الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القبض
تعريفه، أقسامه، صوره وأحكامها
إعداد
فضيلة الدكتور سعود بن مسعد الثبيتي
أستاذ بكلية الشريعة – جامعة أم القرى
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن محمدًا عبده ورسوله أما بعد.
فإن موضوع القبض من أهم الأمور التي ينبغي بحثها في المعاملات المالية، وخاصة المعاصرة منها لما يترتب عليه من الأحكام الشرعية، حيث إن القبض مقصد المتعاقدين من العقد وغايتهما، والله سبحانه وتعالى يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، [سورة المائدة: الآية 1] .
والوفاء بها هو: القبض إذ هو ثمرتها وفائدتها، ولذلك رأى علماء المجمع أن يكون موضوع القبض أحد الأبحاث التي تطرح للنقاش في الدورة السادسة، وقد طلب مني الكتابة فيه، فأبديت الاستعداد لذلك وإن كان الموضوع خطيرًا جدًّا، غير أني استعنت بالله، ولم يدر بخاطري تسويغ أو تحليل لشيء من المعاملات أو العقود التي يتعامل بها الناس في هذا العصر مستندين إلى أن العرف جرى بها، أو أقرها، أو أن النظام الاقتصادي يقوم عليها، ولهذا أو ذاك تكون ضرورة لا بد منها، لا أريد شيئا من ذلك ولا العمل إلى تحليل ما هو موجود وعليه التعامل، لأن للعمل بالعرف شروطًا لا بد من توفرها، ومن أهمها: أن لا يتعارض مع الكتاب أو السنة، وإنما هدفي هو البحث على ضوئهما، وما استنبطه الفقهاء الأجلاء من الأصول العامة والقواعد الكلية.
وسوف أذكر في كل مبحث من المباحث ما أمكنني الاطلاع عليه من الأقوال المعتمدة في كل مذهب غير متعصب ولا متحيز لأي منها، وقد قسمت هذا البحث إلى مقدمة وتعريف للقبض وقسمين وخاتمة واشتملت المقدمة عل سبب الكتابة فيه ومنهج البحث، ثم تلاها تعريف للقبض في اللغة والاصطلاح.
• أما القسم الأول: فكان في القبض الحقيقي وصوره.
• والقسم الثاني: في القبض الحكمي وقد قسمته إلى مبحثين:
• المبحث الأول: قبض غير المنقول.
• المبحث الثاني: قبض المنقول.
وقد قسمت هذا المبحث إلى مطلبين:
• المطلب الأول: قبض غير الربويات.
• المطلب الثانى: قبض الربويات.
وقد قسم القبض في الربويات إلى فرعين:
• الفرع الأول: بيع غير الأثمان.
• الفرع الثاني: بيع الأثمان بعضها ببعض.
وفي نهاية البحث أوردت ما أمكنني الاطلاع عليه من الصور المستجدة تفريعًا على ما سبق من آراء مستأنسًا بأقوال بعض الفقهاء المعاصرين والاقتصاديين.
وقد ذكرت في الخاتمة أهم النتائج التي توصلت إليها.
والله أسأل أن يكون عملي خالصًا خالصًا لوجهه الكريم وأن يجنبني الخطأ والزلل في القول والعمل.
تعريف القبض
الحكم على الشيء فرع عن تصوره كما يقال، ولذلك لا بد من بيان معناه اللغوي والاصطلاحي حتى يكون القارئ على بينة من أمره.
القبض في اللغة:
يدور معنى هذه اللفظة حول الجمع والأخذ، وفي هذا يقول ابن فارس: القاف والباء والضاد أصل واحد صحيح يدل على شيء مأخوذ (1) .
وجاء في لسان العرب: " القبض جمع الكفّ على الشيء وقبضت الشيء قبضًا: أخذته، والقبضة: ما أخذت بجمع كفك كله. . .
ابن الأعرابي: القبض: قبولك المتاع وإن لم تحوله، والقبض تحويلك المتاع إلى حيزك، والقبض: التناول للشيء بيدك ملامسة وقبض على الشيء وبه يقبض قبضًا انحنى عليه يجميع كفه. . . وصار الشيء في قبضتي، أي في ملكي (2) .
القبض في الاصطلاح:
القبض والحيازة والحوز من الألفاظ المترادفة، معناها هو حيازة الشيء والتمكن منه سواء كان التمكن باليد، أو بعدم المانع من الاستيلاء على الشيء، وهو ما يسمى بالتخلية أو القبض الحكمي ".
قال الكاساني: " معنى القبض هو التمكين والتخلي وارتفاع الموانع عرفًا وعادة حقيقية "(3) .
وقال التسولي: " الحوز: وضع اليد على الشىء المحوز "(4) .
وعرفه ابن عرفة بقوله: " رفع خاصية تصرف الملك فيه عنه بصرف التمكن منه للمعطي أو نائبه "(5) .
ونقل الدكتور نزيه حماد – عن الطوسي في الخلاف – تعريفه له بقوله:
" القبض: هو التمكن من التصرف. . . "(6) .
وقيل: " رفع الموانع والتمكن من القبض ".
(1) معجم مقاييس اللغة: 5 /50.
(2)
ابن منظور: قبض، وانظر المصباح المنير: قبض، الكفوي، الكليات: 4/187، سعدى أبو جيب: القاموس الفقهي: ص104
(3)
بدائع الصنائع: 6/ 3017.
(4)
البهجة شرح التحفة: 1/168.
(5)
انظر الرصاع، شرح الحدود: ص 415.
(6)
الحيازة: ص40.
وإذا أمعن النظر في التعريفات السابقة وما قاله أهل العلم عند الكلام عليها أمكن تقسميه إلى قسمين: (1) .
القسم الأول: القبض الحقيقى، أو الحسي.
القسم الثاني: القبض الحكمي.
وحيث إن أول ما يتبادر إلى الذهن هو القبض الحقيقى وهو القبض التام فسأتكلم عنه بإيجاز، مبينًا كيفيته في الأموال منقولها وغيره، والأساس الذي اعتبره الفقهاء قبضًا في كل ما ذكروه.
أولا - القبض في المنقول:
قبل البدء في بيان كيفية القبض في المنقول يحسن تعريفه، وقد عرف بتعريفات من أوضحها وأدلها على المقصود ما ذكره الباز بقوله:" هو الشيء الذي يمكن نقله من محل إلى آخر فيشمل النقود والعروض والحيوانات والمكيلات والموزونات والأرض والشجر إن لم يكونا تبعًا للأرض "(2) .
أما كيفية قبضه فهي تختلف بحسب طبيعة الأشياء، وبحسب أحوال الناس في العصور المختلفة، والبيئات المتباينة، وطبيعة المعاملات، وكما هو معلوم فإن كل ما ورد في الشرع مطلقًا ولم يرد فيه ولا في اللغة ما يقيده يرجع في تحديده إلى العرف، وفي هذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية " الأسماء تعرف حدودها تارة بالشرع: كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وتارة بالغة: كالشمس والقمر، والبر والبحر، وتارة بالعرف: كالقبض، والتفرق، وكذلك العقود كالبيع، والإجارة، والنكاح، والهبة، وغير ذلك (3) فما ورد له كيفية شرعية في قبضه يرجع إليها، وما ليس كذلك فيرجع إلى ما تعارف عليه الناس، وتكاد تتفق عبارات الفقهاء على أن المكيلات قبضها بكليها، والموزونات بوزنها، والمذروعات بذرعها، والمعدودات بعدها، وما ينقل بنقله، وما يتناول كالجواهر والأثمان بتناوله، والحيوان بتمشيته من مكانه، إذا العرف في كل ذلك ما ذكر، ولعل من المناسب التمييز بين المكيلات والموزونات بما ذكره البهوتي حيث قال: " ومرجع الوزن لعرف مكة زمن النبى صلى الله عليه وسلم لما روى عبد الملك بن عمير عن النبى صلى الله عليه وسلم ((المكيال مكيال المدينة، والميزان ميزان مكة)) (4) .
(1) الرصاع شرح الحدود: ص 248.
(2)
الباز، شرح المجلة: ص 70، التفصيل بين الشجر التابع للأرض وغير التابع لها عند الحنفية فقط حيث عدوا الأول من غير المنقول والثاني من المنقول، أما الجمهور فيرون أن الشجر غير منقول.
(3)
ابن تيمية، الفتاوي: 29/448، وانظر رؤوس المسائل: ص 111.
(4)
أبو داود، السنن: 3/ 246.
" وما لا عرف له هناك أي بالمدينة ومكة اعتبر عرفه في موضعه، لأن ما لا عرف له في الشرع يرجع فيه إلى العرف، كالقبض والحرز، فإن اختلفت البلاد اعتبر الغالب، فإن لم يكن رد إلى أقرب ما يشبهه بالحجاز وكل مائع مكيل "(1) .
وأما بقية المقدرات من معدود ومذروع فلا تحتاج إلى إيضاح، وسأذكر نصًّا من كل مذهب في كيفية القبض توثيقًا لما ذكرته مجملًا.
جاء في فتح القدير: " ومن اشترى مكيلًا مكايلة أو موزونًا موازنة، أي اشترى على كذا كيلًا أو رطلًا فاكتاله أو اتزنه لنفسه ثم باعه مكايلة أو موازنة في الموزون لم يجز للمشترى منه أن يبيعه حتى يعيد الكيل والوزن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه صاعان: صاع البائع، وصاع المشترى "(2) ، وألحقوا بالمكيل الموزون، وينبغي إلحاق المعدود الذي لا يتفاوت كالجوز والبيض إذا اشتري معاددة " (3) .
وجاء في الشرح الصغير: " أي مبيع فيه حق توفية لمشتريه وهو المثلي وبينه بقوله: من مكيل أو موزون أو معدود فعلى البائع ضمانة لقبضه بالكيل، أو الوزن، أو العد واستيلاء المشتري عليه. . . والقبض الذي يكون به ضمان المشتري في ذي التوفية باستيفاء ما كيل أو عُدَّ أو وزن منه، أي من ذي التوفية. . . والقبض في غيره أي غير العقار من حيوان وعرض يكون بالعرف: كتسليم الثوب وزمام الدابة أو سوقها أو عزلها عن دواب البائع أو انصراف البائع عنها "(4) .
(1) الكشاف: 2 /181 – 182.
(2)
ابن ماجه، السنن: 2 /750
(3)
ابن الهمام: 5/267- 268.
(4)
الدردير: 3/195 – 200.
وأما الجزاف فقال الباجي في قبضه: " وأما ما اشترى جزافًا، فإن استيفاءه بتمام العقد فيه، لأنه ليس فيه توفية أكثر من ذلك، ويتخرج في ذلك مذهبان:
أحدهما: أن الحديث بالمنع من بيع الطعام قبل استيفائه عام فيه وفي المكيل إلا أن الاستيفاء فيه بتمام العقد عليه.
والثاني: أنه لا يتعلق به المنع والحديث خاص في المكيل الذي فيه حق التوفية، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم حتى يستوفيه، ولم يقل حتى ينقله أو يأخذه فعلق هذا الحكم بما ثبت له حكم الاستيفاء وهو المكيل والموزون والمعدود " (1) .
وذكر النووي كيفية القبض بقوله " فصل في حقيقة القبض والقول الجملي فيه أن الرجوع فيما يكون إلى العادة ويختلف بحسب اختلاف المال وتفصيله: أن المبيع نوعان. . .
النوع الثاني: ما يعتبر فيه تقدير بأن اشترى ثوبًا أو أرضًا مذارعة أو متاعًا موازنة أو صبرة مكايلة أو معدودًا بالعد فلا يكفي للقبض ما سبق. . . بل لا بد مع ذلك من الذرع أو الكيل أو العد " (2) .
وكيفية القبض عند الحنابلة ذكرها البهوتي بقوله: " ويحصل القبض فيما بيع بكيل أو وزن أو عد أو ذرع بذلك أي بالكيل أو الوزن أو العد أو الذرع. . . ويحصل القبض في صبرة بنقلها ويحصل القبض فيما ينقل كالثياب والحيوان بنقله كالصبرة. . . ويحصل القبض فيما يتناول كالأثمان والجواهر بتناوله، إذا العرف فيه ذلك "(3) .
(1) المنتقى: 4 /282 – 283.
(2)
روضة الطالبين: 3/ 514 – 517، وانظر المحلى، شرح المنهاج: 2/217.
(3)
الكشاف: 3 /246 – 247، وانظر المرداوي، الإنصاف: 4 /469، وابن قدامة، المغني: 4/125.
القسم الثاني – القبض الحكمي " التخلية ":
الدين الإسلامي قوام الدنيا والآخرة وكل تجربة للبعد عنه بحجة المسايرة للزمن لا تنشأ إلا عن خفة في الرأي وقلة نظر في العاقبة، ومصدرها خصوم الإسلام، وضعف العقيدة، أو الانحراف بها، والزيغ عنها، وهذا هو الأصل في تقبل البسطاء من المسلمين لبعض التجارب الوافدة، ومن أخطرها العمل على الفصل بين أحكام الشريعة الإسلامية وبين المعاملات والتظاهر باحترام العبادات وأحكام الأسرة، فهبط فهم المسلمين لدينهم حتى ظنوا أن من يقوم بالعبادات مبتعدًا عن هدي الشريعة في المعاملات والجنايات ومسلم. ولا شك ولا ريب، أن الإسلام كل لا يتجزأ، نظم للبشرية ما يصلح دينها ودنياها، فأرسى قواعدها العامة، ودعائمها الأساسية، وترك للناس حرية الاختيار المبني على الاجتهاد المستمدة مبادؤه من الأصول العامة للشريعة والأمر المهم في المعاملات المالية التي كثرت في هذا العصر، واشتبكت في كثير من أمورها هو أن نبحث في أي معاملة عصرية ونحدد نوعها وإلى أي عقد تنتمي هذه المعاملة، والأحكام المتعلقة بها، فالحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، ولذا روي أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يمنع التجار من دخول السوق إلا إذا علموا فقه المعاملات التي يزاولونها، وذلك خوفًا من الدخول في الربا، فعلى هذا يجب بحث الأمور المشتبهة ودراستها دراسة متأنية مبنية على الأسس والمبادئ التي رسمها سلفنا الصالح، وعندما يتضح الأمر فيها يعمل به وإلا تركت حتى يتضح الأمر فيها وينجلي ولا شك أن مبحث القبض الحكمي من أهم الأمور التي تحتاج إلى بحث لما له من علاقة قوية بالضمان وجواز التصرف والربا، ففتح الباب للبحث فيه من أهم الأمور التي ينبغي أن يضطلع بها المجمع وما وجد من زلل أو خطأ سيجد التصحيح والتقييد من العلماء المجتهدين.
وقد قسمت الكتابة فيه إلى مبحثين:
المبحث الأول: في قبض غير المنقول
قبل البحث في معرفة كيفية قبضه لا بد من تعريفه، ولعل من أوفى تعريفاته ما جاء في المجلة " غير المنقول: ما لا يمكن نقله من مكان إلى آخر كالدور والأراضي " (1) ويلحق به الثمر على الشجر والغراس، وفصل الحنفية بين الشجر التابع للأرض فعدوه غير منقول بالتبعية وما لم يكن تابعًا للأرض عدوه من المنقولات، وأما الجمهور فهو غير منقول عندهم (2) وحيث إن مبنى القبض فيما لا ينقل على العرف والعادة.
لذا يختلف بحسب اختلاف الزمان وبحسب حالة الشيء المبيع كما يختلف بين البلدان المتجاورة وقد يكون عامًّا، ومما يعتبره الفقهاء عامة قبضا حكميًّا التخلية في العقار، وقد اعتبروا لذلك شروطًا سأذكرها بعد ذكر نصوص من كل مذهب.
جاء في رسم المفتي:
والعرف في الشرع له اعتبار
لذا عليه الحكم قد يدار
(3)
وجاء في الفتاوى الخانية: " ولو باع الدار وسلم المفتاح فقبض المفتاح ولم يذهب إلى الدار يكون قابضًا قيل هذا إذا دفع مفتاح هذا الغلق، أما إذا لم يكن ذلك لم يكن تسليمًا لأنه يقدر على الدخول بهذا المفتاح فلا يكون قبض المفتاح كقبض الدار (4) ، وفصل أبو يوسف ومحمد بين العقار القريب والبعيد فاعتبرا تسليم مفتاح القريب قبضًا، وتسليم مفتاح البعيد غير قبض.
(1) مجلة الأحكام العدلية: ص 31.
(2)
البهوتى، الكشاف: 3/248، والمحلى، شرح المنهاج: 2/215، والدردير، الشرح الكبير 3/130، الدردير، الشرح الصغير: 3/199.
(3)
رسم المفتي: ص 44.
(4)
قاضي خان، الخانية: 2/257، وانظر ابن عابدين، حاشية رد المحتار: 4/562، الباز، شرح المجلة: ص 138.
وجاء في الشرح الكبير: " وقبض العقار وهو الأرض وما اتصل بها من بناء وشجر بالتخلية بينه وبين المشتري وتمكنه من التصرف فيه بتسليم المفاتيح إن وجدت "(1) .
وجاء في ميارة على العاصمية: " وتخلي المحبس عن الحبس إلى المحبس عليهم بمحضرهم حيازة له تامة "(2) .
وذكر النووي في الروضة أن التخلية كافية في العقار حيث قال: " وتفصيله أن المبيع نوعان، النوع الأول: ما لا يعتبر فيه تقدير إما لعدم إمكانه، وإما مع إمكانه فينظر إن كان مما لا ينقل كالأرض والدور فقبضه بالتخلية بينه وبين المشتري وتمكينه من اليد والتصرف بتسليم المفتاح إليه "(3) .
وذكر الحنابلة أن التخلية كافية بلا نزاع في العقار.
جاء في الكشاف: " ويحصل القبض فيما عدا ذلك. . . من عقار وهو الضيعة والأرض والبناء والغراس ونحوه كالثمر على الشجر بتخليته مع عدم مانع أي حائل بأن يفتح له باب الدار ويسلمه مفتاحها ونحوه وإن كان فيه متاع للبائع.
قال الزركشي ويأتي عملًا بالعرف " (4) .
وجاء في الإنصاف: " وفيما عدا ذلك بالتخلية كالذي لا ينقل ولا يحول وهذا بلا نزاع "(5) .
(1) الدردير: 3 /130 – 131، وانظر الدسوقى، حاشية: 3/130 – 131.
(2)
2/144.
(3)
3/515.
(4)
البهوتي: 3/247 – 248، وانظر المرادوي، الإنصاف: 4/471.
(5)
المرداوي: 4/471.
المبحث الثاني: قبض المنقول
قبض غير المنقول سبق الكلام عليه في المبحث السابق وأنه يكتفى فيه بالقبض الحكمي – التخلية – وأما ما يمكن نقله فهل تكفي فيه التخلية أو لا بد من القبض الحقيقي؟ وإن كفت فهل في جميع الأشياء أو أن بعضها لا تكفي فيه؟
يمكن تقسيم هذا المبحث إلى مطلبين يسبق ذلك تعريف للمنقول، فهو الشيء الذي يمكن نقله من محل إلى آخر فيشمل النقود والعروض والحيوانات والمكيلات والموزونات والبناء والشجر إن لم يكونا تبعًا للأرض عند الحنفية " (1) .
المطلب الأول – التخلية في غير الربويات:
النصوص الواردة في المعاملات تتسم بالعموم في غالبها وهي مرتبطة بمصالح الناس على ضوء القواعد العامة وما اشتملت عليه الشريعة من جلب للمصالح ودفع للمضار ولا شك أن ما تعارف عليه الناس تعارفًا عامًّا ولو في بلد من البلاد الإسلامية ولم يخالف دليلًا صحيحًا أو أصلًا من أصول الشريعة يجري على القاعدة العامة.
الأصل في المعاملات الإباحة، وسأذكر فيما يلي بعض ما أورده الفقهاء من نصوص معتبرين التخلية فيه قبضًا، وما ذكروه من قيود لذلك وعليه يمكن تقسيم الأقوال فيه إلى مذهبين:
المذهب الأول: الراجح عند الشافعية وقول عند الحنابلة أن التخلية غير كافية في قبض ما ينقل أو يقدر ولا بد لمقبضه من تقدير المقدرات ونقل وتحويل ما ينقل أو تمشيته من مكانه.
جاء في روضة الطالبين: " إن كان المبيع من المنقولات فالمذهب المشهور أنه لا يكفي فيه التخلية بل يشترط النقل والتحريك "(2) .
وجاء في الإنصاف: " وفي الصبرة وما ينقل بالنقل وفيما يتناول بالتناول هذا المذهب وعليه أكثر الأصحاب "(3) .
(1) مجلة الأحكام العدلية، مادة 128، وانظر سليم الباز، شرح المجلة: ص 70.
(2)
النووى: 3/515.
(3)
المرداوي: 4/470، وانظر ابن قدامة، المغني: 4/25.
أدلة هذا المذهب:
(1)
ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من ابتاع طعامًا فلا يبيعه حتى يستوفيه)) وفي رواية: ((حتى يقبضه)) (1) ، قال ابن عباس لا أحسب كل شيء إلا مثله ".
(2)
قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا بعت فكل، وإذا ابتعت فاكتل)) (2) .
(3)
ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجرى فيه الصاعان، صاع البائع وصاع المشتري)) (3) ، هذا فيما بيع كيلًا.
أما ما بيع جزافًا فقبضه نقله من مكانه وقد استدلوا عليه بعدة أدلة منها:
ما روي عن ابن عمر أنه قال: (كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا طعامًا جزافًا أن يبيعوه في مكانه حتى يحولوه " (4) .
وفي لفظ: " كنا نبتاع الطعام جزافًا فبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من مكانه الذي ابتعناه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه "(5) .
وفي لفظ: " كنا نشتري الطعام من الركبان جزافًا فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله "(6) .
(4)
ما ورد ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم)) (7) .
المذهب الثاني: مذهب الحنفية وقول المالكية والحنابلة والشافعي إلى أن التخلية كافية مع التمييز ولو لم يحصل تقدير أو نقل.
(1) البخاري، الصحيح مع فتح الباري: 4/344، 347، 349، مسلم، الصحيح مع شرح النووي: 10/168.
(2)
البخاري، الصحيح، مع فتح الباري: 4/344.
(3)
ابن ماجه، السنن: 2/750.
(4)
مسلم، الصحيح، مع شرح النووي: 10/170، البخاري، الصحيح مع فتح الباري: 4/350.
(5)
مسلم، الصحيح: 10/169.
(6)
مسلم، الصحيح: 10/169: 10/170، ابن ماجه، السنن: 2/750.
(7)
الشوكاني، نيل الأوطار: 5/178، وابن حجر، فتح الباري: 4/350.
جاء في حاشية ابن عابدين وحاصله أن: " التخلية قبض حكمًا ولو مع القدرة عليه بلا كلفة لكن ذلك يختلف بحسب حالة المبيع ففي نحو حنطة في بيت مثلًا فدفع المفتاح إذا أمكنه الفتح بلا كلفة قبض. . . وفي نحو بقر في مرعي فكونه بحيث يرى ويشار إليه قبض، وفي نحو ثوب فكونه بحيث لو مد يده تصل إليه قبض، وفي نحو فرس أو طير في بيت وإمكان أخذه منه بلا معين قبض "(1) .
وجاء في الشرح الصغير " والقبض في غيره – أي غير العقار – من حيوان وعرض يكون بالعرف كتسليم الثوب وزمام الدابة أو سوقها أو عزلها عن دواب البائع أو انصراف البائع عنها "(2) .
وجاء في روضة الطالبين: " وإن كان المبيع من المنقولات فالمذهب المشهور أنه لا يكفي فيه التخلية بل يشترط النقل والتحريك وفي قول رواه حرملة يكفي "(3) .
وذكر وجهًا آخر أنه يكفي لنقل الضمان إلى المشتري ولا يكفي لجواز تصرفه إلا النقل أو التقدير حيث قال: " وفي وجه يكفي لنقل الضمان إلى المشتري ولا يكفي لجواز تصرفه "(4) .
وقال المرداوي: " وعنه أن قبض جميع الأشياء بالتخلية مع التمييز ونصره القاضي وغيره "(5) .
ويمكن أن يستدل لهذا القول بما يلي:
(1)
عن ابن عمر قال: " كنت أبيع الإبل بالبقيع بالدنانير وآخذ مكانها الورق، وأبيع بالورق وآخذ الدنانير فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال:((لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكم شيء)) .
(1) 4/562، وانظر، الحسيني الفرائد البهية: ص 53.
(2)
الدردير: 3/200، وانظر الشرح الكبير: 3/131.
(3)
النووي: 3/515، وانظر ابن حجر، فتح الباري: 4/350.
(4)
النووي: 3/515، وانظر ابن حجر، فتح الباري: 4/350
(5)
الإنصاف: 4/470 وانظر ابن رجب، القواعد ص 56، وابن قدامة، المغني: 4/125.
وفيه دليل على جواز الاستبدال عن الثمن الذي في الذمة (1) .
وهو تصرف فيه قبل قبضه قبضًا حقيقيًّا وهو أحد العوضين.
(2)
ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من جابر بن عبد الله جمله ثم نقده ثمنه ووهبه له (2) .
فقد تصرف فيه ولم يرد أنه نقله ولا مشّاه فيكون اكتفاء بالتخلية.
(3)
عن عمر وابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكنت على بكر صعب لعمر، فكان يغلبني فيتقدم أمام القوة فيؤخره عمر ويرده فقال النبي لعمر:((بعنيه. . .)) فباعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي:((هو لك يا عبد الله بن عمر تصنع به ما شئت)) (3) . فالنبي وهب البكر لابن عمر قبل قبضه ولعله اكتفاء بالتخلية.
(4)
إن ما اشتري جزافًا استيفاؤه بتمام العقد فيه، لأنه ليس فيه توفية أكثر من ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم قال:((حتى يستوفيه، والاستيفاء يحصل بالتخلية)) (4) .
(5)
الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور. . . وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل (5) .
وإذا نظرنا إلى معاملات الناس في هذا العصر وترابطها مع معاملات أخرى قلنا إن الاكتفاء بالتخلية قول متوجه ولا سيما إذا علمنا التبعات المالية المترتبة على النقل والتحويل من مكان إلى آخر، وقد يكون من جانب إلى آخر كما في صوامع الغلال مثلًا، والموانئ والمصانع الكبرى للسيارات والطائرات. . . إلخ.
(1) أبو داود، السنن: 3/ 250، الشوكاني، نيل الأوطار: 5/176 – 177 ابن حجر، التخليص الحبير: 3/29.
(2)
البخاري، الصحيح، مع فتح الباري: 4/321.
(3)
البخاري، الصحيح، مع فتح الباري: 4/334.
(4)
الباجي، المنتقى: 4/282.
(5)
ابن القيم، إعلام الموقعين: 3/5.
مناقشة أدلة المذهب الأول:
يمكن مناقشة أدلتهم بما يلي:
الأحاديث التي ورد فيها لفظ " حتى يقبضه " أو " حتى يستوفيه " تحمل على غير المتميز. . وأما إذا تميز المعقود عليه من غيره وتعين وأمكن قبضه وحيازته جاز التصرف فيه، لأن القبض ينقسم إلى حقيقي وحكمي، فالتخلية بين المشتري والسلعة بحيث يتمكن من القبض التامّ لها حكمه (1)، وقيل: المراد بالاكتيال القبض والاستيفاء كما في بعض الروايات، ولكن لما كان الأغلب في الطعام الكيل صرح به (2) .
وأما حديث " حتى يجرى فيه الصاعان "، فيحمل على أن المراد أنه إذا اشترى الطعام كيلًا أو وزنًا فلا يكون قبضه إلا بكيله أو وزنه لمعرفة قدره، ويدل عليه حديث " إذا سميت الكيل فكل " وحديث " نهى أن يبيع أحد طعامًا اشتراه بكيل حتى يستوفيه "(3) .
وأما أحاديث التحويل والنقل إلى مكان آخر والإيواء إلى الرحال، فلم تحصر القبض في ذلك فيكون حينئذ خرج مخرج الغالب (4) .
وهذه المذكورات صور من صور القبض التي تعتبر التخلية أحدها. والله أعلم.
مناقشة أدلة المذهب الثاني:
ما ورد في حديث شراء النبي لجمل جابر بن عبد الله وهبته له، وشراء بكر من عمر بن الخطاب وهبته لعبد الله بن عمر.
يجاب عنه بأن البيع معاوضة وعقود المعاوضات تفارق غيرها من التصرفات كالهبة والوقف وغيرها من العقود التي لا يقصد بها العوض، فلا يصح الإلحاق للفارق (5) .
(1) انظر ابن رجب القواعد: 74، الزيلعي، نصب الراية: 4/33.
(2)
الزيلعي، نصب الراية: 4/33.
(3)
الزيلعي، نصب الراية: 4/33.
(4)
أبو داود، السنن: 3/281، ابن حجر، فتح الباري: 4/350.
(5)
ابن حجر، فتح الباري: 4/350.
صور القبض في المقدرات والمنقولات:
القبض له أحكام تترتب عليه كالضمان وجواز تصرف كل من المتبايعين فيما آل إليه.
وعلى ضوء ما سبق من الخلاف في اشتراط القبض الحقيقي أو الاكتفاء بالتخلية – القبض الحكمي – تتحدد كيفية القبض.
فعلى القول الأول لا بد من الكيل والوزن والذرع والعد في المقدرات والنقل في المنقولات من مكانها الذي تم التعاقد فيه إلى مكان آخر.
وعلى قول من يكتفي بالتخلية والترك بين محل البيع ومشتريه ترتب أحكام القبض عليها سواء كانت لفظية أو كتابية أو فعلية، فإذا قال اقبض، أو اكتب، أو وضع السلعة وترك بين المشتري وبينها، أو سلم المفتاح أو استمارة السيارة، أو الأوراق الخاصة بالطائرات، أو السفن، أو الأقمار الصناعية، أو العروض أو الحيوانات أو الأثاث المنزلي. . إلخ أيما ذلك حصل تم القبض ويتغير حينئذ بتغير العادات وحسب اختلاف البلدان، وفي هذا يقول القرافي:" كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة، وليس هذا تجديدًا للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد، بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف اجتهاد ألا ترى أنهم أجمعوا على أن المعاملات إذ أطلق فيها الثمن يحمل على غالب النقود، فإذا كانت العادة نقدًا معينًا حملنا الإطلاق عليه، فإذا انتقلت العادة إلى غيره عينا ما انتقلت العادة إليه وألغينا الأول لانتقال العادة عنه "(1) .
وجاء في الفروق " العوائد لا يجب الاشتراك فيها بين البلاد خصوصًا البعيدة الأقطار، ويكون المفتي في كل زمان يتباعد عما قبله يتفقد العرف هل هو باق أم لا، فإن وجده باقيًا أفتى به وإلا توقف عن الفتيا وهذا هو القاعدة في جميع الأحكام المبنية على العوائد كالنقود والسكك في المعاملات والمنافع والإجارات والأيمان والوصايا والنذور في الإطلاقات فتأمل ذلك فقد غفل عنه كثير من الفقهاء ووجدوا الأئمة الأول قد أفتوا بفتاوى بناء على عوائد لهم وقد زالت تلك العوائد فكانوا مخطئين خارقين للإجماع "(2) .
(1) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص 231، 234، وانظر ابن القيم، إعلام الموقعين: 3/5.
(2)
القرافي: 3/162.
المطلب الثاني – التخلية في الربويات وقد قسمت الكلام فيه إلى فرعين:
الفرع الأول – بيع غير الأثمان بعضها ببعض:
إذا كنا في حاجة إلى معرفة كيفية القبض وصوره في سائر المعاملات لما يترتب عليه من الضمان وجواز التصرف، فإننا في باب الربا أحوج إلى ذلك لما يؤدى إليه عدم القبض من الوقوع في الربا المحرم شرعًا.
ولو تتبعنا حركة البيع والشراء فقد لا نجد من يبيع ربويًّا بجنسه متفاضلًا وإن وجد فهو نادر وإنما يخشى منه إذا اختلفت الأجناس وبيع بعضها ببعض فقد يتم القبض الحقيقي وقد لا يكون إلا التخلية وحينئذ فهل تكفي أو لا؟
خلاف سيأتي تفصيله وقد قسمت الأقوال فيه إلى مذهبين.
* المذهب الأول: تقدم في قبض المنقولات والمقدرات وهو أنه لا بد من القبض الحقيقي وذلك بتقدير المقدرات، ونقل غيرها أو تحويله من مكانه الذي بيع فيه إلى مكان غيره فليرجع إليه في مكانه.
* المذهب الثاني: ذهب الحنفية وبعض الحنابلة إلى أن التخلية كافية إذا عين المبيع وميز بينه وبين غيره.
قال ابن عابدين: " القبض في المجلس لا يشترط إلا في الصرف – وهو بيع الأثمان بعضها ببعض – أما ما عداه فإنما يشترط فيه التعيين دون التقابض. . . والمعتبر تعيين الربوي في غير الصرف، لأن غير الصرف يتعين بالتعيين ويتمكن من التصرف فيه فلا يشترط قبضه كالثياب "(1) .
وقال المرداوي: " وعنه أن قبض جميع الأشياء بالتخلية مع التمييز ونصره القاضي وغيره "(2) ؟
(1) حاشية رد المحتار: 5/172، 178.
(2)
الإنصاف: 4/470، وانظر ابن رجب، القواعد: ص74.
الفرع الثاني – بيع الأثمان بعضها ببعض:
أحكام الصرف واضحة جلية فلا يجوز بيع جنس بجنسه متفاضلًا ولا نسيئة، كما لا يجوز بيع جنس بآخر نسيئة وهذه الأحكام يخرج عليها بيع العملات بعضها ببعض فإذا اتحد الجنس حرم الفضل والنسأ، وإن اختلف جاز الفضل وحرم النسأ، ولكن جدت مشكلات وكانت مثارًا لإزعاج علماء الشريعة والاقتصاد حيث فرض قيود على بيع العملات بعضها ببعض، ولا سيما بين العملات الحرة والخاضعة للرقابة الاقتصادية في البنوك والدول التي تفرض قيودًا معينة على عملاتها.
وإن مما يهمنا في هذا البحث هو ما يتعلق بالقبض فهل تكفي فيه التخلية عند من يقول بالاكتفاء بها في غيرها من الربويات، أو لا بد من القبض الحقيقي؟
مذهبان:
* المذهب الأول: ذهب الحنفية والقول المشهور عند الشافعية وهو المذهب وبعض الحنابلة إلى اشتراط القبض الحقيقي في بيع الأثمان بعضها ببعض، وما يأخذ حكمها من العملات.
جاء في الفتاوى الهندية: " وأما شرائطة فمنها قبض البدلين قبل الافتراق كذا في البدائع سواء كانا يتعينان كالمصوغ أو لا يتعينان كالمضروب أو يتعين أحدهما ولا يتعين الآخر، كذا في الهداية "(1)، ثم ذكر أن المراد بالقبض في باب الصرف هو الحقيقي حيث قال:" وفي فوائد القدوري المراد بالقبض ههنا القبض بالبراجم (2) لا بالتخلية، يريد باليد كذا في فتح القدير "(3) .
وجاء في فتح القدير: " ولا بد من قبض العوضين قبل الافتراق بإجماع الفقهاء، وفي فوائد القدوري المراد بالقبض هنا القبض بالبراجم لا بالتخلية يريد اليد "(4) ، واشتراطهم القبض الحقيقي في الصرف تفريعًا على أن الأثمان لا تتعين بالتعيين فلذا، يجوز لكل من المتبايعين تبديلها بغيرها (5) .
(1) الفرغاني: 3/217.
(2)
المفصل الظاهر أو الباطن من الأصابع واحده برجمة، الفيومي المصباح المنير " برجم ".
(3)
المفصل الظاهر أو الباطن من الأصابع واحده برجمة، الفيومي المصباح المنير " برجم "، وانظر العيني البناية في شرح الهداية: 6/69.
(4)
ابن الهمام: 5/369.
(5)
ابن عابدين، حاشية: 5/172.
وجاء في قواعد ابن رجب: " والتخلية قبض في المعينات. . . واستثنى بعض أصحابنا منها المتعينات في الصرف لقوله عليه الصلاة والسلام: ((إلا هاء وهاء)) (1) ومراده أن الشارع اعتبر له القبض فالتحقق بالمبهمات "(2) وقول بعض الحنابلة هذا الذي اشترطوا فيه القبض الحقيقي مع قولهم أن الأثمان تتعين إلا أنهم ألحقوا الأثمان بالمبهمات في عدم الاكتفاء بالتخلية لما ورد من الحديث فيها " إلا هاء وهاء ".
* المذهب الثاني: ذهب بعض الحنابلة وما ورد من نصوص عامة عن المالكية وغير المشهور عند الشافعية – حيث أطلقوا في غير الصرف ولم أجد تقييدًا فيه – إلى أن التخلية قبض حتى في الصرف، جاء في الإنصاف:" وعنه أن قبض جميع الأشياء بالتخلية مع التمييز "(3) . .
وجاء في القواعد: " والتخلية قبض في المعينات "(4) ، والدراهم والدنانير تتعين عند الحنابلة بالتعيين، فلذلك جاء قول بعضهم أن التخلية كافية في الصرف.
وجاء في مواهب الجليل: " وقبض غير العقار مما ليس فيه حق توفيه بالعرف. . والتمكن من القبض هو معنى قول الموثقين أنزله فيه منزلته قال في مختصر المتيطة: ويلزم البائع إنزال المبتاع في البيع فيقول وأنزله فيه منزلته. . . ومعناه مكنه من قبضه وحوزه إياه "(5) .
وجاء في روضة الطالبين وتقدم: " وإن كان المبيع من المنقولات فالمذهب المشهور أنه لا يكفي فيه التخلية بل يشترط النقل والتحريك وفي قول رواه حرملة يكفي "(6) .
(1) البخاري، الصحيح مع فتح الباري: 4/374.
(2)
ص 74، وانظر المرداوي، الإنصاف: 4/467.
(3)
المرداوي: 4/470 ن وانظر ابن رجب، القواعد: ص74.
(4)
ابن رجب: ص 74.
(5)
الحطاب: 4/477 – 478.
(6)
النووي: 3/515، وانظر ابن حجر، فتح الباري: 4/350.
شروط التخلية:
اشترط الفقهاء للتخلية شروطًا سأذكرها فيما يلي، هي:
(1)
الإذن بالقبض، وقد ورد في بعض عبارات الفقهاء قولهم أن يقول البائع خليت بينك وبين المبيع فاقبضه، ويقول المشتري قبضت، وليس القول مقصودًا، فقد تكون بالكتابة أو الوضع أو أخذ الثمن وترك البائع ليقبض السلعة وكل ما تعارف الناس عليه إذ مرجع الأشياء المطلقة إلى العرف (1) .
(2)
أن يكون المبيع بحضرة المشتري بحيث يصل إلى أخذه من غير مانع عند الصاحبين خلافًا لأبي حنيفة حيث تصح التخلية ولو كان المبيع بعيدًا، ووصف قوله بأنه ضعيف، وعلل بأنه إذا كان قريبًا يتصور فيه القبض الحقيقي في الحال فتقام التخلية مقام القبض، أما إذا كان بعيدًا فلا يتصور القبض في الحال فلا تقام التخلية مقامه (2) .
(3)
أن يكون المبيع غير مشغول بحق الغير (3) ، أما إذا كان شاغلًا حق الغير كالحنطة في جوالق البائع وما أشبه ذلك فلا يمنع التخلية (4) .
(1) ابن عابدين، حاشية: 4/652، الحسيني، الفرائد البهية: ص53، قاضي خان، الخانية: 2/258، الشرواني، حاشية على تحفة المحتاج: 4/411.
(2)
قاضي خان، الخانية: 2/258، الحسيني، الفرائد البهية: ص 53، النووي، روضة الطالبين: 3/515، المرداوي، الإنصاف: 4/471.
(3)
لم يعتبر الحنابلة خلو المبيع من متاع البائع شرطًا انظر ابهوتي، كشاف القناع: 3/248، وفروق المالكية بين دار سكنى البائع فاشترطوا خلوها ولم يشترطوه في غيرها، الدردير، الشرح الصغير: 3/199 -200.
(4)
الحسيني، الفرائد البهية: ص 53، قاضي خان، الخانية: 2/258 الدردير، الشرح الصغير: 3/199 -200، النووي، روضة الطالبين: 3/514، 315.
صور القبض المستجدة:
قبل الحكم على أي معاملة أو صورة من الصور المعاصرة لا بد من تحديد نوعها والنظر بعين فاحصة إلى أي العقود تنتمي، والأحكام المتعلقة بهذا العقد ومن ثم تكييف المعاملة المستجدة على ضوء ما أورده الفقهاء من النصوص العامة، وما اشتملت عليه الشريعة الإسلامية من جلب للمصالح ودرء للمفاسد.
وإن الباحث ليشعر حين الكتابة عن صور القبض في هذا العصر بشيء من الحرج والحذر ولا سيما فيما يتعلق بقبض الشيكات والأوراق التجارية الأخرى وتظهيرها (1) ، والقيد على الحساب، ولا سيما إذا كان العوضان ربويين ولكن لعلمي أن ما كتبته سيعرض على علماء أجلاء وخبراء اقتصاديين يصححون الخطأ ويقيدون المطلق، وما اتضح سيعمل به وما لم يتضح سيؤجل ويطلب فيه زيادة بحث وتمحيص حتى يتضح الصواب.
كتبت جملة من الصور التي أمكن الإطلاع عليها، ولم يكن الإحصاء مقصدًا من مقاصد هذا البحث فإن من بدأ في تأسيس شيء من هذه الصور لا يطلب منه الاستقصاء والحصر، وسيكون في المستقبل غير الموجود، والمتأخر يلحق الصور بأشباهها شيئًا فشيئا وما أوتيتم من العلم إلا قليلا والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
وعلى اختلاف الآراء في التخلية هل هي قبض أو لا؟ تخرج الصور الموجودة في الأسواق من حيث الصحة وعدمها وعلى ضوء اختلافهم فيما تعتبر فيه هل هو العقار خاصة أو كل شيء إلا الربويات، أو أنها تكفي في الربويات غير الصرف أو حتى في الصرف خلاف سبق تفصيله تخرج عليه الصور القادمة.
(1) التظهير: نقل ملكية الورقة التجارية لمستفيد جديد أو توكيله في استيفائها أو رهنها بعبارة تفيد ذلك الجعيد، احكام الأوراق النقدية والتجارية: ص 220.
وأول الصور التي سأذكر ملخصًا للأراء فيها هو الشيك لكثرة استعماله بل غلبة قبضه في معاملاتنا المعاصرة؟ وهل قبضه قبض لمحتواه أم لا؟
إجابة على هذا السؤال أرى أنه لا بد من بيان وتوصيف للشيك؟ ما هو؟
وإجابة على هذا يقول الدكتورعيسى عبده رحمه الله: " الشيكات تعتبر في نظر الناس وعرفهم وثقتهم بمثابة النقود الورقية، وأنها يجرى تداولها بينهم كالنقود تظهيرًا وتحويلًا، وأنها محمية في قوانين جميع الدول من حيث إن سحب الشيك على بنك ليس للساحب فيه رصيد يفي بقيمة الشيك المسحوب يعتبر جريمة شديدة تعاقب عليها قوانين العقوبات في الدول جميعًا، إذا نظرنا إلى هذه الاعتبارات يمكن القول معها بأن تسليم المصرف الوسيط شيكًا بقيمة ما قبض من طالب التحويل يعتبر بمثابة دفع بدل الصرف في المجلس – أي أن قبض ورقة الشيك كقبض مضمونه – فيكون الصرف قد استوفي شريطته الشرعية في القبض "(1) .
وجاء في الأوراق التجارية: " الأوراق التجارية تقوم مقام النقد فهي قابلة للتداول وتنتقل بالتظهير من شخص إلى آخر أو تكون لحاملها فيكتفى فيها بالمناولة لتصبح في ملكية الغير الحائز لها وتيسر لحاملها الحصول على النقود فورًا بخصمها لدى المصارف أو باستعمالها في تسوية الديون فهي أداة ائتمان ووفاء ونقد ولها من ذاتها ما يساعد على حمايتها من العبث، لأن المشرع (2) عندما قرر وضعها قيد التداول حرص على أن تكون مقيدة بشروط شكلية ملزمة تصبغ عليها الصفة التجارية وأيدها بمؤيدات جزائية تحميها من العبث والاستهانة بقوتها المادية والإبرائية والحقوقية. . . وهي ورقة نقدية عند الحاجة إليها فيضمن حاملها الحصول على النقد مهما كان مقداره بمجرد حصوله على هذه الورقة وعرضها على المصرف أو على عملاء هذا المصرف في أماكن مختلفة "(3) .
وقد اشترط في كون قبض الشيك قبضًا لمحتواه أن يكون مؤرخًا للسحب في اليوم نفسه وأن يكون محدد المبلغ (4) ، وله رصيد كاف.
(1) العقود الشرعية الحاكمة: ص 248، وانظر السالوس، استبدال النقود: ص96.
(2)
التعبير بالقانونيين أو الاقتصاديين بدلًا من المشرع متعين لما فيه من الإيهام
(3)
محمود بابللي: ص15.
(4)
السالوس، استبدال النقود: ص42.
وقد وردت عدة اعتراضات على القول بأن قبض الشيك قبض لمحتواه، منها:
(1)
قد يسحب الشيك على بنك لا رصيد للساحب فيه، أو يكون الرصيد غير كاف بقيمة الشيك، فلا يتم القبض أو يتأخر، ومعلوم اشتراط التقابض في الصرف.
(2)
قد يلغى الشيك بعد كتابته أو يسترد مقابله.
(3)
قد يعلق صرف الشيك على أمر مكتوب بإخطار من صاحب الرصيد فيتأخر القبض أو يمتنع المسحوب عليه من الوفاء (1) .
وعلى الرغم من أن هذه الاعتراضات واردة على الشيك، ولكن نوقشت بأن هذه المخاطر لا تقل من حيث الخطورة عن مخاطر النقود التي قد تكون مزيفة وغالبًا لا يعرف من زيفها، والقانون لا يحمي حامل النقود المزيفة، أما حامل الشيك فمحمي إذ يعتبر سحب الشيك بدون رصيد من الجرائم التي تعاقب عليها الدول أشد العقوبات (2) .
وقد ذهب كثير من الباحثين المعاصرين إلى أنه يكفي قبض الشيك عن قبض محتواه (3) ، منهم الشيخ ستر الجعيد، والدكتور سامي حمود حيث ناقش بعض من اعترض على هذا القول بقوله:" الآراء الفقهية تختلف في المراد بالقبض، فالقبض على ما يرى الحنفية المراد به التعيين باعتبار أن اليد في قوله صلى الله عليه وسلم: ((يدًا بيد)) ليس مرادًا بها اليد الجارحة. . بل يمكن حمل اليد على التعيين لأنها آلته، ولذلك فإنه إذا وقع البيع على مال ربوي بمال ربوي آخر – قمح بشعير مثلًا – فإن تعيينها يقوم عند الحنفية مقام القبض، ولكن الأمر يختلف عندهم بالنسبة للنقود "(4) .
وعلى هذه الأقول يعتبر قبض الشيك الذي أصبح وسيطًا في أكثر المعاملات التجارية قبضًا لمحتواه، لأن هذا معنى التخلية في قول الجمهور حيث يرونها كافية في القبض في غير الصرف.
أما بعض الحنابلة فيرونها كافية حتى في الصرف كما تقدم تفصيل ذلك وإيراد النصوص الدالة عليه، وممن اعتبر الحوالة قبضًا ابن قدامة حيث قال:" الحوالة بمنزلة القبض وكأن المحيل أقبض المحتال دينه فيرجع عليه به ويأخذ المحتال من المحال عليه وسواء تعذر القبض من المحال عليه أو لم يتعذر "(5) .
وقال: " وإن أحال المكاتب سيده بنجم قد حل عليه صح وبرئت ذمة المكاتب بالحوالة ويكون ذلك بمنزلة القبض "(6) .
(1) المرصفاوي حسن صادق، جرائم الشيك: ص 100، 126، الجعيد، الأوراق التجارية والنقدية: ص 332.
(2)
السالوس، استبدال النقود: ص 96، 168، الجعيد، الأوراق النقدية والتجارية: ص 333.
(3)
الجعيد، الأوراق النقدية والتجارية: ص 333، أحمد الحسني، تطور النقود: ص 143.
(4)
تطوير الأعمال المصرفية ص346.
(5)
المغني: 4/578.
(6)
المغني: 4/578.
قبض الكمبيالة:
ليست حقيقة جميع الكمبيالات واحدة، وإنما بعضها يشارك الشيك في صفاته وهي المسحوبة على بنك أو مصرف يجب دفع قيمتها بمجرد الإطلاع عليها (1) ، فتأخذ أحكام الشيك في القبض والتداول بالتظهير.
قبض الشيكات السياحية:
إذا اعتبرنا قبض الشيك قبضًا لمحتواه فما حكم قبض الشيك السياحي هل هو مثل قبض الشيك أو أنه يغايره؟
نقل النقود من مكان إلى آخر قد عرضها خطر السرقة والغصب أو الضياع، وهذه المشكلات حلت بعد استحداث " الشيك السياحي " وظهرت له مميزات يستحيل تحقيقها عن طريق استخدام طرق الوفاء القديمة (2) .
ولكن عند الكلام على قبضها وهل هو قبض لمحتواها أو لا؟
لابد من بيان الوصف الفقهي لها.
وإجابة عليه لا بد من معرفة أن نظام الشيك السياحي حديث نسبيا ولذلك اختلف في تكييفه هل هو شبيه بالشيك المتعارف عليه؟ أو هو سند لآمر؟ أو هو من الأوراق المالية؟ -أوراق البنكنوت –فمن ألحقها بالشيك عد قبضها تخلية، ومن ألحقها بالأوراق النقدية تم القبض الحقيقي عنده (3) .
وذهب إلى القول بإعطائها أحاكم الأوراق النقدية بعض الباحثين المعاصرين (4) .
القيد على الحساب:
هل القيد على الحساب قبض؟ وهل يستوي الأمر في الصرف والتحويل أو أن لكلٍّ حكمًا يخصه؟
ورد في بحث أعد من قبل إدارة البحوث العملية نقلًا عن الدكتور علي البارودي ما نصه: " عملية التحويل المصرفي تتم بواسطة قيود يجريها البنك، مضمونها أنه يجعل حساب عميل معين مدين بمبلغ معين لكي يجعل حساب عميل آخر دائنا بذات المبلغ أو هي نقل من حساب لحساب آخر بمجرد قيود في الحسابين، وتبدأ هذه العملية عندما تنشأ علاقة مديونية بين شخصين لكل منهما حساب في البنك فبدلًا من أن يقوم المدين منهما بسحب مبلغ من حسابه فيوفي به للآخر الذي يلجأ إلى البنك مرة أخرى ليودعه يصدر العميل المدين أمرًا إلى البنك بأن ينقل من حسابه إلى حساب دائنه مبلغًا يعادل قيمة الدين فيجري البنك القيود اللازمة ثم يخطر العميل الدائن بأنه أضاف إلى حسابه هذا المبلغ نقلًا من حساب مدينه، وتمام العملية على هذا الوجه يغني عن استعمال النقود ماديًّا من العميل الآمر إلى دائنه العميل المستفيد عن طريق مناولة يدوية من جانب البنك المتوسط. . . لذلك اتجه أغلب القانونيين إلى تكييف النقل المصرفي بأنه عملية مادية شكلية تساوي في نظر القانون عملية تسليم مادية لمبلغ من النقود، بل قد أطلقوا عليها والتعبير موفق إلى أبعد حد أنها نقود قيدية، فالعميل المستفيد قد تسلم نقودًا بالفعل من العميل الآمر كل ما هناك أن طريقة التسليم طريقة مصرفية حديثة "(5) .
(1) الجعيد، الأوراق التجارية: ص 209، 210، 225.
(2)
أميرة صدقي، الشيكات السياحية: ص 5.
(3)
أميرة صدقي، الشيكات السياحية: ص 40، 64،70 العتر، المعاملات المصرفية: ص 38.
(4)
الجعيد، الأوراق النقدية والتجارية: ص 318، وانظر أميرة صدقي، الشيكات السياحية: ص 40، 73، 74،75.
(5)
العقود وعمليات البنوك التجارية: ص 284، وانظر بحث إدارات البحوث العلمية، المعاملات المصرفية: ص 9، 10.
القيد على الحساب في الصرف:
يعتبر القيد في دفاتر المصرف في حكم القبض لمن يريد استبدال عملة بعملة أخرى سواء كان الصرف بعملة يعطيها الشخص للمصرف أو بعملة مودعة فيه. . . والنقل أو التحويل المصرفي عملية مجردة فهو أشبه بعملية تسليم النقود ماديًّا من العميل الأمر إلى دائنه العميل المستفيد عن طريق مناولة يدوية من جانب البنك المتوسط " (1) .
قبض أوراق البضائع:
الأوراق الواردة على بضائع كوثيقة الشحن " البوليصة " وسند إيداع متاع، أو بضاعة في مخزن عام ليست أوراقًا تجارية، لأنها لا تمثل مبلغًا معينًا من النقود يسهل الحصول عليه ومع ذلك فإنه يتم تداولها بطريقة التظهير ويعتبر تظهيرها بمثابة قبض للأعيان التي هي وثائق بها (2) .
قبض أسهم الشركات:
الأسهم هي نصيب المساهم في مال الشركة وهي مثبتة في صكوك لها قيمة اسمية، وتمثل الأسهم في مجموعها رأس مال الشركة ويصدر بها صكوك تمثل حصة المساهم في رأس مال الشركة، ومن أهم خصائصها أنها أنصبة متساوية القيمة (3) .، وغير قابلة للتجزئة، وقابلة للتجزئة، وقابلة للتداول بالطرق التجارية (4) ويرى كثير من الاقتصاديين أن الفرق بين شركات الأشخاص وشركات الأموال هو قابلية الأسهم للتداول (5) ، وهي إما أسهم اسمية أو لحاملها، فإن الأسهم الاسمية – التي يوضح اسم مالكها تنتقل ملكيتها بنقل قيدها في سجل المساهمين (6) ، أو تظهيرها أما الأسهم لحامله – وهي التي لا تحمل اسم مالكها – ويحصل قبضها بتسليم الصك لحامله، وتداولها بالتسليم من يد إلى يد دون الحاجة إلى التنازل في دفاتر الشركة (7) وإن وجد نزاع في صحة هذا النوع من الأسهم لما فيها من الجهالة والغرر إلا أنها إن صحت فقبضها بما ذكر ومرجع ذلك العرف ونصوص اللوائح الأساسية لتأسيس الشركة.
* * *
(1) البارودي، العقود وعمليات البنوك: ص 281، 284، انظر بحث إدارات البحوث العلمية المعاملات المصرفية: ص 9، 10.
(2)
عيسى عبده، العقود الشرعية الحاكمة: ص 263، 264.
(3)
قد يوجد أسهم ممتازة تخص دون غيرها من الأسهم العادية ببعض المزايا، أحمد محيي الدين سوق الأوراق المالية: ص 30.
(4)
أحمد محيي الدين، سوق الأوراق المالية: ص 28، 31.
(5)
أحمد محيي الدين، سوق الأوراق المالية: ص 31.
(6)
أحمد محيي الدين، سوق الأوراق المالية: ص 81، 82.
(7)
أحمد محيي الدين، سوق الأوراق المالية: ص 81، 82.
الخاتمة
الفقه الإسلامي قادر على استيعاب جميع ما يجد من مشكلات في الحياة ووضع الحلول المناسبة لها، وليس معنى ذلك الموافقة على كل ما يجد وإيجاد المسوغات له، بل إنه يدرس الوقائع والنوازل المستجدة ويعطيها تكييفًا معينًا، ومن ثم الحكم بالقبول أو الرفض على ضوء الأسس العامة والقواعد الكلية الموجودة في الشريعة الإسلامية.
ومن أهم النتائج التي توصلت لها في هذا البحث المختصر:
(1)
إن القبض ينقسم إلى قسمين، حقيقي وحكمي وهو " التخلية ".
(2)
القبض الحقيقي يكون بتقدير المقدرات بالكيل والوزن والعد والذرع، ونقل المنقولات من مكانها وتحريك الحيوانات وتمشيتها من مكانها، فمتى تم ذلك ترتب عليه آثاره كالضمان وجواز التصرف.
(3)
القبض الحكمي متفق على الاكتفاء به في غير المنقول كالدور والأراضي والآبار وبيع المدن والقرى والأشجار والغرس.
(4)
أما في المنقولات فهل يكتفى به أو لا؟
خلاف بين العلماء مجملة في رأيين: أحدهما عدم الاكتفاء به ولا بد من تقدير المقدرات ونقل غيرها أو تحويلها من مكانها الذي تم التعاقد فيه.
والثاني: الاكتفاء به في غير الصرف وهو مذهب الحنفية والمالكية وأحد قولي الحنابلة، وأحد القولين للشافعي، أما الصرف ففي الاكتفاء به خلاف حيث يرى الحنفية وبعض الحنابلة أنه لا يكتفى فيه – أي في الصرف- إلا بالقبض الحقيقي، وقول بعض الحنابلة وما اتضح لي من أقوال المالكية وأحد القولين عند الشافعي الاكتفاء يه حتى في الصرف.
أما الربويات غير الصرف فيوافق الحنفية غيرهم في الاكتفاء بالتخلية فيها، وذلك بناء على أصلهم في أن الربويات تتعين بالتعيين، أما الدراهم والفلوس فلا تتعين بالتعيين عندهم.
(5)
صور القبض تختلف باختلاف العرف وتتغير بتغيره فما يكون قبضًا في زمن وبلد قد لا يكون قبضًا في الزمن الذي بعده، وما يكون قبضًا في بلد قد لا يكون قبضًا في بلد قريب منه.
(6)
إن الصور التي ذكرتها هي في البيوع الصحيحة العاجلة، وأما غير الصحيحة والآجلة فهي خارجة عن الصور المذكورة، ولها مجال آخر، وتبحث في سوق البورصة والبيوع الآجلة – السلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
ملخص البحث
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أما بعد.
فلما كان موضوع القبض أحد الموضوعات التي ستطرح للنقاش في الدورة السادسة لمجمع الفقه الإسلامي، فقد كتبت فيه بحثًا مختصرًا اشتمل على تعريفه وبيان أقسامه وكيفته في كل قسم، وصوره المستجدة مخرجة على ما سبقها من تقعيدات لأهل العلم والقيود التي ذكروها لذلك، وقد ذكرت في كل مبحث أقوال أهل العلم موثقة من أهم مصادرهم، وناقشت أدلة كل بما أمكن من مناقشة، وقد رتبت مذاهب العلماء حسب اختلافهم في كل مسألة وسأذكر في هذا الملخص ما يعطي صورة مصغرة للبحث تاركًا التفصيلات إلى مكانها المذكورة فيه.
تعريف القبض:
أولا – في اللغة: يدور معنى هذه اللفظة في اللغة حول الجمع والضم والأخذ.
ثانيا – في الاصطلاح: فلعل أوفى تعريف يشمل قسميه ما جاء في الحيازة نقلًا عن الطوسي في الخلاف حيث قال: " القبض هو التمكن من التصرف ".
وما ذكره الكاساني بقوله: " معنى القبض هو التمكن والتخلي وارتفاع الموانع عرفًا وعادة حقيقية " وعلى ضوء التعريفات وما ذكره أهل العلم عند شرحها ظهر أن القبض ينقسم إلى قسمين.
أحدهما: القبض الحقيقي ويتم بتقدير المقدرات بالكيل والوزن، والعد والذرع ونقل المنقولات، كالسيارات والطائرات والأثاث، مواد البناء، والحيوانات من مكانها الذي تم التعاقد فيه إلى مكان آخر.
والثاني: القبض الحكمي، وقد اتفق الفقهاء جميعهم على الاكتفاء به فيما لا ينقل كالأراضي والدور والأشجار والغرس – على تفصيل فيهما – وأما ما ينقل كالحبوب والثمار والأثاث فهل يكفي فيه القبض الحكمي أم لا بد من القبض الحقيقي؟ خلاف بين العلماء رحمهم الله يتلخص في قولين في أحدهما تفصيل:
أحدهما: عدم الاكتفاء (بالتخلية)(1) فيما يمكن تقديره أو نقله وتحويله إلا بالقبض الحقيقي.
والثاني: قسمته إلى فرعين:
الفرع الأول: الاكتفاء بالتخلية في كل شىء حتى الصرف.
الفرع الثاني: الاكتفاء بها في غير الصرف، أما الصرف فلا يكفي فيه إلا القبض الحقيقي وقد فصلت ذلك في مكانه من البحث، وعلى ضوء ما ورد من تفصيل في مكانه ذكرت الصور المستجدة كقبض الشيك الحالِّ، والقيد على الحساب وقبض الكمبيالة التي تشارك الشيك في صفاته، وقبض أوراق البضائع وتظهيرها، وقبض أسهم الشركات وتظهيرها مما يعد قبضًا حكميًا، وقد بينت أن القبض يختلف باختلاف العرف ويتغير بتغيره، فما يكون قبضًا في زمن أو بلد قد لا يكون قبضًا في الزمن الذي بعده، وما يكون قبضًا في بلد قد لا يكون قبضًا في البلاد القريبة منه.
وليعلم أن الصور التي ذكرتها لا بد من توفر شروط التخلية فيها، وأنها خاصة بالبيوع العاجلة، وأما البيوع الآجلة أو الممنوعة شرعًا فتبحث في سوق البورصات والسلم والبيوع المنهي عنها.
والله أسأل أن يكون في اجتماع أصحاب السماحة والفضيلة ما يصحح ما قد يكون وقع في هذا البحث من زلل أو خطأ أو تعميم أو تصحيح نسبة وقع الخطأ فيها {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .
الدكتور سعود بن مسعد الثبيتي
(1) لغة: الترك ولإعراض، واصطلاحا: رفع الموانع والتمكن من القبض سعدي أبو جيب، القاموس الفقهي، ص 121، 122
فهرس المصادر والمراجع
- أحمد الحسني، تطور النقود رسالة ماجستير جامعة أم القرى.
- أحمد محيي الدين، سوق الأوراق المالية. رسالة ماجستير، جامعة أم القرى.
- إدارات البحوث العلمية، المعاملات المصرفية بحث لم ينشر.
- أميرة صدقي، الشيكات السياحية. دار النهضة العربية، 1981 م.
- الباجي، المنتقى، الطبعة الأولى، 1331 هـ، مطبعة السعادة، مصر.
- الباز، شرح المجلة. الطبعة الثالثة، دار إحياء التراث العربى.
- البخاري، الجامع الصحيح، مع فتح الباري. المطبعة السلفية، 1390 هـ.
- البهوتي، الكشاف. مكتبة النصر الحديثة.
- التسولي، البهجة شرح التحفة. دار الفكر، بيروت.
- ابن تيمية، الفتاوى. مكتبة المعارف، الرباط.
- ابن تيمية، رءوس المسائل – القواعد النورانية. الطبعة الأولى، 1370 هـ، مطبعة السنة المحمدية.
- الجعيد، أحكام الأوراق النقدية والتجارية. رسالة ماجستير، جامعة أم القرى.
- ابن حجر، تلخيص الحبير. تحقيق شعبان محمد إسماعيل، 1399 هـ، مكتبة الكليات الأزهرية.
- ابن حجر، فتح الباري. المطبعة السلفية، 1390 هـ.
- الحسيني، الفرائد البهية. الطبعة الأولى، 1406 هـ، دار الفكر، دمشق.
- الحطاب، مواهب الجليل. مكتبة النجاح، طرابلس – ليبيا.
- أبو داود، السنن. تعليق محمد محيي الدين، دار إحياء السنة.
- الدردير، الشرح الصغير. دار المعارف، مصر، 1974 م.
- الدردير، الشرح الكبير، على هامش حاشية الدسوقي.
- الدسوقي، حاشية الدسوقي. المكتبة التجارية الكبرى.
- ابن رجب، القواعد، تعليق طه عبد الرءوف. الطبعة الأولى، 1392 هـ، مكتبة الكليات الأزهرية.
- الرصاع، شرح الحدود. الطبعة الأولى، 1350 هـ، المطبعة التونسية.
- الزيلعي، نصب الراية. الطبعة الثانية، 1393 هـ، المكتبة الإسلامية.
- السالوس، استبدال النقود، الطبعة الأولى، 1405 هـ، مكتبة الفلاح – الكويت.
- سامي حمود، تطوير الأعمال المصرفية. الطبعة الأولى، 1396 هـ، دار الاتحاد العربي للطباعة.
- سعدي أبو جيب، القاموس الفقهي. الطبعة الأولى، 1402 هـ، دار الفكر، دمشق.
- الشرواني، حاشية على تحفة المحتاج. دار صادر.
-
- الشوكاني، نيل الأوطار. مصطفى البابي الحلبي.
- ابن عابدين، حاشية رد المحتار. الطبعة الثانية، 1368 هـ، مصطفى البابي الحلبي.
- ابن عابدين رسم المفتي " مع مجموعة رسائل ابن عابدين ". دار سعادت، مطبعة " سي "، 1325 هـ.
- العتر، المعاملات المصرفية. الطبعة الرابعة، 1406هـ، مؤسسة الرسالة.
- عيسى عبده، العقود الشرعية الحاكمة. الطبعة الأولى، 1397 هـ، دار الاعتصام.
- العيني، البناية في شرح الهداية. الطبعة الأولى، 1401 هـ، دار الفكر.
- ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، 1399 هـ، دار الفكر – بيروت.
- الفرغاني، الفتاوى الهندية " العالمكيرية ". الطبعة الرابعة، دار إحياء التراث العربي.
- الفيومي، المصباح المنير. مصطفى البابي الحلبي.
- قاضي خان، الخانية على هامش الفتاوى الهندية.
- ابن قدامة، المغني. مكتبة الجمهورية الغربية.
- القرافي، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام. تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، مكتبة المطبوعات الإسلامية، 1387 هـ.
- القرافي، الفروق. دار المعرفة، بيروت.
- ابن القيم، أعلام الموقعين. تحقيق عبد الرحمن الوكيل، مطبعة الكيلاني.
- الكاساني، بدائع الصنائع. الناشر: زكريا علي يوسف.
- الكفوي، الكليات. الطبعة الثانية، 1981 م، وزارة الثقافة – دمشق.
- ابن ماجه، السنن. تعليق محمد فؤاد عبد الباقي، عيسى الحلبي.
- مجموعة من العلماء مجلة الأحكام العدلية. الطبعة الخامسة، 1388 هـ.
- المحلي، شرح المنهاج. الطبعة الثالثة، 1375 هـ، مصطفى الحلبي على هامش قليوبي وعميرة.
- بابللي، الأوراق التجارية. المؤسسة العلمية للوسائل التعليمية، حلب.
- المرداوي، الإنصاف تحقيق الفقي، الطبعة الثانية، 1378 هـ، مطبعة السنة المحمدية.
- المرصفاوي، جرائم الشيك. الطبعة الأولى، 1963 م، دار المعارف، مصر.
- مسلم، الجامع الصحيح، مع شرح النووي. الطبعة الثانية، 1392 هـ، دار الفكر، بيروت.
- ابن منظور، لسان العرب. طبعة بولاق.
- نزيه حماد، الحيازة. الطبعة الأولى، 1398 هـ، دار البيان، دمشق.
- النووي، روضة الطالبين. المكتب الإسلامي.
- ابن الهمام، فتح القدير. الطبعة الأولى، 1315 هـ، المطبعة الكبرى الأميرية، مصر.