الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم إعادة اليد
بعد قطعها في حد شرعي
إعداد
فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع
القاضي بمحكمة التمييز بالمنطقة الغربية
وعضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه.. وبعد
فإجابة للرغبة الكريمة من معالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في إعداد بحث يتعلق "بحكم إعادة اليد بعد قطعها في حد شرعي،.. وحيث سبق أن عرض هذا الموضوع على مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في دورته السادسة والعشرين فأجل النظر في ذلك حتى يتم إعداد بحث يتضمن كلام أهل العلم في الموضوع نفسه تمهيداً لدراسة ذلك في دورته السابعة والعشرين ثم أعد البحث من قبل الأمانة العامة لمجلس هيئة كبار العلماء في المملكة.. وبعد الاطلاع عليه صدر بخصوصه قرار من المجلس بعدد (136) في 17/6/1406هـ، وفيما يلي نص من البحث المعد من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية:
بسم الله الرحمن الرحيم:
الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه.
وبعد:
فمن المعلوم أن الشرائع السماوية يقصد بها عدة أمور من أهمها أربعة:
الأول: معرفة الله وتوحيده وتمجيده ووصفه بصفات الكمال وتنزيهه عما لا يليق بجلاله وعظمته.
الثاني: معرفة كيفية أداء عبادته المحتوية على تعظيمه وشكر نعمه التي لا تعد ولا تحصى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} .
الثالث: الحث على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والتحلي بالأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة، والمزايا التي تسمو بالمرء إلى مراتب الشرف والرفعة.
الرابع: إيقاف المتعدي عند حده بوضع الأحكام المقررة في المعاملات والحدود والعقوبات والزواجر والتعزيرات الرادعة لمن يخالف ما قرره الشرع في ذلك (1)
الحكمة من إقامة الحدود:
إن الله سبحانه وتعالى وإن كان قد جعل لمن يرتكب الذنوب والآثام ويعمل المعاصي عقاباً يوم القيامة.
إلا أن ذلك لا يمنع أهل الشر وأصحاب النفوس الضعيفة عن ارتكاب ما يضر بالمصلحة العامة أو الخاصة في الحياة الدنيا.
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعلة لا يظلم
وأيضاً فإن من الناس من له قوة وسلطان لا يقدر المظلوم الضعيف على أخذ حقه منه وبذلك تضيع الحقوق ويعم الفساد.
وهدف الشريعة الإسلامية من فرض العقوبة هو إصلاح النفوس وتهذيبها والعمل على سعادة الجماعة البشرية، ذلك لأن للإسلام في العقاب رأياً ينفرد به.
(1) من كتاب "حكمة التشريع وفلسفته " للشيخ علي الجرجاوي، أحد علماء الأزهر - الطبعة الرابعة، الجزء الأول: ص 7 و 8، ببعض التصرف البسيط.
من أجل ذلك وضع الله الحدود وضعاً شرعياً كافلاً لراحة البشر في كل زمان ومكان حتى يكون الناس في مأمن وتمتنع الجرائم التي ترتكب، فكل فعل سيىء يحدث في الأرض قد لا يمكن إصلاحه إلا بالعقوبة.
فالعقوبة إذا مصلحة للمجتمع، وليس في الشريعة ما يمنع من أن تكون أسباب المصالح مفاسد فيؤمر بها أو تباح لا لكونها مفاسد بل لكونها مؤدية إلى المصالح بل إن دفع الضرر مقدم على جلب المنافع.
جاء في قواعد الأحكام
…
ربما كانت أسباب المصالح مفاسد فيؤمر بها أو تباح، لا لكونها مفاسد، بل لكونها مؤدية إلى المصالح، وذلك كقطع الأيدي المتآكلة حفظاً للأرواح، وكالمخاطرة بالأرواح في الجهاد، وكذلك العقوبات الشرعية كلها ليست مطلوبة لكونها مفاسد بل لكون المصلحة هي المقصودة من شرعها كقطع يد السارق وقاطع الطريق، وقد سميت مصالح من قبيل المجاز بتسمية السبب باسم المسبب (1)
وجاء في موضع آخر منها: الأطباء يدفعون أعظم المرضين بالتزام بقاء أدناهما ويجلبون أعلى السلامتين والصحتين ولا يبالون بفوات أدناهما وإن الطب كالشرع وضع لجلب مصلحة السلامة والعافية ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام ولدرء ما أمكن درؤه من ذلك ولجلب ما أمكن (2) فالعقوبات شرعت لمصلحة تعود إلى كافة الناس.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: إن الله أوجب الحدود على مرتكبي الجرائم التي تتقاضاها الطباع، وليس عليها وازع طبعي، والحدود عقوبات لأرباب الجرائم في الدنيا كما جعلت عقوبتهم في الآخرة بالنار إذا لم يتوبوا، ثم إنه تعالى جعل التائب من الذنب كمن لا ذنب له، فمن لقيه تائباً توبة نصوحاً لم يعذبه مما تاب منه" (3)
ويقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: (شرعت العقوبات رحمة من الله تعالى بعباده فهي صادرة عن رحمة الخلق وإرادة الإحسان اليهم، ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة بهم كما يقصد الوالد تأديب ولده، وكما يقصد الطبيب معالجة المريض)(4)
(1) قواعد الأحكام، للعز بن عبد السلام: 1/12.
(2)
قواعد الأحكام، للعز بن عبد السلام: 1/ 4.
(3)
أعلام الموقعين: 3/ 156.
(4)
اختيارات ابن تيمية: ص 593.
ويقول الدهلوي رحمه الله تعالى في كتابه حجة الله البالغة: (اعلم أن من المعاصي ما شرع الله فيه الحد وذلك كل معصية جمعت وجوهاً من المفسدة بأن كانت فساداً في الأرض واقتضاباً على طمأنينة المسلمين وكانت لها داعية في نفوس بني آدم لا تزال تهيج فيها، ولها ضراوة لا يستطيعون الإقلاع منها بعد أن أشربت قلوبهم بها وكان فيه ضرر لا يستطيع المظلوم دفعه عن نفسه في كثير من الأحيان، وكان كثير الوقوع فيما بين الناس فمثل هذه المعاصي قد لا يكفي فيها الترهيب بعذاب الآخرة بل لا بد من إقامة ملامة شديدة عليها وإيلام ليكون بين أعينهم ذلك فيردعهم عما يريدونه. ثم مثل ببعض المعاصي إلى أن قال: وكالسرقة فإن الإنسان كثيراً ما لا يجد كسباً صالحا فينحدر إلى السرقة ولها ضراوة في نفوسهم ولا تكون إلا اختفاء بحيث لا يراه الناس)(1)
حرمة التعدي على المال وأثر قطع يد السارق:
اهتم الإسلام بالأموال اهتماماً عظيما وحماها حتى جعل المال شقيق الروح ومقارناً لها في الحرمة فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)) ، وقال أيضاً في خطبته المشهورة:((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذ)) .
فحمى المال من أن تمتد إليه أيدي العابثين وتطلعات الطامعين فهددهم بالويل والثبور وعظائم الأمور حبساً أو قطعاً أو قتلاً أو صلباً أو تشريداً ذلك جزاؤهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار.
(1) حجة الله البالغة للشيخ أحمد المعروف بشاه ولي الله المحدث الدهلوي - الطبعة الأولى بالمطبعة الخيرية لصاحبها السيد عمر حسين الخشاب سنة 322اهـ، الجزء الثاني، ص 118.
كما نهى سبحانه وتعالى عن كل ما يجر إلى أكل أموال الناس بالباطل فحرم التعامل بالربا وجعله من أكبر الكبائر لما يجلبه من الأحقاد والضغائن. وحرم المقامرة والرشوة ونحوهما وحرم أكل أموال اليتامى والضعفاء وأكل صداق المرأة إلا ما طابت به نفسها. وجملة القول: أن الاعتداء على أموال الناس بأي وجه من الوجوه حرام سواء أكان عن طريق الكذب أو التحايل أو المماطلة والنصب أو جحد العارية والغش في المعاملة وأكل الأجور ومنعها أصحابها إلى غير ذلك مما يستحله أصحاب النفوس الضعيفة.
وفي مقدمة هذه الكبائر جريمة السرقة التي نهى عنها الإسلام وحذر منها. وتحريمها ثابت في كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وإجماع السلف الصالح، وليس هذا محل تفصيله.
وقد رتب الله سبحانه وتعالى عليها حد قطع اليد مما يدل على أن فاعلها قد ارتكب كبيرة من الكبائر وفعل جرماً عظيما فقال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} .
فقد نصت هذه الآية الكريمة على أن عقوبة السارق قطع يده ولا خلاف بين الفقهاء ممن يعتد بقولهم في أن المراد بالقطع في الآية الكريمة: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} هو إبانة اليد وإزالتها لأن لفظ القطع موضوع لها حقيقة لتبادرها منه، والتبادر أمارة الحقيقة كما هو مقرر عند علماء اللغة.
قال ابن منظور في كتابه لسان العرب (1) القطع إبانة بعض أجزاء الجسم من بعض فصلاً، والقطع مصدر قطعت الحبل قطعاً والأقطع المقطوع اليد، ويد قطعاء أي مقطوعة.
والأحاديث الشريفة والآثار الصحيحة تؤيد هذا المعنى وتدل عليه. وليس هذا مكان ذكرها وتفصيلها.
(1) انظر لسان العرب: 10/149.
ولا شك أن قطع اليد في السرقة عقوبة لها أثرها في القضاء على هذه الجريمة.
والشريعة الإسلامية المحكمة تهدف من وراء ذلك إلى حماية الجماعة وحفظها حتى تقضي قضاء تاماً على خطر يهدد الناس في أموالهم، وما يتبع ذلك من ترويع وإذلال. فلقد أحكم الشارع الحكيم وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجناية وشرعها على أكمل الوجوه مع عدم مجاوزة ما يستحقه الجاني من عقاب حتى يكون العقاب مكافئاً للجريمة، ولم يترك تحديد العقاب على السرقة إلى اجتهاد أو نظر أو رأي جماعة لما في ذلك من التناقض الذي لا تؤمن عاقبته ولا يضمن فيه تحقيق العدالة التي يجد الناس فيها أماناً من الظلم والقهر بل إن من رحمته سبحانه وتعالى بعباده ورأفته بهم أن تكفل بتقدير العقوبات عل الخطير من الجرائم حتى تحفظ الضروريات الخمس - التي هي حفظ النفس، وحفظ الدين، وحفظ النسل، وحفظ العرض، وحفظ المال. وجعل لكل جريمة عقوبة تناسبها قد يخفى علينا تعقلها ومعرفة الحكمة منها.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في هذا المعنى ما نصه (1)
فلما تفاوتت مراتب الجنايات لم يكن بد من تفاوت مراتب العقوبات، وكان من المعلوم أن الناس لو وكلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك، وترتيب كل عقوبة عل ما يناسبها من الجناية جنساً ووصفاً وقدراً لذهبت بهم الآراء كل مذهب، وتشعبت بهم الطرق كل مشعب ولعظم الاختلاف واشتد الخطب، فكفاهم أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين مؤونة ذلك، وأزال عنهم كلفته، وتولى بحكمته وعدله ورحمته، تقديره نوعاً وقدراً ورتب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة وما يليق بها من النكال. اهـ. فالإسلام في أهدافه السامية معني بتوفير الحياة الكريمة والعيش المطمئن ولا يكون ذلك إلا بحماية الفضيلة، والقضاء على الفساد والرذيلة، وكل ما شأنه أن يدنس واجهة الإسلام التي أرادها نقية ناصعة، ولما كانت الغاية السامية تبرر الوسيلة الحازمة، وأن القسوة والشدة ليست شراً دائما كان من العدل الضرب بشدة على يد من لا يراعي مصلحة الجماعة، ومن لا يرحم الناس لا يرحمه الله، فالعدل كل العدل أن يعاقب من يستحق العقاب، وليس أجدر بذلك النوع من العقاب الأ المجرمون الذين تقتضي طبيعة جرائمهم أن تتم في الخفاء الذي يترك الرهبة والرعب الشديد في نفوس الناس.
(1) انظر أعلام الموقعين لابن قيم الجوزية: 2/96.
وقد قال الله تعالى بعد تقرير عقوبة السرقة: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} .
فإن هذا النص يدل على أن العقوبة مكافئة ومساوية للجريمة بكل آثارها الناتجة عنها مما تحدثه السرقة من ترويع وإفساد، وكل ما يمكن السارق من تحقيق مآربه ولو أدى ذلك إلى القتل فإن طبيعة السارق موسومة بالشراهة والنهم، فلا يهمه إلا ما يحصل عليه من أموال الناس، من أجل ذلك شدد الشارع في تلك العقوبة حتى يردع الآثم ويطمئن الآمن.
ولما كانت العقوبة مرتبة على ما تشيعه السرقة من خوف واضطراب بدليل أن الشارع قطع يد السارق في ربع دينار، كما قطع سارق الأكثر. ولو كان القطع على ذات الفعل لتفاوتت العقوبة في كل منهما (1)
يقول العز بن عبد السلام في قواعده (2) إن السرقتين استويتا في المفسدتين، وما ذلك إلا بأثرهما على الجماعة وإلا فإنه لا وجه لتساويهما كما هو ظاهر. وقد جعل الله تلك العقوبة نكالا تمنع الغير من ارتكاب السرقة اعتباراً بما وقع للسارق المقطوعة يده من شدة وحزم. وإن مادة النكال من نكل بفلان إذا صنع به صنعاً يحذر منه غيره إذا رآه ومنه قول الله تعالى:{فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} ، أي عبرة.
ولا عبرة أعظم من قطع يد السارق في السرقة يفتضح بها صاحبها طول حياته، ويوسم بميسم الخزي والعار يلاحقه حتى مماته. ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى (3)
(1) مكافحة جريمة السرقة في الإسلام: ص 204.
(2)
1/40.
(3)
أعلام الموقعين: 2 /103.
ومن المعلوم أن عقوبة الجناة والمفسدين لا تتم إلا بمؤلم يردعهم ويجعل الجاني نكالاً وعظة لمن يريد أن يفعل مثل فعله وعند هذا فلا بد من إفساد شيء منه بحسب جريمته في الكبر والصغر والقلة والكثرة. ويقول العز بن عبد السلام في قواعده الفقهية (1) من أمثلة الأفعال المشتملة على المصالح والمفاسد مع رجحان مصالحها على مفاسدها قطع يد السارق، فإنه إفساد لها ولكنه زاجر حافظ لجميع الأموال فقدمت مصلحة حفظ الأموال على مفسدة قطع يد السارق. اهـ. ومن الحكمة في قطع اليد ما قاله الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره حيث قال {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} : هذا تعليل للحد، أي اقطعوا أيديهما جزاء لهما بعملهما وكسبهما السيىء ونكالا وعبرة لغيرهما، فالنكال مأخوذ من النكل وهو (بالكسر) قيد الدابة ونكل عن الشيء عجز أو امتنع لمانع صرفه عنه.
فالنكال هنا ما ينكل الناس ويمنعهم أن يسرقوا، ولعمر الحق أن قطع اليد الذي يفضح صاحبه طول حياته، ويسمه بميسم الذل والعار وهو أجدر العقوبات بمنع السرقة، وتأمين الناس على أموالهم، وكذا على أرواحهم، لأن الأرواح كثيراً ما تتبع الأموال، إذا قاوم أهلها السراق عند العلم بهم، إلى أن قال: فهو سبحانه يضع الحدود والعقوبات بحسب الحكمة التي توافق المصلحة (2)
(1) 1/166
(2)
تفسير المنار: 6/ 380.
وقال الدهلوي في معرض كلامه على السرقة وما يتعلق بها ما نصه:
وقال صلى الله عليه وسلم في سارق "اقطعوه ثم احسموه " أقول إنما أمر بالحسم لئلا يسري فيهلك، فإن الحسم سبب عدم السراية. وأمر عليه السلام باليد فعلقت في عنق السارق أقول إنما فعل هذا للتشهير وليعلم الناس أنه سارق. (1) أما الفقهاء رحمهم الله تعالى فلم يتعرضوا في كتبهم في الغالب لعلة الحكم الشرعي أو حكمة تشريعه بل جل اهتمامهم بذكر الأحكام فقط اللهم إلا بالنزر القليل الذي يأتي في معرض الكلام كقول السرخسي من جملة كلامه على قوله عليه الصلاة والسلام في حق السارق ((اذهبوا به فاقطعوه)) فيه دليل على أن القطع للزجر لا للإتلاف لأنه أمر بالحسم بعد القطع وهو دواء وإصلاح يتحرز به عن الإتلاف، وفيه دليل على أن التطهير لا يحصل بالحد إذا كان مصراً على ذلك، ولأنه خزي ونكال، وإنما التطهير والتكفير به في حق التائب (2)
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى تحت عنوان (لماذا قطعت يد السارق ولم يقطع فرج الزاني) فصل: وأما معاقبة السارق بقطع يده وترك معاقبة الزاني بقطع فرجه ففي غاية الحكمة والمصلحة، وليس في حكمة الله تعالى ومصلحة خلقه وعنايته ورحمته بهم أن يتلف على كل جان كل عضو عصاه به فيشرع قلع عين من نظر إلى المحرم وقطع أذن من استمع إليه، ولسان من تكلم به، ويد من لطم غيره عدواناً.
ولا خفاء بما في هذا من الإسراف والتجاوز في العقوبة، وقلب مراتبها، وأسماء الرب الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الحميدة تأبى ذلك.
وليس مقصود الشرع مجرد الأمن من المعاودة ليس إلا، ولو أريد هذا لكان قتل صاحب الجريمة فقط، وإنما المقصود الزجر والنكال والعقوبة على الجريمة، وأن يكون إلى كف عدوانه أقرب، وأن يعتبر به غيره، وأن يحدث له ما يذوقه من الألم توبة نصوحاً، وأن يذكره ذلك بعقوبة الأخرة إلى غير ذلك من الحكم والمصالح.
(1) حجة الله البالغة: 2/123
(2)
المبسوط لشمس الدين السرخسي. الطبعة الثالثة، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت – لبنان: 9/ 141 – 142
ثم إن في حد السرقة معنى آخر وهو أن السرقة إنما تقع من فاعلها سراً كما يقتضيه اسمها ولهذا يقولون: فلان ينظر إلى فلان مسارقة إذا كان ينظر إليه نظراً خفياً لا يريد أن يفطن له، والعازم على السرقة مختف كآثم خائف أن يشعر بمكانه فيؤخذ به، ثم هو مستعد للهرب والخلاص بنفسه إذا أخذ الشيء.
واليدان للإنسان كالجناحين للطائر في إعانته على الطيران، ولذلك يقال وصلت جناح فلان إذا رأيته يسير منفرداً فانضممت إليه لتصحبه، فعوقب السارق بقطع اليد قصا لجناحه، وتسهيلاً لأخذه إن عاود السرقة فإذا فعل به هذا في أول مرة بقي مقصوص أحد الجناحين ضعيفاً في العدو ثم يقطع في المرة الثانية رجله فيزداد ضعفاً في عدوه، فلا يكاد يفوت الطالب، ثم تقطع يده الأخرى في الثالثة ورجله الأخرى في الرابعة، فيبقى لحما على وضم، فيستريح ويريح. اهـ. (1)
ويقول في موضع آخر - وأما القطع فجعله عقوبة مثله عدلاً وعقوبة السارق فكانت عقوبة به أبلغ وأردع من عقوبته بالجلد ولم تبلغ جناية حد العقوبة بالقتل فكان أليق العقوبات به إبانة العضو الذي جعله وسيلة إلى أذى الناس، وأخذ أموالهم، ولما كان ضرر المحارب أشد من ضرر السارق وعدوانه أعظم ضم إلى قطع يده قطع رجله ليكف عدوانه وشر يده التي بطش بها، ورجله التي سعى بها، وشرع أن يكون ذلك من خلاف لئلا يفوت عليه منفعة الشق بكماله، فكف ضرره وعدوانه، ورحمه بأن أبقى له يداً من شق ورجلاً من شق (2)
(1) أعلام الموقعين للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى تحقيق وضبط عبد الرحمن الوكيل طباعة دار الكتب الحديثة شارع الجمهورية بعابدين: 2/ 95، 96.
(2)
أعلام الموقعين للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى تحقيق وضبط عبد الرحمن الوكيل طباعة دار الكتب الحديثة شارع الجمهورية بعابدين: ص 84.
ويقول رحمه الله تعالى في موضع آخر: فصل: وأما قطع يد السارق في ثلاثة دراهم وترك قطع المختلس والمنتهب والغاصب فمن تمام حكمة الشارع أيضاً، فإن السارق لا يمكن الاحتزاز منه فإنه ينقب الدور، ويهتك الحرز ويكسر القفل، ولا يمكن صاحب المتاع الاحتزاز أكثر من ذلك، فلو لم يشرع قطعه لسرق الناس بعضهم بعضاً وعظم الضرر، واشتدت المحنة بالسراق، بخلاف المنتهب والمختلس، فإن المنتهب هو الذي يأخذ المال جهرة بمرأى من الناس فيمكنهم أن يأخذوا على يديه، ويخلصوا حق المظلوم، أو يشهدوا له عند الحاكم (1)
وقال عبد الرحمن الجزيري: حد السرقة من الحدود الثابتة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة فذكر الله تعالى حده في الآية الكريمة. وأمر بقطع يد السارق ذكراً كان أو أنثى، عبداً، أو حراً، مسلما أو غير مسلم صيانة للأموال وحفظاً لها، ولقد كان قطع يد السارق معمولاً به في الجاهلية قبل الإسلام فلما جاء الإسلام أقره وزاد عليه شروطاً معروفة (2) إلى أن قال: ولهذا علل الله تعالى قطع اليد في السرقة بقوله عز وجل: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} ، أي تقطع مجازاة على صنيعهما السيىء في أخذهما أموال الناس بأيديهما فناسب أن يقطع العضو الذي استعانا به على ذلك:{نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} ، أي تنكيلاً من الله بهما على ارتكاب ذلك الفعل، وعبرة لغيرهما، فإن قطع اليد يفضح صاحبه طول حياته ويجلب له الخزي والعار ويسقطه في نظر المجتمع، وهو أجدر العقوبات بمنع السرقة، وتأمين الناس على أموالهم وأرواحهم، وأعراضهم.
(1) أعلام الموقعين للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى تحقيق وضبط عبد الرحمن الوكيل طباعة دار الكتب الحديثة شارع الجمهورية بعابدين ص 44.
(2)
كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، تأليف عبد الرحمن الجزيري - المجلد الخامس: ص 153.
وها هنا سؤال معروف وهو أن قطع اليد فيه إتلاف لعضو من أعضاء الإنسان وذلك لا يتناسب مع الجريمة إذا كانت يسيرة، فإن أقل ما تقطع فيه اليد عشرة دراهم فالعقوبة شديدة. وهذا الكلام منشؤه الغفلة عن معنى الجريمة، وعن الآثار الضارة المترتبة عليها، فإنك قد عرفت أن هذه الجريمة من أشد الجرائم خطورة، فإذا فشت السرقة بين الناس فقد هددوا في أموالهم، وأعراضهم وأنفسهم كما ذكرنا وأصبحت حياتهم مريرة لا فائدة منها، فإن السارق كالحيوان المفترس الذي يفتك بكل ما يلاقيه، فجريمته يجب أن تقابل بالقسوة المتناهية كي ينقطع دابرها من بين الناس بتاتاً فإذا تخيل شخص أن العقوبة شديدة فإنه يجب أن يعلم أن فظاعة الجريمة وآثارها في المجتمع أشد وأنكى، ثم إن العقوبات لم توضع إلا لزجر فاسدي الأخلاق وهؤلاء لا ينزجرون بالرفق واللين بدون نزاع، فإذا لم تتمثل أمامهم شدة العقوبة فإنهم لا ينزجرون أبداً (1)
وقال الشيخ علي أحمد الجرجاوي أحد علماء الأزهر (2) ما نصه: (حكمة عقاب السارق) إن الذين لم يفقهوا هذا الدين الحنيف الذي جاء شاملاً لكل منفعة بني الإنسان ولم يقفوا على حقيقة العلل الشرعية التي لأجلها جعلت العقوبات متنوعة في الشدة. هؤلاء يقولون إن عقاب السارق بهذا الشكل مضر ببني الإنسان وليس فيه مصلحة للأمة.
(1) كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، تأليف عبد الرحمن الجزيري - المجلد الخامس: ص 191.
(2)
انظر كتاب حكمة التشريع وفلسفته للشيخ علي الجرجاوي أحد علماء الأزهر - الطبعة الرابعة، الجزء الثاني: ص 295 - 299.
وهذا القول منقوض مردود وهووهم وليس من الحكمة في شيء ولأجل أن نوقف هؤلاء الناقدين والطاعنين على الإسلام في وجوب العقاب هكذا نبين لهم بقدر الإمكان ضرر السرقة، ثم نكل إلى ذوي العقول منهم الحكم بعد ذلك.
أولاً: إن المرء يكد ويكدح في هذه الحياة طلباً للرزق وما يقوم به أود حياته إما بفلح الأرض واستثمارها فيصهر جلده لعاب الشمس في الصيف ويهري أطرافه الزمهرير في الشتاء، وهكذا من المشاق التي يعانيها الفلاح المسكين كما هو مشاهد لنا برأي العين، وإما بالسفر مشياً على القدمين أو ركوباً على الدابة معرضاً نفسه للوحوش الضارية والسباع الكاسرة في فسيح الفلوات وبين الجبال والوهاد، يترقب الخطر كل لحظة وأخرى والطامة الكبرى إذا فقد الزاد فإنه يقع بين خطرين عظيمين وهما فقد الأمن والزاد. وفي هذه الحالة يكون الموت والهلاك منه قاب قوسين أو أدنى، هذا مع بعد المسافات واحتمال الحر والبرد. وإما بركوب السفن فيكون دائما معرضاً للخطر إذا هبت الرياح الهوج وهاج البحر واضطرب وجرت السفينة في موج كالجبال خصوصاً إذا كان البر بعيدا والقاع عميقاً في المحيطات الكبرى الفسيحة اللجج والغمرات. وقد يكون الريح ساكنا فتتعطل السفينة إذا لم تكن بخارية وتطول الشقة ويفنى الزاد، وهكذا من وعثاء السفر وإما بالاتجار في البضائع وهو في بلده فيوماً يربح ويوماً يخسر. وآونة يفقد رأس المال وهو في كلتا الحالتين يبقى دائما في همين. هم وقوع الخسارة إذا لم يربح أو فقد رأس المال فهو دائما في كد وكدح وهم ونصب. وإما بمباشرة الصناعة التي تهد الجبال وتفني الجسد. وإما بالخدمة في الحكومة أو غيرها فهو دائما في تعب وذل لسطوة الرؤساء وغطرستهم وعقابهم إياه أهمل أو لم يهمل، بل لمجرد الصولة والسطوة، وربما كان عقابه قطع راتبه شهراً أو أقل أو أكثر أو الرفت في بعض الأوقات، فيكون الضرر أعظم كما لا يخفى. وهلم جراً من الأعمال التي يعانيها الإنسان في سبيل الكسب والتي يعرض لأجلها روحه على الموت، والتي تدعو أرباب الأعمال في كثير من الأحايين إلى الإضراب عن العمل وتوقف الحركة فيختل النظام ويجرد الحسام كما هو واقع في الشرق والغرب.
ثانياً: إن هذه الأموال التي يكتسبها الإنسان بالكد والكدح تصرف إما للقوت وهو قوام الحياة، وإما على الملبس وعليه وقاية الجسد. وإما لإعانة الفقراء والمساكين وأبناء السبيل، واليتامى، والمرضى، وذوي البيوتات التي لا يحصى عددها الذين أخنى عليهم الدهر. وقل ما شئت في وجوه الصرف التي لا يحصى عددها. والتي عليها قوام الحياة، ونظام هذا الكون، فيجتهد الإنسان هذا الاجتهاد في الكسب لهذه الأغراض الشريفة. ثم يأتي اللص فيسلبه ثمرة أتعابه سلباً هو في الحقيقة تقويض لدعائم العمران والأمن العام للأسباب التي سلفت.
ثالثاً: إن اللص قد يسرق سلباً ونهباً بالإغارة على الناس وهم آمنون في ديارهم فيزعجهم ويقلق راحتهم. وربما أدت الحالة إلى إراقة الدماء فتذهب الأرواح وتيتم الأطفال وترمل النساء كما هو الحال في بلاد الأرياف وبعض المدن.
رابعاً: إن السارق إذا تعود السرقة مالت نفسه إلى الكسل والبطالة، فتتعطل حركة الأعمال ويحل بالعالم النكال والوبال ويأكل الناس بعضهم بعضاً لجلب ما يحتاجون إليه من ضروريات الحياة.
إذا عرفت هذا، عرفت أن اللص عضو فاسد في جسم الأمة يجب تلافي شره.
ومن حكمة الشارع أنه جعل العقوبة على الجارحة التي استعان بها على السرقة وهي اليد التي تناول بها المسروق، والرجل التي سعى بها ليسرق، فإذا ما شاهد الناس سارقاً أو سارقة في الطريق بهذا الشكل ارتعدت فرائصهم من لفظ سرق - يسرق - سارق - مسروق - فضلاً عن مباشرة السرقة فعلاً. ولنام الناس في بيوتهم وهي مفتحة الأبواب.
وكذا خزائن الأموال. ولا حارس لهم إلا عدل هذا الشارع الحكيم، ولخلت السجون من اللصوص، ولما احتاجت الحكومات إلى إتعاب الفكر في إيجاد أنجع الطرق والوسائل التي تقطع دابر اللصوص، ولما احتاجت للجند والشرطة اللهم إلا لعدو في الحرب أو طارق لا للص وسارق.
والحكمة في قطع الرجل عند العودة، والحبس إذا تكررت السرقة من السارق هو أن الإبقاء على اليد والرجل يمكنه الارتزاق بقدر الإمكان فلا يكون عولاً على الناس، إذا لمراد من القطع هو لأجل الاتعاظ والعقوبة. أما العقوبة فقد حصلت. وأما الاتعاظ فهو يحصل بالقطع إذا رآه الناس (1)
وعن أهمية قطع يد السارق وتنفيذ هذه العقوبة حسبما أمر به الشرع يقول
عبد القادر عودة ما نصه: ثانياً - القطع - أساس القطع: الأصل في القطع قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} .
وعقوبة القطع لا يجوز العفو عنها لا من المجني عليه ولا من رئيس الدولة، ولا يجوز أن تستبدل بها عقوبة أخرى أخف منها. والأصل في ذلك ما روي عن رسول الله عليه السلام (تجافوا العقوبة فيما بينكم، فإذا انتهي بها إلى الإمام فلا عفا الله عنه إن عفا) كذلك لا يجوز تأخير تنفيذ العقوبة أو تعطيلها وهذه المبادىء متفق عليها (2)
(1) من كتاب حكمة التشريع وفلسفته - الجزء الثاني من صفحة 295 - 299.
(2)
التشريع الجنائي - عبد القادر عودة 2/621 الطبعة الثانية مكتبة دار العروبة - شارع الجمهورية بالقاهرة.
وقال في موضع أخر: وعلة فرض عقوبة القطع للسرقة أن السارق حينما يفكر ني السرقة إنما يفكر في أن يزيد كسبه بكسب غيره، فهو يستصغر ما يكسبه عن طريق الحلال ويريد أن ينميه من طريق الحرام، وهو لا يكتفي بثمرة عمله فيطمع في ثمرة عمل غيره، وهو يفعل ذلك ليزيد من قدرته على الإنفاق أو الظهور أو ليرتاح من عناء الكد والعمل أو ليأمن على مستقبله، فالدافع الذي يدفع إلى السرقة ويرجع إلى هذه الاعتبارات وهو زيادة الكسب أو زيادة الثراء وقد حاربت الشريعة الإسلامية هذا الدافع في نفس الإنسان بتقرير عقوبة القطع لأن قطع اليد أو الرجل يؤدي إلى نقص الكسب إذ اليد والرجل كلاهما أداة العمل أياً كان، ونقص الكسب يؤدي إلى نقص الثراء، وهذا يؤدي إلى نقص القدرة على الإنفاق وعلى الظهور ويدعو إلى شدة الكدح وكثرة العمل والتخوف الشديد على المستقبل.
فالشريعة الإسلامية بتقريرها عقوبة القطع دفعت العوامل النفسية التي تدعو لارتكاب الجريمة بعوامل نفسية مضادة تصرف عن جريمة السرقة، فإذا تغلبت العوامل النفسية الداعية وارتكب الإنسان الجريمة مرة كان في العقوبة والمرارة التي تصيبه منها ما يغلب العوامل النفسية الصارفة فلا يعود للجريمة مرة ثانية.
ذلك هو الأساس الذي قامت عليه عقوبة السرقة في الشريعة الإسلامية، وإنه لعمري خير أساس قامت عليه عقوبة السرقة من يوم نشأة عالمنا حتى الآن. وإنه السر في نجاح عقوبة السرقة في الشريعة الإسلامية قديماً. وهو السر الذي جعلها تنجح نجاحاً باهرا في الحجاز في عصرنا هذا فتحوله من بلد كله فساد واضطراب ونهب وسرقات إلى بلد كله نظام وسلام وأمن وأمان.
لقد كان الحجاز قبل أن تطبق فيه الشريعة الإسلامية أخيراً أسوأ بلاد العالم أمناً فكان المسافر إليه أو المقيم فيه لا يأمن على نفسه وماله وعياله ساعة من ليل، بل ساعة من نهار بالرغم مما له من قوة وما معه من عدة، وكان معظم السكان لصوصاً وقطاعاً للطرق، فلما طبقت الشريعة أصبح الحجاز خير بلاد العالم كله أمناً يأمن فيه المسافر والمقيم، وتترك فيه الأموال على الطرقات دون حراسة فلا تجد من يسرقها أو يزيلها من مكانها على الطريق حتى تأتي الشرطة فيحملونها إلى حيث يقيم صاحبها (1) ويقول السيد سابق في معرض كلامه عن حد السرقة وحكمة التشديد في العقوبة فيها: وشدد في السرقة فقضى بقطع يد السارق التي من شأنها أن تباشر السرقة وفي ذلك حكمة بينة إذ أن اليد الخائنة بمثابة عضو مريض يجب بتره ليسلم الجسم، والتضحية بالبعض من أجل الكل مما اتفقت عليه الشرائع والعقول. كما أن في قطع يد السارق عبرة لمن تحدثه نفسه بالسطو على أموال الناس، فلا يجرؤ أن يمد يده إليها، وبهذا تحفظ الأموال وتصان. يقول الله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، إلى أن قال: والحكمة في تشديد العقوبة في السرقة دون غيرها من جرائم الاعتداء على الأموال هي ما جاء في شرح مسلم للنووي: قال القاضي عياض رضي الله عنه: صان الله الأموال بإيجاب القطع على السارق، ولم يجعل ذلك في غير السرقة كالاختلاس والانتهاب والغصب، لأن ذلك قليل بالنسبة إلى السرقة، ولأنه يمكن استرجاع هذا النوع بالاستدعاء إلى ولاة الأمور، وتسهل إقامة البينة عليه بخلاف السرقة فإنها تندر إقامة البينة عليها فعظم أمرها واشتدت عقوبتها ليكون أبلغ في الزجر عنها:(2) .
(1) التشريع الجنائي الإسلامي: 1/ 652 و 653.
(2)
فقه السنة لسيد سابق، الجزء الثاني، نشر دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان: ص 485.
ويقول أحمد الحصري - وقد أجمع المسلمون على وجوب قطع يد السارق دون نكير ممن يعتد بآرائهم وأفكارهم.
المعقول: قال الشافعية المال من أهم دعائم الحياة فيجب الحفاظ عليه من أن تعبث به يد اللصوص ويجب أن يأمن الناس على أموالهم حتى تستقر أمورهم وتنتظم حياتهم، ولقد وردت السنة تفيد وتؤكد وجوب الدفاع عن المال واعتبار من يموت دفاعا عن ماله أنه مات في سبيل الله.
ولهذا كان لا بد للشارع الحكيم من أن يشرع من العقوبات ما يحفظ بها المال من الضياع ويؤمن أصحاب الأموال على أموالهم حتى تسير أمور المسلمين على خير حال.
فكانت عقوبة السرقة عقوبة رادعة زاجرة مؤكدة تصميم الشارع على عدم ترك العابثين يعبثون دون ردع وزجر فكانت العقوبة هي قطع اليد الآثمة السارقة.
وقد حاول الزنادقة والمغرضون من أعداء الإسلام التشكيك على الشريعة في الفرق بين دية اليد، إذا اعتدي عليها من إنسان وبين وجوب قطعها عقوبة على سرقة دراهم معدودة.
فقال أبو العلاء المعري:
يد بخمس مئين عسجد وديت
ما بالها قطعت في ربع دينار
وأجابه القاضي عبد الوهاب المالكي بقوله:
وقاية النفس أغلاها وأرخصها
ذل الخيانة فافهم حكمة الباري
وهذا الرد هو جواب بديع مع الاختصار ومعناه أن اليد لو كانت تودى بما قطع فيه لكثرت الجنايات على الأطراف لسهولة الغرم في مقابلتها لكن الشارع الحكيم وقاية للنفوس غلظ الغرم على الأطراف حفظاً لها.
قال ابن الجوزي: وقد سئل عن شدة العقوبة في السرقة في مقابل مال زهيد بينما اليد التي تقطع عقوبة لهذه الجريمة قيمتها لو اعتدي عليها يزيد أضعافاً مضاعفة على قيمة المسروق الذي تقطع فيه قال: لما كانت اليد أمينة كانت ثمينة فلما خانت هانت. اهـ (1)
ويقول الدكتور محمد فاروق النبهان: أود أن أشير إلى أن حد القطع هو حد من حدود الله أريد به حماية المجتمع من أخطار من يهددون أمنه واستقراره، فالسرقة جريمة من الجرائم الأساسية التي يعاني منها مجتمعنا المعاصر، وكم سقطت ضحايا نتيجة هذه الجريمة الشرسة التي لم تستطع القوانين الجزائية المعاصرة أن تضع حداً لها، بل إن الإحصائيات تشير إلى أن هذه الجرائم تزداد مع الزمن ولا تختص بالمجتمعات المتخلفة والفقيرة، وإنما هي ظاهرة نجدها بصورة أكثر شراسة ووحشية في المجتمعات المتقدمة والغنية، حيث نجد العصابات الإرهابية تأخذ طابعاً مميزاً في جرائمها الوحشية التي تأنف منها إنسانية الإنسان.
وإن الذين يتباكون على اليد المقطوعة التي روعت المجتمع بجرائمها أولى بهم أن يتباكوا أيضاً على الضحايا الذين يسقطون بالمئات نتيجة أعمال النهب والسلب في كل مجتمع من المجتمعات المعاصرة، ويد واحدة تقطع على ملأ من الناس كفيلة بردع كل مجرم، وزجر كل من تسول له نفسه أن يتخذ من السرقة باباً من أبواب الرزق.
(1) الحدود والأشربة في الفقه الإسلامي، تأليف أحمد الحصري، أستاذ الفقه المقارن بالجامعة الأردنية - الناشر مكتبة الأقصى عمان: ص 374، 375.
وإذا كان علماء القانون الجزائي يضعون النظريات المثالية التي يستدرون بها الدموع ويستجدون بها العواطف على المجرمين، فأولى بهؤلاء أن ينظروا ولو مرة واحدة إلى الجرائم المروعة الدامية التي تحل بالآمنين المطمئنين من السكان الذين استسلموا أو ألقوا سلاحهم اعتماداً على الأمن والاستقرار والحماية التي توفرها أجهزة الأمن لهم من خلال التشريعات الجزائية الواقية.
وقطع يد السارق هي عقوبة السماء فأولى بالبشر أن يتمسكوا بهذه العقوبة الرادعة الزاجرة التي ما أريد بها إلا حماية المجتمع وحماية أمنه واستقراره.
ولتكف الأعين الدامعة أسى وحزناً على المجرمين، وإذا كان المجرم يستحق نظرة رحمة وشفقة فإن البريء بدون شك هو أحوج لهذه النظرة البريئة (1)
أقول: وخلاصة ذلك أن الله لما خلق الإنسان وفضله وكرمه على كثير من خلقه فقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} ، وقال سبحانه وتعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} ، فقد أنزل سبحانه وتعالى من الأحكام على يد رسله الذين اصطفاهم واختارهم وكان الهدف من هذه الأحكام التي أنزلها على رسله هو المحافظة على الإنسان الذي كرمه على سائر خلقه، فكانت هذه الأحكام تهدف إلى المحافظة على الأرواح والأموال والأعراض والعقول وغيرها من مقاصد تنظيم المجتمع تنظيما دقيقاً ناجحا، ومن هذه الأغراض والمقاصد الأساسية التي تهدف إليها الشريعة الغراء - المحافظة على مال الإنسان ونفسه.
ولذلك فقد شرع الله حد السرقة وهو قطع يد السارق: لأن السرقة تؤدي إلى إتلاف المال وضياعه، والمال مخلوق لوقاية النفس والمحافظة عليها. فكانت الحكمة من شرعية حد السرقة هي المحافظة على المال وعلى النفس وعلى العرض.
(1) مباحث في التشريع الجنائي الإسلامي، للدكتور محمد فارون النبهان، الناشر - وكالة المطبوعات بالكويت، ودار القلم ببيروت، لبنان: ص 366، 367.
كما أن السرقة إذا انتشرت في قوم سادهم الخوف والقلق وعدم الاستقرار، وإذا سادت هذه الأشياء مجتمعاً من المجتمعات فلن يصلح حاله. ولن يتقدم مهما كانت أسباب التقدم فيه ولقد خلق الله المال حماية للإنسان يقول تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} .. ويقول الشاعر:
أصون عرضي بمالي لا أدنسه
لا بارك الله بعد العرض في المال
ولا يمكن المحافظة على النفس، أو العقل، أو النسل إلا به. لذا كانت ضرورته للحياة ملحة وكان مقصداً شرعياً لتضامن الأدلة على حفظه ورعايته قال تعالى:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} .
والسارق لما أخذ مال غيره خفية وظلما، وبغياً وعدواناً، وكان أكبر مساعد له على فعله اليد التي امتدت لأخذه وانبسطت لسلبه، كانت أحق بالعقوبة دون سائر الجوارح لذلك أوجب الله قطعها، لأن بها البطش والسطو - زجراً واعتباراً كيلا تمتد يد لسرقه، ولا تحدث نفس صاحبها بها أصلاً - لأنه إذا علم أنه إن سرق بترت يمينه، وشوهت بنيته، ونقصت خلقته وصار مثلاً يضرب، وعاراً يذكره الناس به إذا مشى خصوصاً إذا علقت يده في عنقه. (على رأي من قال بذلك من العلماء أو حسبما يراه ولي الأمر نكاية وزجراً لغيره، امتنع عن مجر التفكير فيها، فلأجل هذا أوجب الدين الإسلامي قطع يد السارق ليكون ذلك ردعاً ومنعاً من هذه الفعلة الشنيعة وقطعاً لدابر من تسول لهم أنفسهم بإخافة المجتمع وتعكير صفوه.
فإن يد الإنسان عزيزة إذا كانت أمينة، فإذا خانت الأمانة هانت واستحقت القطع. وقال الشاعر في معنى ذلك:
عز الأمانة أغلاها وأرخصها
ذل الخيانة فافهم حكمة الباري
وباستقراء ما سبق وتأمله نكاد نستخلص من حد قطع اليد الأهداف التي منها ما يلي:
ا - الشريعة الإسلامية تهدف من العقوبات والحدود أن ينال الجاني جزاءه مقابل ما اقترفه من جريمة. وخصوصاً حدود الجرائم التي قررها الشارع الحكيم.
2 -
أنه لا يجوز العفو عنها متى علم بها الحاكم الشرعي إذا كانت حقاً لله وحده ولا يجوز تأخير تنفيذها إلا بمسوغ شرعي، يدل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يقبل الشفاعة في المخزومية التي سرقت وقال مقالته المشهورة: لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) .
3 -
هذه العقوبة وهذا الجزاء فيه الردع والمنع لنفس الجاني ولغيره من الجناة الذين يفكرون في فعل مماثل لفعله، فحينما يرى السارق يده قد قطعت ويرى الآخرون ذلك ماثلاً أمام أعينهم يكون ذلك مانعاً قوياً من الجريمة مهما كانت.
4 -
بما أن الله سبحانه وتعالى عبر عن ذلك بأقوى الألفاظ وأوضح المعاني الدالة على إبانة العضو بقطعه حيث قال جل وعلا: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، فإذن الجزاء لا يتم إلا بالقطع والنكال لا يتم إلا برؤية اليد المقطوعة. والذي شرع هذا هو أرحم الراحمين وهو أعلم بما يصلح عباده.
5 -
إن الشارع الحكيم لو قصد أن ينال السارق غير عقوبة القطع لشرعها ابتداء فكأن الإعادة بعد القطع بمثابة الجرح المعالج أو الكسر الذي عولج بالتجبير فانتفت الحكمة أو الهدف من القطع ويكون في ذلك تغيير لأمر الله الذي أمر بالقطع.
6 -
من أهم أهداف القطع (والله أعلم) هو إظهار هذا السارق بين الملأ وتنقيصه بمظهر ينبىء عن خسته ودناءته وينفر المجتمع منه وليعرف من يراه أنه مجرم ومن ثم يحذر منه ومن أن يفعل مثل فعله، ويكون عبرة أمام غيره ممن تسول لهم نفوسهم ارتكاب هذا الذنب العظيم. وليس الغرض منه مجرد الألم بالقطع فهناك عقوبات آلم من القطع.
7 -
في إقامة الحد معنى الزجر أي ردع الغير عن الإقدام على السرقة أو أن يعيث في الأرض فساداً، وفيها معنى الإجبار أي الإجبار مرتكب السرقة على عدم العودة إليها.
8 -
في إعادة يد السارق إسدال للستار على هذه الجريمة ونفي للحكمة التشريعية من إقامة حدها.
9 -
في الأمر بتعليق يد السارق على عنقه حسبما يقول به بعض العلماء زيادة في التشهير به وبيان لبعض حكمة مشروعية القطع إذ بالتعليق يشتهر أكثر ويظهر أمره.
10 -
كما أن في الأمر بالحسم لموضع القطع دليل على عدم جواز الإعادة إذ يعتبر بمثابة العلاج الذي يبقيها على حالتها بعد قطعها - والله أعلم.
11 -
أما في القصاص أيضاً فإن الحدود تعتبر موانع وزواجر، فإن الجاني بالقتل أو الجرح أو القطع إذا عرف أنه يؤخذ منه ما أخذ ويفعل به كما فعل كف عن فعلته التي أرادها.
12 -
إقامة الحدود تعتبر أيضاً روادع وموانع قبل الفعل فالعلم بشرعيتها يمنع الإقدام على الفعل زواجر بعده أي أن إيقاعها بعده يمنع العود إليه.
13 -
يعتبرها بعض العلماء جوابر بمعنى إن اقترف جريمة من جرائمها ثم أقيم عليه الحد، فإن إقامة الحد عليه تعتبر كفارة لجريمته إذا تاب منها وردعه أيضاً عن الإقدام على أن يفعل مثل ما فعل من جرم.
وجملة القول في ذلك:
ا - إن الشريعة الإسلامية جاءت لحفظ مصالح الخلق، ومقاصدها لا تعدو أن تكون ضرورية أو حاجية أو تحسينية.
(أ) فالضرورية هي التي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا إذا تحققت أحكامها جرت أحوال العباد في دنياهم على استقامة، وفازوا في الآخرة بجنات النعيم، وإذا فقدت فاتتهم الحياة السعيدة، وعاشوا في تهارج وفساد، وباؤوا في الأخرة بالخسران المبين وتنحصر تلك الضروريات في حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وهي مراعاة في جميع الشرائع الإلية.
(ب) والحاجية هي التي يراعى فيها التوسعة ورفع الضيق إلى المشقة والحرج لكنها دون ما شرعت له الضروريات، كالرخص في العبادات، وكالقراض والمساقاة وإلغاء التوابع في العقد على المتبوعات في المعاملات، وضرب الدية على العاقلة في الجنايات.
(ج) والتحسينيات هي التي شرعت لحفظ مكارم الأخلاق كالطهارات والتقرب بالنوافل المشروعة وآداب الأكل والشرب والمنع من بيع فضل الماء والكلأ وأمثال ذلك في العبادات والمعاملات والعادات.
2 -
أنه تعالى شرع الحدود والتعزيرات حماية لمقاصد الشريعة، وحفظاً لمصالح العباد ضرورية وحاجية وتحسينية، فأوجب حد القتل في الردة مثلاً، والتعزير في وسائلها، حفظاً للدين وأوجب القصاص حفظاً للنفس والأطراف، والتعزير فيما قد يفضي إلى ذلك من سباب وتشاجر ونميمة وظن سوء وشهر سلاح في المجامع العامة الآمنة، وأوجب الجلد والرجم في الزنا، حفظاً للنسل والأنساب والأعراض، وشرع التعزير في وسائله من خلوة بأجنبية، وسفر امرأة بلا محرم أو زوج ونحو ذلك، وأوجب الحد في شرب الخمر حفظاً للعقل، وحرم وسائلها، وشرع فيها التعزير، وأوجب قطع اليد في السرقة حفظاً للمال.
وكل ما ذكر من حدود وتعزيرات فيه ردع للناس، وزجر لهم عن ارتكاب الجرائم الموجبة لها والمؤدية إليها، وحفظ للأمن العام، وبعث للطمأنينة في النفوس، واستقرار لأوضاع الحياة، ومنع للهرج والاضطراب في المجتمع، إلى غير هذا مما تصير به العيشة هنيئة، والحياة سعيدة، حضراً وسفراً، ولذلك شرع إعلان هذه العقوبات، ليتحقق أثرها في الجاني وغيره ممن شاهد أو بلغه إقامة الحد (1)
3 -
إن استبشاع بعض الناس قطع يد السارق، واعتبارهم إياه في زعمهم - وحشية، وتشويهاً لخلق الإنسان وتقليلاً للأيدي العاملة - ومدعاة للتسول إنما نشأ ذلك من جهلهم بالعواقب، ورعاية لمصالح المجتمع، والمنهاج السوي الذي رسمه العليم الخبير الرؤوف الرحيم لقيادة الأمم وسياستهم بما فيه صلاح الجميع، وإن فات في سبيل ذلك بعض المصالح الجزئية الخاصة، فإن رعاية المصلحة العامة الكلية أحق وأولى من رعاية المصلحة الجزئية الخاصة.
(1) المسألة الأولى من النوع الأول في مقاصد الشريعة من الجزء الثاني من كتاب الموافقات للشاطبي.
ثم ان دعواهم أن قطع يد السارق يترتب عليه تقليل اليد العاملة، وأنه مدعاة للتسول دعوى باطلة، فإن إقامة الحد عليه من شأنها في السنة الكونية وما دلت عليه التجارب العملية منع تكرار الجريمة أو تقليلها حتى لا تقع إلا نادراً، وبذلك لا تتعطل الأيدي العاملة، ولا يتأثر العمل في الحياة بما قطع منها نادراً، ولا يكون ذلك أيضاً مدعاة للتسول، فإن طرق الكسب الحلال كثيرة يسهل على من قطعت يده أن يجد سبيلاً من بينها يتناسب مع حاله، وإن كان أقل كسباً ممن لم تقطع يده، لكنه خير له من اللصوصية، والاعتداء على أموال الناس وسلبهم إياها بغير حق، وإزعاج الأمة، والذهاب بأمنها على مالها أو نفسها ودمها، بل التسول أخف شراً من آثار السرقة وما ينشأعنها من الخطر والبلاء العام، فليعطف هؤلاء على الأمة وليرثوا لمصابها بدلاً من أن يحنوا حنواً كاذباً على المجرم الأثيم وليرحموا المجتمع في أمنه الذي حرمه، وطمأنينته التي سلبها، وليردوا إليه سلبه بالقضاء على هذا، ففي ذلك العدل والإنصاف واستقامة الأمور، وراحة الرعية والحكام (1)
4 -
والمقصود الأهم أن ليس المراد بحد القطع مجرد إيلام السارق والتنكيل به وقتياً، وردعه وردع الناس عن هذه الجريمة ووسائلها بمشاهدة القطع وإعلانه حال التنفيذ، بل القصد أيضاً أن يرى الجاني يده مقطوعة كلما حدثته نفسه بالعودة إلى مثل فعلته الخبيثة، فيكف خشية أن يصاب بمثل ما أصيب به من قبل ويزداد بلاؤه، ويتجدد خزيه وعاره، وليراه الناس كلما واجهوه واختلط بهم، وشاهدوا أثر الحد، فيحذروه وينتبهوا لمكانه منهم، ويتقوا غائلته ذلك بأن أثر هذا الحد شعار ينادي في الناس عند كل مناسبة أن انتبهوا إلى ذات أيديكم وخذوا حذركم حتى لا تسلب أموالكم (2)
بهذا يأمن الناس على ما ملكت أيمانهم وعلى أنفسهم، وتطمئن بهم مضاجعهم وينامون ملء أعينهم إذ لا خوف ولا إزعاج، بل الأمن والسلام، وما أعظمهما نعمة على العالمين.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
عبد الله سليمان بن منيع
(1) يرجع لكلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وكلام ابن القيم، وكلام الدكتور الشافعي وغيرها من البحث.
(2)
يرجع لكلام العز ابن عبد السلام، وكلام الشيخ رشيد رضا، وكلام الشيخ عبد الرحمن الجزيري، وكلام الدكتور فاروق النبهان من البحث.
وفيما يلي نص قرار مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية.
قرار رقم (36 1) وتاريخ 17/6/1406
الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله نبينا محمد وآله وصحبه ومن اتبع هداه.. وبعد:
فإن مجلس هيئة كبار العلماء في دورته السابعة والعشرين العادية المنعقدة بمدينة الرياض ابتداء من 6/6/1406 قد ناقش الموضوع المتعلق بحكم إعادة اليد المقطوعة في حد إلى صاحبها بعملية جراحية وكان قد سبق للمجلس أن بحث هذا الموضوع في دورته السادسة والعشرين ورأى إعداد بحث فيه يتضمن كلام أهل العلم في الموضوع ثم يعاد عرضه في الدورة السابعة والعشرين وقد تم إعداد البحث المطلوب واستمع المجلس إلى خلاصته، ولما كان تشريع الله سبحانه وتعالى للحدود والتعزيرات تحقيقا لمقاصد الشريعة وحفظاً لمصالح العباد وإن في الحدود والتعزيرات ردعاً للناس وزجراً لهم عن ارتكاب الجرائم الموجبة لها والمؤدية إليها وحفظاً للأمن العام وبعثاً للطمأنينة في النفوس واستقراراً لأوضاع الحياة ومنعاً للهرج والاضطراب في المجتمع إلى غير ذلك مما تصير به العيشة هنيئة والحياة سعيدة حضراً وسفراً ولذلك شرع إعلان هذه العقوبات ليتحقق أثرها في الجاني وغيره ممن شاهد الحد أو بلغته إقامته، لهذا كله ولما ظهر للمجلس بعد البحث والمناقشة وتداول الرأي في هذا الموضوع الهام قرر المجلس بالإجماع أنه لا يجوز إعادة اليد المقطوعة في حد إلى صاحبها، لأن المقصود من القطع الزجر والردع لا الإيلام فقط.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء رئيس الدورة
عبد الله خياط عبد الرازق عفيفي عبد العزيز بن صالح
إبراهيم بن محمد آل الشيخ محمد بن جبير عبد العزيز بن عبد الله بن باز
صالح بن غصون عبد المجيد حسن سليمان بن عبيد
بعد الله بن منيع صالح اللحيدان راشد بن خنين
عبد الله بن غديان