الذي يختل التعامل بين الناس بإبقائه فريسة لتقلبات الأسواق، وإذا تعارضت المفسدة والمصلحة تعينت الموازنة بينهما وإلغاء المرجوحة منهما وتحكيم الراجحة.
(د) إن (الآلة المصورة - TELEFAX) للوثائق في ما تنقّلها بين طرفي التعاقد أو أطرافه لا يختلف الشأن فيها عن ما سبق أن قررناه في (الآلة الناقلة للرسائل كتابة - TELEX) وإن كانت عملية التصوير أكد في الإلزام للطرفين أو الأطراف لما تتميز به من نقل خط كل طرف في الوثيقة الخطية أو توقيعه في الوثيقة المطبوعة الموقعة كما هو بحيث ينتفي – فضلًا عن ادعاء – الخطأ أو الالتباس.
8-
ولا سبيل إلى محاولة التملص في التعاقد بإحدى وسائل الاتصال الحديثة بدعوى أن أحد الطرفين أو الأطرف فيه لم يكن جادًّا وإنما كان يقوم بعملية سبر، وما عرضه، أو قبل به أثناء الاتصال لا يخرج عن إطار هذه العملية وأن ما يجب اعتباره وتحكيمه هو الإرادة الباطنة لطرفي التعاقد أو أطرافه، فمع أن بعض الفقهاء قال مثل بعض رجال التشريع الوضعي (القانونيين) باعتبار الإرادة الباطنة، فإن هذا القول مردود على قائلة بما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الخليفة الراشد من بعده عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وعن الصحابة رضوان الله عليهم جميعًا من عدم اعتراضهم على موقف عمر مما يعتبر إجماعًا سكوتيًّا على الأقل من اعتبار الظاهر من أحوال الناس وأقوالهم هو المعتمد وأن السرائر أمرها إلى الله، ولا نريد أن نسوق مجموعة حاشدة من النصوص المثبتة لذلك حسبنا ما أوجزه ابن فرج القرطبي في كتابه (أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم – ص257، 258 – من الحديث المشهور – إن لم يكن متواترًا – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((إنما أنا بشر مثلكم وأنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له وأحسب أنه صادق فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئًا فإنما اقطع له قطعة من النار)) .
والحديث أخرجه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم بألفاظ يزيد بعضها عن بعض لكن لا اختلاف جوهريًّا بينها.
وما أخرجه كلَّ من أحمد والبخاري من خطاب عمر الحاسم في هذا المجال وفي مجالات أخرى وقد أخرجه أحمد مطولا.
أنظر [المسند، تحقيق أحمد شاكر: المجلد، 1/278، 279، ح286] :
وأخرجه منه البخاري الطرف الذي يعنينا في هذا المجال فقال [الصحيح: 3/148] .
حدثنا الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: حدثني حميد بن عبد الرحمن بن عوف أن عبد الله بن عتبة قال: سمعت عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يقول: إن أناسًا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الوحي قد انقطع وإنا نأخذكم الآن لما ظهر لنا من أعمالكم فمن أظهر لنا خيرًا أمناه وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءًا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال: إن سريرته حسنة. ومن هذين النصين وما شاكلهما وهو كثير يتجلى أن الشرع الإسلامي لا يلتفت إلى السرائر في ما هو من الشئون العامة وإنما يأخذ بالظواهر وحديث (إنما الأعمال بالنيات) الذي حاول أن يستند إليه بعض الفقهاء ليس سندًا عند التحقيق لهؤلاء ولمن اشتبه عليه أمره مثلهم، إنما هو خاص بما يتصل بين العبد وبين ربه وآية ذلك استحالة اطلاع الناس على نوايا بعضهم بعضًا، فلو اعتمدنا مبدأ (النية) في تقرير مسار ومصير معاملاتهم لأصبح لكل واحد منهم أن يتحكم في تعامله مع الآخر كيف يشاء مسلطًا بلواته أو تقلبات الأسواق وما شاكلها على مسار التعامل ومصيره فمتحكما في مصائر الآخرين ومصالحهم بما تقتضيه مصالحه وإن أضرّ بهم ولا يمكن أن يقوم تعامل عادل بين الناس على أساس تحكيم النوايا بينهم.
نقول هذا لرفع كل التباس في حال التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة ومنع إخضاع التعاقد بها لتقلبات الأسواق وخاصة الأسواق العالمية (البورصات - LES BOURSES) التي أصبح (الحسيب - COMPUTER) يتحكم فيها وأوشك أن ينعدم الاستقرار في المعاملات من أجل ذلك انعدامًا تامًّا في بعض الحالات بما يتوارد عليها بوسائل الاتصال الحديث ثم – وهذا أخطر لأنه أسرع – بالتعامل بالحسيب من أنباء وأحوال عن التقلبات الاقتصادية والتجارية والسياسية والاجتماعية تؤثر تلقائيًّا في ما يجري فيها من معاملات.
والضابط في هذه الأحوال هو أن الإيجاب حين يصدر من الطرف الموجب والقبول حيث يصدر من الطرف القابل يكون ملزمًا شرعًا لمصدره بصرف النظر عن أي تغير أو تطور يحدث قبل أن يتطابق جواب المصدرين بالقبول أو بالاتصال بالقبول، ومعنى ذلك أننا نأخذ برأي من يقولون في التشريع الوضعي (القانونيين) بأن صدور الإيجاب أو القبول وليس بلوغه هو الحاسم في التعاقد.
وقد يكون اختلافهم – سواء كانوا فقهاء أو قانونيين – في هذا الشأن له ما يسوغه يوم كانت المسافة الزمانية والمسافة المكانية تتحكمان بطولهما في تكييف المصلحة والمفسدة الناتجين عنهما. أما اليوم ولم يعد لهما تحكم فإنا لا نرى مسوغًا لاعتبار هذا الاختلاف. صدق الله العظيم إذ يقول: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [سورة النحل: الآية 91] .
*
**
المصَادر
* التفسير:
جامع البيان: محمد بن جرير الطبري: طبعة مصورة، نشر دار الفكر، بيروت.
مفاتيح الغيب: فخر الدين الرازي: نشر دار الفكر، بيروت.
الجامع لأحكام القرآن: محمد بن أحمد القرطبي: طبعة مصورة، نشر الهيئة العامة للكتاب، القاهرة.
التحرير والتنوير: محمد الطاهر بن عاشور: نشر الدار التونسية للنشر، تونس.
البحر المحيط: محمد بن يوسف بن حيان الأندلسي: مطبعة السعادة، القاهرة.
تفسير المنار: محمد رشيد رضا: طبعة مصورة، نشر دار الفكر، بيروت.
* السنة:
الموطأ: مالك بن أنس (الإمام) : نشر دار الأوقاف الجديدة، بيروت.
التمهيد: يوسف بن عبد البر: نشر وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، الرباط.
المصنف: عبد الرزاق الصنعاني: منشورات المجلس العلمي بجنوب أفريقيا وباكستان والهند.
الكتاب المصنف: ابن أبي شيبة: نشر دار السلفية، الهند.
(أ) المسند: أحمد بن حنبل الشيباني: نشر المكتب الإسلامي، بيروت.
(ب) المسند: تحقيق أحمد محمد شاكر: نشر دار المعارف، القاهرة.
(ج) المسند: (الفتح الرباني) : أحمد عبد الرحمن البنا، طبعة مصورة دار إحياء التراث العربي، بيروت.
الأموال: القاسم بن سلام: نشر مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة.
الصحيح: محمد بن إسماعيل البخاري: نسخة مصورة، نشر المكتبة الإسلامية، إسطمبول – تركيا.
فتح الباري: أحمد بن علي بن حجر: المطبعة الأميرية، بولاق، مصر.
عمدة القاري: محمود بن أحمد العيني: طبعة مصورة، نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت.
الصحيح: مسلم بن الحجاج: نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت.
السنن: أبو داود السجستاني: نشر دار الفكر، بيروت.
الجامع الصحيح: محمد بن عيسى الترمذي: طبعة مصورة، نشر دار إحياء التراث الإسلامي، بيروت.
السنن: أحمد بن شعيب النسائي: نشر المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة.
السنن الكبرى: أحمد بن محمد البيهقي: طبعة مصورة، نشر دار الفكر، بيروت.
السنن: محمد بن يزيد القزويني (ابن ماجه) : نشر دار الفكر، بيروت.
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: على بن أبي بكر الهيثمي طبعة مصورة دار الكتاب العربي بيروت.
السنن: عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي: نشر دار إحياء السنة النبوية، بيروت.
شرح السنة: يحيى بن مسعود البغوي: نشر المكتب الإسلامي، بيروت.
السنن: علي بن عمر الدارقطني: نشر دار المحاسن للطباعة، القاهرة.
الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان: علاء الدين الفارسي: نشر دار الكتب العلمية، بيروت.
المعجم الكبير: سليمان بن أحمد الطبراني: مطبعة الوطن العربي، بغداد.
المنتقى: عبد الله بن علي بن الجارود: نسخة مصور، مطابع الأشرف، لاهور – باكستان.
المستدرك: الحاكم النيسابوري: نسخة مصورة نشر دار الكتاب العربي، بيروت.
المسند: أبو الوليد الطيالسي: نسخة مصورة، مطبعة مجلس دار المعارف النظامية، حيدرأباد الدكن، الهند.
النكت على كتاب ابن الصلاح: أحمد بن علي بن حجر: نشر الجامعة العربية، المدينة المنورة.
تلخيص الحبير: أحمد بن علي بن حجر: نشر دار المعرفة، بيروت، لبنان.
تحفة الأشراف: يوسف بن عبد الرحمن المزي: نشر الدار القيمة، بومباي – الهند.
كشف الخفاء ومزيل الألباس: إسماعيل بن محمد العجلوني: نشر مكتبة التراث الإسلامي، حلب.
مشكاة المصابيح: محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي: نشر المكتب الإسلامي، بيروت.
الجامع الصغير: عبد الرحمن السيوطي: طبعة مصورة، دار المعارف، بيروت.
* الجرح والتعديل:
التاريخ: يحيى بن معين: نشر جامعة الملك عبد العزيز، جدة.
الجرح والتعديل: ابن أبي حاتم الرازي: نشر دار الكتب العلمية، بيروت.
الكامل: عبد الله بن عدي الجرجاني: نشر دار الفكر، بيروت.
كتاب الضعفاء والمتروكين: علي بن عمر الدارقطني: نشر مؤسسة الرسالة، بيروت.
الضعفاء الكبير: محمد بن عمر العقيلي: نشر دار الكتب العلمية، بيروت.
سير أعلام النبلاء: محمد بن أحمد الذهبي: نشر مؤسسة الرسالة بيروت.
تذكرة الحفاظ: محمد بن أحمد الذهبي نشر دار إحياء التراث الإسلامي ، بيروت
ميزان الاعتدال: محمد بن أحمد الذهبي: طبعة مصورة، نشر دار المعرفة، بيروت.
الإصابة: أحمد بن علي بن حجر: مطبعة السعادة القاهرة.
تهذيب التهذيب: أحمد بن علي بن حجر نسخة مصورة مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية، حيدر أباد الدكن- الهند
تقريب التهذيب: أحمد بن علي بن حجر: نشر دار المعرفة، بيروت.
* أصول الفقه ومقاصد الشريعة: المحصول: محمد بن عمر الرازي: نشر جامعة محمد بن سعود، الرياض.
الموافقات: أبو إسحاق الشاطبي: طبعة مصورة، نشر دار المعرفة، بيروت.
قواعد الأحكام: عز الدين بن عبد السلام: نشر دار الكتب العلمية، بيروت.
الأصول: محمد بن أحمد السرخسي: طبعة مصورة، نشر دار المعرفة، بيروت.
مقاصد الشريعة الإسلامية: محمد الطاهر بن عاشور: نشر الشركة التونسية للتوزيع، تونس.
الرسالة: محمد بن إدريس الشافعي: تحقيق أحمد شاكر، لم يذكر مكان طبعه.
الفقيه والمتفقه: أحمد بن علي الخطيب البغدادي: نشر دار الكتب العلمية، بيروت.
* الفقه: الأم: محمد بن إدريس الشافعي: نسخة مصورة، نشر دار الفكر، بيروت.
المغني: عبد الله بن أحمد بن قدامة: نشر مكتبة الرياض الحديثة، الرياض.
الاعتصام: أبو إسحاق الشاطبي: نشر مكتبة الرياض الحديثة، الرياض.
مجموع الفتاوي: أحمد بن تيمية: طبعة مصورة، الرباط.
الأشباه والنظائر: إبراهيم بن نجيم: نشر دار الكتب العلمية، بيروت.
إعلاء السنن: أحمد العثماني التهانوي: نشر إدارة القرآن والعلوم الإسلامية، كراتشي- باكستان.
* اللغة وعلومها:
النهاية في غريب الحديث: ابن الأثير الجزري: نشر المكتبة الإسلامية، (لم يذكر موطنها) .
لسان العرب: جمال الدين بن منظور: نشر دار صادر، بيروت.
المفردات في غريب القرآن: الراغب الأصبهاني: نشر مكتبة الأنجلو المصرية.
تهذيب الأسماء واللغات: يحيى الدين النووي: دار الكتب العلمية، بيروت.
القاموس المحيط: الفيروزآبادي: المطبعة الحسينية، القاهرة.
تاج العروس: محمد مرتضى الزبيدي، نسخة مصورة، نشر دار صادر، بيروت.
مغني اللبيب: جمال الدين بن هشام: نشر دار الفكر، بيروت.
شرح عمدة الحافظ وعدة اللافظ: جمال الدين بن مالك: مطبعة العاني، بغداد.
* القانون:
مصادر الحق: عبد الرزاق السنهوري: نشر دار الفكر، بيروت.
الوسيط: عبد الرزاق السنهوري: نسخة مصورة، نشر دار أحياء التراث العربي، بيروت.
طرق وأدلة الإثبات: أنور طلبة: نشر دار الفكر العربي، القاهرة.
شرح القانون المدني المغربي: مأمون كزبري: طبعة مصورة، الرباط.
المناقشة
بسم الله الرحمن الرحيم
الرئيس:
ننتقل إلى الموضوع:
(حكم إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة)
العارض هو الشيخ عبد الله محمد عبد الله والمقرر هو الشيخ إبراهيم كافي دونمز.
الشيخ عبد الله محمد عبد الله:
بسم الله الرحمن الرحيم.
تقدم تسعة من الباحثين ببحوثهم في هذا الموضوع ويمكن تصنيفها إلى ثلاثة أصناف: منهم من أطال وفصَّل في المقال ومنهم من أوجز ومنهم من توسط. وملخصها هو: أن التعاقد إما أن يتم بين متعاقدين حاضرين ويشترط حينئذٍ اتحاد مجلس العقد، فلا يصح الإيجاب في مجلس والقبول في آخر. ولا بد من تحقق أركان العقد والشرائط الأخرى وذلك في غير الوصية وعقود أخرى كعقد الوكالة. وإما أن يتم التعاقد بين متعاقدين غائبين لا يجمعهم مكان واحد ولا يرى أحدهم الآخر ولا يسمع كلامه وطريق الاتصال بينهما إما الكتابة وإما الرسول ويلحق بالكتابة الوسائل المستجدة كالتلغراف والتلكس والفاكس وما يستجد من ذلك. وإما أن يتم التعاقد بين متعاقدين حاضرين غائبين في آن واحد بمعنى أن يكون في مكانين متباعدين أوفي بلدين ولكن يسمع كل منهما كلام الآخر وربما يشاهده كالاتصالات التي تتم بواسطة التليفون واللاسلكي والراديو أو التلفزيون وما يستجد من وسائل. أما الصورة الأولى فليست محل البحث. وأما الثانية وهي التعاقد عن طريق الكتابة. والكاتب إما أن يكتب بنفسه وإما أن يستكتب من يكتب له، والتلغراف من هذا القبيل إذ يقوم المرسل بكتابة ما يريد ثم يقوم مكتب البريد بإرساله إلى بلد المرسل إليه، وهناك يقوم موظف بريد بكتابة ذلك على ورقة خاصة ثم يسلمها ساع إلى المرسل إليه. والتلكس يتم الاتصال فيه من خلال جهازين مرتبطين بوحدة تحكم دولي ينقل كل واحد منهم إلى الآخر المعلومات المكتوبة دون توسط شيء آخر بطرق فنية. وأما الفاكس فيتم الاتصال فيه من خلال جهازين مرتبطين بالخطوط التلفونية حيث يضع المرسِل الورقة المكتوبة في الجهاز ويضرب أرقام الجهاز الثاني فتنطبع صورة تلك الورقة على الورقة الموجودة في الجهاز الثاني لتظهر للمرسَل إليه. والفرق بين هذه الصورة والصورة الأولى أنه في الصورة الأولى يتعين عدم الفصل بين الإيجاب والقبول، أما في الصورة الثانية فإنه يجوز أن يتراخى القبول عن المجلس لأن التراخي مع غيبة المشتري، مثلًا لا يدل على إعراضه عن الإيجاب بخلاف ما لو كان حاضرًا.
حكم التعاقد بالكتابة: لا خلاف في الجملة في جواز التعاقد عن طريق الكتابة وما في معناها، والنقول معروضة بين أيديكم وأكتفي بذكر بعضها:
قال المالكية: إن البيع ينعقد بما يدل على الرضى من المتعاقدين من قول منهما أو فعل أو قول من أحدهما وفعل من الآخر أو إشارة منهما أو من أحدهما وقول أو فعل من الآخر. (شرح الخرشي على خليل 5/5 بحاشية العدوى) .
وكذلك الحنفية قالوا: إن التعاقد عن طريق الكتابة ومثلوا له بقولهم: أن يكتب شخص إلى آخر: أما بعد، فقد بعت منك كذا بكذا، فبلغه الكتاب فقال في مجلسه: اشتريت. انعقد العقد بينهما ويكون كأن الموجب حضر بنفسه وخاطب الآخر بالإيجاب وقبل منه الآخر في المجلس. وقال ابن عابدين: ويكون بالكتابة من الجانبين فإذا كتب: اشتريت كذا بكذا، فكتب إليه البائع: قد بعتك. فهذا بيع، كما في التترخانية.
قال: وقوله: فيعتبر مجلس بلوغهما، أي بلوغ الرسالة أو الكتابة. ونقل عن المبسوط: ينعقد سائر التصرفات بالكتابة أيضًا.
وتجدر الإشارة إلى أن الحنفية قد أوردوا رأيًا آخر قاسوا فيه البيع على النكاح في انعقاده في مجلس آخر.
وهنا مسألة تجدر الإشارة إليها وهي هل يجوز للموجب أن يرجع عن إيجابه؟ قالوا: لو كتب شطر العقد ثم رجع صح رجوعه. فها هنا أولى. وكذا لو أرسل رسولا ثم رجع، لأن الخطاب بالرسالة لا يكون فوق المشافهة، وذا محتمل الرجوع فها هنا أولى. ولكنهم اشترطوا في الرجوع بأن لا يصل كتابه إلى المكتوب إليه، ولم يشترطوا لصحة الرجوع علم الآخر به. وقالوا: لا يصح الرجوع بعد قبول المكتوب إليه لأن العقد قد تم وخرج الأمر من يد الكاتب. وكذلك الحكم في الرسول.
أما المالكية فإنهم يقولون: إن الإيجاب ملزم للموجب وليس له الرجوع عنه. وعلى ذلك يتم العقد بمجرد إعلان القبول على هذين المذهبين. وهما لا يقولان بخيار المجلس، فليس لهما بعد ذلك حق في الرجوع.
أما الشافعية فقد اشترطوا أن يقبل المكتوب إليه بمجرد اطلاعه على الكتاب، في الرأي الأصح عندهم. وفي وجه ضعيف أنه لا يشترط القبول بل يكفي التواصل اللائق بين الكتابين.
حكم الخيار في التعاقد بين الغائبين: قال الغزالي: إذا صححنا البيع بالمكاتبة، فكتب إليه فقبل المكتوب إليه ثبت له خيار المجلس ما دام في مجلس القبول، قال: ويتمادى خيار الكاتب إلى أن ينقطع خيار المكتوب إليه، حتى لو علم أنه رجع عن الإيجاب قبل مفارقة المكتوب إليه مجلسه صح رجوعه ولم ينعقد البيع.
وقال في حاشية الجمل: لا ينقطع خيار كل منهما إلا بإلزامه العقد أو مفارقة المجلس نفسه. ومجلس الكاتب هو الذي كان فيه عند قبول المكتوب إليه وأوله من حين القبول.
منزع القوانين الوضعية: القوانين الوضعية أخذت بجواز التعاقد بالطرق المشار إليها. ويهتم القانون بنقطتين هما: مسألة انعقاد العقد من حيث الزمان والمكان. والثانية: مسألة التزام الموجب بالإبقاء على إيجابه بعد أن يبعث به إلى الموجب له.
أما المسألة الأولى فقد جاء نص المادة (49) من القانون المدني الكويتي، ويماشي معظم القوانين الأخرى وخاصة القانون المصري، ونصها:(يعتبر التعاقد بالمراسلة أنه قد تم في الزمان والمكان اللذين يتصل فيهما القبول بعلم الموجب ما لم يتفق على غير ذلك، أو يقضي القانون أو العرف بخلافه) . ومفاد هذه المادة أنها سرت باتجاه القانون المصري الذي أخذ بمذهب العلم. وخرج عن هذا الأصل المادة (98) إذا كانت طبيعة المعاملة أو العرف التجاري أو غير ذلك من الظروف يدل على أن الموجب لم يكن ينتظر تصريحًا بالقبول فإن العقد يعتبر قد تم إذا لم يرفض الإيجاب في وقت مناسب، واعتبر السكوت قبولًا إذا كان هناك تعامل سابق بين المتعاقدين واتصل الإيجاب بهذا التعامل أو إذا تمحض الإيجاب لمنفعة من وجه إليه.
ولتحديد مكان العقد أهمية في القانون وذلك لمعرفة القانون الواجب التطبيق على التصرفات ذات العنصر الأجنبي هل هو قانون بلد الموجب أو قانون بلد المقابل؟ ويدور ذلك مع الأخذ بأي من المذهبين، فإن أخذ بمذهب الإعلان كان القانون الواجب تطبيقه قانون بلد القابل، وإن أخذ بمذهب العلم كان القانون الواجب تطبيقه بلد الموجب.
ونشير إلى أن القوانين منها ما تأخذ بنظرية إعلان القبول، ومنها ما تأخذ بنظرية تصدير القبول، ومنها ما تأخذ بنظرية تسليم القبول، ومنها ما تأخذ بنظرية العلم بالقبول، والفقه الإسلامي، كما سبق يتفق مع النظرية الأولى وهي نظرية إعلان القبول.
وأما الصورة الثالثة، وهي التعامل عن طريق الهاتف وما شابهها كالراديو واللاسلكي وكل وسيلة تجعل متعاقدين حاضرين غائبين. وقد ذكر الشافعية مسألة قريبة الشبه من هذه الصورة وهي أن المتعاقدين لا يشترط فيهما قرب المكان ولا رؤية بعضهما لصحة العقد وانعقاده، ويسري ثبوت الخيار، وجاء في المجموع: لو تناديا وهما متباعدان وتبايعا صح البيع بلا خلاف، وأما الخيار، فقد قال إمام الحرمين يحتمل أن يقال لا خيار لهما لأن التفرق الطارئ يقطع الخيار فالمقارن يمنع ثبوته ويحتمل أن يقال ثبت ما داما في موضعهما فإذا فارق أحدهما موضعه بطل خياره. وهل يبطل خيار الآخر أم يدوم إلى أن يفارق مكانه فيه احتمالان للإمام، وقطع المتولي بأن الخيار يثبت لهما ما داما في موضعهما، فإذا فارق أحدهما موضعه ووصل إلى موضع لو كان صاحبه معه في الموضع عُدَّ تفرُّقًا حصل التفرق وسقط الخيار، ثم قال والأصح في الجملة ثبوت الخيار وأنه يحصل التفرق بمفارقة أحدهما موضعه وينقطع بذلك خيارهما جميعًا، وسواء في صورة المسألة كانا متباعدين في صحراء أو ساحة أو كانا في بيتين من دار، أو في صحن وصفة، صرح به المتولي.
والذي تجدر الإشارة إليه أن لجنة تعليل مجلة الأحكام العدلية نصت على صحة التعاقد بالتلغراف والتلفون في سنة 1921م، وأفتى الشيخ أحمد إبراهيم سنة 1935م بنحو ذلك وقال: وأما العقد بالتليفون فالذي يظهر أنه كالعقد مشافهة مهما طالت الشُّقة بينهما، ويعتبر العاقدان كأنهما في مجلس واحد إذ المعنى المفهوم من اتحاد المجلس أن يسمع أحدهما كلام الآخر ويتبيَّنه وهذا حاصل في الكلام بالتليفون.
وقد أخذت القوانين بهذه الوجهة ونصت على أن التعاقد بالتليفون أو بأي وسيلة أخرى مماثلة يعتبر كأنه تم بين حاضرين فيما يتعلق بالزمان وبين غائبين فيما يتعلق بالمكان.
بقيت مسألتان: الأولى: التعاقد عن طريق العقل الإلكتروني، وهذا كما قال المالكية يعتبر من فعل الإنسان، فإذا انضبطت أموره وأمن اللبس كان التعاقد بواسطته كالتعاقد فيما سبق.
المسألة الثانية: ما أثاره البعض في احتمال التزوير والانتحال فهذه مسألة خاضعة لقواعد الإثبات والله أعلم.
الشيخ محمد علي التسخيري: بسم الله الرحمن الرحيم
أعتقد لكي نضع منهجًا لهذا البحث أن هناك ثلاث مسائل ينبغي أن نبت فيها أولًا، وإذا تم البت فيها فإن الحكم سوف يكون واضحًا.
المسألة الأولى: مسألة اعتبار الصيغة في صحة العقد وفي لزومه وهل تقوم الكتابة أو الإشارة أو حتى العمل بما يسمى بالمعاطاة مقام الصيغة في الصيغة في صحة العقد أوَّلًا وفي لزوم هذا العقد في المرحلة التالية هذه هي المسألة الأولى.
المسألة الثانية: هل تعتبر الموالاة بين الإيجاب والقبول أو هي غير معتبرة؟ يمكن أن تفترض فاصلًا زمنيًّا بينهما؟
المسألة الثالثة: هو خيار المجلس فهل يوجد مثل هذا الخيار وهل يعم العقود أو هو يختص بالبيع؟
هذه هي المسائل الثلاثة يا سيادة الرئيس لو أننا مشينا بها بشكل متدرج. لا أدري إن كان هذا مقبولًا، فأنا مستعدّ للسير مع هذا الموضوع بهذا الشكل، نبحث أولًا في مسألة الصيغة وما ينوب عنها ثم مسألة الموالاة ثم مسألة خيار المجلس فإذا نقِّحت هذه المسائل تنقَّح الحكم وشكرًا.
فضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد: بسم الله الرحمن الرحيم.
في الواقع أن تنقيح هذه المسائل هو تأسيس لهذه المستجدات في إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة، لكن الأنظار تختلف في تنزيل هذه الأحكام على الأحكام الأصيلة هذه، هي تختلف باختلاف وجهات النظر فيها، فعلى كلٍّ هو الرأي أحيانًا قد يكون يبحث القضية من أصلها وأحيانًا يكون مشتركًا بين بحث هذا الأمر الواقع الجديد وربطة المعاملات السابقة.
الشيخ محمد علي التسخيري:
المشهور أن الصيغة معتبر في صحة العقد الصيغة القولية، وحتى في لزومه يعني في لزومه، إلا أنَّ الذي يبدو من خلال تتبع الأقوال ومن خلال الحقيقة التي ينبغي أن نعرفها قبل كل شيء وهي أن الشارع عندما جاء إلى معاملات عرفية جارية أمامه منع من بعضها وأمضى البعض الآخر ولم يرد من الشارع ما يؤكد علينا مسألة الصيغة اللفظية، فنستطيع بكل اختصار طبعًا لا أريد أن أفصل، نستطيع أن نقول: إن الصيغة تحقق العقد وإن ما يقوم مقامها يحقق العقد، من الإشارة ومن الكتابة وحتى العمل، وإذا استطعنا أن نصحح عقد المعاطاة له بحث مفصل والواقع بعد بحثي في هذا الموضوع ثبت لي أن بيع المعاطاة من حيث صحة البيع أو عقد المعاطاة عمومًا من حيث صحة العقد ومن حيث اللزوم مشمول لأدلة الصحة، سواء الآيات الكريمة أو الأحاديث النبوية الشريفة، وبالتالي فبيع المعاطاة صحيح ويؤدي للزوم العقد، وإذا تم هذا المعنى حينئذٍ سوف لن يكون للصيغة اللفظية دور مقوم لصحة العقد ولزومه، وقد فصلت في بحثي ذلك ولا أذكر التفصيل.
النقطة الثانية: موضوع الموالاة بين الإيجاب والقبول، الحقيقة أن الموالاة مطروحة في كلام الفقهاء ولكني لم أجد نصًّا يؤكد هذه الموالاة فهم أخذوها من فهمهم العرفي، والفهم العرفي هنا ربما يقوم على أساس أن العقد عمل تركيبي اتصالي وعقد ربط بين جانبين وحينئذٍ ينبغي أن تتم الموالاة بينهما، إلا أن الواقع أننا إذا نظرنا للأدلة يعني:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} ، {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً} ، وباقي الأدلة أدلة التسليط، كل هذه الأدلة لا تدل على هذه الصورة الاتصالية وإنما هي تصحح عملًا عرفيًّا، والعمل العرفي هنا لا يشترط فيه التوالي وخصوصًا التوالي القريب، يشترط أن يرتبط رضًا برضى. وهناك رأي آخر ووجيه جدًّا يقول بأن العقد أصلًا يتقوم بالإيجاب ولكن هذا الإيجاب لا ينفذ إلا بعد مباركة القبول له، كأنه القبول هنا يأتي بمنزلة الإجازة في عقد الفضولي إذا جرى عقد الفضولي ثم جاءت الإجازة بعد ذلك أَضْفَت عليه مباركة وربطا. فالمقوم ذلك، وربما يستند هذا الرأي الوجيه هنا إلى أن العقد في الواقع هو نتيجة هذه الأسباب وليس عين هذه الأسباب. هذه الأسباب توجد العقد، اللفظ يوجد العقد، العمل المعاطاة يوجد العقد، ولذلك في التعبير القرآني {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} ، يعني أن العقدة هي النتيجة وهي تحصل بالإيجاب ومباركة القبول له، وحينئذٍ فالذي أراه من خلال بحثي الموجود هنا أن الموالاة، خصوصًا الموالاة المطروحة بكل قرب بين الإيجاب والقبول، لا تعتبر شرطًا في صحة العقد.
أما خيار المجلس، خيار المجلس، رغم وجود الاختلاف فيه، فإن هناك خبرًا صريحًا بخيار المجلس، ولا يمكن حمله كما قال بعض الإخوة الكتّاب على خيار القبول، إن الموجب يمكنه أن يقبل ويمكنه ألا يقبل ، لا هذا ، الخبر واضح جدا في أنه يشير إلي خيار موجود للمتعاقدين ما داما لم يتفرقا عن مجلسهما. فالخبر صريح في خيار المجلس ولكن الخبر أذعن بأنه مخصوص بالبيع ، ولا يمكن التعدي من البيع إلى غيره إلا بقياس قوي إذا قبلنا هذا المعنى. وحينئذٍ يبقى لدينا أن نحقق معنى المجلس في نظر العرف ولي تحقيق في حديثي، وقلت: أن الاتصال التليفوني أو الاتصال التليفوني المرئي يمكنه أن يعد في نظر العرف مجلسًا واحدًا، أما الاتصال بالكتابة أو الاتصال بالتلكس أو ما إلى ذلك أو الفاكسي ميل، فلا يمكن أن أتصور هنا موضوعًا لخيار العرف فهو منتفٍ موضوعًا.
الشيخ حمداتي شبيهنا ماء العينين:
هذا الموضوع لا يشكل مجالا كثيرًا من الخلافات والكلام، فالمبدأ متفق عليه، والذي يهم في هذا الشأن هو أن الأساتذة الباحثين تكلموا على مجالات معينة ولكن خرجوا في نظري ودعموا بالذات أكثر من موضوع للتعاقد.
فحللوا لنا نظرية الإيجاب والقبول، وهذه نظرية أوسع مما يدرس في مجال عهده، ثم حللوا في التعاقد خيار المجلس.
الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد:
يا شيخ حمداتي نحن لا نريد النقد للأبحاث فنحن لا نريد التقييم ونحن لا نعطي شهادات، نحن نريد ماذا لديك فقهًا في هذه المسألة فقط.
الشيخ حمداتي شبيهنا ماء العينين:
خيار المجلس عند المالكية هو مجلس الكلام وليس مجلس الأبدان، فالمالكية يعتبرون أن الفترة التي يقضيها المتعاقدان وهما يتداولان في العقد يعتبر هو مجلس العقد
…
وأما إذا سكتا وانصرفا إلى حديث آخر غير موضوع العقد فقد انتهى مجلس العقد عندهم
…
أما فيما يرجع للتعاقد أي الصيغة فهذه هي الأسبقية التي سجلتها الشريعة الإسلامية على القوانين الغربية واقتبست منها، فلذا هي لا تشترط أي صيغة للتعاقد، وهذا ما قاله ناظم خليل:
ينعقد البيع بما يتلوه على الرضا والتعاقد كله.
لهذا فأنا أقترح أن يحال هذا الموضوع إلى لجنة الصياغة لإعداد القرار المناسب مع مراعاة المسائل الثلاثة:
العلم بالقبول، وإعلان القبول، ومكان العقد.
لأنه تترتب عليه خلافات قانونية أصبحت ملحة ومداولة في الجامعات.
فضيلة الدكتور وهبه مصطفى الزحيلي:
لا خلاف في تقديري في أكثر هذه المسائل التي تدور عليها بحوث هذا الموضوع، فالمشافهة لاشك في أن العقد ينعقد بها. وكذلك الكتابة والمراسلة وأغلب الصور الحديثة يمكن أن نوزعها حول هذه الطوائف الثلاث، لذلك ينبغي أن نذكر المستجدات حول هذا الموضوع لا أن نكون مجرد مرددين لأمور تقليدية حول الخلاف في خيار المجلس أو فورية القبول أو ما يسمى بالموالاة في القبول أو البيع بالمعاطاة، فكل هذه المسائل فيها الخلاف بين فقهائنا، رأي للجمهور ورأي لفريق آخر من الفقهاء خصوصًا الشافعية لا يجيزون المعاطاة ويطالبون بفورية القبول، لكن تحقيق مذهب الشافعية أن هذه الفورية إنما المراد بها أن ترد إلى عرف الناس وليس المقصود بها الفورية الآنية ولذلك يكاد يكون مذهب الشافعية متفقًا مع بقية الفقهاء حول هذا الموضوع، كل ما في الأمر النقطة الجوهرية في هذا الموضوع أن ما أشار إليه الدكتور عبد الله وهي النقول عن القوانين فهذه القوانين نحن لا داعي أن نأخذ منها أو نرد عليها فنحن لا نؤمن بها أصلا، نحن نؤمن بفقهنا العظيم كل ما في الأمر أن هذه القوانين تثير مسائل ينبغي أن يكون للمجمع دور فيها. وأهم مسألة في هذه القضية هي قضية: هل نأخذ بمبدأ إعلان القبول وهو ما عليه جمهور الفقهاء أم نأخذ بما عليه القوانين وهو العلم بالقبول، وهذا أيضًا مأخوذ من بعض فقهاء الحنفية كابن كمال باشا والنسفي ولذلك القانون المصري المدني والذي سرى في فلكه كثير من القوانين الوضعية تأخذ بنظرية إعلان القبول فيوجه هناك تلكس العرض ثم تلكس البيع، منعًا من وقوع الخلافات. هل هذا الإيجاب الذي صدر من الموجب ما زال قائمًا؟ وهل استطاع الموجب أن يعلم أن القابل قد قبل؟ فلذلك، منعًا من هذه الخلافات، أخذوا بنظرية إعلان القبول للموجب، ولذلك لا بد من تلكسات ثلاثة منعًا من كل نزاع أو خلاف في هذا الموضوع. فأرجو من المجمع الكريم أن يبتّ في هذه القضية التي هي فارق واضح بين فقهنا وبين ما عليه هذه القوانين.
فضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد:
تلكس العرض ليس بلازم يا شيخ، لأن تلكس العرض قد يكون مشتركًا في ساعة الإيجاب والقبول.
سعادة الدكتور إبراهيم فاضل الدبو:
إن الموضوع موضوع حكم إجراء العقود بوسائل الاتصال الحديثة من وجهة نظري هو كما يلي: إن فقهاءنا رحمهم الله، يعتبرون الرضا هو الأساس في إبرام العقود، إذا لم يعارضه قاعدة شرعية. لهذا أجازوا التعاقد بالمراسلة والمكاتبة وبالإشارة وبالتعاطي. من هذا يتبين أن التعاقد بواسطة وسائل الاتصال الحديثة يتماشى مع ما قرره الفقهاء من قبل رحمهم الله تعالى. والتعاقد عبر هذه الوسائل ليس تعاقدًا بين حاضرين من كل وجه ولا غائبين من كل وجه فالمتعاقدان لا يضمهما مجلس واحد، وليس ثم فاصل زمني بين القبول والعلم به، لذا ساد القول بأنه تعاقد بين حاضرين من حيث الزمان لعدم الفاصل الزمني وبين غائبين من حيث المكان نظرًا لبعد الشُّقة بينهما. إلا أنني لا أميل للرأي القائل بإجراء العقود من خلال الراديو أو التلفزيون واعتبار ما يصدر عن هاتين الوسيلتين إيجابًا عامًّا موجهًا للجمهور، لأن التعاقد لا يتم إلا بتلاقي إرادتين يعبر المتعاقدان عن رغبتهما في إبرام العقد، وذلك لا يتحقق من وجهة نظري المتواضعة إلا بالمخاطبة المقصودة، وما يصدر من خلال الراديو أو التلفزيون هو مجرد عرض أو إعلان.
إن المتتبع لأقوال أكثر الفقهاء رحمهم الله تعالى يجد أنهم يقولون بإبرام العقد بين الغائبين بمجرد صدور القبول من الشخص الموجه إليه، أي أنهم يقولون بنظرية إعلان القبول.
الرأي الذي أراه، والله أعلم، أن الأولى أن نأخذ برأي القائلين بعدم مشروعية خيار المجلس، لا سيما عندما يجري التعاقد عبر الوسائل مدار البحث للأسباب التالية:
إن الأخذ برأي القائلين بخيار المجلس يعني تعليق العقد لحين انفضاض المجلس ولما كان وقت انفضاض العقد غير منضبط فهو متوقف على التفرق وفي ذلك محاذير كثيرة.
إن القول بخيار المجلس يزعزع من قوة العقد الملزمة وما هي الفائدة من اشتراط تطابق الإرادتين واقتران القبول والإيجاب إذا كان العقد غير مستقر ومعرضًا للفسخ.
إذا كان القصد من خيار المجلس هو إعطاء الحرية للمتعاقدين في المضي في العقد أو فسخه، ففي خيار القبول وخيار الرجوع من التدبر والتروي ما يكفي الطرفين لاتخاذ القرار الحاسم لإمضاء العقد أو إلغائه. هذه هي وجهة نظري المتواضعة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
سعادة الدكتور علي محيي الدين القرة داغي:
بخصوص رأي فضلية الشيخ التسخيري باعتبار القبول إجازة وقياسه على عقد الفضولي، في اعتقادي أنه قياس مع الفارق، لأن الإجازة تعني ثبوت الأصل مع أن الأصل هنا غير ثابت، وبالإضافة ليس هناك أي ارتباط يربط الموجب بالقابل إلا من خلال القبول، فكيف نعتبر قول القابل إجازة لما قاله؟ فهذا لا يسمح المجال لمناقشته مناقشة تفصيلية في هذا الخصوص.
مسألة أخرى بالنسبة لأخي الدكتور إبراهيم كافي دونمز أشار في بحثه إلى عدة ملاحظات، أنا أشكره على هذه الملاحظات، ولكنه أسند إلي بخصوص رأي المالكية أن فهمي لهذا المذهب غير صائب، ولكنه لم يوضح رأي المالكية حسب فهمه الصحيح، وكان بودي أن يضيف، فأنا قصدي بأن المالكية يقولون بإيجاب الموجب في بعض الحالات، وذكرت هذه الحالات، وقلت: إن وجود القول بإيجاب الموجب لا بد أن يترتب على ذلك القول بنظرية إعلان القبول، ثم وجدت بعد ذلك نصوصًا من المالكية صراحة تدل على هذا، فهذا بالنسبة للملاحظات، أما بالنسبة لرأيي ملخصًا أختصر وأقول: إن هذه الآلات الحديثة، كما أشار إلى ذلك الدكتور الزحيلي، إن هذه الآلات في الواقع صحيح أنها حديثة بالنسبة للظهور وبالنسبة للتوصيل ولكنها ليست حديثة بالنسبة للتأصيل الفقهي فهي كلها تعود إلى قسمين: قسم لنقل الصوت واللفظ، وقسم لنقل المكتوب، وبعد ذلك أنا أرى الرأي الراجح في هذه المسألة طبعًا لا نستطيع أن نرفض لا سمح الله خيار المجلس، فخيار المجلس الحديث فيه صحيح وثابت متفق عليه، ولكن أنا رجحت أن نقدر مجلس العقد بالنسبة للتليفون وبالنسبة لوسائل التلكس وما أشبه ذلك بفترة المحادثة، لأن الاتصال أي المجلس ينقطع تمامًا كمثل شخصين جالسين في مجلس واحد فيفترق أحدهما عن الآخر وينتهي العقد. فأنا حقيقةً أثبتُّ ورجحتُ مجلس التعاقد ولكنني أعطيت فترة زمنية محدودة للتعاقد بالنسبة للتلكس وخاصة بالنسبة للتليفون في فترة التحدث، لأنها بعد ذلك سينتهي. وحتى لا أطيل عليكم كذلك بالنسبة للتعاقد باللاسلكي، فإذا كان ينقل الكلام الواضح إلى الآخر فهو كمثل التليفون في جميع الأحكام التي ذكرناها، أما إذا كان ينقل الكلام عن طريق الشفرات الواضحة المسموعة المفهومة فحينئذٍ يتم العقد أيضًا إذا فهم الإيجاب والقبول. وبخصوص مسألة أشير إليها في قضية الراديو والتلفزيون: في الواقع إن هذه المسألة أنا لم أشر إليها من واقع خيالي، وإنما هذا البحث نوقش في كلية الشريعة عندنا، ومع كلية الاقتصاد، وحضره مجموعة من أساتذتي الكبار في هذا الموضوع وناقشنا هذه المسألة وأثبتت هؤلاء الاقتصاديون وبعد استشارتي لهم وإفادتي لهم الكثيرة ومنهم أثبتوا لنا وجاءوا ببعض الصور من أن هناك في فرنسا وغيرها تلفزيون تجاري يشترك فيه مجموعة من الناس ويعرض هذا التلفزيون العقد وبالتالي لك الحق مباشرة أن تتصل بجهة التلفزيون وتعرض عليه القبول. هذا جانب.
أما الجانب الآخر بالنسبة للجعالة أي الجعال صحيح أنها من العقود الانفرادية أو من باب سلطان الإرادة المنفردة ولكنها في الأخير تصبح عقدًا مزدوجًا عقدًا يتكوَّن من شخصين أليس كذلك لما يقوم الشخص بذلك فحينئذٍ يكون تم العقد وأصبح لازمًا. ولذلك حينما كان كلامًا كان غير ملزم له الحق في الرجوع، لكن إنما يلزم إذا قام الشخص فحينما يقوم الشخص فاعتقادي أن القياس على الجعالة بالنسبة للوعد بالجائزة قياس ليس مع الفارق وإن شاء الله قياس مناسب وقياس قائم على العلة المناسبة. ووضعت بعض الضوابط وهي:
الضابط الأول: أن العقود التي تتم من خلال التليفون أو الراديو أو التلفزيون أو اللاسلكي يكون احتمال التزوير وتقليد الصوت والدبلجة التلفزيونية واردًا، ولذلك تسمع دعوى من ادعى ذلك، على عكس العقود العادية لا يسمع هذا إلا بأدلة، ولكنه يقع على من يدعى ذلك عبء الإثبات فنرجو من المجمع الموقر أن يشير إلى هذا الضابط، إن أراد.
الضابط الثاني: إن العقود بالتليفون ونحوه تصح فيما لا يشترط فيه القبض الفوري بدون إشكال. أما ما يشترط فيه القبض الفوري فإنما تصح بالتليفون إذا تم القبض بعد انتهاء المكالمة مباشرة كأن يكون لكل واحد منهما عند الآخر وكيل التسليم مثلًا أو نحو ذلك. فالعقود الربوية والأموال الربوية لا يتم فيها العقد بالنسبة للتليفون إلا مع هذه الضابطة، وهي ضابطة القبض والقبض مرجعه إلى العرف وطبعًا الشريعة الإسلامية شددت في القبض الفوري يدًا بيد في الأمور الستة.
الضابط الثالث: إن مجلس العقد بالتليفون ونحوه ينتهي بانتهاء المحادثة إلا إذا كان العقد - وهذا استثناء - يتم من خلال المزايدة، حيث ذهب المالكية إلى أن الشخص الذي يعرض رضاه بثمن معين في المزايدة فليس له حق الرجوع حتى ولو طال. وهذا الرأي في نظرنا يحقق المصلحة والتوازن والاستقرار. وقد بينت أسباب هذا الترجيح في داخل البحث.
أما بالنسبة لإجراء العقود بالوسائل الحديثة لنقل المكتوب مباشرة مثل البرقية والتلكس والفاكس فهو كحكم التعاقد بالكتابة سواء بسواء ولذلك ذكرنا الاتجاهات الثلاثة حول التعاقد بالكتابة ورجحنا اتجاه الموزعين الذين جعلوا الكتابة كالخطاب.
في قضية التعاقد بالبرقية أو التلكس لا بد من الإشارة إلى أن مجلس العقد ووقت تمامه وما يترتب على المجلس من خيارات لا بد من مراعاته فيما إذا تطرقنا إلى هذه المسألة وربما يلاحظ أو يعاد إلى القواعد العامة بهذا الخصوص.
فضيلة الدكتور على السالوس:
أريد أن أركز في هذا الموضوع على أمرين:
1-
ما يتصل بالخطأ.
2-
الأمر الثاني ما يتصل بالإثبات.
الملاحظ أنه لا خلاف حول إمكان أن تتم العقود بهذه الوسائل المستحدثة ولكن إن كان الخطأ فكيف نتلافاه؟ لأن بعض الإخوة ذكر بأنه إذا حدث خطأ في الوسائل البرقية. وقالوا هذا ممكن، فإن هذا لا يبطل العقد، وإنما نلجأ إلى تضمين الطرف الثالث الذي وقع الخطأ منه. يدخل طرفًا آخر وتم التعاقد على شيء معين، وقد يكون الفرق ملايين، نلجأ إلى العامل أو الهيئة التي أجرت البرقية وهي التي تتحمل الخطأ وتضمنه. وهذا قول أعتقد بأنه غير سائغ، لذلك علينا أن نتأكد بالنسبة للوسائل المستحدثة من عدم الخطأ، بحيث على لجنة الصياغة عندما تصيغ القرار أن تنظر كيف يمكن تجنب الخطأ أي الوسيلة لهذا التجنب.
الأمر الثاني: كيف يمكن إثبات الإيجاب والقبول؟ إذا قلنا مثلًا بالهاتف ونحن في عصر أكثر العقود لا تثبت إلا بالكتابة، بل بالكتابة والتوثيق في كثير من الحالات، نقول: بالهاتف: قلت لك كذا، والآخر يقول أنا لم أقل كذا، أنا لم أوافق على كذا. إذًا هنا أيضًا لا بد أن تثبت لجنة الصياغة عن وسيلة تبين كيف يمكن إثبات الإيجاب والقبول، بحيث لا يستطيع أحد من المتعاقدين أن ينكر أنه قال كذا أو قبل كذا.
فضيلة الشيخ أحمد محمد الشريف:
الحقيقة كانت عندي بعض الملاحظات في هذا الموضوع.
أرى أن هذا الموضوع ليس من الموضوعات الجديرة بالبحث. قد يكون الحكم فيها بديهيًّا، الموضوع الأساسي هو أن العقد ربط الإيجاب بالقبول وهو في الحقيقة تلاقي إرادتين. أما الصيغ فهي الصور التي تحقق هذا التلاقي. الموضوع يتعلق بموضوع الإرادة الظاهرة والإرادة الباطنة. ومن المعلوم أن الشرع الإسلامي يتوجه إلى المعاني لا إلى المباني أي يحكم بالإرادة الباطنة. لكن لما كانت الإرادة الباطنة أمرًا نفسيًّا لا يمكن التعرف عليه إلا بأمر ظاهر، جعل الفقهاء الصيغة قرينة أو دلالة على هذه الإرادة الباطنية. فأية صيغة يمكن أن تعبر عن هذه الإرادة؟ طبعًا نقصد بالإرادة الإرادة التي تكون حرة وسليمة، سليمة من العيوب، عيوب الغلط والإكراه والتدليس على خلاف بين الفقهاء والقانونيين في مدى أثر هذه العيوب في مدى سلامة العقود أو في بطلانها أو فسادها أو توقفها. الوسائل التي كانت موجودة أيام كتابة الفقه كانت الكتابة، ثم لحق التليفون والتلغراف أخيرًا، فألحقوها به، وكذلك أية وسيلة اتصال حديثة تعتبر أيضًا دون معاناة في بحث أو تعمق، صحيح أن الفقه هو عمق في الفهم ولكن ليس دائمًا العمق هو الذي يوصل إلى طبيعة الحكم الشرعي، قد نصل إلى الحكم الشرعي بكل بساطة، دون الحاجة إلى تعمق وسبر أغوار التحليلات الفقهية في كل مسألة ومنها هذه المسألة.
فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي:
أريد أن أقسم حديثي إلى أمرين: الأمر الأول هي قضية منهجية لا بد من اتخاذ قرار فيها. ذلك أن إعداد المواضيع الفقهية في ما يتصل بالقانون المدني، يذكر فيها الفقه الإسلامي ويذكر فيها القانون المدني، وكثيرًا ما يرتبط هذا القانون بدولة الكاتب الذي يكتب. ونعلم بأن القانون المدني تأثر في كثير من البلدان الإسلامية بالقانون الفرنسي وتأثر بالفقه الإسلامي، ويتأثر أيضًا بما يعبر عنه بفقه القضاء والأحكام التي تحكم بها المحكمة العليا، ويتأثر في دول أخرى بالقانون الإنجليزي، ودخل القانون الألماني أيضًا كقوة فاعلة. فاعتقد أن الباحث إذا أراد أن يستدل بالقانون أو نجعل مقارنة بين الفقه الإسلامي وبين القانون، فليكن القانون عامًّا لا قانون البلد، خاصة وأن البلدان الإسلامية ليس لها قانون واحد، ومجلة الأحكام العدلية في ذاتها غير مطبقة فأعتقد أنه نقتصر في الدراسات الفقهية على ما جاء في الفقه الإسلامي دون تعرض إلى القوانين الوضعية التي هي غير متأثرة 100 % بالشريعة الإسلامية، ولكنها تتأثر بالشريعة الإسلامية وبغيرها.
الأمر الثاني فيما يخص موضوع اليوم. أعتقد أنه يكاد الاتفاق يكون تامًّا بين كل المناقشين على صحة التعاقد بهذه الوسائل الحديثة. وقد وقع التعرض إلى خيار المجلس، وأعتقد أن خيار المجلس – اعتمادًا على قول الرسول صلى الله عليه وسلم ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)) ها هنا لم يتحقق، بمعنى أن تحقيق المناط إذ أردنا أن نحقق، هذا المجلس هو غير موجود لأن قوله صلى الله عليه وسلم ((لم يتفرقا)) حمل إما على التفرق بالأقوال أو التفرق بالأبدان. والأبدان قد تفرقا بهما، وأحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب، وأحدهما يعطي هذه اللحظة والآخر بعد زمن طويل، فقضية خيار المجلس هنا ينبغي أن لا يحدث لأن الوسائل الحديثة أحدثت لنا طريقة أو وضعًا غير موجود في الحديث ولا يدل عليه الحديث إلا بتمحص وبقياسات لا أعتقد أنه من الخير أن تعمم لأن في تعميمها مشاكل. وإذا تجاوزنا قضية خيار المجلس التي أقول إن الحديث لا يدل عليها وإن تحقيق مناط غير متحقق في هذا. فاعتبار الصيغة كيفما كانت في صحة العقد أمر متفق عليه بين الجميع واعتبار التتابع أو الموالاة في الإيجاب والقبول هو أمر قد تحقق في العقود حسب ما بينه الباحثون.
كلمة بسيطة بقيت وهي الجعالة، والجعالة هي عقد غير لازم ولو قبل الشخص، لأن الجعالة عقد غير لازم ولو كان في أثناء العمل وذلك ضمانًا لحقوق العامل وهذا معروف.
بقي الإيجاب والقبول بما يثبت؟ وطرق إثبات الإيجاب والقبول؟ وإذا وقع خطأ؟ هذه قضايا جزئية يتعرض إليها القضاء لفصل النزاع ولا يمكن لمجمع أن يصل إلى كل الحلول، لكننا نبحث في القضية وفي أصل المشكل وهو أن هذه معتبرة أو غير معتبرة.
فضيلة الشيخ محمد الحاج الناصر:
لا أرى أن الموضوع الأساسي لهذه المناقشة جدير بالمناقشة الذي يظهر من مختلف الأبحاث ومختلف ما تفضل به حضرات السادة المناقشين أن الكل متفق ولا سبيل لهم إلى الاختلاف على أن التعاقد بالوسائل الحديثة جائز.... ولا مساس مُسَّ به عُمْقٌ من أعماق عقيدتي وأحسُّ بأن كل مسلم لا بد من أن تكون عقيدته قد مُسَّت إن كان قد انتبه إلى هذا الرأي قيل. وذلك لأن أحد الإخوة غفر الله لنا وله، جرأ، من حيث يدري أو لا يدري، ليقول ما معناه لا أساس لخيار المجلس، وهو أمر وردت به أحاديث خرجناها من حوالي 20 طريقًا، رواه كل من ابن عمر وابن مسعود وأبي هريرة، رضي الله عنهم، وغيرهم، والذي دفع الناس إلى مثل هذا القول الذي قد لا يكونون قدَّروا عمقه حق التقدير هو عدم الاعتماد أساسًا على الحديث وعلى القرآن، والاكتفاء بما قاله الفقهاء على اختلاف أعصارهم وبيئاتهم واتجاهاتهم. وما من أحد من المسلمين يسمح بأن يقول عن الحديث وقد ورد في قضية أيًّا كانت بأنه غير موجود أو أنه غير أساسي، وقد اتفق الأئمة الأربعة الذين تواطأ الحاضرون، غفر الله لنا ولهم، على اعتماد مقولات أتباعهم، اتفقوا جميعًا على إيثار الحديث، حتى أبو حنيفة، وهو إمام القياس، كان يقول ما معناه: إذا وجدنا في القرآن شيئًا قبلناه، وإذا وجدنا في الحديث شيئا- وإن كان ضعيفًا – قبلناه، وإذا جاءنا عن الصحابة شيء أخذنا بقول الجمهور. أما اجتهادات النخعي ومن على شاكلته فهم رجال ونحن رجال. وذلك قول جليل من إمام جليل فلماذا نعرض عن هذا الأساس حتى نتجاهل، وإِنْ قَوْلا وعن غير اعتقاد، كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. اللهم إني أبرأ من هذا ومن سماعه ومن قبوله. شيء آخر: هذا الذي قيل عن القانون الوضعي أخذ البعض على من لجأ إلى الاستدلال به أو الاستئناس، والواقع أن أصل القانون الوضعي في كثير من مسائله المدنية والجنائية ليس بعيدًا في مآخذه ومصادره عن الفقه الإسلامي أيًّا كان المشرعون من الأوربيين وغيرهم. لكنهم قد يكونون انحرفوا أو حرفوا، فإن رجعنا إليه فإنما رجعنا إلى الاستئناس بشيء قد أخذ منا، هذا جانب. أما الجانب الثاني أن هذه القوانين بحكم طول فترة التعايش والتلاقح مع الدول الاستعمارية صنعت ما يوشك أن يكون أعرافًا ثابتة، وما دمنا نعتبر العرف في العقود فلا سبيل إلى الإعراض عن الاستئناس بهذه القوانين.
فضيلة الشيخ حمد آدم الشيخ عبد الله علي:
أود أن أشير إلى نقطة واحدة في بحث الدكتور وهبة (ص10) فيها: (لو وجه أحد العاقدين خطابًا أو برقية إلى آخر أو تلكسًا أو فاكسًا وفيها إيجاب بيع شيء أو بإبرام عقد زواج انعقد العقد بعد وصول البرقية أو الخطاب أو نحوهما) ، وأنا أرى أن عقد الزواج ليس من العقود المالية وهو عقد مكرمات لا يدخل فيها المعاطاة وليس فيها خيار المجلس وأقتراح على المجلس الموقر إبعاد عقود الزواج عن العقود المالية وتركه على ما عليه المسلمون الآن.
فضيلة الدكتور بشار عواد:
أردت أن أنبه فقط للجنة الصياغة في المستقبل عند بحثها لهذه القضية، قضية العقود بطريقة المراسلة أو طريقة الاتصالات الحديثة، هو ضرورة التأكد من شخصية المتعاقد وهذه المسألة أصبحت اليوم خطيرة، لما يمكن أن يحدث من تزييف في شخصية المرسل بالدرجة الأولى أو المرسل إليه. ولقد جربنا في الأعصر الحديثة الكثير من التزييف في هذه الأمور وأن وسائل الاتصال الحديثة بقدر ما فيها من التيسير والتسهيل هي مواطن للتدليس والخداع أيضًا، إذ يمكن تقليد الأصوات عن طريق الهاتف أو يمكن تقليد الصور أو يمكن تقليد التلكس أو الفاكس أو نحو ذلك، فهذا ينبغي أن يُنَصَّ عليه عند اتخاذ أي قرار في هذه المسألة من باب التحوط.
المسألة الثانية ربما أشرت إليها في جلسة سابقة أرجو أن ينتبه إليها. قال الإمام الذهبي، رحمه الله عليه، في كتابة الموقظة:(واعلم أن مدار حديث الفقهاء إنما يكون على الأحاديث الحسنة والضعيفة) ، وفي رأينا هذا قد يكون من باب التوسع في مناقشة مسائل لم تكن موجودة في عصر النبوة، ويحاول الفقهاء أن يجدوا لها سندًا في الحديث النبوي الشريف وهي وإن كانت من الرأي أو ما إلى ذلك لكنهم يجتهدون في أن يجدوا فيقبلون بعض الأحاديث الضعيفة، الرجاء أن ما يحتج به من الأحاديث ينبغي أن يكون ثابت الصحة ولا سيما إذا بنيت عليه قواعد للاستدلال لأنه لا يجوز أن يكون شيء غير ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستدل به كأنه شيء ثابت إطلاقًا. وهذا يجعلني أشير إلى طريقة تناول هذه الأحاديث والكتابة فيها وأنا أطالع الأبحاث أجد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لما نبحث عن هذا الحديث نجده ضعيفًا لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، في الأقل في مثل هذه الأمور سلفنا من المحدثين العلماء الأجلاء وضعوا لذلك ينبغي الالتزام بها إثباتًا لأن هذا الحديث غير ثابت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، كأن يقول روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أُسْنِد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ما إلى ذلك من العبارات الدالة على عدم ثبوت الحديث عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، لأن القطع بالصدور فيه مجانبة للعقيدة الإسلامية وفيه مجانبة في الوقت نفسه للبحث العلمي الرصين.
سعادة الدكتور عبد السلام داود العبادي:
واضح أن كثيرًا من الأمور التي بحثت تحت هذا العنوان من الأمور المستقرة فقهًا والتي لا مجال إلى كبير نقاش حولها. وكان بودّي أن تركز الأبحاث على القضايا المستجدة فيما يتعلق بالمشكلات التي تحتاج نظرًا وبحثًا مستفيضًا في إطار هذه الصيغة المعاصرة للعقود. وقد حاولت بعض البحوث أن تقف عند بعض القضايا الهامة المتعلقة بهذا الموضوع كموضوع القبض وبيع المال الغائب وغير ذلك، لأن أساس هذه الوسائل الحديثة السرعة في عملية الإنجاز، ويترتب على هذه السرعة مشكلات تتعلق بالاستيثاق، وتتعلق ببيع ما لم يقبض، وبيع الغائب، وغيره من الأمور. أما الإطالة في تأصيل هذه المسألة على ضوء ما هو مستقر في التعبير عن الإرادة في الفقه الإسلامي، فهي قضية ليس من لب اهتمام هذا المجمع. المجمع يريد أن يتصدى للمشكلات المستجدة التي تحتاج إلى حلول ومعالجات مستفيضة. وأنا أعرف أن جلسة المساء ستعالج قضية القبض، ولكنها سنعالجها بما يشمل بيع المرابحة للآمر بالشراء، وبما يشمل الاتصال بالآلات الحديثة. لكن لو أهتم النقاش، على الأقل استفادة من الوقت، بهذه القضايا لعلها تكون تمهيدًا بما سيتبلور من قرارات تمس حياة الناس هذه الأيام. مستقرة الآن قضية اعتماد هذه الوسائل للتعاقد والفقه الإسلامي يؤدي ذلك، لكن المشكلات التي تترتب على اعتمادها هي التي تحتاج إلى مزيد بحث ومناقشة ودراسة. وأحب هنا أن أشير إلى قضية ولو أنها عرض لها كثيرًا وهي قضية منهجية البحث: لعله تكلف لجنة التخطيط بإعادة النظر فيما اعتمد من قواعد سابقة لأنه يبدو أن الحل لهذه المشكلة يكون في الواقع في اعتماد بحوث وباحثين ثم إرسال هذه البحوث لمعلقين مختصين بالموضوعات المطروحة ليوزع على الأعضاء بوقت مسبق، البحث أو البحثان والثلاثة حسب الموضوع وأهميته والتعليقات التي تصدت لمناقشة هذه البحوث حتى نكتفي إلى حد كبير من مؤنة النقاش في مثل هذه اللقاءات.
فضيلة القاضي محمد تقي العثماني:
إنما أريد أن أنبه إلى نقطة واحدة فقط تتعلق بالموضوع ورأيت أن الباحثين على الرغم من استفاضتهم للموضوع وبسطهم بسطًا مشكورًا لم يتعرضوا لها تعرضًا يفي بحقها مع أنها هي المسألة المستجدة في هذا الموضوع، وهي مسألة خيار القبول، ومدى امتداده في العقود التي تتم بالآلات الحديثة كالتلكس أو الفاكس أو حتى بالبريد. والذي جرت عليه البحوث المعروضة علينا هو ما ذكره الفقهاء في كتبهم في العقود التي تتم بإرسال كتاب. وخلاصة ذلك أن خيار القبول للمرسل إليه، إنما يقتصر على مجلس وصول الكتاب إليه وهو القول الذي اختاره كثير من الباحثين في الموضوع. ولكنني أخشى أن يكون قياس البريد والتلكس والفاكس على ما ذكره الفقهاء في إرسال كتاب أن يكون قياسًا مع الفارق، وذلك لأن إرسال الكتاب، في زمن الفقهاء، إنما كان يتصور عن طريق رسول يحمل الرسالة شخصيًّا، فكان من الممكن أن يربط خيار القبول بمجلس وصول الرسالة، لأن رسول المرسل كان يمكن له أن يراقب هل قبل المرسل إليه الإيجاب في المجلس أولا. أما في التلكس أو البريد فليس هناك من يراقب المرسل إليه، فلو قلنا باختصار خيار القبول على مجلس وصول التلكس فهذا يعني أن التلكس الإيجاب بعد انتهاء مجلس الوصول يعتبر كأنه ملغي ولا يصح للمرسل إليه بعد ذلك أن يبني قبوله على أساس ذلك الإيجاب وذلك التلكس. وهذا على ما فيه من حرج شديد ربما يحدث نزاعًا في أن المرسل إليه هل قبل الإيجاب في المجلس أو لا ولا سبيل إلى الفصل في مثل هذا النزاع. والمعهود في الشريعة الإسلامية أنها تبتعد عن كل ما يفضي إلى النزاع. فالسؤال هنا هل يجوز لنا أن نقول في العقود التي تتم بالتلكس وغيره أن خيار القبول يستمر للمرسل إليه إلى أن يشعر مرسل التلكس المرسل إليه بالرجوع عن إيجابه إلا إذا ذكر في تلكسه مدة معلومة محددة أن الإيجاب سيستمر إلى هذه المدة وعند انقضاء تلك المدة سينقضي فعل القبول؟ فلا بد من دراسة هذه النقطة والبحث فيها فيما أراه، والله أعلم.
فضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد:
هناك في الواقع ثلاثة نقاط إضافة للنقطة التي ذكرها الشيخ محمد تقي العثماني وهي جديرة بالاهتمام، وهي قضية الربويات والنكاح وبيع السلم فبودي إذا أمكن بقية المناقشات وهي قليلة أن تشملها كل بقدر ما يستطيع.
سعادة الدكتور عبد الستار أبو غدة:
سأبدأ من حيث انتهى الشيخ محمد تقي العثماني لأن هذه الفقرة كانت هي في مخيلتي وهي أنني حينما اطلعت على هذه الأبحاث وجدت إشارة متكررة إلى مذهب الجمهور في الإيجاب وإلى مذهب المالكية. والجميع أو معظمهم ممن كتب في هذه الأبحاث أشاروا إلى أن مذهب الجمهور في الإيجاب أنه يتقيد بمجلس الإيجاب أو بمجلس العقد، وأن المالكية ذهبوا مذهبًا آخر بأنه كان بلفظ الماضي وبلفظ الجزم فإنه يبقى ولم يشر أحد إلى مذهب آخر للمالكية أو لبعض المالكية لعل فيه الحل لإشكالات التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة. هذا المذهب أشار إليه الحطاب وذكر أن ممن قال به أبو بكر بن العربي صاحب (أحكام القرآن) وهو أن (الإيجاب إذا قيد بوقت فإنه يستمر قائمًا ما بقي هذا الوقت) ، وهذا ما أخذت به كثير من القوانين المدنية وسموه الإيجاب المؤقت، فإذا كتب كاتب في وسائل الاتصال أو أرسل تلكسًا أو فاكسًا أو شيئًا ووضع هناك تاريخًا لنفاذ هذا الإيجاب واستمراره فإن هذا يحل الإشكال، فإذا جاء الرد في هذا الظرف فإنه قد التقى القبول بالإيجاب وتحقق الرضا، وإذا جاء بعده أو لم يأت شيء وانتهى الوقت سقط هذا الإيجاب ووئد كما ولد، وهذا فيه الحل لهذه الموضوع وهذا الرأي كما قلت مشار إليه في الحطاب وإن كان هو خلاف المشهور لكنه نسبه إلى عدد من علماء المالكية ومنهم أبو بكر بن العربي المعروف بتحقيقه وتدقيقه.
سعادة الدكتور أحمد بن حميد:
في الحقيقة أريد أن أشير إلى نقطة واحدة وهي ما أشار إليه البعض من عدم خيار المجلس، إن كان يريد عدم إثباته في العقود جميعها فهذا موضوع آخر، وإن كان يريد عدم إثباته في وسائل الاتصال الحديثة، فهذا يرد عليه أنه يخالف عموم الحديث (البيعان بالخيار) فهو حديث عام يشمل كل بائع ولا يمكن أن يخص منه بائع إلا بدليل، ولا يظهر لي دليل هنا مخصص، وما أشار إليه البعض من عدم انضباط خيار المجلس في مسائل الاتصال الحديثة فهذا لا يمكن أن يعتبر مخصصًا أبدًا، لأنه يمكن الأخذ بالأعراف وما ذكره الفقهاء في مسائل التفرق يمكن تخريج التفرق في مسائل الاتصال الحديثة عليها. وقد ذكر بعض الباحثين عبارة جيدة للإمام المتولي فيمكن الاستفادة منها في هذا المجال.
الشيخ الأستاذ عمر جاه:
أتفق تمامًا مع الرأي الذي يقول بأن العقود بالآلات الحديثة مقبولة، وأذهب إلى أبعد من ذلك وأقول: إن العمل بهذه الآلات جارٍ وموجود في كل مكان وعلى جميع المستويات، ولكن أخي الدكتور قد أغناني عن التفسير في ما كنت أريد أن أقوله: إن هذه الآلات الحديثة فيها أخطار إمكانية التزوير والتزييف والتدليس قوي فيه. ولذلك أريد أن ألفت النظر على أن المؤسسات والبنوك التي تتعامل بهذا عندها الضمانات ووسائل الاستيثاق، يستوثق هذه الأمور بكيفية فنية معروفة لديهم، ولذلك أرجو من صياغتنا لأي فتوى نصدرها هنا أن ننتبه لهذا، ونضع الضمانات الكافية، وذلك لأن العقود بالكتابة في الزمن القديم، كما ذكر الشيخ محمد تقي الدين، كان هناك رسول يحمل الكتاب إلى الطرف الآخر، فالبريد قد يكون فيه شيئًا من هذا الضمان، لأن هناك توقيعًا على الوثيقة قبل أن تصل إلى الطرف الآخر لكن التلكس ليس فيه مثل هذه.
سعادة الدكتور إبراهيم كافي دونمز:
هناك جانبان أساسيان للموضوع: الجانب الأول يتمثل في مسألة جواز أو عدم جواز التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة أو بشكل أوسع التعاقد بين غائبين. والأدلة المذكورة في البحوث تمكننا من القول بأن هذه الطريقة تجوز. ويبدو أن هذا الجانب ليس من النوع الذي يثير مناقشات واسعة، كما تفضل الأستاذ العارض بأن لجنة تعديل مجالات الأحكام العدلية قررت إضافة مادة في هذه المجلة في هذا الاتجاه. والجانب الثاني في الموضوع يتمثل في بعض المسائل الدقيقة التي تتعلق بنظرية العقد، ومع أن هذه المسائل تحظى بأهمية بالغة في دراسات فقه الالتزامات، فإنه لا تتعلق بالفتوى قدر ما تتعلق بالتقنين، يعني هذه المسائل أغلبها تتعلق بالتقنين أو المشرعين. ومع ذلك المسائل هذه لها مساس بالفتوى أيضًا، مثلًا كمسألة تبنى نظرية ما من هذه النظريات كما أشار إليه فضيلة الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي، تبني نظرية الإعلان أو العلم أو النظريات الأخرى لها نتائج عملية بيَّنَّاها في بحوثنا، وكذلك مسألة إلزامية الإيجاب، كما أشار إليه فضيلة الدكتور عبد الستار أبو غدة، وأنا توسعت في بحثي المتواضع وجاهة قول المالكية في هذا الموضوع يعني إذا عين ميعاد معين للقبول هذا يكون ملزمًا في رأي المالكية أي جمهور المالكية.
ولا أريد الإسهاب في الكلام لمناقشة هذه الأمور الدقيقة، لأنه قبل كل شيء يجب أن يبدي مجمعكم الموقر موقفه من دراسة هذه المسائل، إذا تمس الحاجة إلى دراستها على حدة، فنحن جاهزون لنقاشها، ولكن ليس من حقنا، إشغال حضوركم أكثر مما ينبغي لأننا توسعنا في بحوثنا، ومع ذلك أود أن أشير إلى بعض النقاط اللازمة، مثلا الدكتور القره داغي الأخ الفاضل، طلب مني أن أجيبه على سؤاله، كلامي الوارد في بحثه بالنسبة لعبارة الدكتور القره داغي لا ينصب على ما ينقله من المالكية بل ينصب على وجه استدلاله، الدكتور يقول: وأما المالكية فهم يقولون بأن الإيجاب ملزم للموجب كما سبق فعلى هذا لا يتماشى مع قواعد مذهبهم أن يشترطوا علم الموجب بقبول القابل حتى يتم العقد، وكما يلاحظ فإن الدكتور القره داغي يظن أن اعتبار الإيجاب ملزمًا لا يسمح لنا بتبني نظرية عدا نظرية الإعلان، يعني نقدنا في هذه المسألة ينصب على هذه النقطة لا على قول المالكية، بعبارة أخرى، ولو قلنا بإلزامية الإيجاب هذا لا يمنعنا من تبنّي نظرية ما عدا نظرية الإعلان. وهذه النقطة هامة جدًّا كما أشار إليه فضيلة القاضي محمد تقي العثماني، في وقتنا الحاضر تبني نظرية الإعلان لا يسُد الحاجات الماسة، لأننا إذا قلنا بأن العقد ينعقد بمجرد صدور القبول أي بمجرد الإعلان عن القبول من طرف الموجب إليه الإيجاب، هذا يؤدي إلى كثير من المشاكل مع أن بعض الباحثين ينتمي إلى تبني هذه النظرية، وأنا حاولت في بحثي المتواضع تحليل هذه النظريات كلها وسلبياتها وإيجابياتها والنظرة المختارة ولا أريد إسهاب الكلام فيها. وبالنسبة لقضية خيار القبول، إذا لم أفهم غير الصحيح في كلام فضيلة الدكتور محمد علي التسخيري، كأن فيه خلط بين مفهومين خيار القبول وخيار المجلس، حكم خيار القبول هو المتفق عليه في الفقه الإسلامي، كما نعرف، وهذا لا يعني ألا يوجد خيار المجلس، فخيار المجلس شيء آخر ونوقش كما نعرفه ولذلك لا أريد أن أتوسع في الموضوع.
فضيلة الدكتور عبد اللطيف الفرفور:
في كل المناقشات والمداخلات الكريمة التي يتفضل بها الزملاء لم أستمع إلى موضوعين أرى أنهما بحاجة إلى شيء من البسط. الموضوع الأول هو اشتراط شروط لرجوع الموجب عن إيجابه، هل يجوز أم لا؟ ومتى يجوز؟ لأن الموجب قد يرجع عن إيجابه قبل أن يصل القبول قبل أن يصل الرد من القابل أي الطرف الثاني، وهذه المسألة في بحثي المتواضع في ص3 ذكرتها بشيء من البسط ومع ذكر بعض الأقوال وأرجو أن يرى المجمع الكريم رأيه فيها وأن تلحظ.
والمسألة الثانية هي أن يشترط في الإيجاب ألا يفهم منه معنى السوم أو الترسل أو استمزاج الأسعار أو معرفتها، كي لا يكون هذا الإيجاب بالتالي باطلًا أو لاغيًا لأنه ليس بالإيجاب، هذه ناحية أيضًا تدخل تحت التثبت، والتثبت يكون في أحد أمرين: إما أن يكون التثبت في الشخص أو في الصيغة. فالتثبت من الشخص ذكره الأفاضل الزملاء، والتثبت من الصيغة أيضًا لا بد منه، كي لا يكون الموضوع داخلًا تحت كلمة ما يسمى عندنا ببلاد الشام الترسمل، بالصيغة ويريد أن يترسمل بها. ولكن الأهم من ذلك هو قضية رجوع الموجب على إيجابه متى يجوز وما هي ضوابطه؟ ويمكن أن يستأنس بما ذكرته في البحث المتواضع وما ذكره بعض الإخوة الباحثين الآخرين من الأفاضل العلماء ولكن لم تدر المناقشة حول هذا الموضوع وشكرًا.
سعادة الدكتور محمد نبيل غنايم:
أرى الحديث في نقطتين: النقطة الأولى حكم إجراء العقود بوسائل الاتصالات الحديثة، وهذه كما يبدو من البحوث أنها قد انتهت إلى إجازتها، ونحن مع هذا الرأي بعد الأخذ بالضوابط التي ذكرها الإخوة في الإيجاب والقبول والتثبت وعدم التزوير ونحو ذلك، أما النقطة الثانية فهي استفسارات بعض الإخوة عن بعض الأمور التي يظن أنها لم ترد في البحوث التي بين أيدينا، وهذه أرى أن آفتها ترجع إلى عدم القراءة، ويمكن معالجة هذه القضية بأمرين، الأمر الأول أن الأمانة العامة للمجمع تقوم بإرسال هذه البحوث قبل بدء انعقاد الدورة بوقت كافٍ حتى يتمكن الإخوة المشاركون من القراءة لهذه البحوث قراءة متأنية وواعية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أقترح على رئاسة الجلسة أن تتفضل بالإجابة عن استفسارات الإخوة المشاركين في المناقشة أحد الإخوة الباحثين أو على الأقل الأخ الذي يتولى عرض هذه البحوث لأن كثيرًا من النقاط التي يثيرها الإخوة موجودة في البحوث ويستطيع الإخوة الباحثون أن يردوا عليها ويكشفوا ما غمض منها.
فضيلة الشيخ محمود شمام:
كل الحاضرين هنا في هذا المجمع من السادة العلماء يطبقون في بلدانهم، عدا بلد واحد صانه الله وحفظه، قوانين وضعية موضوعه محددة معمول بها سواء كانت هذه القوانين مأخوذة عن الفقه الإسلامي أم لا، فهذا أمر واقع ومحسوس ولا بد من الاعتراف به ولا بد من الاستئناس بهذه القوانين لعرفة ما هو واقع في بلادنا، هذه القوانين تطبق في بلداننا والمجمع الإسلامي مدعو حفظه الله لأن يقرر من الناحية الفقهية الإسلامية، وإذا قرر المجمع الإسلامي موضوعًا فسوف نحاول جميعًا إصلاح هذه القوانين، لأن كل هذه القوانين هي قابلة للإصلاح والتغيير لأنها من وضع البشر، ونحن نحاول هذا من باب تغيير المنكر، ولذلك لا يمكن لنا أن نقول: لا يجب علينا أن نتعرض لهذه القوانين، فهذا أمر معمول به في بلادنا لا يمكن جحوده ونكرانه. فيما يتعلق بوسائل الإثبات، هنا في المجمع، إنما نتعرض وتحدث للمبادئ الأصولية التي يجب أن تطبق. أما فيما يتعلق بالشكليات وما يتعلق بوسائل الإثبات، فهذا أمر مفروغ منه، فوسائل الإثبات سواء كانت في الفقه الإسلامي أو في القوانين الموضوعة حديثًا تطبق في كل العقود وفي كل المراسم، سواء كنت هذه تتعلق بوسائل الإثبات أو بغيرها، ولذلك من الأحسن ألا نتعرض إطلاقًا لوسائل الإثبات، فالأمر المفروغ منه إذا كان العقد متفقًا عليه فإن هذا هو الموضوع، وأما إذا حصل اختلاف بين المتعاقدين فإنه يمكن الرجوع حينئذٍ إلى وسائل الإثبات الاعتيادية، الأمر الثالث الذي أردت أن ألاحظه من الناحية الشكلية، الإخوة الكرام اعتادوا ربما بحكم المهنة، أن يناقشوا المواضيع وكأنهم يناقشون أطروحات قدمت إليهم، ونحن نناقش مواضيع ولا نناقش بعضنا، نناقش آراءنا بصر النظر عن كون البحوث قد تعرضت لهذا أو لم تتعرض، فنحن عندما كتبنا هذه المواضيع بذلنا مجهودات جبارة في شأنها وأتينا بما أمكننا جمعه فيها ولذلك لا يمكن أن نتهم بعضنا البعض بالتقصير أو القصور. الناحية الشكلية الأخرى أنا اتصلت بمواضيع منذ أشهر عديدة أي منذ ثلاثة أشهر تقريبًا وراجعتها كلها وهي موجودة في داري في تونس ولذلك لا يمكن أن ننتقد الأمانة العامة التي تبذل مجهودات كبيرة في هذا الموضوع.
فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي:
لعلّي قد قصرت في بيان وجهة نظري، قلت إنه إذا كان هناك المجمع وهو مجمع الفقه الإسلامي لمجموع العالم الإسلامي وليس لبلد واحد، والبحوث التي تقدم وفيها التعرض للقانون، قلت: فيها إما أن تتعرض لكل القوانين الموجودة، أما أن يتعرض المغربي للمغرب والجزائري للجزائر والتونسي لتونس والليبي لليبيا والمصري لمصر، فهذا لا يفيدنا في الموضوع لأنه ما كان هذا الموضوع دراسة مقارنة في بلد خاص وإنما قلت إن الأصل هو الفقه الإسلامي.
والتعرض لتأويل كلامي هو الذي دفعني لأبين هذا.
فضيلة الشيخ هارون خلف جيلي:
النقطة التي تجعلني أتكلم بعض الشيء هي نقطة لم أسمعها من واحد من الباحثين أو لم أرها من واحد من الباحثين ولم أسمعها من أحد الإخوة المشاركين في المداولات وهي: أولًا كنت أود أن نقسم العقود إلى أقسام كثيرة، لأن العقود كثيرة، وأدوات الاتصال الحديثة هي ربما ليست بكثيرة. وأنا أود أن أقول مسألة بسيطة، وهي مسألة النكاح مثلًا، النكاح عقد من العقود اللازمة، والبيع كذلك، ولكن بينهما بون شاسع، ولا أود أن نقول: إن كليهما سيان بالنسبة للعقد بهذه الآلات، آلات الاتصال الحديثة، فأرجو أن يستثنى المجمع الكريم في قرارته بهذه الحيثية الإنسانية، عقد النكاح لا يكون بهذه الأدوات، أدوات الاتصال الحديثة، فأنا أرجو من حضرتكم أن تعتبروا هذا الاستثناء نحن لا نقول إن عقد النكاح يمكن بواسطة هذا الاتصال.
فضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد:
لعله يتضح من مجموع الأبحاث والمناقشات التي حصلت، الاتفاق على أن الأصل في إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة هو الجواز، وأن آلات الاتصال هي في الواقع تنقسم إلى ثلاثة أقسام – وليس إلى قسمين -:
1-
اللفظي منها.
2-
الخطي أي الذي يكون بخط المتعاقدين أو أحدهما وما آخره حدث إنتاجي وهو الفاكس.
3-
الكتابي كما هو معلوم في البرقيات والتلكس.
الأمر الثالث: المهم في هذا هو أن هناك ثلاث قضايا مهمة أرجو من لجنة الصياغة أن تأخذ البحث فيها بالاعتبار، وهو إجراء العقد في الأموال الربوية التي يشترط فيها التقابض في مجلس العقد.
الثاني ما يتعلق بالنكاح نظرًا لمسألة الاحتياط للأبضاع واشتراط الشهود.
والمسألة الثالثة ما يتعلق ببيع السلم. فهذه الأمور الثلاثة لعلها تتلخص من مجموع الأبحاث وإن كان لم يأت في المناقشة إلا شيء قليل في ما تعلق بالنكاح.
الشيخ محمد المختار السلامي:
هناك شيء غير واضح، ما معنى أموال ربوية؟ الأموال الربوية إذا بيع القمح بالقمح، أما إذا بيع القمح بالذهب أو الفضة فلا يشترط التقابض.
الرئيس:
الكلام على العقود التي يشترط فيها التقابض في مجلس العقد. المهم أنهم المشار إليها في الأبحاث، بعد هذا قد ترون مناسبًا تأليف اللجنة من كل من المشايخ:
1-
الشيخ عبد الله محمد عبد الله.
2-
الشيخ الدكتور إبراهيم كافي دونمز.
3-
الشيخ الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي.
4-
الشيخ القاضي محمد تقي العثماني.
5-
الشيخ الدكتور علي محيي القره داغي.
6-
الشيخ محمد الحاج الناصر.
الإجماع:
موافقون، وترفع الجلسة.
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (54/3/6)
بشأن
حكم إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 إلى 23 شعبان 1410هـ الموافق 14-20 آذار (مارس) 1990م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة) ،
ونظرًا إلى التطور الكبير الذي حصل في وسائل الاتصال وجريان العمل بها في إبرام العقود لسرعة إنجاز المعاملات المالية والتصرفات،
وباستحضار ما تعرض له الفقهاء بشأن إبرام العقود بالخطاب وبالكتابة وبالإشارة وبالرسول، وما تقرر من أن التعاقد بين الحاضرين يشترط له اتحاد المجلس (عدا الوصية والإيصاء والوكالة) وتطابق الإيجاب والقبول، وعدم صدور ما يدل على إعراض أحد العاقدين عن التعاقد، والمولاة بين الإيجاب والقبول بحسب العرف.
قرر:
1-
إذا تم التعاقد بين غائبين لا يجمعهما مكان واحد، ولا يرى أحدهما الآخر معاينة، ولا يسمع كلامه، وكانت وسيلة الاتصال بينهما الكتابة أو الرسالة أو السفارة (الرسول) ، وينطبق ذلك على البرق والتلكس والفاكس وشاشات الحاسب الآلي (الكمبيوتر) ففي هذه الحالة ينعقد العقد عند وصول الإيجاب إلى الموجه إليه وقبوله.
2-
إذا تم التعاقد بين طرفين في وقت واحد وهما في مكانين متباعدين، وينطبق هذا على الهاتف واللاسلكي، فإن التعاقد بينهما يعتبر تعاقدًا بين حاضرين وتطبق على هذه الحالة الأحكام الأصلية المقررة لدى الفقهاء المشار إليها في الديباجة.
3-
إذا أصدر العارض بهذه الوسائل إيجابًا محدد المدة يكون ملزمًا بالبقاء على إيجابه خلال تلك المدة، وليس له الرجوع عنه.
4-
إن القواعد السابقة لا تشمل النكاح لاشتراط الإشهاد فيه، ولا الصرف لاشتراط التقابض، ولا السلم لاشتراط تعجيل رأس المال.
5-
ما يتعلق باحتمال التزييف أو التزوير أو الغلط يرجع فيه إلى القواعد العامة للإثبات.