الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القبض الحقيقي والحكمي: قواعده وتطبيقاته
من الفقه الإسلامي
إعداد
فضيلة الشيخ نزيه كمال حماد
أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله بكلية الشريعة
جامعة أم القرى
بسم الله الرحمن الرحيم
القبض في اللغة:
1-
القبضُ لغةً: هو تناولُ الشيءِ بجميع الكفَّ. ومنه قبضُ السيفِ وغيره. ويقال: قَبَضَ المالَ؛ أي أخذه بيده، وقَبَضَ اليدَ على الشيء؛ أي جَمَعَهَا بعد تناوله، وقبَضَها عن الشيءِ؛ أي جَمَعَهَا قبل تناوله، وذلك إمساكٌ عنه، ومنه قيل لإِمساك اليد عن البذل والعطاء قَبْض.
ويستعار القبضُ لتحصيل الشيء، وإن لم يكنْ فيه مراعاةُ الكفّ، نحو قَبَضْتُ الدار والأرض من فلان؛ أي حُزْتُهَا. ويقال هذا الشيء في قَبْضَةِ فلان؛ أي في ملكه وتصرّفه.
ويقال: قَبَضْتُهُ عن الأمر؛ أي عزلته. وتَقَبَّضَ عنه؛ أي اشمأزّ. وقد يكنّى بالقبض عن الموت، فيقال: قُبِضَ فلان؛ أي مات. فتجوّزوا بالقبض عن الإِعدام، لأنَّ المقبوضَ من مكان يخلو منه مَحَلّه، كما يخلو المحلُّ عن الشيء إذا عُدِم (1) .
القبض في الاصطلاح الفقهي:
2-
لا خلاف بين الفقهاء – على اختلاف مذاهبهم – في أن القبض عبارةٌ عن حيازة الشيء والتمكن منه، سواء أكان مما يمكن تناوله باليد أو لم يكن (2) . قال الكاساني: ومعنى القبض هو التمكينُ والتخلي ارتفاعِ الموانع عرفًا وعادةً حقيقةً" (3) . وقال العز بن عبد السلام: "قولهم قَبَضْتُّ الدار والأرضَ والعبدَ والبعير، يريدون بذلك الاستيلاءَ والتمكنَ من التصرف" (4) .
3-
وبالنظر إلى القبض في معناه اللغوي وفي معناه الاصطلاحي نلاحظ أنَّ بينهما نسبةَ العموم والخصوص المطلق، لأنَّ القبضَ يستعمل في اللغة لتحصيل الشيء وإن لم يكن فيه مراعاةُ الكفّ – وهو معناه الاصطلاحي – ويستعمل أيضًا لمعانٍ أخرى. فكان كلُّ قبضٍ بالمعنى الاصطلاحي قبضًا بالمعنى اللغوي ولا عكس، إذ الأخصُّ يستلزم دائمًا معنى الأعمّ ولا عكس.
(1) انظر مادة قبض في الصحاح للجوهري: 3/1100، مفردات الراغب: ص 391، بصائر ذوي التمييز: 4/288، المصباح المنير: 2/587، معجم مقاييس اللغة: 5/50، المغرب للمطرزي: 2/107، وانظر الإِشارة إلى الإيجاز للعز بن عبد السلام: ص 106.
(2)
انظر القوانين الفقهية: ص 328، البهجة شرح التحفة: 1/168، ميارة على العاصمية: 2/144، حدود ابن عرفه وشرحه للرصاع: ص 415، شرح مرشد الحيران للأبياني وسلامة: 1/58.
(3)
بدائع الصنائع: 5/148.
(4)
الإشارة إلى الإيجاز للعز بن عبد السلام: ص 106.
الألفاظ ذات الصلة
النقد:
4-
يطلق الفقهاء كلمة "النَّقْد" بمعنى الإِقباض والتسليم إذا كان الشيءُ المعطى نقودًا. ففي المصباح المنير "نَقَدْتُّ الرجلَ الدراهمَ، بمعنى أعطيتُه. . فانتقدها، أي قَبَضَها"(1) . وقال القاضي عياض: "النَّقْد: خلافُ الدّين والقرض"(2) . وقال الفيروزابادي: "النَّقْد: خلافُ النسيئة "(3) . وإنّما سُمِّيَ إقباضُ الدراهم نقدًا، لتضمنه – في الأصل (4) – تمييزها وكشف حالها من حيث الجودة وإخراج الزيف منها من قِبَلِ المعطي والآخذ (5) .
أما مصطلح "بيع النّقد" فهو – كما قال ابن جزي – "أَنْ يُعَجَّل الثمنُ والمثمون"(6) .
المناجزة:
5-
وهذه اللفظة من المصطلحات الفقهية التي يستعملها فقهاء المالكية، ويعنون بها "قبض العوضين عَقِبَ العقد" (7) . وغيرهم يقول:"بعتُهُ ناجزًا بناجز" أي يدًا بيد. وشيء ناجزٌ: أي حاضر (8) : "وبعتُهُ غائبًا بناجز" أي نسيئةً بنقد (9) .
الحيازة:
6-
يقول أهل اللغة: "كلّ مَنْ ضمَّ إلى نفسه شيئًا، فقد حازَهُ حَوْزًا وحيازةً"(10) . أما في الاصطلاح الفقهي، فأكثر ما تستعمل هذه الكلمة في مذهب المالكية، وإنهم ليستعملونها في كتبهم بمعنيين أحدهما أعمّ من الآخر.
(أ) أما بالمعنى الأعمّ، فيرديونَ بالحيازة إثباتَ اليد على الشيء والتمكنَ منه، وهو نفس معنى القبض عند سائر الفقهاء. وشاهد ذلك قول ابن أبي زيد القيرواني في الرسالة:"ولا تتمُّ هبةٌ ولا صدقة ولا حُبُس إلابالحيازة"(11) . أي إلا بالقبض.
(1) المصباح المنير مادة نقد: 2/760، وانظر المطلع للبعلي: ص 234، الصحاح 2/544.
(2)
مشارق الأنوار للقاضي عياض: 2/23.
(3)
القاموس المحيط مادة نقد: ص 412 (ط. مؤسسة الرسالة)، وانظر لسان العرب: 3/425.
(4)
قال البعلي: النّقد في الأصل: مصدر نَقَدَ الدراهم؛ إذا استخرجَ منها الزيف". (المطلع: ص 265) .
(5)
انظر معجم مقاييس اللغة: 5/467، لسان العرب: 3/425.
(6)
القوانين الفقهية: ص 254.
(7)
شرح الأبيّ المالكي على صحيح مسلم: 4/266.
(8)
المصباح المنير مادة نجز: 2/725.
(9)
المغرب للمطرزي: 2/289.
(10)
الصحاح للجوهري: 3/875، الكليات للكفوي (ط. دمشق) : 2/187.
(11)
الرسالة (تحقيق محمد أبو الأجفان) ص 228، وانظر التاودي على تحفة ابن عاصم: 1/168.
وفي كثير من المواطن يعتاضون عن كلمة "الحيازة" بهذه الدلالة بكلمة "حَوْز"، ففي شرح التسولي على تحفة ابن عاصم:"الحَوْز وضعُ اليد على الشيء المحوز (1) وقال ابن رحال المعداني: " والحاصل: الحوز والقبض شيء واحد (2) .
(ب) أما الحيازة – بالمعنى الأخص – عند المالكية، أي الحيازةُ التي هي سَنَدُ الملكية لمن يدعيها، فهي عبارةٌ عن سلطةٍ فعليةٍ على شيء، يمارسها شخصٌ قد يكون مالكًا لذلك أو غير مالك له، وقد عرّفها أبو الحسن المالكي في كفاية الطالب الرباني بقوله:"الحيازةُ: هي وضعُ اليد والتصرفُ في الشيء المحوز كتصرف المالك في ملكه بالبناء والغرس والهدم وغيره من وجوه التصرّف"(3) . وقال الحطاب: والحيازة تكونُ بثلاثة أشياء، أضعفها: السكنى والازدراع. ويليها: الهدم والبنيان والغرسُ والاستغلال. ويليها: التفويت بالبيع والهبة والصدقة والنحلة والعتق والكتابة والتدبير والوطء، وما أشبه ذلك مما لا يفعلُهُ الرجلُ إلافي ماله" (4) .
اليد:
7-
يستعمل الفقهاء كلمة "اليد" في باب ترجيح البينات بمعنى حَوْز الشيء والمكنة من استعماله والانتفاع به، فيقولون مثلا "بيّنةُ ذي اليد في النتاج مقدَّمةٌ على بيّنة الخارج"(5)، ويريدون بذي اليد الحائزَ المنتفع. وجاء في المدونة:"قلت: أرأيت لو أنَّ سلعةً في يدي ادّعى رجلٌ أنها له، وأقام البينةَ، وادعيتُ أنها لي، وهي في يدي، وأقمتُ البينةَ؟ قال: قال لي مالك: هي للذي في يده إذا تكافأت البيّنتان"(6) .
(1) البهجة شرح التحفة للتسولي: 1/268
(2)
حاشية الحسن بن رحال على شرح ميارة: 1/109، وانظر القوانين الفقهية: ص 328.
(3)
كفاية الطالب الرباني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني: 2/340.
(4)
مواهب الجليل: 6/222.
(5)
جامع الفصولين: 1/107، وانظر:(م1759) من مجلة الأحكام العدلية.
(6)
المدونة: 13/37.
وقال العز بن عبد السلام: "اليدُ عبارةٌ عن القرب والاتصال، وللقرب والاتصال مراتب بعضُها أقوى من بعض في الدلالة أعلاها: ما اشتدّ اتصالُهُ بالإنسان، كثيابه التي هو لابسها وعمامته ومنطقته وخاتمه وسراويله ونعله الذي في رجله ودراهمه التي هي في كمه أو جيبه أو يده. فهذا الاتصال أقوى الأيدي لاحتوائه عليها ودنوّه منها. الرتبة الثانية: البساطُ الذي هو جالس عليه أو البغل الذي هو راكبٌ عليه، فهذا في الرتبة الثانية. الرتبة الثالثة: الدابة التي هو سائقها أو قائدها، فإنَّ يده في ذلك أضعفُ من يد راكبها. الرتبة الرابعة: الدار التي هو ساكنها. ودلالتها دون دلالة الراكب والسائق والقائد، لأنه غيرُ مستولٍ على جميعها. وتُقَدَّمُ أقوى اليدين على أضعفهما، فلو كان اثنان في دار فتنازعا في الدار وفي ما هما لابسانه، جُعِلت الدارُ بينهما بأيمانهما لاستوائهما في الاتصال، وجُعِل القولُ قولَ كل واحد منهما في ما هو لباسه المختص به، لقوة القرب والاتصال "(1) .
اليد باليد:
8-
يطلَقُ مصطلحُ "اليد باليد" في عرف جماهير الفقهاء على التقابض بين البلدين في مجلس العقد (2) . فيقولون: بايعتُهُ يدًا بيد؛ أي حالًّا مقبوضًا في المجلس قبل افتراق أحدهما عن الآخر (3) . أي بالتعجيل والنقد (4) . جاء في المصباح المنير: "بعتُه يدًا بيد: أي حاضرًا بحاضر والتقدير: في حالة كونه مادًّا يده بالعِوَضِ، وفي حال كوني مادًّا يدي بالمُعَوَّضِ. فكأنه قال: بعتُهُ في حال كون اليدين ممدودتين بالعِوضين"(5) . وقال العدوي: "قوله يدًا بيد" أي ذا يدٍ كائنة مع يدٍ، كناية عن كونهما مقبوضين" (6) .
وخالف في ذلك الحنفية وقالوا: إن معنى "يدًا بيد" إنما هو التعيين دون التقابض. وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ربا البيوع "يدًا بيد" أي عينًا بعين. ولكنْ نظرًا لكون النقدين لا يتعينان بالتعيين، ولا يتحقق التعيُّنُ فيهما قبل التقابض، اعتُبِرَ التعيينُ دون التقابض في غير الصرف من بيع الأموال الربوية ببعضها، وذلك لحصول المقصود وهو التمكنُ من التصرف بالتعيين فيها، بخلاف النقدين، فحيث إنهما لا يتعينان إلابالقبض اشترط في الصرف التقابض (7) .
(1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 2/120، وانظر مواهب الجليل للحطاب: 6/209.
(2)
شرح السنوسي المالكي على صحيح مسلم: 4/264، شرح السنة للبغوي: 8/60.
(3)
مرقاة المفاتيح للملا علي القاري: 3/307.
(4)
المغرب للمطرزي: 2/396، الأبِّي على صحيح مسلم: 4/270.
(5)
المصباح المنير: 2/849.
(6)
حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني: 2/129.
(7)
تبيين الحقائق للزيلعي وحاشية الشلبي عليه: 4/89، البحر الرائق: 6/141، البناية للعيني: 6/545.
هاء وهاء:
9-
قال الخطابي: "هاء وهاء" معناه التقابض، وأصحابُ الحديث يقولون:"ها وها" مقصورين، والصواب مدّهما ونصبُ الألف منهما. وقوله "هاء" إنما هو قول الرجل لصاحبه إذا ناوله الشيء "هاكَ" أي خُذْ، فأسقطوا الكاف منه وعوّضوه المدّ بدلا من الكاف (1) . وتعبير "هاء وهاء" جاء في قوله صلى الله عليه وسلم:((الذهب بالذهب ربا إلاهاء وهاء)) إلى آخر الحديث (2) . ومعناه أن هذه البياعات لا تجوز إلا إذا قال كل واحد منهما لصاحبه "هاء" أي خُذْ، والمراد به القبض (3) .
القضاء والاقتضاء:
10-
ومعناها في اللغة وعند الفقهاء: التسليمُ والقبضُ (4) . غير أنَّ هذين اللفظين يختصان بالديون دون الأعيان، فيقال: قَضَى غريمَه دينَه؛ أي أدّاه، واقتضاه؛ أي أخَذَه.
(1) معالم السنن للخطابي: 5/20 (مطبوع مع مختصر سنن أبي داود للمنذري) .
(2)
مختصر سنن أبي داود للمنذري: 5/20، وانظر البناية: 6/525.
(3)
انظر تبيين الحقائق للزيلعي: 4/89، البناية على الهداية: 6/544.
(4)
القوانين الفقهية: ص 294، المغرب للمطرزي: 2/184، المصباح المنير: 2/612، الكليات للكفوي: 1/88، 4/8.
أنواع القبض
11-
لقد قسَّمَ الإِمام العز بن عبد السلام – وتبعه في ذلك القرافي – القَبْضَ باعتباره تصرفًا من تصرفات المكلفين إلى ثلاثة أنواع (1) .
(أحدها) قبضٌ بمجرد إذن الشرعِ دون إذن المستَحِقِّ. وهو أنواع: منها: قبضُ ولاةِ الأمورِ والحكّامِ الأعيانَ المغصوبةَ من الغاصب. وقبضهم أموالَ المصالح والزكاة وحقوق بيت المال، وقبضُهم أموالَ الغائبين والمحبوسين الذين لا يتمكنونَ من حفظ أموالهم، وقبضُهم أموال المجانين والمحجور عليهم بسفهٍ ونحوهم. ومنها: قبضُ مَنْ طَيرت الريحُ ثوبًا، ثم ألقَتْهُ في حجره أو داره. ومنها: قبضُ المضطر من طعام الأجانب بغير إذنهم لِمَا يدفَعُ به ضرورته. ومنها: قبضُ الإِنسان حقَّهُ إذا ظفر به بجنسه.
(والنوع الثاني) قبضُ ما يتوقَّفُ جوازُ قبضِهِ على إذنِ مستحقَّهِ. كقبض المبيع بإذن البائع، وقبض المستام، والقبض في البيع الفاسد، وقبضِ الرهون والهبات والصدقات والعواري والودائع، وقبض جميع الأمانات.
(والنوع الثالث) قبضٌ بغير إذنٍ من الشرع ولا من المستحِق. وهذا قد يكون مع العلم بتحريمه، كقبض المغصوب، فيأثم الغاصبُ، ويضمنُ ما قَبَضَهُ بغير حقًّ ولا إذن. . وقد يكون بغير علم، كمَنْ قَبَضَ مالا يعتقد أنه ماله، فإذا هو لغيره. قال القرافي:"فلا يُقال إنَّ الشرع أذِنَ له في قبضه، بل عفا عنه بإسقاط الإثم"(2) . وعلى ذلك فلا إثمَ عليه، ولا إباحة فيه، وهو في ضمانه.
(1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (ط. المكتبة التجارية بمصر) : 2/71، شرح تنقيح الفصول للقرافي (بعناية طه عبد الرءوف سعد) : ص 455 وما بعدها.
(2)
شرح تنقيح الفصول: ص 456.
كيفيّة القبض
تختلف كيفيةُ قبض الأشياء بحسب اختلاف حالها وأوصافها، وهي في الجملة نوعان: عقار ومنقول.
(أ) كيفية قبض العقار:
12-
ما هو العقار؟ لقد اختلف الفقهاء في المراد بالعقار على قولين:
(أحدهما) للحنفية: وهو أنَّ العقار "ما له أصلٌ ثابتٌ لا يمكنُ نقلُهُ وتحويله" كالأراضي والدور (1) . أما البناءُ والشجر فيعتبران من المنقولات، إلا إذا كانا تابعين للأرض، فيسري عليهما حينئذ حكمُ العقار بالتبعيّة (2) .
و (الثاني) للشافعية والمالكية والحنابلة: وهو أنَّ العقار هو الأرضُ والبناءُ والشجر (3) .
13-
أمّا ما يكونُ به قبضُ العقار، فقد اتفق الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة والظاهرية على أنَّ قبض العقار يكونُ بالتخلية والتمكين من اليد والتصرف. فإن لم يتمكن منه بأنْ منعَهُ شخصٌ آخر من وضع يده عليه، فلا تعتبر التخليةُ قبضًا (4) .
(1) رد المحتار (ط. مصطفى الحلبي سنة 1966م) : 4/361، وانظر:(م129) من مجلة الأحكام العدلية و (م2) من مرشد الحيران، كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي: ص 962.
(2)
رد المحتار: 4/361، 6/271، وانظر:(م1019، 1020) من مجلة الأحكام العدلية. وقد قال الأستاذ مصطفى الزرقاء في "المدخل إلى نظرية الالتزام العامة في الفقه الإِسلامي" ص 103 معبّرًا عن رأي الفقه الحنفي: "غير أنهم يحلقونَ البناء والشجر بالعقار حكمًا على سبيل التبعيّة له في التصرف الوارد على العقار بما فيه من بناء أو شجر. فلو بِيعَتْ دارٌ أو أرض مشجرةٌ، يتناول حقُّ الشفعةِ البناءَ والشجر مع الأرض. ومعنى هذا أنَّ البناء والشجر في النظر الفقهي لهما اعتباران: فهما منفردين من المنقولات، وهما مع العقار عقارٌ بالتبعيّة".
(3)
انظر مغني المحتاج: 2/71، الخرشي على خليل: 6/164، كشاف القناع (مط. أنصار السنة المحمدية) : 3/202، المصباح المنير للفيومي: 2/503.
(4)
الفتاوي الهندية: 3/16، رد المحتار: 4/561 وما بعدها، (م263) من مجلة الأحكام العدلية و (م435) من مرشد الحيران، روضة الطالبين: 3/515، فتح العزيز: 8/442، مغني المحتاج: 2/71، المجموع شرح المهذب: 9/276، منح الجليل: 2/689، مواهب الجليل: 4/477، كشاف القناع (مط. أنصار السنة المحمدية) : 3/202، المغني (مط. المنار 1367هـ) : 4/333، 5/596، المحلى: 8/89، وانظر (م335) من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإِمام أحمد للقاري.
وقد قيَّد الشافعيةُ قولهم هذا بما إذا كان العقارُ غير معتبر فيه تقدير. أما إذا كان معتبرًا فيه، كما إذا اشترى أرضًا مذارعةً، فلا تكفي التخلية مع المكين، بل لا بدّ مع ذلك من الذرع (1) .
كما اشترط الحنفية أن يكون العقار قريبًا. فإنْ كان بعيدًا فلا تعتبر التخليةُ قبضًا، وهو رأي الصاحبين وظاهر الرواية والمعتمد في المذهب، خلافًا للإمام أبي حنيفة، فإنه لم يعتبر القرب والبعد. ثم إنهم نصّوا على أنَّ العقار إذا كان له قفل، فيكفي في قبضه تسليمُ المفتاح مع تخليته، بحيث يتهيأ له فتحُهُ من غير تكلّف (2) .
14-
هذا وقد ألحق الحنفيةُ والشافعيةُ والحنابلةُ الثمرَ على الشجر بالعقار في اعتبار التخلية مع ارتفاع الموانع قبضًا له، لحاجة الناس إلى ذلك وتعارفهم عليه (3) .
(1) مغني المحتاج: 2/73، المجموع: 9/278، فتح العزيز: 8/448، روضة الطالبين: 3/517.
(2)
رد المحتار (ط. الحلبي) : 4/561 وما بعدها، الفتاوى الهندية: 3/16 وما بعدها، مجمع الضمانات: ص 218، 219، الحموي على الأشباه والنظائر: 1/327، لسان الحكام لابن الشحنة: ص311، عيون المسائل للسمرقندي: ص 127، وانظر (م270، 271) من المجلة العدلية و (م435، 436) من مرشد الحيران. وقد استظهر ابن عابدين في رد المحتار: 4/562، أنَّ المراد بالقرب في الدار بأن تكون في البلد.
(3)
شرح معاني الآثار: 4/36، مجمع الضمانات: ص 217، كشاف القناع: 3/202، المغني (ط. المنار) : 4/333، قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 2/81، 172 * هذا وقد اختلف الشافعية في الثمرة على الشجرة، هل تعتبر في قبضها في معنى العقار قبل إيناعها وحلول أوان جذاذها فقط، أم تعتبر كذلك ولو بعد إيناعها وحلوله؟ فقال في مغني المحتاج: 2/71: "قال الرافعي: وفي معنى العقار الأشجارُ الثابتةُ والثمرةُ المبيعةُ على الشجر قبل أوان الجذاذ. وتقييده بذلك يُشعر بأن دخول وقت قطعها يلحقها بالمنقول. وهو كما قال الإسنوي: المتجه. وإن نازع فيه الأذرعي". وانظر أيضًا روضة الطالبين: 3/515، المجموع: 9/276، فتح العزيز: 8/443.
(ب) كيفية قبض المنقول:
15-
بعد أن بيّنا ما يكونُ به قبض العقار، نعرض للكلام عن كيفية قبض المنقول، لأنَّ ما يراد قبضُهُ لا يخرج عن كونه عقارًا أو منقولا.
والمنقول: هو ما يمكن نقلُهُ وتحويلُهُ. فيشمل النقود والعروض والحيوانات والسيارات والسفن والطائرات والمكيلات والموزونات وما أشبه ذلك (1) .
16-
هذا وقد اختلف الفقهاء في كيفية قبض المنقول على النحو التالي:
(أ) فقال الحنفية: قبضُ المنقول يكون بالتناول باليد أو بالتخلية على وجه التمكين (2) . جاء في (م 274) من مجلة الأحكام العدلية "تسليم العروض يكون بإعطائها ليد المشتري أو بوضعها عنده أو بإعطاء الإذن له بالقبض مع إراءتها له". وقال ابن عابدين في حاشيته: "رد المحتار": "وحاصله أنَّ التخليةَ قبضٌ حكمًا لو مع القدرة عليه بلا كلفة، لكنَّ ذلك يختلف بحسب حال المبيع، ففي نحو حنطةٍ في بيت مثلا؛ فَدَفْعُ المفتاحِ إذا أمكنه الفتحُ بلا كلفة قبضٌ، وفي نحو دارٍ؛ فالقدرةُ على إغلاقها قبضُ، أي بأن تكون في البلد فيما يظهر، وفي نحو بقر في مرعى؛ فكونُهُ بحيث يُرَى ويُشار إليه قبضُ، وفي نحو ثوبٍ؛ فكونُهُ بحيث لو مدَّ يَدَهُ تَصِلُ إليه قبضٌ، وفي نحو فرس أو طيرٍ في بيت؛ فإمكانُ أخذه منه بلا معين قبضُ (3) . وجاء في "الفتاوي الهندية" "رجلٌ باع مكيلا في بيت مكايلةً أو موزونًا موازنةً وقال: خلّيتُ بينك وبينَهُ، ودَفَعَ إليه المفتاح، ولم يكله ولم يزنْهُ؛ صار المشتري قابضًا (4) . وجاء فيها أيضًا:"وتسليمُ المبيع هو أن يخلي بين المبيع وبين المشتري على وجه يتمكنُ المشتري من قبضه بغير حائل، وكذا التسليمُ في جانب الثمن"(5) .
(1) انظر (م3) من مرشد الحيران، و (م128) من مجلة الأحكام العدلية.
(2)
لسان الحكام لابن الشحنة: ص 311، شرح المجلة للأتاسي: 2/200 وما بعدها، وانظر (م272، 273، 274، 275) من مجلة الأحكام العدلية و (م437، 438) من مرشد الحيران.
(3)
رد المحتار: 4/561.
(4)
الفتاوى الهندي: 3/16.
(5)
الفتاوى الهندي: 3/16.
واستدلَّ الحنفية على اعتبار التخلية مع التمكين في المنقولات قبضًا: بأنَّ تسليم الشيء في اللغة معناه جَعْلُهُ سالمًا خالصًا لا يشاركه فيه غيره، وهذا يحصل بالتخلية. وبأنَّ مَنْ وجَبَ عليه التسليم لا بدَّ وأن يكونَ له سبيلٌ للخروج من عهده ما وجَبَ عليه، والذي في وَسْعِهِ هو التخلية ورفعُ الموانع. أمّا الإِقباضُ فليس في وسعه؛ لأنَّ القبضَ بالبراجم فِعْلٌ اختياري للقابض، فلو تعلَّق وجوبُ التسليم به لتعذَّر عليه الوفاءُ بالواجب، وهذا لا يجوز (1) .
هذا وقد وافقَ الحنفيةَ على اعتبار التخلية في المنقول قبضًا أحمدُ في رواية عنه، وذلك لحصول الاستيلاء بالتخلية، إذْ هو المقصود بالقبض، وقد حصل بها (2) .
(ب) وذهب الظاهرية إلى أنَّ قبضَ المنقول يكون بالنقل والتحويل إلى نفسه (3) .
(ج) أما سائر الفقهاء وجمهورهم، فقد ذهبوا إلى التفريق بين المنقولات فيما يعتبرُ قبضًا لها، حيث إنَّ بعضها يُتناولُ باليد عادةً، والبعضُ الآخر لا يتناول. ومالا يُتناول باليد نوعان؛ أحدهما: لا يُعتبر فيه تقديرٌ في العقد، والثاني: يعتبر يه. فتحصَّلَ لديهم في المنقول ثلاثُ حالات:
الحالة الأولى: أن يكون مما يُتناولُ باليد عادةً، كالنقود والثياب والجواهر والحليّ وما إليها، وقبضُهُ إنما يكون بتناوله باليد عند جمهور الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة (4) .
(1) بدائع الصنائع: 5/244.
(2)
المغني (ط. المنار) : 4/111، الإِفصاح لابن هبيرة (ط. الطباخ بحلب) : ص 224.
(3)
المحلى لابن حزم: 8/89.
(4)
المجموع للنووي: 9/276، مغنى المحتاج: 2/72، التنبيه للشيرازي: ص 62، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 2/81، الذخيرة للقرفي: 1/152 شرح تنقيح الفصول: (ط. القاهرة 1973م) ص 456، المغني: 4/332، كشاف القناع: 3/202، المحرر للمجد ابن تيمية: 1/323، وانظر (م33) من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإِمام أحمد للقاري حيث جاء فيها "قبضُ كل شيء بحسبه عرفًا
…
وقبضُ ما يتناول باليد بتناوله باليد، كالدراهم
والحالة الثانية: أن يكون مما لا يعتبرفيه تقدير من كيل أو وزن أو ذرع أو عدّ، أمّا لعدم إمكانه وإمّا مع إمكانه، لم يراعَ فيه، كالأمتعة والعروض والدواب والصُبْرةِ تباعُ جزافًا. وفي هذه الحالة اختلف المالكية مع الشافعية والحنابلة في كيفية قبضه على قولين:
(أحدهما) للمالكية: وهو أنه يُرجع في كيفية قبضه إلى العرف (1) .
(والثاني) للشافعية والحنابلة: وهو أن قبضَهُ إنما يكونُ بنقله وتحويله (2) . واستدلوا على ذلك بالمنقول والعرف:
- أمّا المنقول، فما روي عن ابن عمر أنه قال: كنّا نشتري الطعام من الركبان جزافًا، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه (3) . وقيسَ على الطعام غيره (4) .
- وأمّا العرف، فلأنَّ أهله لا يعدّونَ احتواء اليد عليه قبضًا من غير تحويل، إذ البراجم لا تصلح قرارًا له (5) .
الحالة الثالثة: أن يكون مما يعتبر فيه تقدير من كيل أو وزن أو ذرع، أو عدّ، كمن اشترى صبرة حنطة مكايلةً أو متاعًا موازنةً أو ثوبًا مذارعة أو معدودًا بالعدد. وفي هذه الحالة اتفق الشافعية والمالكية والحنابلة على أنَّ قبضه إنما يكون باستيفائه بما يقدَّر فيه من كيل أو وزن أو ذرع أو عدّ (6) . وقد جاء في مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإِمام أحمد (م 336) :"المبيع كيلاً أو وزنًا أو ذرعًا أو عدًّا يعتبر في قبضه إجراءُ عملِ الكيل أو الوزن أو الذرع أو العدّ بحضور المشتري أو نائبه. وتصحُّ استنابةُ البائع المشتري في العمل المذكور".
(1) شرح الخرشي: 5/158، الشرح الكبير لدردير:(مط. مصطفى محمد) 3/145، المنتقى شرح الموطأ للباجي: 6/97.
(2)
مغني المحتاج: 2/72، روضة الطالبين: 3/515، المهذب: 1/270، التنبيه للشيرازي: ص 62، قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 2/81، 171 وما بعدها، فتح العزيز: 8/444، المجموع: 9/276، 277، المغني: ط. المنار) 4/112، 332، كشاف القناع: 3/202، وانظر (م 333) من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإِمام أحمد.
(3)
أخرجه البخاري ومسلم كما في التلخيص الحبير: 3/27، وأخرجه أيضًا ابن ماجه: 2/750، والبيهقي في السنن الكبرى: 5/314، وابن الجارود في المنتقى: ص 207.
(4)
مغني المحتاج: 2/72، فتح العزيز: 8/444، المغني: 4/332، كشاف القناع: 3/202.
(5)
المجموع شرح المهذب: 9/282، المغني: 4/112.
(6)
روضة الطالبين: 3/517 وما بعدها، فتح العزيز: 4/448، مغني المحتاج: 273، المجموع: 9/278، قواعد الأحكام: 2/82، 171، الذخيرة للقرافي: 1/152، الشرح الكبير للدردير: 3/144، كشاف القناع: 3/201، 272، المحرر للمجد ابن تيمية: 1/323.
واشترط الشافعية بالإِضافة إلى ذلك نقلَهُ وتحويلَهُ.
* أمّا دليل جمهور الفقهاء على أنَّ قبضَ المقدّرات من المنقولات إنَّما يكون بتوفيتها بالوحدة القياسية العرفية التي تراعى فيها من الكيل أو الوزن أو الذرع أو العدّ، فهو ما روي ((عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجريَ فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري)) . (1) وقوله صلى الله عليه وسلم " من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يكتاله "
(2)
. حيث دلَّ على ذلك أنَّ القبض فيه لا يحصل إلا بالكيل، فتعيَّنَ فيما يقدّرُ بالكيل الكيلُ، وقيسَ عليه الباقي. (3)
17-
بعد هذا البيان لآراء الفقهاء واختلافاتهم فيما يكون قبضًا للعقار والمنقول تحسن الإِشارةُ إلى حقيقة هامة، وهي أنَّ منشأ اختلافهم هذا إنَّما هو اختلاف العرف والعادة فيما يكون قبضًا للأشياء. قال الخطيب الشربيني:"لأنَّ الشارع أطلقَ القبضَ وأناط به أحكامًا، ولم يبينه، ولا حدَّ له في اللغة، فرجعَ فيه إلى العرف"(4) . وقال تقي الدين ابن تيمية: "وما لم يكن له حدٌّ في اللغة ولا في الشرع، فالمرجعُ فيه إلى عرف الناس. كالقبض المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه)) (5) . هذا وقد سبق للإِمام الخطابي أن أومأ إلى سبب ذلك الخلاف حيث قال: "القبوضُ تختلف في الأشياء حسب اختلافها في نفسها، وحسب اختلاف عادات الناس فيها" (6) .
(1) الحديث رواه جابر وأبو هريرة وأنس وابن عباس ، ورواية جابر أخرجها ابن ماجه في سننه وابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه والبزار في مسانيدهم والدارقطني والبيهقي في سننيهما ، وهي معلولة بابن أبي ليلى. ورواية أبي هريرة أخرجها البزار في مسنده وزاد فيها " فيكون لصاحبه الزيادة وعليه النقصان ". وروايتا أنس وابن عباس أخرجهما ابن عدي بإسنادين ضعيفين جدًّا كما قال الحافظ ابن حجر. (انظر نصب الراية: 4/34 وما بعدها ، التلخيص الحبير 3/27 ، سنن الدارقطني والتعليق المغني: 3/8 ، نيل الأوطار: 5/68)
(2)
أخرجه مسلم (صحيح مسلم بشرح النووي: 10/169)، وأبو داود: 2/252، والنسائي: 7/285، عن ابن عباس.
(3)
انظر مغني المحتاج: 2/73، المغني لابن قدامة:(ط. دار المنار) : 4/111، كشاف القناع: 3/201.
(4)
انظر المهذب: 1/270، المغني: 4/112، المجموع للنووي: 9/275، و (م 333) من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإِمام أحمد.
(5)
فتاوى ابن تيمية: (مط. كردستان العلمية بالقاهرة سنة 1328 هـ) 3/272.
(6)
معالم السنن للخطابي: (ط. الطباخ بحلب) 3/136.
القبض الحُكْمي
18-
إنَّ ما أسلفناه من كلام الفقهاء عن معنى القبض وضروبه وكيفيته إنما هو منصبٌّ – في الجملة – على القبض الحقيقي المُدْرَك بالحسِّ. بيد أنَّ ذلك لا يعني أنَّ القبضَ الحكمي التقديري غير سائغ عند الفقهاء بإطلاق، بل هو مقبولٌ ومعتبرٌ ومعروف لديهم في أحوالٍ كثيرةٍ، يُقَامُ فيها مقامَ القبضِ الحقيقي ويُنَزَّلُ منزلته، وإن لم يكن متحققًا حسًّا في الواقع، وذلك لضرورات ومسوغات تقتضي اعتبارَه تقديرًا وحكمًا، وترتيبَ أحكام القبض الحقيقي عليه
…
وبتتُّبع صور القبضِ الحكمي في مذاهب الفقهاء، نجد أنه سائغٌ مقرّرٌ في أربع حالات:
19-
الحالة الأولى: عند إقباض المنقولات بالتخلية مع التمكين في مذهب الحنفية، ولو لم يقبضها الطرفُ الآخر حقيقةً، حيث إنهم يعدّون تناولها باليد قبضًا حقيقيًّا، والقبضَ بالتخلية قبضًا حكميًّا، بمعنى أنَّ الأحكام المترتبة عليه نفس أحكام القبض الحقيقي (1) .
قال الكاساني: "فالتسليمُ والقبضُ عندنا هو التخلية، وهو أن يخلّي البائع بين المبيع وبين المشتري برفع الحائل بينهما على وجهٍ يتمكنُ المشتري من التصرف فيه"(2) . وجاء في مجلة الأحكام العدلية "تسليمُ المبيع يحصل بالتخلية، وهو أن يأذنَ البائعُ للمشتري بقبض المبيع مع عدم وجود مانعٍ من تَسَلُّمِ المشتري إيّاه. ومتى حصل تسليم المبيع صار المشتري قابضًا له"(3) . وقال ابن عابدين: "وحاصله أنَّ التخلية قبضٌ حكمًا لو مع القدرة عليه بلا كلفة"(4) .
(1) انظر بدائع الصنائع: 5/244.
(2)
بدائع الصنائع: 5/224.
(3)
مجلة الأحكام العدلية: (م263، 264)، وانظر درر الحكام لعلي حيدر: 1/216 وما بعدها.
(4)
رد المحتار: 4/561.
وجاء في "شرح المجلة" للأتاسي: "إنَّ التخليةَ بين المشتري والمبيع تقوم مقامَ القبض الحقيقي إذا كانت على وجه يتمكنُ فيه المشتري من القبض بعد أن إذِنَ له البائع بقبضه"(1) . و"متى وُجِدَتْ التخليةُ على الوجه المذكور
…
صار المشتري قابضًا، وإنْ لم يقبِضْهُ حقيقةً، لأنَّ تمكنه من القبض بإذن البائع مع عدم المانع والحائل قائمٌ مقام القبض الحقيقي، فلو هلكَ المبيعُ هلكَ على المشتري؛ لدخوله في ضمانه" (2) . وفي "درر الحكام":"ولا يتوقف تحقق القبض الشرعي على قبض المشتري للمبيع بالفعل كما هو معنى لفظِ القبضِ لغةً". (3) .
ولعلَّ أهم ما يتفرع على هذا الأصل عند الحنفية التطبيقات الفقهية التالية:
* إذا سلَّم البائعُ المبيعَ إلى شخصٍ أَمَرَ المشتري بتسليمه إليه، فقد حصل القبض، كما لو سلَّم البائعُ المبيعَ إلى المشتري نفسه. فإذا أمر المشتري البائعَ قبل القبض بتسليم المبيع إلى شخص معيَّن، فسلَّمَ البائعُ المبيع إلى ذلك الشخص، يكون المشتري بذلك قد قَبَضَ المبيع (4) .
* إذا استعمل البائعُ المبيعَ قبل التسليم بإذن المشتري في مصلحة المشتري، يكون المشتري قد قَبَضَ المبيع (5) .
* لو أعطى المشتري البائَع كيسًا ليضعَ فيه المبيع، اعتبر ذلك قبضًا من المشتري (6) .
* لو اشترى شخصٌ من آخر قمحًا، وطَلَبَ إليه أن يطحن القمح، فطحنه البائع، يكون المشتري قابضًا لقمح تبعًا لطلبه من البائع أن يطحنه (7) .
* إذا بيعت ثمارٌ على أشجارها، يكونُ إذْنُ البائع للمشتري بِجَزِّها تسليمًا (8) .
* إعطاءُ مفتاح العقار الذي له قفل للمشتري يكون تسليمًا (9) .
(1) شرح المجلة للأتاسي: 2/192.
(2)
شرح المجلة للأتاسي: 2/192.
(3)
درر الحكام شرح مجلة الأحكام العدلية للعلامة علي حيدر: 2/217.
(4)
درر الحكام: 1/214.
(5)
درر الحكام: 1/214 ، 221.
(6)
درر الحكام: 1/50. 214 ، 221
(7)
درر الحكام: 1/50 ، 214 ، 221، إلا أنه إذا امتنع البائع أن يسلّم الدقيق بعد الطحن إلى المشتري، فتلف، فالخسارة على البائع ، (درر الحكام: 1/220)
(8)
المادة 269 من مجلة الأحكام العدلية.
(9)
المادة 271 من مجلة الأحكام العدلية.
* إذا أتلف أجنبي المبيعَ قبل قبض المشتري له، فقام المشتري بتضمين المُتْلِفِ، يكون قابضًا (1) .
* إذا باع شخصٌ ثوبًا من آخر، وأذِنَ له بقبضه، فلم يقبضْهُ المشتري، فأخذه أجنبي وأضاعه فإن كان ذلك الثوب قريبًا من المشتري بحيث يمكنه قبضُهُ من دون قيام، يعتبر المشتري قابضًا بذلك، ويعود عليه الخسران (2) .
* العقار الذي له بابٌ وقفلٌ، كالدار والكرم، إذا وُجِدَ المشتري داخله، وقال له البائع: سلَّمتُهُ إليك، كان قولُهُ ذلك تسليمًا. وإذا كان المشتري خارج ذلك العقار، فإن كان قريبًا منه بحيث يقدر على إغلاق بابه وإقفاله في الحال، يكونُ قولُ البائع للمشتري سلَّمتُكَ إياه تسليمًا أيضًا. وإن لم يكن منه قريبًا بهذه المرتبة؛ فإذا مضى وقتٌ يمكنُ فيه ذهابُ المشتري إلى ذلك العقار ودخولُهُ فيه يكون تسليمًا (3) .
20-
الحالة الثانية: اعتبارُ الدائنِ قابضًا حكمًا وتقديرًا للدَّين إذا شُغِلَتْ ذمتُهُ بمثله (4) للمدين، وذلك لأنَّ المال الثابت في الذمة إذا استحقَّ المدينُ قبضَ مثلِهِ من دائنه بعقدٍ جديدٍ أو بأحدِ موجباتِ الدّين، فإنه يعتبر مقبوضًا حكمًا من قِبَلِ ذلك المدين
…
وشواهد ذلك من نصوص الفقهاء عديدة، منها:
(1) درر الحكام: 1/221 نقلا عن الفتاوي الهندية.
(2)
درر الحكام: 1/223 نقلا عن الفتاوي الهندية.
(3)
المادة 270 من مجلة الأحكام العدلية، وانظر درر الحكام: 1/291.
(4)
أي بمثله في الجنس والصفة ووقت الأداء.
(أ) اقتضاءُ أحد النقدين من الآخرَ:
ذهب جماهيرُ أهلِ العلم إلى أنَّ المدين بنوعٍ من النقود له أن يصرفه من دائنه بنقدٍ آخر. ولّما كان الصرفُ لا يصحُّ إلا مع التقابض بالإِجماع؛ وَجَبَ على المدين أن يدفع إليه البدل من النقد الآخر في مجلس العقد، بخلاف الدائن فإنه لا يلزمُهُ أن يسلَّمه النقد المبدلَ منه، لأنَّ ثبوته في ذمة المدين قبل المصارفة يعتبر قبضًا حكميًّا واقتضاءً تقديريًّا له من دائنه، فكأنَّ الدائنَ بعد المصارفة قَبَضَهُ منه ثمَّ سلَّمَهُ ثانيةً إليه (1) .
جاء في "المغني" ويجوز اقتضاءُ أحد النقدين من الآخرَ، ويكونُ صرفًا بعينٍ وذمَّةٍ في قول أكثر أهل العلم" (2) . وقال العلامة الأبّي " لأنَّ المطلوبَ في الصرف المناجزةُ، وصرفُ ما في الذمة أسرعُ مناجزةً من صَرْفِ المعَيَّنَات؛ لأنَّ صرفَ ما في الذمة ينقضي بنفس الإِيجاب والقبول والقبضِ من جهة واحدة، وصرفُ المُعَيَّنَات لا ينقضي إلابقبضهما معًا، فهو مُعَرَّضٌ للعدول، فَصَرْفُ ما في الذمة أولى بالجواز" (3) .
واستدلوا على ذلك بحديث ابن عمر رضي الله عنه قال: كنتُ أبيعُ الإِِبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذُ مكانها الدراهمَ، وأبيع بالدراهم وآخذُ مكانها الدنانير، آخذُ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه، فأتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فسألتُهُ عن ذلك، فقال:((لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما شيءٌ)) (4) .
قال الشوكاني: "فيه دليلٌ على جواز الاستبدال عن الثمن الذي في الذمة بغيره، وظاهره أنهما غير حاضرين جميعًا، بل الحاضرُ أحدُهما وهو غير اللازم، فدلَّ على أنَّ ما في الذمة كالحاضر"(5) .
(1) شرح السنَّة للبغوي: 8/111، 113.
(2)
المغني لابن قدامة (ط. مكتبة الرياض الحديثة) : 4/54.
(3)
شرح الأبّي المالكي على صحيح مسلم: 4/264.
(4)
الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم والبيهقي والدارقطني وابن ماجه وغيرهم. (انظر سنن البيهقي: 5/284، بذل المجهود: 15/12، سنن الدارقطني: 3/24، سنن ابن ماجه: 2/760، عارضة الأحوذي: 5/251، المستدرك: 2/44، التخليص الحبير: 3/25) .
(5)
نيل الأوطار: 5/157.
(ب) المقاصَّة:
وذلك إذا انشغَلتْ ذمةُ الدائن بمثل ما له على المدين في الجنس والصفة ووقت الأداء، برئَتْ ذمةُ المدين مقابلةً بالمثل من غير حاجةٍ إلى تقابض بينهما، ويسقطُ الدينان إذا كان متساويين في المقدار، لأنَّ ما في الذمة يعتبر مقبوضًا حكمًا. فإن تفاوتا في القدر، سقط من الأكثر بقدر الأقل، وبقيت الزيادةُ، فتقعُ المقاصَّةُ في القدر المشترك، ويبقى أحدهما مدينًا للآخر بما زاد (1) .
(ج) تطارُح الدَّيْنَيْن صرْفًا:
ذهب الحنفية والمالكية وتقي الدين السبكي من الشافعية وتقي الدين ابن تيمية من الحنابلة إلى أنه لو كان لرجل في ذمة آخر دنانير، وللآخر عليه دراهم، فاصطرفا بما في ذمتيهما، فإنه يصح ذلك الصرف، ويسقط الدينان من غير حاجة إلى التقابض الحقيقي – مع أنَّ التقابض في الصرف شرطٌ صحته بإجماع الفقهاء – وذلك لوجود التقابض الحكمي الذي يقوم مقام التقابض الحسيّ. وقد عللوا ذلك "بأنَّ الذمةَ الحاضرةَ كالعين الحاضرة" (2) و"بأنَّ المدين في الذمة كالمقبوض" (3) . قال ابن تيمية:"فإنَّ كلا منهما اشترى ما في ذمته – وهو مقبوض له – بما في ذمة الآخر، فهو كما لو كان لكلًٍّ منهما عند الآخر وديعةٌ فاشتراها بوديعته عند الآخر"(4) .
غير أنَّ المالكية اشترطوا أن يكون الدينان قد حلا معًا، فأقاموا حلول الأجلين في ذلك مقام الناجز بالناجز، أي اليد باليد.
(1) انظر (م 224، 225، 226، 230، 231) من مرشد الحيران لقدري باشا.
(2)
تبيين الحقائق: 4/140، رد المحتار (بولاق 1272 هـ) 4/239، الخرشي: 5/234، الزرقاني على خليل: 5/232، منح الجليل: 3/53، إيضاح المسالك للونشريسي: ص 141، 328، مواجب الجليل: 4/310، بداية المجتهد: 2/224، الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية، ص 128، طبقات الشافعية لابن السبكي: 10/131، شرح الأبّي على صحيح مسلم: 4/264، نظرية العقد لابن تيمية: ص 235. وخالف في ذلك الشافعية والحنابلة، ونصُّوا على عدم جواز صرف ما في الذمة إذا لم يُحْضِرْ أحدهما أو كلاهما النقدَ الوارد عليه عقد الصرف، لأنه يكون من بيع الدين بالدين. (انظر الأم: 3/33، تكملة المجموع للسبكي: 10/107، شرح منتهى الإِرادات: 2/200، المبدع: 4/156، المغني: (ط. مكتبة الرياض الحديثة) 4/53، كشاف القناع:(مط. الحكومة بمكة 3/257) .
(3)
التمهيد لابن عبد البر: 6/291.
(4)
نظرية العقد لابن تيمية: ص 235.
(د) جَعْلُ الدّين الذي على المُسْلَم إليه رأس مال السلم:
ذهب الشيخ تقي الدين ابن تيمية وتلميذه ابن القيم إلى أنه إذا كان لرجل في ذمة آخر دينارًا، فَجَعَلَهُ سَلَمًا في طعام إلى أجل، فإنه يصحُّ السلم من غير حاجةٍ إلى قبضٍ حقيقي لرأس مال السلم – مع اتفاق الفقهاء على وجوب تسليم رأس المال معجلا لصحة السلم – وذلك لوجود القبض الحكمي لرأس مال السلم، وهو ما في ذمة المدني المُسْلَم إليه، فكأنَّ الدائن بعد عقد السلم قَبَضَهُ منه ثمَّ ردَّه إليه، فصار معجلا حكمًا، فارتفع المانع الشرعي (1) . قال العلامة ابن القيم:"لو أسلم إليه في كَرِّ حنطةٍ بعشرة دراهم في ذمته، فقد وجَبَ له عليه دَيْن، وسقَطَ له عند دَيْن غيره. وقد حكي الإِجماعُ على امتناع هذا، ولا إجماعَ فيه. قال شيخنا: واختار جوازه، وهو الصواب"(2) .
(هـ) رهن الدين عند المدين، وهبة المرأة مهرها المؤجل لزوجها:
قال القاضي ابن العربي: "إذا تعامل رجلان لأحدهما على الآخر دينٌ، فرهَنَهُ دينَهُ الذي له عليه، كان قبولُه قبضًا. وقال غيرنا من العلماء: لا يكونُ قبضًا. وكذلك إذا وهبَتْ المرأة كالئها – أي مهرها المؤجل – لزوجها جاز، ويكونُ قبولُه قبضًا. وخالفَنَا فيه أيضًا غيرنا من العلماء. وما قلناه أصحّ لأنَّ الذي في الذمة آكدُ قبضًا من المعيّن، وهذا لا يخفى"(3) .
(1) وخالف في ذلك جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة بحجة أن ذلك افتراقٌ عن دَين بدَين. (انظر رد المحتار: (بولاق، 1272 هـ) 4/209، تبيين الحقائق: 4/140، نهاية المحتاج: 4/180، فتح العزيز: 9/212، بدائع الصنائع: مط الإِمام 7/3155، شرح منتهى الإِرادات: 2/221، المغني، ط. مكتبة الرياض الحديثة: 4/329) .
(2)
إعلام الموقعين عن رب العالمين: (بعناية طه عبد الرءوف سعد) 2/9.
(3)
أحكام القرآن لابن العربي: 1/261.
21-
الحالة الثالثة: وهي قيامُ قبضٍ سابق لعين من الأعيان مقامَ قبضٍ لاحقٍ مُسْتَحَقّ، وذلك كما لو باع شخصٌ شيئًا أو وَهَبَهُ أو رَهَنَهُ عند غاصبٍ أو مستعير أو مودَع أو مستأجر أو غيره، فإنَّ القبضَ السابق ينوبُ منابَ القبضِ المستحقَّ بالعقد مطلقًا، سواءٌ أكانت يد القابض عليه يَدَ ضمان أم يدَ أمانة، وسواءٌ أكان القبضُ المستحقُ قبضَ أمانة أم قبض ضمان، ولا يشترط الإذن من صاحبه ولا مضيُّ زمانٍ يتأتى فيه القبض. وعلى ذلك نصَّ المالكية والحنابلة (1) .
* أمّا نيابته منابَ القبض المستحق بالعقد، فلأنّ استدامةَ القبضِ للعين قبضٌ حقيقةً، لوجود الحيازة مع التمكن من التصرف. فقد وجِدَ القبضُ المستحق، ولا دليل على أنه ينبغي وقوعُهُ ابتداءً بعد العقد.
* وأمّا عدمُ اشتراطِ كونِ القبضين متماثلين من حيث الضمان وعدمه أو كونِ القبضِ السابق أقوى بما ينشأ عنه من ضمان اليد حتى ينوبَ عن القبضِ المستحقَّ بالعقد، فلأنَّ المراد بالقبض المستحق: إثباتُ اليد والتمكن من التصرف في المقبوض، فإذا وجِدَ هذا الأمر وجِدَ القبض. أما ما ينشأ عنه من كون المقبوض مضمونًا أو أمانةً في يد القابض، فليس لذلك أية علاقة أو تأثير في حقيقة القبض.
(1) ميارة على التحفة: 1/111، بداية المجتهد (مط. الجمالية 1329 هـ)، المحرر للمجد ابن تيمية: 1/374، المغني (ط. دار المنار) : 4/334 وما بعدها، 5/594، نظرية العقد لابن تيمية: ص 236، كشاف القناع (مط. أنصار السنة المحمدية) : 3/249، 273، 4/253، شرح تنقيح الفصول للقرافي: ص 456.
* وأمّا عدم الحاجة للإذن بالقبض، فلأنَّ إقراره له في يده بمنزلة إذنه في قبضه، كما أنَّ إجراءه العقد الموجب للقبض مع كون المال في يده يكشف عن رضاه بالقبض، فاستغني عن الإِذن المشترط في الابتداء، إذْ يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء.
* وأمّا عدم الحاجة إلى مضيّ زمان يتأتي فيه القبض، فلأنَّ مضيّ هذا الزمان ليس من توابع القبض، وليس له مدخل في حقيقته في هذه الحال
…
نعم، لو كان القبضُ متأخرًا عن العقد؛ لاعتبر مضيُّ الزمان الذي يمكن فيه القبض، لضرورة امتناع حصول القبض بدونه، وأمّا مع كونه سابقًا للعقد فلا.
- وقد وافقَ الشافعيةُ المالكيةَ والحنابلةَ على نيابة القبضِ السابق منابَ القبض المستحق اللاحق، سواءٌ أكانت يد القابض بجهة ضمان أو بجهة أمانة، وسواءٌ أكان القبضُ المستحق قبضَ أمانة أو ضمان، غير أنهم اشترطوا لصحة ذلك أمرين:
(أحدهما) الإِذنُ من صاحبه إنْ كان له في الأصل الحقُّ في حبسه؛ كالمرهون والمبيع إذا كان الثمن حالا غير منقود. أما إذا لم يكن له هذا الحق، كالمبيع بثمن مؤجلٍ أو حالٍّ بعد نقد ثمنه، فلا يشترط عند ذلك الإِذن.
وسببُ اشتراط الإِذن من مستحقَّ حبسه في الأصل، هو عدم جواز إسقاط حقّه بغير إذنه، كما لو كانت العين في يده.
(والثاني) مضيّ زمان يتأتي فيه القبض إذا كان الشيءُ غائبًا عن مجلس العقد. لأنه لو لم يكن في يده لاحتاج إلى مضيّ هذا الزمان ليحوزّه ويتمكن منه، ولأنّا جَعَلْنا دوام اليد كابتداءِ القبض، فلا أقل من مضي زمان يتصور فيه ابتداء القبض. ولكنْ لا يشترط ذهابُهُ ومصيرُهُ إليه فعلا (1) .
- أمّا الحنفية، فمع ميلهم إلى نفس الاتجاه الذي نحا إليه بقية الفقهاء في المسألة، فقد أقاموا رأيهم فيها على مبنى آخر، وهو أنَّ القبض الموجود وقت العقد إذا كان مثل المستحق بالعقد، فإنه ينوبُ منابه. يعني أن يكون كلاهما قبض أمانة أو قبض ضمان، لأنه إذا كان مثله أمكن تحقيق التناوب؛ لأنَّ المتماثلين غيران ينوبُ كلُّ واحد منهما مناب صاحبه ويَسُدُّ مسدَّه، وقد وُجِدَ القبضُ المحتاجُ إليه.
(1) المجموع شرح المهذب: 9/281، مغني المحتاج: 2/128، روضة الطالبين: 4/66 –68، فتح العزيز: 10/65-71، المهذب: 2/312 وما بعدها، الأم (ط. بولاق) : 3/124، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 2/82، التنبيه للشيرازي: ص 94.
أمّا إذا اختلف القبضان، بأنْ كان أحدهما قبضَ أمانة والآخرُ قبض ضمان، فينظر: إنْ كانَ القبضُ السابق أقوى من المستحق، بأن كان السابق قبضَ ضمان والمستحق قبضَ أمانة، فينوبُ عنه؛ إذْ به يوجد القبضُ المستحق وزيادة. وإن كان دونه، فلا ينوبُ عنه؛ وذلك لانعدام القبض المحتاجِ إليه، إذْ لم يوجد فيه إلا بعضُ المستحق، فلا ينوبُ عن كلّه.
وبيان ذلك: أنَّ الشيءَ إذا كان في يد المشتري بغصب أو كان مقبوضًا بعقد فاسد فاشتراه من المالك بعقد صحيح، فينوبُ القبضُ الأول عن الثاني. حتى لو هلكَ الشيءُ قبل أن يذهب المشتري إلى بيته ويصل إليه أو يتمكن من أخْذِهِ، كان الهلاكُ عليه لتماثلِ القبضين من حيث كونُ كل منهما يوجبُ كون المقبوض مضمونًا بنفسه.
وكذا لو كان الشيءُ في يده وديعةً أو عاريّة، فَوَهَبَهُ منه مالكه، فلا يُحتاج إلى قبض آخر. وينوبُ القبضُ الأول عن الثاني، لتماثلهما من حيث كونهما أمانةً.
ولو كان الشيءُ في يده بغصب أو بعقد فاسد، فوهبه المالك منه، فكذلك ينوبُ ذلك عن قبض الهبة، لوجود المستحقّ بالعقد، وهو أصل القبض وزيادةُ ضمان.
أمّا إذا كان المبيعُ في يد المشتري بعارية أو وديعة أو رهن، فلا ينوبُ القبض الأول عن الثاني، ولا يصير المشتري قابضًا بمجرد العقد؛ لأنَّ القبضَ السابقَ قبضُ أمانةٍ، فلا يقوم مقام قبض الضمان في البيع، لعدم وجودِ القبضِ المحتاج إليه (1) .
22-
الحالة الرابعة: تنزيل إتلاف العين منزلةَ قبضها، وذلك كما إذا أتلف المشتري المبيعَ وهو في يد البائع، حيث نصَّ جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة على أنَّ ذلك الإِتلاف يعتبر قبضًا، لأنَّ القبض يتحقق بإثبات اليد والتمكن من التصرف والإِتلافُ تصرّفٌ فيه حقيقةً، فكان قبضًا من باب أولى، إذ التمكن من التصرف دون حقيقة التصرف. . كما أن صدور الإتلاف من المشتري ينطوي على إثبات اليد فعلا، إذ لا يتصور وقوعه منه مع تخلف هذا المعنى، فكان الإِتلاف بمنزلة القبض ضرورة (2) .
(1) مجمع الضمانات للبغدادي: ص 217، بدائع الصنائع: 5/248، 6/126 وما بعدها، الفتاوى الهندية: 3/22 وما بعدها، الفتاوى الطرسوسية: ص 253، رد المحتار (ط. الحلبي) : 5/694، شرح المجلة للأتاسي: 2/193.
(2)
بدائع الصنائع: 5/246 وما بعدها، رد المحتار (ط. الحلبي) : 4/561، شرح المجلة للأتاسي 2/206، شرح منتهى الإِرادات: 2/191، كشاف القناع (مط. الحكومة بمكة) : 3/231، مغني المحتاج: 2/66 وما بعدها، روضة الطالبين: 3/499 وما بعدها، المجموع شرح المهذب: 9/281، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 192. وقال الشافعية: إنما يعتبر إتلاف المشتري قبضًا إذا علم أنه يتلف المبيع. أما إذا لم يعلم، فوجهان، بناء على القولين فيما إذا قدّم الغاصب الطعام المغصوب إلى المالك فأكله جاهلا، هل يبرأ الغاصب؟
وبناءً على هذا الأصل:
(أ) قال الشافعية: إذا أتلفت الزوجةُ الصَداق، وهو بيد الزوج، صارت بذلك قابضة إياه، وبرئ الزوج (1) .
(ب) وقال الحنفية: كما ناب إتلاف المشتري المبيع، وهو بيد بائعه منابَ قبضه منه، فإنه لو تصرف المشتري فيه بتعييب أو تغيير صورةٍ أو استعمال، فإن ذلك يعتبر قبضًا أيضًا، لما في هذه الأفعال من إثباتً اليد فعلا، والتصرف الحقيقي في المبيع، كما هو الشأن في الإِتلاف، فتنزّلُ منزلته في اعتبارها قبضًا حكميًّا.
قالوا: ومثل ذلك في الحكم ما لو فَعَلَ البائع شيئًا من ذلك بأمر المشتري، لأنَّ فِعْلَهُ بأمر المشتري بمنزلةِ فعلِ المشتري بنفسه.
وقالوا: لو أعتق المشتري العبد المبيع يصير بذلك قابضًا، لأنَّ الإِعتاق إتلافٌ حكمًا، فيُلحقُ بالإتلاف حقيقة.
ولو أعار المشتري المبيعَ أو أودعه أجنبيًا صار بذلك قابضًا؛ لأنه بالإِعارة والإيداع أثبَتَ يَدَ النيابة لغيره فيه، فصار قابضًا. وكذا لو وهبه أجنبيًا، فقبَضَهُ الموهوب (2) .
(1) روضة الطالبين: 7/251.
(2)
البدائع: 5/246 وما بعدها، رد المحتار (ط. الحلبي) : 4/561، شرح المجلة للأتاسي: 2/206 وما بعدها.
التطبيقات الفقهيّة المعاصرة للقبض الحكمي للأموال
23-
في ضوء ما تقدم من أقاويل الفقهاء وأنظارهم في قبول وتسويغ واعتبار القبض الحكمي التقديري للأموال شرعًا، وترتيبِ الأحكام الشرعية للقبض الحقيقي عليه في الصور والحالات الآنفة الذكر، يمكننا تخريجُ بعضِ الفروع والمسائل المستجدّة التي يجري بها التعامل في المصارف وبيوت التمويل المعاصرة، وبناءُ أحكامها على قاعدة القبض الحُكمي للأموال، وذلك على النحو الآتي:
(أولا) يعتبر القيدُ المصرفي لمبلغٍ من المال في حساب العميل إذا أودعه في حسابه شخصٌ آخر أو جَعَله فيه بحوالةٍ مصرفيةٍ قبضًا حكميًّا من المستفيدِ صاحبِ الحسابِ، وتبرأ ذمةُ الدافع بذلك إذا كان مدينًا له به.
(ثانيًا) : إذا كان للعميل حسابٌ لدى مصرفٍ بعملةٍ ما، فأمَرَ المصرف بقيدِ مبلغٍ منه في حسابه بعملةٍ أخرى بناءً على عقد صرف ناجز تَمَّ بينه وبينَ المصرف، واستيفاءِ المبلغ الذي اشترى به من حسابه، فيعتبرُ القيدُ المصرفي المعجّلُ بالعملة المشتراةِ قبضًا حكميًّا من قِبَلِ العميل الآمر، ويعتبرُ الاقتطاعُ الناجزُ من قِبَلِ المصرف للبدلِ من حساب العميل قبضًا حكميًّا له من المصرف. ويُعَدُّ مجموعُ ذلك بمثابة التقابض بينَ البدلين في الصرف، وإنْ اتّحدَتْ يدُ القابض والمُقْبِضِ حسًّا.
(ثالثًا) : إذا اشترى شخصٌ نقدًا من مصرفٍ بنقدٍ آخر، فدفَعَ إليه البدلَ، وأخَذَ منه في المجلس شيكًا بعوضه من النقد الآخر مسحوبًا على البنك المراسل للمُصْدِرِ، فيعتبر قَبْضُهُ للشيك قبضًا حكميًّا لمضمونه، ويكونُ ذلك بمنزلة التقابض في البدلين قبل التفرق.
(رابعًا) : إذا اشترى شخصٌ نقدًا من مصرف بنقدٍ آخر، فدفَعَ إليه البدل، وأرسل المصرفُ – بناءً على طلب المشتري – برقية (تلكس) إلى بنكه المراسل يأمره فيها بدفعِ العوض من النقد الآخر لحساب المشتري أو لحساب مستفيدٍ آخر لدى مصرف ثالث، فيعتبرُ أَمْرُ المصرف الناجزُ (بالتلكس) لبنكه المراسل بأداءِ بدل الصرف حالا إقباضًا حكميًّا للمشتري، ويُنزَّلُ التعامُل بتلك الكيفية منزلةَ التقابض الناجز بين البدلين في الصرف.
(خامسًا) : إذا تصارفَ العميلُ مع المصرف الذي له في حسابٌ، فأَمَرَ المصرفَ باقتطاع البدل الذي اشترى به من حسابه، وتسلَّمَ من المصرف شيكًا بالنقد الذي اشتراهُ مسحوبًا على البنكِ المراسل للمصرف الذي أَصْدَرَهُ، فيعتبرُ اقتطاعُ المصرفِ الناجزُ لبدلِ الصرف من حسابه قبضًا حكميًّا للبدل من العميل المشتري، ويعتبرُ تسلُّمُ العميل الشيكَ قبضًا حكميًّا لمضمونه، وإذا تمَّ ذلك في المجلس، فإنه يُعَدُّ بمثابة التقابض في البدلين قبل التفرق.
(سادسًا) : إذا اشترى شخصٌ من مصرف نقدًا بنقد آخر، وكان للمشتري حسابٌ لدى مصرف آخر بنفس العملة التي باعها، فأعطاه أمرًا برقيًّا ناجزًا (بالتلكس) بتحويل المبلغ الذي باعه للمصرف الذي اشتراه منه أو لمن ينوبُ عنه، ثم قَبَضَ المشتري في المجلس شيكًا بمضمون البدل الذي اشتراه من المصرف المشتري أو قيَّده المصرفُ في حسابه لديه، أو أرسلَ المصرفُ برقية (تلكس) لبنكه المراسل يأمره حالا بتحويل ذلك المبلغ لحساب المشتري أو لحساب مستفيدٍ آخر طلبَ المشتري الدفعَ إليه في مصرف آخر، فيعتبرُ ذلك كله إقباضًا حكميًّا للنقد الأول من المشتري للمصرف، وللنقد الآخر من المصرف للمشتري، ويُنَزَّلُ التعامل بهذه الكيفية منزلةَ التقابض الناجز بين البدلين في الصرف.
24-
هذا ومما تجدر الإشارةُ إليه في هذا المقام قرار مجلس المجمع الفقهي الإِسلامي لرابطة العالم الإِسلامي في دورته الحادية عشرة المنعقدة بمكة المكرمة من 13 رجب 1409هـ الموافق 19 فبراير 1989م إلى 20 رجب 1409 هـ الموافق 26 فبراير 1989م في بعض التطبيقات المعاصرة للقبض الحكمي للأموال، حيث نظر في موضوع:
1-
صرف النقود في المصارف، هل يستغنى فيه عن القبض بالشيك الذي يتسلمه مريد التحويل؟
2-
هل يُكتفى بالقيد في دفاتر المصرف عن القبض لمن يريد استبدال عملة بعملة أخرى مودعةٍ في المصرف؟
وبعد البحث والدراسة قرَّر المجلس بالإِجماع ما يلي:
(أولاً) : يقوم تسلُّمُ الشيك مقام القبض عند توفر شروطه في مسألة صرف النقود في المصارف.
(ثانيًا) : يعتبر القيدُ في دفاتر المصرف في حكم القبض لمن يريد استبدال عملة بعملة أخرى، سواء كان الصرف بعملةٍ يعطيها الشخص للمصرف أو بعملةٍ مودعةٍ فيه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلًَّمَ تسليمًا كثيرًا، والحمد لله رب العالمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور نزيه كمال حماد
المناقشة
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في هذه الجلسة المسائية عرض بحث القبض وصوره بخاصة المستجدة والعارض هو الشيخ علي محيي الدين، والمقرر هو الشيخ محمد رضا العاني، وأحب أن أشير إلى أن في المناقشات سيبدأ بأصحاب البحوث الذين يرغبون الكلمة ثم يأتي بعد ذلك الذين يرغبون في المناقشة، ونرجو أن يكون هناك التزام بالوقت تفضل يا شيخ.
الدكتور على محيي الدين القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبحوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. اللَّهم علَّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا، واجعل يومنا هذا خيرا من أمسنا، وغَدَنَا خيرا من يومنا واقبلنا في عبادك المخلصين. لا إلَه إلا أنت سبحانك لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
أيها الأساتذة الفضلاء، يسعدني أن أشرف بتخليص هذه البحوث المقدمة من السادة العلماء، أن ألخَّصها لحضراتكم مع بحثي المتواضع في القبض وصوره المتعددة ولا سيما الصور المستجدة، ولا يفوتني هنا أن أنوَّه بجهود إدارة المجمع وأمانته في المتابعة والتنظيم لإِنجاح هذه الدورة والدورات السابقة، فجزى الله القائمين عليها خير الجزاء.
البحوث التي في متناول الأيدي حول موضوع القبض وصوره المعاصرة ثمانية بحوث، وهي للأساتذة الأجلاء: الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور، والشيخ عبد الله بن منيع، والأستاذ الدكتور نزيه حماد، والأستاذ الدكتور سعود بن مسعد، والدكتور محمد رضا العاني، والدكتور محمد الصديق الضرير، والدكتور عبد الله محمد عبد الله. . بالإضافة إلى بحثي المتواضع ولا أريد هنا أن ألج بكم في غمار التعاريف والأبحاث اللفظية حيث إن البحوث في متناول أيديكم، ولا شك أنكم تفضلتم بقراءتها وإنما أريد التركيز على اتجاهات الإِخوة بصورة عامة وأدلة كل اتجاه ولا سيما لفقهائنا الأجلاء.
ففي نطاق تعريف القبض وكيفيته يتفق أصحاب أكثر البحوث الثمانية على أن مرجع ذلك إلى العرف في حين أن بعض البحوث لم تشر إلى ذلك، وإنما نظرت إلى تقسيمات الفقهاء مباشرة مع أنها في الواقع تعود إلى أعرافهم السائدة، مثل بحث أستاذنا الفاضل الشيخ محمد الصديق الضرير، حيث جعل القبض في المكيل والموزون، ونحوهما باستيفاء قدره، وفي الجزاف بتحويله، وفيما عدا ذلك يرجع إلى العرف. وأما الأستاذ الدكتور نزيه حماد والدكتور سعود بن مسعد، فقد سارا في بحثيهما على تقسيم القبض إلى قسمين قبض حقيقي، أي تام وقبض حكمي. غير أن الأستاذ الدكتور نزيه فصل في بحثه صور كل واحد من النوعين، ولا سيما صور القبض الحكمي، تفصيلا طيبا. فذكر ضمن القبض الحكمي عدة صور – حقيقية أحب أن الخَّص كل بحث حتى لا أكون ملخَِّصًا لبحثي فقط – فذكر ضمن القبض الحكمي عدة صور، منها: التخلية في المنقولات عند الحنفية، ومنها: القبض في الذمة بالنسبة للمدين والدائن، ومنها قيام قبض سابق لعين من الأعيان قيام قبض لاحق، ومنها: تنزيل إتلاف العين منزلة قبضها. ثم ألحق ببحثه أخيرا عدة تطبيقات فقهية معاصرة، منها: اعتبار القيد المصرفي لمبلغ من المال في حساب العميل إذا أودعه في حسابه شخص آخر، ومنها صور أُخَر، وهي معروضة وموجودة أمام حضراتكم.
أما الأستاذ الجليل الدكتور محمد الصديق فقد كتب في ثلاثة موضوعات: أولا: النصوص الواردة في الموضوع ، ثانيا: آراء الفقهاء في حكم بيع الإِنسان ما اشتراه قبل قبضه، ثالثا: في البيع قبل القبض في الطعام، ورجح فضيلة الدكتور أن النهي هنا للتحريم، والمسألة هنا، وإن كانت خلافية، في قضية النهي، هل النهي للتحريم؟ تحتاج إلى بحث وتمحيص، لكنه لا يخفى على فضيلته أن الخلاف حقٌّ أو أن الخلاف هنا هو هل النهي يقتضي الفساد أم لا؟ وليست القضية قضية التحريم أو الكراهة. ثم رجح فضيلته أن بيع الطعام قبل قبضه غير صحيح، وكذلك قاس على الطعام غير الطعام بل بني تعميمه في الطعام وغيره على حديث حكيم، قول النبي صلى الله عليه وسلم:((فلا تبعه حتى تقبضه)) ، لكنه في نظري أن هذا الحديث لا ينهض حجة لضعف فيه كما هو مبين في بحثي، وقد ذكر عدة صور مستحدثة للقبض ولا سيما في بيع المرابحة للآمر بالشراء بالنسبة للقبض.
وأما فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان، فقد خصَّص بحثه لجزئية من جزئيات القبض وهي قبض الشيك بجميع أنواعه حيث رجح أن قبض الشيك قبض لمحتواه. واعتمد في ذلك على أن للعرف حكما متميزا في تعيين صفة القبض حيث لم يرد نص ونحن جميعا معه في هذا الموضوع.
أما فضيلة الدكتور محمد الفرفور فذكر طرق القبض وهي التخلية عند الحنفية والإِتلاف وإيداع المبيع عند المشتري أو إعارته منه، وصور أخرى نتفق في بعضها أو تتفق هذه الصور في بعضها مع الصور التي ذكرها الأستاذ الدكتور نزيه. ثم ذكر أثر القبض، ثم رجح صورة التسجيل العقاري، في بلاد فيها سجل ونظام عقاريان، جعل ذلك بمثابة القبض حتى ولو لم يتم التسجيل، وفي اعتقادي أن هذه القضية بالإِضافة إلا أنها قضية قانونية للتثبت وهو الراجح بالنسبة حتى للقوانين المدنية لأن الشكلية قد انتهت، فالمسألة حقيقةً مجال للنظر والاجتهاد في هذه المسألة.
وأما الأستاذ الدكتور عبد الله بن محمد بن عبد الله فقد ذكر مذاهب الفقهاء، وكذلك ذكر ما يتعلق بالجانب القانوني في القبض. ثم ذكر أحكام القبض من انتقال الضمان إلى المشتري، وتسليط المشتري على التصرف، كما تطرق كذلك إلى آراء الفقهاء في التصرف في المبيع قبل القبض، وإلى مكان القبض وزمانه، وختم بحثه بالبحث عن القبض في القوانين الوضعية، وتكلم في ذلك عن القوانين البحرية والقوانين التجارية في هذا الصدد.
وتطرق الأستاذ الدكتور سعود بن مسعد في بحثه إلى قبض الربويات وغيرها بالإضافة إلى حكم القبض في الشيكات وقبض أوراق البضائع وتظهيرها وقبض الأسهم وتظهيرها.
وأما الأستاذ الدكتور محمد رضا العاني فقد سار في بحثه على بيان القبض من حيث الصحة وعدمها، وذكر بأن القبض الصحيح هو القبض الذي يتم بإذن صاحبه أو عن طريق إذن شرعي أو عرفي، كما أن القبض إما أن يكون أثرا من آثار العقد، كما في البيع ونحوه، وإما أن يكون من تمام العقد كما في السلف. ثم تطرق إلى صور تحقق القبض من حيث المناولة ونحوها، وكذلك إلى مدى جواز التصرف قبل القبض، وانتهى في الأخير إلى ترجيح رأي المالكية في جواز البيع قبل القبض إلا في الطعام. هذه هي معظم الأفكار المطروحة في البحوث السبعة أرجو أن أكون قد وُفَّقت في عرضها بصورة أمينة.
وأما بحثي المتواضع فهو يتضمن ما يأتي:
أولا: إنني استعرضت بالتفصيل آراء الفقهاء في تعريف القبض واتجاهاتهم التي تنحصر في هذا الصدد في اتجاهين: اتجاه يرى عدم التفرقة بين جميع أنواع المعقود عليه حيث يتم قبضها بالتخلية فقط، وهذا مذهب الحنفية وأحمد في رواية وقول للشافعية حكاه الخراسانيون، والراجح عند الظاهرية والزيدية والإِمامية، وإليه مال البخاري وغيره. واتجاه ثانٍ يرى التفرقة بين أنواع المعقود عليه، فمنهم من جعل أساس التفرقة كون الشيء منقولا أو غير منقول، حيث يتم القبض في المنقول بالنقل، وفي غيره بالتخلية. ومنهم من جعل الأساس في التفرقة كون الشيء مكيلا أو موزونا أم لا. ومن هنا نستطيع القول إن الجميع يكادون يتفقون على أن القبض في غير المنقول كالعقارات يتم بالتخلية. وقد استعرضت أدلة كل فريق ومناقشاتها بالتفصيل، وهي أمام أصحاب الفضيلة من الصفحة الرابعة إلى الصفحة الثالثة عشرة. ولم أكتفِ في ذكر الأحاديث بعزوها إلى كتب السنَّة وإنما حققتها ووصلت فيها إلى الحكم عليها وانتهينا إلى ترجيح الرأي القائل بأن القبض يتم بالتخلية، كقاعدة أساسية إلا أن الطعام نظرا لورود أحاديث صحيحة فيه، وللخصوصية التي أصلها الإِمام القرافي، يستثنى فيكون قبضه بالكيل أو الوزن أو النقل – يعني هو فيه خلاف حقيقةً – وذلك لما ذكرناه من عدة أحاديث صحيحة تدل على أن القبض في الإِبل، وهي من المنقولات لا شك قد تم بمجرد العقد، كما في الصفحة الخامسة إلى السادسة من البحث، فقد روى البخاري " أن الرسول صلى الله عليه وسلم اشترى من عمر – رضي الله عنه – بعيرا، ثم وهبه، قبل النقل، إلى ابن عمر ". وأشار ابن بطال إلى أن الحديث حجة في أن البيع يتم بالعقد مع شروطه، وأنه لا يحتاج إلى نقل المعقود عليه فعلا، بل قال الحافظ ابن حجر: وقد احتج المالكية والحنفية في أن القبض في جميع الأشياء بالتخلية وإليه مال البخاري. وذكرنا أربعة أحاديث صحيحة في هذا الصدد، وحديثا حسنا، ولذلك رجحنا التعريف المختار للقبض: وهو أن القبض التخلية بين العاقد والمعقود عليه، على وجه يتمكن من التسلم بلا مانع ولا حائل حسب العرف.
ثانيا: من الأمور التي تطرقنا إليها ما يشترط فيه القبض الفوري وهذا يخص الصرف، وأعتقد أن الفقهاء متفقون في ذلك، ولكنهم مختلفون في تفسير الفورية، وفي تفسير الفورية لهم اتجاهان: اتجاه الجمهور القائلين باعتبار المجلس حيث لم يشترطوا الفورية بمعناها الضيق، بل وسعوا دائرتها لتتسع كل أوقات المجلس، واتجاه آخر للسادة المالكية حيث اشترطوا القبض الفوري، قال ابن رشد: إن تأخر القبض في المجلس بطل الصرف، وإن لم يفترقا. وسبب الخلاف ترددهم في مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم:((إلا هاء وهاء)) ، وكذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم:((يدا بيد)) . وقد رجحنا رأي الجمهور لأحاديث صحيحة تدل على المقصود بوضوح، وأما معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم:((يدا بيد)) . فقد قال الخطابي: "فيه بيان أن التقابض شرط في صحة البيع في كل ما يجري فيه الربا ". وقال غيره: " أي حالًّا مقبوضا في المجلس قبل افتراق أحدهما عن الآخر". وقال آخرون: أي عينا بعين، يعني "هاء وهاء" أو "يدا بيد"، أي عينا بعين. ثم إن الحنفية لم يقيسوا على الذهب والفضة، أي النقود غيرهما من الربونات، حيث لم يشترطوا فيها إلا التعيين في المجلس، فجعلوا قضية الفورية أو في المجلس خاصة بالنقود. وأما الشافعية والحنابلة فاشترطوا التقابض في المجلس في كل الربويات، سواء بيعت بجنسها أو بغير جنسها والمالكية، كما سبق أن ذكرنا، اشترطوا الفورية في جميع الربويات.
ثالثا: تقسيم العقود بالنسبة للقبض إلى أربعة أقسام: القسم الأول: ما يجب فيه التقابض قبل التفرق بالإِجماع وهو الصرف. ثانيا: ما لا يجب بالإِجماع كبيع السلع والطعام بالنقود. ثالثا: ما ورد فيه خلاف مثل بيع الطعام بالطعام حيث اشترطه الشافعي ومالك وأحمد، خلافا لأبي حنيفة. القسم الرابع: ما يشترط فيه التقابض الفوري بمعناه الضيق وهو ما يكون في الصرف والربويات عند الإِمام مالك.
تكلمنا كذلك في المسألة الرابعة عن أنواع القبض وصوره القديمة، حيث قسم الإِمام الكاساني القبض إلى قبض تام وقبض ناقص. ثم قال: التخلية قبض تام فيما يأتي: (أ) : في كل ما ليس له مثل من المذروعات والمعدودات المتفاوتة. (ب) : وفيما له مثل ولكنه بيع مجازفة. (ج) : وفي المعدودات المتقاربة إذا بيعت عددا لا جزافا – من باب الأمانة هذه الأرقام (أوب وج) من عندي حقيقةً وليس من النص – وأما التخلية فتكون قبضا ناقصا فيما له مثل، لكنه بيع مكايلة أو موازنة، وتطرقت بهذا الصدد إلى عدة مسائل جزئية في صفحة 18 أو الصفحة الثامنة عشرة إلى الصفحة التاسعة عشرة، كما تطرقت إلى الأنواع التي ذكرها بقية الفقهاء من الصفحة العشرين إلى الصفحة الثانية والعشرين.
وأما صور القبض المعاصرة، فقبل أن أتطرق إليها، أود أن أؤصلها من خلال قاعدة عامة في القبض، وهي أن مبنى القبض وأساس مسائله وصوره قائم على العرف، حيث إن الشرع أطلقه، فيكون الرجوع فيه إلى العرف. ومن هنا فكل ما عدّه العرف قبضا في أي عصر من العصور فهو قبض ما دام لا يصطدم مع نص شرعي ثابت صريح، وكذلك لا يجب الالتزام بجزئيات القبض وصوره في عصر ما بالنسبة للعصر الذي يليه ما دام العرف قد تغير، لأن ما هو مبني على العرف يتغير بتغيره. يقول العلامة ابن القيم – رحمه الله:"فمهما تجدد في العرف فاعتبره، ومهما سقط فألغه، ولا تجمد على المنقول في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك فلا تجره على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده فأجره عليه، وأفته به دون عرف بلدك ودون المذكور في كتبك". ثم نقل عن المحققين من العلماء قولهم: "فهذا هو الحق الواضح والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين، وما جرت به العادة واشتهر ذلك عند الناس، بحيث صار عرفًا متبادرًا إلى الذهن من غير قرينة، حمل عليه، ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأحوالهم – والكلام للإِمام وليس لي – وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضر على أديان الناس وأبدانهم، والله المستعان". وقد أكد على مثل ذلك العلامة ابن عابدين في رسالته القيمة، فقال: اعلم أن اعتبار العادة والعرف رجع إليه في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلا فقالوا: تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة. وقال في القنية: ليس للمفتي ولا القاضي أن يحكما عن ظاهر المذهب ويتركا العرف. وهذه الضابطة تسهل كثيرًا من صور القبض المعاصرة، ما دامت لا تتعارض مع نصوص الشريعة الثابتة الواضحة، وعلى ضوء ذلك نقول: إن عملية القبض التسلُّم والتسليم، في عصرنا الحاضر، ليست جميع صورها حديثة، بل إن كثيرًا من صورها لا تزال باقية، مثل قبض العقار سواء كان أرضا أم بناء، وكذلك قبض الأشياء التي لا يمكن نقلها دون تغيير في شكلها، كالمصانع – عند المالكية في هذه المسألة بالنسبة للعقار شمول العقار للمصانع – فهذه أمور لا يختلف فيها القبض في عصرنا عما كانت عليه في السابق، فيكون قبضها بالتخلية كما قال فقهاؤنا الكرام. وأما المنقولات فهذه الممكن الاختلاف فيها حسب العصور والأزمان، حيث جدت معاملات حديثة وتطورت كيفية القبض ولا سيما في نطاق السلع والنقود "الصرف".
ثم ذكرت عدة صور معاصرة يمكن تكوين صور كثيرة منها، مع مراعاة بحث الأستاذ الدكتور نزيه حماد، وتناولتها من الصفحة الثالثة والعشرين إلى السابعة والعشرين يمكن الرجوع إليها ولا حاجة في أخذ أوقاتكم القيِّمة فيها.
وقد تطرقت كذلك إلى أركان القبض الثلاثة: القابض والمقبض والمقبوض، وإلى اتحاد القابض والمقبض وصوره السبع، وأثر القبض في العقود الصحيحة. ثم ذكرت اختلاف الفقهاء في أثر القبض في الرهن على أربعة آراء، وذكرت أدلتهم مع المناقشة وترجيح رأي مالك وأحمد، في رواية، من أن القبض في الرهن ليس ركنا ولا شرطا للصحة، وإنما هو شرط لتمامه، وكذلك ذكرت آراء الفقهاء الثلاثة في الهبة مع الأدلة والمناقشة وترجيح أنها لا تلزم إلا بالقبض مع استثناء بعض صور موجودة في البحث، وأثرنا في هذا الصدد مدى كون المبيع قبل القبض على ضمان البائع أم على المشتري لأن هذه المسألة يبنى عليها قضية البيع وهل يباع بعد ذلك؟ وهل يجوز التصرف قبل القبض أم لا؟ وإن كان شيخ الإِسلام ابن تيمية لم يجعل هناك تلازما بين هذه المسألة ومسألة البيع قبل القبض، وتطرقت إلى كل هذه المسائل في البحث، وكذلك أثرنا مدى اشتراط القبض قبل التصرف في المبيع، حيث ثار في المسألة الأخيرة خلاف كبير على ثلاثة اتجاهات، يتفرع من كل اتجاه آراء فرعية من الصفحة الواحدة والأربعين إلى الواحدة والخمسين. وقد انتهينا إلى ترجيح جواز التصرف في المبيع قبل القبض، وأن هذا هو الأصل، وأن الأصل هو ذلك الجواز لأن العقد الناقل هو الإِيجاب والقبول لقوله تعالى:{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} . ولأدلة كثيرة ذكرتها، ولكن يستثنى من هذا الأصل الطعام لأحاديث صحيحة واردة فيه، وهذا رأي جماعة من الفقهاء. وقد أثرت كذلك أثر القبض في العقود الفاسدة وذكرت آراء الفقهاء في هذه المسألة واتجاهاتهم الثلاثة بالإِضافة إلى التطرق إلى آراء الفقهاء في المقبوض على سوم الشراء أو على النظر أو الرهن.
تلك هي خلاصة بحثي المتواضع عفا الله عن صاحبه، وغفر له إن وقع فيه خلل أو زلل، وجعل كل أعمالي وأعمالكم خالصة لوجهه الكريم، فإن كان صوابا فمن الله وفضه ومَنَّه ورحمته وإلا فعذري أنني بذلك كل ما في وسعي ولم آلُ جهدا، وشكرا لاستماعكم، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته. وشكرا.
الشيخ محمد رضا عبد الجبار العاني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. الحقيقة أني أشكر الأخ الشيخ القره داغي على هذا العرض، لكن وقفت عند تعريفه للقبض، وفي الحقيقة في الصفحة الثالثة عشرة، لا أدري كيف نسي من تعريفه القبض الحقيقي؟ إنما التخلية قبض حكمي، والتناول والأخذ هو القبض الحقيقي. فقد عرف القبض بأنه هو التخلية بين العاقد والمعقود عليه على وجه يتمكن من التسلم بلا مانع ولا حائل حسب العرف. طيب، القبض الحقيقي هو التناول، فكيف لم يدخله في التعريف؟ إنما التخلية هي قبض حكمًا نعم، وليست قبضا حقيقةً، ولكن اعتبرها العلماء اعتبار الحقيقي في الأحكام، فرتبوا عليها ما قالوه. ولذلك يكون كلامه الذي قاله بعد هذا:"هذا هو حقيقة القبض في نظرنا" هذا الكلام ليس مسلمًا، إنما القبض الحقيقي هو الأخذ والتناول باليد، أما التخلية فهي قبض حكمًا. أرجو المعذرة، وشكرا.
الشيخ وهبه مصطفى الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم
…
وبعد: لا شك بأن هذه البحوث غنية ومفيدة وشاملة لكل ما يتعلق بالقبض، ولكن ينقصها شيء واحد وهو التطبيق الفعلي لبعض حالات القبض المعاصرة. فأما مجرد الإِحالة على العرف، والسادة، والدكتور محيي الدين القره داغي بالذات يتولى الإِجابة حول هذا الموضوع إذا أحلنا القضية على العرف، فعرف اليوم في المعاملات المصرفية معقد وكثير ومتنوع، فهل مجرد إحالة ابن القيم الموضوع على التعرف يُقِرُّ به عرفنا اليوم؟ عرف الماضين ليس كعرف الحاضرين، فهناك بالذات العقود التي نتعامل بها عند الصرافين، وهي أن نصرف مبلغًا من المال ثم نطالب الصراف بأن يحيل هذا المبلغ إلى أمريكا أو إنجلترا لأولادنا في الجامعات أو غيرها أو إلى بلد عربي، فهل مجرد أخذ الوصل من الصراف يعد قبضًا ينوب عن القبض المقرر شرعًا في الرويات؟ هذه مشكلة يُسأل عنها كثيرًا نريد أن نتعايش مع واقع الناس. فالحوالات، هل مجرد قبض هذه الأوراق يعد قبضًا؟ خصوصًا في الربويات التي تتطلب القبض الفعلي، وعندئذٍ نخرج من المأزق، مأزق الوقوع في الحكم والواقع لا يرحمنا، فمثل هذه الأمور جارية في الواقع، قضية الصرف مع وكالة بتحويل المبلغ، وعندئذٍ لا يتم لا صرف ولا غيره، لا يتم قبض صحيح في الواقع، ثم أيضا أداة القبض تغيرت، فهناك أمور كانت تباع بالكيل ثم أصبحت تباع بالوزن، فهل القبض المقرر والمعتبر شرعًا في عصرنا هو الأداة الحديثة؟ أغلب الأمور الآن في العالم العربي والإسلامي لم يعد فيها القبض كما كان في الماضي خصوصًا الحبوب وهي الكيل، إجراء الكيل كما نص الحديث النبوي، وإنما الذي يتم هو الوزن، يزن بالقنطار أو بالكيلو أو بالقبان أو بغير ذلك، إذن أداة القبض، أيضا، تغيرت، فمثل هذه القضايا الحديثة نحن لا نكتفي فيها بمجرد الإِحالة على العرف.
الشيخ نزيه كمال حماد:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أحب أن أعرض لأمر وهو أن الأخذ العارض للبحوث قد فاته، بحسن نيَّة أن يقدم ثمرة البحث الذي أعددته وهو التطبيقات الفقهية المعاصرة للقبض الحكمي للأموال باعتبار أن الجانب الأساسي في البحث هو قضية القبض الحكمي للأموال لذلك أحب أن أقدم خلاصة في قضية التطبيقات الفقهية المعاصرة للقبض الحكمي للأموال وفيها إجابة على بعض التساؤلات التي تفضل بها بعض الزملاء، ومنهم الأستاذ السالوس. ذلك أنه في ضوء ما عرضت، وهو موجود بين أيديكم، من أقاويل الفقهاء وأنظارهم، في قبول وتسويغ واعتبار القبض الحكمي التقديري للأموال شرعا، وترتيب الأحكام الشرعية للقبض الحقيقي عليه، في الصور والحالات التي بينتها بتفصيل، يمكننا تخريج بعض الفروع والمسائل المستجدة التي يجري بها التعامل في المصارف وبيوت التمويل المعاصرة، وبناء أحكامها على قاعدة القبض الحكمي للأموال، وذلك على النحو الآتي:
أولا: يعتبر القيد المصرفي لمبلغ من المال في حساب العميل المستفيد، إذا أودعه في حسابه شخص آخر أو جعله فيه بحوالة مصرفية، قبضًا حكميًّا من المستفيد صاحب الحساب وتبرأ ذمة الدافع بذلك إذا كان مدينا له به.
ثانيا: إذا كان للعميل حساب لدى مصرف بعملة ما، فأمر المصرف بقيد مبلغ منه في حسابه بعملة أخرى بناء على عقد صرف ناجز تم بينه وبين المصرف، واستيفاء المبلغ الذي اشترى به من حسابه، فيعتبر القيد المصرفي المعجل بالعملة المشتراة قبضًا حكميًّا من قبل العميل الآمر، ويعتبر الاقتطاع الناجز من قبل المصرف للبدل من حساب العميل قبضا حكميا له من المصرف، ويعد مجموع ذلك بمثابة التقابض بين البدلين في الصرف، وإن اتَّحدت يد القابض والمقبض حسًّا.
ثالثا: إذا اشترى شخص نقدا من مصرف بنقد آخر، فدفع إليه البدل وأخذ منه في المجلس شيكا بعوضه من النقد الآخر مسحوبا على البنك المراسل للمصدر، فيعتبر قبضه للشيك قبضا حكميا لمضمونه، ويكون ذلك بمنزلة التقابض في البدلين قبل التفرق.
رابعا: إذا اشترى شخص نقدا من مصرف بنقد آخر فدفع إليه البدل وأرسل المصرف، بناء على طلب المشتري، برقية (تلكس) إلى بنكه المراسل يأمره فيها بدفع العوض من النقد الآخر لحساب المشتري أو لحساب مستفيد آخر لدى مصرف ثالث، فيعتبر أمر المصرف الناجز (بالتلكس) لبنكه المراسل بأداء بدل الصرف حالًّا، إقباضًا حكميًّا للمشتري، وينزل التعامل بتلك الكيفية منزلة التقابض الناجز بين البدلين في الصرف.
خامسا: إذا تصارف العميل مع المصرف الذي له فيه حساب، فأمر المصرف باقتطاع البدل الذي اشترى به من حسابه، وتسلم من المصرف شيكا بالنقد الذي اشتراه مسحوبًا على البنك المراسل للمصرف الذي أصدره، فيعتبر اقتطاع المصرف الناجز لبدل الصرف من حسابه قبضًا حكميًّا للبدل من العميل المشتري، ويعتبر تسلم العميل (الشيك) قبضًا حكميًّا لمضمونه وإذا تمَّ ذلك في المجلس فإنه يعد بمثابة التقابض في البدلين قبل التفرق.
سادسا: إذا اشترى شخص من مصرف نقدا بنقد آخر، وكان المشتري حساب لدى مصرف آخر بنفس العملة التي باعها، فأعطاه أمرا برقيًّا ناجزا (تلكس) بتحويل المبلغ الذي باعه للمصرف الذي اشتراه منه أو لمن ينوب عنه، ثم قبض المشتري في المجلس (شيكا) بمضمون البدل الذي اشتراه من المصرف المشتري أو قيده المصرف في حسابه لديه أو أرسل المصرف برقية (تلكس) لبنكه المراسل يأمره حالا بتحويل ذلك المبلغ لحساب المشتري أو لحساب مستفيد آخر طلب المشتري الدفع إليه في مصر ثالث، فيعتبر ذلك كله إقباضا حكميا للنقد الأول من المشتري للمصرف، وللنقد الآخر من المصرف للمشتري، وينزل التعامل بهذه الكيفية منزلة التقابض الناجز بين البدلين في الصرف.
هذا ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام قرار مجلس المجمع الفقهي الإِسلامي لرابطة العالم الإِسلامي في دورته الحادية عشرة المنعقدة في مكة المكرمة في 16 رجب 1409 هـ في بعض التطبيقات المعاصرة للقبض الحكمي للأموال، حيث نظر في موضوع صرف النقود في المصارف هل يستغنى فيه عن القبض (بالشيك) الذي يتسلمه مريد التحويل؟ ثم هل يكتفي بالقيد في دفاتر المصرف عن القبض لمن يريد استبدال عملة بعملة أخرى مودعة في المصرف؟ وبعد البحث والدراسة قرر المجلس بالإِجماع ما يلي:
الرئيس:
بالأكثرية وما أتي بالقرار من الإِجماع غلط. المنشور جاء فيه (بالإِجماع) لكنه غلط بل هو بالأكثرية.
الشيخ نزيه حماد:
نعم
…
إذن هو بالأكثرية.
أولا: يقوم تسلم الشيك مقام القبض عند توفر شروطه في مسألة صرف النقود في المصارف.
ثانيا: يعتبر القيد في دفاتر المصرف في حكم القبض، لمن يريد استبدال عملة بعملة أخرى، سواء كان الصرف بعملة يعطيها الشخص للمصرف أو بعملة مودعة فيه.
وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. وشكرا.
الدكتور درويش جستنيه:
بسم الله الرحمن الرحيم.
معالي الرئيس، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الواقع أنه لقد سبقني الأستاذ عبد اللطيف الجناحي فيما يتعلق بكثير من صور التجارة الدولية. وفي الحقيقة أريد أن أختصر وأريد أن أقترح اقتراحا، أما فيما يتعلق بالاختصار فهو أن التجارة الدولية في هذه الأيام تمتاز بالسرعة – كما قال – وتمتاز أيضا بتقلب الأسعار، فكي يستفيد المشتري من تقلب الأسعار وهي فورية بين منطقة في طرف العالم ومنطقة أخرى في طرف العالم الآخر، فإنه بهذه السرعة يستطيع أن يحصل بل إنه يبيع قبل أن يشتري. فإذن هناك عدد من الصور وأنا أقترح أن توكل للبنوك الإِسلامية فرصة لجمع عدد من الصور الرئيسية التي يمكن أن تعرض على المجلس حتى يتخذ فيها قرارات منفردة، لأنه ليست فقط السلع التي يقع بها التعامل ولكن الخدمات تباع أيضا، وتباع من الباطن.
وهذه مسألة مهمة وعلى مستوى العالم وتطبق في كثير من البلاد الإِسلامية. البيع للسلعة أو للخدمة من الباطن من قبل الاستلام أو من بعده أنا أعرف حالات السوق العالمية، مثلا تجارة الإِسمنت: يبيع الإِسمنت على شركات قبل أن يشتريه من المصدر لأنه يريد أن يتأكد من أنه يحصل على كمية كبيرة من أطنان الإِسمنت بسعر معين في ميناء معين في وقت معين، وهذه حالات تمت وأعرف عنها، فإذن أقول: إنه لا بد لكي يقر المجمع مسائل محددة أن ينهج كما نهج البنك الإِسلامي للتنمية حيث أعطى للمجمع صورا محددة للتعامل وطلب رأيه فيها. وقد سبق للمجمع أن أصدر فتاوى للبنك الإِسلامي للتنمية في مثل هذه القضايا. فالتقابض بشكل عام ربما يهم، في التصور، الأكادميين أو رجال الشريعة لكن في التطبيق العملي لرجال الأعمال أو للبنكيين أو الاقتصاديين تكون المسألة أصعب من ذلك بكثير. ولذلك أقترح على المجلس راجيا منه على أن مثل هذه الموضوعات يوضع لها عدد من الصور وتعرض في لجان متخصصة ثم تعرض في النهاية على المجلس. وشكرا.
الشيخ المختار السلامي:
بسم الله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله. المواضيع التي طرحت اليوم على بساط النظر. والتي أعتقد أن من أعقد القضايا فيها هي التسوية بين الطعام وغيره وهل كل المبيعات لا يجوز بيعها إلا بعد أن تقبض فعلا؟ أو أن هذا خاص بالطعام؟ ووقع الحديث في الاستناد إلى الأحاديث التي رويت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والصحيح منها هو تخصيصه بالطعام. وقيل: إنه يستفاد أن غير الطعام يجوز بيعه قبل قبضه اعتمادا على المفهوم، وأعتقد أن المفهوم هنا هو مفهوم اللقب. ومفهوم اللقب لم يقل به إلا الدقائق. ولكن غير المنطوق مسكوت عنه، والمسكوت عنه داخل تحت قوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} فجميع صور البيع هي حلال إلا ما دل الدليل على تحريمه، والتحريم ضبط في بعض القضايا كقضايا عين، وضبط بقرائن، ومن ذلك الغرر والغرر يختلف باختلاف الأزمنة، فتطور التجارة العالمية اليوم وما تم بين التجار في أنحاء العالم نفى كثيرا من الغرر عن أنواع كثيرة من البيوعات وهو ما يجعل أنه لا يتجاوز بالنص غيره إلا في الحدود التي يتحقق فيها الغرر فعلا، ذلك أن الغرر هو يؤدي إلى الخصومة وتؤدي الخصومة إلى النزاع وتفريق شمل المسلمين. واليوم تقع هذه البياعات دون أن يترتب عليها أي غرر من ناحية، ومن ناحية أخرى لا تدخل تحت قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} . بقي: لماذا خصص الطعام؟ خصص الطعام لأمر واضح، وهو ما ينادي به كل الناس اليوم، بالأمن الغذائي، فإن التقابض في الطعام يجعل الطعام ظاهرا بين أعين الناس ينتقل من مكان إلى مكان وتجري فيه المكاييل ويطمئن الناس إلى وجوده. فإذا وقعت فيه المضاربات وبيع بدون أن ينظر الناس إليه تلهف الناس على وجود الطعام ......... في النقد وفي الطعام، خصت الشريعة الطعام والنقد بأحكام لم تخص أو لم تعطها أو لم تعممها لغير الطعام والنقد لما بيناه فلم تبح أي عبث في النقد باعتبار أنه هو القيم التي يعود إليها البشر فلا يجوز أن يقع فيها عبث. فاحتاطت الشريعة في النقود واحتاطت الشريعة في الطعام، وأما في غيره فلا أرى أنه يجري فيه ما يجري على الطعام، وخاصة أننا نجد أن الفقهاء لما تحدثوا على البيع على البرنامج والبيع على الصفة هم كلهم استدلوا واستندوا لمن أجاز هذه الأنواع من البيوع، استندوا إلى أنه لا يقع فيها غرر ولا خصومة.
ما تفضل به صديقنا الفاضل الدكتور نزيه حماد يؤكده هو أن العملات تتذبذب تذبذبا كبيرا ولا يكاد يوم يمر دون أن تتغير قيمة العملة، لكن إذا وقع القيد أو وقع الشيك أو تم، فإن القيمة لا تتغير بمعنى أن الشيء أصبح باتا، ولذلك اعتبرت هذه التصرفات كلها قبضا، باعتبار أن الإِنسان إذا قبض شيئا دخل في ذمته ولا يتغير ما عنده، والتغير إذا كان للأسفل هو الذي يخسر، وإذا كان للأعلى هو الذي يربح، فكذلك إذا وقعت في هذه القيود البنكية، وبناء على هذا فبيع السلع في البحر وتداول البيوعات عليها إذا انتفى فيها الغرر وانتفى فيها موجب الخصومة فإنه تيسير على الناس يدخل تحت قوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} . وما كان يقع فيها من الغرر في السابق حسب السنن التي جرت عليها التجارة العالمية اليوم ذهبت كل تلك الأنواع من التغرير ومن الغرر، وإن كان يقع فيها بعض أشياء قليلة إلا أنها تلغى، وهي كشأن النقود فالنقود فيها الزائف ولكن الزائف قليل، وهذا القليل يعتبر لاغيا ولا ينظر إليه لأنه أقل من القليل وكذلك هذه الصفقات التي تقع. وعلى كل بجانبنا هنا الاقتصاديون فهل يعلمون أن البيع على هذا وقع فيه غرر وخصومات؟ فإن كان وقع فيه خصومات ووقع فيه غرر كثير أو انتشر أو مما يخشى منه فأنا أسحب هذا الرأي، وشكرا والسلام عليكم.
الدكتور رفيق يونس المصري:
بسم الله الرحمن الرحيم:
الحقيقة أن هذه المسألة المعروضة في هذا المساء (القبض) بدت لي من أهم المسائل المعروضة على هذه الدورة من الناحية الاقتصادية ولدى اطلاعي على الأوراق المقدمة في الموضوع أنا أثني على ما قاله الرئيس وقاله أيضا غيره بأن هذه الأوراق كما بدت لي تنقسم قسمين وهذا ربما يكون فيه فائدة لما يستقبل من الزمان في الدورات القادمة إن شاء الله، فورقة أستاذنا الدكتور الصديق الأمين تحدث فيها عن البيع قبل القبض وبدا لي أن هذا الموضوع مختلف عن عنوان البحث (القبض وصوره وبخاصة المستحدثة منها) وقد ردنا في هذه الورقة إلى ما ذكره في كتابه القيم "الغرر وأثره في العقود"، ونحن نتمنى في الواقع، بالنسبة للمستقبل أن تكون الأوراق جديدة، وأن تكون هذه الأوراق أيضا على الأقل مكيفة بحسب الموضوع المعروض، اللهم إلا في نهاية بحثه في الورقتين الأخيرتين ربما تعرض فيهما إلى شيء عن القبض كما يجري في المصارف الإِسلامية، وربما يكون هذا الموضوع أيضا متعلقا بالقبض هل يحدث أم لا يحدث؟ وهذا الموضوع أيضا بدا لي أنه مختلف عن موضوع صور القبض المعروض في هذه الدورة، وهناك أيضا أوراق أخرى دخلت مدخلا يبدو لي أن هذا المدخل أفضل وهو مدخل التعرض إلى صور القبض القديمة، ولكن كنا نتمنى من الإِخوة الكرام أن يمهدوا بهذا المدخل وأن يستفيضوا في الصور المستحدثة لكننا عندما وصلنا إلى الصور المستحدثة، كلوا وملوا وانقطع النفس، وأيضا هناك أستثني ورقة واحدة في الواقع ورقة الشيخ ابن منيع ولعله غائب عن مجلسنا هذا، تعرض فيها إلى مسألة محددة وقد سبق عرضها على مجمع مكة واتخذ فيها قرارا ذكره في نهاية ورقته وما أرى أن هذه الأوراق ما لم تتعرض له أن الصور المستجدة وإن جاء ذكرها في هذه الأوراق إلا أنها في الواقع تحتاج إلى مزيد من المناقشة فأعطي أمثلة كما حضرت لي في الذاكرة: مثلا لم تبين أي ورقة من هذه الأوراق الفرق بين التقابض والحلول في مسألة الربويات هل نكتفي بالحلول أم لا بد من التقابض لا سيما في الأموال الربوية؟ أيضا حتى القرار الذي نقل عن مجمع مكة، ما أدري ربما نحن يكون لنا نظر جديد في الموضوع (فالشيك) كما تعلمون وكما ذكر في هذه الجلسة أحيانا يكون (شيكا) مؤجلا وليس (شيكا) حالًّا فهل نعتبر قبضه كقبض النقود؟ المسألة فيها نظر كبير ثم أيضا حتى (الشيك) الحال الذي نستطيع صرفه في الحال هذا يحتاج أيضا إلى مدة قد يكون (شيكا) داخليا وقد يكون (شيكا) خارجيا وقد ينقضي وقت منذ قبض الشيك فهل أيضا هذا نلحقه ونقول عنه إنه تقابض حكمي؟ ما جرت عليه بعض الأوراق في الواقع أنها صنفت هذا القبض إلى نوعين: حقيقي وحكمي، ثم ألحقت على استعجال كل الصور المعاصرة بالحكمي دون مناقشة مستفيضة للموضوع. أنا في الحقيقة أقترح على المجمع أن تحصر الصور المستجدة كما سبق لنا في بحث بيع التقسيط، وأن تناقش واحدة واحدة وما أدري في الواقع هل هذه المناقشات التي بين أيدينا نستطيع بالاستناد إليها أن يتخذ فيها المجمع قرارا أم لا؟ وأيضا الصور القادمة أنا أطالب الحقيقة الأستاذ الجناحي وأمثاله من الإخوة الكرام أن يوافقوا بها المجمع قبل مدة كافية وأن تعرض هذه الصور تحت أنظار الفقهاء والباحثين الاقتصاديين كي تكون الأوراق المقدمة في الواقع أقرب إلى موضوع الندوة وشكرا وأعتذر عن الإِطالة. شكرا.
الشيخ نظام الدين عبد الحميد:
بسم الله الرحمن الرحيم:
لي كلمة مختصرة على تعليق الأستاذ الجليل الشيخ الضرير ذكر أن الحكم المبني على الحديث لا يتغير بالعرف هذا صحيح إذا لم يكن حكم الحديث مبنيا على العرف، أما إذا كان الحكم مبنيا على العرف فإن الحكم يتغير بتغير العرف وهذا ما ذكره أبو يوسف وموجود هذا القول في فتح القدير بشرح ابن الهمام وصلَّى الله على سيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الدكتور عبد السلام داود العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم:
سأختصر اكتفاء بما دار من تعليقات وخاصة ما يتعلق بالاهتمام بالصور الحديثة لكن أقول بصفة عامة: إن البحوث قد أنجزت قدرا كبيرا من المطلوب في مجال تأصيل القواعد وفي ظني الحكم على الصور الحديثة يحتاج إلى تأصيل واضح للقواعد، ومن القضايا التي يجب أن تولى اهتماما بالغا في هذا الموضوع موضوع الطعام وغيره هل يقصر الأمر على الطعام أم نتوسع به ليشمل كل شيء في مجال البيوع؟ ولعلنا في هذه الدورة ننجز قدرا من المطلوب في مجال تأصيل القواعد وفيما يتعلق في هذه القضية قضية تمييز الطعام عن غيره في هذا المجال ما زالت القضية تحتاج إلى مزيد من التحديد والتوضيح والاعتماد فقط على أن النهي ورد في الأحاديث على موضوع الطعام وإهمال ما ورد برواية أخرى يقوي بعضها بعضا، يحتاج إلى مزيد من الإِيضاح في البيان وبخاصة أن مطالع بعض الأحاديث تشير إلى أنه كان هنالك تبايع في الطعام بالطريقة المخطوءة فلعل هذا هو السبب الذي جاء سياق الأحاديث فيه على النهي عن الطعام بالإِضافة إلى أهمية هذا الموضوع والتداول الواسع في ذلك الوقت بخصوص الطعام، ثم في ظني أن هنالك أحاديث أخرى لم تستقصَ في المسألة فلا في الواقع أن يتم نوع من الاستقصاء الكامل للأحاديث التي وردت في هذه المسألة لتكون بين أيدينا مخرجة من جميع طرقها ليكون حكمنا في هذه القضية واضحا مبنيا على مجمل ما ورد من أحاديث، ثم أشير في الواقع إلى الصور الحديثة، بالنسبة إلى الصور الحديثة لا بد أن ننتبه إلى طبائع العقود، هنا تفضل المجمع وأخذ قرارا واضحا بخصوص بيع المرابحة للآمر بالشراء للطبيعة الخاصة التي يمتاز بها هذا العقد نأيا به عن شبهة الربا أو الوقوع في الربا. ولذلك كان اشتراط القبض بهذا الاعتبار فلا بد في الواقع أن يلاحظ هذا الأمر بخصوص بيع المرابحة للآمر بالشراء، وقد أشرت إلى هذا عند الحديث عن موضوع التمويل العقاري كيف أننا يجب أن ننتبه بالنسبة لموضوع بيع الأراضي وفق هذا العقد إلى موضوع أن الأمر قد ينقلب إلى تمويل بحت بزيادة واضحة متفق عليها مسبقا مما يعني الوقوع في الربا فلذلك كان لي توجه في هذا المجال أن استثنيت مجموعة كبيرة من السلع من أن تقع تحت بيع المرابحة للآمر بالشراء وذلك لخللها أو لأن شرط الضمان يختل فيما يتعلق بها لأن كثيرا من السلع ومنها موضوع التيار الكهربائي – الذي أشار إليه – التيار الكهربائي هنالك جهة تصنع التيار الكهربائي وجهة توزعه فإذا جاءت الجهة الموزعة وطلبت من البنك الإٍِسلامي المؤسسة الاستثمارية الإِسلامية أن يمول لها شراء التيار الكهربائي كيف يمكن أن نتصور القبض؟ وكيف يمكن أن نتصور الضمان واحتمالات الربح والخسارة في هذه الصورة؟ وإذا لم يكن هنالك تعرض لاحتمالات الربح والخسارة بيع المرابحة للآمر بالشراء ينقلب إلى تمويل ربوي بحت يجب أن يحذر منه، وهنالك قضية تحتاج أيضا للتجلية ولعلها تأتي في تأصيل القواعد وهي موضوع الضمان قبل القبض حتى نحدد بالذات ما يتعلق بموضوع الضمان، لأنه أساس حل بعض العقود المعاصرة كبيع المرابحة للآمر بالشراء، أنا أثني على الاقتراحات التي وردت بهذا الخصوص من حيث استقصاء الصور الشائعة في هذه الأيام للتعامل وتوصيفها توصيفا جيدا ثم وضعها بين يدي الفقهاء ليبين الحكم الشرعي على ضوء ما سيؤصل من قواعد في هذا المجال. وشكرا.
الشيخ أحمد بن حمد الخليلي:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وشكرا لفضيلة الرئيس على إتاحة هذه الفرصة للكلام وإن كنت أكتفي في الكثير مما خطر في بالي لما سمعته من أصحاب الفضيلة المشائخ الذين أدلوا بملاحظاتهم وتعقيباتهم فكان فيه ما يغني عن تعقيبي خصوصا فيما يتعلق بالمعاملات التي استجدت وتحتاج إلى تصور تام، حتى يكون الحكم فيها وعليها حكما صحيحا لأن الحكم على الشيء فرع تصوره وإنما أردت أن أذكر شيئا مختصرا فيما يتعلق بقضية البيع قبل القبض هل هو خاص بالطعام أو هو شامل لغير الطعام؟ ولا ريب أن الخلاف كثير في هذه المسألة بين الفقهاء منذ القديم وإنما تراعى مقاصد الشريعة كما تراعى قواعد الشريعة في رد الجزئيات إليها، ومن مقاصد الشريعة السمحة سد أبواب الفساد، فلذلك نجد في كثير من الأحكام التي جاءت النصوص فيها ما يدل على أن قصد الشارع بها سد ذرائع الفساد وإن من أكبر الفساد الربا ولا ريب أن كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يشير إلى أن هذا النهي إنما كان لئلا يقع الناس في الربا ذلك دراهم بدراهم فقد يريد البائع في مثل هذه الحالة التوصل إلى صورة هي في الظاهر مجردة من الربا ولكن لحسم القصد هي منطوية على الربا لا يريد السلعة نفسها وإنما يريد أن يتوصل إلى الدراهم، وأنا سمعت من فضيلة الشيخ الأمين تعقيبا على فضيلة الشيخ الضرير في قوله بأنه لا يصح أن تجعل هذه الأحاديث التي جاءت ناصة في الطعام مانعا من الاستدلال بالأحاديث الأخرى، سمعت التعقيب، وفي هذا التعقيب ما معناه أنه لا ينبغي أن يقال ذلك لأن أحاديث الطعام متعددة والأحاديث الأخرى معدودة أحاديث قليلة – حديثان – وبجانب ذلك لا يخلوان من مقال، نعم هذا مسلم لو كان هناك تعارض ولكن ذكر الحكم الذي ورد للعموم في بعض الأفراد العام لا يخصص ذلك العموم، فينظر في تلكم الأحاديث أوفي ذينك الحديثين من حيث الصحة والضعف، ينظر من حيث الصحة والضعف لا من حيث جعل تلك الأحاديث التي وردت في الطعام معارضة لهذين الحديثين فترجح الأحاديث الكثيرة على الحديثين القليلين نظرا إلى أن الحكم إذا ورد في أمر خاص، وقد ورد عاما من قبل فإن ذكره لجزء من أجزاء العام أو فرد من أفراد العموم لا يخصص عمومه وإلا فقد وردت أحكام كثيرة في الكتاب وفي السنَّة عامة ثم وردت في نفس الوقت تلكم الأحكام نفسها في أفراد تلك العموم فضلا عن كون الاستدلال – كما قيل – بمفهوم اللقب وإن كان وردت رواية بلفظ "إنما"، ولكن قد يأتي هذا الحصر ولا يقصد به الحصر وإنما يقصد به التأكيد كحديث (إنما الربا في النسيئة) أو نحو ذلك. وشكرا لكم والسلام عليكم ورحمة الله.
فضيلة الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير:
ثلاثة نقاط فقط أريد أن أتحدث عنها اثنتان أمر عليهما مرورا سريعا والثالثة اسمحوا لي أن أقف عندها بعض الوقت.
* النقطة الأولى: ما علق عليه الدكتور حسن الأمين وشكرا للأخ الذي تحدث قبلي فقد أجاب عن هذه النقطة، والواقع أن الدكتور حسن قرأ بعض الكلام ولم يقرأ الباقي هي في صفحة تسعة والعبارة تؤدي تماما ما قاله الأخ الذي تحدث الآن أنا قلت: لا يصح تقديم حديث النهي عن بيع الطعام ولم أسكت على هذا وإنما قلت لأنه لا تعارض بينهما إذ لا مانع من ذكر الشيء بحكم وذكر بعضه بذلك الحكم فالعمل ممكن بكل هذه الأحاديث وهذه هي طريقة الفقهاء في الكلام على الأحاديث إذا كان التعارض لا يمكن إزالته في الحالة التي تؤدي إلى الترجيح فأنا آخذ الحديث القوي ونترك الحديث الذي دونه قوة، لكن إذا كان الجمع ممكنا فلا يطال إلى الترجيح على أنه يمكن أن الدكتور حسن أخذ كلمة (لا يصح) أخذها لوحدها وأشكره على هذا وأقول له: لو بدلناها بـ (لا يتعين تقديم حديث النهي) لعل هذا قد يرضيه.
* النقطة الثانية: أحد الإِخوة قال: لماذا حرم الضرير صورة الشراء بالتليفون؟! هذا لم يحدث بتاتا صحيح وردت كلمة تليفون في حديثي لكن ليس فيها تحريم هي هذه العبارة "والصورتان غير الصحيحتين إحداهما أن يتسلم الموظف الفاتورة المبدئية من طالب الشراء ويشتري السلعة للبنك حسب الفاتورة وقد يكون هذا الشراء بالتليفون"، وهذا جائز لم أقل إنه حرام أو مكروه، ثم يبرم عقد البيع مع طالب السلعة وهذا تقرير للواقع هذا هو ما حدث فليس في حديثي ما يدل على أن البيع بالتليفون حرام أو مكروه.
* النقطة الثالثة: التي أريد أن أقف عندها وهي ما وقف عندها طويلا الدكتور عارض الموضوع وأيده فيها الأستاذ مختار السلامي، الدكتور محيي الدين ذكر أني اعتمدت على أن هذا مبني على مفهوم المخالفة، أنا لم أذكر مفهوم المخالفة وإنما قلت (مفهوم) وقد أغناني الشيخ مختار وبين أن هذا مفهوم لقب. وقد ذكرت هذا في عبارة ابن القيم وهي عبارة واضحة وابن القيم يؤيدها وأنا مع ابن القيم في هذا، وهو أن هذا مفهوم اللقب ولا يؤخذ به، على أني لم أقف عند هذا، وذكرت أدلة أخرى، الدكتور محيي الدين ذكر أن هناك أحاديث صريحة تجوِّز البيع قبل القبض في غير الطعام وهذه نقطة مهمة لو ثبتت ودعاني إلى قراءة بحثه والواقع أني لم أقرأ هذا البحث لأنه سلم إلينا اليوم وقد اطلعت على الصفحات التي أشار إليها فلم أجد فيها دليلا: في صفحة ست وأربعين يقول:
ومن جانب آخر إن الأدلة الصحيحة تدل على جواز إجراء بعض العقود على المبيع قبل القبض منها ما رواه البخاري وغيره بسندهم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فكنت على ذكر صافٍ لعمر، فقال النبي لعمر:((بعنيه)) . قال: هو لك يا رسول الله، قال رسول الله:((بعنيه)) فباعه، فقال:((هو لك يا عبد الله بن عمر تصنع به ما شئت)) وقال حيث يدل الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشترى الجمل وأهداه قبل القبض – وهذه عبارة الدكتور محيي الدين – أنا لا أتحدث على التصرف بالهدية قبل قبض الشيء الذي اشتري وإنما أتحدث عن البيع وفرق بين البيع والهدية. البيع عقد معاوضة والهدية عقد تبرع، والعلة في المنع هي الغرر، والغرر لا يؤثر في عقود التبرعات فلا مانع من أن أهدي ما اشتريته قبل القبض بل لا مانع أن أهدي ما لا أملكه بل لا مانع من أن أهدي المعدوم، فالحديث ليس فيه رد على ما ذكرته ثم يستطرد ويأتي بأحوال اثني عشر لابن القيم يقول قد ذكر ابن القيم اثني عشر عقدا أجاز فيها الفقهاء المانعون أيضا بيع الشيء قبل قبضه، وأقول له: أنا واثق كل الثقة من أن رأي ابن القيم في بيع ما اشترى قبل القبض لا يجوز في جميع السلع والصور الاثنتا عشرة التي – أوردها الدكتور محيي الدين – ليس فيها تصرف بالبيع أولها بيع الميراث قبل قبضه هذا ليس تصرفا فيما اشتري هذا تصرف في الميراث وهذا خلاف التصرف فيما اشتري. أنا كلامي أن يبيع الإِنسان ما اشتراه لا ما ورثه، لأن ما ورثه يجوز أن يبيعه لأن هذا لا يدخل في الغرر، إذا أخرج السلطان رزق رجل هذا باع ما رزق لا ما اشترى إذا عزل سهمه فباعه ما ملكه بالوصية، الوصية وقت الميراث ما وقف عليه الموهوب للولد كل هذه ليس فيها صورة واحدة تدخل تحت بيع الإِنسان ما اشتراه قبل قبضه.
وأكتفي بهذا وأعود إلى كلام الأستاذ السلامي، الأستاذ السلامي جعل العلة هي الغرر، وأنا ذكرت علة النهي عن بيع الإِنسان ما اشتراه وقلت هي الغرر والربا. وقد تحدث بعض الإِخوة في موضوع الربا، الربا هذه علة نص عليها المالكية قالوا إن العلة هي الربا ونص عليها من قبلهم ابن عباس كما ذكر أحد الإخوة. وقد أثبته في بحثي ونص عليها أيضا أبو هريرة والصحابي الذي معه عندما ذهبا إلى مروان فهذه هي أكثر من علة: واحدة: الربا. والثانية: الغرر، والغرر هذا ما عليه جمهور الفقهاء الأئمة الثلاثة يمنعون بيع ما اشتري قبل القبض ويعللون ذلك بالغرر إنما يختلفون هم في نوع الغرر، وكله يرجع إلى عدم القدرة على التسليم، الغرر هذا ناشئ عن عدم القدرة على التسليم، وابن القيم وأظن ابن تيمية والحنفية يقولون: غرر الانفساخ، ولذلك جوزوه في غرر الانفساخ بالهلاك قبل القبض لذلك جوزوا التصرف في العقار ولم يجوزوه في المنقول، ابن القيم أضاف علة أخرى تقول العلة تأتي أن البائع الأول إذا رأى أن السلعة ارتفع سعرها يتحايل، فيؤدي هذا إلى التشاحن والعداوة وأنا ذكرت هنا أيضا علة هي من عندي علة ثالثة هي: أن بيع الإِنسان ما اشتراه قبل قبضه يؤدى إلى ارتفاع الأسعار – عند عنوان في البحث في العلة في منع البيع أي نعم – هي التي أضفتها في النهي عن بيع السلع قبل قبضها إيجاد فرص للعمل وهذا مطلوب للشارع وذلك لأن بيع السلع قبل قبضها حرمان لعدد كبير من العمال الذين يقومون بالكيل والحمل إلى آخره، فثم أن بيعها قبل قبضها يترتب عليه ارتفاع الأسعار ولا يستفيد منه سوى التجار ترتفع أسعار السلع وهي في مكانها فتعود الفائدة كلها إلى طبقة التجار، العامل لا ينال من هذا شيئا والمستهلك لا ينال من هذا شيئا وينالهما ضرر ارتفاع الأسعار وهذا معنى اقتصادي أرجو أن ينظر إليه رجال الاقتصاد، هذه كلها أسباب تدعوني إلى أن أقول: إن المنهي عنه ليس هو الطعام وحده وإنما الطعام وجميع السلع لأن العلة متحققة في الجميع. شكرا.
الدكتور محمد نبيل غنايم:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أرى أن جميع الصور التي تفضل بذكرها الأستاذ عبد اللطيف والأستاذ درويش من صور البيع المستحدثة تعتبر صورا جديدة ومعاملات لم يكن لها وجود أيام الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بعده بأزمنة عديدة حتى عصرنا الحاضر، ولذا ينبغي الأخذ فيها بالعرف ومقاصد الشريعة الإِسلامية، فإذا كان العرف يقر تلك الصور ويعتبر التقابض فيها قائما فلم لا نقرها؟ بل هي معاملات واقعة فعلا وقائمة كما تفضل الأستاذ عبد اللطيف وإذا كنا اعتبرنا الشيكات والقيد على الحساب ونحوها من الصور التي تفضل بها الدكتور نزيه في النقدين فلم لا تعتبر المستندات الأخرى كبوليصة الشحن ومستنداته ونحو ذلك مع أن النقدين من الربويات وهذه الصفقات ليست من الربويات وبخاصة أنها تسهل على المسلمين وتحقق لهم مكاسب تجارية طيبة.
وإذا كان الشيخ الصديق قد أجاز الصفقة الأولى بمستند الشحن فلم لا يجوز ذلك في الصفقات التالية؟ وجميع الصفقات أو المواصفات تخضع لنفس القانون وهو بيع الغائب على الصفة. وقد أجزنا في الصباح إجراء العقود بآلات الاتصالات الحديثة وهذه الأجهزة تنفي الغرر الذي يتخوف منه، بل إنها تحدد الأوصاف المطلوبة بصورة دقيقة وإذا كان ذلك غير مقبول في الطعام للأحاديث الواردة خوفا من الاحتكار وغلاء الأسعار ولأن الطعام من الضروريات فلم لا يجوز في الأجهزة كالسيارات ومواد البناء وخلافها مما لا يقع فيه الاحتكار والضرر؟ وخصوصا أن الدكتور إبراهيم قد سأل عن بعض الإِيصالات التي تقدمها الحكومة وهي أمور مضمونة في شراء الإسمنت والحديد وغير ذلك من مواد البناء ولذا فأنا أؤيد الشيخ المختار فيما تفضل به من إقرار مثل هذه الصور التي تخلو من الغرر. وشكرا.
الدكتور عبد الكريم اللاحم:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله.
إن بيع البضاعة في الشاحنة لا يفترق بين بيع البضاعة في المخزن إِن لم تكن البضاعة في المخزن أبعد عن الغرر من البضاعة على الشاحنة في البحر، والضرير تعرض للمشتري الأول وفصل فيه ومنع بيع المشتري الثاني ففي المشتري الأول إن كان تسَلَّم عند الشحن جاز له البيع لأنه تسلم وقبض وأما إذا لم يستلم فإنه لا يجوز له. وأما المشتري الثاني فإنه لا يجوز له لأنه لم يحصل له القبض من بعيد ولا قريب فالمسألة ليست جديدة بل هي جديدة في صورتها وتعامل الناس بها وهي قديمة في معناها لأنه لا تختلف البضاعة من مكان إلى مكان أو من شاحنة إلى مخزن، ولعل المجمع يتورع عن أن يفتح باب بيع السلع قبل قبضها وحوزتها لأنه يؤدي إلى أن تكون دراهم بدراهم بينهما سلعة في مكانها لا تتحرك ولا يستفاد منها إنما يستفيد التاجر فقط كما أشار الأستاذ الضرير ولا يستفاد من هذه البضاعة وليس المقصود بالتعامل بيع الشاحنة عدة مرات المقصود بها الدراهم فإذا كنا نستصعب في مسألة التورق بيع البضاعة التي اشتراها مريد النقود قبل أن يقبضها ونمنع ذلك فإن هذا بالمنع أولى. وشكرا.
الشيخ أحمد جمال:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
سبقني الأستاذ نبيل وسماحة الشيخ المختار فعرضا ما أردت أن أقوله كنت أريد أن أضع القاعدة لهذه البيوع فأقترح أن تبنى الإِباحة لها على قاعدة القبض الحكمي، يسري على هذه البيوع القبض الحكمي، فعلا ليس هناك قبض ولا تسليم قبض حقيقي، لكن أرجو أيضا مع الإِخوة الذين تفضلوا بالاحتياط والتحفظ أن تحصى هذه البيوع الحديثة وأن يدرس ما قد يحيط بها من شبهات. أما أنها أصبحت ضرورة واقعة غالبة للتجارة الحديثة ولا يمكن أن يستغنى عنها لا في المجتمعات غير الإِسلامية ولا في المجتمعات الإِسلامية، أرى كما سبقني الإِخوة إلى أنه ينبغي أن تباح هذه البيوع على أساس القبض الحكمي وبموجب الصكوك أو المستندات التي يتبادلها المتبايعون في هذه الصفقات لكن مع التحوط والاحتفاظ. وشكرا.
الشيخ الطيب سلامة:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الواقع أن شريعتنا الإِسلامية السمحة غنية بما فيها من أحكام صالحة لكل الأزمان وهذه الكلمة نقولها ونرددها وندافع عنها.
وقد جرى سلفنا الصالح على أن ينظر إلى الجزئيات والمستحدثات من الأمور، ولا يخلو عصر من العصور إلا وله مستحدثاته، ينظرون إلى هذه الجزئيات من خلال مقاصد الشريعة، وبذلك يحلون ما لا ضرر فيه وما تحققت به المصلحة وما فيه تيسير على الأمة، والعكس بالعكس، فنحن اليوم أمام قضايا مستحدثة لم تجدَّ من قبل، وبعضها قد فشل العمل به فكيف السبيل؟ السادة العلماء الأفاضل قد ذكَروا العديد من هذه المسائل، لا أريد أن أعود إليها إلا بتعليق بسيط على قضية الشيكات ثم أمضي إلى موضوع آخر. إن الشيكات ليست دائما وأبدا مضمونة فلا بد إذا اتخذنا قرارا في قضية الشيكات لا بد من التفصيل فيها تفصيلا يقوم على استقصاء أنواع الشيكات لأن من الناس، وعددهم كثير، من يمسكون دفاتر شيكات ولكنهم لا يملكون شر نقير في بنوكهم، ويقدمون الشيكات إما من باب التغرير بالناس وهو ما يسمي الشيك بدون رصيد، أو يقدمون هذه الشيكات على اعتبار أنهم نزهاء باعتبار أنها رهون. ولذلك يقول لمن يقدم له الشيك: لا تقبضه لأنه مؤجل وعندما يحين الأجل، أنا أعطيك النقد وترجع إليَّ الشيك. وهذا لا يمكن بحال أن يعتبر هذا الشيك قبضا. بطبيعة الحال هذا لا يقارن بالشيك المصادق عليه الذي فيه ضمان من البنك بأن مال هذا الشيك مرصود وهو على ذمة صاحبه، وبطبيعة الحال لا يقارن هذا بالشيكات الصادرة عن المؤسسات الرسمية ولا عن المراجع الحكومية، هذه تعليقة عابرة تخص الشيك وإنما أردت أن أصل إلى أننا سواء قلنا بجواز بيع السلع، دون الطعام، قبل قبضها، أو عممنا وأخذنا بالرأي الذي يعمم بأن جميع السلع ينبغي إلا تباع قبل قبضها، فنحن واقعون اليوم في قضية جرى بها العمل بين الفلاحين وهي قضية بيع الطعام قبل قبضه، وصورة هذا أن الفلاحين يشترون البذور من الدولة، الفلاح ينتج القموح ويبيعها، ولكنه عند إرادة البذر في أغلب الأحيان يطلب الفلاح بأن يغير البذور حتى تكون نتائج البذر طيبة.
والذي يتكفل بإعداد البذور الجديدة والصالحة للبذر هي الدوائر المسئولة، سواء كانت في المؤسسات التي تؤلفها الدولة أو دواوين تكونها الدولة وتتولى هذا الأمر، هذه الدواوين لا تستطيع عمليا أن تجعل البيع يدا بيد يعني الثمن والمثمن بدون نسيئة وإنما تعمد هذه الدواوين، يكون هناك ديوان وحيد ويتعامل مع تعاضديات جهوية، يبيع لها بحسب كل منطقة كميات من الحبوب تكفي الفلاحين، ثم تتولى هذه التعاضديات الاتصال أو يتولى الفلاحون الاتصال بهذه التعاضديات، ويتسابق الفلاحون للاتصال بهذه التعاضديات للحصول على منابهم من البذور حتى لا يقال لهم أن هذه البذور قد انتهت أو انتهى المعروض منها للبيع، حينئذٍ الوقت لا يتسع بالنسبة للفلاحين ولا بالنسبة للتعاضدية ولا بالنسبة للديوان في توزيع هذه الكميات فيقع البيع عن طريق وصولات، ولذلك يذهب الإِنسان للتعاضدية يدفع الثمن ويأخذ وصلا وينتظر إما التعاضدية حتى تأتيه بالكمية التي اشتراها بعد أيام، أو أنه يأخذ شاحنته ويذهب بنفسه إلى مكان الديوان وإلى مستودعات الدواوين ليتسلم بضاعته مقابل هذا الوصل الذي يعتبر وصلا موثوقا لأنه مسلم من مرجع حكومي تقريبا. حينئذٍ على مجمعنا المحترم أن ينظر في مثل هذه القضية، قضية بيع طعام ولكن لا يسلم الطعام عند بيعه من طرف التعاضدية بل يباع الطعام قبل قبضه ولا يسلم إلا بوثيقة، فهل يجوز أن نعتبر أن هذا قبض معنوي وهو داخل في القبض المعنوي هذا السؤال المطروح، أنا رأيي أنه تسهيلٌ وأنه إذا لم نقل بهذا فلا وجه بأن نمكن هؤلاء الفلاحين من القيام بأشغالهم وأعمالهم، وقد يؤول الأمر إلى خطورة وإلى أن نفوت عليهم مصالحهم، وكيف يمكن أن نعمد إلى هذا ونحن نروم ونسعى إلى الأمن الغذائي؟ وقضية أخرى في التعامل بين الفلاحين في البلاد الإِسلامية وبين جهات خارجية، إن ما نصدره من منتجات فلاحية بعد تصنيعها وبعد تعليبها هي في الواقع تباع قبل قبضها، لأن صاحب المعمل، الذي يعلب الطماطم مثلا أو أي نوع من أنواع الخضراوات التي يصدرها إلى أوروبا، هو يتعاقد بشأنها مع الخارج قبل أن يشتريها من الفلاحين ولذلك ماذا نقول لصاحب المصنع؟ نقول: انتظر حتى يبدو صلاح هذه المنتوجات لتشتريها ثم تصنعها ثم تبيعها بعد ذلك، فيقول فاتتني الأسواق، وإذا كان الأمر على مثل هذا فأنا أبقي المصنع مغلقا ولا أشتريها.
أنا أرى إذن أن هذه القضية من القضايا التي الحل فيها صعب وتخريجها قد يكون أصعب من الوجه الأول، ولكن لا بد أن نجد لها حلا حتى نعلم الناس أمر دينهم وماذا ينبغي أن يعملوا وأن يصنعوا، وكثير من أصحاب هذه المصانع يتقدمون إلى العلماء ويقولون أفيدونا يرحمكم الله، نريد أن نتبع دين الله. وعن قضية الأموال وقضية تنمية الثروة لا تغنينا من الله شيئا فنحن نحب أن نسير في طريق تنمية الثروة وطريق العمل ولكن نريد العمل الحلال وقضايا أخرى أكتفي بذكر هذا وأسأل الله تعالى أن يلهم الجميع الصواب. وشكرا.
الشيخ عمر جاه:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فضيلة الرئيس، سوف أكون مختصرا إن شاء الله، أريد أن أشير فقط ولا أريد أن أكرر نفسي لأن القضايا التي كنت أريد أن أتناولها قد تناولها غيري من المتدخلين أشير إلى ما تفضل به الأخ عبد اللطيف والأخ درويش إلى الصور المستجدة في ساحة التجارة الدولية وأريد أن أنبه أيضا وأنبه نفسي أولا أن العالم الإِسلامي جزء من العالم والمسلمون يتعاملون مع غيرهم، فبالنسبة لهذه الصور المستجدة أنا أرى على الرغم من أن هناك محاولة للتفريق بين المواد الغذائية والمواد غير الغذائية في هذا التعامل إلى أن طبيعة التجارة الدولية في الوقت الحاضر والنظم المتبعة والأشياء المعروفة لدينا جميعا تشير إلى أن التاجر المسلم الآن في كثير من البلدان في صور أنا أعرفها معرفة شخصية أنه لا يمكن أن يتعامل إذا أصررنا على أن يتم القبض قبل البيع، ذلك لأن التاجر الذي يشتري آلاف الكيلو مترات آلافا من الأطنان هذا لا يقبض قبل أن يدفع الثمن، هذا تاجر يدفع عن طريق البنك ويبيع قبل أن تصل إليه البضائع والذي يشتري يبيع قبل أن يقبض هو أيضا لأن طبيعة الأمور تقتضي أنه إذا كان سيظل في السوق أن يتعامل بهذه الكيفية وأعتقد أن مهمتنا هنا هي تسهيل الأمور، ولذلك أمثل إلى ما تفضل به الشيخ السلامي على أنه إذا لم يكن هناك ضرر واضح ولا غرر واضح ولا فساد ولا خصومة لأن هذه العملية بدأت منذ سنوات عديدة فم نرّ أو لم نعرف أن هناك خصومة أو أن هناك غررا في هذا التعامل ذلك لأن التاجر الذي يشتري بضمان من البنك يجد ضمانا من التاجر الذي يشتري منه أيضا أن يدفع إليه المال ويقبض منه فاتورة القبض ولو كان هناك مشاكل تقتضي إصدار فتوى ضد هذه لظهرت هذه المشاكل وأعتقد أن من واجبنا أي الواجب علينا أن نسهل للمسلمين الذين يعيشون على هذا ويحتاجون إليه والذين لا يجدون بديلا غير هذا البديل إننا نتوجه إلى استخراج فقهي نحافظ به على روح الشريعة مع المحافظة على مصالح هؤلاء الناس ولذلك أؤيد تأيدا كاملا ما ذهب إليه فضيلة الشيخ السلامي فيما يخص هذا الأمر. وشكرا.
الشيخ علي السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم:
سأتشجع وأحمل النفس عل ى ما تكره واختلف مع أخي فضيلة الشيخ السلامي القضية خطيرة للغاية إذا قلنا: إنه من بيع الغائب على الصفة فمعلوم أن المبيع في ضمان البائع إلى أن يسلم للمشتري وأن المشتري له خيار الرؤية وأن أي عيوب يتحملها البائع. هنا البيع الذي يتكرر في البحر من الذي يتحمل هذا؟ من الناحية الواقعية عندما أردنا أن نكتب عقدا لهذه البيوع اشترطنا في العقد أن البنك لا يقوم بالبيع إلا بعد وصول السلعة إلى مكان التسليم، حدث الآتي: بعض الأشياء الواقعية ليرى فضيلة الشيخ السلامي كيف أن الأمر فيه ضرر وغرر وخلافه وأشياء كثيرة، الباخرة تحمل السلعة وفي ميناء معين تم الحجز عليها لخلاف بالنسبة للجهة المعينة ومالك البخارة، ونتج عن هذا أنْ تأخرت السلعة وخسر البنك فعلا خسارات معينة إلى أن وصلت السلعة، من يتحمل مثل هذه الخسارة لو أن اليبع تم عدة مرات في داخل البحر؟
الشيخ مختار السلامي:
الأول، بالطبع.
السالوس:
من الأول؟ الأول الذي اشترى كيف باع ما لا يضمن؟! وكيف يربح ما لا يضمن؟! السلعة التي وصلت وصلت معيبة العيب الظاهر والعيب الخفي من يتحمل هذا، السلعة إذا كانت مخالفة للمواصفات من يتحمل هذا؟ ولذلك القضية خطيرة للغاية وأضم صوتي لصوت الإِخوة الذين قالوا بأن الصور المعاصرة تجمع وتبحث كاملة في ندوة أخرى، الجزء الأول استوفاه الباحثون الإِخوة الكرام جزاهم الله خيرا وهي المسألة الفقهية القديمة، أما بالنسبة للجزء الثاني الصور المعاصرة تحصر وتجمع ثم تكتب فيها أبحاث وتلحق هذه الصور بأصلها وتناقش مناقشة علمية مستفيضة بدلا من أن نتعجل ونصدر قرارا في هذا لأن القضية أرى أنها من أخطر ما يمكن بيع الأشياء في البحر بهذه الصورة. وشكرا.
الشيخ وهبه الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم:
المعروف أن لدى فقهائنا أربعة آراء في هذا الموضوع، فرأي الشافعية أنه لا يجوز بيع الشيء قبل قبضه إطلاقا لوجود الغرر ورأي أبي حنيفة وأبي يوسف أنه يجوز بيع العقار قبل القبض لانتفاء غرر الانفساخ فيه ولا يجوز ما عدا ذلك، والمالكية لا يجيزون بيع المكيل والموزون قبل القبض، ويجوز بيع ما عدا ذلك فهم يجيزون بيع ما عدا الطعام قبل القبض ولا يجيزون بيع الطعام قبل قبضه هذا ما هو المعروف لدى فقهائنا، أريد التذكير فقط والكل يعرف ذلك، لكني شدِهْت في أن المناقشات تدور الآن حول اتجاهين: أحدهما في أقصى اليمين والآخر في أقصى اليسار، اتجاه يمنع بيع الشيء قبل قبضه احتراما للأحاديث الواردة الصحيحة في هذا الموضوع وواضح أن فقهنا كله ينبني على هذا الاتجاه، أما الاتجاه الآخر وهو جواز بيع الأشياء كلها قبل القبض ما عدا الطعام يعني – هذا رأي المالكية الحقيقة – هذا يفتح منفذا خطيرا يؤدي إلى إقرار كل ما تجيزه القوانين الحديثة من المضاربات الكثيرة في البورصات وفي الأسواق المالية ويؤدي ذلك إلى أننا لا نختلف أي اختلاف عن هذه الأعراف السائدة فلا يجوز أن يكون ضغط المعاملات الحديثة مغيرا لأحكام الشريعة فأرجو التوسط والتمهل في الأمر وعدم التعجل أو إلقاء النظرة العاجلة في هذا الموضوع لأنه يؤدي إلى مخاطر وهو ينسف كثيرا من القواعد التي يقوم عليها فقهنا.
الشيخ سعود مسعد الثبيتي:
بسم الله الرحمن الرحيم:
أريد أن أتكلم عن موضوع الشروط التي أشار إليها بعض الأساتذة الأجلاء في الشيك أو التساؤلات التي طرحها بعض الأساتذة على موضوع قبض الشيك وكون اعتباره قبضا لمحتواه، فهم قد اشترطوا ومنهم الدكتور علي السالوس في كتابه المعروف " استبدال النقود " أن يكون الشيك مؤرخا للسحب في اليوم نفسه وأن يكون محدد المبلغ وأن يكون له رصيد تام، فهذه قد أجيب عليها في الأبحاث ونقلناها من بحث الدكتور السالوس. أما الاستدلال لكون التخلية قبضا حكميا يكتفي به عن القبض الحقيقي ففيه عدة أدلة في الحقيقة ذكرتها وذكرها الدكتور القره داغي.
منها ما ورد عن ابن عمر – رضي اللهم عنهما – قال: كنت أبيع الإِبل في القيع بالدنانير وأخد مكانها الورق وأبيع بالورق وآخذ الدنانير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال:((لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء)) ، وفي هذا دليل على جواز الاستبدال عن الثمن الذي في الذمة وهو تصرف فيه قبل قبضه قبضا حقيقيا والثمن أحد العوضين.
الدليل الثاني ما ذكره الدكتور كذلك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اشترى من جابر بن عبد الله جمله ثم نقده ثمنه ووهبه له وهذا تصرف فيه قبل قبضه.
والدليل الثالث كذلك عن ابن عمر وهو ما ورد في البكر، وقد ذكر، ثم ابن القيم رحمه الله له كلام جيد قيم استقيته من كتابه إعلام الموقعين، يقول رحمه الله: الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فإذا نظرنا إلى معاملات الناس اليوم في هذا العصر وترابطها مع معاملات أخرى قلنا تفريعا على قول الحنفية والشافعية في القول الذي نقله حرملة وقول عند الحنابلة وقول عند المالكية أن الاكتفاء بالقبض الحكمي جائز ولا ضير في ذلك إن شاء الله وهو تفريع على قول قوي له أدلته التي ذكرناها. أما ما ذكرناه في البحوث من تفريع للصور المستجدة على القبض الحكمي فينبغي تقييد هذا التفريع بأن المقصود به هو البيوع العاجلة الحالة، أما البيوع الآجلة كالسلم والاستثناء فليست داخلة في هذه الصور التي ذكرناها كذلك ما من تداخلات من بعض الأساتذة الكرام كالدكتور عبد الكريم وغيره من الأساتذة الكرام الذين أثاروا تساؤلات كثيرة عن أعمال البورصات وما يرد عليها فأعمال البورصات من المعلوم أن غالب الصور فيها بيع ما لم يملك وبيع ما لم يملك غير داخل في هذه البحوث التي قدمناها حيث إن البحوث محصورة في قبض ما ملكه الإِنسان وباعه وأعطى ورقة الشحن أو ورقة الإِبداع في مخزن من المخازن وهذا تفريع على القبض الحكمي الذي قال به جمهور من الفقهاء قديما وحديثا وقد ذكرت هذا في البحث نتيجة لبحث قدم في جامعة أم القرى رسالة جامعية بذل فيها صاحبها أكثر من أربع سنين وقد استخلصت منه كلاما موجزا بسيطا في هذه البحث، فقلت في قبض أوراق البضائع، الأوراق الواردة على البضائع كوثيقة الشحن (البوليصة) أو سند إيداع متاع أو بضاعة في مخزن عام ليست أوراقا تجارية لأنها لا تمثل مبلغا معينا من النقود يسهل الحصول عليه، ومع ذلك فإنه يتم تداولها بطريقة التظهير، ويعتبر تظهيرها بمثابة قبض للأعيان التي هي وثائق بها، فهذا خلاصة لرسالة بذل فيها صاحبها خمس سنين في جامعة أم القرى وهي مطبوعة وموجودة ونحيل الأساتذة الذين يريدون أن يتوثقوا من هذا إلى هذه الرسالة وهي للعقود الشرعية الحاكمة. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وشكرا.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذه المناقشات مضافة إلى البحوث خلاصتها مقيدة لدى المقرر فضيلة الشيخ عبد الستار. وفي الواقع أن الذي من أجله رشح البحث وهو الصور المستجدة، وإن كان بعضها أخذ حظه ونصيبه في البحوث إلا أنه لم يأخذ حظه كاملا في المناقشة، لأن التركيز صار على التقعيد الأصل وهو اعتبار القبض في الطعام فقط أو تعميمه وتوظيف العرف، وهل توظيف العرف هو في القبض أو في صفة القبض؟ هذه أشير إليها وهي إشارة جيدة في عدد من كلام أهل العلم الذين جرى نقل كلامهم لكن ما رأيت وما قيدت في المناقشات البحث في توظيف العرف هل هو في القبض أو في صفة القبض؟ على كل قد ترون تأليف لجنة تجمع وجهات نظر التداول في هذا الموضوع وإن شاء الله تعالى الذي يصلون إليه سيعرض في الجلسة الختامية، وتتألف اللجنة من:
العارض الشيخ محيي الدين، والمقرر الشيخ العاني والشيخ الضرير والشيخ سعود والشيخ وهبه والشيخ نزيه والشيخ الجناحي وبهذا ترفع الجلسة.
وصلَّى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
* * * *
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (55/4/6)
بشأن
القبض: صوره وبخاصة المستجدة منها وأحكامها
إن مجلس مجمع الفقه الإِسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 إلى 23 شعبان 1410 هـ الموافق 14 – 20 آذار (مارس) 1990م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "القبض: صوره وبخاصة المستجدة منها وأحكامها".
واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
قرر:
أولاً: قبض الأموال كما يكون حسيًا في حالة الأخذ باليد، أو الكيل أو الوزن في الطعام، أو النقل والتحويل إلى حوزة القابض، يتحقق اعتبارًا وحكمًا بالتخلية مع التمكين من التصرف ولو لم يوجد القبض حسًا. وتختلف كيفية قبض الأشياء بحسب حالها واختلاف الأعراف فيما يكون قبضًا لها.
ثانيًا: إن من صور القبض الحكمي المعتبرة شرعًا وعرفًا.
1-
القيد المصرفي لمبلغ من المال في حساب العميل في الحالات التالية:
(أ) إذا أودع في حساب العميل مبلغ من المال مباشرة أو بحوالة مصرفية.
(ب) إذا عقد العميل عقد صرف ناجز بينه وبين المصرف في حالة شراء عملة بعملة أخرى لحساب العميل.
(ج) إذا اقتطع المصرف – بأمر العميل – مبلغًا من حساب له إلى الحساب آخر بعملة أخرى، في المصرف نفسه أو غيره، لصالح العميل أو لمستفيد آخر، وعلى المصارف مراعاة قواعد عقد الصرف في الشريعة الإِسلامية.
ويغتفر تأخير القيد المصرفي بالصورة التي يتمكن المستفيد بها من التسلم الفعلي، للمدد المتعارف عليها في أسواق التعامل. على أنه لا يجوز للمستفيد أن يتصرف في العملة خلال المدة المغتفرة إلَاّ بعد أن يحصل أثر القيد المصرفي بإمكان التسلم الفعلي.
2-
تسلم الشيك إذا كان له رصيد قابل للسحب بالعملة المكتوب بها عند استيفائه وحجزه المصرف.
بحث
فضيلة الدكتور محمّد عبد اللطيف صالح الفرفور
عضو مجمَع الفقه الإسلامي الدّولي
بسم الله الرحمن الرحيم
مدخل إلى البحث
اتحاد المجلس عند الفقهاء
المراد باتحاد المجلس اتحاد الزمن أو الوقت الذي يكون فيه المتعاقدان مشتغلين بالتعاقد، وليس المراد من اتحاد المجلس كون المتعاقدين في مكان واحد، فمجلس العقد هو الحال التي يكون فيها المتعاقدان مقبلين على التفاوض في العقد، وعن هذا قال الفقهاء:(إن المجلس يجمع المتفرقات) .
وعلى هذا يكون مجلس العقد في المكالمة الهاتفية مثلا هو زمن الاتصال ما دام الكلام في شأن العقد، فإذا انتقل المتحدثان إلى حديث آخر انتهى المجلس، ومجلس التعاقد بالمراسلة أو بالمكاتبة هو مجلس تبليغ الرسالة أو وصول الخطاب، ويجب أن يكون القبول في المجلس الذي وصل فيه الرسول أو الخطاب، فإن تأخر القبول إلى مجلسٍ ثانٍ لم ينعقد العقد، فمجلس التعاقد بين حاضرين هو محل صدور الإيجاب، ومجلس التعاقد بين غائبين هو محل وصول الكتاب أو تبليغ الرسالة أو وصول السفير أو الموفد (1)
المقصد الأول
يمكن حصر الصور لاستخدام الآلات الحديثة للتعاقد غير المراسلة والمكاتبة والمهاتفة: (1) بالتلغراف (البرق) السلكي واللاسلكي، (2) بالتلكس، (3) بـ (فاكسملي) ، (4) بالراديو، (5) بالتلفزيون، (6) بالقمر الصناعي، (7) وبالأنترفون أو ما يقوم مقامه.
وقد تحدث بعض الفقهاء المعاصرين (2) .عن الاتصال بالبرق وأحكام التعاقد به (وهو التلغراف) وتوصلوا إلى أنه كالمكاتبة تماما لكنه أسرع، لكن لا يمتنع الخطأ لذا وجب التثبت بوسائل التثبت الموجودة حاليا كالهاتف وما شابه ذلك، ومثل البرق والتلكسي، لأنه برق خاص بصاحبه من كلا الطرفين.
وأما الفاكسميلي فهو أسرع من التلكس ويأخذ حكمها أيضا.
وأما الراديو والتلفاز والقمر الصناعي فهذه الوسائل كلها فيما يبدو لي لها حكم البرق مع وجوب التثبت من شخصية المتكلم حتى لا يحصل تزييف أو جهالة.
هذا، وستأتي أيام قريبة أم بعيدة تصبح هذه الآلات الحديثة هي محور التعاقد ووسائله الأولى ولا مانع شرعا من ذلك إذا حصل التثبت بوسائله المشروعة.
هذا ما بدا لي والله تعالى أعلم.
***
(1) انظر المدخل الفقهي للأستاذ الجليل مصطفى الزرقا: 171، والبدائع: 5/137، والفقه الإسلامي وأدلته: 4/109 و 365 و503.
(2)
هو الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية سابقا في رسالته أحكام التلغراف من مجموع رسائل له، رحمه الله.
المقصد الثاني
التكييف الفقهي للموضوع وضوابطه
(أ) التكييف الفقهي للموضوع وضوابطه:
كل الآلات الحديثة الموصلة للتعاقد لا تعدو أن تكون في حالتين اثنتين:
1-
الحالة الأولى: إما أن تكون مساوية للهاتف والبرق بالسرعة في الاتصال وقوته ووضوحه.
2-
الحالة الثانية: أن تكون أشد من الهاتف والبرق في سرعة الاتصال وقوته ووضوحه.
وقد حكم الفقهاء المعاصرون كالشيخ محمد بخيت المطيعي رحمه الله في رسالته آنفة الذكر بالنسبة للبرق (التلغراف) بصحة التعاقد والتصرفات المالية كلها، ومثل ذلك يقال في الهاتف أيضا وقد نص عليه غير واحد من المعاصرين كما مرّ.
فإذا كانت هذه الآلات الجديدة مثل البرق والهاتف مساوية لها في سرعة الاتصال وقوته ووضوحه كالأنترفون وما شابه، جاز التعاقد وكان ذلك قياسا أو أخذا بمبدأ دلالة النص المساوي (معنى الخطاب) عند أصوليي الحنفية أو ما يسميه الجمهور من أصوليي المتكلمين (مفهوم الموافقة المساوي) ، وإذا كانت هذه الآلات الجديدة أكثر من البرق والهاتف سرعة ووضوحا وقوة حكمنا بجواز التعاقد وسائر التصرفات المالية أخذا بمبدأ دلالة النص الأولوي (فحوى الخطاب) عند أصوليي الحنفية أو (مفهوم الموافقة الأولوي) عند الجمهور من المتكلمين أي صح ذلك من باب أولى. وذلك كالتلكس والفاكسميلي والأقمار الصناعية وما شابه ذلك.
***
(ب) ضوابط الموضوع:
يضبط الحكم بالجواز في هذه المسألة ضوابط ثلاثة استخلصتها بالاستقراء من مدونات الفقهاء.
* الضابط الأول: اشتراط وجود التثبت من كل من المتعاقدين بشخصية صاحبه المتعاقد الثاني وصحة ما تنسب إليه الآلة الحديثة من أقوال وتصرفات، كي لا يدخل اللبس والوهم والتزييف من أحد الطرفين أومن ثالث، ونترك لكل من المتعاقدين أن يتثبت هو من ذلك كله بالطرق التي يطمئن بها قلبه، إلى صحة القول والقائل.
* الضابط الثاني: في حالة وصول الإيجاب ومضي فترة زمنية عادة قبل وصول القبول في بعض آلات الاتصال الحديثة، يشترط أن لا يرجع الموجب عن إيجابه أمام شهود، وإلا بطل الإيجاب وصار القبول الآتي بعد ذلك إيجابا يحتاج إلى قبول، وذلك على قول جمهور الفقهاء، خلافا للمالكية الذين يشترطون لصحة الرجوع عن الإيجاب مضي مدة على وصوله إلى المتعاقد الثاني تكون فرصة له يقرر العرف مداها.
واشترط الجمهور لصحة الرجوع من الموجب شرطين: (1) أن يكون الرجوع أمام شهودِ شُهودٍ، (2) وأن يكون قبل قبول المتعاقد الآخر، ووصول الرسالة أو الخطاب.
فمجلس العقد بين الغائبين هو محل وصول الكتاب أو تبليغ الرسالة أو المحادثة الهاتفية أو ما قام مقامهما من الأدوات الحديثة للاتصال
…
(1) ، فإن تم القبول بعد هذا المجلس لم ينعقد العقد.
الضابط الثالث: أن لا يفهم من الإيجاب (وهو الكلام الأول من المتعاقد الأول) معنى السوم أو الترسمل أو ما شابه ذلك من المعاني التي يرفضها مقتضى العقد، وتحصل كثيرا بين التجار دهاء منهم فيبعثون برقية أو تلكسا أو ما شابه ذلك لا يقصدون من وراء ذلك التعاقد بل معنى تجاريا آخر كمعرفة السعر مثلا أو إظهار نَفَاق البضاعة أو التحدي، ومثل هذه الأمور تكون غالبا في الأدوات الحديثة وعن طريقها لا مشافهة، فحينئذٍ يكون الكلام كله ليس بتعاقد بل يكون ملغى.
خاتمَة
أضع هنا القلم بعد بذل الجهد في تلمس حكم الشريعة في هذه الواقعة، لا أدعي في ذلك الصواب كل الصواب، بل هو محض اجتهاد فيما لا نص فيه ولا حتى قول فقيه، وما كان كذلك فهو اجتهاد جديد، وهو قابل للخطأ والصواب، فإن وفقت للصواب فهو المرجو، وإن لم أوفق فيه للصواب فحسبي منه أجر واحد، وصدق الإمام أبو حنيفة إمام الأئمة الفقهاء حيث يقول (علمنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن منه كان أحق) وفي رواية ثانية (قبلناه) . أما حكم الله في الحادثة فما اتفقت عليه أقوال فقهاء العصر، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
الدكتور محمّد عبد اللطيف صالح الفرفور
(1) انظر: الفقه الإسلامي وأدلته: 4/108 و364 و 503.
بحث
فضيلة حجّة الإسلام محمّد علي التسخيري
عضو مجمع الفقه الإسلامي الدّولي
بسم الله الرحمن الرحيم
حكم إجراء العقد بوسائل الاتصال الحديثة:
والمقصود بوسائل الاتصال الحديثة: الهاتف والبرقيات واللاسلكي والتلكس والفاكسميلي وغيرها مما يمكن أن يخترع في المستقبل والجامع بينها أنه ليس هنا محل مكاني واحد يجمع بين الموجب والقابل أو بين طرفي العقد.
ومن هنا يمكن أن يقع بحث حول حكم إجراء العقود بهذه الوسائل.
تحرير محل النزاع:
والظاهر أن النقاط التي تتطلب البحث هي أمور:
أولًا: هل يعتبر في العقد أن يجري بصيغة معينة أو مطلق الصيغة اللفظية أو يكفي فيه ما ينوب عن الصيغة اللفظية من إبراز الإرادة من قبل المتعاقدين.
وهنا يمكن أن تنوب عن الصيغة الإشارة، والكناية اللفظية، والصيغة المكتوبة والعمل نفسه.
ثانيًا: هل تعتبر الموالاة الدقيقة بين الإيجاب والقبول فيشكل الأمر في الكتابة والفاكسميلي والبرقيات وغيرها؟
ثالثًا: البحث عن مصير خيار المجلس.
رابعًا: من حيث إمكان الرجوع وعدمه بعد صدور القبول وعدم وصوله.
وليس علينا هنا إلا التعرض بشكل موجز لكل هذه النقاط مع الإشارة للرأي المختار ليتضح الموقف في النهاية.
* النقطة الأولى: اعتبار الصيغة المباشرة أو كفاية ما ينوب عنها:
يطرح الفقهاء عادة هذا البحث في موضوع المعاطاة إذ يقسمون العقود إلى قسمين: عقد بالصيغة وآخر بالمعاطاة ويتركز فيها البحث عن مدى نيابة الفعل عن اللفظ في تحقيق مقتضيات العقد.
في حين أن البحث يجب أن يتم على ثلاثة مستويات إذا أريد له أن يكون مستوفى أي أن يتخلل البحثين بحث حول مدى إمكان الاستعاضة عن اللفظ الصريح بالإشارة والكناية والكتابة.
فهو باب مستقل وإن أمكن القول إنه إذا ثبت إمكان الاستعاضة عن اللفظ بالعمل فإن البحث الثاني سيتوضح الموقف فيه، وعلى أي حال فقد ذكر الشيخ الأنصاري في كتاب المكاسب (إن اعتبار اللفظ في البيع بل في جميع العقود مما نقل عليه الإجماع وتحقق فيه الشهرة العظيمة مع الإشارة إليه في بعض النصوص لكن هذا يختص بصورة القدرة إما مع العجز عنه كالأخرس فمع عدم القدرة على التوكيل لا إشكال ولا خلاف في عدم اعتبار اللفظ وقيام الإشارة مقامه، وكذا مع القدرة على التوكيل لا لأصالة عدم وجوبه (أي التوكيل) – كما قيل- لأن الوجوب بمعنى الاشتراط كما فيما نحن فيه هو الأصل، بل الفحوى ما ورد من عدم اعتبار اللفظ في طلاق الأخرس فإن حمله على صورة عجزه عن التوكيل حمل المطلق على الفرد النادر مع أن الظاهر عدم الخلاف في عدم الوجوب
…
والظاهر أيضًا كفاية الكتابة مع العجز عن الإشارة لفحوى ما ورد من النص على جوازها في الطلاق مع أن الظاهر عدم الخلاف فيه، وأما مع القدرة على الإشارة فقد رجح بعضٌ الإشارة ولعله لأنها أصرح في الإنشاء من الكتابة وفي بعض روايات الطلاق ما يدل على العكس وإليه ذهب الحلي – رحمه الله – هناك) (1) .
ومن الواضح في هذا النص أن اللجوء للإشارة ثم الكتابة إنما يكون عند العجز عن اللفظ.
ولكن إذا أمكننا أن نصحح عقد المعاطاة ولزومه أمكن القول بأن تصحيح العقد بالكتابة أولى من ذلك في النتيجة.
فما هو الموقف من المعاطاة؟
وقد استدل على صحتها بأدلة كثيرة:
منها: السيرة العقلائية الممتدة إلى عصر المعصوم بل هي تمتد إلى أبعد من البيع بالصيغة، وهي سيرة ممضاة شرعًا ولم يثبت أي نهي عنها يتناسب مع سعتها وامتدادها.
وهي أيضًا من سيرة المتشرعة فضلًا عن السيرة العقلائية.
ومنها: الاستدلال بإطلاق قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [سورة البقرة: الآية 275] . على حلية كل بيع عرفي، وقد أشكل على الاستدلال بهذا المقطع القرآني أنه (لا يصح التمسك بإطلاق الآية لاحتمال أن يكون الحكم المجعول سابقًا بنحو خاص وكأن القائل بالتسوية – بين البيع والربا- ادَّعى التسوية بين المجعولين فلا يظهر حال المجعول هل هو مطلق أو مقيد، أو يقال إن الآية ليست في مقام بيان حلية البيع وإنما هي في مقام تحريم الربا (2) فليس لها إطلاق من تلك الجهة) .
(1) المكاسب للشيخ الأنصاري: ص94 من الطبعة الخامسة الكاملة غير المجزأة.
(2)
كتاب البيع للإمام الخميني: 1/61.
وهناك وجوه لتصحيح الإطلاق تذكر في الكتب المفصلة.
ومنها: الاستدلال بقوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} بتقريب حاصله أنه (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالوسائل الباطلة كالقمار والسرقة والخيانة إلا أن يكون ذلك بأسلوب التجارة وهذا يعني صحتها وتحقق الأثر العقلائي لدى الشارع بهذه الوسيلة) .
فالاستثناء منقطع وهو مطلق يقول الإمام: (وبالجملة يظهر منها أن الأكل التجارة مرخص فيه، لكونها حقًا ثابتًا وطريقًا مستقيمًا لتحصيل الأموال ويؤكد إطلاقها مقابلتها بالباطل الذي يشعر بالعلية، بل يدل عليها لدى العرف فيفهم من المقابلة أن التجارة عن تراض – لكونها حقا – سبب للملكية وموجبة لجواز الأكل والتصرف، ومن هنا يمكن التوسعة في السبب الحق لكل ما هو سبب حق لدى العقلاء لتحصيل المال
…
والظاهر عدم اختصاص التجارة بالبيع بل تشمل سائر المكاسب) .
هذا إذا قصدنا من الباطل، الباطل لدى العرف وهو الظاهر، أما إذا أريد الباطل لدى الشرع – كما هو المنقول عن الشيخ الأردبيلي – لم يمكن الاستدلال بالإطلاق لإثبات صحة معاملة عقلائية لأنه من الشبهة الموضوعية إذ لا نعلم أهي من الباطل الشرعي، أم لا؟
ومنها: الاستدلال بقوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} بعد عدم تفسير العقود بالعهود المشددة؛ لأنه لا دليل على ذلك وإنما تدل على مطلق الربط الاعتباري.
وعدم جعل (أل) عهدية للعقود المذكورة سابقًا في الشريعة.
وقد أشكل على الاستدلال بإطلاق الآية على أنه يلزم من ذلك تخصيص الأكثر لخروج المعاملات الجائزة وهي أكثر من اللازمة بل وخروج العقود الخيارية فيخرج بخيار المجلس مطلق البيوع.
إلا أنه قيل في قبال ذلك إنه لا استهجان في تخصيص الأكثر إذا كان الباقي كثيرا بالإضافة إلى أن أفراد العقود اللازمة كثيرة جدًا وتزيد على العقود الجائزة أما الخيارات فهي لا تشكل استثناء بل العمل بالخيار وفاء للعقد في كثير من الموارد الخيارية.
ولو جعلنا الآية إرشادًا لصحة العقود لا إثباتًا للوجوب التكليفي أو للزوم الوضعي فلا إشكال.
ومنها: الاستدلال بما روي عنه صلى الله عليه وسلم من أن ((الناس مسلطون على أموالهم)) (1) بتقريب أن الظاهر هو إثبات السلطنة لهم على الشكل المتعارف بينهم والمعاطاة متداولة فهي شرعية.
ويؤكد الإمام الخميني أن المعاملات إنما تنفذ بعد وجود أمرين:
الأول: السلطنة على المال.
الثاني: إيقاع المعاملة على طبق المقررات العقلائية، والرواية إنما تشير للأمر الأول فقط (2) .
على أنه قيل إن الرواية مسوقة لجعل السلطنة في مقابل الحجر وحينئذ لا يتم الاستدلال بها.
وهناك روايات أخرى استدل بها على صحة المعاطاة لا نرى مجالًا للتعرض لها من قبيل رواية (المؤمنون عند شروطهم) .
هذا وقد استدل على لزوم المعاطاة أيضًا بأحاديث (التسليط) وحديث ((لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيب نفسه)) .
كما استند البعض إلى آية التجارة وآية الوفاء وكذلك استندوا إلى أخبار خيار المجلس وقد دلت على اللزوم عند انفضاضه والمعاطاة بيع، والبيعان بالخيار ما لم يفترقا، وقد ذكر الإمام في نهاية بحثه ما يلي (وكيف كان فلا إشكال في أن الأصل لزوم عقد المعاطاة حسب القواعد)(3) .
هذا وقد أنكر البعض من العلماء أن تكون المعاطاة عقدًا لازمًا واستدل لذلك بأمور:
* الأول: الأخبار، ومنها رواية خالد بن الحجاج قال: قلت لأبي عبد الله (ع) : الرجل يجيء فيقول: اشتر هذا الثوب وأربحك كذا وكذا، قال: أليس إن شاء ترك وإن شاء أخذ؟ قلت: بلى. قال: لا بأس به (إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام)(4) .
والظاهر أن المراد ليس حصر التحليل بالكلام وإنما المراد هو أنه ما دام نوع الكلام يؤدي لبقاء الاختيار في الأمر بالشراء فلا مانع فالمعيار نوع الكلام المطروح.
(1) بحار الأنوار: 2/272، الطبعة الحديثة.
(2)
البيع1/1.
(3)
البيع: 1/145.
(4)
الوسائل – الباب الثامن من أبواب أحكام العقود – الحديث (13) .
ومنها روايات وردت في بيع المصحف، كرواية سماعة عن أبي عبد الله الصادق (ع) :
(سألته عن بيع المصاحف وشرائها قال: لا تشتر عن كتاب الله، ولكن اشتر الحديد والروق والدفتين وقل أشتري منك هذا بكذا وبكذا)(1) .
ولكن الاستدلال بهذا واضح البطلان، فليس النظر إلى ما نحن فيه وإنما يراد تعليم كيفية تصحيح البيع.
* الثاني: ما نقل من الإجماعات أو الشهرة، إلا أنها إجماعات منقولة ومعللة لا يمكن الاعتماد عليها.
ونخلص من كل هذا إلى أن المعاطاة عقد شرعي لازم وأن الفعل يقوم مقام اللفظ في المعاملة اللازمة.
ومن هنا ننتقل إلى موضوع قيام الإشارة والكتابة مقام الفعل ونحن نعتقد أن الأولوية هنا حاصلة.
ولكن قد يقال إن الذي كان متعارفًا هو البيع بالصيغة والبيع المعاطاتي. أما البيع بالكتابة فلم يكن متعارفا فليست هي أسبابًا عقلائية متعارفة.
أو يقال إنه فرد نادر تنصرف عنه الأدلة.
إلا أن الواقع هو أن الكتابة وإن كانت آنذاك فردًا نادرًا لكنها عمل عقلائي مشمول بلا ريب للأدلة.
بل يمكن القول إنها آكد في العقلائية من العمل بلا ريب إذ العمل مجمل المضمون في حين يمكن التمسك بإطلاق ما كتب بلا ريب، وقد يمكن أن يقال إن الكتابة أشد توثيقًا من اللفظ نفسه.
ومن هنا فلا نشك في صحة العقد بالكتابة أو التلغراف وأمثال ذلك، ويحسن هنا أن نشير إلى كلام المحقق والشهيد الثاني.
* النقطة الثانية: في اعتبار الموالاة بين الإيجاب والقبول:
ذكر الكثير من العلماء اعتبار الموالاة بين الإيجاب والقبول وعدم الفصل بينهما بفاصل زمني أو بأجنبي.
قال الشيخ الأنصاري في مكاسبه: (ومن جملة شروط العقد الموالاة بين إيجابه وقبوله ذكره الشيخ – يعني الطوسي- في المبسوط في باب الخلع ثم العلامة والشهيدان والمحقق الثاني والشيخ المقداد: قال الشهيد (الأول) في القواعد: الموالاة معتبرة في العقد ونحوه وهي مأخوذة من اعتبار الاتصال بين المستثنى والمستثنى منه
…
وأضاف القول: حاصله أن الأمر المتدرج شيئًا فشيئًا إذا كان له صورة اتصالية في العرف فلا بد في ترتب الحكم المعلق عليه في الشرع من اعتبار صورته الاتصالية فالعقد المركب من الإيجاب والقبول القائم بنفس المتعاقدين بمنزلة كلام واحد مرتبط بعضه ببعض يقدح تخلل الفصل بين كل من الإيجاب والقبول بما لا يجوز) (2) .
(1) الوسائل- الباب الحادي والثلاثين من أبواب ما يكتسب به – الحديث (2) ج1.
(2)
المكاسب: ص98، وراجع القواعد (للشهيد الأول) – القاعدة (73) .
وحاصله أن مناط الموالاة واعتبارها أن العقدية لا تتحقق إلا إذا تحققت صورتها الاتصالية العرفية وإلا لم يتحقق عقد وارتباط، ثم رد عليه بأن مناط الحكم الشرعي بالصحة إن كان هو العقدية – كما يلاحظ من المنقطع القرآني الشريف {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ومن تعبيرات العلماء التي تعتبر العقدية مقومة للزوم – فهذا صحيح، أما لو كان المناط هو آية التجارة والبيع فلا يضره عدم صدق العقدية.
وربما يطرح البعض دليلًا عقليًا على اعتبار الموالاة باعتبار أن العقود تعني خلعًا ولبسًا ولا يمكن تصور الفاصل بينهما لأن ذلك يستلزم إضافة بلا محل.
وقد يقال: إن الإيجاب يعني نقل الملكية من حين صدوره فإذا تأخر عنه القبول فإما أن يكون قبولًا لتمام مضمون الإيجاب وحينئذ يلزم حصول نقل الملكية قبل تمام العقد (لأن الغرض أن الملكية بتمامها انتقلت من حين الإيجاب) ، أو لكون القبول لبعض مضمون الإيجاب (أي من حين القبول) فيلزم عدم التطابق بين الإيجاب والقبول وهو أمر معفو عنه عند الفصل القليل دون الكثير.
وقد يقال: إن العقد المركب من الإيجاب والقبول القائمين بنفس المتعاقدين بمنزلة كلام واحد إلا أن الإمام الخميني يشكل على كل هذه الاستدلالات.
فهو يرى أن العقد والبيع والتجارة ونحوها عبارة عن الأمور الناتجة من أسبابها إذ هي التي تبقى وهو ما يبدو للمتأمل في قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [سورة البقرة: الآية 237] . والحاصل من الأسباب ليس أمرًا متدرجًا ولا هو مقولة ألفاظ حتى تلاحظ هيئته الاتصالية فلا يمكن قياسها على القراءة والتشهد والصلاة ونحوها وهو ما نلاحظة عند الإسفراييني (1) مثلًا.
أما المعتبر فهو ارتباط عهديتهما وهو حاصل مع بقاء الإيجاب اعتبارًا (بعد أن لم يلغ أو ينسى) . وحينئذ يصح ضم القبول إليه (فلو قال بعتك هذا الفرس فقم وفكر في ما هو صلاحك، فقام وتأمل ساعة أو ساعتين بل يومًا أو يومين فاختار القبول يصدق العقد عليه ويجب عليه الوفاء عرفًا وشرعًا) ، كما أن العهود الكتبية بين الدول وبيت الشركاء في التجارات لا يعتبر فيها التوالي لدى العقلاء فالمضر عدم ربط المسببات والمعتبر ربطها لا التوالي بين الإيجاب والقبول وبين الأسباب من غير فرق بين كون دليل التنفيذ {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} أو {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} أو {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} (2) .
أما ما قيل من حصول اللوازم الفاسدة إذا جاء فصل طويل بين الإيجاب والقبول من قبيل عدم التطابق بينهما، أو حصول النقل قبل تمام العقد، فإنه يقال فيه إن مضمون الإيجاب ليس النقل من حينه بل هو التمليك بعوض أو التبادل بين المالين ولكن ترتيب الأثر العرفي والشرعي يتوقف على انضمام القبول إليه.
أما الاستدلال العقلي فلا محل له في الأمور الاعتبارية على أن هناك رأيًا للإمام فيه الفصل المسألة، وهو أن مقوم العقد هو الإيجاب فقط، أما القبول فليس له إلا شأن تثبيت الأمر لما أوقعه الموجب.
(1) الشيرازي2/41.
(2)
البيع: 1/231.
وقد استند في ذلك إلى عمومات وإطلاقات ومما استند إليه الرواية الصحيحة التي رواها محمد بن مسلم عن الإمام الباقر (ع) قال:
جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وآله، فقالت: زوجني. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: "من لهذه؟ " فقام رجل فقال: أنا يا رسول الله – صلى الله عليه وآله – زوجنيها. فقال: "ما تعطيها؟ " فقال: ما لي شيء. قال: لا. فأعادت فأعاد رسول الله – صلى الله عليه وآله – الكلام، فلم يقم أحد غير الرجل، ثم أعادت. فقال رسول الله- صلى الله عليه وآله- في المرة الثالثة:"أتحسن من القرآن شيئًا؟ " قال: قال: "زوجتكم على أن تحسن من القرآن فعلمها إياه"(1) .
وعلى هذا الرأي يكون القبول كالإجازة في عقد الفضولي حيث يكون الإيجاب تمام ماهية العقد.
وإذا استقر هذا الرأي على حاله لم نلق أية صعوبة في تصحيح العقود بالوسائل الحديثة على اختلاف أنواعها.
أما إذا أصررنا على لزوم الموالاة بين الإيجاب والقبول أمكننا الرجوع إلى العرف المحقق لمصداقية العقد والعرف مرن في هذه الحالة ولا يعتمد الطريقة العقلية المجردة تمامًا كما رأيناه يتسامح في الفاصل الحاصل بين الإيجاب والقبول، وفي قيام الإشارة أو الفعل مقام اللفظ.
وحينئذ يمكن القول بأن الموالاة في كل مورد بحسبه، فإذا كان الاتصال تلفونيًا لم يكن الفاصل فاصلًا في نظر العرف، وإذا كان إجراء العقد كتابيًا وتمت الاستجابة بمجرد وصول الرسالة الموجبة فقد تحققت الموالاة بحسب ذلك المورد وكذلك الفاكسميلي وأمثالها.
(1) وسائل الشيعة – الباب الثاني من أبواب المهور – الحديث (1) .
* النقطة الثالثة: البحث عن خيار المجلس في هذه الحالة:
هناك خلاف بين العلماء في هذا الخيار الذي يعطي كل بائع الحق في فسخ العقد ولو بعد إبرامه ما دام المجلس مستمرًا، فإذا افترقنا لزم البيع إذ أثبته الكثير من علماء السلف والشافعية والحنابلة وأنكره المالكية والحنفية.
أما الإمامية فهم يجمعون على وجود هذا الخيار والنصوص المنقولة عن أئمة أهل البيت مستفيضة أو متواترة، كما قال المحقق النجفي (1) .
ومنها رواية الصادق (ع) في صحيح ابن مسلم وصحيح زرارة (2) عن رسول الله صلى الله عليه وآله: البيعان بالخيار حتى يفترقا، وقوله عليه السلام في صحيح الفضيل (3) لما قال له ما الشرط في غير الحيوان:البيعان بالخيار ما لم يفترقا فإذا افترقا فلا خيار بعد الرضا منهما. وفي صحيح الحلبي (4) : ((أيما رجل اشترى بيعًا فهما بالخيار حتى يفترقا فإذا افترقا وجب البيع)) . وقد اتفق علماء السنة على الحديث التالي:
روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يفترقا وكانا جميعًا أو يخيِّر أحدهما الآخر، فإن خيّر أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع)) (5) .
والظاهر أنه صريح في خيار المجلس ولا معنى لحمله على خيار القبول كما حمله الحنفية والمالكية على ذلك، فهو خلاف ظهور الحديث خصوصًا في عبارة (ما لم يتفرقا) الآتية بعد تبايع الرجلان أي بعد أن تم العقد وما زالا في المجلس فهما بالخيار.
(1) جواهر الكلام: 4/23.
(2)
وسائل الشيعة: 2/345.
(3)
وسائل الشيعة: 2/346.
(4)
وسائل الشيعة: 2/346.
(5)
الوسائل: 12/348، الحديث الثالث عن محمد بن مسلم عن الصادق (ع) .
إلا أنه يجب الإذعان بأنه لم يثبت نص وفتوى في ما عدا البيع.
ولكن ما المراد بمجلس الخيار؟ لا سبيل لنا لمعرفة المفهوم هنا إلا سبيل العرف بل لم يرد لفظ المجلس إلا بشكل عارض في بعض الروايات (1) .
والظاهر منه جو اللقاء بين المتبايعين، وحينئذ فيمكن أن يدعي أحد أن بقاء الاتصال التلفوني على بعد يعني بقاء مجلس التعاقد والخيار، وانقطاعه حتى – ولو كان صدفة لا عن اختيار – يعني انفضاض مجلس العقد وذهاب الخيار إذ إن العرف لا يفترق لديه أن يتم اتصال تلفوني مباشر أو بدني في مجلس واحد، وعنوان (افترقا) لا يصدق على الاتصال التلفوني حتى ولو كانا في طائرة أو سيارة متحركة.
وهل يمكننا تصور خيار المجلس في ما عدا الاتصال التلفوني؟ ذلك أمر مشكل حقًا ومن هنا فلا نستطيع تصور الخيار في غير ذلك أو شبهة كالاتصال من خلال المقابلة التلفزيونية المبثوثة عبر الأقمار الصناعية فهو كالتلفون بل أشد اتصالًا.
أما الرسالة والفاكسميلي وأمثالها فيبعد تصور مجلس فيهما حتى يتصور فيهما الخيار.
ومن هنا يعلم حكم النقطة الرابعة في مجال إمكان الرجوع بعد صدور الكتابة من قبل أي من الطرفين فإن الموجب بإيجابه أوجد العقد، إلا أنه لم يثبت إلا بعد صدور القبول، وحينئذ فله الرجوع قبل وصول الرسالة، أما إذا وصلت وصدر القبول فلا مجال لرجوع أي منهما عن العقد لعدم إمكان تصور خيار المجلس في هذه الحالة (حالة الكتابة) .
هذا في البيع، أما في العقود الأخرى فإن الأمر يتبع كونها من العقود اللازمة أو الجائزة، ووجود خيارات أخرى غير خيار المجلس فإنه يختص بالبيع والله أعلم.
الشيخ محمد علي التسخيري
(1) الوسائل: 12/348، الحديث الثالث عن محمد بن مسلم عن الصادق (ع) .
بحث
سعادة الدّكتور عبْد الله محمّد عبْد الله
مستشار محكمة الاستئناف العليا بالكويت
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد خاتم النبيين والمرسلين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه الفقهاء العاملين والأئمة المجتهدين، وبعد:
فيحسن قبل الخوض في موضوع البحث أن نخصه بمقدمة ومدخل للدراسة نوجز فيها بعض المبادئ:
* أولًا: تحدث الفقهاء عن مجلس العقد، وخلاصته أن بعض العقود يشترط لوجوده شرعًا اتحاد مجلس الإيجاب والقبول، بمعنى أن يكون المتعاقدان في مكان واحد كعقود المعاوضات بالإجماع، وكذا سائر التمليكات على اختلاف في بعضها بين الأئمة كالهبة، غير أن الوصية بالإجماع لا يشترط فيها اتحاد مجلس الإيجاب والقبول، إذ الإيجاب فيها يكون حال حياة الموصي وأما القبول فلا يصح إلا بعد وفاته.
* وبعض العقود لا يشترط فيها اتحاد المجس كالوكالة ونحوها. ومن ذلك كل العقود التي يكون فيها أحد الركنين يمينًا والثاني معاوضة كالخلع.
فإن كان الإيجاب من الزوج صح قبول الزوجة في مجلس آخر، وذلك لأن الإيجاب هنا بمعنى اليمين أما إذا كان من الزوجة فلا بد أن يكون جواب الزوج في المجلس لأنه في هذه الحالة بمعنى المعاوضة.
* ثانيًا: المجلس قد يكون مكانا مستقرًّا وقد يكون متحركًا كالدابة والسفينة.
فلو تعاقدا البيع مثلًا وهما في بيت أو سفينة وهي تجري صحَّ العقد ولا ينقطع المجلس بجريان السفينة.
ولو عقداه وهما يمشيان أو يسيران على دابتين أو دابة واحدة في محل واحد، فإن خرج الإيجاب والقبول منهما متصلين انعقد البيع ولو كان بينهما فصل وسكوت، وإن قلَّ، لا ينعقد لأن المجلس تبدل بالمشي والسير وإن قلّ. يجوز في الماشين أيضًا ما لم يتفرقا بذاتيهما.
* ثالثًا: وإنما اشترط اتحاد المجلس في البيع ونحوه، لأن الإيجاب يحتاج إلى جواب يلاقيه فوجب أن يكون القبول عقب الإيجاب مباشرة حتى يتصور الانعقاد بينهما، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، وقال الحنفية والمالكية: يجوز أن يتراخى القبول إلى آخر المجلس ولو طال الزمن بينهما ما دام المجلس على حاله لم يتخلل فيه القبول والإيجاب ما يدل على الإعراض من كل واحد من المتعاقدين.
* رابعًا: وكما يكون كل من الإيجاب والقبول بالقول أو بالتعاطي على خلاف فيه بين الفقهاء كذلك يكونان أو أحدهما بالرسالة أو الكتابة وكل واحد من المتعاقدين في مكان غير المكان الذي فيه الآخر. وجدير بالذكر أن الرسالة في لسان الفقهاء يعبر بها عن الرسول بأن يرسل شخص إلى آخر رسولًا ويقول للرسول: إني بعت داري هذه من فلان الغائب بكذا فاذهب إليه وقل له: إن فلانًا أرسلني إليك وقال لي: قل له: إني بعت داري الفلانية من فلان بكذا، فذهب الرسول وبلَّغ الرسالة فقال المشتري في مجلسه ذلك: قبلت، انعقد البيع، لأن الرسول سفير ومعبر عن كلام المرسل، ناقل كلامه إلى المرسل إليه، فكأنه حضر بنفسه وأوجب البيع وقبل الآخر في المجلس. وفي هذا قلت المادة (1450) من مجلة الأحكام العدلية:(الرسالة هي تبليغ أحد كلام الآخر إلى غيره من دون أن يكون له دخل في التصرف، ويقال للمبلِّغ رسول، ولصاحب الكلام مرسل، وللآخر مرسل إليه (1) .
* خامسًا: أما التعاقد عن طريق الكتابة وما في معناها مما استجد من أمور كالتلكس والبرق وكذلك عن طريق الهاتف أو اللاسلكي وما في معناهما مما ينقل الكلام بين غائبين ولكن مباشرة بحيث يسمع كل منهما الآخر وقت صدوره فهو محور الكلام وسنتكلم عليه من جوانبه المختلفة في بحثين:
الأول: ونبحث فيه التعاقد عن طريق الكتابة وما في حكمها كالتلغراف أو التلكس وما يشبههما من وسائل الاتصال الأخرى، ونذكر مذاهب العلماء في التعاقد عن طريق الكتابة ثم نستظهر حكمه في القوانين الوضعية.
والثاني: ونخصصه للتعاقد عن طريق الهاتف واللاسلكي متلمسين ما يقارب ذلك مما ورد التمثيل به في المؤلفات ثم منزع القوانين الوضعية فيه.
(1) الكاساني: 6/2994، فتح القدير: 6/254، 255، مجلة القانون والاقتصاد – السنة الرابعة – العدد الخامس: ص654 وما بعدها، المجموع: 9/169 وما بعدها.
المبحث الأول
في التعاقد عن طريق الكتابة وما في حكمها
كالتلغراف والتلكس وما أشبه ذلك
من وسائل الاتصال الأخرى
وفيه مطلبان:
* الأول: في مذاهب العلماء في التعاقد عن طريق الكتابة ونحوها ثم حكم رجوع الموجب.
* الثاني: في منزع القوانين الوضعية.
المطلب الأول
في مذاهب العلماء في التعاقد عن طريق الكتابة
التعاقد عن طريق الكتابة والمراسلة تزداد شيوعًا يومًا بعد يوم، خاصة في المسائل التجارية. وقد تطورت طرق المراسلة تطور العلوم و (الثقافة والتكنولوجيا) ، وأخذت القوانين الوضعية تفسح لها مجالًا رحبًا بين نصوصه وتخصص لبحثه أبوابًا لأهميته، سواء لتحديد وقت نشوء العقد وترتب آثاره بارتباط الإيجاب والقبول أو تحديد مكان انعقاد العقد لمعرفة القانون الواجب التطبيق على التصرفات ذات العنصر الأجنبي هل هو قانون بلد الإيجاب أم قانون بلد القبول. أما بالنسبة للجانب الفقهي فإن المصادر الفقهية المختلفة تكاد تلتقي في الجملة على جواز التعاقد كتابة، وسأجمل الاتجاهات الفقهية فيه كما يلي:
أولًا- مذهب الأحناف
مثَّل الأحناف للتعاقد عن طريق الكتابة بأن يكتب الرجل إلى الرجل: أما بعد فقد بعت كذا منك بكذا، فبلغه الكتاب فقال في مجلسه اشتريت، انعقد البيع بينهما ويكون كأن الموجب حضر بنفسه وخاطب الآخر بإلايجاب وقبل منه الآخر في المجلس (1) .
وقال ابن عابدين: قلت: ويكون بالكتابة من الجانبين فإذا كتب اشتريت كذا بكذا فكتب إليه البائع قد بعت فهذا بيع كما في التتار خانية. قوله: فيعتبر مجلس بلوغها أي بلوغ الرسالة أو الكتابة. قال في الهداية: الكتابة كالخطاب وكذا الإرسال حتى اعتبر مجلس بلوغ الكتابة وأداء الرسالة.
ثم قال: وقال شمس الأئمة السرخسي في كتاب النكاح من مبسوطه: كما ينعقد النكاح بالكتابة ينعقد البيع وسائر التصرفات بالكتابة أيضًا.
(1) بدائع الصنائع: 6/2994، شرح فتح القدير: 6/254، 255، الفتاوى الهندية 3/9، البحر الرائق: 5/290، 291.
وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده في مبسوطه الكتاب والخطاب سواء، إلا في فصل واحد وهو أنه لو كان حاضرًا فخاطبها بالنكاح فلم تجب في مجلس الخطاب ثم أجابت في مجلس آخر، فإن النكاح لا يصح، وفي الكتاب إذا بلغها وقرأت الكتاب ولم تزوج نفسها منه في المجلس الذي قرأت الكتاب فيه، ثم زوجت نفسها في مجلس آخر بين يدي الشهود وقد سمعوا كلامها وما في الكتاب يصح النكاح لأن الغائب إنما صار خاطبًا لها بالكتاب، والكتاب باقٍ في المجلس الثاني فصار بقاء الكتاب في مجلسه، وقد سمع الشهود ما فيه في المجلس الثاني بمنزلة ما لو تكرر الخطاب من الحاضر في مجلس آخر، فأما إذا كان حاضرًا فإنما صار خاطبًا لها بالكلام، وما وجد من الكلام لا يبقى إلى المجلس الثاني، وإنما سمع الشهود في المجلس الثاني أحد شطري العقد.
ثم علَّق على هذا حاكيًا خلاف أئمة المذهب في البيع هل حكمه حكم النكاح في انعقاده في مجلس آخر، قال: وظاهره أن البيع كذلك وهو خلاف ظاهر الهداية، فتأمَّل (1) .
حكم رجوع الموجب:
قالوا: لو كتب شطر العقد ثم رجع صح رجوعه، لأن الكتاب لا يكون فوق الخطاب؛ ولو خاطب ثم رجع صح رجوعه فهاهنا أولى. وكذا لو أرسل رسولًا ثم رجع، لأن الخطاب بالرسالة لا يكون فوق المشافهة وذا محتمل للرجوع فهاهنا أولى. ولكن الرجوع مشروط بأن لا يصل كتابه إلى المكتوب إليه. ولا يشترط لصحة الرجوع علم الآخر مطلقًا. ولا يصح الرجوع بعد قبول المكتوب إليه لأن العقد قد تم وخرج الأمر من يد الكاتب وكذلك الحكم في الرسول.
ومن هنا يعلم أن العقد يتم بقبول المكتوب إليه أو المرسل إليه (2) .
قال في البدائع: وكذا هذا في الإجازة والكتابة إن اتحاد المجلس شرط للانعقاد ولا يتوقف أحد الشطرين من أحد العاقدين على وجود الشطر الآخر إذا كان غائبًا، لأن كل واحد منهما عقد معاوضة إلا إذا كان عن الغائب قابل أو بالرسالة أو بالكتابة كما في البيع.
(1) حاشية رد المحتار: 4/513.
(2)
البدائع: 6/2994.
وأما في النكاح فهل يتوقف بأن يقول رجل للشهود: اشهدوا أني قد تزوَّجتُ فلانة بكذا وبلغها فأجازت أو قالت امرأة: اشهدوا أني زوَّجت نفسي من فلان بكذا فبلغه، فأجاز عند أبي حنيفة ومحمد لا يتوقف أيضًا، إلا إذا كان عن الغائب قابل.
وعند أبي يوسف يتوقف، وإن لم يقبل عنه أحد.
وكذا الفضولي من الجانبين بأن قال: زوجت فلانة من فلان وهما غائبان، فبلغهما فأجازا، لم يجز عندهما.
وعند أبي يوسف يجوز.
والفضولي من الجانبين في باب البيع إذا بلغهما فأجازا لم يجز بالإجماع.
وأما الشطر في باب الخلع فمن جانب الزوج يتوقف بالإجماع حتى لو قال: خالعت امرأتي الغائبة على كذا فبلغها الخبر فقبلت جاز.
وأما من جانب المرأة فلا يتوقف بالإجماع حتى لو قالت: اختلعت من زوجي فلان الغائب على كذا فبلغه الخبر فأجاز لم يجز (1) .
وكذلك لا يضر عدم علم الرسول رجوع المرسل بخلاف ما إذا وكل إنسانًا ثم عزله بغير علمه لا يصح عزله لأن الرسول يحكي كلام المرسل إليه فكان سفيرًا ومعبرًا محضًا فلم يشترط علم الرسول بذلك فأما الوكيل فإنما يتصرف عن تفويض الموكل إليه فشرط علمه بالعزل (2) .
ويوضح الشيخ أحمد إبراهيم هذا بقوله: وإذا رجع الموجب عن إيجابه قبل قبول الآخر، ففي عقود المعاوضات يبطل الإيجاب فلا يصح القبول بعد ذلك بالإجماع، وليس للطرف الآخر كالمشتري مثلًا أن يدعي أنه صار له حق تملك المبيع بسبب إيجاب البائع، وذلك لأن حقيقة الملك في العين لا تزال ثابتة للبائع، وهي أقوى من حق التملك، فلو لم يجز الرجوع لزم تعطيل حق الملك بحق التملك. ونظير هذا أن للأب حق التملك لمال ولده عند الحاجة، ومع هذا فللولد أن يتصرف في ماله كيف شاء مع أن حق تملك الأب إياه متعلق به (3) .
(1) البدائع: 6/2994، 2995.
(2)
البدائع: 6/2994، 2995.
(3)
مجلة القانون والاقتصاد، السنة الرابعة: ص654.
ثانيًا- مذهب المالكية
نصوص الفقه المالكي تقرر أن البيع ينعقد بما يدل على الرضا من العاقدين من قول من الجانبين أو فعل منهما أو قول من أحدهما وفعل من الآخر أو إشارة منهما أو من جانب وقول أو فعل من الآخر.
ومثلوا الفعل بالكتابة، قال العدوي:(قول أو فعل) ، أي غير إشارة كالكتابة (1) .
وكما ينعقد العقد بين الحاضرين ينعقد بين الغائبين. جاء في الحطاب: قلت: كتب موثق بيع مسافر عبر عنه بعت موضع كذا من زوجتي فلانة بكذا إن قبلت وبينه وبينها مسافة شهرين، فقال ابن عبد السلام: مدة قضائه لا أجيز هذا البيع على هذه الصفة فبدلت الوثيقة بحذف إن قبلت فقبلها، قال: فلعله رأى الأول خيارًا والثاني وقفًا، ثم قال: وانظر ما معنى قوله وقفًا، ويمكن أن يقال إنما لم يجز الأول لأنه بيع خيار إلى أمد بعيد بخلاف الثاني فإنه إقرار بيع فتأمله، والله أعلم (2) .
ولا يترتب على العقد بين الغائبين إلا تراخي القبول عن الإيجاب. والمنقول عن أئمة المذهب المالكي جواز ذلك.
نقل الحطاب عن ابن راشد القفصي أن ابن العربي أشار إلى الخلاف في ذلك وأن المختار جواز تأخيره ما تأخر.
ونص كلام ابن راشد: فرع – إذا تراخى القبول عن الإيجاب فهل يفسد البيع أم لا؟
أشار ابن العربي في قبسه إلى الخلاف في ذلك، ثم قال: والمختار جواز تأخيره ما تأخر (3) .
أيضًا يؤخذ من كلام ابن راشد وهو يناصر رأي ابن العربي واستدلاله له ببيع المحجور عليه إذا باع من ماله أن لوصيه الإجازة وإن طال الأمد، ولم يحصل غير الإيجاب من المحجور مع قبول المبتاع المحجور كالعدم، وكذلك بيع الفضولي يقف القبول على رضا ربه على المشهور وإن طال (4) .
(1) شرح الخرشي على خليل: 5/5، وحاشية الشيخ العدوي عليه.
(2)
مواهب الجليل: 4/241.
(3)
المواهب: 4/241.
(4)
المواهب: 4/240.
حكم رجوع الموجب:
لم نجد نصًّا جليًّا على حكم رجوع الموجب في التعاقد بين الغائبين، أما بين الحاضرين فهناك كلام طويل ساقه الحطاب وغيره، وها نحن نذكره بطوله للوقوف من خلال عرض مسائله المختلفة على حكمه بين المتعاقدين الغائبين.
* أولًا: في بيع المساومة، قال سحنون عن ابن نافع عن مالك في الرجل يسوم الدابة، فيقول له رجل تبيعني بكذا وكذا، فيقول لا أفعل إلا بكذا، فيقول له المشتري انقصني دينارًا، فيقول لا أنقص فيقول له المشتري قد أخذتها بما قلت إنه يلزم ذلك البيع البائع وليس له أن يرجع. ابن رشد: هذه مسألة صحيحة لا اختلاف فيها إذا تبين بتردد المماسكة أنه مجد في السوم غير لاعب (1) .
المسألة الثانية في المساومة: أن من أوقف سلعته في السوق للسوم فقال له شخص: بكم تبيعها؟ فقال صاحب السلعة: بمائة مثلًا، فقال المشتري: أخذتها بها، فقال صاحب السلعة: ما أردت البيع وإنما أردت اختبار ثمنها أو كنت لاعبًا ونحو ذلك.
فإنه يحلف أنه ما أراد إيجاب البيع، فإن حلف لم يلزمه البيع، وإن لم يحلف لزمه.
وهذا قول مالك في كتاب الغرر. المدونة (2) .
ومن سماع أشهب من كتاب العيوب أن البيع يلزمه وليس له أن يأبى (3) .
وقال أبو بكر الأيدي: إن كان الذي سمّى قدر قيمة السلعة وكانت تباع بمثله لزمهما البيع فإن كان لا يشبه أن يكون ذلك ثمنها حلف أنه لاعب ولم يلزم. انتهى، فالأقوال ثلاثة (4) .
وقال ابن رشد: إن هذه الأقوال إنما هي في السلعة الموقوفة للسوم ولو لم تكن موقوفة للسوم فإنه يقبل قول ربها أنه كان لاعبًا ويحلف على ذلك ولا يلزم البيع إلا أن يتبين صدق قوله فتسقط عنه اليمين (5) .
معنى تسوَّق أوقفها للسوم في السوق، والظاهر أن المراد بالسوق سوق تلك السلعة، وأما سوق غيرها فحكمه حكم غير السوق (6) .
هذا الذي تقدم حكم بيع المساومة، وهو إيقاف الرجل سلعته ليساومه فيها من أرادها.
(1) مواهب الجليل: 4/232، 233.
(2)
المواهب: 4/233.
(3)
المواهب: 4/213.
(4)
المواهب: 4/233.
(5)
المواهب: 4/234.
(6)
المواهب: 4/236، 237.
* ثانيًا – في بيع المزايدة: قال ابن رشد: الحكم فيه أن كل من زاد في السلعة لزمته بما زاد فيها إن أراد صاحبها أن يمضيها له ما لم يسترد سلعته فيبيع بعدها أخرى أو يمسكها حتى ينقضي مجلس المناداة وهو مخير في أن يمضيها لمن يشاء ممن أعطى فيها وإن كان غيره قد زاد عليه (1) .
ونقله ابن عرفة في الكلام على بيع الشخص على بيع أخيه من البيوع المنهي عنها، ثم نقل عن ابن حبيب ما يقتضي أن للبائع أن يلزم المشتري بعد الافتراق في بيع المزايدة بخلاف بيع المساومة فإنه لا يلزمه بعد الافتراق.
وذكر عن المازري أنه رد التفرقة المذكورة بأن ذلك كعرف جرى بينهم.
ونص ابن حبيب: إن فارق المشتري البائع في بيع المساومة دون إيجاب لم يلزمه بعد ذلك بخلاف بيع المزايدة يلزمه ما أعطى بعد الافتراق، لأن المشتري إنما فارقه في المزايدة على أنه استوجب البيع.
المازري: لا وجه للتفرقة إلا للرجوع للعوائد (2) .
ولو شرط المشتري إنما يلتزم الشراء في الحال قبل المفارقة أو شرط البائع لزومه أو أنه بالخيار في أن يعرضها على غيره أمدًا معلومًا أو في حكم معلوم لزم الحكم بالشرط في بيع المساومة والمزايدة اتفاقًا وإنما افترقا للعادة حسبما علَّل به ابن حبيب بينهما.
قال المازري: وإنما نبهت على هذا لأن بعض القضاة ألزم بعض أهل الأسواق في بيع المزايدة، بعد الافتراق، وكانت عادتهم الافتراق على غير إيجاب اغترارًا بظاهر قول ابن حبيب وحكاية غيره.... فنهيته عن هذا لأجل مقتضى عوائدهم. (3) .
قال ابن عرفة: قلت: والعادة عندنا اللزوم ما لم يطل زمن المبايعة حسبما تقرر قدر ذلك عندهم، والأمر واضح إن بَعُد. والسلعة ليست في يد المبتاع، فإن كانت بيده وموقوفة ففيه نظر، والأقرب اللزوم (4) .
وقال الزرقاني: شرحًا لمتن خليل (أو تسوق بها فقال: بكم، فقال: بمائة ، فقال: أخذتها بها، فقال لم أرد البيع) قال: يحلف على ذلك وإلا لزمه البيع، وأنه إذا قامت قرينة على عدم إرادة البيع، فالقول للبائع بلا يمين أو على إرادته فيلزمه البيع كما إذا حصل تماكس وتردد بينهما أو سكت مدة ثم قال: لا أرضى فلا يلتفت لقوله.
(1) المواهب: 4/237.
(2)
المواهب: 4/238.
(3)
المواهب: 4/238.
(4)
المواهب: 4/238.
وإن لم تقم قرينة لواحد منهما فالقول للبائع بيمينه.
وانظر هل من القرينة على عدم إرادة البيع ما إذا ذكر البائع ثمنًا قليلًا فيما تكثر قيمته كمائة وهي تساوي مائتين، فقال المشتري أخذتها بالمائة فلا يحلف البائع وهو الظاهر أم لا.
وأشعر كلام المصنف أن البيع منحل من جانب البائع لا من جانب المشتري، وأن البيع فيها مساومة فإن أجابه في المجلس بما يقتضي الإمضاء والقبول من غير فاصل لزمه البيع اتفاقًا.
وإن تراخى القبول عن الإيجاب حتى انقضى المجلس لم يلزمه البيع قطعًا.
وكذا لو حصل فاصل يقتضي الإعراض عما كانا فيه حتى لا يكون كلامه جوابًا للكلام السابق في العرف فلا ينعقد البيع.
* ثالثًا – قال: وكذا يلزم في بيع المرابحة والمزايدة والاستئمان أي: كبعني كما تبيع الناس مع الفور في الثلاثة كالأول.
فإن أعرض البادئ لم يلزم في الأربعة، فإن انقضى المجلس لم يلزم فيها بيع إلا بيع المزايدة، فللبائع أن يلزم السلعة لمن زاد حيث اشترط البائع ذلك أو جرى به عرف إمساكها حتى انقضى مجلس النداء أو ردها وباع بعدها أخرى.
فإن لم يشترط ذلك ولا جرى به عرف لم يكن له ذلك (1) .
قال المازري: وإنما نبهت على ذلك لأن بعض الفقهاء ألزم بعض أهل الأسواق في بيع المزايدة بعد الافتراق مع أن عاداتهم الافتراق على غير إيجاب اغترارا بظاهر ابن حبيب وحكاية غيره، فنهيته عن هذا لأجل مقتضى عوائدهم – ابن عرفة.
والعادة عندنا، أي بتونس، وكذا عندنا بمصر عدم اللزوم وهو واضح إن بعد، ولم تكن السلعة بيد المبتاع، فإن كانت بيده فالأقرب اللزوم كبيع الخيار بعد زمنه يلزم فيه البيع من المبيع بيده.
(1) شرح الخرشي: 5/6.
وعلى كلام المازري، لو لم تكن عادة فالأقرب أن للبائع إلزام من زاد بعد التفرق ما لم يستر السلعة، ويشتغل ببيع أخرى أو يمسكها حتى ينقضي مجلس النداء (1) .
لكن ذكر الزرقاني أنه إن أتى أحدهما بصيغة ماضٍ، ورجع قبل رضا الآخر لم ينفعه رجوعه كما إذا أتيا بصيغة ماضٍ (2) .
ثم قال: ومحله أيضًا إن لم تقم قرينة على البيع أو عدمه وإلا عمل عليها من غير حلف.
الخلاصة:
الذي تفيده هذه النصوص، وخاصة النص الأخير للزرقاني، وما نصّ عليه ابن رشد:
هو أنه إذا رجع أحد المتبايعين عما أوجبه لصاحبه قبل أن يجيبه الآخر لم يفده رجوعه إذا أجابه صاحبه بَعْدُ بالقبول (3) أن ليس للموجب أن يرجع في إيجابه إذا كانت صيغة العقد تدل على القطع والثابت كأن كانت بصيغة الماضي، ويؤيد هذا أيضًا عبارة الزرقاني التالية: فإن أجابه في المجلس
…
إلخ، هذا الكلام ليس مرتبًا على خصوص ما قبله، فلا يحسن تنزيله عليه، بل هو فرع مستقل كما في طيح وح، ونص ح التنبيه التاسع لم يذكر المصنف حكم تراخي القبول عن الإيجاب، وقد انجر الكلام إليه.
ثم قال بعده: نقول: والذي يتحصل أنه إن أجابه في المجلس إلى آخر ما ذكره ز، والمعنى فإن أجاب الثاني من بائع أو مشترٍ الأول في جميع ما تقدم وغيره من بيع المساومة فلا يخلو إما أن يجيبه في المجلس أم لا.
وقول ز فإن أعرض البادئ لم يلزمه في الأربعة
…
إلخ.
ظاهره مع التعبير بالماضي وهو غير صحيح لما قدمه ابن رشد قريبًا قبل هذا.
فإذا تقرر هذا الحكم بين الحاضرين من المتعاقدين فينبغي أن يكون كذلك أيضًا فيما بين الغائبين.
(1) شرح الخرشي: 5/6.
(2)
شرح الخرشي: 5/6.
(3)
مواهب الجليل: 5/6.
ثالثًا- مذهب الشافعية
قال النووي في المجموع: المسألة الثالثة:
إذا كتب إلى غائب بالبيع ونحوه، قال أصحابنا: وهو مرتب على الطلاق هل يقع بالكتب مع النية، وفيه خلاف: الأصح صحته ووقوعه (1) .
ثم قال: أما النكاح ففي انعقاده بالمكاتبة خلاف مرتب على البيع ونحوه، ذكره إمام الحرمين والبغوي وآخرون، قالوا: إن قلنا لا يصح البيع فالنكاح أولى، وإلا فوجهان.
والمذهب أنه لا يصح، لأن الشهادة شرط فيه ولا اطلاع للشهود على النية، ولو قالا بعد المكاتبة نوينا، كانت شهادة على إقرارهما لا على نفس العقد فلا يصح، ومن جوزه اعتمد الحاجة.
قال أصحابنا: وحيث حكمنا بانعقاد النكاح بالمكاتبة، فليكتب زوَّجتك بنتي، ويحضر الكتاب عدلان ولا يشترط أن يحضرهما، ولا أن يقول لهما اشهدا بل لو حضرا بأنفسهما كفى، فإذا بلغ الكتاب الزوج فليقبل لفظًا ويكتب القبول، ويحضر القبول شاهدا الإيجاب، فإن شهده آخران فوجهان: أصحهما لا يصح لأنه لم يحضره شاهد له.
والثاني: الصحة لأنه حضر الإيجاب والقبول شاهدان، ويحتمل تغايرهما كما احتمل الفصل بين الإيجاب والقبول، ثم إذا قبل لفظًا أو كتابة يشترط كونه على الفور، هذا هو المذهب، وفيه وجه ضعيف كما سبق في البيع، والله أعلم (2) .
شرط التعاقد بالكتابة:
اشترطوا أن يقبل المكتوب إليه بمجرد اطلاعه على الكتاب في الرأي الأصح عندهم.
وفي وجه ضعيف أنه لا يشترط القبول بل يكفي التواصل اللائق بين الكتابين (3) .
(1) المجموع: 9/167.
(2)
المجموع: 9/167، 168.
(3)
المجموع: 9/167.
حكم الخيار في التعاقد بين الغائبين عن طريق الكتابة ورجوع الموجب عن إيجابه:
قال الغزالي إذا صححنا البيع بالمكاتبة، فكتب إليه فقبل المكتوب إليه، ثبت له خيار المجلس ما دام في مجلس القبول، قال: ويتمادى خيار الكاتب إلى أن ينقطع خيار المكتوب إليه حتى لو علم أنه رجع عن الإيجاب قبل مفارقة المكتوب إليه مجلسه، صح رجوعه ولم ينعقد البيع (1) .
وقال في حاشية الجمل: ولو كتب إلى غائب ببيع أو غيره صح ويشترط قبول المكتوب إليه عند وقوفه على الكتاب، ويمتد خيار مجلسه ما دام في مجلس القبول، ويمتد خيار الكاتب إلى انقطاع خيار المكتوب إليه (2) .
قال في الحاشية تعليقًا على قوله: (إلى انقطاع خيار المكتوب إليه) تقتضي هذه العبارة شيئين:
الأول: أن الكاتب لو فارق مجلسه الذي كان فيه عند قبول المكتوب إليه أو ألزم البيع لم ينقطع خياره، وليس كذلك بل ينقطع.
والثاني: أن المكتوب إليه لو ألزم العقد أو فارق مجلسه، والكاتب باقٍ على مجلسه الذي كان فيه عند قبول المكتوب إليه انقطع خيار الكاتب، والمعتمد فيهما عدم الانقطاع، بل لا ينقطع خيار كل منهما إلا بإلزامه العقد أو مفارقة مجلس نفسه، ومجلس الكاتب هو الذي كان فيه عند قبول المكتوب إليه، وأوله من حين القبول (3) .
(1) المجموع: 9/168.
(2)
حاشية الجمل على شرح المنهج: 3/10.
(3)
حاشية الجمل على شرح المنهج: 3/10
رابعًا – مذهب الحنابلة
قال الحنابلة بجواز البيع بالكتابة:
قال في كشاف القناع: وإن كان المشتري غائبًا عن المجلس فكاتبه البائع أو راسله: إني بعتك داري بكذا أو إني بعت فلانًا – ونسبه بما يميزه – داري بكذا، فلما بلغه أي المشتري الخبر قبل البيع صح العقد، لأن التراخي مع غيبة المشتري لا يدل على إعراضه عن الإيجاب، بخلاف ما لو كان حاضرًا، ففرق المصنف في تراخي القبول عن الإيجاب بين ما إذا كان المشتري حاضرًا وما إذا كان غائبًا.
قال: وهذا يوافق رواية أبي طالب في النكاح.
قال في رجل يمشي إليه قوم فقالوا: زوج فلانًا، فقال: قد زوَّجته على ألف فرجعوا إلى الزوج فأخبروه، فقال: قد قبلت، هل يكون هذا نكاحًا؟
قال: نعم.
قال الشيخ التقي: ويجوز أن يقال إن كان العقد الآخر حاضرًا اعتبر قوله. وإن كان غائبًا جاز تراخي القبول عن المجلس كما قلنا في ولاية القضاء (1) .
وفي مجلة الأحكام الشرعية في (المادة 228) :
يصح الإيجاب والقبول كتابة كما لو كان المشتري غائبًا عن المجلس فكاتبه البائع أني بعتك داري بكذا أو نحو ذلك فلما بلغ المكتوب إليه الخبر قَبِلَ صح العقد.
(1) كشاف القناع: 3/148.
المطلب الثاني
في بيان منزع القوانين الوضعية في التعاقد
عن طريق الكتابة وما في حكمها كالتلغراف والتلكس
وما أشبه ذلك
التعاقد عن طريق الكتابة أخذت بها القوانين المعاصرة ويغلب التعبير على ألسنة وأقلام القانونيين لقب التعاقد بالمراسلة أو التعاقد بين الغائبين (1) .
ويقصدون بالمراسلة ما هو أشمل من إيفاد رسول يبلغ الطرف الآخر بإيجاب الموجب لما هو عند الفقهاء، فعند هؤلاء سيان أن يكون العقد قد تم عن طريق إيفاد رسول يبلغ الرسالة من هذا لذاك أو عن طريق المكاتبة بواسطة البريد أو عن طريق البرق أو التلكس أو ما يشبههما من وسائل الاتصال الأخرى (2) .
وإذا استعرضنا نصوص بعض القوانين نجد أن التعبير بالكتابة عندهم يساوي التعبير بالقول وغيره كالإشارة ونحوها.
نصت المادة (90) من القانون المدني المصري على: (أن التعبير على الإرادة يكون باللفظ وبالكتابة وبالإشارة.... إلخ)(3) .
ونص القانون المدني الكويتي في المادة (34) على أن: (التعبير يكون باللفظ أو بالكتابة) .
وينص القانون المدني المغربي على: (أن التعبير الصريح عن الإرادة غير خاضع لأي شكل خاص فيمكن أن يكون كتابيًّا أو شفويًّا وحتى بالإشارة المتداولة عرفًا)(4) .
ويقول السنهوري في وسيطه تحت عنوان: المتعاقدان لا يجمعهما مجلس واحد فرضنا فيما قدمناه أن التعاقد يتم بين حاضرين، سواء تم التعاقد بينهما مباشرة أو تم بوساطة نائب عن أي منهما ولكن يحدث كثيرًا أن يتم التعاقد بين غائبين لا يجمعهما مجلس واحد ويتم ذلك بالمراسلة بأية طريقة من طرقها المختلفة: البريد أو البرق أو رسول خاص لا يكون نائبًا أو غير ذلك.
(1) الوسيط للسنهوري: 1/237، مصادر الالتزام.
(2)
مصادر الالتزام في القانون للمدني الكويتي، نظرية العقد للدكتور عبد الفتاح عبد الباقي: ص132.
(3)
القانون المدني: 1/13، وينظر الوسيط: 1/175.
(4)
شرح قانون الالتزامات والعقود الصادر عن وزارة العدل الكتاب الأول: 1/53، 54.
وليس الذي يميز ما بين الغرضين في حقيقة الأمر هو أن يجمع المتعاقدين مجلس العقد أو ألا يجتمعا في مجلس واحد، بل إن المميز هو أن تفصل فترة من الزمن بين صدور القبول وعلم الموجب به، ففي التعاقد ما بين حاضرين تنمحي هذه الفترة من الزمن، ويعلم الموجب بالقبول في الوقت الذي يصدر فيه.
أما في التعاقد بين غائبين فإن القبول يصدر ثم تمضي فترة من الزمن هي المدّة اللازمة لوصول القبول إلى علم الموجب ومن ثم يختلف وقت صدور القبول عن وقت العلم به (1) .
ويثور عند بحث التعاقد بالمراسلة في القانون ثلاث مسائل، وهي:
الأولى: مسألة زمان انعقاد العقد.
الثانية: مسألة مكان انعقاد العقد.
الثالثة: مسألة مدى التزام الموجب بالإبقاء على إيجابه بعد أن يبعث به إلى الموجب له.
أما عن المسألتين الأولى والثانية فقد نصت المادة (49) من القانون المدني الكويتي على أنه: (يعتبر التعاقد بالمراسلة أنه قد تم في الزمان والمكان اللذين يتصل فيهما القبول بعلم الموجب ما لم يتفق على غير ذلك أو يقضي القانون أو العرف بخلافه) .
(1) الوسيط: 1/237.
وقد بيَّنت المذكرة التفسيرية السند القانوني والأساسي الذي أخذت هذه المادة حكمها منه بقولها: (وتواجه المادة (49) مسألة تحديد زمان ومكان انعقاد العقد عندما يتم إبرامه بالمراسلة) ، وهي مسألة تباين وجه الحكم فيها تباينًا كبيرًا، وفي تقنيات الدول المختلفة، فمن هذه التقنيات ما يعتد في ذلك بصدور القبول، ومنها ما يعتد بوصول القبول إلى الموجب، وقد اعتمد القانون المصري هذا الرأي الأخير في المادة (97) وتبعه فيه أغلب القوانين العربية التي استوحته، كالقانون الليبي في المادة (97) منه والقانون العراقي في المادة (87) منه، وبيَّن لماذا أخذ المشرع بمبدأ العلم بالقبول، فذكر أنه يتمشى أكثر من غيره فقضى بأن التعاقد بالمراسلة يعتبر أنه قد تم في الزمان والمكان اللذين يتصل فيهما القبول بعلم الموجب ما لم يتفقا على غير ذلك أو يقضي القانون أو العرف بخلافه (1) .
ونص المادة (97) من القانون المصري (2) :
(يعتبر التعاقد ما بين الغائبين قد تم في المكان وفي الزمان اللذين يعلم فيهما الموجب بالقبول ما لم يوجد اتفاق أو نص قانوني يقضي بغير ذلك.
1-
ويفترض أن الموجب قد علم بالقبول في المكان وفي الزمان اللذين وصل إليه فيهما هذا القبول.
وجاء في الأخذ بمذهب العلم بأنه أقرب المذاهب إلى رعاية مصلحة الموجب، ذلك أن الموجب هو الذي يبتدئ التعاقد فهو الذي يحدد مضمونه ويعين شروطه، فمن الطبيعي والحال هذه، أن يتولى تحديد زمان التعاقد ومكانه، ومن العدل إذا لم يفعل أن تكون الإرادة المفروضة مطابقة لمصلحته عند عدم الاتفاق على ما يخالف ذلك، فمذهب العلم هو الذي يستقيم دون غيره مع المبدأ القاضي بأن التعبير عن الإرادة لا ينتج أثره إلا إذا وصل إلى من وُجِّه إليه على نحو يتوفر معه إمكان العلم بمضمونه، ومؤدَّى ذلك أن القبول بوصفه تعبيرًا عن الإرادة لا يصح نهائيًّا إلا في الوقت الذي يستطيع فيه الموجب أن يعلم به، ولا يعتبر التعاقد تامًّا إلا في هذا الوقت) (3) .
وخرج عن تلك القاعدة في المادة (98) : حيث وردت (4) :
(إذا كانت طبيعة المعاملة أو العرف التجاري أو غير ذلك من الظروف تدل على أن الموجب لم يكن ينتظر تصريحًا بالقبول، فإن العقد يعتبر قد تم إذا لم يرفض الإيجاب في وقت مناسب.
2-
ويعتبر السكوت عن الرد قبولًا إذا كان هناك تعامل سابق بين المتعاقدين واتصل الإيجاب بهذا التعامل، أو إذا تمحض الإيجاب لمنفعة من وجه إليه) .
وقد بيَّن السنهوري ما يترتب على تحديد زمان العقد ومكانه بقوله:
(ومتى وضعنا المسألة على النحو الذي قدمناه تبين في الحال ماذا يترتب على هذا الوضع. فما دام أن هناك فترة من الزمن تفصل ما بين صدور القبول والعلم به وجب التساؤل متى يتم العقد؟ أو وقت صدور القبول أم وقت العلم به؟ فإذا تعين الوقت الذي يتم فيه العقد تعين أيضًا المكان الذي يتم فيه، يتم في المكان الذي يوجد فيه الموجب إذا قلنا أن العقد لا يتم إلا إذا علم الموجب بالقبول، ويتم في المكان الذي يوجد فيه من صدر منه القبول، إذا قلنا أن العقد يتم بمجرد صدور القبول، فزمان العقد هو الذي يحدد مكانه)(5) ، إلا فيما يتعلق بالتعاقد بالهاتف على ما سيأتي في محله.
(1) المذكرة الإيضاحية للقانون المدني: ص65، تكوين الروابط العقدية فيما بين الغائبين، للدكتور صلاح الدين زكي: ص207، وما بعدها.
(2)
المذكرة الإيضاحية للقانون المدني: ص65، تكوين الروابط العقدية فيما بين الغائبين، للدكتور صلاح الدين زكي: ص207، وما بعدها.
(3)
القانون المدني ومجموعة الأعمال التحضيرية 2/53، 54.
(4)
المذكرة الإيضاحية للقانون المدني: ص65، تكوين الروابط العقدية فيما بين الغائبين، للدكتور صلاح الدين زكي: ص207، وما بعدها.
(5)
الوسيط: 1/238، النظرية العامة للالتزام وفقًا للقانون الكويتي للدكتور عبد الحي حجازي: 1/650، 684.
والذي يدعو إلى بحث هذه الأمور في القانون هو أن لتحديد مكان العقد أهمية بالنسبة لمعرفة القانون الواجب التطبيق على التصرفات ذات العنصر الأجنبي هل هو قانون بلد الموجب أو قانون بلد القابل (1) .
وفي هذا يقول السنهوري: تقضي قواعد القانون الدولي الخاص بأن القانون الذي يخضع له العقد هو القانون الذي أراده المتعاقدان وفقًا لنظرية سلطان الإرادة، ويكون هذا القانون عادة هو قانون الجهة التي تم فيها العقد، فإذا تم عقد بين شخصين وكان من صدر منه الإيجاب موجودًا في مصر وعلم بالقبول فيها ومن صدر منه القبول كان موجودًا في فرنسا وقت صدور القبول فإن العقد يخضع للقانون المصري إذا أخذنا بمذهب العلم. ويخضع للقانون الفرنسي إذا أخذنا بمذهب الإعلان، وإن الأخذ بأي المذهبين في تحديد المكان يحدد الزمان كذلك (2) .
أما بالنسبة للمسالة الثالثة وهي: مدى التزام الموجب بالإيفاء على إيجابه، فقد نصت المادة (48) من القانون المدني الكويتي ويجري نصها:
1-
(إذا حصل الإيجاب بالمراسلة بقي طوال الفترة التي يحددها الموجب لبقائه، فإن لم يحدد الموجب لذلك مدة التزام بالإيفاء على الإيجاب طوال الفترة التي تقتضيها ظروف الحال لوصوله للموجب له وإبداء رأيه فيه ووصول القبول إلى الموجب.
2-
ويسقط الإيجاب إذا لم يصل القبول إلى الموجب في الفترة المعقولة التي تقتضيها ظروف الحال، ولو صدر من الموجب له في وقته المناسب) .
(1) مصادر الالتزام في القانون المدني الكويتي للدكتور عبد الفتاح عبد الباقي: ص138.
(2)
الوسيط: 1/244.
وتقول المذكرة الإيضاحية في هذا:
وهذه وإن كان يمكن الوصول إلى بيان الحكم فيها عن طريق الاستنتاج من الفقرة الثانية من المادة (41) من المشروع، إلا أنه من المفيد أن يخصها التشريع بالذكر لإقامة معيار يحدد على أساسه فترة بقاء الإيجاب ملزمًا.
عندما لا يحدد الموجب لإيجابه ميعادًا صريحًا، وقد أقام المشرع لذلك معيارًا مرنًا قوامه الفترة المعقولة التي تقتضيها ظروف الحال لوصول الإيجاب للموجب له. وإبداء هذا رأيَه فيه ثم وصول قبوله للموجب إذا قدر له أن يكون.
وتعرض الفقرة الثانية من المادة (48) للحالة التي يصدر فيها القبول في وقت مناسب، بمعنى أن يجيء في وقت تسمح فيه الظروف بحسب المألوف بوصوله إلى الموجب خلال الفترة المعقولة التي يبقى فيها إيجابه قائمًا ولكنه مع ذلك يتأخر في وصوله لسبب أو لآخر إلى ما بعد فوات تلك الفترة، وهي هنا ترخص للموجب أن يعتبر إيجابه مرفوضًا إذ إنه أولى بالقابل أن يتحمل تبعة ذلك التأخير دونه.
والمادة (41) من القانون التي أحالت عليها المذكرة الإيضاحية يجري نصها:
(1- للموجب خيار الرجوع في إيجابه طالما لم يقترن به القبول.
2-
ومع ذلك، إذا حدد الموجب ميعادًا للقبول، أو اقتضت هذا الميعاد ظروف الحال أو طبيعة المعاملة، بقي الإيجاب قائمًا طوال هذا الميعاد وسقط بفواته) .
تقرر المذكرة الإيضاحية لهذه المادة سندها من الفقه الإسلامي والتقنيات الأخرى فتقول: وتعرض المادة (41) للأثر المترتب على الإيجاب وتتنازع هذا الحكم في القانون المقارن فكرتان:
تقوم أولاهما على التزام الموجب بإيجابه، فتحرمه من الرجوع فيه ما لم يتضمن ما يَنُمُّ عن قصده في الاحتفاظ بحقه في ذلك.
أما الفكرة الثانية فلا تضفي على الإيجاب في ذاته صفة الإلزام وتخول بالتالي لصاحبه أن يرجع فيه طالما لم يقترن به بعْدُ قبول، وهذه الفكرة هي التي تسود في الغالبية الكبرى من القوانين المعاصرة ومنها قانون التجارة الكويتي الحالي.
وهي الفكرة التي تسود أيضًا في الفقه الإسلامي حيث يثبت للموجب ما يطلق عليه الفقهاء (خيار الرجوع) ، وقد أخذت بها المجلة في المواد من (182 – 185) .
وذهب رأي في المذهب المالكي يقول بلزوم الإيجاب على صاحبه حتى إنه إذا رجع فيه وصدر مع ذلك القبول في مجلس العقد انعقد العقد (1) . وقد آثر المشرع أن يأخذ بمبدأ عدم لزوم الإيجاب على صاحبه لما فيه من التيسير عليه، بمنحه فرصة التحلل من العقد إذا أصبح عنه راغبًا (2) .
وتنص المادة (93) من القانون المدني المصري على هذه الأحكام مع فارق بسيط في الصياغة حيث يجري نصها:
(1- إذا عين ميعاد للقبول التزم الموجب بالبقاء على إيجابه إلى أن ينقضي هذا الميعاد.
2-
وقد يستخلص الميعاد من ظروف الحال أو من طبيعة المعاملة (3) ، ويقابل هذه المادة (84) في القانون المدني العراقي.
(1) الحطاب: 4/240.
(2)
المذكرة الإيضاحية: 56، 57.
(3)
القانون المدني المصري ومجموعة الأعمال التحضيرية: 2/36، وانظر مصادر الالتزام، د. عبد الفتاح عبد الباقي: ص113.
المبحث الثاني
في التعاقد عن طريق الهاتف واللاسلكي
وما يشبههما من وسائل الاتصال الأخرى
لا نخالف الحقيقة إن قلنا: إن الشيخ أحمد إبراهيم هو أول من تصدّى لبحث حكم التعاقد بالتليفون وبواسطة الراديو، وكان بحثه المنشور في مجلة القانون والاقتصاد المرجع الوحيد عند وضع القانون المدني المصري الجديد، كما يبين من الأعمال التحضيرية لهذا القانون.
وقد جاء في المشرع التمهيدي للقانون المدني المصري مادة برقم (140) ونصها: (يعتبر التعاقد بالتليفون أو بأية طريقة مماثلة كأنه تم بين حاضرين فيما يتعلق بالزمان وبين غائبين فيما يتعلق بالمكان) .
وجاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي:
لا يثير التعاقد بالتليفون أو بأية وسيلة مماثلة صعوبة إلا فيما يتعلق بتعيين مكان انعقاد العقد فشأنه من هذه الناحية شأن التعاقد بين الغائبين الذين تفرقهم شُقَّةُ المكان ولذلك تسري عليه أحكام المادة السابقة الخاصة بتعيين مكان التعاقد بين الغائبين، ويعتبر التعاقد بالتليفون قد تم في مكان الموجب إذا فيه يحصل العلم بالقبول ما لم يُتَّفق على خلاف ذلك.
أما فيما يتعلق بزمان انعقاد العقد فالتعاقد بالتليفون لا يفترق عن التعاقد بين الحاضرين، لأن الفارق الزمني بين إعلان القبول وبين علم الموجب به معدوم أو هو في حكم المعدوم، فليس للتفرقة بين وقت إعلان القبول ووقت العلم به أية أهمية علمية لأنهما شيء واحد، وتفريعًا على ذلك يعتبر التعاقد بالتليفون تامًّا في الوقت الذي يعلن فيه من وُجِّه إليه الإيجاب قبولَه، وهذا الوقت بذاته هو الذي يعلم فيه الموجب بالقبول.
ويترتب على إعطاء التعاقد بالتليفون حكم التعاقد ما بين الحاضرين فيما يتعلق بزمان انعقاد العقد أن الإيجاب إذا وجه دون تحديد ميعاد لقبوله ولم يصدر القبول فور الوقت تحلل الموجب من إيجابه.
وهذه هي القاعدة المقررة في الفقرة الأولى من المادة (131) من المشروع بشأن الإيجاب الصادر من شخص إلى آخر بطريق التليفون أو بأي طريق مماثل (1) .
ولكن هذه المادة حذفتها لجنة المراجعة لوضوح حكمها.
(1) القانون المدني والأعمال التحضيرية: 2/52، 53، الوسيط للسنهوري: 1/239.
فقد قال الشيخ رحمه الله في بحثه بعنوان (العقود والشروط والخيارات)(1) : (وأما العقد بالتليفون فالذي يظهر أنه كالعقد مشافهة، مهما طالت الشُّقَّةُ بينهما، ويعتبر العاقدان كأنهما في مجلس واحد، إذ المعنى المفهوم من اتحاد المجلس أن يسمع أحدهما كلام الآخر ويتبينه وهذا حاصل في الكلام بالتليفون، كما هو مشاهد لنا، غاية الأمر أنه يحتمل الكذب وتصنع صوت الغير، لكن هذا قد يحصل في الرسالة والكتابة أيضًا.
وقد يحصل العقد بواسطة الراديو كما نقلت الصحف في هذه الأيام نبأ عقد زواج بين فتاة في بلاد السويد وفتى في أمريكا والمسافة بينهما (4200) كيلو متر، وكان ذلك بواسطة الراديو، وأقول إن القول فيه كالقول في التليفون) .
ويؤيد هذا ما قرره الشافعية من أن المتعاقدين لا يشترط فيهما قرب المكان ولا رؤية بعضهما في صحة العقد، وكذلك في ثبوت الخيار لهما في أحد الاحتمالين وقول المتولي أحد أئمة الشافعية.
جاء في المجموع شرح المهذب:
فرع: لو تناديا وهما متباعدان وتبايعا صح البيع بلا خلاف. وأما الخيار، فقال إمام الحرمين: يحتمل أن يقال لا خيار لهما، لأن التفرق الطارئ يقطع الخيار، فالمقارن يمنع ثبوته، قال: ويحتمل أن يقال يثبت ما داما في موضعهما فإذا فارق أحدهما موضعه بطل خياره، وهل يبطل خيار الآخر أم يدوم إلى أن يفارق مكانه، فيه احتمالان للإمام وقطع المتولي بأن الخيار يثبت لهما ما داما في موضعهما فإذا فارق أحدهما موضعه ووصل إلى موضع لو كان صاحبه في الموضع عُدَّ تفرقًا، حصل التفرق وسقط الخيار هذا كلامه. والأصح في الجملة ثبوت الخيار وأنه يحصل التفرق بمفارقة أحدهما موضعه وينقطع بذلك خيارهما جميعًا.
(1) مجلة القانون والاقتصاد، السنة الرابعة، العدد الخامس: ص656.
وسواء في صورة المسألة كانا متباعدين في صحراء أو ساحة أو كانا في بيتين من دار أو في صحن وصفة، صرح به المتولي، والله أعلم (1) .
وقد نص القانون المدني الكويتي في مادته رقم (50) من القانون المدني الكويتي: (يسري على حكم التعاقد بالتليفون وهي تقريبا نفس المادة التي كانت مقررة في مشروع القانون المدني المصري بتعديل طفيف وهذا نص المادة (50) من القانون المدني الكويتي: (يسري على التعاقد بطريق الهاتف أو بأي طريق مشابه حكم التعاقد في مجلس العقد بالنسبة إلى تمامه وزمان إبرامه، ويسري عليه حكم التعاقد بالمراسلة بالنسبة إلى مكان حصوله) .
وتوضح المذكرة الإيضاحية هذه المادة بقولها: تعرض المادة (50) لصورة ثالثة من صور التعاقد، وهي تلك التي يتم فيها التعاقد بطريق الهاتف أو أي طريق آخر مشابه، وسمة التعاقد بالهاتف أو ما يشبهه أن يتم بين شخصين غائبين أحدهما عن الآخر مكانًا، ولكنهما في حكم الحاضرين كلامًا، حيث أن كلًّا منهما يسمع عبارة الآخر فور إبدائها منها ومن أجل ذلك يعطي المشرع التعاقد الذي يتم على هذه الصورة حكم التعاقد بين الغائبين أي التعاقد بالمراسلة بالنسبة إلى مكان انعقاد العقد حيث يتحدد هذا المكان بذاك الذي يتكلم منه الموجب ويعطيه حكم التعاقد بين الحاضرين أو التعاقد في مجلس العقد بالنسبة إلى كيفية تمام العقد وزمان انعقاده. إذ إنه من الممكن اعتبار التعاقد بالهاتف في خصوص تمام إبرامه وزمانه في حكم التعاقد الحاصل في مجلس العقد (2) .
ومن هذا العرض نرى أن ما انتهى إليه القانون في اعتبار التعاقد عن طريق الهاتف في حكم التعاقد بين الحاضرين في انعقاد العقد وترتب آثاره عليه صحيح ومطابق للنظر الفقهي السديد.
وأما بالنسبة لمكان انعقاد العقد وبالتالي تحديد أي من القانونين يجب تطبيقه على واقعة النزاع هل هو قانون بلد الموجب أو قانون بلد القابل، فهذا له بحث خاص في الفقه الإسلامي يصلح أن يكون موضوعًا قائمًا بنفسه ويعرض في ندوة أخرى.
وهذا ما انتهى إليه النظر في هذا الموضوع الهامّ وتأتي أهميته باعتبار أنه من الموضوعات التي تزداد شيوعًا، وتمارس على نطاق واسع في محيط التعامل بين المشتغلين بأمور التجارة.
فلا بد من الوقوف على أحكام الفقه الإسلامي فيه، وقد ظهر بجلاء أن ما انتهى إليه نظر رجال القانون قد جاء متطابقًا مع النظر الفقهي. وما ذكره فقهاؤنا من مسائل وتفريعات.
والله سبحانه وتعالى هو الموفق وهو الهادي إلى السبيل الأقوم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
(1) المجموع: 9/181.
(2)
المذكرة الإيضاحية للقانون المدني: ص66.
خلاصة البحث
تناولت موضوع إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة في مبحثين:
اشتمل المبحث الأول على أحكام التعاقد بطريق الكتابة وما في حكمها مما استجد كالتلغراف والتلكس وما يشبههما.
وتضمن المبحث الثاني أحكام التعاقد عن طريق الهاتف واللاسلكي وما يشبههما.
واستعرضت في كل ما تقدم مذاهب الفقهاء ومصنفات المذاهب وما ورد فيها من مسائل افتراضية تصدق على المستجدات والمبتكرات في هذا العصر.
ثم تناولت أحكام التعاقد بهذه الآلات في التقنيات المعاصرة، وانتهى النظر في كل ما تقدم إلى تطابق ما أخذت به القوانين مع النظر الفقهي وهو جواز التعاقد بهذه الآلات وترتب الآثار التي تترتب على التعاقد بين المتعاقدين الحاضرين.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
الدكتور عبد الله محمد عبد الله
بحث
فضيلة الدكتور إبراهيم فاضل الدبو
الأستاذ بكلية الشريعة بجامعة بغداد
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد الأمين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وبعد:
يعتبر موضوع البحث هذا (حكم إجراء العقود بوسائل الاتصال الحديثة) من المواضيع المهمة في هذا العصر حيث يأتي تلبيةً لبيان حكم الشريعة الإسلامية في مسائل مهمة من حاجات المجتمع اليومية. ومن هذه المسائل المستجدة التي أصبحت واقعًا ملموسًا يتعامل بها الناس، تلك الوسائل التي جاد بها الفكر البشري حيث يسرت الاتصال بين أرجاء المعمورة فاختصرت المسافات الشاسعة وأصبح بمقدور الإنسان في الشرق أن يخاطب أخاه في الغرب في لحظات معدودة.
وقد استخدم الإنسان تلك الوسائل التي يسرت عليه الاتصال في أموره الخاصة والعامة. ومن بين تلك الأمور إجراء عقوده المالية والتجارية والشخصية أحيانًا.
وبما أن شريعتنا الغراء قد عُرِفت بشموليتها وصلاحيتها لكل زمان ومكان، لذا سأحاول من خلال بحثي هذا المتواضع بيان آراء فقهائنا الأعلام في حكم تلك العقود التي تجري عبر تلك الوسائل، كما أنني سأشير في هذا البحث إلى بيان موقف فقهاء القانون الوضعي في هذه المسائل.
والله أسأل أن يجعل عملي هذا خالصًا لوجهه الكريم ومنه أستمد العون.
إنه حسبي ونعم الوكيل.
العقد لغة:
يطلق العقد في اللغة على عدة معان، وكلها تعني الربط الذي هو نقيض الحل. جاء في تاج العروس:(عقد الحبل بعقده عقدًا فانعقد، شدَّه، والذي صرح به أئمة الاشتقاق أن أصل العقد نقيض الحل)(1) .
وقال صاحب القاموس المحيط: (عقد الحبل شدَّه)(2) . وجاء في مختار الصحاح: (عقد الحبل والبيع والعهد فانعقد)(3)
والملاحظ على التعريف الأخير أن المعرّف جمع في تعريفه هذا بين الاستعمالين لكلمة عقد، الاستعمال الحسي الذي هو الربط كربط الحبل وبين الاستعمال المعنوي، وهو الربط بين الإيجاب والقبول في عقد البيع. كما أنه أدخل في التعريف الإطلاق الثالث لكلمة عقد الذي يراد به الضمان والعهد، يقال، تعاقد القوم بمعنى تعاهدوا، وهو أيضًا من قبيل الاستعمال المعنوي.
(1) تاج العروس للعلامة محمد مرتضى الزبيدي، مادة عقد.
(2)
القاموس المحيط لمجد الدين الفيروز آبادي، مادة عقد.
(3)
مختار الصحاح لمحمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، مادة عقد.
ولم ينفرد بهذا التعريف الشيخ الرازي، فالكثير من العلماء قد جمع بين المعنيين الحسي والمعنوي للفظ عقد، قال الزبيدي في معجمه:(عقدت الحبل فهو معقود وكذلك العهد ومنه عقد النكاح) .
وقد ذهب القرطبي إلى هذا الاستعمال أيضًا حيث قال: (العقود: الربوط، واحدها عقد، يقال: عقدت العهد والحبل وعقدت العسل فهو يستعمل في المعاني والأجسام)(1) .
قال الحطيئة:
قوم إذا عقدوا عقدًا لجارهم
العناج وشدوا فوقه الكربا
والعقد كما يذكر القرطبي يشمل ما عقده المرء على نفسه من بيع وشراء وغيرها من المعاوضات مما يتعلق به حق العباد ويشمل عقود الإسقاطات أيضًا كالطلاق والعتاق، وكذا يشمل المناكحات. ويشمل ما عقده المرء على نفسه لله تعالى من الطاعات كالحج والصيام والاعتكاف والقيام وما أشبه ذلك (2)
وقد ذكر بعض المفسرين أن العقد حقيقة في الربط الحسي كربط الحبل ونحوه ومجاز في الربط المعنوي.
قال الجصاص: (إن العقد كان في أصل اللغة الشدّ ثم نقل إلى الأيمان والعقود، عقد المبايعات ونحوها)(3) .
وقال الآلوسي: (أصل العقود الربط محكمًا ثم تجوّز به عن العهد الموثق)(4) .
إلَاّ أن ما نقلناه عن كتب أهل اللغة يدل على إطلاق العقد على الربط المعنوي إطلاقًا حقيقيًّا، وهذا ما ذكره صاحب مختار الصحاح وغيره.
(1) الجامع لأحكام القرآن: 6/32.
(2)
انظر القرطبي في المصدر السابق أيضًا.
(3)
أحكام القرآن: 3/285.
(4)
تفسير روح المعاني: 6/48.
العقد في اصطلاح الفقهاء:
يطلق العقد في الشريعة بإطلاقين عامّ وخاص، فالمعنى العام، يراد به كل التزام تعهد الإنسان بالوفاء به سواء كان في مقابل التزام آخر كالبيع والشراء ونحوه أم لا، كالنذر والطلاق واليمين، وسواء كان التزامًا دينيًّا كأداء الفرائض والواجبات أم التزامًا دنيويًّا، قال أبو بكر الجصاص:(كل شرط شرطه إنسان على نفسه في شيء يفعله في المستقبل فهو عقد، وكذلك النذور وإيجاب القرب وما جرى مجرى ذلك)(1) .
ونقل ابن رجب الحنبلي عن بعض فقهاء المذهب إطلاق العقد على الطلاق والنذر (2)
ومن هنا يتضح لنا أن العقد بمعناه العام لا يشترط فيه تطابق إرادتين، بل يتحقق بإرادة منفردة كما رأيناه.
وفي هذا الخصوص يقول الأستاذ أحمد إبراهيم في مقال له في العقود والشروط والخيارات: (هل تسمى هذه التصرفات التي تتم بالإيجاب وحده من إعتاق وطلاق وإبراء ونحوها عقودًا، أو لا تسمى بذلك؟ لا شك في أنها عقود بالمعنى الأعم للعقد، إذ هي أمور وقعت في نفس الملتزم أولًا وعقد عليها نيته وعزم عليها عزمًا أكيدًا، ثم أبان عنها باللفظ أو بما يقوم مقامه)(3) .
على أن بعض الفقهاء المحدثين حرصوا على التمييز ما بين العقد والإرادة المنفردة من هؤلاء الأستاذ علي الخفيف حيث قال: (ومن هذا يتبين أن المناط في وجود العقد على وجه الإجمال هو التحقق من وجود إرادتي العاقدين وتوافقهما على إنشاء التزام بينهما بما يدل على ذلك من عبارة أو كتابة أو إشارة أو فعل
…
وعلى ذلك فالعقد عند الفقهاء لا يكون إلا بين طرفين ولا يكون بين طرف واحد، وإذا كان من طرف واحد لم يكن عقدًا وإنما يسمى التزامًا أو تصرفًا، وقد يسمى عقدًا تسمية لغوية) (4) .
(أما المعنى الخاص للعقد فهو الالتزام الذي لا يتحقق إلا من طرفين. وهذا المعنى هو المراد عند إطلاق الفقهاء لفظ العقد، فهم يعنون به صيغة الإيجاب والقبول الصادرة من متعاقدين، وهذا هو المعنى الشائع في كتبهم)(5) . قال ابن الهمام معقبًا على كلام صاحب الهداية: النكاح ينعقد بالإيجاب والقبول، أي ذلك العقد الخاص لا ينعقد حتى تتم حقيقته في الوجود بالإيجاب والقبول (6) . وعرفه ابن عابدين بقوله:(العقد مجموع إيجاب أحد المتكلمين مع قبول الآخر)(7) .
(1) أحكام القرآن: 3/285.
(2)
قواعد ابن رجب، القاعدة التاسعة والثلاثون.
(3)
نقلًا عن مصادر الحق للأستاذ السنهوري الهامش رقم (4) في 1/76، والبحث منشور في مجلة القانون والاقتصاد السنة الرابعة.
(4)
انظر أحكام المعاملات الشرعية: ص 138
(5)
انظر الأشباه والنظائر للسيوطي: ص318، والأشباه والنظائر لابن نجيم: ص336.
(6)
انظر فتح القدير: 3/9.
(7)
انظر رد المحتار على الدر المختار: 3/1.
وقال صاحب الروض النضير في تعريفه للعقد: (والقول المنعقد به البيع هو الإيجاب والقبول في مال مع شروط معتبرة)(1) .
وعرفه المرحوم محمد قدري باشا بقوله: (العقد هو عبارة عن ارتباط الإيجاب الصادر من أحد العاقدين بقبول الآخر على وجه يثبت أثره في المعقود عليه)(2) .
وهذا التعريف من وجهة نظري وافٍ بالغرض، لذا يكون هو المختار عندي.
العقد في القانون الوضعي:
جاء تعريف العقد على لسان بعض رجال القانون بما يشبه تعريف الفقهاء له، فقد عرفه المرحوم منير القاضي بقوله:(هو ارتباط الإيجاب بالقبول على وجه يثبت أثره في المعقود عليه)(3) . وقال عنه في عبارة أخرى: (هو اتفاق إرادتين على إنشاء التزام أو على نقله) .
وقد نحا المقنن في العراق منحى المجلة ومنحى مرشد الحيران في تعريفه للعقد، فقد نص في المادة (73) من القانون المدني على أن (العقد هو ارتباط الإيجاب الصادر من أحد العاقدين بقبول الآخر على وجه يثبت أثره في المعقود عليه) .
وقد فرق بعض فقهاء القانون بين لفظي الاتفاق والعقد، فقالوا:(الاتفاق هو توافق إرادتين أو أكثر على إنشاء التزام أو نقله أو إنهائه)(4) . وعرفوا العقد بما هو أخص من الاتفاق، فقالوا عنه:(هو توافق إرادتين على إنشاء التزام أو نقله)(5)
فعلى هذا الرأي يكون الاتفاق أعم من العقد. ولم يفرق البعض الآخر منهم بين الاتفاق والعقد، بل جعله بمعنى واحد، ومن هذه التعريفات ما ذكره الأستاذ جميل الشرقاوي حيث قال:(إن العقد هو توافق أو ارتباط بين إرادتين أو أكثر بقصد تحقيق آثار قانونية معينة، هذه الآثار قد تكون إيجاد التزامات على كل أو بعض أطراف العقد، وقد تكون الآثار المقصودة هي تعديل التزامات موجودة من قبل أو إنهائها أو نقلها)(6) .
(1) انظر: 3/426.
(2)
انظر المادة (168) من مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان وهو فقه مقنن في المعاملات الشرعية على مذهب أبي حنيفة رحمه الله.
(3)
انظر شرح المجلة: 1/11.
(4)
نظرية العقد للأستاذ السنهوري: ص79.
(5)
نظرية العقد للأستاذ السنهوري: ص80.
(6)
النظرية العامة للالتزام: 1/47 نقلًا عن الأستاذ محمد عقله في بحثه حكم إجراء العقود بوسائل الاتصال الحديثة.
والفرق بين تعريف الفقه الإسلامي للعقد والقانون الوضعي الذي لم يحذ حذو فقهاء المسلمين في تعريفه له هو:
(أ) إن تعريف الفقهاء المسلمين ينم عن النزعة الموضوعية، حيث ركز على أداة التعبير عن الإرادة ووسيلتها، وهي الإيجاب والقبول. أما التعريف القانوني فتظهر فيه النزعة الذاتية، حيث ركز على الإرادتين مما يوافق نظرية الإرادة الباطنة.
(ب) إن التعريف الفقهي يعرف العقد بواقعته الشرعية وهي الارتباط الاعتباري الذي يقدر الشارع حصوله بين الطرفين، أما التعريف القانوني فيعرفه بواقعته المادية وهي الاتفاق أو تلاقي الإرادتين (1) .
(ج) كما أن هناك فرقًا بين مفهوم العقد في الفقه الإسلامي وبين مفهومه في القوانين الوضعية، فهو يطلق عند الفقهاء كما رأينا بإطلاقين أحدهما عام يشمل التصرفات التي تنشأ بإرادة منفردة أو بتطابق إرادتين، وآخر خاص، يقتصر على المعنى الثاني – تطابق الإرادتين. أما في القوانين الوضعية التي لم تستمد أصولها من الشريعة الإسلامية، فنجدها تأخذ بالمعنى الخاص للعقد، وهو المعنى المراد عند إطلاق الفقهاء له كما ذكرنا.
ومن هنا يتبين لنا ميزة تعريف الفقهاء المسلمين للعقد على نظيره في القوانين الوضعية.
أركان العقد:
لا يتحقق العقد إلا بوجود أركانه الثلاثة، هي الصيغة والعاقدان والمعقود عليه. قال الدردير المالكي:(وأركان البيع ثلاثة: الصيغة والعاقدان وهما البائع والمشتري والمعقود عليه وهو الثمن والمثمن)(2) .
وقال البهوتي الحنبلي: (للبيع ثلاثة أركان؛ عاقدان ومعقود عليه وصيغة)(3) .
وقال الخطيب الشربيني الشافعي: (وأركانه – البيع – ثلاثة، وهو بائع ومشتر ومعقود عليه وهو ثمن ومثمن وصيغة وهي إيجاب وقبول)(4) .
(1) الأستاذ السنهوري في مصادر الحق: 1/77.
(2)
انظر الشرح الكبير: 3/2.
(3)
كشاف القناع: 3/146.
(4)
انظر مغني المحتاج: 2/3.
وقد اقتصر الأحناف على ذكر الإيجاب والقبول عند كلامهم عن أركان العقد، من ذلك ما قاله الكاساني:(وأما ركن النكاح فهو الإيجاب والقبول)(1) . وقال ابن الهمام: (البيع ليس إلا الإيجاب والقبول لأنهما ركناه)(2) .
وما قاله الحنفية من اعتبار الصيغة ركن العقد يقتضي بالضرورة وجود الركنين الآخرين عند غيرهم، إذ لا يتصور تحقق الإيجاب بدون موجب ولا قبول بغير قابل، كما أن الإيجاب والقبول يقتضي وجود محل يجري التعاقد عليه.
وما جاء في بعض كتبهم يشير إلى هذا أيضًا، فقد ذكر ابن عابدين وهو حنفي المذهب عند كلامه عن النكاح أنه ينعقد بالإيجاب والقبول، ثم عقب في حاشيته على ذلك بقوله: ليس العقد الشرعي مجرد الإيجاب والقبول ولا الارتباط وحده، بل هو وجود شرعي وحسي، فالوجود الشرعي الحسي يقتضي وجود صيغة تتمثل بالإيجاب والقبول يرتبطان ارتباطًا حكميًّا ينتج عنه معنى شرعي، وهو الأثر الذي يترتب عليه الإيجاب والقبول (3) .
وجاء في المادة (267) من مرشد الحيران وهو فقه حنفي مقنن كما ذكرنا ما نصه: (يشترط لتحقق كل عقد توفر ثلاثة أشياء، وهي العاقدان وصيغة العقد ومحل يضاف إليه) .
ومن هنا يتضح للمتتبع لأقوال الحنفية بخصوص اعتبار صيغة الإيجاب والقبول هي ركن العقد، هو اصطلاح لفظي فقط.
أركان العقد في القانون:
حذا المرحوم منير القاضي في شرحه للمجلة حذو فقهاء المسلمين في اعتبار العقد يتألف من أركان ثلاثة هي: العاقدان والصيغة الدالة على إرادة العاقدين، والشيء الذي يرد عليه العقد وهو المعقود عليه (4) .
(1) بدائع الصنائع: 3/1327.
(2)
انظر فتح القدير: 5/74.
(3)
حاشية رد المحتار على الدر المختار: 3/9.
(4)
انظر: 1/13.
صيغة العقد:
سبق وأن قلنا إن العقد عبارة عن ارتباط إرادتين في مجلس واحد، يسمى مجلس العقد، وإن هذا الارتباط ينبئ عن الرضا والاختيار اللذين يعتبران هما أساس العقد وركنه الذي لا يقوم بغيره (1) .
وبما أن الرضا أمر خفي ليس بالإمكان معرفته، أقام الشارع مقامه ما يدل عليه من قول أو فعل محسوس. وبهذا تكون الإرادة الظاهرة هي المظهر الخارجي للتعبير عن الإرادة الباطنة، فالإرادة الباطنة التي يعبر عنها بالرضا هي الركن الحقيقي للعقد، وإلى هذا تشير عبارات كثير من الفقهاء رحمهم الله تعالى.
قال ابن عرفه المالكي: (ينعقد البيع بما يدل على الرضا)(2) . وقال الخطيب الشربيني: (وإنما احتيج في البيع إلى الصيغة لأنه منوط بالرضا، لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [سورة النساء: الآية 29] . ولقوله صلى الله عليه وسلم : ((إنما البيع عن تراضٍ
…
)) ، ثم يضيف قائلًا: إن الرضا أمر خفي لا يطلع عليه فأُنيط الحكم بسبب ظاهر وهو الصيغة) (3) .
وحكى ابن عابدين عن بعض كتب المذهب، أن ركن البيع الفعل الدال على الرضا بتبادل المِلْكين من قول أو فعل (4) . وجاء في الروض النضير نقلًا عن بعض المحققين:(لما كان البيع وغيره من المعاملات بين العباد أمورًا مبنية على فعل قلبي وهو طيبة النفس ورضى القلب وكان ذلك أمرًا خفيًّا أقام الشرع القول المعبر عما في النفس مقامه وناط به الأحكام على ما اعتيد من إقامة الأمور الظاهرة المنضبطة مقام الحكم الخفية في تعليق الأحكام بها، واعتبر أن يصدر عن قصد من المتكلم بها فلم يعتبر بكلام الساهي ولا من سبقه لسانه ولا من الحاكي ولا من المكره ولا من الجاهل لمعانيها بالكلية كالأعجمي حيث نطق بها بكلام عربي لا يعرف معناه أصلًا ونحو ذلك)(5) .
(1) الرضا عند الحنفية عبارة عن امتلاء الاختيار، أي بلوغه نهايته، بحيث يفضي أثره إلى الظاهر من ظهور البشاشة في الوجه ونحوها. وأوجزه بتعريف آخر قالوا فيه: الرضا هو إيثار الشيء واستحسانه. انظر كشف الأسرار عن أصول البزدوي لعبد العزيز البخاري: 4/382، حاشية ابن عابدين على الدر المختار: 4/507. وعرفه الجمهور بأنه قصد الفعل دون أن يشوبه إكراه، انظر الخرشي على سيدي خليل: 5/9، ابن حجر في تحفه المحتاج: 4/229، المرداوي في الإنصاف: 4/265. أما الاختيار فعرفه الأحناف بقولهم: (إنه القصد إلى أمر متردد بين الوجود والعدم داخل قدرة الفاعل بترجيح أحد الأمرين على الآخر)، ولخًَّصُوه بتعريف آخر جاء فيه:(هو القصد إلى الشيء وإرادته) . فالمكره على الشيء يختاره ولا يرضاه. انظر البخاري وابن عابدين في المصدرين السابقين. وعرفه غير الحنفية من الفقهاء بقولهم: الاختيار هو القصد إلى الفعل وتفضيله على غيره بمحض إرادته، فهو في هذه الحالة ينافي الإكراه. انظر الحطاب في مواهب الجليل: 4/245، البهوتي في كشاف القناع: 2/5، الدكتور علي محيي الدين القره داغي في رسالته مبدأ الرضا في العقود: 1/192.
(2)
انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 3/2.
(3)
انظر مغني المحتاج: 2/3.
(4)
انظر حاشية رد المحتار على الدر المختار: 4/504.
(5)
انظر: 3/426.
ويقول الشيخ مصطفى الزرقا: (إن النطق باللسان ليس طريقًا حتميًّا لظهور الإرادة العقدية بصورة جازمة في النظر الفقهي بل النطق هو الأصل في البيان، ولكن قد تقوم مقامه كل وسيلة اختيارية أو اضطرارية مما يمكن أن يعبر عن الإرادة الجازمة تعبيرًا كاملًا مفيدًا)(1) .
يتضح لنا مما مضى أن صيغة العقد تعني ما يظهر حقيقة رغبة المتعاقدين في إنشاء العقد، سواء كان هذا التعبير باللفظ أو بالفعل أو بما سواهما، وهذه الصيغة اصطلح الفقهاء على تسميتها بالإيجاب والقبول.
وقد نحا رجال القانون الوضعي منحى فقهاء المسلمين في اعتبار الإرادة الظاهرة هي المظهر الخارجي للتعبير عن الإرادة الباطنة، وإن ما يدل عليها من قول أو فعل هو ركن العقد والصيغة التي ينشأ بها. واصطلحوا على تسمية هذه الصيغة بالإيجاب والقبول كما سيتضح لنا ذلك فيما بعد.
معنى الإيجاب والقبول في الاصطلاح:
لما كان الإيجاب والقبول هما الصيغة المعتمدة لإبرام أي عقد من العقود باعتبارهما الأداة الكاشفة لحقيقة ما يكنّه المتعاقدان، أصبح من اللازم بحث حقيقة هذين اللفظين وبأي شيء يتحقق كل منهما.
الإيجاب لغةً: الإثبات لأي شيء كان.
وشرعًا، عند الحنفية (هو الفعل الخاص الدال على الرضا الواقع أولًا سواء وقع من البائع كبعت أو من المشتري كأن يبتدئ المشتري فيقول اشتريت منك هذا بألف، والقبول الفعل الثاني)(2) .
هل الترتيب شرط بين الإيجاب والقبول؟
لقد تبين لنا من خلال تعريف الحنفية للإيجاب والقبول أنهم يعتبرون فعل العاقد الأول هو الإيجاب سواء صدر من المملك وهو البائع أو من المملك إليه وهو المشتري، معنى هذا أنهم يشترطون صدور الإيجاب أولًا من الجهة المالكة للمبيع. وهذه وجهة نظر الشافعية أيضًا، ذكر ذلك النووي عند كلامه عن صيغة العقد حيث قال: يصح البيع سواء تقدم قول البائع: بعت أو قول المشتري: اشتريت (3) . وقال الخطيب الشربيني: (ويجوز تقدم لفظ المشتري على لفظ البائع لحصول المقصود مع ذلك)(4) . إلا أنه بعد ذلك ذكر أن الإمام الشافعي والقفال، اشترطا في صيغة العقد الترتيب بين الإيجاب والقبول، ومنعا تقدم القبول على الإيجاب.
(1) انظر المدخل الفقهي العام: 2/326.
(2)
ابن الهمام في فتح القدير: 5/74.
(3)
انظر الروضة: 3/236.
(4)
انظر مغني المحتاج: 2/4.
غير أن الشربيني رد على هذا الاعتراض، وذلك من خلال قولهما بعدم اشتراط الترتيب بين الإيجاب والقبول في النكاح، حيث أجاز الوكيل الزوج أن يبادر أولًا فيقول للوليّ: قبلت نكاح فلانة منك لفلان، يعني موكله، فيقول الولي: زوجتها فلانًا، فعقد النكاح صحيح في هذه الحالة، وقياسه أنه يجوز مثل ذلك في البيع أيضًا (1) .
وهذه وجهة نظر المالكية أيضًا، فقد ذكر ابن عرفة، أنه كما ينعقد البيع بالمعاطاة، ينعقد كذلك بتقدم القبول من المشتري على إيجاب البائع (2) . وإلى هذا ذهب الحنابلة أيضًا، ذكر ذلك ابن النجار قائلًا:(وصح تقدم قبول – على إيجاب – بلفظ أمر أو ماضٍ مجرد عن استفهام ونحوه)(3) .
فعلى هذا تكون آراء الفقهاء المتقدمة مطبقة على جواز تقدم القبول على الإيجاب، وأن ذلك لا يؤدي إلى أي خلال في العقد، لأن العبرة بالمعنى وإفادة المقصود وذلك حاصل في حالة تقدم الإيجاب على القبول أو العكس.
رأي القانون في الإيجاب والقبول:
ذكر الأستاذ منير القاضي في شرحه للمجلة أن الإيجاب معناه الإثبات (وهو أول كلام يصدر من أحد العاقدين بخصوص العقد فهو يريد إثبات العقد بانضمام قبول الثاني) . كما يعرّف القبول، بأنه الرغبة والرضا، وهو ما يصدر من العاقد ثانيًا، ومجموع الإيجاب والقبول، يسمى (صيغة العقد)(4) .
والتعريف كما هو واضح يتفق مع تعريف فقهاء المسلمين للإيجاب والقبول كما رأينا.
وقد نحا المقنن العراقي منحى فقهاء المسلمين والمجلة في تعريفه للإيجاب والقبول، حيث نص في الفقرة الأولى من المادة (77) من القانون المدني على ما يلي:(1- الإيجاب والقبول، كل لفظين مستعملين عرْفًا لإنشاء العقد، وأي لفظ صدر أولًا فهو إيجاب والثاني قبول) .
وكذلك جارى المقنن العراقي فقهاء المسلمين فيما ذهبوا إليه عندما أجاز تقدم القبول على الإيجاب ولم يشترط الترتيب بينهما، واعتبر اللفظ الصادر أولًا هو الإيجاب سواء صدر من البائع أو المشتري، كما هو الملاحظ من النص السابق.
(1) انظر مغني المحتاج: 2/5.
(2)
انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 3/3.
(3)
انظر منتهى الإرادات: 1/338.
(4)
انظر: 1/13.
شروط الإيجاب والقبول:
من أجل اعتبار الأثر المترتب على الإيجاب والقبول واستكمال العقد لصيغته النهائية يشترط فيهما ما يلي:
1-
العلم بمضمون العقد:
وذلك بأن يسمع كل من المتعاقدين كلام صاحبه فيما لو تمّ التعاقد بينهما شفاهًا، أو يقرأه الطرف المرسل إليه الكتاب إذا كان العقد مما ينعقد بها، أو يرى الإشارة المفهمة من الأخرس.
وأن يفهم كذلك العاقد قصد الطرف المقابل ، فيفهم الطرف المقابل قصد لموجب في إنشاء العقد وإيجابه وما يترتب على هذا الإيجاب ، وكذا يفهم الموجب قصد القابل في رضاه لما أوجبه (1)
وهذا الشرط أمر بديهي، لأن الجهل بالعقد لا يتحقق معه القصد والرغبة في إنشاء العقد، وبدونهما تنعدم الفائدة من إبرامه.
2-
موافقة القبول الإيجاب:
وهذا الشرط أيضًا ضروري لصحة إنشاء العقد، لأنه لا يتم إلا عن توافق الإرادتين، فلو انعدم التوافق بينهما لم يحقق العقد غرضه فلا فائدة في إنشائه، وفي هذا يقول النووي:(يشترط موافقة القبول الإيجاب، فلو قال: بعت بألف صحيحة، فيقال: قبلت بألف قراضة أو بالعكس، أو قال: بعت جميع الثوب بألف، فقال: قبلت نصفه بخمسمائة لم يصح)(2) .
ويعتبر من قبيل تطابق الإرادتين وتوافق الإيجاب والقبول ما إذا كان الخلاف جزئيًّا وليس حقيقيًّا في الصيغة، مثال ذلك: ما إذا قال البائع للمشتري: بعتك هذا الكتاب بدينار، فقال المشتري: قبلته بدينارين مثلًا.
ولم يعتبر الفقهاء الذين ذكروا هذه المسألة الخلاف بين الإيجاب والقبول خلافًا فاحشًا يؤدي إلى إلغاء العقد (3) .
(1) انظر الأستاذ محمد عقلة في بحثه حكم إجراء العقود بوسائل الاتصال الحديثة
(2)
انظر الروضة: 3/340.
(3)
انظر النووي في المصدر السابق وابن الهمام في فتح القدير: 5/77.
3-
عدم الفصل بين الإيجاب والقبول:
مما اشترطه العلماء رحمهم الله تعالى في صيغة العقد، هو عدم الفصل بين لفظي الإيجاب والقبول بفاصل، لأن وجود الفاصل بينهما، يعني الانصراف عن العقد والدليل على عدم الإرادة الجازمة في إبرامه، قال النووي:(يشترط أن لا يطول الفصل بين الإيجاب والقبول وأن لا يتخللهما كلام أجنبي عن العقد، فإن طال أو تخلل، لم ينعقد سواء تفرقا عن المجلس أم لا)(1) .
4-
عدم الهزل في كلام العاقد:
من الشروط التي ينبغي تحققها في ركن العقد، أن يكون العاقد غير هازل في كلامه، لأن الهزل دليل على عدم الرغبة الصادقة في إبرام العقد.
5-
أن يكون كل من الإيجاب والقبول باتًّا منجزًا غير معلق على شرط ينافي مقتضى العقد أو مضافًا إلى زمن في المستقبل
فلو قال رجل لآخر: بعتك هذا العرض غدًا أو بعد أسبوع مثلًا، فلا يتم العقد في هذه الحالة، ذلك أن الأصل في عقود التمليكات أن يترتب عليها أثرها فورًا، فالتعليق على شرط أو الإضافة إلى زمن مستقبل يتنافى مع مقتضى العقد، فلم يصح (2) .
6-
اتحاد مجلس العقد:
من شروط صحة العقد اتحاد المجلس، والمقصود بذلك أن يكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد، فإن اختلف المجلس لا ينعقد، فلو أوجب أحد العاقدين البيع، فقام الآخر عن المجلس قبل القبول أو اشتغل بعمل آخر يوجب اختلاف المجلس، ثم قبل لا ينعقد (لأن القياس أن لا يتأخر أحد الشطرين عن الآخر في المجلس لأنه كما وجد أحدهما انعدم في الثاني من زمان وجوده، فوُجِد الثاني والأول منعدم فلا ينتظم الركن)(3) . إلا أن اعتبار ذلك كما يقول الكاساني يؤدي إلى انسداد باب البيع فتوقف أحد الشطرين على الآخر حكمًا وجعل المجلس جامعًا للشطرين مع تفرقهما للضرورة، وحق الضرورة يصير مقتضيًا عند اتحاد المجلس (4) .
(1) الروضة أيضًا: 3/340.
(2)
الأستاذ محمد عقلة في بحثه السابق.
(3)
بدائع الصنائع: 6/2992.
(4)
بدائع الصنائع: 6/2992.
7-
أن تكون صيغة الإيجاب والقبول بلفظ الماضي:
يؤثر فقهاء المسلمين صيغة الماضي لانعقاد العقد، لأنها تعتبر مظهرًا واضحًا للتعبير عن الإرادة في مرحلتها النهائية، الإرادة التي تجاوزت دور التردد والتفكير والمفاوضة والمساومة إلى دور الجزم والقطع والبت والحسم، أما غيرها من صيغ المضارع والأمر والاستقبال فلأنها تحتمل الحال والاستقبال، ولأن الصيغة لا بدّ من أن تتمحض للحال دون الاستقبال، كذلك وجب الرجوع في هذه الصيغة إلى الظروف والملابسات، فإن دلت الصيغة بطريق الاقتضاء على الحال انعقد العقد (1) .
وفي ذلك يقول الكاساني: إن الإيجاب والقبول قد يقع بصيغة الماضي وقد يقع بصيغة الحال، أما صيغة الماضي فيتم الركن بها، لأنها وإن كانت للماضي وضعًا لكنها اعتبرت إيجابًا للحال في عرف أهل اللغة والشرع، والعرف قاضٍ على الوضع.
ومثل صيغة الماضي ما إذا كان الإيجاب بلفظ الحال والقبول بلفظ الماضي كأن يقول البائع: خذ هذا الشيء بكذا، أو: أعطيتك بكذا، أو: هو لك بكذا، فيقول المشتري: قبلت، أو: رضيت، فالعقد يتم في هذه الحالة (لأن كل واحد من هذه الألفاظ يؤدي معنى البيع وهو المبادلة، والعبرة للمعنى لا للصورة)(2) .
وإذا كان الإيجاب والقبول بلفظ الحال، وكانت نية المتبايعين متجهة إلى إبرام العقد، فالركن يتم في هذه الحالة، مثال ذلك: إذا قال البائع: أبيعه منك بكذا وقال المشتري: أشتريه، ونويا الإيجاب فقد تم الركن أيضًا. وقد علل الكاساني سبب وجوب النية في هذه الصيغة وإن كانت صيغة أفعل للحال في الصحيح، لأنه غلب استعمالها للاستقبال إما حقيقة أو مجازًا فوقعت الحاجة إلى التعيين بالنية. (3) .
أما انعقاد البيع بصيغة الاستفهام، فلا تصح باتفاق الفقهاء، فلو قال رجل لآخر: أتبيعني هذه السلعة بكذا أو أبعتها مني بكذا، فأجابه الطرف الآخر بالقبول، لا يتم العقد ما لم يقل الطرف الأول وهو المشتري اشتريت (4) .
وهل ينعقد بصيغة الاستقبال وهي صيغة الأمر، بأن يقول المشتري للبائع: بع هذا الثوب مني بكذا، فيقول البائع: بعت، فعلى رأي الأحناف لا ينعقد البيع ما لم يقل المشتري: اشتريت، ومثل هذه الصيغة أيضًا في الحكم ما إذ قال البائع للمشتري: اشتر مني هذا الشيء بكذا، فقال: اشتريت، فلا ينعقد البيع أيضًا ما لم يقل البائع: بعت (5) .
(1) الأستاذ السنهوري في مصادر الحق: 1/85.
(2)
انظر الكاساني في البدائع: 6/2983.
(3)
انظر الكاساني في البدائع: 6/2983.
(4)
البدائع: 6/2983، ابن قدامة في المغني: 3/481.
(5)
الكاساني في البدائع أيضًا: 6/2984.
وإلى هذا ذهب الحنابلة في رواية عنهم (1) . وقال الشافعية بجواز العقد في هذه الحالة أيضًا، فقد حكى النووي عن الغزالي، أنه لو قال أحد المتبايعين: بعني، فقال: قد باعك الله أو: بارك الله لك فيه، فإن نوى المتعاقدان البيع، صح، وإلا فلا (2) . وبهذا قال المالكية أيضًا (3) . وهذه هي الرواية الثانية للحنابلة (4) .
وهذا ما أختاره، لأن النية هي المعتبرة في مثل هذه العقود، والله أعلم.
كيف يتم العقد؟
إذا أوجب أحد المتعاقدين العقد بالصيغة الدالة عليه على النحو الذي ذكرناه، كان للمتعاقد الآخر أن يقبل هذا الإيجاب إلى حين انفضاض المجلس، وهذا ما يسمى بخيار القبول.
ولما كان الموجب نفسه بالخيار أيضًا في رأي أكثر المذاهب (5) بين البقاء على إيجابه أو الرجوع عنه، فمعنى ذلك أن الإيجاب غير ملزم، وللموجب أن يرجع عن إيجابه قبل صدور القبول، وهذا ما يسمى بخيار الرجوع، فإذا انفض المجلس دون أن يصدر القبول، سقط الإيجاب. وإذا بقي الموجب على إيجابه، وصدر من المتعاقد الآخر قبل انفضاض المجلس قبول يطابق الإيجاب من جميع الوجوه، انعقد العقد (6) .
حكم التعاقد بغير صيغة لفظية:
قلنا فيما سبق: إن صيغة العقد تظهر حقيقة رغبة المتعاقدين في إبرام العقد وإن صيغة الماضي هي الصيغة المؤثرة عند فقهاء المسلمين لانعقاد العقد، ونريد أن نبين هنا حكم ما إذا أراد المتعاقدان أن يعبِّرا عن رغبتهما بغير صيغة لفظية، سواء كان ذلك بمحض اختيارهما كما في التعاطي أو اضطر أحدهما أو كلاهما لذلك كالإشارة بالنسبة للأخرس، أو المراسلة والكتابة بالنسبة للغائبين.
(1) انظر المغني: 3/481.
(2)
انظر الروضة: 3/339.
(3)
الخرشي على سيدي خليل: 5/6.
(4)
المغني: 3/481.
(5)
سنتكلم عن هذه الجزئية بالتفصيل بإذن الله.
(6)
انظر مصادر الحق: 2/5.
رأي الفقهاء في البيع بالمعاطاة:
اتجه الفقهاء في البيع بالتعاطي اتجاهين:
1-
ذهب أصحاب الاتجاه الأول إلى عدم صحة البيع بالمعاطاة هذا هو رأي الإمام الشافعي، جاء في الروضة:(المعاطاة ليست بيعًا على المذهب)(1) . وقال الفيروز أبادي: (ولا ينعقد البيع إلا بالإيجاب والقبول، فأما المعاطاة فلا ينعقد بها البيع)(2) .وبهذا قال الكرخي من الحنفية فيما لو كان المعقود عليه نفيسًا (3) .وحكى ابن قدامة عن القاضي الحنبلي مثل هذا الرأي أيضًا (4) . وبه قالت الزيدية والهادوية (5) .
2-
ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز البيع بالتعاطي، جاء في مختصر سيدي خليل المالكي:(ينعقد البيع بما يدل على الرضا وإن بمعاطاة)(6) . قال الخرشي معقبًا على ذلك: وينعقد البيع وإن كان ما يدل على الرضا أو الدال عليه معاطاة، كأن يعطي رجل لآخر الثمن فيعطيه المثمون من غير إيجاب ولا استيجاب (7) . وهذه وجهة نظر الأحناف ما عدا الكرخي، نص على ذلك صاحب الهداية حيث قال: ينعقد البيع بالتعاطي في النفيس والخسيس وهو الصحيح لتحقق المراضاة من المتعاقدين (8) ، وهذا ما نص عليه الإمام أحمد (9) . وبه قال بعض أئمة الشافعية أيضًا، وهو المختار عند النووي والمتولي والبغوي، لرجحان دليل جواز البيع بالمعاطاة من جهة، لأنه على حد تعبير صاحب الروضة، لم يصح في الشرع اشتراط لفظ، فوجب الرجوع إلى العرف كغيره من الألفاظ (10) .
ومن أبرز أدلة الجمهور على جواز البيع بالمعاطاة ما يلي:
(أ) أن الله قد أحلّ البيع ولم يبين كيفيته، فوجب الرجوع فيه إلى العرف، وعرف الناس جارٍ على هذا.
(ب) لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه مع كثرة تعاملهم بالبيع استعمال صيغة الإيجاب والقبول، ولو استعملوا ذلك في بياعاتهم، لنقل نقلًا شائعًا.
(ج) أن الناس يتبايعون في أسواقهم بالمعاطاة في كل عصر ولم ينكر عليهم أحد، فكان ذلك إجماعًا (11) .
والمرجح عندي رأي الجمهور لوجاهة أدلتهم ولما فيه من تيسير على الناس.
(1) انظر: 3/336.
(2)
انظر المهذب: 1/258.
(3)
انظر فتح القدير: 5/77.
(4)
انظر المغني: 3/481.
(5)
الروض النضير: 3/426.
(6)
انظر الخرشي على سيدي خليل: 5/5.
(7)
انظر الخرشي على سيدي خليل: 5/5.
(8)
انظر فتح القدير5/77.
(9)
انظر المغني: 3/480.
(10)
الروضة: 3/337.
(11)
ابن الهمام في فتح القدير: 5/77، ابن قدامة في المغني: 3/481.
البيع بالإشارة:
اتفق الفقهاء على أن إشارة الأخرس تقوم مقام لفظه، فإن لم تفهم إشارته أو جنّ أو أغمي عليه قام وليه من الأب أو وصية أو الحاكم مقامه.
قال النووي: (يصح بيع الأخرس وشراؤه بالإشارة والكتابة)(1) . وهذا ما نص عليها الفقهاء الآخرون (2) .
حكم التعاقد بالكتابة والمراسلة:
1-
ذهب جمهور العلماء إلى جواز ذلك، قال الكاساني:(والأصل أن أحد الشطرين من أحد العاقدين في باب البيع يتوقف على الآخر في المجلس ولا يتوقف على الشطر الآخر من العاقد فيما وراء المجلس بالإجماع إلا إذا كان عنه قابل أو كان بالرسالة أو الكتابة)(3) .
وقد دلل الكاساني على وجهة نظره هذه بما يلي:
(أ) فيما يخص المراسلة قال: إن الرسول سفير ومعبر عن كلام المرسل وناقل لكلامه إلى المرسل إليه، فكأنه حضر بنفسه فأوجب البيع وقبل الآخر في المجلس.
(ب) أما بالنسبة للكتابة، فإن خطاب الغائب لا يكون إلا بطريق الكتابة، وخطابه بمثابة حضوره بنفسه، فكأنه خاطب بالإيجاب وقبل الآخر في المجلس.
فعلى هذا لو أرسل رجل ببغداد رسولا إلى البصرة مثلًا قائلا للرسول: إني بعت داري التي في البصرة لفلان الغائب فاذهب إليه وأخبره بذلك، فذهب الرسول وبلغ الرسالة، فقال المشتري في مجلسه ذلك: قبلت، انعقد البيع. ومثل الرسالة في الحكم ما إذا أبرق له برقية أو كتب له رسالة يخبره ببيع داره أو سلعته المعينة، فقبل المخاطب، فالعقد يتمّ في هذه الحالة.
ولو خاطب ثم رجع قبل قبول الآخر، صح رجوعه، وكذا لو أرسل رسولا ثم رجع (لأن الخطاب بالرسالة لا يكون فوق المشافهة، وذا محتمل للرجوع فههنا أولى) سواء علم الرسول برجوع المرسل أو لم يعلم.
(1) انظر الروضة: 3/341.
(2)
انظر ابن قدامة في المغني: 3/485، الكاساني في البدائع: 6/2988، الخرشي: 5/5.
(3)
البدائع أيضًا: 6/2993.
إلا أنه في حالة تكذيب المرسل إليه، على المرسل إثبات ذلك بالبينة أو بأية وسيلة إثبات أخرى.
ومثل عقد البيع في الحكم عقد النكاح أيضًا، حيث يجوز عقده بالرسالة أو الكتابة، ويعتبر محل بلوغ الرسالة أو الكتابة هو مجلس العقد، إلا أنه ينبغي مراعاة الإشهاد في النكاح، إذ لا نكاح إلا بشهود. (1) .
وبجواز التعاقد بواسطة الكتابة والمراسلة قال الإمام الشافعي أيضًا، فقد ذكر النووي في الروضة، أن البيع ينعقد بالمكاتبة على رأي المذهب، لحصول التراضي (2) .
وذكر في موضع آخر قائلًا: لو أن رجلًا قال بعت داري لفلان وهو غائب، فلما بلغه الخبر، قال: قبلت، انعقد البيع، لأن النطق على حد تعبيره أقوى من الكتابة، وإذا قبل المكتوب إليه تثبت له خيار المجلس ما دام في مجلس القبول، ويتمادى خيار الكاتب أيضًا إلى أن ينقطع خيار المكتوب إليه، حتى لو علم أنه رجع عن الإيجاب قبل مفارقة المكتوب إليه مجلسه، صح رجوعه ولم ينعقد البيع (3) .
وكذا أجاز المالكية (4) . والحنابلة (5) التعاقد بالمكاتبة والمراسلة.
2-
ذهب بعض فقهاء الشافعية إلى عدم جواز التعاقد بالكتابة والمراسلة (6) . وهذا هو رأي الزيدية والهادوية (7)
والرأي المختار عندي هو رأي الجمهور الذي أجازوا فيه التعاقد بالكتابة والمراسلة لوجاهة أدلتهم من جهة ولما فيه من مصلحة وتيسير على الناس.
الصيغة التي يتم بها التعاقد في القانون:
نحا المقنن العراقي منحى فقهاء المسلمين عندما نص في الفقرة الثانية من المادة (77) من القانون المدني على انعقاد العقد بإيجاب وقبول بلفظ الماضي وبلفظ المضارع أو الأمر إذا أريد بهما الحال (8) .
وقد اعتبر المقنن المذكور صيغة الاستقبال التي هي بمعنى الوعد المجرد صيغة يصح التعاقد بها، والوعد ملزم في هذه الحالة إذا انصرف إلى ذلك قصد المتعاقدين، وهذا هو منطوق المادة (78) من القانون المدني العراقي التي نصت على ما يلي:(صيغة الاستقبال التي هي بمعنى الوعد المجرد ينعقد بها العقد وعدًا ملزمًا إذا انصرف إلى ذلك قصد العاقدين) .
والوعد ملزم ديانةً عند فقهاء المسلمين، أما قضاءً فهو محل خلاف بينهم على ما فصلته كتب الفقه (9) .
(1) الكاساني في البدائع أيضًا: 6/3994.
(2)
انظر: 3/338.
(3)
انظر: 3/338.
(4)
انظر الدردير في الشرح الكبير: 3/3.
(5)
انظر البهوتي في كشاف القناع: 3/148.
(6)
الروضة أيضًا: 3/339.
(7)
انظر الروض النضير: 3/426
(8)
ونص الفقرة كما يلي: (2- ويكون الإيجاب والقبول بصيغة الماضي كما يكونان بصيغة المضارع أو بصيغة الأمر إذا أريد بهما الحال) .
(9)
انظر بحثنا الوفاء بالوعد والمقدم إلى مجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة المنعقدة بالكويت. والمطبوع على الآلة الكاتبة.
رأي القانون في المتعاقد بغير المشافهة:
جارى المقنن العراقي فقهاء المسلمين عندما أجاز التعاقد بواسطة الكتابة والمراسلة والإشارة أو أية وسيلة أخرى تدل على رغبة المتعاقدين في التعاقد، بهذا قضت المادة (79) من القانون المدني والتي نصت على ما يلي:(كما يكون الإيجاب أو القبول بالمشافهة يكون بالمكاتبة وبالإشارة الشائعة الاستعمال ولو من غير الأخرس وبالمبادلة الدالة على التراضي وباتخاذ أي مسلك آخر لا تدع ظروف الحال شكًّا في دلالته على التراضي) .
واعتبر المقنن المذكور عرض البائع سلعته ووضع قائمة الأسعار بإزائها من قبيل الإيجاب، ويعتبر هذا من وجهة نظر الفقه الإسلامي من قبيل البيع بالتعاطي.
فقد نصت الفقرة الأولى من المادة (80) على أنه: (1- يعتبر عرض البضائع مع بيان ثمنها إيجابًا) .
أما الفقرة الثانية من المادة المذكورة فقد تطرقت إلى موضوع النشر والإعلان من قبيل التاجر لتجارته، فلا يعتبر مثل هذا التصرف إيجابًا عند الشك، بل يعتبر من قبيل الدعوة إلى التفاوض. ويفهم من ذلك أن الوسائل المذكورة تكون إيجابًا فيما لو انتفى الشك (1) .
خيار القبول في القانون!
وكما أعطى فقهاء المسلمين للمتعاقدين حق الخيار في تنفيذ العقد أو إلغائه بعد صدور الإيجاب إلى آخر المجلس، كذلك الأمر عند المقنن العراقي، فقد جارى الفقه الإسلامي في هذه المسألة في هذه المسألة وذلك بموجب المادة (82) من القانون المدني عندما نص فيها على ما يلي:(المتعاقدان بالخيار بعد الإيجاب إلى آخر المجلس، فلو رجع الموجب بعد الإيجاب وقبل القبول أو صدر من أحد المتعاقدين قول أو فعل يدل على الإعراض، يبطل الإيجاب ولا عبرة بالقبول الواقع بعد ذلك) .
وفيما لو تكرر الإيجاب من الموجب قبل قبول الطرف الثاني، فقد أبطل المقنن المذكور الإيجاب الأول واعتبر الثاني نافدًا، بهذا قضت المادة (83) من القانون المدني، ونصها كالآتي:(تكرار الإيجاب قبل القبول يبطل الأول ويعتبر فيه الإيجاب الثاني) .
والملاحظ أن المقنن العراقي لم يتطرق في المادة المذكورة، ولا في غيرها من مواد القانون المدني إلى موضوع خيار المجلس، الذي قال به الشافعية والحنابلة وأنكره المالكية والحنفية، مما يفهم منه رفض المقنن لفكرة خيار المجلس.
(1) ونص الفقرة كالآتي: (أما النشر والإعلان وبيان الأسعار الجاري التعامل بها وكل بيان آخر متعلق بعروض أو بطلبات موجهة للجمهور أو للأفراد فلا يعتبر عند الشك إيجابًا وإنما يكون دعوة إلى التفاوض) .
تطابق الإيجاب والقبول شرط لصحة العقد في القانون:
وكما اشترط فقهاء المسلمين تطابق الإيجاب والقبول لصحة العقد، اشترطه المقنن العراقي، أيضًا، حيث نص في المادة (85) من القانون المدني على ما يلي:(إذا أوجب أحد العاقدين يلزم لانعقاد العقد قبول العاقد الآخر على الوجه المطابق للإيجاب) .
وقد بين المقنن في المادة (86) الكيفية التي يتم بها تطابق الإيجاب والقبول، وذلك في فقرتين، نص في الأولى منهما على ما يلي:(1- يطابق القبول الإيجاب إذا اتفق الطرفان على كل الوسائل الجوهرية التي تفاوضا فيها، أما الاتفاق على بعض هذه المسائل فلا يكفي لالتزام الطرفين حتى لو أثبت هذا الاتفاق بالكتابة) .
أما الفقرة الثانية فقد تناولت حكم ما إذا اتفق الطرفان على جميع المسائل الجوهرية أثناء العقد واحتفظا بمسائل تفصيلية على أساس أن يتفقا عليها فيما بعد، ولم يشترط عند التعاقد بإلغاء العقد في حالة عدم الاتفاق على تلك المسائل، ففي هذه الحالة يرى المقنن نفاذ العقد.
وإذا نشب خلاف في المستقبل حول المسائل المسكوت عنها حين التعاقد، فالأمر يؤول إلى المحكمة لتقضي بها طبقًا لطبيعة الموضوع ولأحكام القانون والعرف والعدالة (1) .
مجلس العقد:
سبق وأن ذكرنا أن اتحاد المجلس شرط في إبرام العقد، والغرض من هذا الشرط، هو تحديد المدة التي يصح أن نفصل القبول عن الإيجاب حتى يتمكن من عرض الإيجاب من المتعاقدين أن يفكر في الأمر فيقبل الإيجاب أو يرفضه، ولو أردنا أن نشترط على الطرف المقابل القبول فورًا، لألحقنا به الضرر من جراء ذلك، إذ ربما لا يتهيأ له الوقت الكافي للتدبر.
وفكرة مجلس العقد في الفقه الإسلامي كما يقول عنها الأستاذ السنهوري (نظرية بلغت من الإتقان مدى كبيرًا لولا إغراقها في المادية، فلا يطلب من المتعاقد الآخر القبول فورًا بل له أن يتدبر بعض الوقت، ولكن من جهة أخرى لا يسمح له أن يمعن في تراخيه إلى حد الإضرار بالموجب وذلك بإبقائه معلقًا مدة طويلة دون الرد على إيجابه، فوجب إذن التوسط بين الأمرين، ومن هنا نبتت نظرية مجلس العقد)(2) .
(1) ونص الفقرة الثانية من المادة (86) كالآتي: (2- وإذا اتفق الطرفان على جميع المسائل الجوهرية في العقد واحتفظا بمسائل تفصيلية يتفقان عليها فيما بعد ولم يشترطا أن العقد يكون غير منعقد عند عدم الاتفاق على هذه المسائل فيعتبر العقد قد تم وإذا وقع خلاف على المسائل التي لم يتم الاتفاق عليها فالمحكمة تقضي فيها طبقًا لطبيعة الموضوع ولأحكام القانون والعرف والعدالة)
(2)
انظر مصادر الحق: 2/6.
حدود مجلس العقد:
يؤخذ مما قدمنا من أقوال الفقهاء رحمهم الله تعالى أن المجلس هو المكان الذي يضم المتعاقدين ويبدأ من وقت صدور الإيجاب ويستمر ما دام المتعاقدان منصرفين إلى التعاقد ولم يبديا إعراضًا عنه.
ويعتبر المجلس منفضًّا في حالة الإعراض كما قلنا وفي حالة قيام العاقد وتركه المكان الذي صدر فيه الإيجاب.
ويعتبر المجلس قد استنفد غرضه في حالة قبول أو رفض الطرف الثاني.
ولو انفض المجلس دون أن يقبل الطرف المقابل، فالإيجاب يعتبر لاغيًا في هذه الحالة ولا فائدة في قبول الطرف الآخر بعدئذ، فإن أفصح عن قبوله، عد قبوله إيجابًا مبتدأ يحتاج إلى قبول من الطرف الأول في مجلس الإيجاب المبتدأ.
والعلة الفنية في مجلس العقد كما يقول الأستاذ السنهوري: إن الأصل هو ألا يتوقف الإيجاب على وجود القبول، لأن وجود الأخير يعني انعدام الإيجاب من زمان وجوده، فوجد القبول، والإيجاب منعدم، ولكن لو أردنا أن نعتبر ذلك، لآل الأمر إلى سد باب التعاقد، فتوقف الإيجاب على القبول حكمًا في مجلس العقد، وجعل المجلس جامعًا للشطرين مع تفرقهما للضرورة (1)
تبدل مجلس العقد:
لقد تفرع عن الكلام عن مجلس العقد واعتبار اتحاده شرطًا في صحة العقد حكم ما لو تبدل مجلس العقد، كأن يكون الطرفان الراغبان في إبرام عقد من العقود راكبين في عربة أو سفينة أو سائرين على الأرض، فهل يعتبر المتعاقدان في مثل هذه الحالة في مجلس واحد، وبالتالي ينطبق عليهما من الأحكام ما ينطبق على غيرهما ممن يضمهما مجلس واحد؟
الجواب على هذا: إن فقهاء الحنفية قد صوروا مجلس العقد تصويرًا ماديًّا عندما اعتبروا فيه وحدة المكان، فالمجلس، على رأيهم يتبدل بالمشي، لأن الإيجاب وقع في مكان ثم وقع القبول في مكان آخر حيث انتقل المتعاقدان خطوة عن المكان الأول الذي تمَّ فيه الإيجاب، والخطوة هذه تعتبر فاصلًا بين الإيجاب والقبول، فعليه لا يعتبر العقد مستكملًا شروطه في هذه الحالة، فلا ينعقد. وكذا الحال في السير على الدابة، وفي الوقوف ثم المشي أو السير، وتختلف السفينة عندهم عن الدابة من جهة أن المجلس لا يتبدل بجريان السفينة، لأن الماء هو السبب في تحريك السفينة ولا دخل للفرد في ذلك، والمتعاقدان لا يملكان إيقافها بعكس الدابة.
فعلى هذا الرأي يتبدل المجلس بالنسبة للراكبين على الدابة ولا يتبدل بالنسبة للراكبين على ظهر السفينة.
ويتبدل المجلس كذلك بالمضي في الصلاة أو في الشرب أو في الأكل أو في نوم المتعاقدين مضطجعين لا جالسين (2) .
اعتراض الأستاذ السنهوري على تحديد مجلس العقد بوحدة المكان:
أثار المرحوم السنهوري اعتراضًا حول تحديد الحنفية مجلس العقد بالمكان دون أن ينظروا إليه من الناحية الزمنية، حيث قال: أليس الأولى أن ننبذ الوحدة المكانية والاستعاضة عنها بالوحدة الزمنية؟ (3) .
(1) انظر مصادر الحق 2/7.
(2)
الكاساني في البدائع 6/2993.
(3)
انظر مصادر الحق: 2/14.
فعلى هذا الرأي نجعل مجلس العقد ممتدًّا مدة الزمن الذي يظل فيه المتعاقدان مشتغلين بالتعاقد سواء برحا في مكانهما أو غادراه، فإذا اشتغل كلاهما أو أحدهما بشيء آخر وأعرض عن الكلام في العقد، فعندئذٍ نحكم بانقطاع المجلس واعتباره منفضًّا، ولا يحكم بانفضاضه فيما سوى ذلك حتى لو برحا هذا المكان. وعندئذٍ لا حاجة بنا إلى التمييز بين المشي والسير وبين سير الدابة وجريان السفينة، ثم لا نحتار بعدُ فيما استحدث من طرق المواصلات كالسير بقطار السكة الحديدية والسفر بالسفن بالبخارية وغير ذلك (1) .
والرأي الذي ذكره الأستاذ السنهوري وجيه من وجهة نظري لما ذكره من تعليل، والله أعلم.
الآثار المترتبة على نظرية مجلس العقد:
يترتب على القول بمجلس العقد الأحكام التالية:
* أولًا: أن يكون للطرف المخاطب بالإيجاب خيار القبول لحين انفضاض المجلس، فهو غير ملزم بالقبول، إذا لو ألزمناه بذلك، لآل الأمر إلى تجارة من غير تراضٍ وهذا لا يجوز.
* ثانيًا: أن يكون للطرف الموجب خيار الرجوع عن إيجابه إلى أن يصدر القبول أو ينفض المجلس، وهذا هو رأي جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية، والحنابلة (2) . وخالف المالكية حيث لم يجيزوا للموجب حق الرجوع (3) .
(1) انظر مصادر الحق: 2/14.
(2)
ابن الهمام في فتح القدير: 5/78، النووي في الروضة: 3/339، البهوتي في كشاف القناع: 3/147.
(3)
القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن، وقد جاء فيه ما نصه:(ولو قال البائع بعتك بعشرة ثم رجع قبل أن يقبل المشتري فقد قال – يعني مالكًا – ليس له أن يرجع حتى يسمع قبول المشتري أورده) ، انظر 3/357 الطبعة الثالثة، دار الكتب المصرية.
وقد دلل الجمهور على وجهة نظرهم هذه بما يلي:
(أ) أن الثابت للقابل بالإيجاب حق التملك في المعقود عليه، في حين أن الثابت للموجب حق الملك، وهو أقوى من حق التملك فيقدم عليه.
(ب) أن الالتزام لا يتحقق إلا إذا وجد العقد، والعقد لا يتم إلا بتطابق الإيجاب والقبول، فما لم يوجد قبول، لا يعتبر العقد موجودًا ومن ثَمَّ لا ينشأ التزام، ومن هنا جاز للموجب الرجوع عن إيجابه قبل القبول إذا لم يوجد بعد التزام يمنعه من الرجوع.
وقد احتج المالكية بقولهم: إن الموجب قد بذل ذلك من نفسه وأوجبه عليها، فليس من حقه الرجوع بعد ذلك.
ورأي الجمهور هو الراجح لوجاهة أدلتهم.
* ثالثًا: أن يعطى للمتعاقدين خيار المجلس وهذا الخيار يعني أن لكل عاقد الحق في فسخ العقد ولو بعد إبرامه ما داما في مجلس واحد، فإذا انفض المجلس بطل الخيار.
وخيار المجلس محل خلاف بين الفقهاء، فقد أثبته كثير من فقهاء السلف، منهم ابن عمر وابن عباس وسعيد بن المسيب وشريح والشعبي، وبه قال الشافعية والحنابلة (1)، مستدلين بالحديث الصحيح الذي رواه ابن عمر وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يفترقا وكان جميعًا أو يخيِّر أحدهما الآخر، فإن خيَّر أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع)) (2) .
(1) انظر النووي في الروضة 3/432، وابن النجار الحنبلي في منتهى الإرادات 1/356، المغني 3/482.
(2)
الحديث متفق عليه.
وقد أنكر المالكية والحنفية خيار المجلس، بحجة: أن في الفسخ إبطالًا لحق الطرف الآخر، فلا يجوز، وحملوا الحديث على خيار القبول (1) .
والراجح عندي من الآراء الرأي الذي لا يقول بخيار المجلس، ومما يؤكد رجحان هذا الرأي هو:
1-
أن الأخذ برأي القائلين بخيار المجلس يقتضي تعليق العقد لحين انفضاض المجلس، ولما كان وقت انفضاض المجلس غير منضبط فهو متوقف على التفرق، وفي ذلك محاذير كثيرة (2) .
2-
أن القول بخيار المجلس يزعزع من قوة العقد الملزمة، وما هي الفائدة من اشتراط تطابق الإرادتين واقتران القبول والإيجاب إذا كان العقد غير مستقر ومعرَّضًا للفسخ.
3-
إذا كان القصد من خيار المجلس هو إعطاء حرية أكثر للمتعاقدين في المضي في العقد أو فسخه، ففي خيار القبول وخيار الرجوع من التدبر والتروّي ما يكفي الطرفين لاتخاذ القرار الحاسم لإمضاء العقد أو إلغائه.
4-
أما الاحتجاج بالحديث فقد حمله الأحناف على خيار القبول وفيه إشارة إليه، فإن المتعاقدين متبايعان حالة المباشرة لا بعدها، أو يحتمل خيار القبول فيحمل عليه (3) .
التعاقد بين الغائبين:
إن التعاقد بين الغائبين كالتعاقد بين الحاضرين، يجب أن يتم في مجلس العقد وللموجب فيه خيار الرجوع في إيجابه، وللمتعاقد الآخر خيار القبول، ويجب فيه مطابقة القبول للإيجاب على النحو الذي فصلناه في التعاقد بين الحاضرين.
إلَاّ أن التعاقد بين الغائبين له خصائص كما ذكر الأستاذ السنهوري يتميز بها عن التعاقد بين الحاضرين من حيث:
(أ) مجلس العقد.
(ب) وقت تمام العقد.
(ج) خيار الرجوع وخيار القبول وخيار المجلس
(1) انظر فتح القدير 5/81، بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد 2/139.
(2)
انظر الأستاذ السنهوري في مصادر الحق 2/38.
(3)
انظر ابن الهمام في فتح القدير: 5/81.
وها أنا أتكلم عن هذه المسائل الثلاث بشيء من الإيجاز:
(أ) مجلس العقد في التعاقد بين الغائبين:
قلنا عند كلامنا عن التعاقد بغير صيغة لفظية: إن الأصل في الإيجاب والقبول أن يقترن أحدهما بالآخر في مجلس واحد، فإذا أوجب أحد المتعاقدين في غياب المتعاقد الآخر، لم يتوقف شطر العقد على الشطر الآخر إلا في المجلس، بحيث لو أراد فضولي أن يقبل وهو في المجلس نيابة عن المتعاقد الغائب، انعقد العقد على رأي الأحناف، وتوقف على إجازة الغائب، ولا يتوقف شطر العقد على الشطر الآخر فيما وراء المجلس إلا إذا كان التعاقد بواسطة الرسالة أو الكتابة، هذا ما صرحت به كتب الحنفية، حيث قال صاحب الهداية:(والكتاب كالخطاب وكذا الإرسال حتى اعتبر مجلس بلوغ الكتاب وأداء الرسالة)(1) .
فعلى هذا يكون مجلس العقد في التعاقد بين الغائبين غير مجلسه في التعاقد بين الحاضرين، فالمجلس الثاني هو محل صدور الإيجاب، أما المجلس الأول فهو محل بلوغ الإيجاب إلى المتعاقد الغائب، أي محل أداء الرسالة أو بلوغ الكتاب، وهذا الفرق كما يقول الأستاذ السنهوري اقتضته طبيعة التعاقد بين الغائبين، فالمتعاقد الآخر غائب عن المجلس الذي صدر فيه الإيجاب، فلا بد من بلوغ الإيجاب إليه، ومحل بلوغه يعتبر مجلس العقد (2) .
(ب) متى يعتبر العقد مبرمًا بين الغائبين:
قلنا فيما سبق: إن العقد يتم بين الحاضرين عند سماع كل عاقد كلام صاحبه في مجلس العقد، ولو لم يسمع الطرف المقابل كلام صاحبه لا يصح العقد، وهذا ما نص عليه الفقهاء في كتبهم، قال ابن الهمام معقبًا على كلام صاحب الهداية في قوله:(البيع ينعقد بالإيجاب والقبول) . يعني إذا سمع العاقد كلام صاحبه، ولو قال البائع: لم أسمعه وليس به صمم وقد سمعه من كان حاضر المجلس، فلا يصدق (3) .
ولما كان من المتعذّر عند التعاقد بين الغائبين سماع العاقد كلام صاحبه، فقد اعتبر الفقهاء عند التعاقد بالكتابة أو المراسلة قبول القابل حين بلوغه الخبر، هو وقت انعقاد العقد، ولا يشترط أن يكون القبول قد وصل إلى علم الموجب، وفي هذا الصدد يقول الكاساني عند كلامه عن التعاقد بواسطة الرسالة: أما الرسالة، فهي أن يرسل رسولًا إلى رجل ويقول للرسول: بعت عبدي بكذا، فإذا بلغ الرسول المرسل إليه وهو المشتري، وقال في مجلسه ذلك: قبلت، انعقد البيع (4) . وفي التعاقد بواسطة الكتابة يقول ابن عابدين:(صورة الكتابة أن يكتب: أما بعد، فقد بعت عبدي فلانًا منك بكذا فلما بلغه الكتاب قال في مجلسه ذلك: اشتريت، تمَّ البيع بينهما)(5) . ولم تشترط النصوص في الحالتين لتمام البيع سماع المشتري قبول القابل.
(1) انظر فتح القدير: 5/79.
(2)
انظر مصادر الحق: 2/50
(3)
انظر فتح القدير: 5/74، وكذا فتاوي البزازية: 4/364.
(4)
انظر البدائع: 6/2994.
(5)
حاشية رد المحتار على الدر المختار: 4/14.
(ج) خيار الرجوع للمتعاقدين الغائبين:
سبق وأن ذكرنا أن فقهاء المسلمين على خلاف فيما بينهم، قد أثبتوا للمتعاقدين الحاضرين في حالة تعاقدهم في مجلس وحد خيارات ثلاثة، هي خيار الرجوع وخيار القبول وخيار المجلس، فهل يثبت هذا الحق للمتعاقدين الغائبين أم لا؟
أقول: إن خيار الرجوع للموجب حق أثبته جمهور العلماء للمتعاقدين الحاضرين، وهو يثبت كذلك عندهم للمتعاقدين الغائبين، إلا أن الفرق بينهما أنه لو نطق الموجب بالرجوع بعد القبول، فلا يُسمع فيما لو كان العقد بين غائبين، أما عند التعاقد بين حاضرين، فالرجوع مقبول على رأي من يجيز خيار المجلس فقط، أما عند غيرهم فلا.
وخيار الرجوع للقابل لا يقبل عن رأي من ينكر خيار المجلس سواء كان العقد بين حاضرين أم بين غائبين، لأن العقد قد تمَّ بقوله قبلت. أما على رأي من يجيز خيار المجلس، فرجوع القابل مقبول عنده فيما لو تم العقد بين حاضرين، لأن تفرق الأبدان غير حاصل، فعلى هذا ما زال العقد قابلا للانفساخ عندهم، وفي حالة التعاقد بين غائبين فلا يتصور خيار المجلس.
والذي نريد بحثه هنا هو: هل يشترط في الرجوع ذاته أن يسمع من الطرف المقابل قياسًا على وجوب سماع الصيغة الأولى وهي الإيجاب والقبول في حالة إبرام العقد بين حاضرين أو غائبين؟
الجواب على هذا: أن فقهاء الحنفية قد صرحوا في كتبهم، أن للعاقد بعد صدور الإيجاب منه الرجوع عن كلامه قبل صدور القبول من الطرف الثاني، سواء صدر الإيجاب من البائع أو المشتري، ذكر ذلك ابن عابدين نقلًا عن البحر، حيث قال:(والحاصل أن الإيجاب يبطل بما يدل على الإعراض وبرجوع أحدهما عنه وبموت أحدهما)(1) .
وبخصوص سماع كل طرف رجوع صاحبه، لم يشترط الأحناف في التعاقد بين الغائبين علم الطرف المقابل عند رجوع الموجب عن كلامه، وإنما يكتفي بالإشهاد على رجوعه كما هو الحال في حالة قبوله للبيع، وهذه المسألة تعتبر من وسائل الإثبات فقط.
قال ابن الهمام: (ويصح رجوع الكاتب والمرسل عن الإيجاب الذي كتبه وأرسله قبل بلوغ الآخر وقبوله، سواء علم الآخر أو لم يعلم، حتى لو قبل الآخر بعد ذلك لا يتم البيع) . وهذا بخلاف ما لو وكل بالبيع، ثم عزل الوكيل قبل البيع، فباع الوكيل، فبيع الوكيل قبل علمه بالعزل نافذ (2) .
(1) انظر حاشية رد المحتار على الدر المختار: 4/527.
(2)
انظر فتح القدير: 5/79.
أما في التعاقد بين الحاضرين، فإن هناك خلافًا في المسألة فقد جاء في الفتاوى الهندية ما نصه:(وللموجب أيًّا كان أن يرجع قبل قبول الآخر، هكذا في النهر الفائق، ولا بد من سماع الآخر رجوع الموجب كذا في التتار خانية. وفي اليتيمة يصح الرجوع وإن لم يعلم به الآخر، كذا في البحر الرائق، لو قال البائع: بعت منك هذا العبد بكذا، ثم قال: رجعت، ولم يسمع المشتري وقال: اشتريت، ينعقد البيع كذا في الظهيرية (1) .
ويستخلص من هذا النص أن هناك رأيًا يذهب إلى وجوب سماع الرجوع، فلو قبل الطرف المقابل قبل أن يسمع رجوع الموجب، انعقد العقد (لأن الرجوع لا ينتج أثره إلا إذا سمعه القابل قبل أن يقبل) . وهناك رأي آخر يرى عدم اشتراط سماع الرجوع، فعلى هذا لو قبل المتعاقد الآخر بعد رجوع الموجب، لا ينعقد العقد، حتى لو كان القابل لم يسمع الرجوع إلا بعد أن قبل (2) .
اتحاد مجلس التعاقد بين الغائبين في القانون:
عالج المقنن العراقي موضوع اتحاد مجلس العقد ما بين الغائبين من خلال المادة (87) من القانون المدني، فقد نص في الفقرة الأولى منها على ما يلي:(1- يعتبر التعاقد ما بين الغائبين قد تم في المكان والزمان اللذين يعلم فيهما الموجب بالقبول ما لم يوجد اتفاق صريح أو ضمني أو نص قانوني يقضي بغير ذلك) .
وواضح من النص المتقدم أن المقنن جارى فقهاء المسلمين عندما اعتبر العقد تامًّا بين الغائبين في المكان والزمان الذي يصل فيه القبول إلى علم الموجب ما لم يكن هناك اتفاق صريح أو ضمني أو نص قانوني يقضي بغير ذلك.
وجاءت الفقرة الثانية من المادة نفسها مؤكدة لما جاء في الفقرة الأولى، حيث نص المقنن فيها على ما يلي:(2- ويكون مفروضًا أن الموجب قد علم بالقبول في المكان والزمان اللذين وصل إليه فيهما) .
(1) انظر: 3/8.
(2)
الأستاذ السنهوري في مصادر الحق: 2/57.
التعاقد بواسطة وسائل الاتصال الحديثة – التليفون – البرقية – التلكس:
لقد تبين لنا من خلال البحث أن الفقه الإسلامي يعتبر الرضا هو الأساس في إبرام العقود، لهذا أجاز التعاقد بالرسالة والكتابة وبالإشارة وبالتعاطي، بل ذهب إلى أبعد من هذا عندما اعتبر التعاقد جائزًا باتخاذ أي مسلك آخر لا تدع ظروف الحال شكًّا في دلالته على التراضي وقد نص الفقهاء رحمهم الله تعالى في كتبهم على هذا، من ذلك ما قاله السرخسي:(العقد قد ينعقد بالدلالة كما ينعقد بالتصريح) . (1) وقال الحطاب: (واحتج المالكية بما تقدم من أن الأفعال وإن انتفت منها الدلالة الوضعية ففيها دلالة عرفية، وهي كافية، إذ المقصود من التجارة إنما هو أخذ ما في يد غيرك بدفع عوض عن طيب نفس منكما، فتكفي دلالة العرف في ذلك على طيب النفس، والرضا بقول أو فعل)(2) . وحكى ابن قدامة عن مالك قوله: (يقع البيع بما يعتقده الناس بيعًا)(3) .وحكى عن الحنابلة أيضًا ما يشبه هذا الكلام حيث قال: (إن الله أحل البيع ولم يبيِّن كيفيته فوجب الرجوع فيه إلى العرف كما رجع إليه في القبض والإحراز والتفرق)(4) .
وقد أكد الفقهاء المحدثون هذا المعنى في مؤلفاتهم التي تكلموا فيها عن العقود (5) .
ولم يتشدد في ذلك سوى بعض فقهاء الشافعية رحمهم الله تعالى على ما ذكرنا فيما سبق.
من هذا كله نستخلص أن التعاقد بواسطة وسائل الاتصال الحديثة يتماشى مع ما قرره الفقهاء من قبل، بل أن في نصوص الفقهاء ما يمكن أن نعتبره أساسًا لفكرة التعاقد بالهاتف، فقد قال النووي:(لو تناديا وهما متباعدان وتبايعا صح البيع)(6) ، والسؤال الذي يدور حول التعاقد بالهاتف وغيره من وسائل الاتصال الأخرى. هل يعتبر تعاقدًا بين حاضرين أم بين غائبين؟
(1) انظر المبسوط 11/150
(2)
انظر مواهب الجليل شرح مختصر خليل: 1/124.
(3)
انظر المغني: 3/481.
(4)
انظر المغني: 3/481.
(5)
انظر في ذلك الشيخ على الخفيف في مؤلفه أحكام المعاملات الشرعية: ص155، 156 – وكذا الأستاذ أبو زهرة في مؤلفه الملكية ونظرية العقد: ص205، 206.
(6)
انظر المجموع 9/193، وكذا الروضة: 3/438.
لقد عبر أستاذنا صلاح الدين الناهي عن أساس هذه المشكلة بقوله: (من المشكلات التي يثيرها التعاقد بالتليفون أنه كيف يمكن حمل التعاقد بالتليفون على العقد بين حاضرين ليجري هذا الحمل على إطلاقه – أي من حيث الزمان والمكان – فتكون العبرة بزمن الصدور ومكانه، أم يقتصر على الزمان؟ وهل لزيادة مصطلح مجلس العقد ما يساعد على حل هذه المعضلة باعتبار مجلس العقد يعتبر فيه الطرفان حاضرين من حيث المكان؟ أم ينبغي القول بأن اعتبار الطرفين حاضرين من حيث المكان في حالة التعاقد بالتليفون قياس مع الفارق، لأن هذا الاعتبار مما يخالف طبيعة الأشياء)(1) .
والرأي القانوني السائد، هو أن التعاقد بالهاتف وما شابهه من وسائل الاتصال الحديثة ليس تعاقدًا بين حاضرين من كل وجه ولا بين غائبين من كل وجه، فالمتعاقدان لا يضمهما مجلس واحد وليس ثمة فاصل زمني بين القبول والعلم به، لذا ساد القول بأنه تعاقد بين حاضرين من حيث الزمان لعدم الفاصل الزمني، وبين غائبين من حيث المكان نظرًا لبعد الشُّقَّة بينهما، وهذا هو منطوق المادة (88) من القانون المدني العراقي التي نصت على ما يلي:(يعتبر التعاقد بالتليفون أو بأية طريقة مماثلة كأنه تمَّ بين حاضرين فيما يتعلق بالزمان وبين غائبين فيما يتعلق بالمكان) .
ويؤكد هذا المعنى الأستاذ السنهوري حيث قال: (التعاقد بطريق التليفون، هو تعاقد لا يجمع فيه المتعاقدين مجلس واحد، فقد يكون أحدهما في جهة تبعد عن الجهة التي يوجد فيها الآخرون بمسافة طويلة، بل قد يفصل المتعاقدين وهما يتخاطبان في التليفون بلاد شاسعة بعد أن اخترع التليفون اللاسلكي، ولكن التعاقد وهما يتخاطبان بهذه الطريقة لا يثير إشكالًا إلا من حيث معرفة مكان العقد. أما زمان العقد فلا صعوبة فيه، لأن وقت صدور القبول هو وقت العلم به، فلا فترة من الزمن تفصل بين الأمرين، ولذلك قيل إن التعاقد بالتليفون هو تعاقد فيما بين حاضرين من حيث الزمان، وهذا يدل مرة أخرى على أن العبرة في التعاقد بالمراسلة هي الفترة التي تفصل بين صدور القبول والعلم به، ويتبين من ذلك أن التعاقد بطريق التليفون يتمُّ في الوقت الذي يصدر فيه القبول، وهو نفس الوقت الذي يقع فيه العلم بالقبول.
أما من حيث المكان فالإشكال موجود، لأن المتعاقدين موجودان في جهتين مختلفتين، فهل يتمُّ العقد في الجهة التي يوجد فيها من صدر منه القبول، أو في الجهة التي يوجد فيها من صدر منه الإيجاب، أي الجهة التي وقع فيها العلم بالقبول....) (2) .
(1) النظر الوجيز في النظرية العامة للالتزامات: ص63.
(2)
نظرية العقد: ص290 وما بعدها، ويعتبر الأستاذ في آخر كلامه، أن تحديد المكان الذي ينشأ فيه العقد يتبع تحديد الوقت الذي يتم فيه. انظر ص309 من المصدر نفسه.
الآثار المترتبة على حكم التعاقد بالتليفون ووسائل الاتصال الأخرى:
يترتب على ما ذكره فقهاء القانون من اعتبار التعاقد بالتليفون والتلكس وما ماثل ذلك من وسائل الاتصال الحديثة تعاقدًا بين حاضرين من حيث الزمان وبين غائبين من حيث المكان ما يلي:
1-
مجلس العقد: في حالة التعاقد بالهاتف:
سبق وأن قلنا: إن مجلس العقد عبارة عن الفترة الزمنية التي تفصل بين الإيجاب والقبول ما دام المتعاقدان منشغلين بالعقد، ولم يبد منهما ما يدل على الإعراض وهذا بدوره ينتظم التعاقد بالتليفون وما شابهه يقول الدكتور محمد مصطفى شلبي:(وليس المراد باتحاد المجلس كون المتعاقدين في مكان واحد لأنه قد يكون أحدهما في مكان غير مكان الآخر، كالمتعاقدين بواسطة المسرة – الهاتف – أو بالمراسلة – وإنما المراد به الوقت الذي يكون فيه المتعاقدان مشتغلين فيه بالتعاقد ما لم يفصل بين الإيجاب والقبول فاصل أجنبي يعتبر إبطالا للإيجاب كرجوع الموجب عن إيجابه قبل القبول أو إعراض القابل عن هذا الإيجاب باشتغاله بشيء آخر غير العقد، فإذا لم يوجد شيء من ذلك صح القبول الصادر منه مهما طال الوقت وانعقد العقد، وعلى هذا يكون مجلس العقد بالهاتف هو زمن الاتصال، فما دامت المحادثة في شأن العقد قائمة اعتبر المجلس قائمًا وإذا انتقلا إلى حديث آخر اعتبر المجلس منتهيًا)(1) .
2-
مكان العقد:
بما أنه ينطبق على التعاقد بالهاتف حكم التعاقد بين الغائبين بالنسبة له لذا يمكن أن نعتبر ما قاله الفقهاء من التعاقد بالمراسلة والمكاتبة يجري عليه أيضًا، وهو أن تمام العقد يتحقق بتلفظ الغائب بالقبول، علم بذلك الموجب أم لا؟ (2) .
(1) المدخل في التعريف بالفقه الإسلامي: ص423، نقلًا عن الأستاذ محمد عقلة في بحثه (حكم إجراء العقود بوسائل الاتصال الحديثة) .
(2)
انظر الكاساني في البدائع: 6/2994، ابن عابدين في حاشية رد المحتار على الدر المختار: 4/512.
3-
من حيث رجوع الموجب عن إيجابه:
لما اعتبر فقهاء القانون التعاقد بالهاتف وغيره من وسائل الاتصال الأخرى تعاقدًا بين حاضرين فيما يتصل بالزمان، فهذا يعني أنه يحق للموجب أن يرجع عن إيجابه قبل صدور القبول من الطرف الآخر.
هذا ما نصت عليه المادة (94) من القانون المدني المصري حيث جاء فيها: (على أنه إذا صدر الإيجاب في مجلس العقد دون أن يُعَيَّن ميعاد للقبول، فإن الموجب يتحلل من إيجابه إذا لم يصدر القبول فورًا، وكذلك الحال إذا صدر الإيجاب من شخص إلى آخر بطريق التليفون أو بأي طريق مماثل، ومع ذلك يتم العقد ولو لم يصدر القبول فورًا إذا لم يوجد ما يدل على أن الموجب قد عدل عن إيجابه في الفترة ما بين الإيجاب والقبول وكان القبول قد صدر قبل أن ينفض المجلس)(1) .
إجراء عقود النكاح بواسطة المراسلة والمكاتبة:
إتمامًا لفائدة البحث، أو أن أذكر بشيء من الإيجاز ما قاله فقهاؤنا رحمهم الله تعالى بخصوص إجراء عقد النكاح بواسطة المراسلة والمكاتبة.
فأقول: صرح فقهاء الحنفية بجواز ذلك بشرط الإشهاد عند القبول، لأنه لا نكاح إلا بشهود.
من ذلك ما حكاه ابن عابدين عن السرخسي في مبسوطه حيث قال: (كما ينعقد النكاح بالكتابة ينعقد البيع وسائر التصرفات بالكتابة أيضًا)(2) . ونقل أيضًا عن شيخ الإسلام خواهر زاده مثل ذلك حيث قال: (لو كان حاضرًا فخاطبها بالنكاح فلم تجب في مجلس الخطاب ثم أجابت في مجلس آخر، فإن النكاح لا يصح، وفي الكتاب إذا بلغها وقرأت الكتاب ولم تزوج نفسها منه في المجلس الذي قرأت الكتاب فيه، ثم زوجت نفسها في مجلس آخر بين يدي الشهود وقد سمعوا كلامها وما في الكتاب يصح النكاح
…
) (3) .
ومثل ذلك حكى الكاساني عن أئمة الحنفية أيضًا (4) . ويعتبر من قبيل المراسلة والمكاتبة في عصرنا الحاضر، التلغراف – البرقية – والتلكس، ويشترط لصحة عقد النكاح بهاتين الوسيلتين ما يشترط في التعاقد بالمراسلة والمكاتبة من الإشهاد على العقد.
أما إجراء عقد النكاح بواسطة الهاتف فتتوقف صحته على إحضار الشهود عند المخاطبة وسماعهم كلام العاقدين، فإذا تحقق ذلك جاز، وإلا فلا، والله أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
(1) النظرية العامة للالتزام الدكتور الشرقاوي: ص257، نقلًا عن الأستاذ محمد عقلة في بحثه السابق.
(2)
انظر حاشية رد المحتار على الدر المختار: 4/512.
(3)
انظر حاشية رد المحتار على الدر المختار: 4/512.
(4)
انظر البدائع: 6/2994.
خلاصة البحث
بسم الله الرحمن الرحيم
العقد في اصطلاح الفقهاء يطلق بإطلاقين عام وخاص، فالمعنى العام يراد به كل التزام تعهد الإنسان بالوفاء به سواء كان في مقابل التزام آخر كالبيع والشراء ونحوه أم لا. وسواء كان التزامًا دينيًّا كأداء الفرائض والواجبات أم التزامًا دنيويًّا.
قال أبو بكر الجصاص: (كل شرط شرطه إنسان على نفسه في شيء يفعله في المستقبل فهو عقد، وكذلك النذور وإيجاب القرب وما جرى مجرى ذلك) . ومن هنا يتبين لنا أن العقد بمعناه العام لا يشترط فيه تطابق إرادتين، بل يتحقق بإرادة منفردة.
أما المعنى الخاص للعقد، فهو الالتزام الذي لا يتحقق إلا من طرفين، وهذا المعنى هو المراد عند إطلاق الفقهاء لفظ العقد، فهم يعنون به صيغة الإيجاب والقبول الصادرة من متعاقدين.
وقد جاء تعريف العقد على لسان بعض رجال القانون بما يشبه تعريف الفقهاء له.
أركان العقد:
لا يتحقق العقد إلا بوجود أركانه الثلاثة، وهي: الصيغة والعاقدان والمعقود عليه.
وقد اقتصر الحنفية من بين الفقهاء الآخرين على ذكر الإيجاب والقبول عند كلامهم عن أركان العقد، إلا أنه يقتضي بالضرورة وجود الركنين الآخرين عند غيرهم، إذ لا يتصور تحقق الإيجاب بدون موجب ولا قبول بغير قابل، كما أن الإيجاب والقبول يقتضي وجود محل يجري التعاقد فيه، ومن يتتبع أقوالهم رحمهم الله تعالى يتبين له أن اعتبار صيغة الإيجاب والقبول هي ركن العقد عندهم، هو اصطلاح لفظي فقط.
صيغة العقد:
قلنا إن العقد عبارة عن ارتباط إرادتين في مجلس واحد يسمى مجلس العقد، وإن هذا الارتباط ينبئ عن الرضا والاختيار الذين يعتبران هما أساس العقد وركنه الذي لا يقوم بغيره. وبما أن الرضا أمر خفي ليس بالإمكان معرفته أقام الشارع مقامه ما يدل عليه من قول أو فعل محسوس، وبهذا تكون الإرادة الظاهرة هي المظهر الخارجي للتعبير عن الإرادة الباطنة، فالإرادة الباطنة التي يعبر عنها بالرضا هي الركن الحقيقي للعقد وإلى هذا تشير عبارات كثيرة من الفقهاء رحمهم الله تعالى.
والإرادة الظاهرة متمثلة بالإيجاب والقبول ركن العقد.
شروط الإيجاب والقبول:
من أجل اعتبار الأثر المترتب على الإيجاب والقبول واستكمال العقد لصيغته النهائية يشترط فيهما ما يلي:
1-
العلم بمضمون العقد: وذلك بأن يسمع كل من المتعاقدين كلام صاحبه فيما لو تمَّ التعاقد بينهما شفاهًا أو يقرأه الطرف المرسل إليه الكتاب إذا كان العقد مما ينعقد بها أو يرى الإشارة المفهمة من الأخرس.
2-
موافقة القبول والإيجاب: إذ لو انعدم التوافق بينهما لم يحقق العقد غرضه فلا فائدة في إنشائه.
3-
عدم الفصل بين الإيجاب والقبول: لأن وجود الفاصل بينهما، يعني الانصراف عن العقد والدليل على عدم الإرادة الجازمة في إبرامه.
4-
عدم الهزل في كلام العاقد: لأن الهزل دليل على عدم الرغبة الصادقة في إنشاء العقد.
5-
أن يكون كل من الإيجاب والقبول باتًّا منجزًا غير معلق على شرط ينافي مقتضى العقد أو مضافًا إلى زمن في المستقبل.
6-
اتحاد مجلس العقد: والمقصود بهذا الشرط، أن يكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد، فإن اختلف المجلس لا ينعقد.
7-
أن تكون صيغة الإيجاب والقبول بلفظ الماضي:
وقد اختار الفقهاء هذه الصيغة لانعقاد العقد، لأنها تعتبر مظهرًا واضحًا للتعبير عن الإرادة في مرحلتها النهائية.
كيف يتم العقد؟
إذا أوجب أحد المتعاقدين العقد بالصيغة الدالة عليه على النحو الذي ذكرناه كان للمتعاقد الآخر أن يقبل هذا الإيجاب إلى حين انفضاض المجلس، وهذا ما يسمى بخيار القبول. ولما كان الموجب نفسه بالخيار أيضًا في رأي أكثر المذاهب بين البقاء على إيجابه أو الرجوع عنه، فمعنى ذلك أن الإيجاب غير ملزم، وللموجب أن يرجع عن إيجابه قبل صدور القبول، وهذا ما يسمى بخيار الرجوع، فإذا انفضَّ المجلس دون أن يصدر القبول سقط الإيجاب.
وإذا بقي الموجب على إيجابه وصدر من المتعاقد الآخر قبل انفضاض المجلس قبول يطابق الإيجاب من جميع الوجوه، انعقد العقد.
حكم التعاقد بغير صيغة لفظية:
1-
التعاقد بالمعاطاة: وقد اتجه الفقهاء في ذلك اتجاهين. ذهب الجمهور إلى جواز ذلك، وقال الشافعي وفقهاء آخرون بعدم جواز البيع بالتعاطي. ورأي الجمهور الراجح. لوجاهة أدلتهم ولما فيه من تيسير على الناس.
2-
البيع بالإشارة: وقد اتفق الفقهاء على أن إشارة الأخرس تقوم مقام لفظه فإن لم تفهم إشارته أو جنّ أو أغمي عليه قام وليه أو وصيه أو الحاكم مقامه.
3-
التعاقد بالكتابة والمراسلة: وقد أجاز الجمهور رحمهم الله تعالى التعاقد بهاتين الوسيلتين. وذهب بعض فقهاء الشافعية والزيدية والهادوية إلى عدم جواز التعاقد بالكتابة والمراسلة. ورأي الجمهور هو المختار.
مجلس العقد:
قلنا إن اتحاد المجلس شرط في إبرام العقد، والغرض من هذا الشرط، هو تحديد المدة التي يصح أن تفصل القبول عن الإيجاب حتى يتمكن من عُرِضَ عليه الإيجابُ من المتعاقدين أن يفكر في الأمر فيقبل الإيجاب أو يرفضه.
حدود مجلس العقد:
يفهم من أقوال الفقهاء رحمهم الله تعالى أن المجلس هو المكان الذي يضم المتعاقدين ويبدأ من وقت صدور الإيجاب ويستمر ما دام المتعاقدان منصرفين إلى التعاقد ولم يبديا إعراضًا عنه.
ويعتبر المجلس منفضًّا في حالة الإعراض كما قلنا وفي حالة قيام العاقد وتركه المكان الذي صدر فيه الإيجاب.
ويعتبر المجلس قد استنفد غرضه في حالة قبول أو رفض الطرف الثاني. ولو انفض المجلس دون أن يقبل الطرف المقابل، فالإيجاب يعتبر لاغيًا في هذه الحالة ولا فائدة في قبول الطرف الآخر بعدئذ. فإن أفصح عن قبوله، عُدَّ قبولُه إيجابًا مبتدأ يحتاج إلى قبول من الطرف الأول في مجلس الإيجاب المبتدأ.
الآثار المترتبة على نظرية مجلس العقد:
يترتب على القول بمجلس العقد الأحكام التالية:
1-
أن يكون للطرف المخاطب بالإيجاب خيار القبول لحين انفضاض المجلس، إذا هو غير ملزم بالقبول.
2-
أن يكون للطرف الموجب خيار الرجوع عن إيجابه إلى أن يصدر القبول أو ينفض المجلس، وهذا هو رأي جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة، وخالف المالكية في ذلك. والراجح رأي الجمهور لوجاهة أدلتهم.
3-
أن يعطى للمتعاقدين خيار المجلس، وهذا الخيار محل خلاف بين العلماء فقد أثبته كثير من فقهاء السلف وبه قال الشافعية والحنابلة ونفاه المالكية والحنفية.
وقد رجحت رأي القائلين: بعدم مشروعية خيار المجلس، لمَّا تبين لي وجاهة أدلتهم.
التعاقد بين الغائبين:
والتعاقد بين الغائبين كالتعاقد بين الحاضرين، يجب أن يتم في مجلس العقد، وللموجب فيه خيار الرجوع في إيجابه، وللمتعاقد الآخر خيار القبول، ويجب فيه مطابقة القبول للإيجاب على النحو الذي فصلناه في التعاقد بين الحاضرين.
إلا أن التعاقد بين الغائبين له خصائص يتميز بها عن التعاقد بين الحاضرين من حيث:
(أ) مجلس العقد.
(ب) وقت تمام العقد.
(ج) خيار الرجوع وخيار القبول وخيار المجلس.
إن مجلس العقد بين الغائبين غير مجلسه في التعاقد بين الحاضرين، فالمجلس الثاني هو محل صدور الإيجاب، أما المجلس الأول وأعني به مجلس الغائبين، فهو محل بلوغ الإيجاب إلى المتعاقد الغائب، أي محل أداء الرسالة أو بلوغ الكتاب.
واعتبر الفقهاء عند التعاقد بالكتابة أو المراسلة قبول القابل حين بلوغه الخبر، هو وقت انعقاد العقد، ولا يشترط أن يكون القبول قد وصل إلى علم الموجب.
خيار الرجوع للمتعاقدين الغائبين:
إن خيار الرجوع للموجب حق أثبته جمهور العلماء للمتعاقدين الحاضرين، وهو يثبت كذلك عندهم للمتعاقدين الغائبين. إلا أن الفرق بينهما أنه لو نطق الموجب بالرجوع بعد القبول فلا يسمع فيما لو كان العقد بين غائبين، أما عند التعاقد بين حاضرين، فالرجوع مقبول على رأي من يجيز خيار المجلس فقط، أما عند غيرهم فلا.
وخيار الرجوع للقابل لا يقبل على رأي من ينكر خيار المجلس سواء كان العقد بين حاضرين أم بين غائبين، لأن العقد قد تمّ بقوله قبلت. أما على رأي من يجيز خيار المجلس، فرجوع القابل مقبول عنده فيما لو تمّ العقد بين حاضرين، لأن تفرق الأبدان غير حاصل. وفي حالة التعاقد بين غائبين فلا يتصور خيار المجلس.
التعاقد بواسطة وسائل الاتصال الحديثة:
لقد ظهر لنا خلال البحث أن الفقه الإسلامي يعتبر الرضا هو الأساس في إبرام العقود، لهذا أجاز التعاقد بالرسالة والكتابة وبالإشارة وبالتعاطي، بل ذهب إلى أبعد من هذا عندما اعتبر التعاقد جائزًا باتخاذ أي مسلك آخر لا تدع ظروف الحال شكًّا في دلالته على التراضي. ولم يتشدد سوى بعض فقهاء الشافعية رحمهم الله تعالى.
من هذا كله نستخلص أن التعاقد بواسطة وسائل الاتصال الحديثة يتماشى مع ما قرره الفقهاء من قبل. والتعاقد عبر هذه الوسائل ليس تعاقدًا بين حاضرين من كل وجه ولا بين غائبين من كل وجه، فالمتعاقدان لا يضمهما مجلس واحد وليس ثمة فاصل زمني بين القبول والعلم به. لذا ساد القول بأنه تعاقد بين حاضرين من حيث الزمان لعدم الفاصل الزمني وبين غائبين من حيث المكان نظرًا لبعد الشُّقَّة بينهما.
والله أعلم.
الدكتور إبراهيم فاضل الدبو
أهَم مراجع البَحث
بعد القرآن الكريم:
1-
أحكام القرآن، لأبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص. تحقيق محمد الصادق قمحاوي. الناشر دار المصحف شركة مكتبة ومطبعة عبد الرحمن محمد – الطبعة الثانية، القاهرة.
2-
الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي. الطبعة الثالثة عن طبعة دار الكتب المصرية دار الكتاب العربي للطباعة والنشر 1387هـ- 1967م.
3-
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني. إدارة الطباعة المنيرية، دار إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان.
4-
نيل الأوطار، للشوكاني، محمد بن علي بن محمد، المتوفى سنة 1250هـ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر، الطبعة الثالثة.
5-
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، لعلاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني المتوفى سنة 587هـ - مطبعة الإمام بالقاهرة.
6-
رد المحتار على الدر المختار، للشيخ محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز الدمشقي الشهير بابن عابدين، المتوفى سنة 1252هـ، والمطبوع مع الدر المختار.
7-
الدر المختار- شرح تنوير الأبصار، للشيخ علاء الدين الحصكفي المتوفى سنة 1088هـ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر، 1386هـ-1966م.
8-
كتاب الأم، لأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، وبهامشه مختصر أبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني الشافعي، مطبعة دار الشعب بالقاهرة.
9-
المهذب، لأبي إسحاق إبراهيم بن علي يوسف الفيروزآبادي الشيرازي، المتوفى 479هـ، مطبعة عيسى البابي الحلبي، بمصر.
10-
مغني المحتاج إلى معاني ألفاظ المنهاج، للشيخ محمد بن أحمد الشربيني الخطيب، سنة 1977م، مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1377هـ -1958م.
11-
شرح الخرشي على مختصر سيدي خليل، لأبي عبد الله محمد الخرشي، المتوفى سنة 1101هـ، المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر، الطبعة الثانية 1317هـ، ومعه حاشية الشيخ العدوي.
12-
الشرح الكبير، لأبي البركات أحمد بن محمد الشهير بالدردير، المتوفى سنة 1201هـ، مطبعة عيسى البابي الحلبي.
13-
حاشية الدسوقي، للشيخ محمد عرفة الدسوقي، والمطبوع مع الشرح الكبير.
14-
المغني، لابن قدامة: أبي محمد عبد الله أحمد بن محمد بن قدامة، المتوفى سنة 620هـ، على مختصر أبي القاسم عمر بن حسين بن عبد الله أحمد الخرقي، المتوفى سنة 334هـ، مطابع سجل العرب.
15-
منتهى الإرادات، لابن النجار تقي الدين محمد بن أحمد الفتوحي الحنبلي، المتوفى 972هـ، عالم الكتب.
16-
شرح فتح القدير، لكمال الدين محمد بن عبد الواحد، المعروف بأبي الهمام الحنفي، والمأخوذ بالأوفسيت على الطبعة الأميرية ببولاق مصر.
17-
الفتاوى الكبرى، لابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم – أبو العباس تقي الدين بن تيمية الإمام، المتوفى سنة 728هـ، دار الكتب الحديثة، مطبعة دار الجهاد بالقاهرة.
18-
شرح النيل وشفاء العليل، للعلامة محمد بن يوسف أطفيش، مكتبة الإرشاد بجدة، الطبعة الثالثة.
19-
البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار، للإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى بن المرتضى، المتوفى 804هـ، مطبعة السنة المحمدية بمصر، 1368هـ- 1949م.
20-
لسان العرب، لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي، المتوفى 711هـ، دار بيروت للطباعة.
21-
الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير، للعلامة شرف الدين الحسين بن أحمد السياغي. مكتبة المؤيد بالطائف، السعودية الطبعة الثانية 1968م.
22-
روضة الطالبين وعمدة المفتين، للإمام النووي. الناشر المكتب الإسلامي، دمشق – بيروت.
23-
تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، لفخر الدين عثمان بن علي الزيلعي. دار المعرفة، بيروت لبنان، مأخوذ بالأوفسيت.
24-
كشاف القناع عن متن الإقناع – منصور بن إدريس البهوتي. الناشر مكتبة النصر الحديثة في الرياض.
25-
الفتاوى الهندية، وبهامشها الفتاوى البزازية. تأليف جماعة من علماء الهند، المكتبة الإسلامية محمد أوزدمير، ديار بكر- تركيا، الطبعة الثالثة، أوفسيت.
26-
شرح المجلة، للأستاذ منير القاضي. الطبعة الأولى، مطبعة العاني، بغداد 1949م.
27-
مصادر الحق في الفقه الإسلامي، للدكتور عبد الرزاق السنهوري. معهد البحوث والدراسات العربية، 1954م.
28-
نظرية العقد – النظرية العامة للالتزام، للدكتور عبد الرزاق السنهوري. دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
29-
المدخل الفقهي، للأستاذ مصطفى الزرقا. مطبعة جامعة دمشق، 1963م.
30-
الموجز في النظرية العامة للالتزامات، للدكتور صلاح الدين الناهي. الطبعة الخامسة.
31-
الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية، للإمام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، المتوفى سنة 911هـ، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، 1387هـ - 1968م.
32-
الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان، للشيخ زين العابدين بن إبراهيم بن نجيم. تحقيق عبد العزيز الوكيل، الناشر مؤسسة الحلبي وشركاه، 1387هـ- 1968م.
33-
القواعد في الفقه الإسلامي، للحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي، المتوفى 795هـ، الطبعة الأولى 1971م، الناشر مكتبة الكليات الأزهرية.
34-
مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان – في المعاملات الشرعية على مذهب أبي حنيفة النعمان، لمحمد قدري باشا.
35-
متن القانون المدني العراقي.
36-
مبدأ الرضا في العقود – دراسة مقارنة في الفقه الإسلامي والقانون المدني. رسالة دكتوراه، للدكتور علي محيي الدين على القره داغي، الطبعة الأولى، دار البشائر الإسلامية – لبنان.
37-
حكم إجراء العقود بوسائل الاتصال الحديثة – للدكتور محمد عقلة إبراهيم بحث منشور في مجلة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة الكويت – العدد الخامس، السنة الثالثة.
بحث
فضيلة الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي
الأستاذ بكلية الشريعة – جامعة دمشق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا وشفيعنا محمد المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين، وبعد:
فقد تمكن أبناء العالم المعاصر من إنجاز كثير من معاملاتهم وعقودهم المالية بواسطة آلات الاتصال الحديثة، كالهاتف والبرقية واللاسلكي والتلكس والفاكس ونحوها، وأصبح ضروريًّا معرفة كيفية إبرام تلك العقود من الناحية الشرعية، وهذا ما نبينه هنا بالاعتماد على ما كتبه فقهاؤنا وقرروه عند الكلام على صيغة العقد، وشروط الإيجاب والقبول، وشروط تحقيق معنى اتصال القبول بالإيجاب ليكون شطرًا العقد في مجلس واحد.
وبما أن هذه المعلومات معروفة في الجامعات، فأكتفى بإيجازها هنا، لتكون مدخلًا للحكم على موضوع البحث.
صيغة العقد:
هي ما صدر من المتعاقدين دالًّا على توجه إرادتهما الباطنة لإنشاء العقد وإبرامه. وتعرف تلك الإرادة الباطنة بواسطة اللفظ أو القول أو ما يقوم مقامه من الفعل (المعاطاة) أو الإشارة أو الكتابة. وهذه الصيغة هي الإيجاب والقبول الدالان على تراضي الجانبين بإنشاء التزام بينهما، وتسمى الصيغة عند القانونيين: التعبير عن الإرادة.
والتعبير عن الإرادة العقدية الجازمة يكون بأي صيغة تدل عرفًا أو لغةً على إنشاء العقد، سواء بالقول أو بالفعل أو بالإشارة أو بالكتابة (1) .
والقول أو اللفظ مثل بعت واشتريت، ورهنت وارتهنت، ووهبت وقبلت، وزوجت وتزوجت.
والفعل أو المعاطاة أو المراوضة: هو التعاقد بالمبادلة الفعلية الدالة على التراضي دون تلفظ بإيجاب أو قبول (2) ، كأن يأخذ المشتري المبيع ويدفع الثمن للبائع دون كلام من كلا الطرفين أو من أحدهما، سواء أكان المبيع حقيرًا بسيطًا أم نفيسًا. وهذا جائز عند جمهور العلماء غير الشافعية، لتعارفه بين الناس، لكن عقد الزواج بالإجماع لا ينعقد ولا يصح بالفعل أو بالمعاطاة كإعطاء المهر مثلًا، بل لا بدّ فيه من النطق بالإيجاب والقبول، لخطورته وأهميته، وتأثيره الدائم على المرأة، وحفاظًا على حرمات الأعراض المصونة شرعًا.
(1) مجلة الأحكام العدلية: (م173، 174) .
(2)
المجلة: (م170)
ويجوز انعقاد العقد بإشارة الأخرس أو معتقل اللسان المفهومة باتفاق الفقهاء للضرورة، حتى لا يحرم من حق التعاقد، لذا نصت القاعدة الفقهية:(الإشارات المعهودة للأخرس كالبيان باللسان)[المجلة: م70] . وأجاز فقهاء المالكية والحنابلة التعبير عن الإرادة من الناطق بالإشارة المفهمة المتداولة عرفًا، لأنها أولى في الدلالة من الفعل الذي ينعقد به العقد، كما في المعاطاة (1) .
ويصح التعاقد بالكتابة بين طرفين في رأي الحنفية والمالكية سواء أكانا ناطقين أو عاجزين عن النطق، حاضرين في مجلس واحد أو غائبين، وبأي لغة يفهمها المتعاقدان، بشرط أن تكون الكتابة مستبينة (بأن تبقى صورتها بعد الانتهاء منها) ، ومرسومة (مسطرة بالطريقة المعتادة بين الناس بذكر المرسل إليه وتوقيع المرسل) فإذا كانت غير مستبينة كالكتابة على الماء أو في الهواء، أو غير مرسومة كالرسالة الخالية من التوقيع مثلًا، لم ينعقد بها العقد (2)، وعليه نصت القاعدة الفقهية:(الكتاب كالخطاب)[المجلة: م69] . مثل أن يرسل شخص خطابًا لآخر يقول فيه: (بعتك سيارتي بكذا) فإذا وصله الكتاب، وقال في مجلس قراءة الكتاب: قبلت، انعقد البيع. أما إن ترك المجلس أو صدر منه ما يدل على الإعراض عن الإيجاب، كان قبوله غير معتبر.
وإرسال رسول إلى آخر حامل مضمون الإيجاب مثل إرسال الكتاب، يعتبر مجلس وصول الرسول هو مجلس العقد، فيلتزم أن يقبل فيه، فإن قام من المجلس قبل أن يقبل، انتهى مفعول الإيجاب، ويكون المعول عليه هو مجلس بلوغ الرسالة أو الكتابة، كأن يقول شخص: بعت لفلان كذا، فاذهب يا فلان وقل له، فذهب فأخبره فقبل المشتري في مجلسه ذلك، صح العقد.
ومهمة الرسول أضعف من مهمة الوكيل، لأن الرسول مجرد مفوض بنقل تعبير المرسل دون زيادة أو نقصان، أما الوكيل فإنه يتولى إبرام العقد بعبارته، ولا يتقيد في الوكالة المطلقة إلا بالمعتاد المتعارف عليه، أما في الوكالة المقيدة بمكان أو زمان أو شخص أو محل معقود عليه أو بدل عقدي فيتم التعاقد بين الوكيل والقابل بعبارة الوكيل المقيدة بقيود الوكالة، وتعود حقوق العقد أي الالتزامات إلى الوكيل بعكس الرسول لا يتحمل شيئًا منها، أما حكم العقد الأصلي أي نقل الملكية فيعود إلى الموكل والمرسل على السواء.
ولا ينعقد عقد الزواج بالكتابة إذا كان العاقدان حاضرين في مجلس واحد، إلا في حال العجز عن النطق كالخرس، لأن الزواج يشترط لصحته حضور الشهود العدول وسماعهم كلام العاقدين، وهذا لا يتيسر في حال الكتابة.
وقيد الشافعية والحنابلة صحة التعاقد مطلقًا بالكتابة أو الرسالة فيما إذا كان العاقدان غائبين أما في حال الحضور فلا حاجة إلى الكتابة، لأن العاقد قادر على النطق، فلا ينعقد العقد بغيره (3) .
(1) الشرح الكبير للدردير: 3/3، المغني: 5/562.
(2)
الدر المختار ورد المحتار لابن عابدين: 4/10 وما بعدها، فتح القدير: 5/79، البدائع: 5/137، الشرح الكبير للدردير مع الدسوقي: 3/3.
(3)
المهذب: 1/257، غاية المنتهى: 2/4.
شروط الإيجاب والقبول:
اشترط الفقهاء لانعقاد العقد شروطًا ثلاثة في الإيجاب والقبول وهي ما يلي (1) .
1-
وضوح دلالة الإيجاب والقبول: أي أن يكون كل من الإيجاب والقبول واضح الدلالة على مراد العاقدين، بأن تكون مادة اللفظ المستعمل لهما في كل عقد تدل لغةً أو عرفًا على نوع العقد المقصود للعاقدين، لأن الإرادة الباطنة خفية، ولأن العقود يختلف بعضها عن بعض في الموضوع والأحكام، فإذا لم يعرف بيقين أن العاقدين قصدا عقدًا معينًا بعينه، لا يمكن إلزامهما بأحكامه الخاصة به.
ولا يشترط لهذه الدلالة لفظ أو شكل معين، فإن الشكلية في غير عقد الزواج الذي لا بد فيه من الشاهدين، والعقود العينية التي يشترط فيها القبض لتولد آثار العقد (وهي الإيداع والإعارة والرهن والهبة والقرض) غير مطلوبة فقهًا، لأن العبرة في العقود للمعاني، لا للألفاظ والمباني، فيصح البيع بلفظ الهبة بعوض، وينعقد الزواج بلفظ الهبة إذا اقترن بالمهر.
2-
تطابق القبول والإيجاب: بأن يكون القبول موافقًا للإيجاب، بأن يرد على كل ما أوجبه الموجب وبما أوجبه، أي على كل محل العقد، ومقدار البدل في عقود المعاوضات، سواء أكانت الموافقة حقيقية، كما لو قال البائع: بعتك الشيء بعشرة، فيقول المشتري: اشتريته بعشرة، أو ضمنية، كما لو قال المشتري في المثال السابق: اشتريته بخمس عشرة، أو أن تقول المرأة: زوجتك نفسي بمائة، فيقول الزوج: قبلت الزواج بمائة وخمسين، فالتوافق متحقق ضمنًا، وهذه المخالفة خير للموجب. لكن لا يلزم العقد إلا بالمقدار الذي وجهه الموجب، أي مائة في المثال الأخير، وأما الزيادة فموقوفة على قبول الموجب في مجلس العقد، فإن قبل به الموجب، لزم القابل، لأن المال لا يدخل في ملك إنسان بغير اختياره إلا في الميراث. وهذا مذهب الحنفية. أما الشافعية فيرون أن أي مخالفة تعد رفضًا للإيجاب (2) .
فإن لم يتطابق القبول مع الإيجاب، وحدثت مخالفة بينهما، لا ينعقد العقد، كأن خالف القابل في محل العقد، فقبل غيره، أو بعضه مثل قول البائع: بعتك الأرض الفلانية، فيقول المشتري: قبلت شراء الأرض المجاورة لها، أو قبلت شراء نصفها بنصف الثمن أو البدل المتفق عليه، فلا ينعقد العقد، لمخالفة محل العقد، أو لتفرق الصفقة على البائع، والمشتري لا يملك تفريقها، أي تجزئتها، بأن يقبل بعضها دون البعض الآخر.
وإذا خالف في مقدار الثمن، فقبل بأقل مما ذكر البائع، لا ينعقد العقد أيضًا. وكذا لو خالف في مقدار الثمن، فقبل بأقل مما ذكر البائع، لا ينعقد العقد أيضًا. وكذا لو خالف في وصف الثمن لا في قدره، كأن أوجب البائع بثمن حالٍّ نقدي، فقبل المشتري بثمن مؤجل، أو أوجب بأجل إلى شهر معين، فقبل المشتري بأجل أبعد، لم ينعقد البيع في الحالتين، لعدم تطابق القبول مع الإيجاب وحينئذ لا بد من إيجاب جديد.
(1) البدائع: 5/136، فتح القدير: 5/80، حاشية ابن عابدين: 4/5، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 3/5، نهاية المحتاج: 3/8 – 10، مغني المحتاج: 2/5 وما بعدها.
(2)
مغني المحتاج: 2/6.
3-
اتصال القبول بالإيجاب: بأن يكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد إن كان الطرفان حاضرين معًا، أو في مجلس علم الطرف الغائب بالإيجاب.
ويتحقق الاتصال بأن يعلم كل من الطرفين بما صدر عن الآخر، بأن يسمع الإيجاب ويفهمه، وبألا يصدر منه ما يدل على إعراضه عن العقد، سواء من الموجب أو من القابل.
مجلس العقد:
إن مجلس العقد هو الحال التي يكون فيها المتعاقدان مشتغلين فيه بالتعاقد، أو هو اتحاد الكلام في موضوع التعاقد.
ويشترط لتحقيق معنى اتصال القبول بالإيجاب شروط ثلاثة هي:
1-
أن يكونا في مجلس واحد.
2-
ألا يصدر من أحد العاقدين ما يدل على إعراضه.
3-
ألا يرجع الموجب في إيجابه قبل قبول القابل الآخر.
ويترتب على الشرط الأول، وهو اتحاد مجلس الإيجاب والقبول: أنه لا يجوز أن يكون الإيجاب في مجلس، والقبول في مجلس آخر، لأن الإيجاب لا يعد جزءًا من العقد إلا إذا التحق به القبول، فلو قال البائع: بعتك الدار بثمن كذا، أو آجرتك المنزل بأجرة كذا، ثم انتقل الموجب إلى مكان آخر بعيد عن مجلسه الأول بحوالي مترين أو ثلاثة، أو إلى غرفة أخرى، انتهى المجلس الأول، فإذا قبل القابل بعد هذا الانتقال، لم ينعقد العقد، ويحتاج إلى إيجاب جديد، لأن الإيجاب كلام اعتباري لا بقاء له، إذا لم ينضم إليه القبول في حال واحدة من المجلس.
فورية القبول:
لا يشترط عند الجمهور غير الشافعية (1) الفور في القبول، لأن القابل يحتاج إلى فترة للتأمل، فلو اشترطت الفورية لا يمكنه التأمل، وإنما يكفي صدور القبول في مجلس واحد، ولو طال الوقت إلى آخر المجلس، لأن المجلس الواحد يجمع المتفرقات للضرورة، وفي اشتراط الفورية تضييق على القابل، أو تفويت للصفقة من غير مصلحة راجحة فإن رفض فورًا فتضيع عليه الصفقة، وإن قبل فورًا فربما كان في العقد ضرر له، فيحتاج لفترة تأمل، للموازنة بين ما يأخذ أو يغنم، وبين ما يعطي أو يغرم في سبيل العقد، لأن المجلس جامع للمتفرقات، فتعتبر ساعاته وحدة زمنية تيسيرًا على الناس، ومنعًا للمضايقة والحرج، ودفعًا للضرر عن العاقدين قدر الإمكان.
وقال الراملي من الشافعية: يشترط أن يكون القبول فور الإيجاب، فلو تخلل لفظ أجنبي لا تعلق له بالعقد، ولو يسيرًا، بأن لم يكن من مقتضاه ولا من مصالحه ولا من مستحباته، لا يتحقق الاتصال بين القبول والإيجاب، فلا ينعقد العقد، لكن لو قال المشتري بعد توجيه الإيجاب له: بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، قبلت (أي الشراء) صح العقد (2) .
(1) البدائع: 5/137، فتح القدير: 5/78، مواهب الجليل للحطاب: 4/240، الشرح الكبير مع الدسوقي: 3/5، الشرح الصغير وحاشية الصاوي: 3/17، الشرح الكبير مع المغني: 4/4، غاية المنتهى: 2/4.
(2)
نهاية المحتاج: 3/8، مغني المحتاج: 2/6.
وهذا الرأي متمشٍّ مع الأصل في القبول: وهو أن يتصل بالإيجاب مباشرة وفورًا لينعقد العقد.
وفسر غير الرملي من الشافعية اتصال القبول بالإيجاب بأنه السائد عرفًا بين الناس، فلا يضر الفصل اليسير، ويضر الفصل الطويل: وهو ما أشعر بإعراضه عن القبول: وحينئذ يقترب مذهب الشافعية من مذهب غيرهم وهم الجمهور.
والمراد بالشرط الثاني: ألا يصدر من أحد العاقدين ما يدل على إعراضه عن العقد: أن يكون الكلام في موضوع العقد، وألا يتخلله فصل بكلام أجنبي يعد قرينة على الإعراض عن العقد.
فإن ترك الموجب مجلس العقد قبل قبول الآخر، أو ترك الطرف الآخر المجلس بعد صدور الإيجاب، أو انشغل الطرفان في موضوع آخر لا صلة له بالعقد، بطل الإيجاب، ولو قبل الآخر لا يعتبر قبوله متممًا للعقد، لأن الإيجاب ذهب ولم يبق له وجود، إذا لم يتعانق مع القبول. وسبب ذهابه أنه كلام اعتباري لا بقاء له إذا لم يتصل بالقبول، ويجعل باقيًا مدة المجلس من باب التيسير على الطرفين، ودفع العسر عنهما ليمكن تلاقي القبول به، وانعقاد العقد.
تغير المجلس:
إن العرف الشائع بين الناس هو المحكَّم في بيان اتحاد المجلس أو تغيره، فإذا صدر القبول في حال اتحاد المجلس، نشأ العقد، وإذا صدر القبول بعد تغير المجلس، لم يعتبر ولم ينشأ به العقد.
وضابط ذلك أن القبول يكون معتبرًا ما دام لم يتخلل بينه وبين الإيجاب ما يعد إعراضًا عن العقد من الطرفين، وما دام المجلس قائمًا.
وتحقيق هذا المبدأ عند الحنفية مثلًا: أنه لو أوجب أحد الطرفين البيع، فقام الآخر عن المجلس قبل القبول، أو اشتغل بعمل آخر يوجب اختلاف المجلس، ثم قبل، لا ينعقد العقد، لأن القيام دليل الإعراض والرجوع عن العقد (1)، ثم إن الشافعية القائلين بفورية القبول قالوا: يعتبر العرف في تفرق العاقدين عن المجلس، فما يعده الناس تفرقًا يلزم به العقد، وما لا فلا، لأن ما ليس له حد في اللغة ولا في الشرع يُرْجَع فيه إلى العرف، ومثال التفرق: الخروج من البيت (الغرفة) إلى صحن الدار وبالعكس، والخروج من الدار الصغيرة إلى الشارع، وصعود السطح، ومشي خطوات ثلاث مع بقاء الآخر واقفًا، أما لو مشى الطرفان، فيظل المجلس قائمًا ما دام الكلام في موضوع العقد، ولو طال الزمن.
(1) البدائع: 5/137، فتح القدير مع العناية: 5/78، 80.
ويترتب على الشرط الثالث: ألا يرجع الموجب في إيجابه قبل قبول القابل أنه لا بد لانعقاد العقد من استمرار الموجب على إيجابه الذي وجهه للقابل، فإن عدل عن إيجابه لم يصح القبول.
ويصح في رأي الجمهور غير المالكية العدول عن المجلس في مجلس العقد، فللموجب أن يرجع عن إيجابه قبل صدور القبول من الطرف الآخر، ويبطل الإيجاب حينئذ، لأن الالتزام بالعقد لم ينشأ بعد، ولا ينشأ إلا بارتباط القبول بالإيجاب، ولأن الموجب حر التصرف بملكه وحقوقه، وبإيجابه أثبت للطرف الآخر حق التملك، وحق الملك أقوى من حق التملك. فيقدم عليه عند التعارض، لأن الأول ثابت لصاحبه أصالةً، والثاني لا يثبت إلا برضا الطرف الأول، والتراضي بين الجانبين أساس لصحة العقود (1) .
وقال أكثر المالكية: ليس للموجب الرجوع عن إيجابه، وإنما يلتزم بالبقاء على إيجابه حتى يعرض الطرف الآخر عنه، أو ينتهي المجلس، لأن الموجب قد أثبت للطرف الآخر حق القبول والتملك، فله استعماله وله رفضه، فإذا قبل ثبت العقد، وإذا أعرض عن الإيجاب لم ينشأ العقد، وعليه لا يكون الرجوع مبطلًا للإيجاب (2) .
تعيين مدة القبول:
إذا حدد الموجب للطرف الآخر مدة للقبول، فيلتزم بها عند فقهاء المالكية، لأنهم قالوا كما تقدم: ليس للموجب الرجوع عن إيجابه قبل قبول الآخر، فيكون من باب أولى ملتزمًا بالبقاء على إيجابه إذا عين ميعادًا للقبول، كأن يقول: أنا على إيجابي مدة يومين أو يوم أو ساعات مثلًا، فيلزمه هذا التقييد، ولو انتهى المجلس. وهذا يتفق مع المبدأ العام في الشريعة وهو ((المسلمون على شروطهم)) (3) . ومثل هذا الشرط لا ينافي مقتضى العقد.
العقود التي لا يشترط فيها اتحاد المجلس:
اتحاد المجلس شرط في جميع العقود ما عدا ثلاثة: الوصية، والإيصاء، والوكالة.
أما الوصية (وهي تصرف مضاف إلى ما بعد الموت) : فيستحيل فيها تحقق اتحاد المجلس، لأن القبول لا يصح من الموصى له في حال حياة الموصي، وإنما يكون بعد وفاته مصرًّا على الوصية.
(1) البدائع: 5/134، مغني المحتاج: 2/43، غاية المنتهى: 2/29.
(2)
مواهب الجليل للحطاب: 4/241.
(3)
هذا نص حديث نبوي أخرجه الترمذي عن عمرو بن عوف، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وأما الإيصاء (وهو جعل الغير وصيًّا على أولاده ليرعى شؤونهم بعد وفاته) : فلا يلزم القبول فيه في حياة الموصي، وإنما يصح بعد وفاته. وعلى كل حال لا يصبح وصيًّا إلا بعد وفاة الموصي وإن قبل في حياته.
وأما الوكالة (وهي تفويض التصرف والحفظ إلى الوكيل في أثناء الحياة) فمبنية على التوسعة واليسر والسماحة، فلا يشترط فيها اتحاد المجلس، لأن قبولها قد يكون باللفظ (القول) أو بالفعل بأن يشرع الوكيل في فعل ما وُكِّلَ فيه، ويصح فيه توكيل الغائب (أي غير الموجود في مجلس العقد) ويكون له صلاحية القيام بالعمل الموكل فيه بمجرد علمه بالوكالة (1) .
ويرى الحنابلة: أنه يعد كالوكالة كل عقد جائز غير لازم، يصح القبول فيه على التراخي، مثل الشركة والمضاربة والمزارعة والمساقاة، والإيداع والجعالة.
التعاقد بالهاتف واللاسلكي ونحوهما من وسائل الاتصال الحديثة:
ليس المراد من اتحاد المجلس المطلوب في كل عقد كما بيَّنَّا كون المتعاقدين في مكان واحد، لأنه قد يكون مكان أحدهما غير مكان الآخر، إذا وجد بينهما واسطة اتصال، كالتعاقد بالهاتف أو اللاسلكي أو بالمراسلة (الكتابة) وإنما المراد باتحاد المجلس: اتحاد الزمن أو الوقت الذي يكون المتعاقدان مشتغلين فيه بالتعاقد، فمجلس العقد: هو الحال التي يكون فيها المتعاقدان مقبلين على التفاوض في العقد (2)، وعن هذا قال الفقهاء:(إن المجلس يجمع المتفرقات)(3) .
وعلى هذا يكون مجلس العقد في المكالمة الهاتفية أو اللاسلكية: هو زمن الاتصال ما دام الكلام في شأن العقد، فإن انتقل المتحدثان إلى حديث آخر انتهى المجلس.
ومجلس التعاقد بإرسال رسول أو بتوجيه خطاب أو بالبرقية أو التلكس أو الفاكس ونحوها: هو مجلس تبليغ الرسالة، أو وصول الخطاب أو البرقية أو إشعار التلكس والفاكس، لأن الرسول سفير ومعبر عن كلام المرسِل، فكأنه حضر بنفسه وخوطب بالإيجاب فقبل، فينعقد العقد. وفي مكاتبه الغائب بخطاب أو برقية ونحوهما يجعله كأنه حضر بنفسه، وخوطب بالإيجاب، فقبل في المجلس، فإن تأخر القبول إلى مجلس ثانٍ، لم ينعقد العقد. وبه تبين أن مجلس التعاقد بين حاضرين: هو محل صدور الإيجاب، ومجلس التعاقد بين غائبين: هو محل وصول الكتاب أو تبليغ الرسالة، أو المحادثة الهاتفية.
(1) البدائع: 6/20 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص328، نهاية المحتاج: 4/21، مغني المحتاج: 2/222، غاية المنتهى: 2/147.
(2)
المدخل الفقهي العام للأستاذ مصطفى الزرقاء: ف171.
(3)
البدائع: 5/137.
لكن للمرسِل أو للكاتب أن يرجع عن إيجابه أمام شهود، بشرط أن يكون قَبْل قبول الآخر ووصول الرسالة أو الخطاب ونحوه من الإبراق والتلكس والفاكس. ويرى جمهور المالكية أنه ليس للموجب الرجوع قبل أن يترك فرصة للقابل يقرر العرف مداها كما تقدم.
هذا وإن بقية شروط الإيجاب والقبول عدا اتحاد المجلس لابد من توافرها في وسائل الاتصال الحديثة.
زمن إتمام العقد في التعاقد بين غائبين:
أجمع الفقهاء على أن العقد ينعقد بين الغائبين كما في آلات الاتصال الحديثة بمجرد إعلان القبول، ولا يشترط العلم بالقبول بالنسبة للطرف الموجب الذي وجه الإيجاب (1) .
فلو كان المتعاقدان يتحدثان بالهاتف أو باللاسلكي، وقال أحدهما للآخر: بعتك الدار أو السيارة الفلانية، وقال للآخر: قبلت انعقد العقد، بمجرد إعلان القبول، ولو لم يعلم الموجب بالقبول، بأن انقطع الاتصال بينهما.
ولو وَجَّه أحد العاقدين أو برقية إلى آخر أو تلكسًا أو فاكسًا، وفيها إيجاب بيع شيء، أو بإبرام عقد زواج، انعقد العقد بعد وصول البرقية أو الخطاب ونحوهما، وإعلان الآخر قبوله، دون حاجة إلى علم الموجب أو سماعه بالقبول.
لكن إبعادًا لكل لبس أو غموض، وتمكينًا من إثبات العقد، وتأكيدًا لإبرامه، جرى العرف الحاضر في التلكس مثلًا ونحوه على إرسال تلكس العرض، ثم تلكس القبول، ثم تلكس البيع، وساعد على ترسيخ هذا العرف ما تنص عليه بعض القوانين الوضعية كالقانون المدني المصري، فإنه نص على ما يلي:
في التعاقد بين حاضرين: تنص المادة (91) على أن (التعبير عن الإرادة ينتج أثره في الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وُجِّهَ إليه، ويعتبر وصول التعبير قرينةً على العلم به، ما لم يقم الدليل على عكس ذلك) . واشتراط السماع أو العلم بالقبول حتى بين الحاضرين أخذ به بعض فقهاء الحنفية مثل النسفي وابن كمال باشا.
في التعاقد بين غائبين: تنص المادة (97) على ما يلي: (يعتبر التعاقد ما بين الغائبين قد تم في المكان وفي الزمان اللذين يعلم فيهما الموجب بالقبول، ما لم يوجد اتفاق أو نص قانوني بغير ذلك، ويفترض أن الموجب قد علم بالقبول في المكان والزمان اللذين وصل إليه فيهما هذا القبول) .
وأرى الأخذ بضرورة العلم بالقبول بالنسبة للموجب في التعاقد بين غائبين بسبب تقدم وسائل الاتصال الحديثة وتعقد المعاملات، وتحقيقًا لاستقرار التعامل ومنع إيقاع الموجب في القلق، وتمكينًا من إثبات العقد وإلزام القابل، فإن جهل الموجب بالقبول يوقعه في حرج شديد. وهذا رأي الأستاذ الدكتور عبد الرزاق السنهوري (2) .
وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي
(1) التعبير عن الإرادة في الفقه الإسلامي للدكتور وحيد سوار: ص118 طبع الجزائر.
(2)
مصادر الحق: 2/57.
بحث
سعادة الأستاذ محمود شمام
عضو المجلس الإسلامي الأعلى بتونس
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على رسوله، الصادق الأمين وآله وصحبه وسلم
تقديم
حاولنا الإجابة عن موضوع إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة بدراسة مختصرة تفي بالمقصود إن شاء الله.
1-
شرحنا بطريقة بسيطة ساذجة لكنها قريبة من الواقع التعريف ببعض هذه الوسائل حتى نتصورها ونحكم عليها.
2-
ربطنا بحثنا بما جاءت به القوانين الوضعية لنصل إلى غايتنا من هذا البحث ومعرفة ما جاءت به النظريات العصرية في الموضوع.
3-
تعرَّضنا إلى أحكام الفقه الإسلامي شارحين نظريات مختلفة المذاهب في شأن إبرام العقود وتكوّنها ووجودها ولزومها، مع بيان صلة كل ذلك بالموضوع الأصلي لهذه الدراسة.
4-
وانتهينا إلى أن إنشاء العقود وإجرائها بوسيلة من هذه الوسائل الحديثة المتطورة لا مانع منه فقهًا شريطة احترام مقاصد الشريعة الإسلامية السمحة والخضوع لأحكامها ومبادئها التي ألمحنا إليها.
5-
ألحقنا ذلك بملاحظة عابرة تخص بعض العقود التي اعتاد الناس إجراءها وأحكامها، والتجاؤهم إلى هذه الوسيلة لغاية السرعة ولكنهم قد يخرجون في شأنها عن حدود الله وأحكامه بسبب التطلع إلى سرعة إنجازها. ونبَّهنا إلى حرمة كل إجراء يتخذ ولا يتقيد فيه بأحكام الشريعة الإسلامية السمحة.
وعسى أن نكون قد وفقنا في إعطاء نظرة حول الموضوع الذي هو عام شامل لكل تصرفات الناس في عصرهم هذا، والحمد لله أولًا وآخرًا.
أن قضية العلاقة المتينة بين أحكام الدين الإسلامي الحنيف – والدين عند الله الإسلام – وبين المعاملات المدنية الاجتماعية الاقتصادية – والدين عبادة وسلوك – من أبرز القضايا التي تطرح نفسها على العقل المسلم في هذا العصر المتطور ماديًّا وعلميًّا حسب أساليب ووسائل اخترعها وأنشأها وكوَّنها وأحدث بها قضايا يتساءل كل مسلم عن أحكامها شرعًا، ويبحث المفتي الباحث المجيب عن الجواب في نطاق اجتهادات الأئمة السابقين، رضي الله عنهم اعتمادًا على أحكام القرآن العظيم وسنَّة نبيِّه الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم.
ولم يعد بالإمكان تجاهل هذه المشاكل المطروحة والأسئلة الملقاة التي تطلب الحل والإجابة ببيان الحلال من الحرام.
ولقد تطورت الحياة الاقتصادية تطورًا عجيبًا وأصبحت وجهات نظرها وطرق عملها تهم كل المجتمعات الإسلامية بحكم الارتباط الحضاري والاقتصادي وانتشار طرق الالتقاء والاتصال وسهولة تبادل الآراء والاطلاع على خفايا الأمور بين أصقاع المعمورة مع تباعد الديار بفضل هذه الوسائل المتطورة العجيبة الميسّرة السّهلة في مآخذها وتطبيقها والتي فرضت نفسها على كل المجتمعات بشكل عجيب ورهيب، لا يسعى الإنسان إليها ولا يطلب حضورها ولا يرغب في تغلغل مفعولها وإنما تدخل البيوت من غير أبوابها ولا تستأذن أربابها وتربي الكسل الرخيص والارتخاء البسيط، فإذا الإنسان يرحب بمقدمها ويسعى لانتشار أمرها ويطلب التعامل معها. ولكل عصر نواميسه وموازينه ووسائل راحته وترفيهه سواء دعي ذلك تقدمًا أو نعُت بالكسل والارتخاء والاعتماد الكلي على الآلة
…
والآلة وحدها.
والمسلمون بعد عصر النهضة وبعد الخلود إلى الراحة لم يكن لهم أي دور في وجود وفي تطور طرق ووسائل وآلات الاتصال الحديثة وإنما هي بضاعة مستوردة طلبوها من صناعها واستخدموها في بلادهم دون معاناة أو تعب أو مشقة ونصب ودون تفكير حتى في صنعها وتطويرها وفهم غامض أمرها وشأنها، وهي بقدر ما تجلب اهتمامهم تجلب أموالهم.
وكان لا بدَّ أن تحدث المشكلة وأن تبعث الأسئلة وأن توجد الحيرة بين رافض لا يحسن إلا التمسك بأساليب قديمة أبدى في شأنها العلماء رأيهم وتعوّد عليها الجميع في ظل الأمن والاطمئنان وراحة البال ولو أدى الأمر إلى خسارة الصفقات وضياع الأرباح وهلاك الاقتصاد وخسارة الحرب الدائرة.
وبين منغمس في استعمالها وفي التلذذ بمنافعها دون وعي بمضارِّها أو تبصّر بأحكامها وعن جهل بعلاقة أحكام دينه الحنيف بما ينتج عن هذه الطرق والآلات من ارتباطات ومعاملات وعقود وانجرار منافع قد تكون محرمة شرعًا في بعض الأحيان.
والدعوة الملحة وجريان الحياة وعدم توقفها تدفع بالفقيه العالم المتقصِّي إلى البحث عن الحلول طبق منهج الإسلام ومقصده في مثل هذه المسائل.
ولنا قدوة حسنة في الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم، وفي أصحابه رضوان الله عليهم، وفي مجتهدي هذه الأمة الذين خبروا أمر استنباط الأحكام بطرق عرفوها وخبروها ووضعوا لها مقاييس ليس لنا الخروج عنها، إذا كانت جامعة مانعة تعبد الطريق وترسمه وتيسر سبيل السير فيه: سير الرشاد والهدى وبلوغ الغاية طبق أحكام الدين الحنيف.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يسأل قاضيه المتوجه لتسلم خطته ويفرح لإجابته بأنه يجتهد رأيه إذا لم يجد نصًّا من كتاب أو سنَّة. وهو بذلك يخطو أول خطوة في سبيل الاجتهاد والتصرف عند نزول القضايا وحدوث المشاكل.
وأئمة المذاهب رضي الله عنهم يسيرون في هذا السبيل ويقتفون أثر الرسول الكريم.
فالإمام أبو حنيفة رضي الله عنه إمام القائلين في الفقه بالرأي والقياس والاستحسان فيما ترك من أجله القياس متى تبين له المصلحة في ذلك، إلا أن ذهابه إلى القياس والاستحسان كان بلا ريب بعد الرجوع إلى القرآن والسنَّة الثابتة لديه ولا يجد نصًّا فيهما على حكم الله فيما عرض عليه وبعد أن لا يجد في المسألة موضوع البحث والفتوى حكمًا أو رأيًا مجمعًا عليه من الفقهاء ومن لهم حق الإجماع.
يقول الخطيب في تاريخ بغداد [13/340] :
(إن أبا حنيفة كان إذا وردت عليه مسألة فيها حديث صحيح اتبعه وإن كان عن الصحابة التابعين، وإلا قاس وأحسن القياس) .
وفيما روي عن أبي حنيفة نفسه أن يقول: (علمنا هذا الرأي وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن قدر على غير ذلك فله ما رأى ولنا ما رأينا)[الملل والنحل، للشهرستاني] .
وهو رضي الله عنه يوضح طريقته في استنباط الأحكام، فيقول:
(أني آخذ بكتاب الله إذا وجدته فما لم أجد فيه أخذت بسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم والآثار الصحاح عنه التي فشت في أيدي الثقات، فإذا لم أجد في كتاب الله ولا في سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت بقول أصحابه من شئت وادع من شئت ثم أخرج من قولهم إلى قول غيرهم فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب – أي المجتهدين أمثاله – فلي أن أجتهد كما اجتهدوا) . [الانتقاء لابن عبد البرّ] .
يقول الشيخ الإسلام أحمد بن تيمية [مجموع الفتاوى 29/16] .
(إن تصرفات العباد في الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم وعادات يحتاجون إليها في دنياهم، فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع، وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه) .
والأصل فيه عدم الحظر فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى، وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله والعبادة لا بد أن تكون مأمورًا بها فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يحكم عليه أنه عبادة، وما لم يثبت من عبادات أنه منهي عنه كيف يحكم على أنه محظور. ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون إن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرع الله تعالى وإلا دخلنا في معنى قوله:
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى: الآية 21] .
والعادات الأصل فيها العفو فلا يحظر منها إلا ما حرمه الله وإلا دخلنا في معنى قوله [سورة يونس: الآية 59] .
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا} .
ولهذا ذم الله المشركين الذين شرعوا في الدّين ما لم يأذن به الله وحرَّموا ما لم يحرِّمه في [سورة الأنعام: الآية 135] .
وفي صحيح مسلم، عن عياض، عن الرسول عليه الصلاة والسلام، قال:((قال الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا))
وهذه قاعدة عظيمة نافعة. انتهى كلام شيخ الإسلام.
ومن هذه الزاوية، زاوية الحداثة والتطور الفني لآلات الاتصال وتقارب المسافات بين الذوات المادية وإن تباعدت الأجساد، يجمل بالباحث أن يستعرض أولًا هذا التطور والاختراع المحدث وما قيل في شأنه من طرف المقننين المعاصرين في النظام الوضعي الدولي ثم نتبع ذلك بعد التصور بأحكام الفقه الإسلامي ذي الثراء الواسع الذي يستطيع أن يمدنا بالمتشابه وبالنظير وأن ييسر لنا سبل استخراج الأحكام وتطبيقها على ما حدث من أقضية وطرأ من مشاكل ووجد من ابتكار دخل حياتنا وتغلغل في تصرفات تجارنا وفي معاملاتنا المدنية.
وعسى أن لا يأخذنا أحد إذا اتبعنا هذا السبيل ففيه الوضوح والجلاء والتقصي ثم محاولة وجود النص والمساعدة على إجراء القياس والانتهاء إلى المطلب المنشود فالموضوع جافٍ إن اقتصر على عنوانه وثري حافل إن وقع التطرق إلى شعبه وما يخضع له من عناصر متنوعة ومحاور متفرقة بين دفات الكتب الفقهية هذا الفقه الذي نفخر به وبمن عالجوا أبوابه ونظموا طرقه ولم يغفلوا حتى عن البسيط من الأمر.
ما هي طرق الاتصالات الحديثة
يجمل التعريف بإيجاز واختصار ببعض هذه الطرق لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
وما نذكره هنا هو تقريبي لا غير، إذ الغاية تصور هذه الطرق بصورة مجملة وندع التفاصيل لأهل الفن في هذا الميدان.
(أ) الهاتف:
1-
دور الهاتف:
يتمثل دور الهاتف في نقل الصوت من مشترك إلى آخر عبر خطوط هاتفية مادية أو هوائية توفرها مصلحة البريد للمشتركين، ويقع التمييز بين مشترك وآخر برقم أو بعدد يتكون من عدة أرقام، مثلًا في تونس يتكون من ستة أرقام.. ويقع التمييز بين المناطق الجغرافية برقم إضافي، فمثلًا يضاف العدد (5) إلى رقم المشترك القاطن في صفاقس إذا خاطبته من خارج صفاقس. وكما يضاف رقم للتفريق بين الدول المرتبطة مع بعضها عبر خطوط الهاتف، فإذا أردت أن تخاطب شخصًا ما في أميركا فيجب إضافة العدد (1) .
فخلاصة القول: يتكون رقم الهاتف من مميز للبلد ومميز للتقسيم الجغرافي داخل البدل ورقم المشترك.
2-
كيفية الاتصال:
عن طريق آلة الهاتف يقع تحويل الموجات أو الذبذبات الصوتية البشرية إلى ذبذبات كهربائية تترجم عن خصائص الموجات الصوتية من قوة وسرعة، وتحمل تلك الذبذبات الكهربائية عن طريق أسلاك معدنية أو على الهواء إن كانت سرعتها كبيرة إلى الآلة المقصودة بالخطاب فتحول تلك الموجات الكهربائية إلى ذبذبات صوتية.
فخلاصة القول: إن دور آلة الهاتف هو تحويل الذبذبات الصوتية إلى إشارات كهربائية بالنسبة للمتكلم وتحويل الإشارات الكهربائية إلى إشارات صوتية بالنسبة للسماع.
وإن مصلحة الاتصالات هي التي تنظم حركة المرور بين المشتركين، فهي تضمن إيصال المكالمات إلى أصحابها، وكما أسلفت فإنه يقع التمييز بين مشترك وآخر بالرقم الذي توفره له مصلحة البريد.
ولقد أمكن في هذه السنوات الأخيرة جعل الصورة مصاحبة للصوت، فبالإمكان مشاهدة الشخص المتخاطب معه وهذه الصورة تكون عادة مرسلة عبر موجات هوائية فائقة السرعة.
(ب) التلغراف:
آلة التلغراف بسيطة الاستعمال، فهي تسمح بإرسال إشارات منظومة متعارف على معناها، فهي عبارة عن رموز لأحرف وكلمات.. وتنقل هذه الإشارات الكهربائية عبر خطوط (أسلاك) بسرعة ضعيفة نسبيًّا.
(ج) التلكس:
1 -
دور التلكس:
يتمثل دورالتلكس في إرسال الأحرف المكونة لرسالة أو وثيقة من مشترك إلى آخر عبر خطوط (أسلاك مادية) أو عبر الهواء، وكل مشترك في نظام التلكس له رقم معين يميزه عن بقية المشتركين، كما هو الشأن بالنسبة لأرقام الهاتف.
2-
كيفية الاتصال:
تحتوي آلة التلكس على مفاتيح كمفاتيح الآلة الكاتبة، وبعد أن يقع رقم الرسالة المزمع إرسالها تحول الآلة كل حرف من الرسالة إلى رقم – وهذه الأرقام التي هي رموز لكل حرف من أحرف الهجاء متعارف عليها عالميًّا – وبعد أن تحول الآلة كل حرف إلى رقم يقع بتحويل مجموع الأرقام إلى إشارات كهربائية ترسل عبر خطوط التلكس تستقبلها الآلة المقصودة فتحولها- أي تلك الإشارات الكهربائية – إلى أرقام ثم إلى أحرف وترقم تلك الأحرف على ورقة بطريقة آلية.
ويقع التعريف، سواء قبل إرسال الرسالة أو عند وصولها، برقم المرسل والمرسل إليه حتى تتم إرسال أو قبول الرسالة من طرف الآلة.
وسرعة التلكس كسرعة التلغراف ليست بالسرعة العالية، وتملك الآلة القدرة على إصلاح الخطأ الواقع من جراء تنقل الإشارات الكهربائية عبر خطوط التلكس، وذلك قبل تحويل الأرقام إلى أحرف الرسالة.. فمع كل حرف مرسل، أي بعد تغييره إلى رقم، ترسل معه إشارة إضافية، تبين بعض خصائصه من أن الرقم زوجي أو فردي أو عند وصول الرقم إلى الآلة المقصودة تصل معه الإشارة المصاحبة، فتفهم الآلة الرقم والإشارة وتتأكد من صحته، أي أنه إذا وصل رقم فردي وإشارته تعلم بأن الرقم زوجي، فإن الآلة تفهم بأن الرقم فيه خطأ.. وبوسائل أخرى متشعبة تستطيع إصلاحه في معظم الحالات.
(د) التلفاكس: (TELEFAX - TELECOPIE)
1 -
دور التلفاكس:
بإمكان آلة التلفاكس تحويل نسخة من رسالة أو صورة إلى إشارات كهربائية ترسل عبر خطوط هاتفية، وكما هو الشأن بالنسبة للهاتف فإن كل آلة أو مشترك يميزها رقم كرقم الهاتف تمامًا.
2-
تستبين آلة التلفاكس الصورة عن طريق الأشعة وتقدر مدى إضاءة كل نقطة في الرسالة وتحول هذه المعلومات إلى إشارات كهربائية تبعث عن طريق الخطوط الهاتفية وعندما تصل تلك الإشارات إلى الآلة المقصودة تحول تلك الإشارات إلى صورة مماثلة للرسالة وذلك عن طريق الأشعة أيضا ولكن الصورة تكون أقل دقة ووضوحا من الصورة الحقيقية
وترسل إشارة من الآلة الباعثة قبل إرسال الصورة لطلب استعداد الآلة المرسل إليها للاستقبال، وعندما تكون الآلة المرسل إليها مستعدة أي أن الخط غير مشغول فإنها تجيب الآلة المرسلة بإشارة هي بمثابة علامة استعداد. وسرعة الإرسال هي كسرعة التخاطب بالهاتف، لذلك فاحتمال وقوع الخطأ أو عدم الوضوح يكون أكثر من استعمال التلكس، غير أن من حسنات هذه الآلة على غرار سابقتها أنها تسمح بإرسال الصورة زيادة على الرسائل، فهي بحد ذاتها كالآلة الناسخة غير أنها تتمكن من إرسال ما تنسخه.
(هـ) النقل بواسطة العقل الالكتروني: (ORDINATEUR)
هو وسيلة متطورة بالمعادلة مع الآلة الكاتبة، إذ بإمكانه خزن ما يكتب، أما الآلة الكاتبة فيه تبرز ما تكتب ولا تخزن.
وبالإمكان بإضافة آلات بسيطة إلى العقل الالكتروني وربطه بخط الهاتف، التخاطب مع عقل آخر له اتصال هو أيضًا بخط الهاتف بأرقام خاصة طبعًا.
وحينئذٍ يمكن كتب رسالة وخزنها مع توجيه نسخة منها إلى عقل آخر يتلقاها صورة على الشاشة المصاحبة للعقل في نفس الوقت كسرعة الهاتف.
وهذه الوسيلة دخلتها عدة اضطرابات إن لم نقل دخلها العبث. وبقدر محاسنها وسرعتها فإنها كثيرة العيوب ومن الصعب الاطمئنان إليها.
ومهما احتاط الناس فالمنحرفون يمكنهم الوصول إلى غايتهم السافلة بواسطة هذه الآلة.
(و) الاعتماد الموثق:
وهنا نقف في محطة أخرى ألحقناها إلحاقًا لأنها تشرح أهمية ونجاعة الاتصالات الحديثة بوسائلها المتطورة النابضة بالحياة والميسرة للمعاملات والمقربة للمسافات، وهي المتعلقة بسند الاعتماد أو الاعتمادات المستندية في الأعراف الدولية، وهي وسيلة تسهل المعاملات وتحكم ربطها بواسطة وسائل الاتصالات السابقة.
فالبنوك الآن تضطلع بدور كبير في شؤون التجارة والاقتصاد وعمليات الائتمان التجاري.
فهي تمارس نشاطها وتحركها عن طريق العديد من العمليات المصرفية مرتبطة بحرفاء وبعقود تجارية لها مواصفات خاصة وأحكام مميزة.
وهذا النظام لم تكن له جذور قانونية تقليدية معينة، إنما بعث لحاجة العمل التجاري وتوفير الأمن والثقة بين الباعة والمشترين طبق عادات وأعراف وقعت محاولة لوضعها في صيغة ميثاق ليستأنس به ويستنار بأحكامه.
فالبيع قد يتم بين متعاقدين كل واحد منهما في جهة بعيدة كل البعد عن جهة ومقر صاحبه ومعاقده، ويكون ذلك بواسطة الاتصالات السريعة لأن الناس دومًا في حاجة أكيدة للسرعة في قضاء حاجياتهم.
ومن هنا جاءت هذه الطريقة التي نشرحها وهي مكملة متممة لما توفره تلكم الوسائل الاتصالية السريعة فالبضاعة تسلم تسليمًا حكميًّا معنويًّا قانونيًّا فقط لا بالمناولة والحوز المادي وإنما بتسليم المستندات الخاصة بها وهي سند الشحن وسندات تحقق سلامة تأمين البضاعة وسلامتها ووزنها ونوعها ووصفها مما يتحقق معه إنهاء البائع لواجباته المفروضة عليه في انتظار قيام المشتري بما عليه من واجبات.
والمشتري عليه أن يدفع الثمن بواسطة البنك الذي يتعامل معه، وفي ذلك ضمان مؤكد لحقوق البائع.
وجاء التفكير في هذه الوسيلة لدفع كل خطر لضمان حقوق كل الأطراف عند وجود فاصل مكاني يحول دون المتعاقد الفوري والتبادل الحيني للثمن والمثمن بطريقة (خذ.. وهات) المتعارفة.
وهذا النظام نشأ بدافع الحاجة العملية ثم تطور وتغير تحت ضغط تلكم الحاجة وإلحاحها. والعرف وحده هو الذي يحدد أحكام هذا النظام محترمًا في ذلك المقاصد الاقتصادية والأهداف العملية وسلامة كل ذلك من شوائب مخالفة القوانين والأنظمة.
يقول أحد رجال القانون المختصين، الأستاذ علي عوض، في كتابه (الاعتمادات المستندية) ، وهو من أحسن ما ألف في الموضوع.
: إنه قد لا يستطيع أحد المتعاقدين أن يبدأ بتنفيذ التزامه قبل أن ينفذ الآخر التزامه، أو قبل أن يطمئن هو بشكل أكيد إلى أن هذا التنفيذ سيحصل، فاتجه التفكير إلى الاستعانة بالمستندات التي تصدر بمناسبة تنفيذ هذا البيع، إذ هي تمثل حيازة البضاعة والحقوق الناشئة من البيع وتكشف عن مدى تنفيذ البائع لالتزامه وإلى الاستعانة بشخص وسيط يثق فيه كل من البائع والمشتري تمر عن طريقه المستندات والثمن وبشروط تجعل كل واحد مطمئنًا.
فيشترط البائع في عقد البيع على المشتري أن يطلب إلى بنك يعينه أن يتعهد أمامه هو بدفع الثمن متى سلَّمه المستندات الخاصة بتنفيذ البيع والتي بها يتسلم المشتري البضاعة. ويقال عندئذٍ: إن بنك المشتري يفتح بهذا التعهد اعتمادًا مستنديًّا لصالح البائع.
ويسمى المشتري هنا الآمر، لأنه يأمر البنك الفاتح أو المصدر ويسمى الخطاب أو الإخطار الذي يرسله البنك إلى المستفيد متضمنًا تعهده (accrditif) .
وقد يكون تعهد البنك في هذا الخطاب غير مؤكد أو غير نهائي، أي قابلًا للرجوع فيه أو للنقض (Revocable) ، وفيه يكون البنك مجرد وكيل عن المشتري الآمر لا يلتزم بأي التزام شخصي أو مستقل أمام البائع. ولهذا يكون للمشتري أن يلغي أوامره السابقة ويطلب إلى البنك الرجوع في وعده الذي أخطر به البائع، كما يكون للبنك أيضًا أن يرجع في هذا الوعد متى قام سبب يبرر ذلك في علاقته بالمشتري الآمر كما لو ساء المركز المالي للمشتري.
والمعتاد أن يشترط البائع في البيع على المشتري أن يكون تعهد البنك في خطابه قطعيًّا (irrevocable) ، بمعنى أن يتعهد أمام البائع تعهد شخصيًّا مستقلًا منفصلًا بحيث لا يكون له بعد ذلك أن يرجع في تعهده أيا كان مصير علاقة البنك بالمشتري الآمر ولا ما يطرأ على المركز المالي للمشتري كما لا يكون المشتري أن يأمر البنك بالرجوع في تعهده ولا أن يرجع هو في تعليماته التي أصدرها للبنك من قبل، وهكذا يحصل البائع على الطمأنينة التي ينشدها من تدخل البنك وتبلغ أقصاها في حالة ما يؤكد بنك آخر تعهد بنك المشتري.
وقد انتشر استخدام الاعتماد المستندي في أعقاب الحرب العالمية الأولى، إذا كان المصدرون من الولايات المتحدة الأمريكية يطلبونه من المشترين في أوروبا، ثم امتد بعد ذلك إلى كافة أنحاء العالم.
وجاء في المرشد العلمي الذي وضعته غرفة التجارة الدولية في شأن هذا الاعتماد سنة 1978م أن الاعتماد المستندي هو بعبارة وجيزة تعهُّد مصرفي مشروط بالوفاء، أو هو تعهُّد مكتوب من بنك يسمى المصدر مسلم للبائع المستفيد بناء على طلب المشتري وطبق تعليماته للقيام بالوفاء في حدود مبلغ محدد خلال فترة معينة في نظير مستند مشترط.
وعرَّفه بعضهم بقوله:
(الاعتماد المستندي القطعي عقد بمقتضاه وبناء على طلب أحد طرفيه وهو الآمر يتعهد البنك فاتح الاعتماد شرطيًّا وبشكل لا رجوع فيه أمام شخص من الغير مباشرة وبواسطة تدخل بنك في بلد هذا الغير أن يدفع مبلغًا محددًا في مقابل أن تقدم إليه خلال مدة محددة مستندات معينة ويلتزم العميل المفتوح له الاعتماد الآمر من جانبه بتخليص العملية) .
وقد عرَّف القانون التجاري التونسي هذا الاعتماد تحت عنوان: (الاعتماد الموثق)، عرفه في الفصل (720) وما بعده قائلًا:
الاعتماد الموثق هو الاعتماد الذي يفتحه أحد البنوك بطلب من شخص آمر لفائدة عميل له ويكون مضمونًا بحيازة الوثائق المتمثلة فيها البضائع أثناء نقلها أو البضائع المعدة للنقل.
والاعتماد الموثق ينشأ مستقلًّا عن عقد البيع الذي يمكن أن يكون أصلًا لتكوينه وتبقى البنوك أجنبية عنه.
وكل اعتماد يعتبر غير قابل للرجوع فيه إلا إذا نص شرط صريح على خلافه.
والاعتماد الذي لا رجوع فيه يقتضي التزام البنك التزامًا باتًّا مباشرًا تجاه المستفيد.
ويظهر أن هذا الاعتماد لجأ إليه العرف التجاري الدولي، لأنه يحقق سرعة التعاقد ويحمي سلامة تنفيذ العقود، لأن بقية الوسائل الأخرى قد لا تحمي الأطراف حماية تامَّة وقد لا تحقق السرعة المطلوبة. فالضامن الكفيل لا يؤدي إلا تحت شروط تهم اختيار حالة المدين وإذا صدر أي اعتراض أعرض الكفيل عن الأداء وتقاعس عن الوفاء وضاعت حقوق الدائن بسبب تلاعب أصحاب الأهواء وطول الترافع في ساحات القضاء.
والالتزام بفتح الاعتماد ينشأ تسهيلًا لعقد العقود وسرعة تنفيذها بتسلم الثمن والبضاعة وهذا يتم غالبًا بواسطة هذه الآلات السريعة العصرية المتطورة.
ومن هنا نفهم سبب إلحاق هذه الوسيلة بتلك الوسائل، لأنها تتكامل معها وتجر إلى نفس المرفأ وتنتهي بالعقود إلى النفاذ السريع العاجل في شبه اطمئنان وسلامة وأمن مع سرعة تتماشى وعصر السرعة والمادة وفقد الثقة وفتح الاعتماد هو تسهيل للوفاء وضمان له.
الفرع الأول
التعاقد بين حاضرين
قد تبرم بين متعاقدين حاضرين حقيقة أو حكمًا أو بين غائبين عن بعضهما منفصلين جسديًّا بسبب بعد المكان.
الفرع الأول:
إذا كان الطرفان المتعاقدان في مكان واحد من بلد واحد وتفاهما في شأن عقد من العقود واتفقا على شروطه ولوازمه وتوابعه وكلياته وجزئياته، فقد انبرم العقد بينهما ولزم كل طرف الوفاء بما تعهد به دَيْنًا وقضاءً مع احترام وسائل الإثبات عند إنكار أي طرف لما يدعيه الطرف الآخر.
أما إذا وجد شخصان مثلًا في مكان واحد وعرض أحدهما على الآخر صفقة من الصفقات بشروطها وأوصافها ولم يعين له أجلًا لقبول العرض أو رفضه، أو بعبارة عرفية لقبول الإيجاب المعروض عليه أو رفضه، فالقوانين الوضعية هنا تقرر أن القبول يجب أن يكون حينيًّا.
يقول الفصل (27) من القانون المدني التونسي:
(إذا عرض شخص على شخص آخر حاضر بمجلسه عقدا من العقود ولم يعين له أجلا لقبوله أو رفضه، فلا يترتب على ذلك شيء إن لم يقبله في الحين) .
وتقول المادة (94) من القانون المدني المصري الجديد.
(إذا صدر الإيجاب في مجلس العقد دون أن يعين ميعادًا للقبول فإن الموجب يتحلل من إيجابه إذا لم يصدر القبول فورًا) .
هذا إذا كان الطرفان حاضرين ماديًّا ذاتيًّا في مكان واحد ومجلس واحد.
والأمر كذلك إذا كان حاضرين حكميًّا، أي حضور معنويًّا بأن كان أحدهما ببلد والآخر بأخرى يبعد عنه لكن أمكنهما الاجتماع معنويًّا بواسطة الهاتف والتخاطب المباشر والتفاهم على كل جزئيات وكليات العقد والهاتف قد يكون مصحوبًا بالصورة المرئية أحيانًا.
فالقبول هنا يجب أن يكون حينيًّا فوريًّا كما في الصورة الأولى، وهي صورة الاجتماع الحي المادي.
وهذا ما صرح به آخر فصل (27) من المدونة المدنية التونسية السابق:
(وهذا الحكم يجري فيما يعرضه شخص على آخر بواسطة التليفون) .
وهو عين ما جاء في المادة (94) من القانون المصري التي تنص:
(وكذلك الحال إذا صدر الإيجاب بطريق التليفون أو بأي طريق مماثل) .
ومن هنا نفهم أن التعاقد بين شخصين حاضرين حضورًا ماديًّا أو حكميًّا أن من وُجِّهَ إليه إيجاب في شأن إبرام عقد من العقود عليه أن يرد بغطاء القبول حالا وفورًا، فإن تراخى وأهمل أمر القبول فالإيجاب أصبح ساقطًا لا يعمل به، وإن قَبِل بعد ذلك يصير قبوله هذا إيجابًا جديدًا وعرضًا حديثًا وعلى الطرف الآخر قبوله حينًا أو رفضه ماديًّا أو معنويًّا بالصمت والسكوت.
وهذا هو عين ما جنح إليه القانون المصري في مادته (94) ، والقانون المغربي في مادته (95) والليبي في مادته (94) .
وهو مبدأ متفق عليه مجمع على أحكامه بصرف النظر على اختلاف في الجزئيات.
والقانون الكويتي، الذي هو حديث عهد بالوضع وقام على أنقاض ما كان معمولًا به في (مجلة الأحكام العدلية العثمانية) التي أصدرتها الدولة العثمانية في شعبان سنة 1293هـ الملاقية سنة 1876 ميلادية، وهي متبعة للمذهب الحنفي.
هذا القانون الكويتي الحديث الصادر سنة 1400هـ - 1980م كان مرنًا في أسلوبه وفي صياغته واستفاد من آراء من سبقه، وقد عالج هذا الموضوع معالجة طيبة، فجاءت مادته (46) تشرح التعاقد بين حاضرين في مجلس العقد، فتقول:
(إذا صدر الإيجاب في مجلس العقد من غير أن يتضمن ميعادًا للقبول كان لكل من المتعاقدين الخيار على صاحبه إلى انفضاض هذا المجلس، وإذا انفض مجلس العقد دون أن يصدر القبول اعتبر الإيجاب مرفوضًا) .
وهو يحدد موقفه من خيار المجلس ويأخذ برأي المالكية والحنفية، فيقول في مادته (47) :
(إذا ارتبط الإيجاب بالقبول لزم العقد طرفيه ولا يكون لأي منهما عنه نكوص حتى قبل أن يفترقا بالبدن) .
وقد شرحت المذكرة الإيضاحية هذا الموضوع شرحًا جيدًا فليرجع إليها من أراد الاطلاع عليها.
وما جاءت به القوانين الوضعية في هذا الشأن فيه نوع من الشدة والقسوة بالمقارنة مع ما جاءت به أحكام الشريعة الإسلامية السمحة الميسرة.
ومعلوم أن الخيار في الفقه الإسلامي له أنواع: خيار المجلس وخيار التروّي وخيار النقيصة أو العيب وخيار الرؤية.
وبالتعرض إلى الموضوع بإجمال كلي من ناحية أحكام الفقه الإسلامي، نلاحظ اليسر والسهولة في شأن هذا الخيار الذي اختلفت الآراء في شأنه واختلف الإسناد إليه والاعتماد عليه.
وبصرف النظر عن خيار النقيصة أو العيب فالخيار نوعان:
(أ) الذي عيّن فيه أمد وأجل للخيار.
(ب) والمطلق الذي لم يعين فيه أجل لذلك.
والأخير هو محل ومحط بحثنا لعلاقته المتينة بوجود شخصين حاضرين ماديًّا أو حكميًّا واشتغالهما بإنشاء عقد من العقود التعاملية المدنية ثم بتعاقد غائبين عن بعضهما بواسطة وسيلة من الوسائل قديمة أو حديثة تقليدية أو عصرية متطورة.
مجلس العقد
روى الإمام مالك في الموطأ، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار)) .
قال مالك: وليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه (1) .
قال عياض: وهذا أصل في جواز بيع المطلق والمقيد. قال الأبِّي: يعني بالمطلق المسكوت عن تعيين مدة الخيار فيه وبالمقيد ما عين فيه أمد الخيار.
فالمتعاقدان إذا حصل بينهما الاتفاق والتراضي على أركان العقد وشروطه تم العقد وانبرم بينهما ولاحق لأحدهما أن يرجع في التزامه سواء في نفس المجلس أو بعد انفضاضه.
والإيجاب المفتوح المتعارف بين التجار والشائع استعماله بين الناس، يقتضي العرض لشخص غير معين فإذا لحقه الإيجاب من أي شخص انبرم العقد، ولذلك صيغ مختلفة.
وهذا بخلاف المناداة على البضاعة والسلع، فهي ليست إيجابًا يتطلب القبول. ثم إنه في بيع المزايدة يحدث أن يقع الافتتاح للدلالة بثمن معين لكنه قابل للزيادة، فلا يمكن أن يكون الثمن المفتتح به إيجابًا وإن كان العرض بواسطة الدلّال في مفهومه الإيجاب لآخر ثمن يعرض.
يقول الشيخ عليش في منح الجليل [2/573] .
(إن الاستفتاح للدلّال بثمن ليبني عليه في المناداة من شخص عارف جائز لئلا يستفتح من يجهل القيمة بسوم قليل فيتعب الدلّال. وكان بالكتبيين في تونس رجل مشهور بالصلاح عارف بالكتب يستفتح للدلّالين ما يبنون عليه ولا غرض له في الشراء) .
والإمام مالك رضي الله عنه ينفي خيار المجلس، لأن الأصل في العقود اللزوم إذ هي أسباب لتحصيل المقاصد من الأعيان وترتب المسببات على أسبابها هو الأصل.
فالبيع والعقد حينئذٍ لازم تفرقًا أم لا فهو رضي الله عنه يقول عقب الحديث الذي يرويه: وليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه.
وهو يدافع عن موقفه ويكتب إلى صاحب له فقيه متمكن ينصحه بالقول والإفتاء بعمل أهل المدينة ويبيّن له صحته في هذا التوجيه.
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} الآية.
والناس تبع لأهل المدينة
…
إليها كانت الهجرة وبها نزل القرآن وأُحلَّ الحلال وحرِّم الحرام، إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم يحضرون الوحي إلى آخر كتابه) .
وأجاب اتباع مالك عن الحديث بحمل (المتبايعان) على المتشاغلين بالبيع، فإن باب المفاعلة شأنها اتحاد الزمن كالمضاربة ويكون الافتراق بالأقوال كقوله سبحانه:
{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [الآية 129 من سورة النساء] .
(1) وروي هذا الحديث عن أبي الحسن الشيرازي، عن زاهر بن أحمد، عن أبي إسحاق الهاشمي، عن أبي مصعب، عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار) . قال البغوي: هذا حديث متفق على صحته، أخرجه مالك في الموطأ والبخاري ومسلم في باب البيوع. وأخرج مسلم عن قتيبة، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:(إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعًا أو يخير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن يتبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع) . قال البغوي: حديث متفق على صحته. وفي الصحيحين: للبخاري ومسلم، عن عبد الله بن دينار أنه سمع ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار) .
ويكون الافتراق مجازًا جمعًا بين الأدلة ولأن ترتيب الحكم على الوصف يدل عليه ذلك الوصف لذلك الحكم فوصف المفاعلة هو علة الخيار فإذا انقضت بطل الخيار ببطلان سببه وحمل المتبايعين على من تقدم منه البيع مجازًا كتسمية الخبز قمحًا والإنسان نطفة.
حتى يقول: وأجيب أيضًا بأنه معارض بنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر وهذا منه، لأن كل واحد لا يدري ما يحصل له وهو خيار مجهول العاقبة فيبطل، ولأن الأمر في قوله تعالى:{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} للوجوب وهو ينافي الخيار.
ونقل محمد بن الحسن عن أبي حنيفة معنى الحديث إذا قال: بعتك فله أن يرجع ما لم يقل المشتري قد قبلت وليس المراد ظاهره أرأيت لو كان في سفينة أو قيد أو سجن كيف يفترقان؟ والمذهب الحنبلي يقرر أنه لكل واحد من المتبايعين حق فسخ البيع ما داما مجتمعين لم يتفرقا بأبدانهما فإذا تفرقا من غير فسخ لم يكن لأحدهما رد البيع إلا لعيب أو شرط [المغني، لابن قدامة] .
يقول ابن رشد الحفيد موضحًا هذا الموضوع وباسطًا أسباب الخلاف [بداية المجتهد: 2/160] :
اختلفوا متى يكون اللزوم، فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما وطائفة من أهل المدينة: إن البيع يلزم في المجلس بالقول وإن لم يفترقا. وقال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود وابن عمر من الصحابة رضي الله عنهم: البيع لازم بالافتراق من المجلس وإنهما مهما لم يفترقا فليس يلزم البيع ولا ينعقد وعمدتهم حديث مالك عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يفترقا إلا بيع الخيار)) . وفي بعض الروايات هذا الحديث إلا أن يقول أحدهما لصاحبه اختر. وهذا الحديث إسناده عند الجميع من أوثق الأسانيد وأصحها حتى لقد زعم أبو محمد أن مثل هذا الإسناد يوقع العلم وإن كان من طريق الآحاد.
وأما المخالفون فقد اضطرب بهم وجه الدليل لمذهبهم في رد العمل بهذا الحديث.
فالذي اعتمد عليه مالك رحمه الله في رد العمل به أنه لم يلف عمل أهل المدينة عليه، مع أنه قد عارضه عنده ما رواه من منقطع حديث ابن مسعود أنه قال: أيما بيعين تبايعا فالقول قول البائع أو يترادّان. فكأنه حمل هذا على عمومه وذلك يقتضي أن يكون في المجلس وبعد المجلس. ولو كان المجلس شرطًا في انعقاد البيع لم يكن يحتاج فيه إلى تبيين حكم الاختلاف في المجلس لأن البيع بعدُ لم ينعقد ولا لزم بعد الافتراق من المجلس.
وهذا الحديث منقطع ولا يعارض به الأول وبخاصة أنه لا يعارضه إلا مع توهم العموم فيه والأولى أن يبني هذا على ذلك.
وهذا الحديث لم يخرجه أحد مسندًا فيما أحسب. فهذا هو الذي اعتمد عليه مالك رحمه الله في ترك العمل بهذا الحديث.
وأما أصحاب مالك فاعتمدوا في ذلك على ظواهر سمعية وعلى القياس، فمن أظهر الظواهر في ذلك قوله عز وجل:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [الآية 1 من سورة المائدة] .
والعقد هو الإيجاب والقبول والأمر على الوجوب. وخيار المجلس يوجب ترك الوفاء بالعقد إذْ يمكن الرجوع في البيع بعدما أنعم ما لم يفترقا.
وأما القياس فإنهم قالوا: عقد معاوضة فلم يكن لخيار المجلس فيه أثر، مثل النكاح والخلع والرهن والصلح. فلما قيل لهم: الظواهر التي تحتجون بها يخصصها الحديث المذكور فلم يبق لكم في مقابلة الحديث إلا القياس فيلزمكم على هذا أن تكونوا ممن يرى تغليب القياس على الأثر، وذلك مذهب مهجور عند المالكية وإن كان قد روي عن مالك تغليب القياس على السماع مثل قول أبي حنيفة، فأجابوا عن ذلك بأن هذا ليس من باب رد الحديث بالقياس ولا تغليب وإنما هو من باب تأويله وصرفه عن ظاهره. قالوا: وتأويل الظاهر بالقياس متفق عليه عند الأصوليين قالوا: ولنا فيه تأويلان أحدهما أن المتبايعين في الحديث المذكور هما المتساومان اللذان لم ينفذ بينهما البيع فقيل لهم: إنه يكون الحديث على هذا لا فائدة فيه، لأنه معلوم من دين الأمة أنهما بالخيار إذ لم يقع بينهما عقد بالقبول. وأما التأويل الآخر فقالوا: إن التفرق ههنا إنما هو كناية عن الافتراق بالقبول لا التفرق بالأبدان كما قال الله تعالى:
{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [الآية 129 من سورة النساء] .
والاعتراض على هذا أن هذا مجاز لا حقيقة هي التفرق بالأبدان. ووجه الترجيح أن يقاس بين ظاهر هذا اللفظ والقياس فيغلب الأقوى والحكمة في ذلك هي لموضع الندم. اهـ.
والقرافي في الفروق ص196 يقول:
إن أصل العقود أن تلتزم بالقول لقوله سبحانه وتعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، والمالكية أبطلوا خيار المجلس بناءً على أن هذه الآية قررت أصلًا من أصول الشريعة وهو أن مقصد الشارع إتمام العقود، وبذلك صار ما قررته مقدمًا عند مالك على خبر الآحاد ولذا لم يأخذ بحديث ابن عمر:((المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا)) .
ونحن هنا نشير إلى أن عمل أهل المدينة متى ثبت واتُّفِق عليه قُدِّم على خبر الآحاد عند المالكية، وهو ما اعتمده مالك رضي الله عنه عند قوله:
(وليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه) .
والقاضي عياض في [المدارك: 1/72] يُخَرِّجُ المسألة من زاوية أخرى عند تحدُّثِه على عمل أهل المدينة فهو يذكر حديث ((المتبايعان بالخيار)) الذي رواه مالك وأهل المدينة بأصح أسانيدهم. وأما قول مالك عَقِبَهُ وليس لهما عندنا حد محدود ولا أمر معمول به. هو مسلط على فقرة: إلا بيع الخيار، أي أن بيع الخيار ليس له حد عندهم وفسر التفرق بالأقوال لا بالأبدان والخيار ما داما متراوضين ومتساومين.
ويقول خليل في مختصره: (إنما الخيار بشرط) .
فنبه بالحصر على أن خيار التروي لا يثبت بدوام اجتماع المتبايعين.
وعلق شراح خليل على ذلك بقولهم: وهذا قول الفقهاء السبعة إلا ابن المسيب وهو رأي مالك وأبي حنيفة.
والفقهاء السبعة جمع بعضهم أسماءهم فقال:
ألا كل من لا يقتدي بأيمة
فقسمته ضيزى عن الحق خارجه
فخذهم: عبيد الله عروة قاسم
سعيد أبو بكر سليمان خارجه
وهم جميعًا من التابعين رضي الله عنهم.
وما ذهب إليه المذهبان الحنفي والمالكي واقتبسته عنهما القوانين الوضعية حينئذٍ هو أن العقد إذا تم وانبرم أصبح واجب النفاذ سواء بقي المجلس وطال أمده أو انصرم سواء اجتمعا بالأبدان اجتماعًا حقيقيًّا أو اجتماعيًّا حكميًّا بواسطة آلة اتصال كالهاتف.
لكن لا يفهم من هذا منع التراخي في قبول العرض ولا يمكن أن نتصور تصرفًا ماليًّا له أهمية كبرى تشترط فيه المسارعة بالقبول والمواثبة في الإجابة دون إعمال الرأي أو تدبير شأن وتفكير بموضوعية تتطلبها المعاملات التجارية عادةً وعرفًا، فالمتعاقدان قد يكون أحدهما درس الموضوع دراسة معمقة مركزة ثم جاء يعرض إيجابه ولذا فإن الطرف المقابل من حقه إعمال الرأي والتفكير والتدبير ثم إسناده القبول وتغطيه الإيجاب حتى يتكوَّن العقد.
وهذا ما يقرره غالب الفقهاء في مختلف المذاهب وإليه يجنح شراح القانون.
يقول الكاساني في [بدائعه: 5/137] .
(...... وأما الذي يرجع إلى مكان العقد فهو اتحاد المجلس بأن كان الإيجاب والقبول في مجلس واحد فإن اختلف المجلس لا ينعقد لأن القياس أن لا يتأخر أحد الشطرين عن الآخر في المجلس
…
إلا أن اعتبار ذلك يؤدي إلى انسداد باب البيع فتوقف أحد الشطرين على الآخر حكمًا وجعل المجلس جامعًا للشطرين مع تفرقهما للضرورة وحق الضرورة يصير مقضيا عند اتحاد المجلس فإذا اختلف لا يتوقف. وعند الشافعي رحمه الله الفور مع ذلك شرط لا ينفذ الركن بدونه. ولنا في ترك اعتبار الفور ضرورة لأن القابل يحتاج إلى التأمل ولو اقتصر على الفور لا يمكنه التأمل) .
ويقول الزيلعي شارح الكنز [2/4] :
(
…
وعند الشافعي رحمه الله خيار القبول لا يمتد إلى آخر المجلس بل هو على الفور ولنا – أي للحنفية – أنه يحتاج إلى التروّي والفكر والتأمل فجعل ساعات المجلس كساعة واحدة إذ هو جامع للمتفرقات وبه يرتفع الحرج، وفيما قاله الشافعي حرج بيِّن وهو منتفٍ بالنص، قال الله سبحانه وتعالى:
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [آية 185 من سورة البقرة] .
وقال عليه الصلاة والسلام: ((يسروا ولا تعسروا
…
)) . وفي نفس السياق يقول الحطاب في شرحه لمختصر خليل [4/240] :
(
…
والذي تحصل عندي من كلام أهل المذهب أنه إذا أجابه في المجلس بما يقتضي الإمضاء والقبول من غير فاصل لزمه البيع اتفاقًا، وإن تراخى القبول عن الإيجاب حتى انقضى المجلس لم يلزمه البيع اتفاقًا وكذا لو حصل فاصل يقتضي الإعراض عمَّا كانا فيه حتى لا يكون كلامه جوابًا لكلام السابق عرفًا لم ينعقد البيع كما يفهم من كلام ابن عرفه ومن كلام ابن رشد: إن أجابه صاحبه في المجلس ولا يشترط أن لا يحصل بين الإيجاب والقبول فصل بكلام أجنبي عن العقد ولو كان يسيرًا كما يقوله الشافعية.
ولا يقال كلام ابن رشد وابن العربي في انعقاد البيع وعدم انعقاده وكلام ابن رشد وابن عرفه إنما يقتضي عدم اللزوم ولا يلزم من نفي اللزوم نفي الانعقاد لأنَّا نقول: لا موجب هنا لعدم اللزوم في حق من صدر منه ما يدل على الرضا إلا كونه لم ينعقد عليه البيع لعدم إجابة صاحبه بما يدل في وقت يكون كلامه جوابًا لكلامه
…
) .
وهكذا ننهي الحديث عن الفرع الأول وهو التعاقد بين حاضرين حقيقةً أو حكمًا كأن يكون التخاطب بالهاتف. وقد رأينا أن هذا جائز وصحيح بشروطه وقيام أركانه اعتمادًا على أحكام الفقه الإسلامي بصرف النظر عن الاختلاف الجزئي بين المذاهب التي تتفق مبدئيًّا على الصحة والقبول لا نبرام العقد بين غائبين عن بعضهما حاضرين في مجلس واحد بحكم وحدة الزمن عند المساومة والمناقشة في شأن إبرام العقد وإنهاء الصفقة.
فما دام المتساومان يتناقشان في شأن إبرام العقد بخط هاتفي ذي سلك أو دون سلك مشاهد الصورة أو غير مشاهد لها فهما في مجلس واحد تطبق عليه الأحكام السابق بسطها وشرحها.
هذا وإننا لا نتعرض إطلاقًا هنا إلى وسائل الإثبات وإنما نتحدث على المبدأ العام باعتبار اعتراف كل واحد بما صدر عنه.
وأما عند النزاع والإنكار فإن طرق الإثبات معروفة يفزع إليها الأطراف لإقرار العقد وإثباته في نطاق ما حدده التشريع وليس ذلك من مشمولات بحثنا هذا.
الفرع الثاني
التعاقد بين غائبين
يحدث أن يتم التعاقد بين شخصين غائبين عن بعضهما جسديًّا لا يجمعهما مجلس واحد بل يكون وجودهما في بلدين بعيدين عن بعضهما ويقتربان بطريقة من طرق الاتصالات العصرية والقديمة كالرسالة أو البرق، وهي تساعد على تحقيق الصفقات وتقريب المسافات في المناقشات والمساومات والمفاهمات.
والقوانين الوضعية يشغلها من ناحية هذه العقود زمان العقد ومكانه.
متى يلتقي القبول بالإيجاب؟ ومتى يتكون العقد؟ وأية فرصة تمنح للقابل لإصدار القبول بعد اتصاله بالإيجاب هل على الفور أم على التراخي احترامًا لمجلس العقد وأحكامه؟
وإذا عدل الموجب عن إيجابه بعد أن أرسله إلى صاحبه وقبل أن يتصل هذا بالإيجاب سارع الآخر وأبرق له بوسيلة سريعة من هذه الوسائل يعلن رجوعه وإلغاء إيجابه ويصل الرجوع والإلغاء قبل وصول الإيجاب فهل هناك محل للقبول أم لا؟!
جاء القانون المدني التونسي في مادته (28) قائلًا:
(يتم العقد بالمراسلة في وقت ومكان إجابة الطرف الآخر بالقبول. والتعاقد بواسطة رسول أو غيره يتم في الوقت والجهة التي تحصل فيها الإجابة بالقبول من الطرف الآخر للرسول) .
أي إن مكان القبول هو مكان العقد. وهذا محل خلاف الآن بين القوانين.
وقد نصت لائحة المجلة المدنية التونسية الموضوعة سنة 1315هـ-1898م على أن هذه المادة مأخوذة من المادة (346) من مرشد الحيران ومن الفتاوى الهندية 3/9.
وجاءت المادة (30) من المدونة المذكورة تقول:
(يسوغ الرجوع في الإيجاب ما دام العقد لم يتم بالقبول) .
وتنص لائحة هذه المدونة على أن هذه المادة مأخوذة من مرشد الحيران ومن مجلة الأحكام العدلية والتاودي والتسولي.
أما القانون المصري الجديد فهو يذهب مذهب العلم بالقبول فتقول مادته (97) :
(يعتبر التعاقد ما بين الغائبين قد تم في المكان وفي الزمان اللذين يعلم فيهما الموجب بالقبول
…
) .
وإلى هذا يذهب القانون العراقي في مادته (87) والليبي في مادته (97) ، وكذلك الكويتي في مادته (49) ، ومثله القانون التجاري الكويتي في مادته (112) .
وهذا الموضوع محل اختلاف بين القوانين الوضعية كما رأينا. ومبدأ العلم بالقبول لم يأخذ به القانون المدني التونسي وكذلك القانون السوري. مخالفين غالب القوانين الأخرى باعتبار أن التعبير عن الإرادة يتكامل وجوده بمجرد صدوره من صاحبه وتنتج عنه آثاره فإذا صدر القبول مطابقًا لما جاء به الإيجاب انبرم العقد وكانت له آثاره بصرف النظر عن علم من وجه له القبول.
ويظهر أن هذا يتماشى مع أحكام الفقه الإسلامي في مبادئه العامة التي شرحناها سالفًا.
وعلى كلٍّ فالموضوع دقيق يتطلب بحثًا واسعًا.
ومتى يمكن للقابل أن يصدر القبول؟ وهل له فرصة للتفكير والتروِّي وإعمال الرأي؟
تقول المادة (34) من المدونة المدنية التونسية:
(من صدر منه إيجاب بمراسلة بلا تحديد أجل بقي ملزمًا إلى الوقت المناسب لوصول الجواب إليه في مثل ذلك عادة ما لم يصرح بخلافه في الكتاب) .
والقانون المدني يفترض حصول تأخر في الجواب بسبب خلل ما بعد وقوع القبول ولذلك يضيف فقرة أخرى توضح الموقف فيقول آخر المادة (34) المشار إليها:
(فإن صدر الجواب بالقبول في وقته ولم يبلغه إلا بعد انقضاء الأجل الكافي لإمكان وصول الجواب إليه بالوجه القياسي، فالصادر منه لا يلزمه شيء ويبقى الحق لمن لحقه ضرر في طلب تعويض الخسارة ممن تسبب فيها) .
وهكذا يطرح القانون الوضعي الحل المناسب لمشكلة الفورية في القبول ويمنح فرصة متراخية حسب العرف والعادة يفسر فيها هذه الفورية وإمكانية وجود فترة ما زمنية بين بعث الإيجاب والتحاق القبول به.
ولا يضر شيء وجود اختلاف بسيط بين مذاهب القانون الوضعي فكلها ترمي إلى إقرار مبدأ التراخي في مجلس العقد حتى يتمكن كل طرف من حرية الاختبار والمصادقة دون ضغط زمني قد يلحق به خسارة ما، لكن مع احترام قواعد الفورية في عمومها وشمول أحكامها كما سبق بسطه.
ورغم حداثة بعض وسائل الاتصال فلقد جاء الفقه الإسلامي بأحكام واضحة نستخلصها مما سجله الفقهاء في هذا الموضوع لنخرج بحكم واضح في شأن التعامل بهذه الوسائل وأحكام العقود بواسطتها خاصة إذا كان المتعاقدان غير مجتمعين في مجلس واحد بل غير مجتمعين في بلد واحد واستعانا في اتصالهما وعقد عقودهما بالمراسلة البطيئة أو العاجلة.
فإذا فزع بائع إلى نائب عنه أرسله إلى شخص بعيد عنه يحمل عنه رسالة شفوية في عرض إيجاب بيع عقار مثلًا بشروط معينة وثمن معين واتجه الرسول وسافر يحمل رسالته ويحافظ على أمانته واجتمع بالمشتري وأبلغه الرسالة التي يحملها فمجلسهما هذا مجلس تبليغ الرسالة وإيصال الخطاب وعرض الإيجاب هو مجلس العقد ومجلس المتبايعين.
فالموجب الذي بلغت رسالته يعتبر حاضرًا بشخصه يمثله من أرسله نائبًا عنه وحينئذٍ تنطبق الأحكام السابقة التي بسطناها بإيجاز في شأن مجلس العقد بين حاضرين حقيقة أو حكمًا.
فإذا انفض المجلس ولم يقبل المشتري فلا حق له في القبول من جديد. والفقهاء متفقون تقريبًا في صيغة العقد على أنه كل ما يدل على رضا الجانبين بالقول أو ما يقوم مقامه كرسول أو رسالة ويقولون: إنه إذا كتب رسالة لغائب يقول له: قد بعتك داري بكذا أو أرسل له رسولًا فقبل في المجلس صح العقد وانبرم ولكن مع التراخي والفصل البسيط الذي يعتبر حال التقاء المتعاقدين في مجلس واحد.
وحينئذٍ فسلوك وسيلة من وسائل الاتصال العصرية هو بمثابة الرسالة الخطية المكتوبة أو الرسالة الحية المرسلة بواسطة إنسان حي يتكلم ويبلغ ما كلف بإبلاغه.
ومن هنا نفهم أن أحكام الإيجاب والقبول بين حاضرين تطبق إذا كان العرض والقبول بواسطة رسالة متطورة سريعة لا فرق في ذلك تمامًا.
لكن إذا رجع الموجب عن إيجابه:
إذا كان المتعاقدان في مجلس واحد وعرض أحدهما عرضًا في صورة إيجاب فللطرف المقابل أن يقبل العرض أو يرفض والأمر ظاهر حينئذٍ لا غموض فيه.
لكن إذا كان التفاهم والتناقش والتساوم والعرض بواسطة الرسائل والبرقيات فقد يحدث أن يرجع العارض الموجب عن عرضه وإيجابه قبل صدور القبول من صاحبه وقبل انبرام العقد وتكونه. خاصة ونحن هنا ندرس حالة استعمال هذه الوسائل المتطورة للاتصال السريع.
فقد يبرق أحدهم إلى صاحبه بعرضه ثم يلجأ إلى سلوك وسيلة أسرع يعلن بواسطتها أنه عدل عن عرضه ورجع في إيجابه طالبًا اعتباره كأن لم يكن. ويصل العدول قبل الأصول أي قبل وصول الإيجاب أو معه وعلى كل حال قبل صدور القبول من المرسَل له.
ويجيب عن هذا الفقهاء بصورة مختلفة متعارضة.
فالمالكية لا يسمحون للموجب بالرجوع في إيجابه حتى يرفضه الآخر وإذا قبل هذا صح العقد وانبرم.
يقول الحطاب في مواهب الجليل [4/241] :
(لو رجع أحد المتبايعين عما أوجبه لصاحبه قبل أن يجيبه الآخر لم يفده رجوعه إذا أجاب صاحبه بالقبول) .
وحكى القرطبي في تفسير قوله سبحانه وتعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} خلافًا في ذلك. وظاهر كلامه أنه في المذهب رواية عن مالك ولكن الجاري على المذهب هو ما ذكره ابن رشد.
وخالف مالكًا في هذا بقية المذاهب الأخرى الحنفية والشافعية والحنبلية، الذين يرون إمكانية الرجوع إذا لم يصدر القبول من الطرف الآخر.
يقول الكاساني في البدائع [5/134] :
(.... وأما صفة الإيجاب والقبول فهو أن أحدهما لا يكون لازمًا قبل وجود الآخر. فأحد الشطرين بعد وجوده لا يلزم قبل وجود الشطر الآخر. حتى إذا وجد أحد الشطرين من أحد المتبايعين فللآخر خيار قبول القبول وله أي للمجيب خيار الرجوع قبل قبول صاحبه لما روي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)) .
والخيار الثابت لهما قبل التفرق عن بيعهما هو خيار القبول وخيار الرجوع، ولأن أحد الشطرين لو لزم قبل وجود الآخر لكان صاحبه مجبورًا على ذلك الشطر وهذا لا يجوز، والرسول الكريم يقول:((من أقال نادمًا بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة)) .
ونرى أن القوانين الوضعية المعمول بها في بعض البلاد الإسلامية والتي اعتمد واضعوها في أصولها على الفقه الإسلامي سارت في السبيل الذي ذهب إليه جمهور الفقهاء ومكَّنت المجيب من الرجوع في إيجابه إذا لم يقل الطرف الآخر كلمته بعد.
يقول الفصل (30) من المدونة المدينة التونسية واللائحة تنص على أنه مأخوذ من الفقه الإسلامي:
(يسوغ الرجوع في الإيجاب ما دام العقد لم يتم بالقبول) .
وهذا عين ما نصت عليه المادة (37) من القانون المدني الكويتي.
وهكذا نرى أن طرق الاتصال الحديثة قد أوجد لها الفقهاء من قديم أحكامًا تنطبق عليها في عصر حدوثها وإنشائها المتأخر.
وما توقعه الفقهاء في تصورهم لبعض القضايا كان يعالج حالات تقع اليوم في عصر السرعة البالغة.
وعل كلٍّ، فإن المدونة المدنية التونسية الموضوعة منذ قرن ونيف والتي اقتبست غالب أحكامها من أحكام الفقه المالكي والفقه الحنفي قد احتاطت لما يحدث من أقضية وما يجد من جديد فجاءت مادتها (575) قائلة:
(لا يصح بين المسلمين ما حجر الشرع الإسلامي بيعه) .
وهذه المادة كانت سندًا يعتمده القضاة متعمقين بحثًا وتنقيبًا في كتب الفقه الإسلامي حتى لا تكون أحكامهم مخالفة للشرع الحنيف.
ونلاحظ لحد الآن أن استعمال هذه الوسائل والالتجاء إلى سرعتها ونفعها وصلاح عملها لا غبار عليه شرعًا ما دامت الاتفاقات والعقود تسير مسارها الطبيعي العام الذي رسمته وضبطته الأحكام الفقهية في مختلف المذاهب السنيَّة الإسلامية.
ومع ذلك فإننا نرى من الواجب الإشارة إلى بعض الحالات الخاصة من العقود المضبوطة أحكامها فقهيًّا وجاءت هذه الوسائل تسهل انبرامها وانعقادها ووجودها وقد لا يحترم بعضهم حدودها.
1-
بيع ما لم يقبض مثلًا:
نشاهد الآن بسبب تطور وتقدم وسائل الاتصال أن بعضهم يشتري بضاعة ما وقبل أن يجوزها ويقبضها ويتصل بها يعلن عنها هاتفيًّا وبرقيًّا بواسطة السماسرة ويتصل به التجار ويقع التفاهم في الشروط والآجال والثمن وتنعقد الصفقة وتباع تلكم البضاعة وهي رابضة عند مالكها الأول عدة مرات، وقد عرف ذلك حتى تجار الطعام مثل تجار الزيت الذي يكون مخزونًا في مواجله (أماكن جمعه وخزنه) عند أصحابه ولما يباع تتراكم عليه الصفقات والبيعات وهو هناك لم يبرح مكانه.
حتى إذا انتهى الأمر لأحدهم الثالث أو الرابع ذهب المشتري الأخير إلى مالكه بائعه الأول ليتسلمه منه.
وما عرفناه في الزيوت يقع في عدة أمور أخرى ثابتة أو منقولة من الأطعمة وغيرها.
والسبب الأول في كثرة هذه العمليات وسهولة أمرها هو هذه الإمكانيات السريعة في الاتصال بين التجار بعضهم ببعض بفضل وسائل الاتصال الحديثة.
فالمبدأ العام في بيع ما لم يقبض أنه لا يجوز للمسلم أن يبيع سلعة بنقد أو نسيئة إلا إذا كان مالكًا لها وقبضها عملًا بقول الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم: ((لا تبع ما ليس عندك)) .
وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: ((لا يحل سلف وبيع ولا بيع ما ليس عندك)) [رواه الخمسة بإسناد صحيح] .
وكذلك بالنسبة لمن يشتري تلك السلعة ليس له بيعها حتى يقبضها للحديثين المذكورين.
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود وصححه ابن حبان والحاكم عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع السلع حيث تباع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم)) .
وروى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لقد رأيت الناس يتبايعون جزافًا – يعني الطعام – يضربون أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤوه إلى رحالهم.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه)) .
وأخرج النَّسائي عن حكيم بن حزام قال: ((قلت: يا رسول الله إني رجل ابتاع هذه البيوع وأبيعها فما يحل لي منها وما يحرم؟ قال: لا تبيعنَّ شيئًا حتى تقبضه)) .
وحدث الاختلاف بين الفقهاء:
(أ) فمن قائل بالمنع المطلق قبل القبض في كل شيء من عقار ومنقول. وهذا ما ذهب إليه الإمام الشافعي وهو ماروي عن الإمام أحمد أيضًا.
(ب) منع بيع المنقول دون العقار وهو مذهب الحنفية لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع ما لم يقبض والنهي يوجب فساد المنهي عنه، ولأنه بيع يشوبه الغرر والغرر علة المنع، وأجاز أبو حنيفة بيع العقار قبل قبضه استحسانًا إذ لا غرر في العقار وهو رأي صاحبه أبي يوسف.
(ج) إن المنع خاص ببيع الطعام أما غيره فيجوز بيعه قبل قبضه سواء كان عقارًا أو منقولًا وهو مذهب مالك. والطعام هو ما تجب فيه الزكاة من الحبوب والأدم كالزيت والعسل ونحوها، وهذا اعتمادًا على قوله صلى الله عليه وسلم:((من ابتاع طعامًا فلا يبيعه حتى يقبضه)) ومن هنا نفهم حصول الاتفاق على منع بيع الطعام قبل قبضه مع وجود الخلاف في الأصناف الأخرى.
ولذا فإن التعامل الذي يحدث اليوم بواسطة بل وبسبب هذه الطرق الحديثة للمواصلات السريعة والفائقة في سرعتها يجب التحري فيه حتى لا تتخذ وسائل الاتصال السريعة وسيلة لارتكاب الحرام والعياذ بالله.
2-
البيع على الصفة وخيار الرؤية:
من المعروف أن المبيعات على نوعين مبيع حاضر مرئي ومبيع غائب أو متعذر المشاهدة والرؤية.
وقد منع الإمام الشافعي رضي الله عنه بيع الغائب وصف أم لم يوصف.
وقال مالك رضي الله عنه وأكثر أهل المدينة: يجوز بيع الغائب إذا كانت غيبته مما يؤمن أن تتغير فيه قبل القبض صفته.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: يجوز بيع العين ثم له عند الرؤية الخيار في النفاذ أو العدول. يقول ابن رشد الحفيد [بداية المجتهد: 2/146] : عند مالك إذا جاء على الصفة فهو لازم وعند الشافعي لا ينعقد.
وفي المدونة يجوز مع شرط خيار الرؤية وأنكره عبد الوهاب وقال: هو مخالف لأصولنا.
وأما المذهب الحنبلي فابن قدامة في المغني يشير إلى صحة البيع مع خيار الرؤية ووقت هذا الخيار عند رؤية ومشاهدة المبيع وقيل: يتقيد بالمجلس الذي وجدت فيه الرؤية.
وعلى كل فالعقود المنبرمة بواسطة اتصال سريع لغاية الوصول إلى الهدف المنشود ينبغي أن تراعى فيها الأحكام السابقة التي أشرنا إليها إشارة خاطفة كمثال فقط ومن أراد دراستها فليرجع إليها في مظانِّها.
وهكذا نرجع إلى المقولة القيمة شيخ الإسلام ابن تيمية في شأن ما اعتاده الناس في دنياهم وأن الأصل فيه العفو وعدم الحظر فلا يخطر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى.
وفقنا الله لما فيه الخير والصواب.
الدكتور محمود شمام
بحث
فضيلة الدكتور علي محيي الدين القره داغي
أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله
بكليّة الشريعة – جامعة قطر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين، وبعد:
فإن من عظمة الشريعة الإسلامية الغراء أنها تستوعب الحوادث – مهما كانت جديدة والقضايا مهما كانت خطيرة – من خلال قواعدها الكلية، ومبادئها العامة، وأدلتها التي تضبط الأمور المستحدثة وتبين أحكامها نصًّا أو استنباطًا.
وذلك لأن الشريعة نزلت من لدن حكيم عليم: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) } [سورة الملك] أنزلها بعلمه لتكون شريعته الخالدة الدائمة إلى يوم القيامة، ولتكون رحمة للعالمين في كل العصور والأزمان.
ومن هذا المنطلق كان بحثنا عن: حكم إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة من خلال نصوص الشريعة العامة، ودلالاتها المعتبرة، وما ذكره فقهاؤنا العظام من أشباه هذه المسالة ونظائرها للوصول إلى ما هو أقرب إلى الحق والصواب، بإذن الله تعالى.
وقد رأينا أن يتضمن البحث للتعريف بهذه الآلات الحديثة بصورة موجزة، ثم الدخول في أحكامها الخاصة بإجراء العقود بها مباشرة، دون الخوض في مقدمات حول وسائل التعبير عن الإرادة المعروفة إلا بالقدر الذي يوضح المراد، ويحقق الهدف المنشود.
ومن الجدير بالذكر أن هذه الوسائل الحديثة: التليفون، البرق، والتلكس، والفاكس، وغيرها. ليس من وسائل جديدة للتعبير، وإنما هي وسائل حديثة للتوصيل، وإلا فوسائل التعبير عن الإرادة لم تزل ولن تزال هي إما القول، أو الفعل – أي المعاطاة أو البذل – أو الإشارة أو الكتابة، أو السكوت في معرض البيان، ومن هنا يكون البحث عن حكم إجراء العقود بهذه الوسائل لا يتطلب البحث عن أمر جديد في ذلك النظام، وإنما يتطلب البحث عن مدى دخول هذه الآلات الحديثة في تلك الوسائل المعتبرة، ومدى انطباقها عليها، أو وجود فوارق بينهما، فالتليفون – مثلًا – يدخل في وسيلة اللفظ والقول، ولكنه لا شك يوجد نوع من الفروق من حيث المجلس ونحوه بين التعاقد بدونه، والتعاقد من خلاله، وهكذا بقية الآلات الحديثة.
ولذلك كله، لم نَأْلُ جهدًا في البحث عن تراثنا الأصلي للوصول إلى أشباه هذه المسائل ونظائرها، ثم البحث عن الفروق الأساسية، ثم الحكم الذي يرجحه الدليل مع وضع الضوابط والشروط إن اقتضى الأمر ذلك.
والله الموفق وهو حسبنا ونعم الوكيل.
آلات الاتصال الحديثة
من المعلوم فقهًا ومنطقًا أن الحكم على الشيء فرع من تصوره، والعلم به، ومن هذا المنطلق نلقى بصيصًا من الضوء على هذه الوسائل الحديثة للاتصالات وكيفية تطورها لنكون على بيِّنة من أمرها، وعلى بصيرة في تكييفها الشرعي.
حينما تقدمت المجتمعات الإنسانية أضحت بحاجة ماسّة إلى وسائل الاتصال فيما بينها، سواء كانت للارتباط السياسي، ومعرفة القيادة عما يجري في الساحات السياسية والاجتماعية بأسرع وقت، أو للجانب الاجتماعي والاقتصادي، ولذلك بحث الإنسان عن أسرع وسيلة ممكنة فاكتشف المرايا العاكسة، والدخان، والحمام الزاجل، وغير ذلك
…
وفي عصرنا الحديث، وفي ظل تقدم العلوم تقدمت وسائل الاتصال بشكل كبير، فكانت الطفرة الكبرى باكتشاف اللاسلكي الذي كسر حاجز المسافة والزمن، ثم تطورت وسائل الاتصال باطراد الزمن، والاختراعات لتصل إلى أعلى مستوياتها من خلال استخدام الأقمار الصناعية.
فكانت القفزة الكبيرة في عام (1957) عندما تم إرسال القمر الصناعي: (سبوتنيك) إلى الفضاء الخارجي للدوران حول الأرض، ولإرسال المعلومات المدنية والعسكرية، ثم أدت المنافسة في هذا المجال بين المعسكرين الشرقي والغربي إلى أن توجد في الفضاء آلاف الأقمار الصناعية تجوب الفضاء ليل نهار (1) .
(1) انظر: التلكس، وكمبيوتر الاتصالات الدولية والآلية، وضع إدوارد جورج، تنفيذ فاروق العامري، ط دار الراتب الجامعية، بيروت، سنة 1987، ص21، وإدارة منشآت النقل والاتصالات، لتامر يسري البكري، ط دار القادسية بغداد، سنة 1985، ص261.
الاتصالات السلكية، واللاسلكية
حسبما جاء في تعريف الاتحاد الدولي للمواصلات السلكية واللاسلكية أنها: عملية تساعد المرسل على إرسال المعلومات بأي وسيلة من وسائل النظم الكهرومغناطيسية: من تليفون، أو تلكس، أو بث تليفزيوني، أو نحو ذلك (1)
…
فهذه الوسائل منها ما يسير عبر كوابل أرضية، أو بحرية، أو محطات لاسلكية كبيرة تعتمد على أجهزة إرسال واستقبال، ومجموعات هوائية لكل منهما، أو تستخدم الأقمار الصناعية كوسيلة وسيطة لتحقيق اتصالاتها.
فالبرق يعتمد على النموذج الخاص المعد لهذا الغرض فيقوم المرسل بكتابة المطلوب عليه، ثم يقوم المكتب الرئيسي للبريد بإرساله إلى بلد المرسل إليه ثم يكتب على ورقة خاصة لترسل عن طريق موظف البريد ليسلمها باليد.
تلك هي الصورة العامة للبرق (التلغراف) حيث يتضح منها طول الوقت وإمكانية الضياع والخلط – وإن كانت بنسبة ضئيلة – بالإضافة إلى فقدانها السرية (2) .
وأما التلكس فيتم الاتصال فيه من خلال جهازين مرتبطين بوحدة تحكم دولي ينقل كل واحد منهما إلى الآخر: المعلومات المكتوبة، دون توسط شيء آخر، حيث يمكن للمشترك الاتصال بجميع أنحاء العالم وهو في مكتبه من خلال ماكينة التلكس ووحدة التحكم الخاصة به دون الحاجة للانتقال، أو احتمال تسرب المعلومات، مع تحقيق أعلى قدر للسرعة (3) .
(1) الاتصالات السلكية واللاسلكية، في الوطن العربي، بحث مقدم من ميسر حمدون سليمان، ط. مركز دراسات الوحدة العربية، عام 1982م، ص337.
(2)
ادوارد جورج: المرجع السابق ص22 - 33.
(3)
ادوارد جورج: المرجع السابق ص22 - 33.
والخلاصة: إن المشترك في التلكس بعد الإجراءات الفنية الخاصة يبدأ بإرسال المطلوب على شريط تثقيب خاص عن طريق جهاز الإرسال الآلي، حيث ينقل الجهاز بدوره كل ما كتب إلى الجهاز المرسل إليه ليظهر المكتوب منه كما هو.
وإذا لم يقم الجهاز بالإرسال، أو لم يتلق الجهاز الآخر – لأي سبب كان – فإن ذلك يظهر على الجهاز حيث يعطي الإشارة بأن الاتصال لم يتم (1) .
وأما الإرسال عن طريق (الفاكس) فيتم من خلال جهازين مرتبطين بالخطوط التليفونية، حيث يضع المرسل الورقة المكتوبة في الجهاز ويضرب الأرقام للجهاز الثاني، فيحنئذٍ إذا لم يكن مشغولًا أو فيه خلل فإن صورة من تلك الورقة تنطبع على الورقة الخاصة الموجودة في الجهاز الثاني لتظهر للمرسل إليه.
فإذا كان التلكس يحتاج إلى ضرب الكلمات على الحروف الموجودة في الجهاز الأول ليظهر المطبوع في الجهاز الثاني، فإن الفاكس ينقل بالكامل صورة عن الورقة الموضوعة في الجهاز، دون الحاجة إلى كتابتها مرة أخرى، وهي صورة طبق الأصل بشكلها ونوعية الكتابة فيها، فكأنه ينقل الورقة عبر خطوط الاتصال ليصورها في الجهاز المرسل إليه فتظهر صورة منها بكل دقة متناهية.
وأما التليفون فهو معروف حيث يتم الاتصال عن طريق الخطوط (الكابلات الكهربائية) عبر الأرض، أو البحر، أو عن طريق الأقمار الصناعية.
بالإضافة إلى إمكانية الاتصال، وإنشاء العقود عن طريق جهاز اللاسلكي الذي ينقل الكلام الصريح، أو الكلام المفهوم عن طريق الشفرة (2) ، وكذلك عن طريق الراديو والتلفزيون، وإن كان الغالب على الأخيرين أنهما من الوسائل الجماهيرية.
ومن خلال هذا العرض الموجز يتبين لنا أن إنشاء العقود عبر الاتصالات الحديثة يتم إما من خلال اللفظ كالتليفون، واللاسلكي، والراديو، والتلفزيون، أو من خلال المكتوب كالبرقية، والتلكس والفاكس.
فلنبدأ بأنواع القسم الأول، وحكم كل نوع منها، وضوابطه وتأصيله الفقهي:
(1) المراجع السابقة.
(2)
المصادرالسابقة.
القسم الأول
الوسائل الحديثة لنقل اللفظ
وهي تشتمل: التليفون، واللاسلكي، والراديو والتليفزيون.
إنشاء العقود عبر الهاتف (التليفون) :
لا يخفى أن التليفون ينقل كلام المتحدث فيه بدقة، فيسمع كل واحد منهما الآخر بوضوح، ولا يختلف الكلام من خلاله عن الكلام بدون واسطة سوى عدم رؤية أحدهما الآخر ووجود فاصل بينهما، وإن كان العلم الحديث قد بدأ خطوات جادة لإيجاد تليفون ينقل الصوت والصورة معًا.
ومن هنا فإذا انتهى عقد ما من خلال الهاتف، وتم فيه الإيجاب والقبول – مع بقية الشروط المطلوبة – فإنه صحيح لا غبار عليه، غير أن عدم رؤية أحدهما الآخر يجعل احتمال التزوير وتقليد صوت شخص آخر واردًا ولذلك إذا ثار النزاع حول ذلك فالقضاء هو الفيصل، وتسمع دعوى من يدعى ذلك ولكن عليه يقع عبء الإثبات.
أما عدم رؤية أحدهما الآخر فليس له علاقة بصحة العقود أو عدمها لأن المطلوب في باب العقود سماع الإيجاب والقبول، أو التقاؤهما، أو إدراكهما بأية وسيلة كانت.
فالعقد بالتليفون كالعقد بين شخصين بعيدين لا يرى أحدهما الآخر، ولكنه يسمعه، يقول الإمام النووي:(لو تناديا وهما متباعدان وتبايعا صح البيع بلا خلاف)(1) . وقد ذكر الرافعي نحو ذلك في مسالة أخرى فبين أن المفروض أن الخلاف ينتهي ما دامت قرائن الأحوال متوفرة، وأفادت التفاهم، فحينئذ يجب القطع بصحة هذا العقد (2)، كما ذكر مسألة أخرى وهي أنه إذا قال شخص بعت من فلان فلما بلغه الخبر قال: قبلت ينعقد البيع، لأن النطق أقوى من الكتابة (3) .
بالإضافة إلى أن وجود الساتر بين العاقدين – بل بناؤها – لا يؤثر حتى في خيار المجلس (4) ، فكيف يؤثر في إنشاء العقد.
ومن جانب آخر، إن الأساس في العقود هو صدور ما يدل على الرضا بصورة واضحة مفهومة كما تدل على ذلك نصوص الفقهاء (5) ، وذلك متحقق في التليفون حيث إن التعبير يتم من خلال اللفظ الذي هو محل الاتفاق بين الفقهاء، وما التليفون إلا وسيلة لتوصيل الصوت فحسب، وليس وسيلة جديدة.
(1) انظر: المجموع، ط. دار الطباعة المنيرية: 9/181.
(2)
فتح العزيز، بهامش المجموع، ط. المنيرية: 8/103 – 104.
(3)
فتح العزيز، بهامش المجموع، ط. المنيرية: 8/103 – 104.
(4)
المجموع: 9/181، والمغني لابن قدامة 3/565.
(5)
يراجع: فتح القدير: 3/49، والأشباه والنظائر لابن نجيم: ص91 –101، والفروق للقرافي: 1/44، وشرح الخرشي: 5/5، والدسوقي مع الشرح الكبير: 2/380، 3/ 4، والوسيط مخطوطة طلعت: 3/141، والمجموع: 9/163، والروضة: 8/25، والأشباه والنظائر للسيوطي: ص99، والمنثور للقواعد للزركشي: 2/379، والمغني لابن قدامة: 3/562، والقواعد النورانية لابن تيمية: ص4، ومبدأ الرضا في العقود: 2/994.
فالقاعدة الأساسية في العقود هي تحقق الرضا للطرفين والتعبير عنه، وإظهاره بأيَّة وسيلة مفهومة كما أن العرف له دور أساسي في باب العقود، حتى صاغت الحنفية منه قاعدة: العادة مُحَكَّمة، وقال ابن نجيم بعد سردها:(واعلم أن اعتبار العادة والعرف يرجع إليه في الفقه في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلًا، فقالوا في باب ما تترك به الحقيقة: تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة)(1) ، وكذلك أفاض القرافي المالكي في هذه المسألة، وذكر أن العرف يقضي في زمن معين، حتى بعدم قبول بعض ألفاظ مقبولة في زمن ما نظرًا لأنها أصبحت متروكة غير مفهومة، كما يقضي بقبول ألفاظ مفهومة لعصر لم تكن مقبولة من قبل، ونقل ذلك من الإمام الكبير أبي عبد الله المازري قوله: (
…
فإن النقل إنما يحصل باستعمال الناس لا بتسطير ذلك في الكتب، بل المسطر في الكتب تابع لاستعمال الناس) ، ثم رتب على ذلك أمورًا:(أحدها أن مالكًا وغيره من العلماء إنما أفتى في هذه الألفاظ بهذه الأحكام، لأن زمانهم كان فيه عوائد اقتضت نقل هذه الألفاظ للمعاني التي أفتوا بها فيها صونًا لهم عن الزلل)(2) . ويقول الدسوقي: (والحاصل أن المطلوب في انعقاد البيع ما يدل على الرضا عرفًا
…
) (3) . ويقول النووي: (
…
ولم يثبت في الشرع لفظ له – أي للعقد – فوجب الرجوع إلى العرف، فكل ماعدّه الناس بيعًا كان بيعًا
…
) (4) . ويقول ابن قدامة: (إن الله أحل البيع، ولم يبين كيفيته فوجب الرجوع فيه إلى العرف)(5) . ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (فإذا لم يكن له – أي للبيع ونحوه – حد في الشرع، ولا في اللغة، كان المرجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم، فما سموه بيعًا فهو بيع، وما سموه هبة فهو هبة
…
) (6) .
والخلاصة: أن اللفظ – كما يقول الشاطبي – (إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد، والمعنى هو المقصود
…
) (7) . ومن هنا فما التليفون إلا آلة معتبر عرفًا لتوصيل تلك الوسيلة – اللفظ – إلى سمع الآخر، فيكون مقبولًا شرعًا.
مجلس التعاقد في العقد بالتليفون:
إن من يعمق النظر في التعاقد بالتليفون يجد أنه نوع خاص ليس مثل التعاقد بين الحاضرين في جميع الوجوه، ولا مثل التعاقد بين الغائبين عن طريق الكتابة – أو المراسلة- من كل الوجوه، ولذلك لا بد من إلقاء النظرة إلى ما يتعلق باتحاد مجلس التعاقد أو اختلافه، ومن هنا نرى من الضرورة أن نثير ثلاث مسائل لها علاقة مباشرة بهذا الموضوع، هي: خيار الرجوع من الإيجاب، وخيار القبول (8) ، وخيار المجلس. إذ إن هذه الموضوعات مترتبة على مجلس العقد، ولذلك نحاول أن نؤجل النظر فيها بالنسبة للتعاقد بالتليفون، ونحوه، فنذكر بالإيجاز التعريف بهذه الخيارات، ثم نفصل القول في كيفية مجلسه ومدته في التعاقد بالتليفون.
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص93 –104.
(2)
الفروق: 1/44-45.
(3)
الدسوقي: 3/4.
(4)
المجموع: 9/163.
(5)
المغني: 3/561 - 562.
(6)
مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام: 29/13-19.
(7)
الموافقات: 2/87.
(8)
الإيجاب عند الحنفية هو التعبير الصادر أولا من أحد العاقدين، والقبول هو التعبير الصادر ثانيًا، وأما الجمهور فقد نظروا إلى أن الإيجاب هو تعبير المملك ونحوه، والقبول هو تعبير المتملك ونحوه عن العقد. يراجع في تفصيل ذلك: فتح القدير مع شرح العناية: 5/74، والفتاوى الهندية: 3/4، والبحر الرائق: 5/283، ومجمع الأنهر: 2/4، ومواهب الجليل: 4/228، والدسوقي: 3/4، والمجموع: 9/162، والغاية القصوى: 1/457، والروضة 3/339، والإنصاف: 4/260.
والمراد بخيار الرجوع من الإيجاب: هو أن يكون للموجب الحق في الرجوع عن إيجابه قبل أن يتصل به القبول، عند جمهور الفقهاء ما عدا المالكية الذين قالوا بمنع رجوعه ما دام مجلس العقد باقيًا إذا كان إيجابه بصيغة الماضي، أو كان الأمر يتعلق بالتبرعات كما أن الجمهور منعوه من الرجوع في بعض العقود التي يكون مبناها لا على المال مثل الطلاق على المال والعتق عليه (1) .
ثم إن هذا الخيار يمتد عند الحنفية، والحنابلة ما دام المجلس قائمًا إلا إذا أعرض عنه أحد العاقدين، أو خيَّره، أو تفرقا على تفصيل فيه، في حين أن الشافعية اشترطوا الفورية لكنهم قالوا: لا يضر الفصل اليسير، والمالكية، قالوا: لا يضر الفصل ما دام الحديث يدور حول العقد (2) .
وأما خيار القبول فهو أن يكون للقابل الحق في الرفض والقبول ما داما في مجلس العقد، إلا إذا رجع الموجب عن إيجابه قبل قبوله، وهذا هو ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة، وخالفهم في ذلك الشافعية حيث اشترطوا الفورية (3) ، وذكر القرافي أنه لا يجوز التأخير، والفصل الكثير حسب العرف (4) .
وأما خيار المجلس فهو أن يكون لكل واحد منهما الحق في فسخ العقد بعد صدور الإيجاب والقبول منهما ماداما في مجلس العقد، وهذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية، والإمامية، والزيدية (5) مستدلين بالحديث الصحيح الذي رواه الشيخان وأصحاب السنن والمسانيد بسندهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال:((البيعان كل واحد منهما بالخيار، على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار)) (6) . في حين ذهب الحنفية، والمالكية إلى أن العقد يصبح لازمًا بمجرد الإيجاب والقبول – مع توفر الشروط المطلوبة- ولا يبقى لهما حق الفسخ بعد صدورهما إلا إذا اشترطا الخيار مستدلين بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [سورة المائدة: الآية1] .
(1) يراجع في تفصيل هذه المسألة: بدائع الصنائع: 6/2990، وحاشية ابن عابدين: 4/527، والفتاوى الهندية: 3/7-8، والفتاوى الخانية 2/172، والبحر الرائق: 5/293، وفتح القدير: 5/78، والدسوقي على الشرح الكبير: 3/0004، وبلغة السالك: 2/345، وشرح الخرشي: 5/5، والمجموع: 9/169، والروضة 3/340، وشرح المحلي مع القليوبي وعميرة: 2/154، والمغني: 3/561، والإنصاف: 4/263، والنيل: 2/11، والمحلي لابن حزم: 9/295، ويراجع مبدأ الرضا في العقود، ود. عبد الستار أبو غدة: الخيار 1/183.
(2)
يراجع بلغة السالك: 2/245.
(3)
يقول القرافي في الفروق: 3/173، (القسم الثاني الذي هو جزء السبب، فهذا لا يجوز تأخيره، كالقبول بعد الإيجاب في البيع والهبة والإجارة، فلا يجوز تأخير هذا القسم إلى ما يدل على الإعراض منهما عن العقد
…
) .
(4)
يقول القرافي في الفروق: 3/173، (القسم الثاني الذي هو جزء السبب، فهذا لا يجوز تأخيره، كالقبول بعد الإيجاب في البيع والهبة والإجارة، فلا يجوز تأخير هذا القسم إلى ما يدل على الإعراض منهما عن العقد
…
) .
(5)
يراجع في تفصيل ذلك: الأم للشافعي: 3/3، والوجيز للغزالي: 1/141، وفتح العزيز: 8/211، والمجموع: 9/184، والغاية القصوى: 1/475، والمغني لابن قدامة: 3/563، والإنصاف: 9/259، والروض المربع: 4/413، والعدة شرح العمدة: ص228، والمحلي لابن حزم: 9/295، والمختصر النافع للحلي: ص145، والروض النضير: 3/513، والبحر الزاخر: 4/345.
(6)
صحيح البخاري، مع الفتح: كتاب البيوع: 4/328، ومسلم: 3/1163، وسنن أبي داود، مع العون: 9/322، والترمذي مع التحفه: 4/448، والنسائي: 7/217، وابن ماجه: 2/736، والموطأ: ص416، ومسند أحمد: 1/56، 2/4، 9، والرسالة للشافعي: ص313.
ثم إن الخلاف في ثبوت الخيار في البيع ونحوه من العقود اللازمة للطرفين الواقعة على العين، أما العقود غير اللازمة، مثل: الوكالة، والمضاربة، والشركة
…
، والعقود الواردة على المنفعة مثل النكاح، والإجارة في وجه للشافعية فليس فيها خيار المجلس عند أولئك أيضًا (1) .
كيفية اعتبار المجلس وخياراته في التعاقد بالتليفون:
فإذا تعاقد شخص مع آخر بالتليفون، وصدر منه إيجاب فلا شك أن له الحق في رجوعه عن إيجابه عند الجمهور قبل صدور القبول منه، ما دام أسمع الآخر رجوعه (2) ، وليس في هذا إشكال، وإنما الإشكال في التعاقد بالتليفون حول امتداد الإيجاب وبقائه ما دام المجلس قائمًا عند القائلين به – الحنفية والحنابلة – في العقد بين الحاضرين يقولون: إن طول الفصل لا يضر، حيث يكون من حق الطرف الثاني أن يقبل ما داما في مجلس العقد، ولم يصدر منهما أو من أحدهما ما يدل على الإعراض عن العقد فهل نقول: إن مجلس التعاقد بالتليفون يظل مستمرًا ما دام المتحدثان بالتليفون في مكانيهما، أم نقول: إن مجلس التعاقد هو فترة الاتصال، بانتهائه ينتهي المجلس؟!
فالذي يظهر رجحانه هو أن مجلس العقد ينتهي بانتهاء المحادثة، ومن هنا فليس لمن وجه إليه الإيجاب أن يقبل بعد انتهائها وسد التليفون، وإذا أراد ذلك وأعاد الاتصال بالموجب، وقد رضاه إليه، فإن هذا الرضا يعتبر إيجابًا يحتاج إلى قبول الآخر، وذلك لأن الذين قالوا بخيار القبول وسعوا من دائرة معنى التفرق في المجلس، حيث اعتبروا مجرد القيام من المجلس، أو الانشغال بالأكل ونحوه، بل كل ما يدل على الإعراض عن الإيجاب تفرقا بقطع الخيار، أو نام أحدهما إن كان مضطجعًا فهي فرقة: (
…
رجل قال لغيره أعطيتك هذا بكذا، فلم يقل المشتري شيئًا حتى كلم البائع إنسانًا في حاجة له بطل البيع، كذا في فتاوى قاضي خان) (3) .
بل إن فقهاء الحنفية، وغيرهم ممن يقولون بخيار الرجوع، لاحظوا انتهاء المجلس في بعض المسائل التي ربما تكون قريبة من مسألتنا، وهي التعاقد أثناء السير والمشي حيث المجلس يختلف، وينتهي، وقالوا بوجوب الاتصال وعدم الفصل حتى يتم العقد، جاء في الفتاوى الهندية: (وإن تعاقدا عقد البيع، وهما يمشيان، أو يسيران على دابة واحدة، أو دابتين، فإن أخرج المخاطب جوابه متصلًا بخطاب صاحبه تم العقد بينهما، وإن فصل عنه وإن قل فإنه لا يصح وإن كانا في محل واحد كذا في العيني شرح الهداية. وفي الخلاصة عن النوازل إذا أجاب بعد ما مشي خطوة أو خطوتين جاز، كذا في فتح القدير.. وقال الصدر الشهيد في الفتاوى: في ظاهر الرواية لا يصح كذا في الخلاصة، وإن أوجب أحدهما وهما واقفان فسارا، أو سار أحدهما بعد خطاب صاحبه قبل القبول بطل الإيجاب
…
) (4)
(1) يراجع: المصادر الفقهية السابقة.
(2)
الفتاوى الهندية: 3/8.
(3)
الفتاوى الهندية: 3/7، 8، وفتح القدير: 5/78، وحاشية ابن عابدين: 4/21، وبدائع الصنائع: 6/2992.
(4)
الفتاوى الهندية: 3/7، 8 وفتح القدير: 5/78، وحاشية ابن عابدين: 4/21، وبدائع الصنائع: 6/2992.
وهذه النصوص تدل بوضوح على أن التعاقد بين الماشين، أو الراكبين يختلف عن تعاقد الجالسين، حيث إن مجلس العقد الأول ينتهي فورًا فلا بد حينئذ من الفورية، في حين أن مجلس العقد في الثاني لا ينتهي ما داما في مجلس العقد، فعلى ضوء ذلك فالتعاقد بالتليفون أقرب من التعاقد وهما ساريان من حيث إن مكان العاقدين مختلف، ومن هنا فإن خيار القبول ينتهي بمجرد انتهاء المكالمة وسد التليفون، فلا يكون لمن وُجِّهَ إليه الجواب الحق في القبول بعد ذلك، وإذا قدم رضاه فيكون إيجابًا يحتاج إلى القبول من الشخص السابق. والله أعلم.
هذا على رأي القائلين بإثبات هذا الخيار، أما الذين لم يقولوا به – كالشافعية – فإن الأمر جد يسير، حيث يبطل الإيجاب بمجرد إنهاء المحادثة، وسد التليفون وذلك لأنهم يشترطون الفورية، كما سبق، وكذلك المالكية حيث وإن أجازوا الفصل بين الإيجاب والقبول لكنهم اشترطوا أن لا يخرج العاقد عن العقد إلى غيره عرفًا، بل إن القرافي صرح بعدم جواز التأخير فقال عند كلامه عن الإيجابات: (
…
القسم الثاني الذي هو جزء من السبب، فهذا لا يجوز تأخيره، كالقبول بعد الإيجاب في البيع، والهبة والإجارة، فلا يجوز تأخير هذا القسم إلى ما يدل على الإعراض منهما عن العقد، لئلا يؤدي إلى التشاجر والخصومات بإنشاء عقد آخر مع شخص آخر) (1) . كما اشترط المالكية في أثر الفصل بأن لا يكون في المزايدة يقول العلامة الصاوي (لا يضر الفصل بين الإيجاب والقبول إلا أن يخرج عن البيع لغيره عرفًا، وللبائع إلزام المشتري في المزايدة ولو طال حيث لم يجر عرف بعدمه) . (2) .
وأما خيار المجلس عند القائلين فيثور التساؤل نفسه أيضًا: هل يعتبر مجلس التعاقد حسب مكان كل واحد من المتعاقدين بالتليفون أم باعتبار فترة الاتصال بناء على اختلاف مكانيهما؟
لقد أثار فقهاء الشافعية مسألة شبيهة بمسألتنا، واختلفوا في حكمها، وهي مسألة التعاقد بين المتعاقدين المتباعدين كيف يكون مجلس العقد بينهما؟ قال النووي:(لو تناديا وهما متباعدان، وتبايعا صح البيع بلا خلاف)(3)، وأما الخيار فقال إمام الحرمين:(يحتمل أن يقال: لا خيار لهما، لأن التفرق الطارئ يقطع الخيار، فالمقارن يمنع ثبوته، قال: ويحتمل أن يقال: يثبت ماداما في موضعهما، فإذا فارق أحدهما موضعه بطل خياره، وهل يبطل خيار الآخر أم يدوم إلى أن يفارق مكانه؟ فيه احتمالان للإمام، وقطع المتولي بأن الخيار يثبت لهما ما داما موضعهما، فإذا فارق أحدهما موضعه، ووصل إلى موضع لو كان صاحبه معه في الموضع عُدَّ تفرقًا حصل التفرق، وسقط الخيار، هذا كلامه. والأصح في الجملة ثبوت الخيار، وأنه يحصل التفرق بمفارقة أحدهما موضعه، وينقطع بذلك خيارهما جميعًا، وسواء في صورة المسألة كانا متباعدين في صحراء، أو ساحة، أو كانا في بيتين من دار، أو في صحن وصفة، صرح به المتولي. والله أعلم (4)
(1) الفروق، ط. دار المعرفة: 3/153 – 172.
(2)
بلغة السالك: 2/345.
(3)
المجموع: 9/169، والروضة: 3/340.
(4)
المجموع: 9/181، ويراجع: مغني المحتاج شرح المنهاج: 2/45.
ويتبين من هذا النص أن فقهاء الشافعية مختلفون في هذه المسألة، وأن الراجح عند أكثرهم هو ثبوت الخيار، وقد رجح النووي ثبوت الخيار لهما وأن التفرق يثبت بمجرد مفارقة أحدهما موضعه، وحينئذٍ يسقط خيارهما جميعًا.
وعلى ضوء هذه المسألة يثبت خيار المجلس – عند من يقول به فيها – للمتحدثين بالتليفون ما داما في مكانيهما، فإذا فارق أحدهما المكان الذي تحدث فيه بالتليفون فإن العقد يصبح لازمًا، وسقط حق الخيار للطرفين، وإذا حصل النزاع ولم يصدق أحدهما الآخر في المفارقة، بأن يقول: ألغيت العقد وفسخته قبل التفرق، والآخر ينكره فالأصل هو عدم التفرق إلا إذا أثبت الآخر عكس ذلك، وهناك تفصيلات ذكرها الفقهاء لا يسع المجال لذكرها (1) .
ومن هنا فإذا سرنا على رأي من يقول بثبوت الخيار للمتحدثين بالتليفون، فإنه يبقى أمامهما أن يقطعا خيار المجلس وآثاره من خلال اشتراط أن لا يكون لهما خيار المجلس، بحيث يشترطان في العقد الذي تم بالتلفون، أو بغيره، أن لا يكون لهما هذا الخيار، وحينئذ لا يكون لهما الخيار عند أكثر القائلين بخيار المجلس (2) أو يقولان بعد العقد: تخايرنا، أو أمضينا العقد، أو نحو ذلك، أو يتجاوز أحدهما مكان التليفون الذي تحدث فيه – كما فعل ابن عمر حيث كان يمشي بعد العقد هنيهة ثم يرجع – ففي كل هذه الحالات ينقطع الخيار، ويدل على ذلك الأحاديث الصحيحة في هذا المعني، منها ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما، بسندهم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:((البيعان، كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار)) (3) . حيث دلَّ الحديث على أن مجرد التفرق – حسب العرف – يقطع خيار المجلس، كما دل الحديث على أن العقد نفسه إذا تضمن شرط عدم الخيار لهما فإنه يصبح لازمًا ولا ينظر إلى المجلس، ويوضحه الحديث الصحيح المتفق عليه أيضًا وهو:) إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما بالخيار، ما لم يتفرقا وكانا جميعًا، أو يُخَيِّر أحدهما الآخر، فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن يتبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع (4) .
(1) يراجع تفصيل ذلك في المجموع: 9/183، والمغني لابن قدامة: 3/563.
(2)
المجموع للنووي: 9/179، والمغني لابن قدامة: 3/567 – 568.
(3)
صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب البيوع: 4/328-333، ومسلم: كتاب البيوع: 3/1163-1164، وسنن أبي داود، مع العون: 9/322، والترمذي، مع التحفة: 4/448، والنسائي: 7/217، وابن ماجه: 2/736، والموطأ: ص416، والدارمي: 2/166، ومسند أحمد: 1/56، 2/4، 9، والرسالة للشافعي: ص313.
(4)
صحيح البخاري: 4/332، ومسلم: 3/1164
والحديث أيضًا – كما يقول ابن قدامة – دليل على أن التخاير في ابتداء العقد وبعده في المجلس واحدٌ، فالتخاير في ابتدائه أن يقول: بعتك كذا ولا خيار بيننا ويقبل الآخر على ذلك، فلا يكون لهما خيار، والتخاير بعد العقد: أن يقول كل واحد منهما بعد العقد: اخترت إمضاء العقد، أو إلزامه، أو اخترت العقد، أو أسقطت خياري، فيلزم العقد من الطرفين
(1)
. بل أن البخاري عقد بابًا لذلك وسماه: (باب إذا خيَّر أحدهما صاحبه بعد البيع فقد وجب البيع)(2) . وكذلك يُبْطِل خيارَ المجلس بعضُ التصرفات إذا صدرت منهما، أما إذا صدرت من أحدهما فإنه يبطل خياره فقط (3) على تفصيل وخلاف.
أما إذا اخترنا قول القائلين – في مسألة التعاقد عن بعيد – بعدم ثبوت الخيار بناء على أن التفرق الطارئ يقطع الخيار، فحينئذٍ يكون الأمر ميسورًا حيث إن مجرد صدور الإيجاب والقبول من المتحدثين بالتليفون يجعل العقد لازمًا، بعد توفر الشروط الأخرى – دون أن يكون لأحدهما حق خيار المجلس -، وكذلك الأمر عند الحنفية والمالكية القائلين بعدم ثبوت خيار المجلس مطلقًا – كما سبق-.
الترجيح
الذي يظهر لنا رجحانه هو القول بخيار المجلس حيث الأدلة الصحيحة الثابتة من السنة ناهضة على إثباته (4) ، ولكن الذي ينبغي بيانه هو أن مجلس العقد في التعاقد بالتليفون الحكمي، إذ لا يوجد في الواقع اتحاد حقيقي لمجلس التعاقد، ومن هنا فالمجلس قائم ما دام المتحدثان متصلين من خلال التليفون، ولم يغلقا التليفون حتى ولو تحدثا بعد العقد في أمور أخرى طالت أم قصرت، فإن حق الفسخ قائم لهما، إذا بإمكان كل منهما أن يفسخ العقد ما دام الحديث موصولًا بالتليفون، ولم يقطع الخط، أما بعد أن سد التليفون، بعد تمام الإيجاب والقبول – مع بقية الشروط – فإن حق الفسخ قد انتهى إذا حصل التفارق.
وذلك لأن التعاقد بالتليفون ليس كالتعاقد بين الحاضرين، ولا كالتعاقد بين الغائبين في جميع الوجوه، حيث إن له شبهًا بكل واحد منهما، فهو مثل التعاقد بين الحاضرين من ناحية أن أحدهما يسمع الآخر مباشرة ولا تنقضي بينهما فترة زمنية بين صدور التعبير عن الإرادة إيجابًا وقبولا ، ووصوله إلى علم الآخر ، فلا تفصل بينهما فترة زمنية فتعبير أحدهما عن إرادته يصل إلى علم الآخر فور صدوره، كما لو كانا في مجلس واحد، ولذلك يعتبر العقد بينهما من حيث زمن انعقاده، كما لو كان بين حاضرين (5) .، ولكنه في جانب آخر يشبه العقد بين غائبين حيث إن مكان كل واحد من المتعاقدين بالتليفون مختلف عن الآخر تفصل بينهما مسافة، وأنه لا يعلم بتحركات الآخر، ولذلك لا ينبغي أن يعامل معاملة العقد بين الحاضرين في كل الجوانب، بل يحكم بأن المجلس ينتهي بانتهاء التحدث بالتليفون.
(1) المغني لابن قدامة: 3/569 – 570، وشرح المنهج: 3/106، والخيار 1/165.
(2)
صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب البيوع: 4/332.
(3)
المجموع: 9/205، والمغني: 3/569.
(4)
يراجع: المصادر الحديثية، والفقهية السابقة.
(5)
يراجع: مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني المصري: 2/140-141، ود. محمود جمال الدين زكي، النظرية العامة للالتزامات، ط. مطبعة جامعة القاهرة 1978م: ص94، وقد كان المشروع التمهيدي في مادته (140) ينص على أنه:(يعتبر التعاقد بالتليفون، أو بأية طريقة مماثلة كأنه تم بين حاضرين فيما يتعلق بالزمان، وبين غائبين فيما يتعلق بالمكان) . ولكن هذه المادة حذفت في لجنة المراجعة (لوضوح حكمها) وقد أخذ به القانون العراقي في مادته (88)، وراجع: الوسيط للسنهوري: 1/213، وقد نصت المادة (94) من القانون المدني المصري على أنه: (
…
إذا صدر الإيجاب من شخص إلى آخر بطريق التليفون يجب أن يصدر القبول فورًا كالحاضرين، لكن الاشتغال بالعقد لا يضر ماداما في المجلس)
ولوجود هذا الفرق في العقد بين متعاقدين متباعدين ذهب جماعة من فقهاء الشافعية إلى عدم ثبوت خيار المجلس بينهما مع أنهم من القائلين بخيار المجلس – كما سبق – ونحن لا نقول بذلك القول، بل نقول بثبوت خيار المجلس في العقد الذي جرى بالتليفون، ولكن نقول إن التفرق يحصل بمجرد انتهاء التحدث بالتليفون، وذلك لأن التفرق الحقيقي من حيث البدن حاصل بينهما، والشيء الوحيد الذي وصلهما هو التليفون، فإذا انتهى التحدث فقد انقطع الوصل، على عكس المتعاقدين في مجلس واحد حيث إن المجلس جامع المتفرقات، وإن المكان قد جمعهما، ولذلك لا يتم التفرق بينهما إلا من خلال التفرق بالأبدان إلا إذا كان عقدًا فيه خيار، كما سبق.
هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن المراد بالتفرق في الحديث الصحيح:((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)) هو التفرق بالأبدان، ولكن التفرق لما لم يرد تفسيره في الشرع، وليس له حد معين في اللغة يرجع فيه إلى العرف، كما هو الحال في القبض، والحرز، يقول ابن قدامة:(والمرجع في التفرق إلى عرف الناس، وعادتهم فيما يعدونه تفرقًا، لأن الشارع علق عليه حكمًا ولم يبينه، فدل ذلك على أنه أراد ما يعرفه الناس كالقبض والإحراز (1) ، ولذلك اعتبر بعض الشافعية طول الفصل والإعراض عما يتعلق بالعقد قاطعًا لخيار المجلس، قال النووي: (وفي وجه ثالث أنهما – أي العاقدان – لو شرعا في أمر آخر، وأعرضا عما يتعلق بالعقد فطال الفصل انقطع الخيار، حكاه الرافعي،.. قال أصحابنا: والرجوع في التفرق إلى العادة، فما عده الناس تفرقًا فهو تفرق ملتزم للعقد، وما لا فلا
…
) (2) .
ويؤكد هذا الرأي ويدعمه حرص الشريعة على مصالح العاقدين، واستقرار العقود، وإبعادها بقدر الإمكان عن الفوضى والاضطراب، وعن الجهالة والنزاع، ومن هنا فلا نقيس التعاقد بالتليفون على التعاقد بين حاضرين، في جميع الوجوه، بما فيه اعتبار المجلس إلى التفرق عنه، وبالتالي بقاء حق الفسخ إلى أن يتفرق الرجل من مكان تليفونه.. وذلك لأن هذا القياس مع الفارق إذ المتعاقدان الحاضران موجودان في مكان واحد في حين أن المتحدثين بالتليفون في مكانين مختلفين لا يربط أحدهما بالآخر إلا التليفون، ولذلك ينقطع بانتهاء التحدث فيه، بالإضافة إلى أن القول بدوام خيار المجلس إلى أن يفارق أحدهما مكان تحدثه يؤدي إلى عدم استقرار العقود وكثرة النزاعات والجدال، إذ أنهما لا يرى بعضهما البعض حتى يعلم بمجرد مفارقته أن العقد قد لزم، ولا يقال إن اشتراط البينات يدفع ذلك، لأن مبنى العقود على السرعة، كما أن الرجوع إلى القضاء والدخول في الخصومات ليسا من الأمور الهينة، فقد يترك الإنسان حقه الثابت حتى لا تُمَسَّ هيبته وكرامته أمام المحاكم، فما بالك بمثل هذه الأمور التي تحتاج إلى طول النفس، ولذلك كله نرى أن مجلس التعاقد بالتليفون يستمر ويبقى ما دام الكلام موصولًا بينهما، فإذا قطعا المحادثة، أو قطع المحادثة أحدهما بعد الإيجاب والقبول فإن العقد أصبح لازمًا للطرفين، والله أعلم.
(1) المغني: 3/565.
(2)
المجموع: 9/180.
التعاقد بالراديو والتلفزيون:
يمكن إجراء العقد من خلال الراديو أو التلفزيون، ولا سيما في الإيجابات الموجهة للجمهور، فلو عرض أحد من خلال الراديو أو التلفزيون عرضًا خاصًّا ببيع شيء معين، أو إيجار، وأوضح الشروط المطلوبة، والمواصفات المطلوبة المعرِّفة للمعقود عليه بشكل يزيل الجهالة عنه فإن هذا الإيجاب مقبول ويبقى قائمًا إلى أن يتقدم آخر فيقبله، وحينئذ يتم العقد، وكذلك يمكن إجراء التعاقد الخاص، من خلال شخصين عن طريق الراديو، وذلك لأن الركن الأساسي من العقد هو صدور الإيجاب والقبول ووصول كل منهما إلى علم الآخر بصورة معتبرة شرعًا، وفهم كل واحد منهما ما طلبه منه الآخر، وهذا كله يتحقق من خلال الراديو، والتلفزيون ولا سيما في الإيجابات الموجهة للجمهور، والجعالة ونحوها.
فإذا كان الإيجاب خاصًّا – أي لم يكن موجهًا إلى الجمهور – فلا بد أن يتصل به القبول فورًا عند الشافعية، ومقيدًا بدوام المجلس عند الحنفية، والحنابلة. وبعدم الإعراض عنه عند المالكية – كما سبق.
وأما الإيجاب العام الموجه إلى الجمهور فإنه لا ينتهي بل يستمر إلى أن يتصل به القبول، أو يحدث عارض يقطعه – على التفصيل السابق.
بل إننا نجد بعض النصوص لبعض الفقهاء الشافعية أن الإيجاب ما دام موجهًا إلى الغائب لا ينتهي فورًا بل يستمر حيث لو أوصله شخص إلى الآخر وقبله تم العقد. قال الرافعي: (وأَلِفوا في مسودات بعض أئمة طبرستان تفريعًا على انعقاد البيع بالكتابة: أنه لو قال: بعت من فلان، وهو غائب فلما بلغه الخبر قال: قبلت ينعقد البيع، لأن النطق أقوى من الكتابة
…
)
(1)
، واشترط الحنفية أن يكون ذلك بإذن الموجب (2) .
فعلى ضوء ذلك لو قال شخص في الراديو أو التلفزيون بعت هذا لكل من يريد أو لفلان فقبله آخر وبعث إليه القبول فقد تم العقد، وإذا حصل تزاحم فالاعتبار بأولوية الوصول إلى علم الموجب، وإذا كان بإذن الموجب فقد صح بالاتفاق.
وفي مذهب المالكية توسع جيد في هذا المجال ولا سيما هم يقولون بأن الموجب ملزَم بإيجابه الذي كان بصيغة الماضي، وليس له حق الرجوع، كما أنهم فصلوا في الإيجابات العامة، (قال البرزلي في نوازله: رجل قال في سلعة وقد عرضها: من أتاني بعشرة فهي له، فأتاه رجل بذلك، إن سمع كلامه، أو بلغه فهو لازم، وليس للبائع منعه، وإن لم يسمعه، ولا بلغه فلا شيء عليه) (3) ، فهذا النص يدل بوضوح على أن بإمكان الإنسان أن يعرض إيجابه في الراديو والتلفزيون ثم يتلقى القبول فيتم العقد.
ثم إن الإيجاب العام الذي قدمه أحد عبر الراديو أو التلفاز، لا يجوز الرجوع عنه، عند المالكية، وكذلك الإيجابات الموجهة للجمهور مثل الجعالة فإنها وإن لم تكن لازمة من حيث هي لكنها تفضي إلى اللزوم بحيث إذا أتى شخص بما طلبه الجاعل فإن الجاعل ملزم بالتنفيذ. (4) .
التعاقد باللاسلكي:
إذا كان جهاز اللاسلكي ينقل الكلام الواضح إلى الآخر فهو مثل التليفون في جميع ما ذكرناه، وكذلك إذا كان ينقل الكلام عن طريق الشفرات الواضحة المفهومة للطرفين حيث يتم العقد، إذا فهما الإيجاب والقبول بوضوح، أما إذا كان ينقل الشفرات على شريط مكتوب – فرضًا – فإنه حينئذٍ مثل البرقية – كما سيأتي – ما دامت واضحة.
(1) فتح العزيز: 8/103، ويراجع: المجموع: 9/167.
(2)
انظر الفتاوي الهندية: 3/9. وأما المالكية فمع الشافعية في صحة العقد حتى وإن لم يأمر الموجب به أو لم يأذن. انظر: حاشية البنا على الزرقاني: 5/5-6.
(3)
حاشية البنا على شرح الزرقاني على مختصر خليل: 5/5-6.
(4)
الحاوي للماوردي، كتاب البيوع، المحقق من قِبَل محمد الكزني ص224-226.
ضوابط ينبغي التنبيه عليها:
أولًا: لا شك أن العقود تتم بلا خلاف عن طريق التليفون، أو الراديو أو التلفزيون أو اللاسلكي، ولكنه مع ذلك إن التعاقد بها يبقى معه احتمال التزوير وتقليد الصوت، والدبلجة، ولذلك فالأصل هو انعقاد العقد ولكن إذا ادعى أحدهما أن الصوت ليس له، فعليه إثبات ذلك من خلال الأدلة التي تقنع القضاء الذي هو الفيصل، لأنه المدعي (والبينة على المدعي، واليمين على من أنكر)(1) .
ثانيًا: إن العقود بالتليفون ونحوه إنما تصح فيما لا يشترط فيه القبض الفوري، أما إذا بيع ربوي بمثله فلا يصح العقد بالتليفون، إلا إذا تم القبض كأن يكون لكل واحد منهما وكيل بالتسليم عند الآخر، أو عن طريق بنك لدى كل واحد منهما فيه رصيد لكليهما، أو نحو ذلك مما يتعلق بموضوع القبض (2) كما دل على اشتراط القبض الفوري الأحاديث الصحيحة الثابتة، وإجماع العلماء من حيث المبدأ منها الحديث الصحيح المتفق عليه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثْلًا بمِثْل
…
)) .
(1) يراجع فتح الباري: 5/145-146، والسنن الكبرى: 10/252، وروى البخاري: 5/145، ومسلم: 3/1336 بلفظ (قضى باليمين على المدعى عليه) .
(2)
يراجع: فتح القدير: 5/274، وبدائع الصنائع: 7/3115، والبحر الرائق: 6/137، والدر المختار: 5/171، والدسوقي على الشرح الكبير: 3/47، وبداية المجتهد: 2/13، والروضة: 3/377، ونهاية المحتاج: 4/428، والمغني لابن قدامة: 4/5-7، والموسوعة الفقهية الكويتية: 1/206.
وفي حديث صحيح آخر: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينًا بعين. فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد)) (1) .
وكذلك الحكم في عقد السَّلَم حيث يجب تسليم الثمن (رأس مال السَّلَم) في مجلس العقد، خلافًا للمالكية حيث أجازوا تأخيره ثلاثة أيام، ولكنهم اختلفوا فيما لو تأخر تسليمه أكثر من ثلاثة أيام بدون اشتراط التأخير حيث ذهب بعضهم إلى فساده، وبعضهم إلى صحته، أما إذا كان التأخير عن الثلاثة باشتراط، فقد فسد العقد بالاتفاق (2) .
ثالثًا: إن مجلس العقد بالتليفون واللاسلكي ونحوهما، ينتهي بانتهاء المحادثة كما سبق. إلا إذا كان العقد يتم من خلال المزايدة، حيث ذهب المالكية إلى أن الشخص الذي يعرض رضاه بثمن معين في المزايدة فليس له حق الرجوع حتى ولو طال، يقول العلامة الصاوي:(ولا يضر في البيع الفصل بين الإيجاب والقبول إلا أن يخرج عن البيع بغيره عرفًًا، وللبائع إلزام المشتري في المزايدة ولو طال حيث لم يجرِ عرف بعدمه) . (3) .
فعلى ضوء هذا نقول: إذا اتصل شخص عبر التليفون بمن يدير المزاد، فعرض عليه قبوله بمبلغ كذا، ثم سد التليفون، ورسا عليه بنفس المبلغ فإنه لا مندوحة له من قبوله بالعقد، وهذا رأي وجيه له وجاهته واعتباره حيث يؤدي إلى حماية العقود من الفوضى والاضطراب، والإضرار بالناس، لأنه إذا لم يلزم به يؤدي إلى الإضرار بالبائع – مثلًا، لأنه أنهى المزاد لأجله، فإذا لم يلزم به، فيحنئذٍ يؤدي إلى الإضرار به بلا شك، وهو مدفوع في هذه الشريعة:((لا ضرر ولا ضرار)) (4) .
رابعًا: إن قولنا بأن مجلس العقد التعاقد بالتليفون ينتهي بمجرد إنهاء المحادثة خاص فيما إذا لم يُعْطِ أحدهما للآخر المهلة، أو لم يشترط لنفسه الخيار، فإذا اشترط أحدهما، أو كلاهما ذلك فإن لِمَنْ له الخيار، أو المهلة، أن يقبل في المدة المعينة.
(1) وهناك أحاديث كثيرة بهذا الصدد فراجعها في صحيح: البخاري – مع الفتح – البيوع: 4/377-384 ومسلم، والمساقاة: 3/1208-1219، ومسند الشافعي: ص48، وأحمد: 3/4، 5/49، والمستدرك: 2/43 وسنن أبي داود – مع العون: 9/198، وابن ماجه: 2/757، والترمذي: 1/233، والنَّسائي: 7/240، والسنن الكبرى: 5/276.
(2)
شرح الخرشي: 5/203، وبلغة السالك: 2/538 ويراجع: حاشية ابن عابدين: 4/208، والغاية القصوى: 1/497، والمغني لابن قدامة: 4/328.
(3)
بلغة السالك: 2/345.
(4)
حديث ثابت رواه مالك في الموطأ، كتاب الأقضية ص464، وأحمد: 1/313، وابن ماجه في سننه، كتاب الأحكام: 2/784.
القسم الثاني
الوسائل الحديثة لنقل المكتوب مباشرة
تشمل هذه الوسائل البرقية، والتلكس، والفاكس، حيث تطورت هذه الوسائل بشكل رهيب حيث أصبح من مقدور الإنسان أن ينقل ما كتبه خلال ثوانٍ، أو دقائق معدودة، إلى المكان الذي يريده ما دام لديهما جهاز الفاكس، أو التلكس، حيث ينقل حرفيًّا، بل إن الفاكس ينقل صورة منه طبق الأصل فيوصله إلى الجهاز الآخر مهما كان بعيدًا.
وأما حكم العقود من خلال جهاز الفاكس هو كحكم التعاقد بالكتابة سواء بسواء، إذ أنه ينقل صورة حقيقية من خطابك وتوقيعك دون أي تغيير، أو تبديل، فكما شرحنا سابقًا فإن جهاز الفاكس حينما تضع عليه الورقة المطلوب نقلها إلى آخر، وتدوس على الزر الخاص، فإنه يصوره لك صورة ويرسلها إلى الجهاز الثاني لتظهر الصورة بوضوح على الورق في الجهاز الثاني.
وأما البرقية والتلكس: فهما كذلك مثل الكتابة لكنه مع فارق أن البرقية، أو التلكس لا ينقلان صورة، وإنما يكتب العقد مرة أخرى، لينقل المكتوب إلى الجهاز الثاني، فهو أشبه ما يكون بخطاب شخص يطلب من آخر أن يكتبه ليرسله إلى الثاني، ومن هنا فلا بد من ملاحظة كون هذا الخطاب من الشخص الفلاني، فإذا ادَّعى أحدهما التزوير فعليه الإثبات من خلال الوسائل المتاحة له.
وعلى أية حال فإن التعاقد بهذه الأجهزة مثل التعاقد عبر الكتابة، ولذلك نذكر آراء الفقهاء في هذه المسألة، ثم نعود لنوضح حكم إجراء العقود بهذه الوسائل الحديثة من حيث مجلس العقد، ووقت تمام العقد، وخيارات المجلس الثلاثة.
التعاقد بالكتابة:
1-
ثار خلاف بين الفقهاء في مدى الاعتداد بالكتابة كتعبير عن الإرادة سواء كانت بين حاضرين، أم غائبين، ويمكن ضبط توجهاتهم في ثلاثة اتجاهات وهي:
اتجاه التوسع، وهذا يمكن في اعتبار الكتاب كالخطاب سواء كان بين الحاضرين أو الغائبين، وإلى هذا ذهب المالكية، والحنابلة، وبعض الشافعية، لكنهم جميعًا – ماعدا وجهًا للشافعية – استثنوا من هذا الحكم النكاح لخصوصيته، واشتراط الشهود فيه (1) .
(1) يراجع لتفصيل ذلك: بلغة السالك: 2/17، والدسوقي: 2/3، وشرح الخرشي: 5/5، وحاشية الصاوي على الشرح الصغير: 2/166، وكشاف القناع: 3/148، والروض المربع: 6/249، والمغني: 7/239، والمجموع: 9/168، والأشباه للسيوطي: ص334، وفتح العزيز: 8/103، والروضة: 8/39، والمهذب: 1/257.
2-
اتجاه التضييق، وهو اتجاه الذين يقولون بعدم صلاحية الكتابة لإنشاء العقود بها إلا بالنسبة للعاجزين عن الكلام، وهذا مذهب الأباضية، والراجح في مذهب الإمامية، ووجه الشافعية، ورأي داخل المذهب الزيدي (1) .
3-
اتجاه التوسط، وهذا مذهب الحنفية الذين جعلوا الكتاب كالخطاب بالنسبة للغائب، دون الحاضر، غير أنهم ذهبوا إلى أن النكاح إنما يتم بالكتابة إذا أحضر الجانب الثاني للشهود، وقرأ عليهم الكتاب، ثم يقول: قبلت أو زوجت، أو تزوجت (2) .
الأدلة والمناقشة والترجيح:
وقد استدل كل فريق على دعواه، حيث استدل المضيقون من دائرة الكتاب بأن الكتابة ليست وسيلة من وسائل التعبير المعتبرة، حيث إنها تحتمل التزوير وإرادة تحسين الخط فقط، ومع هذا الاحتمال لا يثبت بها العقود التي تترتب عليها آثار كثيرة من حل وحرمة، ومن انتقال الملكية، ونحوه، بالإضافة إلى أن وسائل التعبير عن العقود جاءت جميعها بالألفاظ، ولم يشتهر في عصر النبي صلى الله عليه وسلم إنشاء العقود بالكتابة. غير أنه يستثنى من ذلك العاجز عن النطق الذي لا يجد حيلة إلى النطق، ولا يهتدي إلا إلى الإشارة أو الكتابة.
ويمكن أن تناقش هذه الأدلة بأن مبناها على أن الكتابة وسيلة ضرورية ولذلك لا تصلح إلا للعاجز عندهم، وهذا غير مسلم، لأن التعبير عما في النفس كما يمكن أن يكون باللفظ يمكن أن يكون بالكتابة، كما أننا لا نسلم أن الكتابة لم تستعمل كتعبير عن العقود في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، فالأحاديث الصحيحة شاهدة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استعملها في رسائله مع الملوك وغيرهم للتعبير عما يريده منهم من الدخول في الإسلام (3) ، ولو سُلِّم ذلك، فلا يدل عدم استعمالها في عصره على عدم جواز استعمالها، وذلك لأن مبنى هذه الدلالات على العرف، وأن الجمهور على عدم التقيُّد بالصيغ الواردة في الشرع ما دامت لا تصطدم مع نص شرعي، ولا دليل على منع الكتابة.
ومن جانب آخر إن ما أوردوه من احتمال التزوير والتقليد يتلاشى مع وجود القرائن الدالة عليه، بالإضافة إلى أن ذلك داخل في عملية الإثبات، وكلامنا هنا في مدى دلالة الكتابة على الرضا (4) .
(1) شرائع الإسلام للحلي: 2/8، والمجموع: 9/167، والروضة: 8/39، والبحر الزخار: 4/26.
(2)
الهداية مع فتح القدير، وشرح العناية: 5/79، والفتاوى الهندية: 3/9.
(3)
انظر: صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب الجهاد -: 6/109، ويراجع المغني لابن قدامة: 7/341.
(4)
المصادر السابقة، ويراجع لتفصيل ذلك: مبدأ الرضا في العقود: دراسة مقارنة: 2/974
…
وأما الاتجاه الوسط فقد استدل بالأدلة السابقة لكنهم قالوا: إن الحاجة ماسة بالنسبة للغائبين دون الحاضرين، فيترخص للغائبين دون غيرهما، فلماذا يلجأ الحاضران إليها وهما قادران على النطق الذي هو الأقوى؟؟!
ويمكن أن يجاب عن هذا بأن النزاع في أن الكتابة هل تصلح للدلالة على ما في النفس أم لا؟ فإذا قلنا: نعم، فأي تقييد في حقها، وتضييق لنطاقها بما بين الغائبين لا يتفق مع هذا الجواب، ولا مع المبدأ السائد في الشريعة الغراء، القاضي بأن أساس العقود هو الرضا، وأما إذا كان جوابنا بالنفي فلا بد أن لا نستثنى الغائبين، لأن التعبير عن الرضى ضروري في إنشاء العقد بحيث لا يتم بدونه، كما أنه لا توجد ضرورة بالنسبة للغائبين إذ يمكنهما التوكيل (1) .
واستدل الموسعون بأن الكتابة وسيلة جيدة عن التعبير عن الإرادة وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استعملها في خطاباته مع الملوك، فدعاهم إلى الدخول في الإسلام (2) ، فإذا كانت الكتابة صالحة للتعبير عن نشر الدعوة، فكيف لا تكون صالحة لإنشاء العقد؟؟ قال الكاساني: (إن الكتابة المرسومة جارية مجرى الخطاب، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يبلغ بالخطاب مرة وبالكتاب أخرى
…
وبالرسول ثالثًا، وكان التبليغ بالكتاب والرسول كالتبليغ بالخطاب، فدل على أن الكتابة المرسومة بمنزلة الخطاب) (3) ، بل إن القرآن الكريم قد الكتابة على الشهادة في آية الدين (4) .
وهذا هو الراجح الذي يدعمه الدليل ويتفق مع قواعد الشريعة وأصولها القاضية برفع الحرج ومبادئها الخاصة بالعقود الدالة على أن الأساس هو التراضي دون النظر إلى التقيد بأية شكلية، بالإضافة إلى أن الشرع علق حل أكل أموال على التراضي، فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (5) ، ومع ذلك لم يفصل في وسائل التعبير عنه، كما أننا لا نجد لها تحديدًا دقيقًا في اللغة فيناط حينئذٍ بالعرف، والعرف جار قديمًا وحديثًا على صلاحية الكتابة للتعبير عن الرضا والإرادة، ولذلك فهي صالحة لإنشاء العقود (6) .
(1) المصادر السابقة، ويراجع لتفصيل ذلك: مبدأ الرضا في العقود دراسة مقارنة: 2/947
…
(2)
صحيح البخاري – مع الفتح -: 6/109، حيث روي بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام.
(3)
بدائع الصنائع: 4/1813.
(4)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} [سورة البقرة: الآية 282]، ويراجع تفسير القرطبي: 3/376.
(5)
سورة النساء: الآية 29
(6)
يراجع مبدأ الرضا في العقود: 2/948
…
والمصادر الفقهية السابقة.
صعوبات فنية في التعاقد بالبرق والتلكس والفاكس:
لا شك أن هناك صعوبات فنية في التعاقد بهذه الوسائل تكمن في كيفية تصور مجلس العقد، ووقت تمامه، وما يترتب على المجلس من خيارات الأمر الذي يقتضي معالجتها بدقة وأناة.
ولا يخفى أن مجلس العقد بالنسبة للحاضرين واضح يسهل تصوره، لكن الصعوبة قد تأتي لتصوره فيما لو كانا غائبين مثل التعاقد بالبرق أو التلكس، أو الفاكس، أو بعبارة أخرى: التعاقد عن طريق المكتوب، والسبب في هذه الصعوبة وجود المسافة الزمنية والمكانية بين الإيجاب والقبول، وكيفية وصول القبول إلى علم من وُجِّه إليه الجواب، وأيضًا فإن التساؤل يثور حول الوقت الذي يتم فيه العقد، هل يتم بمجرد قبول من أرسل إليه البرقية، أو التلكس، أو الفاكس، (وهذا ما يسمى في الفقه المدني الوضعي بنظرية إعلان القبول) . أو أنه يتم بقبوله، وإرساله إلى الموجب (وهذا ما يسمى في الفقه المدني الوضعي بنظرية تصدير القبول) ، أو أنه يتم بإيصال الجواب إلى الموجب – أي يصله القبول – من خلال الرسالة – أو البرق، أو التلكس أو الفاكس، بحيث إذا وصل إليه فقد تم العقد حتى ولو لم يعلم بمحتواه (وهذا يسمى في الفقه الوضعي بنظرية تسليم القبول) أو أنه لا يتم العقد إلا إذا وصل القبول إلى الموجب وعلم به فعلًا (وهذا يسمى في الفقه المدني الوضعي بنظرية العلم بالقبول)(1) .
ولا شك أن لكل نظرية من هذه النظريات أنصارها وروادها، كما أن لكل واحدة منها سلبياتها وإيجابياتها، ولكن الغالب في الفقه الوضعي الحديث يتجه إلى تفضيل نظرية الإعلان عن القبول على غيرها لما لها من مزايا عدة من أهمها:
أولًا: إن التماثل في جميع الجهات بين عقود الحاضرين، وعقود الغائبين أمر غير عملي، وذلك لاختلاف طبيعة التعاقد في كل منها، ومن ثم فلا ينبغي اشتراط وصول القبول إلى علم الموجب، بل يكفي مجرد تعبيره عن إرادته في القبول إذ إن العقد ليس إلا الإيجاب والقبول، وقد حصلا من خلال قبوله في مجلس الوصول.
ثانيًا: إن هناك صعوبة في تحديد وقت انعقاد القبول، إذا قلنا بغير نظرية الإعلان، فليس من الميسور معرفة لحظة إرسال الخطاب، أو تسليم القبول، أو العلم به، بالإضافة إلى احتمال الإنكار، وتأخير الاطلاع عليه عمدًا، وغير ذلك مما يؤدي إلى عدم استقرار العقود، وإلى الفوضى التي ينبغي أن تكون المعاملات والعقود بمنأى عنها.
(1) د. السنهوري: الوسيط: 1/309، وجوسران: شرح القانون المدني بند 52، ومصادر كثيرة مشار إليها في رسالتنا: مبدأ الرضا في العقود: 2/1112.
ثالثًا: إن الأخذ بنظرية الإعلان من شأنها كسب الوقت حيث ينشأ العقد بمجرد إعلان القبول، ولا سيما في العصر الذي يحتاج فيه إلى مزيد من السرعة في التبادل حتى لا تتعطل المصالح في حين على ضوء بقية النظريات ينبغي انتظار فترة كبيرة، ولا سيما على ضوء نظرية العلم بالقبول، حيث يمكن أن يصله الجواب لكنه لا يطلع عليه، لأي سبب من الأسباب، ومع ذلك يؤدي إلى عدم معرفة نتيجة الصفقة. ومع ذلك فإن القانون المدني المصري، والعراقي أخذا بنظرية العلم بالقبول، وصرح الفقه الإنجليزي بأن القاعدة العامة المستقرة في القضاء الإنجليزي تقتضي وجوب إحاطة العارض بقبول العرض، ما لم يكن هناك اتفاق على التنازل عن الإحاطة (1) .
تلك هي خلاصة موجزة جدًّا في الفقه الوضعي، فلنعد إلى فقهنا الإسلامي العظيم لنرى كيف عالج هذه الصعوبات الفنية التي تتعلق بمجلس العقد ووقت تمام العقد ثم بالخيارات، التي تترتب على المجلس.
أولًا- مجلس العقد في التعاقد بالبرق، والتلكس، والفاكس:
عالج الفقه الإسلامي هذه المسألة عند بحثه عن مجلس العقد بين الغائبين سواء كان عن طريق الكتابة، أو الرسول، ونحن نذكر هنا بعض النصوص للفقهاء، ثم نعقبها بالتعليق.
فقد صرح الحنفية بأن الأصل هو اتحاد المجلس بأن يقع الإيجاب والقبول في مجلس واحد، ولكن مجلس التعاقد بين الغائبين هو مجلس وصول الخطاب أو الرسول، قال الكاساني: (وأما الكتابة، فهي أن يكتب الرجل إلى رجل: أما بعد فقد بعت عبدي فلانًا منك بكذا فبلغه الكتاب، فقال في مجلسه: اشتريت، لأن خطاب الغائب كتابه، فكأنه حضر بنفسه، وخاطب بالإيجاب وقَبِل الآخر في المجلس
…
) (2) . وجاء في الهداية، والفتاوى الهندية وغيرهما:(والكتاب كالخطاب حتى اعتبر مجلس بلوغ الكتاب، وأداء الرسالة)(3)، ويقول النووي: (وإن قلنا: يصح – أي البيع بالمكاتبة – فشرطه أن يقبل المكتوب إليه بمجرد اطلاعه على الكتاب
…
وإذا صححنا البيع بالمكاتبة جاز القبول بالكتب، وباللفظ، ذكره إمام الحرمين وغيره
…
قال الغزالي في الفتاوى: إذا صححنا البيع بالمكاتبة، فكتب إليه فقبل المكتوب إليه ثبت له خيار المجلس ما دام في مجلس العقد) (4) .
ويظهر من هذه النصوص، وغيرها أن مجلس العقد بالنسبة للتعاقد بالبرقية، أو التلكس، أو الفاكس، هو مجلس وصول البرقية، أو التلكس أو الفاكس، فإذا وصل وقرأه وقال: قبلت، أو كتب الموافقة فقد انعقد العقد.
ومن الجدير بالتنبيه عليه أن اتحاد المجلس لا يشمل بعض العقود مثل الوصية والإيصاء، والوكالة، حيث إن القبول في الوصية يكون في مجلس آخر بعد وفاة الموصي (5) .
(1) مورانديه: شرح القانون المدني الفرنسي بند (32) ويراجع رسالتنا: مبدأ الرضا في العقود، دراسة مقارنة: 2/1114
…
ومصادره التي اعتمد عليها في القانون الفرنسي، والإنجليزي، والمصري والعراقي، بالإضافة إلى المذاهب الفقهية الثمانية، ويراجع: د. وحيد الدين السوار: التعبير عن الإرادة، ط. مكتبة النهضة 1960م، ص129.
(2)
بدائع الصنائع: 6/2994.
(3)
فتح القدير على الهداية: 5/78، 82، والفتاوى الهندية: 3/9.
(4)
المجموع: 9/167-168.
(5)
مختصر أحكام المعاملات للشيخ الخفيف: ص79.
ثانيًا- وقت تمام العقد:
ذكرنا فيما سبق أن الفقه المدني الوضعي قد اختلف في هذه المسألة اختلافًا كبيرًا حتى توزعت مدارسه بين أربع نظريات، وهي نظرية إعلان القبول، ونظرية تصدير القبول ونظرية تسليم القبول، ونظرية العلم بالقبول.
ونحن نعرض هنا بعض نصوص الفقهاء ليتبين لنا بوضوح وجهة نظرهم بهذا الخصوص ولا سيما أن بعض الباحثين أنكروا وجود وجهة نظر واضحة للفقه الإسلامي في هذا الصدد (1) .
يقول المرغيناني الحنفي: (والكتاب كالخطاب، وكذا الإرسال حتى اعتبر مجلس بلوغ الكتاب، وأداء الرسالة)(2)، ويقول الكاساني: (وأما الكتابة فهي أن يكتب الرجل إلى رجل: أما بعد فقد بعت كذا منك، فبلغه الكتاب، فقال في مجلسه: اشتريت – أي انعقد العقد – لأن خطاب الغائب كتابه فكأنه حضر بنفسه وخاطب بالإيجاب وقبل الآخر في المجلس
…
) (3)، وقال تاج الشريعة: (وصورة الكتابة أن يكتب إلى رجل
…
فلما بلغه الكتاب وقرأه وفهم ما فيه قَبِل في المجلس صح البيع كذا في العيني
…
) (4)، وقال ابن عابدين:(فإن قَبِل – أي الغائب – صح العقد)(5) .
وهذه النصوص لفقهاء الأحناف تدل بكل وضوح على أن العقد بالكتابة – ومنها البرق والتلكس والفاكس، يتم بمجرد القبول الصادر من الشخص الموجه إليه، واعتبروا مجلس وصول المكتوب مجلس العقد، بل اعتبروا المكتوب نفسه بمثابة حضور الموجب الكاتب نفسه، فعلى ضوء ذلك فإن الحنفية يقولون بنظرية إعلان القبول.
وجهة نظر والرد عليها:
وقد استنبط بعض الباحثين (6) من بعض النصوص الحنفية الدالة على اشتراط سماع كل من المتعاقدين كلام صاحبه في صحة العقد (7)
…
إن الحنفية يقولون بنظرية العلم بالقبول، حيث قال:(إن منطق القاعدة التي تقول بوجوب سماع الموجب القبول في التعاقد بين الحاضرين تقتضي القول بوجوب علم الموجب بالقبول في التعاقد بين غائبين، والسماع في حالة حضور الموجب يقابله العلم حالة غيابه)(8) .
(1) يقول الأستاذ السنهوري رحمه الله في مصادر الحق: 2/54: (فلم نعثر على نص صريح في هذه المسألة يبين متى يتم العقد بين الغائبين، هل يتم بمجرد إعلان القبول، أو لا يتم إلا بعلم الموجب بالقبول
…
) . ولكنا وجدنا نصوصًا – كما ترى – توضح وجهة نظر فقهائنا في هذه المسألة، وسبقهم إلى أدق نظريات نافعة: نعم إنهم لم يصرحوا بأن هذا القول يمثل النظرية الفلانية، لكن أقوالهم تدل عليهم بوضوح.
(2)
الهداية مع فتح القدير والعناية: 5/79.
(3)
بدائع الصنائع: 6/2994.
(4)
الفتاوى الهندية: 3/9.
(5)
حاشية ابن عابدين: 4/15.
(6)
الأستاذ السنهوري: مصادر الحق: 2/56.
(7)
الفتاوى الهندية: 3/3، والفتاوى البزازية بهامش الفتاوى الهندية: 4/364، وفتح القدير: 5/74.
(8)
الأستاذ السنهوري: مصادر الحق: 2/56.
ويمكن أن نرد على هذا بسهولة، وذلك لأن لازم المذهب ليس بمذهب، هذا أولًا، وثانيًا: إن الحنفية صرحوا – كما رأيت – بأن العقد يتم في الكتاب في مجلس وصوله إلى القابل من خلال قبوله في المجلس، وثالثًا: إن قياس العقد بين الغائبين على العقد بين الحاضرين قياس مع الفارق، لعدة وجوه من أهمها أن الإيجاب في العقد بين الحاضرين مرتبط بمجلس صدوره فيه بحيث إذا انفض المجلس انعدم الإيجاب ولم يبق له وجود في حين أن الإيجاب في العقد بين الغائبين يظل مستمرًّا إلى حين وصوله إلى الشخص الثاني، ويبقى طول بقائه في مجلس الوصول إلا إذا صدر ما يدل بوضوح على إعراضه عنه – كما سبق – وقد صرح الحنفية بهذا الفرق. قال الكاساني:(إن اتحاد المجلس شرط للانعقاد، ولا يتوقف أحد الشطرين من أحد العاقدين على وجود الشرط الآخر إذا كان غائبًا، أي عن طريق الكتابة أو الرسالة)، وقال أيضًا:(والأصل في هذا أن أحد الشطرين من أحد العاقدين في باب البيع يتوقف على الآخر في المجلس، ولا يتوقف على الشطر الآخر من العاقد الآخر فيما وراء المجلس بالإجماع إلا إذا كان عنه قابلا، أو كان بالرسالة، أو بالكتابة)(1)، ورابعًا: إن نصوص الحنفية في وجوب سماع كل من العاقدين كلام الآخر خاصة في التعاقد بالكلام، دون التعاقد بالوسائل الأخرى، مثل التعاطي والإشارة والكتابة حيث إن كل واحدة من هذه الوسائل المعبرة عن الإرادة ليس فيها سماع مع أن العقود تتم بها، على تفصيل فيها (2) .
وفي اعتقادنا أن بقية المذاهب أيضًا، تعتبر وقت تمام العقد حين يصل المكتوب سواء كان عن طريق شخص، أو عن طريق البرق، أو التلكس، أو الفاكس – إلى الشخص الذي وجه إليه فيقبله في المجلس، فحينئذٍ انعقد العقد، لكن المذاهب التي تقول بخيار المجلس – كالشافعية والحنابلة- تعطي حق خيار المجلس للكاتب والمكتوب إليه ما دام المكتوب إليه في مجلسه، وأما المذاهب التي لا تعترف بخيار المجلس فإن العقد يصبح تامًّا بمجرد القبول كما سبق.
وإليك بعض نصوص الفقهاء في هذا المضمار، يقول النووي:(قال الغزالي: إذا صححنا البيع بالمكاتبة فكتب إليه، فقبل المكتوب إليه ثبت له خيار المجلس مادام في مجلس القبول، قال: ويتمادى خيرا الكاتب إلى أن ينقطع خيار المكتوب إليه، حتى لو علم أنه رجع عن الإيجاب قبل مفارقة المكتوب إليه مجلسه صح رجوعه ولم ينعقد البيع. والله أعلم)(3) .
(1) بدائع الصنائع: 6/2993 – 2994، ومثله في ابن عابدين: 4/11.
(2)
يراجع في تفصيل ذلك: رسالتنا: مبدأ الرضا في العقود: 2/833-1000، وراجع لمناقشة هذه الآراء حول اشتراط السماع، ص1098 منها.
(3)
المجموع: 9/168.
وهذا النص يدل أيضًا على أنه لا يشترط في تمام العقد وصول القبول إلى الموجب الكاتب بل يكفي صدور القبول من المكتوب إليه، في مجلس الوصول، فعلى ضوء ذلك يتم العقد بين الغائبين- عن طريق المكتوب- بمجرد إعلان القبول قبل رجوع الموجب عن إيجابه، بل صرح الرافعي بأن مجلس التعاقد بين الغائبين هو مجلس اطلاع المكتوب إليه، والمرسل إليه على الإيجاب، حيث يقول:(فالشرط أن يقبل المكتوب إليه كما اطلع على الكتاب على الأصح ليقترن القبول بالإيجاب بحسب الإمكان)(1) .
وأما المالكية فمذهبهم أن الإيجاب ملزم للموجب – بشروطه – فعليه لا يتمشى مع قواعد مذهبهم أن يشترطوا علم الموجب بقبول القابل حتى يتم العقد، بل إن نصوصهم ظاهرة كل الظهور بأن البيع ونحوه ينعقد بمجرد القبول بعد صدور الإيجاب (2) وعلى هذا نصوص الحنابلة (3) .
فعلى ضوء ذلك نستطيع أن نقول إن جانبًا كبيرًا من الفقه الإسلامي، ومنه الفقه الحنفي والمالكي، تبنى نظرية إعلان القبول قبل ظهور هذه النظرية في الغرب بعدة قرون، والبعض الآخر – كالشافعي والحنبلي – تبنى أيضًا نظرية الإعلان ولكن مع حق خيار المجلس.
فعلى ضوء الرأي الأول يتم بالقبول في مجلس الوصول ما دام الموجب لم يرجع عن إيجابه قبل ذلك، ولذلك لا يتوقف تمامه عند الجميع إلى أن يصل القبول إلى الموجب، أو بعبارة أخرى لا يتوقف تمامه على علم الموجب بالقبول، نعم إن العلم بالشيء أو عدم العلم به قد يؤثر في بعض التصرفات، مثل عزل الوكيل حيث إنما يؤثر في تصرفاته إذا علم الوكيل بعزله صيانة الحقوق الآخري، وحماية له من الوقوع فيما يترتب على العقود من حقوق وآثار والتزامات (4) . ومن هنا فالتعاقد بالبرق أو التلكس، أو الفاكس، يتم إذا وصل المكتوب إلى الموجه إليه وقبله في المجلس، لكنه في النكاح يحتاج إلى شهود أيضًا.
(1) فتح العزيز بهامش المجموع: 8/103، والروضة: 3/339.
(2)
حاشية البنا على الزرقاني: 5/5-6، والفواكه الدواني: 2/175، والدسوقي: 3/3، والخرشي: 5/5، وبلغة السالك: 2/243.
(3)
يراجع: الإنصاف للمرداوي: 4/260، والروض المربع: 4/328، والمغني: 3/561.
(4)
بدائع الصنائع: 6/2994.
ثالثًا: الخيارات المتعلقة بمجلس العقد في البرق والتلكس والفاكس:
سبق أن ذكرنا بإيجاز بأن هناك ثلاثة خيارات تترتب على مجلس العقد هي: خيار الرجوع، وخيار القبول، وخيار المجلس.
فعند الجمهور – ما عدا المالكية: عندما يكون الإيجاب بصيغة الماضي – يجوز للموجب أن يرجع من إيجابه في غير الخلع والعتق (1) قَبْل قبول المكتوب إليه، فإذا قَبِل فقد تم العقد ولزم العقد عند الحنفية والمالكية الذين لا يقولون بخيار المجلس، وأما عند الشافعية والحنابلة فيبقى لكل واحد منهما حق خيار المجلس، وأما خيار القبول فعلى ضوء ما ذهب إليه الجمهور – أي ما عدا الشافعية – فإن المكتوب إليه له الحق في القبول ما داما في المجلس إلا إذا صدر من أحدهما ما يدل على الإعراض عن العقد، وأما الشافعية فاشترطوا الفورية في القبول، لكنهم أعطوا حق خيار المجلس بعد القبول للطرفين.
يقول الكاساني: (ولو كتب شطر العقد، ثم رجع صح رجوعه، لأن الكتاب لا يكون فوق الخطاب، ولو خاطب ثم رجع قَبْل قبول الآخر صح رجوعه فههنا، أولى، وكذا لو أرسل رسولًا ثم رجع، لأن الخطاب بالرسالة لا يكون فوق المشافهة، وذا محتمل للرجوع فههنا أولى)(2) . وجاء في الفتاوى الهندية: (وللموجب أيًّا كان أن يرجع قبل قبول الآخر)(3) ، ولا يشترط وصول رجوعه إلى علم القابل، قبل قبوله، فقد نقل ذلك صاحب الفتاوى الهندية عن علماء المذهب فقال:(ويصح رجوع الكاتب والمرسل عن الإيجاب الذي كتبه، وأرسله قبل بلوغ الآخر وقبوله سواء علم الآخر أو لم يعلم، حتى لو قبل الآخر بعد ذلك، لا يتم البيع، كذا في فتح القدير)، وقال أيضًا:(وبعدما كتب شطر العقد، أو أرسل رسولًا إذا رجع عن ذلك صح رجوعه سواء علم الرسول أو لم يعلم، كذا في العيني شرح الهداية)(4) .
وأما عند الشافعية فإن القبول لا بد أن يكون فور وصول البرقية أو التلكس أو الفاكس، يقول النووي:(قال أصحابنا: وإن قلنا: يصح – أي البيع ونحوه بالمكاتبة – فشرطه أن يقبل المكتوب إليه بمجرد اطلاعه على الكتاب، هذا هو الأصح وفيه وجه ضعيف: أنه لا يشترط القبول، بل يكفي التواصل اللائق بين الكتابين)، ثم قال: (وإذا صححنا البيع بالمكاتبة جاز القبول بالكتب وباللفظ، ذكره إمام الحرمين وغيره
…
) (5) .
(1) المصادر السابقة: وراجع: ابن عابدين: 4/11، وقد جاء فيه: (فله – أي للموجب – الرجوع، لأنه عقد معارضة بخلاف الخلع والعتق على مال حيث يتوقف اتفاقًا، فلا رجوع، لأنه يمين نهاية، أي يمين من جانب الزوج والمولى.
(2)
بدائع الصنائع: 6/2994.
(3)
الفتاوى الهندية: 3/8.
(4)
الفتاوى الهندية: 3/9، ويراجع فتح القدير: 5/74.
(5)
المجموع: 9/167.
وأما المالكية فقد ذهبوا إلى أن الإيجاب ملزم – بشروطه كما سبق – وحينئذٍ إذا كتب البرقية أو الفاكس، أو التلكس فقد أصبح ملزمًا به فلا يجوز له الرجوع ما دام الموجه إليه قَبِلَه في مجلس الوصول.
وقد رجحنا قول الجمهور القائلين بعدم فورية القبول، فعلى ضوء ذلك يحق للموجه إليه البرقية أو التلكس، أو الفاكس أن يقبل العرض الموجه إليه ما دام في مجلس وصول الإيجاب ما دام لم يعرض عنه، أما إذا أعرض عنه، أو قام من مجلسه دون قبوله، فقد سقط حقه، وبذلك يجمع بين مصلحة التروّي والتفكير، ووضع ضوابط من خلال التقيد بالمجلس.
ثم إذا قبل الموجه إليه في المجلس فقد تم العقد ولزم عند الحنفية والمالكية ولم يبق فيه حق خيار المجلس، ولكنه لا يصبح لازمًا عند الشافعية والحنابلة ومن معهم إلا بعد أن يفارق الموجه إليه مجلس الوصول أو يعرض عنه تمامًا (1) .
خصوصية للنكاح، فهل تعمم؟
ذكر الفقهاء الذين أجازوا عقد النكاح عن طريق الكتابة أنه يجوز للمرسل إليه إذا وصله الكتاب أن يخرج من مجلسه ليذهب إلى مجلس آخر يجد فيه الشهود على قبوله، وهذه المفارقة لا يعتد بها نظرًا إلى أن عقد النكاح يشترط فيه الإشهاد عند الجماهير، أو الإعلان عند بعض، فقد قال ابن عابدين:(وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده في مبسوطه: الكتاب والخطاب سواء إلا في فصل واحد، وهو أنه لو كان حاضرًا مخاطبها بالنكاح فلم تجب في مجلس الخطاب، ثم أجابت في مجلس آخر فإن النكاح لا يصح، وفي الكتاب إذا بلغها، وقرأت الكتاب ولم تزوج نفسها منه في المجلس الذي قرأت الكتاب فيه، ثم زوجت نفسها في مجلس آخر بين يدي الشهود، وقد سمعوا كلامها وما في الكتاب يصح النكاح، لأن الغائب إنما صار خاطبًا لها بالكتاب والكتاب باقٍ لها في المجلس الثاني، فصار بقاء الكتاب في مجلسه، وقد سمع الشهود ما فيه في المجلس الثاني، بمنزلة ما لو تكرر الخطاب من الحاضر في مجلس آخر، فأما إذا كان حاضرًا فإنما صار خاطبًا لها بالكلام، وما وجد من الكلام لا يبقى إلى المجلس الثاني، وإنما سمع الشهود في المجلس الثاني أحد شطري العقد)، وعلق عليه ابن عابدين فقال:(وحاصله أن قوله: تزوجتُكِ بكذا إذا لم يوجد قبول يكون مجرد خطبة منه لها، فإذا قبلت في مجلس آخر لا يصح، بخلاف ما لو كتب ذلك إليها، لأنها لما قرأت الكتاب ثانيًا، وفيه قوله: تزوجتُكِ بكذا، وقبلت عند الشهود صح العقد، كما لو خاطبها به ثانيًا وظاهره أن البيع كذلك، وهو خلاف ظاهر الهداية فتأمل)(2) .
فقد فهم العلامة ابن عابدين من تعليل شيخ الإسلام خواهر زاده أن ظاهره يدل على أن البيع مثل النكاح، في أن المكتوب إليه يكون له الحق في أن لا يقبل في مجلس الوصول وإنما في مجلس آخر
…
غير أن ابن عابدين أوضح بأن هذا مخالف لظاهر الهداية.
(1) المصادر الفقهية السابقة، ويراجع للتفصيل: رسالتنا مبدأ الرضا في العقود: 2/1093.
(2)
حاشية ابن عابدين: 4/10-11.
تعميم:
وإذا كان ابن عابدين فهم من تعليل خواهر زاده التعميم لكنه لم يرتضه وبين أنه مخالف لظاهر الهداية، فإن الأستاذ الجليل الشيخ علي الخفيف رحمه الله ذهب إلى تعميم هذا الحكم لجميع العقود حيث قال:(وفي رأيي أن عقد البيع وغيره من عقود المال أولى بهذا الحكم من عقد النكاح، إذ يُتساهل في عقد البيع ونحوه بما لا يُتساهل به في عقد النكاح، وعلى ذلك يجوز لمن أرسل إليه الإيجاب بالكتاب إذا قرأه فلم يقبله في أول مجلس أن يقرأه في مجلس آخر، ثم يقبل، ويكون مجلس العقد مجلس كل قراءة)(1) .
بل ذهب إلى أكثر من ذلك حيث ذهب إلى أن المرسل إليه إذا وصل إليه الكتاب فقرأه، أو قرأ غيره عليه، لكنه أعرض عنه، أو فارق هذا المجلس، ثم عاد إلى الكتاب مرة أخرى فقرأه أو قرأ عليه آخر في مجلس آخر فقبله، فقد تم العقد، ثم استشهد برأي بعض العلماء فقال:(ومن العلماء من اعتبر أن الإيجاب قائم بقيام الكتاب، فإذا قبل المرسل إليه في أي وقت نشأ العقد لقيام الإيجاب)(2) .
ويمكن أن يرد على هذا التوجه نحو التعميم بما يأتي:
أولًا: أن لازم المذهب ليس بمذهب، ولا سيما أن كبار علماء الحنفية صرحوا بخلاف ذلك، وقالوا: إنه ليس للموجه إليه – الخطاب، أو البرقية، أو التلكس، أو الفاكس- الحق في القبول إلا في مجلس الوصول أو الاطلاع عليه، وبعد ذلك إذا قام من مجلسه فقد سقط حقه، إلا في النكاح لأجل الشهود فقد قال المرغيناني وغيره:(الكتاب كالخطاب حتى اعتبر مجلس بلوغ الكتابة) . وقالوا: (وإذا حصل الإيجاب والقبول لزم القبول)(3) .
ثانيًا: إن قياس البيع على النكاح قياس مع الفارق، فالنكاح يحتاج في انعقاده وصحته إلى الشهود عند الحنفية – والجمهور – ولذلك إذا قام الموجه إليه من مجلسه إلى مجلس آخر ليقرأ المكتوب بحضور الشهود لم يُلْغِ حقه، وذلك لأن قبوله بدون الشهود لا يعتد به، فكأن الخطاب لم يصل إليه، فيعتبر حينئذٍ المجلس الثاني الذي حضره الشهود هو مجلس الوصول المعتد به شرعًا، ومن المقرر فقهًا أن المعدوم شرعًا كالمعدوم حقيقة.
وأما البيع فهو لا يحتاج إلى الشهود لا في انعقاده، ولا في صحته. فحينئذٍ يعتبر مجلس الوصول والاطلاع عليه هو مجلس العقد الحقيقي، فإذا قام وأعرض عن العقد، فقد انتهى الإيجاب فكيف يقبل بعد؟؟.
(1) أحكام المعاملات الشرعية، ص209-210، مع الهامش.
(2)
مختصر أحكام المعاملات: ص78-79.
(3)
الهداية مع فتح القدير، وشرح العناية: 5/74، وابن عابدين: 4/11، والفتاوى الهندية 4/8، والفتاوى البزازية: 4/366.
يقول الأستاذ الجليل الشيخ أبو زهرة – رحمه الله: (إن البيع لا يقاس على النكاح، لأن النكاح يحتاج إلى شهود، ولا يلزم أن يكونوا حاضرين وقت وصول الكتاب، فيصح أن ينتظر إلى مجلس الشهود، بخلاف البيع، فإنه لا يحتاج إلى شهود)(1) .
ثالثًا: إن ذلك يؤدي على أن يعطى للرسول، والمكتوب من قوة الأثر، ما ليس لمرسلهما نفسه، يقول الأستاذ الدكتور محمد يوسف موسى: (ونحن نرى أن هذا لا يتفق مع المنطق، وفيه إعطاء للرسول والكتاب من قوة الأثر، ما ليس لمرسلهما نفسه، ثم الكتاب ليس له من الأثر إلا أنه أبلغ الطرف الآخر إيجاب صاحبه، فتعتبر قراءته إيجابًا من مرسله، فلا بد إذن من قبول الطرف الآخر، أو رفضه في المجلس
…
) (2) .
رابعًا: إن ذلك يؤدي إلى إطالة مجلس العقد إطالة تضر بالعقد، فإذا أعطينا الحق للموجه إليه أن يقبل في أي مجلس يريده، دون التقيد بمجلس وصول الخطاب، فهذا بلا شك إضرار بمصالح الموجب، والفقهاء نظروا إلى هذه المسألة نظرة موضوعية، ولا حظوا أن الأصل في العقود الفورية بأن لا يتأخر القبول عن الإيجاب، لكن في اعتبار الفورية ضررًا على القابل إذ أنه بحاجة التروي والتفكير، كما أن في التأخير الكثير ضررًا على الموجب، وذلك ضبط الأمر بالمجلس إذ أنه جامع المتفرقات، وفي ذلك تيسير على الطرفين، يقول الكاساني:(القياس أن لا يتأخر أحد الشطرين على الآخر في المجلس إلا أن اعتبار ذلك يؤدي إلى انسداد باب البيع فتوقف أحد الشطرين على الآخر حكمًا، وجعل المجلس جامعًا للشطرين مع تفرقهما للضرورة)(3) .
بالإضافة إلى أن نصوص الفقهاء من غير الأحناف أيضًا واضحة في اعتبار المجلس سواء كان بين الحاضرين، وهو مجلس الإيجاب والقبول، أو بين الغائبين وهو مجلس وصول الرسول، أو المكتوب إليه كما سبق.
(1) الأحوال الشخصية، ط. دار الفكر، فقرة (29) .
(2)
الأموال ونظرية العقد، فقرة (387) .
(3)
بدائع الصنائع: 6/299، وفتح القدير: 5/74.
فعلى ضوء ذلك فلا نرى قياس البيع ونحوه على النكاح، ولا ترجيح التعميم الذي ذهب إليه أستاذنا الجليل، ولا نرى اعتبارًا ولا وجاهة للخروج من القاعدة العامة التي استقر عليها الفقه الإسلامي، من اعتبار المجلس وانحصاره فيما بين الحاضرين بمجلس الإيجاب والقبول، وفيما بين الغائبين بوصول الخطاب والرسول والاطلاع على الإيجاب، وإذا كان الاستثناء الوحيد بخصوص النكاح له مبرره من حيث ضرورة وجود الشهود فلا نرى مبررًا في العقود التي لا يشترط فيها الإشهاد حماية للعقود من الاضطراب والإضرار، وقد يقول قائل: إن القول بهذا التعميم له مبرره أيضًا حيث يستجيب للضرورات العملية التي تقتضي هذا الخروج في حال التعاقد بين الغائبين حيث إن الشأن في التعاقد بين الغائبين عادة أن يكون غير مسبوق بمجلس للمقدمات والمساومات التي يتمكن من خلالها الموجه إليه أن يقلب الإيجاب على وجوهه المختلفة قبل صيرورته باتًّا في حقه، ذلك، ومن هنا فيكون من الوجاهة حماية القابل بالتوسعة عليه في مجلسه (1) .
للجواب عن ذلك يقال: ليس هناك في الواقع ضرورة إذ أن المجلس يسعه مهما طال حيث بإمكانه أن يجلس ساعات في مكانه ينظر إلى العقد ويقلب فيه، ويسأل حول إيجابياته وسلبياته، فما دام هو مشغولًا به لم ينقطع المجلس. بالإضافة إلى أن له حق خيار المجلس حتى بعد القبول ما دام في المجلس كما سبق. ومن هنا فخيارات المجلس توسع عليه الباب، ولم تترك له العسر والضيق.
هذا ومن جانب آخر فإن بإمكانه أن يشترط خيار الشرط لمدة معينة سواء كانت بلفظ صريح، أو غير صريح، فمثلًا لو وصل إليه خطاب، أو برقية أو تلكس أو فاكس فوجد أن شروط العقد وتفاصيله طويلة جدًّا تحتاج إلى دراسة فله الحق في قبوله واشتراط خيار الشرط نفسه لمدة معينة، كما أن قوله: غدًا أكمل الدراسة أو نحو ذلك في حكم خيار الشرط، إذ العبرة في مثل هذه الأمور بالمقاصد والمعاني وليست بالألفاظ والمباني والله أعلم بالصواب.
(1) د. وحيد الدين سوار: المرجع السابق هامش: ص142.
خُلاصة البحث ونتائجه
انتهينا في هذا البحث إلى أن هذه الآلات الحديثة لإجراء العقود تعود في الواقع إلى قسمين: قسم لنقل الصوت واللفظ، وقسم لنقل المكتوب، وذكرنا ضمن القسم الأول: التليفون، والراديو، والتلفزيون، واللاسلكي. كما ذكرنا ضمن القسم الثاني: البرقية، والتلكس، والفاكس.
وقد وصلنا من خلاله إلى أن التليفون ينقل كلام المتعاقدين بدقة، ولا يختلف العقد به إلا من حيث البعد المكاني، وعدم رؤية أحدهما الآخر.
أما عدم الرؤية بين العاقدين فلا يترتب عليه حكم في باب العقود، سوى احتمال التزوير، وتقليد الصوت، ولذلك يقبل كلام من ادَّعى ذلك، ولكنه يقع عليه عبء الإثبات، وذلك لأن القاعدة الأساسية في العقود، هي: صدور ما يدل على التراضي من الطرفين بصورة واضحة مفهومة، وأن المرجع في ذلك هو العرف كما تدل على ذلك نصوص الفقهاء.
وأما البعد المكاني بين المتعاقدين – بالتليفون – فتترتب عليه المسائل الخاصة بمجلس التعاقد.
وقد ناقش البحث هذا الموضوع باستفاضة، وأثار ما ذكره الفقهاء واختلفوا فيه من خيار الرجوع، وخيار القبول، وخيار المجلس، وقد رجحنا بهذا الخصوص رأي الجمهور من حيث إن المتحدث بالتليفون الموجب له الحق في الرجوع عن إيجاب قبل قبول الآخر، وأن الموجه إليه لا يشترط على أن يتسارع إلى القبول فور سماعه، بل له الحق ما داما يتحدثان حول موضوع العقد، ولم يُعرضا عنه أو لم يقطعا المحادثة، فإذا قبل فقد تم العقد.
وقد رجحنا قول القائلين بخيار المجلس، لكننا قدرنا المجلس بفترة المحادثة وعدم انقطاع الخط مهما طالت، فإذا قبل الآخر، فقد انعقد العقد، لكنه لكل واحد منهما حق الخيار ما داما لا يزالان يتحدثان، ولم يقطعا المحادثة، فإذا أنهيا المحادثة وسدّا التليفون فقد انتهى المجلس ولزم العقد، لأنهما في الواقع متفرقان بأبدانهما، ولا وصال بينهما سوى المحادثة، فإذا انتهت انتهى المجلس حقيقةً وحكمًا، وقد وجدنا لذلك تأصيلًا فقهيًا ونصوصًا مساعدة.
وأما التعاقد باللاسلكي، فهو إذا كان مما ينقل الكلام الواضح، إلى الآخر فهو مثل التليفون في جميع الأحكام التي ذكرناها، وكذلك إذا كان يُنقل الكلام عن طريق الشفرات الواضحة المفهومة المسموعة للطرفين، حيث يتم العقد إذا فَهِما الإيجاب والقبول بوضوح.
أما أنه لو نقل الشفرات على شريط مكتوب فرضًا فإنه حينئذٍ يكون حكمه حكم البرقية ما دامت واضحة مفهومة.
وكذلك يمكن إجراء العقود من خلال الراديو، أو التلفزيون، ولا سيما في الإيجابات العامة الموجهة للجمهور كالجعالة (والوعد بالجائزة) وقد عثرنا على نصوص فقهية تؤصل هذه المسألة.
ثم أنهينا القسم الأول بثلاثة ضوابط:
أولاها: إن العقود التي تتم من خلال التليفون، أو الراديو، أو التلفزيون، أو اللاسلكي يكون احتمال التزوير وتقليد الصوت، والدبلجة التلفزيونية واردًا، ولذلك نسمع دعوى من ادعي ذلك، ولكنه يقع عليه عبء الإثبات لأنه المدعي (والبينة على المدعي، واليمين على من أنكر) .
ثانيتها: إن العقود بالتليفون ونحوه تصح فيما لا يشترط فيه القبض الفوري بدون إشكال، أما ما يشترط فيه القبض الفوري فإنما تصح بالتليفون إذا تم القبض بعد انتهاء المحادثة مباشرة كأن يكون لكل واحد منهما عند الآخر وكيل بالتسليم مثلًا – أو نحو ذلك – وإلا فلا يتم عن طريق التليفون ونحوه.
ثالثتها: إن مجلس العقد بالتليفون ونحوه، ينتهي بانتهاء المحادثة إلا إذا كان العقد يتم من خلال المزايدة، حيث ذهب المالكية إلى أن الشخص الذي يعرض رضاه بثمن معين في المزايدة فليس له حق الرجوع حتى ولو طال.
وهذا الرأي في نظرنا يحقق المصلحة والتوازن والاستقرار.
وأما إجراء العقود بالوسائل الحديثة لنقل المكتوب مباشرة مثل البرقية والتلكس، والفاكس، فهو كحكم التعاقد بالكتابة سواء بسواء، ولذلك ذكرنا الاتجاهات الثلاثة حول التعاقد بالكتابة، ورجحنا اتِّجاه الموسعين الذين جعلوا الكتاب كالخطاب.
وقد تطرقنا إلى الصعوبات الفني التي تعترض طريق التعاقد بالبرقية، أو التلكس، أو الفاكس، من حيث تصوير مجلس العقد، ووقت تمامه، وما يترتب على المجلس من خيارات.
فبخصوص مجلس العقد قرر الفقهاء أن مجلس العقد بالنسبة للغائبين في حالة الكتابة، أو الرسول هو مجلس وصول الكتاب، وحضور الرسول، ولذلك اعتبرنا أن مجلس العقد بالنسبة للتعاقد بالبرقية، أو التلكس، أو الفاكس هو مجلس وصول البرقية أو التلكس، أو الفاكس.
وأما وقت تمام العقد فقد آثرنا أن نثير الاتجاهات الفقهية الوضعية وهي نظرية إعلان القبول، ونظرية تصدير القبول، ونظرية تسليم القبول، ونظرية العلم بالقبول.
وبعد استعراض نصوص لبعض الفقهاء في المذاهب المختلفة وصلنا إلى أن العقد يتم بمجرد القبول في مجلس الوصول، ويلزم كذلك به عند الحنفية والمالكية في حين لا يصبح لازمًا ما دام في مجلس الوصول حيث لكل واحد منهما حق خيار المجلس، وهذا الأخير هو الذي رجحناه.
وبهذا الصدد قمنا بالرد على بعض الباحثين الذين قاسوا التعاقد بين الغائبين على التعاقد بين الحاضرين في وجوب السماع، وبالتالي قال بأن مقتضى المذهب الحنفي هو القول بنظرية العلم بالقبول.
وأما الخيارات المتعلقة بمجلس العقد في البرقية والتلكس والفاكس فهي خيار الرجوع حيث للموجب الحق في التراجع قبل قبول الآخر، خلافًا للمالكية فيما إذا كان الإيجاب بصيغة الماضي حيث يصبح ملزمًا به، وأما خيار القبول فهو حق ثابت للموجه إليه ما دام في مجلس العقد حيث لا يلزمه القبول فورًا خلافًا للشافعية. وقد رجحنا قول الجمهور في ذلك فعلى ضوء ذلك له الحق في التروي والتفكير ثم القبول ما دام لم يفارق مجلس وصول البرقية، أو التلكس أو الفاكس.
وأما خيار المجلس فقد رجحنا قول الجمهور واعتبرنا أن مجلس العقد هو وقت وصول البرقية، أو التلكس، أو الفاكس، وعلى ضوء ذلك يكون لكل واحد منهما الحق قبل فراق الموجه إليه مكان الوصول.
وقد أثَرْنا في هذا الصدد خصوصية للنكاح وهي أن من وُجِّه إليه الإيجاب في النكاح له الحق بعد وصول الكتاب، أو البرقية، أو التلكس أو الفاكس أن لا يقبل في مجلسه، بل يذهب إلى مجلس آخر، يجد فيه الشهود فيقرأ الكتاب بحضورهم.
وقد حاول بعض الباحثين أن يعمم هذا الأمر ليشمل عقود البيع ونحوه غير أنه ثبت من خلال الأدلة أن محاولته جانبت الدقة وعدم الاتفاق مع القواعد المستقرة لدى الفقهاء بهذا الخصوص.
هذا
…
والله أسأل أن يجعل أعمالي كلها خالصة لوجهه الكريم، وأن يكتب لنا التوفيق والسداد، ويعصمنا من الخطأ والزلل في القول والعمل.
الدكتور علي محيي الدين القره داغي.