الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البيع بالتقسيط: نظرات في التطبيق العملي
إعداد
فضيلة الدكتور علي أحمد السالوس
الأستاذ بكلية الشريعة بجامعة قطر
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
إن الحمد لله، نحمده سبحانه وتعالى ونستعينه ونستهديه، ونسأله عز وجل أن يجنبنا الزلل في القول والعمل. ونصلي ونسلم على رسله الكرام، وعلى أولهم، وخاتمهم المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن قرار المجمع الموقر في دورته الخامسة بجواز بيع المرابحة الذي تجريه المصارف الإسلامية بضوابط الشرعية يغنينا عن بحث جواز البيع بالتقسيط من حيث المبدأ ما دام مستوفيًا هذه الضوابط الشرعية.
والبحث الذي قدمته للدورة السابقة في بيع المرابحة كان تحت عنوان:
(نظرات في التطبيق العملي)
وكان من توصيات المجمع: أن تدرس الحالات العملية لتطبيق (المرابحة للآمر بالشراء) لدى المصارف الإسلامية، لوضع أصول تعصم من وقوع الخلل في التطبيق، وتعين على مراعاة الأحكام الشرعية العامة أو الخاصة ببيع المرابحة للآمر بالشراء.
فرأيت أن أجعل هذا البحث مستمدًّا من هذه التوصية، فأنظر إلى الجانب العملي التطبيقي لبيع التقسيط بصفة عامة، ليضع المجمع الكريم الأصول التي جاء ذكرها في التوصية.
وقسمت البحث إلى خمسة فصول:
الأول: زيادة البيع الآجل عن الحال.
الثاني: التأخر في دفع الأقساط.
الثالث: ضع وتعجل.
الرابع: الاحتفاظ بملكية المبيع أو رهنه.
الخامس: أثر الموت في حلول الأجل.
ونسأل الله عز وجل أن يمدنا بعون منه، وأن يهدينا سواء السبيل، إنه نعم المولى ونعم النصير وهو المستعان.
الفصل الأول
زيادة البيع الآجل عن الحال
ذكر النقد والنسيئة:
الشائع المنتشر في بيع التقسيط زيادة ثمن المبيع عن البيع الحالّ، وإذا لم يشر إلى البيع الحالّ، واتفق البيعان من البداية على بيع التقسيط بالضوابط الشرعية، فالبيع صحيح عند المذاهب الأربعة والجمهور. وقال زين العابدين على بن الحسين، والناصر والمنصور بالله، والهادوية، والإمام يحيى، يحرم بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء (1)
ولعل الصواب مع الجمهور، وما يأتي من الأدلة يبين الجواز ويمنع التحريم، وإن كان التاجر الذي ينزل بالنسيئة إلى سعر النقد يعتبر ذا فضل ومروءة، إذا كان مراعاة لحل المشتري.
والغالب في بيع التقسيط أن يذكر أيضًا سعر البيع نقدًا، فما الحكم هنا؟ روى أحمد، بسند رجاله ثقات، عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال " ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة)) .
قال سماك – راوي الحديث: هو الرجل يبيع البيع فيقول: هو بنسأ بكذا، وهو بنقد بكذا وكذا.
قال الشافعي وأحمد في تفسير هذا: بأن يقول بعتك بألف نقدًا أو ألفين إلى سنة، فخذ أيهما شئت أنت وشئت أنا. ونقل ابن الرفعة عن القاضي أن المسألة مفروضة على أنه قبل على الإبهام. أما لو قال: قبلت بألف نقدًا، أو بألفين بالنسيئة، صح ذلك (2) .
قال الخطابي وابن الأثير: لا يجوز أن يقول: بعتك هذا الثوب نقدًا بعشرة أو نسيئة بخمسة عشر، لأنه لا يدري أيهما الثمن الذي يختاره منهما فيقع به العقد، وإذا جهل الثمن بطل البيع.
وحكي عن طاوس أنه قال: لا بأس أن يقول له: بعتك هذا الثوب نقدًا بعشرة، وإلى شهرين بخمسة عشر، فيذهب به إلى إحداهما (3)
(1) انظر نيل الأوطار: 5/172
(2)
انظر ما سبق، وعون المعبود: 9/333
(3)
انظر الموضع السابق من عون المعبود، والنهاية: 1/173.
وما رواه عبد الرازق عن الثوري، يفسر ما رواه ابن أبي شيبة، عن يحيى بن زكريا، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)) .
والحديث بإسناده رواه أبو داود عن ابن شيبة (1)
وفي الإسناد محمد بن عمرو بن علقمة، وقد تكلم فيه غير واحد. والمحفوظ هو لفظ:((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة)) . رواه أحمد، والنسائي، والترمذي وصححه، والشافعي، ومالك في بلاغاته (2) .
قال الخطابي بعد أن ذكر أن المشهور هو الرواية الأخيرة.
وأما رواية يحيى بن زكريا عن محمد بن عمرو على الوجه الذي ذكره أبو داود فيشبه أن يكون ذلك في حكومة في شيء بعينه، كأنه أسلفه دينارًا في قفيز بر إلى شهر، فلما حل الأجل، وطالبه بالبر، قال له: يعني القفيز الذي لك على بقفيزين إلى شهرين. فهذا بيع ثانٍ، وقد دخل على البيع الأول، فصار بيعتين في بيعة، فيردان إلى أوكسهما – أي أنقصهما – وهو الأصل. فإن تبايعا البيع الثاني قبل أن يتقابضا الأول كانا مربيين.
وبعد أن انتهى صاحب عون المعبود من شرح حديث أبي داود، ونقل كثيرًا من الأقوال، قال: وبهذا يعرف أن رواية يحيى بن زكريا فيها شذوذ كما لا يخفى (3)
والشوكاني بعد أن شرح الروايات التي ذكرت حت باب بيعتين في بيعة، قال: وقد جمعنا رسالة في هذه المسألة وسميناها " شفاء العلل في حكم زيادة الثمن لمجرد الأجل ". والعلة في تحريم بيعتين في بيعة: عدم استقرار الثمن في صورة بيع الشيء الواحد بثمنين، والتعليق بالشرط المستقبل في صورة بيع هذا على أن ييع منه ذاك، ولزوم الربا في صورة القفيز الحنطة (4) .
(1) انظر عون المعبود: 9/332، باب فيمن باع بيعتين في بيعة
(2)
انظر نيل الأوطار: 5/171-172
(3)
انظر عون المعبود: 9/332
(4)
انظر نيل الأوطار: 5/172 –173
ويؤخذ مما سبق أن المنع ليس زيادة الثمن في بيع التقسيط، وإنما في جهالة الثمن إذا لم يقع البيع باتا على النقد أو النسيئة، أما إذا اتفق البيعان على بيعة واحدة من البيعتين في مجلس العقد صح البيع.
ومما يؤيد ما سبق ما رواه عبد الرزاق في مصنفه (8/136) تحت باب البيع بالثمن إلى أجلين:
فروى عن الزهري، وطاوس وابن المسيب، أنهم قالوا: لا بأس بأن يقول: أبيعك هذا الثوب بعشرة إلى شهر، أو بعشرين إلى شهرين، فباعه على أحدهما قبل أن يفارقه، فلا بأس به. وروى مثله عن قتادة.
وروى عن الثوري قال: إذا قلت: أبيعك بالنقد إلى كذا، وبالنسيئة بكذا وكذا، فذهب به المشتري، فهو بالخيار في البيعين ما لم يكن وقع بيع على أحدهما. فإن وقع البيع هكذا فهذا مكروه وهو بيعتان في بيعة وهو مردود وهو الذي ينهى عنه فإن وجدت متاعك بعينه أخذته، وإن كان قد استهلك فلك أوكس الثمنين، وأبعد الأجلين.
وفي كتاب البيوع والأقضية من مصنف ابن أبي شيبة (6/119) جعل بابًا عنوانه: الرجل يشتري من الرجل المبيع فيقول: إن كان نسيئة فبكذا، وإن كان نقدًا فبكذا.
ومما رواه في هذا الباب:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا بأس أن يقول للسلعة: هي بنقد بكذا وبنسيئة بكذا، ولكن لا يفترقا إلا عن رضا، وعن شعبة قال: سألت الحكم وحمادًا عن الرجل يشتري من الرجل الشيء فيقول: إن كان بنقد فبكذا، وإن كان إلى أجل فبكذا، قال: " لا بأس إذا انصرف على أحدهما. قال شعبة: فذكرت ذلك للمغيرة، فقال: كان إبراهيم لا يرى بذلك بأسًا إذا تفرق على أحدهما.
تحديد الثمن وفوائد التقسيط:
من العقود التي اطلعت عليها وجدت البائع يذكر ثمن السلعة، ثم يذكر فوائد مدة التقسيط، فيقول مثلًا: ثمن السيارة خمسون ألفًا، يدفع عند التعاقد خمسة آلاف ويقسط الباقي على عشرة أشهر، وبعد هذا نجد عبارة: فوائد التأخير خمسة آلاف.
فيكون قيمة القسط الشهري خمسة آلاف.
وهذا يعني ربط الزيادة بالدين ومدته، ولذلك إذا رأى المشتري أن يعجل بأداء الدين تخصم منه الفوائد، ويدفع الباقي كأنه اشترى نقدًا من بدء التعاقد، وإذا أراد أن يدفع بعض الأقساط فقط قبل موعدها، تخصم فوائد هذه الأقساط، وإذا تأخر في دفع الأقساط – كلها أو بعضها – عن موعدها، تحسب فوائد تأخير إضافية تعادل سعر الفائدة السائد، وهكذا. وأعتقد أن التحريم هنا واضح جلي.
خصم البائع كمبيالات الأقساط المؤجلة لدى بنك ربوي:
يقصد بالخصم (1)(أو القطع) دفع البنك لقيمة الكمبيالة قبل ميعاد استحقاقها، بعد خصم مبلغ معين يمثل فائدة القيمة المذكورة عن المدة بين تاريخ الخصم وميعاد الاستحقاق، مضافًا إليها عمولة البنك ومصاريف التحصيل.
والخصم عقد قرض ربوي كما بينت بالتفصيل في البحث الذي قدمته للمؤتمر الثاني للمجمع، وفي أكثر من كتاب من كتبي.
وعند الشراء بالتقسيط قد يأخذ البائع من المشتري كمبيالات بقيمة الأقساط، وهي قابلة للتظهير، أي نقل الملكية، ثم يقوم بعملية (الخصم أو القطع) لدى بنك ربوي، فتصبح العلاقة بين المشتري وبين البنك، وهي علاقة مدين بدائن، ويخضع المدين هنا لسعر الفائدة الربوية التي يحددها البنك في ظل القانون الوضعي.
(1)(1) من تعريفات الخصم ما يلي: (أ) إن الخصم اتفاق يعجل به الخاصم لطالب الخصم قيمة ورقة تجارية أو سند قابل للتداول أو مجرد حق آخر، مخصومًا منها مبلغ يتناسب مع المدة الباقية حتى استيفاء قيمة الحق عند حلول أجل الورقة أو السند أو الحق، وذلك في مقابل أن ينقل طالب الخصم إلى البنك هذا الحق على سبيل التمليك وأن يضمن له وفاءه عند حلول أجله. (ب) خصم السندات عقد يعجل المصرف بمقتضاه إلى حامل سند مالي على الغير لم يحل أجله دفع قيمته بعد اقتطاع الفائدة، على أن تنتقل ملكية السند إلى المصرف مقيدة بشرط استيفاء الدين عند حلول الأجل. (عمليات البنوك للدكتور علي جمال الدين – ص 496) . ويلاحظ في التعريفات وجود الفائدة نظير إقراض قيمة الورقة التجارية، فهي إذن قرض ربوي.
العينة والتورق:
تحدث شيخ الإسلام ابن تيمية عن الحيل الربوية، ومما قاله:
ومن ذرائع ذلك: " مسألة العينة " وهو أن يبيعه سلعة إلى أجل، ثم يبتاعها منه بأقل من ذلك. فهذا مع التواطؤ يبطل البيعين: لأنها حيلة. وقد روى أحمد وأبو داود بإسنادين جيدين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إذا تبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله: أرسل الله عليكم ذلًّا لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم)) . وإن لم يتواطآ فإنهما يبطلان البيع الثاني سدًّا للذريعة. ولو كانت عكس مسألة العينة من غير تواطؤ: ففيه روايتان عن أحمد، وهو أن يبيعه حالًّا، ثم يبتاع منه بأكثر مؤجلًا. وأما مع التواطؤ فربا محتال عليه.
ولو كان مقصود المشتري الدرهم وابتاع السلعة إلى أجل لبيعها ويأخذ ثمنها. فهذا يسمى: (التورق) . ففي كراهته عن أحمد روايتان. والكراهة قول عمر بن عبد العزيز ومالك، فيما أظن: بخلاف المشتري الذي غرضه التجارة، أو غرضه الانتفاع أو القنية، فهذا يجوز شراؤه إلى أجل بالاتفاق.
ففي الجملة: أهل المدينة وفقهاء الحديث مانعون من أنواع الربا منعًا محكمًا، مراعون لمقصود الشريعة وأصولها، وقولهم في ذلك هو الذي يؤثر مثله عن الصحابة، وتدل عليه معاني الكتاب والسنة. اهـ. (الفتاوى 29/30 –31) .
وقد فصل تلميذه العلامة ابن القيم القول في العينة والتورق وأثبت هنا من قاله بتمامه: قال عن العينة:
روى محمد بن عبد الله الحافظ المعروف بمطين في كتاب البيوع له عن أنس أنه سئل عن العينة، فقال: إن الله لا يخدع، هذا مما حرم الله ورسوله.
وروى أيضًا في كتابه عن ابن عباس قال: اتقوا هذه العينة، لا تبع دراهم بدراهم وبينهما حريرة.
وفي رواية أن رجلًا باع من رجل حريرة بمائة، ثم اشتراها بخمسين، فسئل ابن عباس عن ذلك، فقال دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينهما حريرة، وسئل ابن عباس عن العينة – يعني بيع الحريرة – فقال: " إن الله لا يخدع، هذا مما حرم الله ورسوله، وروى ابن بطة بإسناده إلى الأوزاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع)) ، يعنى العينة، وهذا المرسل صالح للاعتضاد به والاستشهاد، وإن لم يكن عليه وحده الاعتماد.
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته: أنها دخلت على عائشة هي وأم ولد زيد بن أرقم، وامرأة أخرى، فقالت لها أم ولد زيد: إني بعت من زيد غلاما بثمانمائة نسيئة واشتريته بستمائة نقدا فقالت: أبلغي زيدًا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن يتوب، بئسما شريت، وبئسما اشتريت. رواه الإمام أحمد وعمل به، وهذا حديث في شعبة، وإذا كان شعبة في حديث فاشدد يديك به، فمن جعل شعبة بينه وبين الله، فقد استوثق لدينه.
وأيضًا فهذه امرأة أبي إسحاق السبيعي – وهو أحد أئمة الإسلام الكبار – وهو أعلم بامرأته وبعدالتها، فلم يكن ليروي عنها سنة يحرم بها على الأمة وهي عنده غير ثقة ولا يتكلم فيها بكلمة، بل يحابيها في دين الله، هذا لا يظن بمن هو دون أبي إسحاق.
وأيضًا فإن هذه امرأة من التابعين قد دخلت على عائشة وسمعت منها وروت عنها، ولا يعرف أحد قدح فيها بكلمة، وأيضًا فإن الكذب والفسق لم يكن ظاهرًا في التابعين بحيث ترد به روايتهم.
وأيضًا فإن هذه المرأة معروفة، وسمها العالية، وهي جدة إسرائيل، كما رواه حرب من حديث إسرائيل: حدثني أبو إسحاق عن جدته (العالية) يعني جدة إسرائيل، فإنه إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، والعالية امرأة أبي إسحاق، وجدة يونس وقد حملا عنها هذه السنة – وإسرائيل أعلم بجدته وأبو إسحاق أعلم بامرأته.
وأيضًا لم يعرف أحد قط من التابعين أنكر على العالية هذا الحديث ولا قدح فيها من أجله، ويستحيل في العادة أن تروي حديثًا باطلًا ويشتهر في الأمة ولا ينكره عليها منكر.
وأيضًا فلو لم يأت في هذه المسألة أثر لكان محض القياس ومصالح العباد وحكمة الشريعة تحريمها أعظم من تحريم الربا، فإنها ربا مستحل بأدنى الحيل.
وأيضًا فإن في الحديث قصة، وعند الحفاظ إذا كان فيه قصة دلهم على أنه محفوظ، قال أبو إسحاق: حدثتني امرأتي العالية، قالت: دخلت على عائشة في نسوة فقالت ما حاجتكن؟ فكان أول من سألها أم محبة فقالت: يا أم المؤمنين هل تعرفين زيد بن أرقم؟ قالت: نعم، قالت: فإني بعته جارية لي بثمانمائة درهم إلى العطاء، وإنه أراد بيعها، فابتعتها منه بستمائة درهم نقدًا، فأقبلت عليها، وهي غضبى، فقالت بئسما شريت، وبئسما اشتريت، أبلغي زيدًا أنه قد أبطل جهاده إلا أن يتوب، وأفحمت صاحبتنا، فلم تتكلم طويلًا، ثم إنها سهل عليها فقالت: يا أم المؤمنين، أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي؟ فتلت عليه:{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [سورة البقرة: الآية 275] .
وأيضًا فهذا الحديث إذا انضم إلى تلك الأحاديث والآثار أفادت بمجموعها الظن الغالب إن لم تفد اليقين.
وأيضًا فإن آثار الصحابة كما تقدم موافقة لهذا الحديث، مشتقة منه، مفسرة له.
وأيضًا فكيف يليق بالشريعة الكاملة التي لعنت آكل الربا وموكله، وبالغت في تحريمه، وآذنت صاحبه بحرب من الله ورسوله، أن تبيحه بأدنى الحيل مع استواء المفسدة؟ ولولا أن عند أم المؤمنين رضي الله عنها علمًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تستريب فيه ولا تشك بتحريم مسألة العينة لمات أقدمت على الحكم بإبطال جهاد رجل من الصحابة باجتهادها، لا سيما إن كانت قصدت أن العمل يبطل بالردة، واستحلال الربا ردة، ولكن عذر زيد أنه لم يعلم أن هذا محرم، كما عذر ابن عباس بإباحته بيع الدرهم بالدرهمين، وإن لم يكن قصدها هذا، بل قصدت أن هذا من الكبائر التي يقاوم إثمها ثواب الجهاد ويصير بمنزلة من عمل حسنة وسيئة بقدرها فكأنه لم يعمل شيئًا، ولو كان هذا اجتهادًا منها لم تمنع زيدًا منه، ولم تحكم ببطلان جهاده، ولم تدعه إلى التوبة، فإن الاجتهاد لا يحرم الاجتهاد، ولا يحكم ببطلان عمل المسلم المجتهد بمخالفته لاجتهاد نظيره، والصحابة – ولا سيما أم المؤمنين – أعلم بالله ورسوله وأفقه في دينه من ذلك.
وأيضًا فإن الصحابة كعائشة وابن عباس وأنس أفتوا بتحريم مسألة العينة، وغلظوا فيها هذا التغليظ في أوقات ووقائع مختلفة، فلم يجئ عن واحد من الصحابة ولا التابعين الرخصة في ذلك، فيكون إجماعًا.
فإن قيل: فزيد بن أرقم قد خالف عائشة ومن ذكرتم، فغاية الأمر أنها مسألة ذات قولين للصحابة، وهي مما يسوغ فيها الاجتهاد.
قيل: لم يقل زيد قط إن هذا حلال، ولا أفتى بها يومًا ما، ومذهب الرجل لا يؤخذ من فعله، إذ لعله فعله ناسيًا أو ذاهلًا أو غير متأمل ولا ناظر أو متأولًا أو ذنبًا يستغفر الله منه ويتوب أو يصر عليه وله حسنات تقاومه، فلا يؤثر شيئًا، قال بعض السلف: العلم علم الرواية، يعني أن يقول: رأيت فلانًا يفعل كذا وكذا، إذ لعله قد فعله ساهيًا، وقال أياس بن معاوية: لا تنظر إلى عمل الفقيه، ولكن سله يصدقك، ولم يذكر عن زيد أنه أقام على هذه المسألة بعد إنكار عائشة، وكثيرًا ما يفعل الرجل الكبير الشيء مع مع ذهوله عما في ضمنه من مفسدة فإذا نبه انتبه، وإذا كان الفعل محتملًا لهذه الوجوه وغيرها لم يجز أن يقدم على الحكم، ولم يجز أن يقال: مذهب زيد بن أرقم جواز العينة، لا سيما وأم ولده قد دخلت على عائشة تستفتيها فأفتتها بأخذ رأس مالها، وهذا كله يدل على أنها لم يكونا جازمين بصحة العقد وجوازه، وأنه مما أباحه الله ورسوله.
وأيضًا فبيع العينة إنما يقع غالبًا من مضطر إليها، وإلا فالمستغني عنها لا يشغل ذمته بألف وخمسمائة في مقابلة ألف بلا ضرورة وحاجة تدعوا إلى ذلك وقد روى أبو داود من حديث علي:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر، وبيع الغرر، وبيع الثمرة قبل أن تدرك)) .
وفي مسند الإمام أحمد عنه قال: ((سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يديه، ولم يؤثر بذلك)) قال الله تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [سورة البقرة: الآية 237] وينهر الأشرار، ويستذل الأخيار، ويبايع المضطرون، وقد ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر، وعن بيع الغرر، وبيع الثمر قبل أن يطعم)) . .
وله شاهد من حديث حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه سعيد، عن هشيم، عن كوثر بن حكيم، عن مكحول: بلغني عن حذيفة أنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بعد زمانكم هذا زمانًا عضوضًا، يعض الموسر على ما في يديه، ولم يؤثر بذلك، قال الله تعالى:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سورة سبأ: الآية 39] وينهر شرار خلق الله، يبايعون كل مضطر، ألا إن بيع المضطر حرام، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخونه، إن كان عندك خير فعد به على أخيك ولا تزده هلاكًا إلى هلاكه، وهذا من دلائل النبوة، فإن عامة العينة إنما تقع من رجل مضطر إلى نفقة يضن بها عليه الموسر بالقرض حتى يربح عليه في المائة ما أحب. اهـ. هذا حديث ابن القيم عن العينة. وانتقل بعد هذا للحديث عن التورق فقال:
وهذا المضطر إن أعاد السلعة إلى بائعها فهي العينة، وإن باعها لغيره فهو التورق، وإن رجعت إلى ثالث يدخل بينهما فهو محلل الربا، والأقسام الثلاثة يعتمدها المرابون، وأخفها: التورق وقد كرهه عمر بن عبد العزيز، وقال: هو أخيه الربا.
وعن أحمد فيه روايتان، وأشار في رواية الكراهة إلى أنه مضطر، وهذا من فقهه رضي الله عنه، قال: فإن هذا لا يدخل فيه إلا مضطر، وكان شيخنا رحمه الله يمنع من مسألة التورق، وروجع فيها مرارًا وأنا حاضر، فلم يرخص فيها وقال: المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها، فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى وتبيح ما هو أعلى منه. اهـ.
انتهى كلام ابن القيم رحمه الله. (أعلام الموقعين: 3/215 – 220) ، وحديث ((إذا تبايعتم بالعينة
…
)) بين الشيخ أحمد شاكر صحة إسناده (1) .
وذكره البيهقي وقال: روي من وجهين ضعيفين عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر، فتعقبه ابن التركماني بقوله: ذكره ابن القطان، من وجه صحيح عن عطاء، عن ابن عمر فقال:. . . (وذكر الحديث) . ثم قال بعد ذكر الحديث " " ثم صححه – أعني ابن القطان – وقال: هذا الإسناد كل رجاله ثقات " (2)
(1) انظر المسند 7/27- حديث رقم 4825
(2)
انظر السنن الكبرى للبيهقي: 5/316، وفي ذيله: الجوهر النقي لابن التركماني
وقال العلامة المناوي بعد شرح الحديث الشريف:
وهذا دليل قوي لمن حرم العينة، ولذلك اختاره بعض الشافعية، وقال: أوصانا الشافعي باتباع الحديث إذا صح بخلاف مذهبه (1) . وأحب أن أشير هنا إلى مذهب الشافعية في تصحيح العقود:
فهم يقولون مثلًا: التدليس حرام، وإذا وقع البيع فالعقد صحيح، ويرون صحة بيع التلجئة، والسلاح في الفتنة، والعنب لمن يتخذه خمرًا، وزواج التحليل، وهكذا.
فهم لا يدخلون النيات في العقود، فما دام العقد قد استوفى الشكل الظاهري فهو صحيح، وإن قصد منه الحرام، أي أن آثار العقد تترتب عليه وإن كان حرامًا، وليس معنى هذا أنهم يحلون الحرام – وحاشاهم – ولكنهم يجعلون ما يتعلق بالنية عند الله عز وجل، ويحكمون على العقود بظاهرها.
ولعل هذا يوضح موقفهم من العينة، ومخالفتهم للجمهور.
(1) انظر فيض القدير: 1/314
الفصل الثاني
التأخر في دفع الأقساط
زيادة الدين:
من المعلوم أن من ربا الجاهلية ربا الديون الناشئة عن بيع آجل، فكان إذا حل الموعد، وعجز المشتري المدين عن أداء الدين، تطبق القاعدة الجاهلية المعروفة:" إما أن تقضي وإما أن تربي ". وهذه القاعدة الجاهلية نراها في عصرنا، حيث يطبقها البائعون الذين لا يلتزمون بأحكام الشريعة الإسلامية، وعادة يطبق سعر الفائدة الذي تأخذه البنوك الربوية.
وأمر هؤلاء معلوم، والتحريم واضح جلي، ولكن الذين يريدون تحكيم شرع الله عز وجل ماذا يفعلون؟
فمن المشكلات الكبرى التي تؤثر في مسيرة المصارف الإسلامية عدم التزام كثير من المدينين بدفع أقساط الديون في مواعيدها المتفق عليها، وقليل من هؤلاء ذو عسرة، وأكثرهم يماطلون مع القدرة على الأداء نظرًا لأن المصارف الإسلامية لا تأخذ فوائد التأخير التي يلتزم بها هؤلاء مع البنوك الربوية.
وكثير من المصارف لم تجد علاجًا لهذه المشكلة، ووجدت حلا جزئيًّا في اللجوء إلى المزيد من الضمانات، غير أن بعض المصارف لجأت إلى حلول أخرى نرجو أن يقول المجمع فيها رأيه، ونذكر منها ما يأتي:
(أ) عند عجز المدين (المشتري) عن الدفع، وعلم المصرف بهذا، رأى – تقديرًا لظروفه ورأفة به – أن يدخل مع هذا المدين في شركة بقيمة الدين! وربما كان هذا التصرف يتعارض مع قول الحق تبارك وتعالى {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} .
(ب) ومن المصارف من لجأ إلى إعادة الاتفاق على نسبة الربح، بحيث تزيد هذه النسبة لصالح المصرف تبعًا للزمن الذي يتأجل إليه الدفع.
ولعل هذا مثل إعادة جدولة الديون الربوية، وربما كان فيه شبه من المبدأ الجاهلي:" إما تقضي وإما أن تربي ".
(ج) وبعض المصارف الإسلامية – وهي ليست قليلة – استحدثت إلزام المدين المماطل دفع تعويض عن الضرر الذي ألحقه بالمصرف نتيجة مماطلته، وحجز المال عن الاستثمار وتحقيق الربح.
ولعل هذا الموضوع يحتاج إلى وقفة، نبين فيها وجهة نظر القائلين بهذا الرأي، المدافعين عنه وأثر هذا في التطبيق العملي.
هل للمصرف مطالبة المدين المماطل بالتعويض؟
رأى المجيزون أن الغني المماطل أوقع الضرر بالمصرف، فلولا مماطلته لضم هذا المال لباقي الأموال المستثمرة، ويمكن أن يقدر الضرر بمقدار الربح الذي حققه المصرف فعلًا في مدة المماطلة، ولذلك أجازوا للمصرف أخذ تعويض بمقدار نسبة الربح التي كان يمكن أن يحققها دين المماطل لو استثمره المصرف، فمتى تبين المصرف الإسلامي أن المدين المماطل مليء غني أضاف إلى دينه نسبة تعادل النسبة التي حققها خلال مدة بقاء الدين في ذمته.
وقد ناقشت بعض هؤلاء المجيزين، ووجدتهم يستدلون بثلاثة أحاديث شريفة، وبالمصلحة المرسلة التي يرون أنها تتفق مع مقاصد التشريع الإسلامي.
والأحاديث الثلاثة هي:
((-مطل الغني ظلم))
((-لي الواجد يحل عرضه وعقوبته))
3-
((لا ضرر ولا ضرار))
والحديث الأول متفق عليه.
قال ابن حجر في الفتح (4/466 – الباب الأول من كتاب الحوالة) : في الحديث الزجر عن المطل، واختلف هل يعد فعله عمدًا كبيرة أم لا؟ فالجمهور على أن فاعله يفسق، لكن هل يثبت فسقه بمطله مرة واحدة أم لا؟ قال النووي: مقتضى مذهبنا اشتراط التكرار، ورده السبكي في شرح المنهاج بأن مقتضى مذهبنا عدمه، واستدل بأن منع الحق بعد طلبه، وابتغاء العذر عن أدائه، كالغصب، والغصب كبيرة، وتسميته ظلمًا يشعر بكونه كبيرة، والكبيرة لا يشترط فيها التكرر، نعم لا يحكم عليه بذلك إلا بعد أن يظهر عدم عذره.
والحديث الثاني: ((لي الواجد. . .)) ذكره السيوطي وأشار إلى روايته، وهم: أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم. ورمز للحديث بالصحة.
وقال المناوي في فيض القدير (5/400) :
" عرضه بأن يقول له المدين: أنت ظالم، أنت مماطل، ونحوه مما ليس بقذف ولا فحش.
وعقوبته: بأن يعزره القاضي على الأداء بنحو ضرب أو حبس حتى يؤدي ".
ثم قال: " قال الحاكم: صحيح، وأقره الذهبي، ولم يضعفه أبو داود ".
والحديث ذكره البخاري تعليقًا. قال في " باب لصاحب الحق مقال " من كتاب الاستقراض في صحيحه.
ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لي الواجد يحل عقوبته وعرضه)) . قال سفيان: عرضه: يقول مطلتني وعقوبته: الحبس.
وفي تعليق التعليق لابن حجر (3/318 – 320) ذكر طرقه المختلفة الموصولة، وقال كما قال في الفتح: إسناده حسن.
والحديث الثالث: ((لا ضرر ولا ضرار)) :
ذكر السخاوي في المقاصد الحسنة (ص 468) أن الحديث أخرجه مالك والشافعي مرسلًا، وأحمد وعبد الرزاق وابن ماجه والطبراني، وفيه جابر الجعفي، وابن أبي شيبة من وجه آخر أقوى عنه، والدارقطني من وجه ثالث.
وقال المناوي في فيض القدير (6/432) : الحديث حسنه النووي وقال: له طرق يقوي بعضها بعضًا، وقال العلائي: للحديث شواهد ينتهي مجموعها إلى درجة الصحة أو الحسن المحتج به.
والحديثان الأول والثاني ظاهران في ظلم الغني المماطل، واستحقاقه للعقاب، وهما مما يحتج به، والعقوبة هنا تعزيرية، وذهب الجمهور إلى أن العقوبة هنا هي الحبس، وإن جاز في التعزير غيره كالضرب والتوبيخ، وما دام الهدف من العقوبة التعزيرية الردع والزجر وأداء الحقوق، وليس في العقوبة هنا حد مقرر، فالأمر إذن فيه متسع أمام القاضي أو ولي الأمر، فقد يرى في التوبيخ الكفاية، وقد يرى ضرورة الضرب مع الحبس، والأمر لا يستدعي كبير خلاف ما دام الحكم يصدر من عادل غير محكم للهوى والتشهي.
والحديث الثالث ينهى عن الضرر، ومن القواعد الشرعية المعروفة أن الضرر يزال، والمصرف لحقه ضرر فيجب أن يزال.
ومن المعروف أن الدائن ليس له إلا دينه، سواء أخذه وقت استحقاقه، أم بعد مدة المطل، وما أجاز أحد من الفقهاء أن يدفع المدين قدرًا زائدًا عن الدين كعقوبة تعزيرية، ولو قيل يدفع مقابل الزمن فهذا هو عين الربا.
قال المجيزون: إن المصلحة تقتضي منع المماطل من استغلال أموال المسلمين ظلمًا وعدوانًا، وإذا كانت الفائدة الربوية تمنع المطل مع البنوك الربوية، فإن الإسلام لا يعجز عن أن يوجد حلًا لمشكلة المطل التي تعاني منها المصارف الإسلامية، وإذا كان الفقهاء السابقون رأوا أن تكون العقوبة الحبس، وهذا غير مطبق الآن، فعلى فقهاء العصر أن يجتهدوا لإيجاد الحل.
ثم أضافوا: والقدر الذي نرى أن يتحمله المماطل هو ما يقابل الربح الفعلي للمصرف، فهذا ليس من باب الربا، ولكنه من باب منع الضرر الذي يلحق بالمصرف.
وربما كان من الصعب التفرقة بين ما ذهب إليه هؤلاء وبين الربا.
ويبقى هنا كذلك أن نسأل:
ما الهدف من العقوبة التعزيرية؟
ومن الذي يحدد هذه العقوبة؟
ومن الذي يأمر بإيقاعها؟ أو يقوم بتنفيذها؟
أفيمكن أن يكون شيء من هذا للمصرف؟
لو جاز أن يكون للمصرف استحداث عقوبة تعزيرية يوقعها بالعميل وهي تشتبه بالربا، إن لم تكن هي الربا بعينه، فمن باب أولى أن يكون له الحق في العقوبة التعزيرية المقررة كالحبس أو الضرب.
ونأتي إلى الجانب التطبيقي لنرى هل تحقق الهدف من هذه العقوبة؟
بعض المصارف رأت أن المتعاملين معها الذين لا يؤدون الأقساط في مواعيدها بلغوا من الكثرة حدًّا يصعب معه النظر في كل حالة، والتفرقة بين مطل الغني وعجز الفقير، كما توجد عوامل أخرى تزيد الأمر صعوبة، ولذلك عند تأخر أي مدين عن الأداء يضاف على دينه ما يقابل الربح الذي يعلنه المصرف في حينه، ولا يستطيع أي أحد أن يفرق بين هذا وبين الربا المحرم، وقد يقال إن هذا خطأ في التطبيق لا في الفتوى، ولكن على المفتي أن ينظر إلى ما يمكن تطبيقه.
وبعض المصارف الأخرى تمسكت بنص الفتوى، فكانت ترسل للعميل أولًا حتى تتأكد من المطل قبل إنزال العقوبة، ويلاحظ هنا أن الأرباح التي تحققها المصارف الإسلامية أقل من الفوائد الربوية في أوقات كثيرة، فالذين يستحلون هذه الفوائد استمروا في مطلهم غير عابئين بما يضيفه المصرف الإسلامي وبذلك تحولت العقوبة التعزيرية إلى زيادة ترتبط بربح المصرف والزمن، ورضي بهذا الطرفان!
فهل تحقق الهدف من العقوبة التعزيرية؟
أم تحولت العقوبة إلى نوع جديد من الربا؟
ويبقى هنا أيضًا أن نسأل:
إذا لم يكن هذا التصرف مشروعًا – وأظنه غير مشروع – فهل نجد عند مجمعكم الموقر حلًّا لمشكلة الأموال الضخمة التي يستحلها الأغنياء القادرون المماطلون؟
نرجو أن يتسع وقت المجمع لبحث هذا الموضوع.
حلول الأقساط قبل موعدها:
المصارف الإسلامية التي لا تأخذ بالنظام السابق، حيث لم تجزه هيئات الرقابة الشرعية لديها، رأت أن اتخاذ الإجراءات ضد المدين المماطل يكلفها الكثير، فنصت في عقود البيع على أن المشتري إذا تأخر في دفع قسطين متتاليين فإن باقي الأقساط تحل فورًا، ويحق للمصرف المطالبة بجميع الأقساط، واتخاذ ما يراه لازمًا للوصل إلى حقه.
اللجوء إلى التحكيم
ورأت هذه المصارف كذلك أن تلجأ إلى التحكيم لرفع الضرر: فيختار المصرف حكمًا، ويختار المشتري حكمًا، ويختار الحكمان حكمًا ثالثًا، وينظر المحكمون في الموضوع من جميع جوانبه، ويكون حكمهم ملزمًا للطرفين غير قابل للنقض، سواء صدر بالإجماع أم بالأغلبية.
* * * *
الفصل الثالث
ضع وتعجل
يلجأ بعض التجار إلى ما يعرف في الفقه الإسلامي باسم " ضع وتعجل " والمراد من " ضع وتعجل " التنازل عن جزء من الدين المؤجل، ودفع الجزء الباقي في الحال.
وروي أن ابن عباس سئل عن الرجل يكون له الحق على الرجل إلى أجل، فيقول: عجل لي وأضع عنك، فقال: لا بأس بذلك.
وروي أيضا أن ابن عباس قال: إنما الربا أًخِّر لي وأنا أزيدك، وليس عَجِّل لي واضع عنك (انظر مصنف عبد الرزاق 8/72) .
ويذكر أن الذين أجازوه كذلك هم:
النخعي: وهو من التابعين ، توفي سنة 96هـ
وزفر: من أصحاب أبي حنيفة، توفي سنة 158 هـ.
وأبو ثور: من أصحاب الشافعي، وتفي سنة 240 هـ.
(انظر المغني 4/174، وبداية المجتهد 2/143، والأول ذكر النخعي وأبا ثور والآخر ذكر زفر، وراجع ترجمة الثلاثة في كتب الرجال) .
أما الذين لم يجيزوا " ضع وتعجل " فهم عامّة الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، والأئمة الأربعة وجمهور الفقهاء.
ومما رواه الحافظ عبد الرزاق (المتوفى سنة 211 هـ) في مصنفه تحت " باب الرجل يضع من حقه ويتعجل " ما يأتي:
أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب وابن عمر قالا: من كان له حق على رجل إلى أجل معلوم فتعجل بعضه وترك له بعضه فهو ربا قال معمر: ولا أعلم أحدًا قبلنا إلا وهو يكرهه.
أخبرنا عبد الرزاق عن الثوري عن ابن ذكوان عن بسر بن سعيد عن أبي صالح مولى السفاح قال: بعت بزا إلى أجل، فعرض علي أصحابي أن يعجلوا لي، وأضع عنهم، فسألت زيد بن ثابت عن ذلك فقال: لا تأكله ولا تؤكله.
أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال: أخبرني أبو المنهال عبد الرحمن بن مطعم قال: سألت ابن عمر عن رجل لي عليه حق إلى أجل، فقلت: عجل لي وأضع لك فنهاني عنه.
وقال: نهانا أمير المؤمنين أن نبيع العين بالدين.
أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا إسرائيل عن عبد العزيز بن رفيع عن قيس مولى ابن يامين، قال: سألت ابن عمر، فقلت: إنا نخرج بالتجارة إلى أرض البصرة وإلى الشام، فنبيع بنسيئة ثم نريد الخروج، فيقولون: ضعوا لنا وننقدكم، فقال: إن هذا يأمرني أن أفتيه أن يأكل الربا ويطعمه، وأخذ بعضد لي ثلاث مرات، فقلت: إنما استفتيك، قال: فلا.
أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد قال: قلت للشعبي: إن إبراهيم قال في الرجل يكون له الدين على الرجل فيضع له بعضًا ويعجل له بعضًا: أنه ليس به بأس وكرهه الحكم بن عتيبة، فقال الشعبي: أصاب الحكم وأخطأ إبراهيم (راجع المصنف 8 /71- 75) .
والإمام مالك – رضي الله عنه – تحدث عن هذا الموضوع في الموطأ فجعله تحت " باب ماجاء في الربا في الدين " ونقرأ في هذا الباب ما يأتي
حدثني يحيى عن مالك عن أبي الزناد، عن بسر بن سعيد، عن عبيد أبي صالح مولى السفاح، أنه قال: بعت بزا لي من أهل دار نخلة، إلى أجل، ثم أردت الخروج إلى الكوفة، فعرضوا علي أن أضع عنهم بعض الثمن وينقدوني، فسألت عن ذلك زيد بن ثابت فقال: لا آمرك أن تأكل هذا ولا توكله.
وحدثني عن مالك، عن عثمان بن حفص بن خلدة، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر، أنه سئل عن الرجل يكون له الدين على الرجل إلى أجل فيضع عنه صاحب الحق ويعجله الآخر، فكره ذلك عبد الله بن عمر، ونهى عنه.
وحدثني مالك، عن زيد بن أسلم، أنه قال: كان الربا في الجاهلية أن يكون للرجل على الرجل الحق إلى أجل، فإذا حل الأجل، قال: أتقضي أم تربي؟ فإن قضى أخذ، وإلا زاده في حقه، وأخر عنه في الأجل.
قال مالك: والأمر المكروه الذي لا اختلاف فيه عندنا، أن يكون للرجل على الرجل الدين إلى أجل، فيضع عنه الطالب ويعجله المطلوب، وذلك عندنا بمنزلة الذي يؤخر دينه بعد محله عن غريمه ويزيده الغريم في حقه، قال: فهذا الربا بعينه، لا شك فيه.
(راجع الباب في كتاب البيوع من الموطأ)
وابن رشد الحفيد يبين سبب الخلاف فيقول في بداية المجتهد (2/144) :
وعمدة من لم يجز " ضع وتعجل " أنه شبيه بالزيادة مع النظرة المجمع على تحريمها ووجه شبهه بها أنه جعل للزمان مقدارًا من الثمن بدلًا منه في الموضعين جميعًا وذلك أنه هناك لما زاد له في الزمان زاد له عوضه ثمنًا، وهنا لما حط عنه الزمان حط عنه في مقابلته ثمنا وعمدة من أجازه ما روي عن ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بإخراج بني النضير، جاءه ناس منهم، فقالوا: يا نبي الله: إنك أمرت بإخراجنا، ولنا على الناس ديون لم تحل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ضعوا وتعجلوا)) فسبب الخلاف معارضة قياس الشبه لهذا الحديث. 1 هـ.
ولعل الصواب مع الذين لم يجيزوا " ضع وتعجل " للأسباب الآتية:
1-
الحديث الذي استدل به – مع اشتهاره – غير ثابت قال الحافظ ابن كثير: روى البيهقي وغيره أنه كانت لهم – أي لنبي النضير – ديون مؤجلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ضعوا وتعجلوا)) وفي صحته نظر، والله أعلم 0 البداية والنهاية 4/75) .
وفي سنن البيهقي (6/27) نجد " باب من عجل له أدنى من حقه قَبْل محله فقَبِلَه ووضع عنه طيبة به أنفسهما ".
وتحت الباب يذكر بسنده أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحب أن يظله الله في ظله فلينظر معسرًا، أو ليضع عنه)) وحديثًا آخر: ((من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينظر معسرًا أو ليضع عنه)) .
ثم يذكر أن ابن عباس كان لا يرى بأسًا أن يقول: أعجل لك وتضع عني قال: وقد روي فيه حديث مسند في إسناده ضعف، وذكر هذا الحديث الضعيف.
وبعد هذا الباب السابق يأتي " باب لا خير في أن يعجله بشرط أن يضع عنه "(6/28) .
وتحت الباب ذكر عدة أخبار تتفق مع روايات عبد الرزاق التي أثبتناها من قبل.
2-
لو صح الحديث يمكن أن يدل على حكم خاص لا يقبل التعميم، فالأمر هنا لليهود، وهم الذين قال الله تعالى فيهم:
{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [سورة النساء: الآيتان 160-161] .
فيما يضعونه قد يكون من الربا، ومن أموال الناس التي أكلوها بالباطل، وهذا لا ينطبق على المسلمين.
3-
ابن عباس – رضي الله عنهما – حبر الأمة وترجمان القرآن، ولكنه عندما يجتهد وينفرد بالرأي دون الصحابة الكرام، فقد لا نجد حرجًا في عدم الأخذ بهذا الرأي، ولذلك خالفه التابعون، والأئمة الأعلام.
4-
قد لا نجد فرقًا بين أن يأخذ الدائن مائة لتأجيل ألف، وأن يعطي مائة لتعجيل ألف. والحالة الثانية في حقيقتها هي " ضع وتعجل " ولذلك كان قول الإمام مالك:" هذا الربا بعينه، لا شك فيه ".
الفصل الرابع
الإحتفاظ بملكية المبيع أو رهنه
يلجأ بعض التجار ضمانًا لحقهم إلى الاحتفاظ بملكية المبيع إلى أن يتم دفع جميع الأقساط. وإذا كان من حق البائع أن يستوثق لحقه فيمكنه أن يلجأ لعقود الاستيثاق كالرهن والضمان، ولكن ليس من حقه أن يمنع أهم الآثار المترتبة على العقد.
وقد لا يلجأً البائع إلى الطريقة المباشرة للاحتفاظ بالمبيع، وإنما يلجأ إلى عقد آخر، وهو ما يسمى بالبيع التأجيري، أو الإجارة المنتهية بالتمليك.
وكل العقود التي رأيتها لا تخرج عن كونها حيلة للاحتفاظ بملكية المبيع.
فيما يسمى بالإيجار يتناسب مع ثمن المبيع لا أجرة العين المؤجرة.
والتزامات ما سمي بالمستأجر هي التزامات المشتري. . وهكذا.
أما اللجوء إلى الرهن، فهو يتنافى مع مقتضى العقد، غير أنه قد يكون ضروريًا، إذا لم يقدم المشتري للبائع ضمانات كافية.
ومما يقلل من أضرار الرهن في عصرنا عدم ضرورة حبس العين تحت يد المرتهن في كثير من الحالات، حيث تسلم العين للمشتري، ويكتفى بتسجيل أنها مرهونة مقابل مبلغ كذا للبائع وهذا التسجيل يمنع المشتري من التصرف في المبيع بأي عقد من العقود الناقلة للملكية، أو تعلق حق لأي أحد يتعارض مع حق البائع، حتى يفك الرهن.
الفصل الخامس
أثر الموت في حلول الأجل
إذ مات البائع قبل استيفاء الثمن انتقلت الملكية للورثة، فإذا كان الثمن أقساطًا مؤجلة فليس للورثة المطالبة بها قبل موعدها.
ولكن إذا مات المشتري قبل أداء الأقساط، كلها أو بعضها، أفللبائع أن يطالب بحقه قبل توزيع التركة، أم توزع التركة على الورثة، ويكون الدين في ذمتهم، يؤدونه في موعده؟
إذا لم يوثق الورثة الدين برهن أو غيره فللبائع أن يطالب بدينه قبل توزيع التركة.
أما إذا وثقوه بما يضمن حق البائع، وأداء الأقساط في مواعيدها، فليس له أن يسقط حقهم في الأجل، وعلى الأخص أن الأجل له نصيب من الثمن كما رأينا، وهو المتبع عادة.
ولعل هذا أولى من الرأي الآخر الذي ذهب إليه بعض الفقهاء من حلول أجل الدين بموت المدين، وأخذ الدائن حقه قبل توزيع التركة.
والله تعالى أعلم بالصواب، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
" سبحان ربك رب العزة يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ".
الخلاصة
يعتبر إقرار المجمع لبيع المرابحة للآمر، بالشراء بضوابطه الشرعية إقرارًا لبيع التقسيط، ولهذا كان البحث نظرات في التطبيق العملي.
والموضوعات التي تناولها البحث، رجاء أن يتخذ المجمع الموقر فيها قراره هي ما يأتي:
1-
ذكر ثمن البيع نقدًا، وثمنه نسيئة.
2-
تحديد الثمن وفوائد التقسيط.
3-
خصم البائع كمبيالات الأقساط المؤجلة لدى بنك ربوي.
4-
العينة.
5-
التورق.
6-
زيادة الدين عند التأخر في دفع الأقساط.
7-
مطالبة البائع المدين المماطل بالتعويض.
8-
حلول الأقساط قبل موعدها عند تأخر بعضها.
9-
اللجوء إلى التحكيم لإزالة ضرر مطل المليء.
10-
ضع وتعجل.
11-
الاحتفاظ بملكية البيع.
12-
رهن البيع.
13-
أثر الموت في حلول الأجل.
الدكتور علي السالوس