الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيع التقسيط
إعداد
فضيلة الدكتور محمد عطا السيد
عضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي
بسم الله الرحمن الرحيم
اتفق الفقهاء على مشروعية البيع على سبيل الجواز، دل على جوازه الكتاب والسنة والإجماع والمعقول. فمن الكتاب قوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [سورة البقرة] : الآية 275] ، وقوله عز وجل:{لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [سورة النساء: الآية 29] .
وأما السنة فمنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الكسب أطيب؟ فقال: ((عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ)) (1)
والإجماع قد استقر على جواز البيع.
أما المعقول: فلأن الحكمة تقتضيه لتعلق حاجة الإنسان بما في يد صاحبه ولا سبيل إلى المبادلة إلا بعوض غالبًا. ففي تجويزالبيع وصول إلى الغرض ودفع للحاجة (2)
هذا هو الحكم الأصلي للبيع، ولكن قد تعتريه أحكام أخرى، فيكون محظورًا إذا اشتمل على ما هو ممنوع بالنص، لأمر في الصيغة، أو العاقدين، أو المعقود عليه. وكما يحرم الإقدام على مثل هذا البيع فإنه لا يقع صحيحًا بل يكون باطلًا أو فاسدًا على الخلاف المعروف بين الجمهور والحنفية ويجب فيه التراد. . .
وقد يكون الحكم الكراهة، وهو ما فيه نص غير جازم ولا يجب فسخه. (3) وحكمة مشروعية البيع ظاهرة، فهي الرفق بالعباد والتعاون على حصول معاشهم.
والسؤال عن بيع التقسيط يفترض صحة العقد باعتبار الصيغة والعاقدين ومحل العقد ولكن الخلاف في كيفية الوفاء بالثمن ويمكن لنا أن نثير الجوانب التالية فيما يتعلق بالبحث في حكم صحة بيع التقسيط.
أولًا: هل يجوز البيع بالثمن المؤجل وهو ما يسمى البيع بالنسيئة؟
ثانيًا: هل يمكن تقسيط الثمن، وكيف يكون التقسيط؟
ثالثًا: هل يمكن زيادة الثمن في التقسيط عن الثمن المنجز؟
رابعًا: ما الحكم إذا أخل المشتري بدفع الأقساط؟ هل تسترد السلعة المباعة له أم يعامل باقي الثمن كدين عادي؟
واليك التفصيل في هذه الجوانب.
(1) أورده الهيثمي في المجمع: 4/60، ط. القدسي، وقال: رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط، وفيه المسعودي وهو ثقة ولكنه اختلط، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح.
(2)
الموسوعة الإسلامية الصادرة من وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية – دولة الكويت: 9/8.
(3)
الموسوعة الإسلامية: 9/8.
أولًا: هل يجوز البيع بالنسيئة؟
انعقد الإجماع على صحة تأجيل الثمن إلى أجل معلوم، روى البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهودي طعامًا بنسيئة ورهنه درعه. وفي رواية أخرى: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى طعامًا من يهودي إلى أجل فرهنه درعه)) .
ذكر ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري بشرح صحيح البخاري: " قوله: باب شراء النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيئة أي بالأجل – قال ابن بطال: الشراء بالنسيئة جائز بالإجماع. قلت: لعل المصنف تخيل أن أحد يتخيل أنه صلى الله عليه وسلم لا يشتري بالنسيئة لأنها دين فأراد دفع ذلك التخيل "(1) .
وجاء في المغني والشرح الكبير في معرض الكلام عن بيع العينة والبيع نسيئة: وقد روى أبو داود بإسناده عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلًّا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) وهذا وعيد يدل على التحريم، وقد روي عن أحمد أنه قال:(العينة أن يكون عند الرجل المتاع فلا يبيعه إلا نسيئة فإن باع بنقد ونسيئة فلا بأس) . وقال: (أكره للرجل أن لا يكون له تجارة غير العينة لا يبيع بنقد) . قال ابن عقيل: " إنما كره النسيئة لمضارعته الربا فإن البائع بنسيئة يقصد الزيادة بالأجل غالبًا، ويجوز أن تكون العينة اسمًا لهذه المسألة وللبيع نسيئة جميعًا لكن البيع بنسيئة مباح اتفاقًا ولا يكره إلا أن لا يكون له تجارة غيره "(2)
وجاء في حاشية رد المحتار لابن عابدين: " اختلف المشايخ في تفسير العينة التي ورد النص عنها. قال بعضهم: تفسيرها أن يأتي الرجل المحتاج إلى آخر ويستقرضه عشرة دراهم ولا يرغب المقرض في الإقراض طمعًا في فضل لا يناله بالقرض فيقول لا أقرضنّك ولكن إن شئت أبيعك هذا الثوب إن شئت باثنى عشر درهمًا وقيمته في السوق عشرة ليبيعه في السوق بعشرة فيرضى به المستقرض فيبيعه كذلك، فيحصل لرب الثوب درهمان وللمشتري قرض عشرة. وقال بعضهم: هي أن يدخل بينهما ثالثًا فيبيع المقرض ثوبه من المستقرض باثنى عشر درهمًا ويسلمه إليه ثم يبيعه المستقرض الثالث بعشرة ويسلمه إليه ثم يبيعه الثالث من صاحبه وهو المقرض بعشرة ويسلمه إليه ويأخذ منه العشرة ويدفعها المستقرض فيحصل للمستقرض عشرة ولصاحب الثوب عليه أثنا عشر درهمًا كذا في المحيط "(3)
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني. مكتبة الكليات الأزهرية 9/149
(2)
ابن قدامة: الشرح الكبير: 4/45-46
(3)
حاشية ابن عابدين: 5/273، الطبعة الثانية، دار الفكر، 1979م
وفي البيع بالنسيئة لا بد لصحة البيع من تحديد الثمن، وتحديد الأجل الذي يدفع فيه لعموم قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} . [سورة البقرة: الآية 282] .
وحقيقة الدين عبارة عن كامل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدًا والأخر في الذمة نسيئة، فإن العين عند العرب ما كان حاضرًا، والدين ما كان غائبًا، قال الشاعر:
وعدتنا بدرهمينا طلاءً
وشواءً معجلًا غير دين
وقال آخر:
لترم بي المنايا حيث شاءت
إذا لم ترم بي في الحفرتين
إذا لم أوقدوا حطبًا ونارًا
فذاك الموت نقدًا غير دين
وقد بين الله تعالى هذا المعنى بقوله الحق: {أَجَلٍ مُسَمًّى} (1)
فالدين إلى أحل غير مسمى يقود إلى المنازعة، ودلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على مثل معنى كتاب الله تعالى. ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يستلفون في الثمار السنتين والثلاث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((مَن أَسْلَفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ)) ، رواه ابن عباس. أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
والحكمة في ذلك أن جهالة الأجل تفضي إلى المنازعة في التسلم والتسليم فهذا يطالبه في قريب المدة وذاك في بعيدها وكل ما يفضي إلى المنازعة فيجب إغلاق بابه. ولأنه سيؤدي إلى عدم الوفاء بالعقود التي أمرنا بالوفاء بها حيث قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [سورة المائدة: الآية 1] .
وإذا لم يحدد أجلًا فسد البيع عند بعضهم وصح عند البعض إن كانت الجهالة يسيرة، وجاء في حاشية ابن عابدين (ولو باع مؤجلًا أي بلا بيان مدة بأن قال بعتك بدرهم مؤجل صرف قوله لشهر لأنه المعهود في الشرع في السلم واليمين. . . ويبطل الأجل بموت المديون)(2)
وإذن لابد لصحة بيع التقسيط من تحديد مدة الأقساط تحديدًا وافيًا.
(1) انظر تفسير القرطبي: 3/377.
(2)
حاشية ابن عابدين 4/531.
ثانيًا: هل يمكن تقسيط الثمن؟
لم أعثر على بيان واضح في هذه المسألة إلا أن ابن عابدين يقول في حاشيته: " ومنها – أي جهالة الأجل – اشتراط أن يعطيه الثمن على التفاريق أو كل أسبوع البعض، فإن لم يشترط في البيع بل ذكر بعده لم يفسد وكان له أخذ الكل جملة (1)
فظاهر عبارة ابن عابدين هذه وهي من العبارات النادرة في هذه المسألة أن دفع الثمن على التفاريق (التقسيط) يصح إذا شرط في البيع أو بعده. والذي أراه أن هذه من الشروط والاتفاقات المباحة ويحكمها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ((المسلمون عند شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا)) . ولا نرى في اتفاق المتبايعين على تفريق الثمن لآجال معدودة ومعلومة أي شبهة بل هو من التيسير الذي حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال ((رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى)) . البخاري. وقال ((غفر الله لرجل كان قبلكم كان سهلًا إذا باع)) . الترمذي. وقال: ((إن الله يحب سمح البيع، سمح الشراء سمح القضاء)) . الترمذي والحاكم. وقال: ((إن الله أدخل الجنة رجلًا كان سهلًا مشتريًا وبائعًا وقاضيًا ومقتضيًا)) . النسائي.
وكل من المتعاقدين ملزم بالوفاء بما تعهد به كاملًا لأنه مأمور بذلك.
(1) حاشية ابن عابدين 4/531
ثالثًا: هل يمكن زيادة الثمن بسبب النسيئة في الأجل؟
وهو هل يمكن أن يكون للسلعة ثمنان: ثمن حالّ وثمن أكثر منه إذا اشترى بثمن مؤجل؟ وبعبارة أخرى: هل يجوز أن يكون الثمن المؤجل أكثر من الثمن الحالّ؟
جاء في الموسوعة الفقهية: الاعتياض عن الأجل بالمال:
يرد الاعتياض عن الأجل بالمال في صور، منها ما يلي:
* الصورة الأولى:
صدور إيجاب مشتمل على صفقتين، إحداهما بالنقد، والأخرى بالنسيئة، مثل أن يقول بعتك هذا نقدًا بعشرة، والنسيئة بخمسة عشر.
يرى جمهور العلماء أن هذا البيع إذا صدر بهذه الصيغة لا يصح، ((لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة)) جاء في الشرح الكبير:(وكذلك فسّره مالك والثوري، وإسحاق. وهذا قول أكثر أهل العلم، لأنه لم يجزم له ببيع واحد، أشبه ما لو قال بعتك أحد هذين ولأن الثمن مجهول فلم يصح، كالبيع بالرقم المجهول) .
وقد روي عن طاوس والحكم وحماد أنهم قالوا: لا بأس أن يقول: أبيعك بالنقد بكذا وبالنسيئة بكذا، فيذهب إلى أحدهما. فيحتمل أنه جرى بينهما بعدما يجري في العقد، فكأن المشتري قال: أنا آخذه بالنسيئة بكذا، فقال: خذه، أو قال: قد رضيت ونحو ذلك، فيكون عقدًا كافيًا، فيكون قولهم كقول الجمهور.
فعلى هذا: إن لم يوجد ما يدل على الإيجاب أو ما يقوم مقامه لم يصح لأن ما مضى من القول لا يصلح أن يكوم إيجابًا.
فهذا الخلاف الوارد في صحة هذا البيع مصدره الصيغة الصادرة مشتملة على صيغتين في آن واحد، فلم يجزم البائع ببيع واحد، ولأن الثمن مجهول هل هو عشرة أو خمسة عشر. وإذا كان الإيجاب غير جازم لا يصلح، ويكون عرضًا، فإذا قبل الموجه إليه العرض إحدى الصفقتين كان إيجابًا موجهًا إلى الطرف الأول فإن قبل تم العقد، وإلا لم يتم.
الصورة الثانية:
وهي بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء، يرى جمهور الفقهاء جواز بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء، وذلك لعموم الأدلة القاضية بجواز البيع. قال الله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} . وهو عام في إباحة سائر البياعات إلا ما خص بدليل، ولا يوجد دليل يخصص هذا العموم.
* الصورة الثالثة:
وهي تأجيل الدين الحالّ في مقابل زيادة: وهذه الصورة تدخل في باب الربا (إذ الربا المحرم شرعًا شيئان: ربا النساء، وربا التفاضل. وغالب ما كانت العرب تفعله، من قولها للتغريم: أتقضي أم تربي؟ فكان الغريم يزيد في المال، ويصبر الطالب عليه، وهذا كله محرم باتفاق الأمة) . قال الجصاص: " معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضًا مؤجلًا بزيادة مشروطة، فكانت الزيادة بدلًا من الأجل، فأبطله الله تعالى وحرمه، وقال:{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} ، وقال تعالى:{وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} حظر أن يؤخذ للأجل عوض. ولا خلاف أنه لو كان عليه ألف درهم حالّة، فقال له أجلني وأزيدك فيها مائة درهم، ولا يجوز، لأن المائة عوض عن الأجل (1)
والذي أرجحه في هذه المسألة: أنه إذا عرف لدى المتبايعين ثمن للبيع حالّ وثمن له مؤجل هو أكثر من الثمن الحالّ ثم تراضيا على إحدى الحالتين والثمن المعين فيها جاز
وقد جاء في فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية – طيب الله ثراه – أنه قد سئل عن شخص عنده صنف، دفع له فيه رجل ألفين ومائة بالوزن، ودفع له آخر ألفين وسبعمائة إلى أجل معلوم أثناء الحول فأجاب:" إن كان الذي يشتريها إلى أجل، يشتريها ليتجر فيها أو ينتفع بها جاز للبائع أن يبيعها إن شاء بالنقد إن شاء إلى أجل. وإن كان المشتري مقصده الدراهم، وهم يريد أن يبيعها إذا اشتراها ويأخذ الدراهم، فهذا يسمى (التورق) وهو مكروه في أظهر قولي العلماء "(2) -
وإذا تبايعا بثمن معين واتفقا عليه ثم طلب المشتري من البائع أن يقسط له الثمن بدون زيادة في السعر الذي اتفقا عليه جاز ويلحق هذا الاتفاق بالعقد الأصلي.
أما إذا انعقد البيع على ثمن حال ثم طلب المشتري تأجيله أو تقسيطه ووافق البائع على ذلك بشرط زيادة في السعر فإن تلك الزيادة تكون ربا وهي حرام ولا عبرة بتسمية الزيادة فائدة أو اسمًا آخر فأن العبرة بالمعاني لا بالمسميات.
(1) الموسوعة الفقهية، الجزء الثاني- الصادرة من وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية: ص 83 – 84.
(2)
مجموع فتاوى ابن تيمية، رحمه الله تعالى، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصي النجدي الحنبلي رحمه الله، وساعده ابنه محمد وفقه الله: 29/502.
رابعًا: ما الحكم إذا أخل المشتري بدفع الأقساط
بعد أن تسلم العين المباعة واستعملها أو استهلكها أو باعها
في حالة البيع بالتقسيط يجب على البائع تسليم المبيع ولا يطالب المشتري بتسليم الثمن
إلا عند حلول الأجل وذلك لرضى البائع بتأجيل الثمن، ولا يمنع من انتقال ملكية المبيع إلى المشتري كون الثمن مؤجلًا ولا يصح اشتراط عدم انتقال الملكية، وإذا اشترط البائع حق الفسخ لعدم الأداء في الموعد المحدد وهو ما يسمى " خيار النقد " أثبت له الحنفية ذلك واختلفت الروايات عن الإمام مالك رضي الله عنه، فقد جاء في المدونة تصحيح البيع وبطلان الشرط وروت كتب المالكية الأخرى عن الإمام مالك قولين آخرين:" صحة البيع والشرط، وفسخ البيع "(1)
وإذا تسلم المشتري السلعة ولم يدفع الأقساط أو أخل بدفعها فلا يخلو المشتري من أن يكون موسرًا أو معسرًا فإن كان موسرًا والثمن معه أجبر على تسليمه، فإن لم يكن معه نقدًا أو معه نقد لا يكفي حجر عليه في المبيع وسائر ماله حتى يسلم الثمن خوفًا من أن يتصرف في ماله تصرفًا يضر بالبائع، فإن لم يوجد لدى المشتري شئ فالبائع مخير بين أن يصبر إلى أن يوجد وبين فسخ العقد لأنه قد تعذر عليه الثمن فهو كالمفلس، وبفسخه العقد يجوز له أن يسترد السلعة ويطالب بالتعويض نظير استعمالها إن كانت قد استعملت.
وإن كان المشتري قد دفع بعض الأقساط ثم توقف عن الدفع فللبائع أن يثبت ذلك لدى السلطات القضائية ولها أن تجبر المشتري على دفع الباقي من الأقساط إن كان موسرًا أو الحجر على ممتلكاته حتى يدفع أو تباع لسداد الدين، وإن كان معسرًا بيع المبيع وقضى ما تبقى من أقساط وما فضل فهو للمشتري وإن أعوز ففي ذمته. . . هذا من الناحية القضائية.
ولا بد من تذكير البائع وهو الدائن هنا بتوجيه الله تعالى وهو من الأخلاق الإسلامية الكريمة، وذلك قوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} .
(1) الشرح الصغير: 2/84، والدسوقي: 3/175، وفتح العلي المالك: 1/353.
قال القرطبي في تفسير هذه الآية: " وقال جماعة من أهل العلم: قوله تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} عامة في جميع الناس، فكل من أعسر أنظر ". وهذا قول أبي هريرة والحسن وعامة الفقهاء. .
وقال ابن عباس وشريح: " ذلك في الربا خاصة، فأما الديون وسائر المعاملات فليس فيها نظرة بل يؤدي إلى أهلها أو يحبس فيه حتى يوفيه وهو قول إبراهيم ". واحتجوا بقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (1) .
وروى مسلم عن أبي مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسرًا فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر، قال: قال الله عز وجل: نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه)) وروي عن أبي قتادة أنه طلب غريمًا له فتوارى عنه ثم وجده فقال: إني معسر. فقال: آلله؟ قال: آلله. قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه)) .
وليس للمشتري أن يبيع السلعة قبل تسلمها للنهي الوارد في ذلك، وإذا تسلمها فهلكت عنده فهي تهلك عليه ولا رجوع له على البائع وعليه سداد جميع الأقساط إلا أن يكون البائع هو الذي تسبب في هلاكها.
وأما إذا هلكت السلعة قبل تسليمها إلى المشتري فتهلك على البائع وعليه أداء مثلها أو إرجاع ما تسلمه من ثمن.
(1) تفسير القرطبي: 3/371-372
ملخص البحث
تناول البحث الحكم الأصلي للبيع وهو مشروعيته على سبيل الجواز، ولكن قد تعتريه أحكام أخرى، فيكون محظورًا إذا اشتمل على ما هو ممنوع بالنص فيقع باطلًا أو فاسدًا على الخلاف المعروف بين الجمهور والحنفية، وقد يكون الحكم الكراهة وهو ما فيه نص غير جازم ولا يجب فسخة، وحكمة مشروعية البيع ظاهرة، فهي الرفق بالعباد والتعاون على حصول معاشهم.
والسؤال عن بيع التقسيط يفترض صحة العقد باعتبار الصيغة والعاقدين ومحل العقد ولكن الخلاف في كيفية الوفاء بالثمن وبناء على ذلك تناول البحث الجوانب التالية.
* أولًا: هل يجوز البيع بالثمن المؤجل وهو ما يسمى البيع بالنسيئة؟
* ثانيا: هل يمكن تقسيط الثمن وكيف يكون التقسيط؟
* ثالثًا: هل يمكن زيادة الثمن عن الثمن المنجز؟ وهو هل يمكن زيادة الثمن بسبب النسيئة في الأجل؟ وهل في هذه الزيادة شبهة الربا أو أنه بيع العينة المنهي عنه؟
رابعًا: ما الحكم إذا أخل المشتري بدفع الأقساط؟ هل تسترد السلعة المباعة له أم يعامل باقي الثمن كدين عادي فيحجر عليه إذا كان موسرًا أو ينتظر إذا كان معسرًا؟
وخلص البحث إلى جواز البيع بالتقسيط والزيادة في الثمن المؤجل عن الثمن المنجز إذا تراضيا على ذلك ابتداء، ويجب على المتبايعين أن يحددا مدى التأجيل والتفاريق التي تدفع بها الأقساط وأن هذا من التسهيل الذي ندب الشارع الكريم إليه وعلى المتعاقدين أن يفيا بالتزاماتهما وهما مأموران بذلك، وانتهى البحث بوصف الإجراءات التي تتخذ إذا أخل المشتري بالدفع وهي على عدة أحوال. ثم نصيحة الشارع الكريم للبائع نحو المشتري إذا كان معسرًا.
الدكتور محمد عطا السيد