الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السوق المالية ومسلسل الخوصصة
إعداد
سعادة الدكتور الحسن الداودي
الجمعية المغربية للدراسات والبحوث في الاقتصاد الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
أنيطت الدولة في مجموعة البلدان الإسلامية كما هو الشأن في بقية البلدان السائرة في طريق النمو بدور المحرك الأساسي في الإنماء الاقتصادي عبر استثماراتها المكثفة، إنها ضرورة كانت تفرض نفسها بمعزل عن الإطار الأيديولوجي وهكذا لا يوجد بلد لم تعد فيه الدولة أكبر مالك وأكبر مستثمر.
وفيما يرجع إلى مثال المغرب فإن استثمارات الدولة عرفت بدايتها إبان عهد الحماية وبالأخص في مجال استخراج الثروة المعدنية إلا أن نطاق الاستثمارات العمومية أخذ يتسع منذ الاستقلال ليشمل جميع قطاعات النشاط الاقتصادي، وهكذا تطور القطاع العمومي المغربي من 60 وحدة عام 1960 إلى 158 وحدة سنة 1969 ثم إلى 617 في 1970 و 680 حاليا دون الأخذ بعين الاعتبار ممارسة أحداث الشركات التابعة لها، الأمر الذي يثير بعض الغموض حول معرفة حدود القطاع العمومي المغربي.
إن منطق الدولة إنما هو منطق تنموي ولكنه أيضا منطق اجتماعي ومنطق الخدمات العمومية، ومنطق كهذا لا يسمح إلا بحيز ضيق للعقلانية الاقتصادية ذلك أن عجز القطاع العمومي كان بمثابة شر لا بد منه تتحمله الدولة من أجل إحداث فرص الشغل وتوفير ظروف الإقلاع الاقتصادي. ولقد ساعد على هذه المهمة كذلك الحصول على الرساميل الأجنبية بشروط قليلة التكاليف ذلك أن القروض التي منحتها الدول الصناعية كانت تعتبر مساعدة للتنمية ولكن منذ منتصف السبعينات التي شهدت تعميق أزمة المالية العامة في البلدان الغنية أصبحت القروض العمومية نادرة، ولم يبق للبلدان المقترضة إلا اللجوء إلى السوق العالمي، لتقترض منها بأسعار فائدة مجحفة، ومن شأن هذا التغيير ألا تتحمله اقتصاديات البلدان الناشئة التي من بينها اقتصاديات العالم الإسلامي، واتجهت الديون الخارجية لكل بلد نحو الارتفاع محدثة لها الاختناق الاقتصادي، الأمر الذي يحتم إعادة ترتيب الأمور في إطار هذه الاقتصاديات لأن عهد الإنفاق دون حساب قد ولى، وعلى الدولة أن تؤقلم سلوكها بحسب ما تمليه العقلانية، بل وأكثر من ذلك، يجب عليها أن تعيد النظر في وظيفتها على ضوء المعطيات الجديدة، والسؤال الذي يفرض نفسه على كل دولة من دولنا هو:
هل من الضروري أن تتبوأ الدولة حاليا مكانه المستثمر الرئيسي؟ إن عجز الميزانيات وكذا مستوى المديونية لم يتركا أي اختيار للدولة وما عليها إلا أن تقلل من النفقات كي تضمن للميزانية توازنها. ولا يمكن أن يشمل هذا الإجراء النفقات غير القابلة للتقليص إلا هامشيا، فيجب إذا تخفيض النفقات ذات الصبغة الاجتماعية ولكن هذا المستوى أيضا ليس لكل دولة أن تتعدى الحدود الضيقة لحرية تصرفها. والمنفذ الوحيد الذي يبقى هو التقليص الشديد من نفقات الاستثمار. ولقد تزامنت هذه الحالة مع بعض النضج لدى أصحاب الرساميل الوطنيين الذين استطاعوا أن يباشروا عملية التراكم تحت ظل الدولة منذ الاستقلالات الوطنية والذين يستطيعون أن يحلوا محلها في كثير من البلدان وهكذا تبدو الإجابة بالنفي على السؤال: هل من الضروري أن تتبوأ الدولة مكانة المستثمر الرئيسي؟ سهلة هنية، لأنه بإمكان القطاع الخاص أن يعوضها بنسب كبيرة ويبدو من المنطق إذا أن تخفف الدولة مجهوداتها الاستثمارية من أجل إعادة التوازنات الأساسية ولكن دون أن يكون لهذا التخفيف أثر كبير على المستوى العام للاستثمارات، والذي يطرح بمقابل المشكلة هو الضغط الداخلي والخارجي في آن واحد يكون تخلي الدولة عن جزء كبير من ثروتها لصالح القطاع الخاص.
إن سيرورة الخوصصة تمضي على هذا المنوال هنا وهناك في العالم أجمع وتطرح المشكلة كذلك على مستوى الدولة الغنية كما هو الحال في بريطانيا العظمى. وتطرحها أكثر في بلداننا الناشئة لأن هذه الخوصصات ينبغي ألا تؤدي إلى تبديد الخيرات العمومية ولا إلى تراجع الاستثمارات ولا إلى تمركز الندوات. وهذه الشروط الثلاثة تصحب توفيرها في كل بلد على حدة. وإذا رجعنا إلى مثال المغرب فإننا نلاحظ الخوصصة تستهدف كثيرا من المقاولات العمومية.
والسؤال الأول الذي يفرض نفسه هو: من المستفيد من هذه الخوصصة وبأي ثمن؟
إننا نعلم يقينا أنه إذا كانت الدولة ترفض التمركز حريصة على بيع خيراتها بثمن مرتفع فلا بد من تمديد الخوصصة على فترة طويلة، الشيء الذي يحد مع مرور الزمن من مجهوداتها في مجال ترتيب نفقاتها، إلا أن أي عرض كبير في الوقت الراهن يؤدي لا محالة إلى انهيار الأثمان وإلى تمركز لصالح أشخاص معينين، ويكمن مبرر هذه المخاطرة الكبيرة في الضعف الشديد الذي يطبع السوق المالي المغربي العاجز عن استيعاب عرض كامن وفير، ويتضح هذا الضعف من خلال تحليل سوق القيم بالدار البيضاء.
بورصة الدار البيضاء:
أنشئت هذه المؤسسة بنص القانون الصادر يوم الأربعاء 14 ديسمبر (كانون الأول) 1967، وحسب هذا القانون تتمثل مهمتها في تحريك الادخار ونشر رأسمال الشركات المنتجة، ولكن البورصة في أيامنا تعتبر وسيلة للبرالية الاقتصادية وأكثر فأكثر وسيلة لتقديم أنشطة المقاولات وميزانا للاقتصاد في مجمله.
وسوف نوضح فيما بعد أن بورصة القيم بالدار البيضاء، بعيدة أن مثل آلية كاملة من شأنها أن تمكن المقاولة المغربية من الاستفادة من مزاياها المختلفة، وعجزها عن القيام بمهماتها الرئيسية إنما هو راجع أساسا إلى نمط السير الخاص بها، وهذا ما سنتناوله أولا ثم نعكف على تحليل كمي لنشاطها ثانيا.
أولا- سير سوق البورصة المغربية:
يدور التحليل هنا حول مسألتين أساسيتين هما:
- أهمية القيم التي يتم تداولها في السوق.
- خصوصيات القائمين بالعمليات الطالبين منهم والعارضين.
(أ) ضعف إصدار القيم المتنقلة:
يمكن الوقوف على أهمية سوق البورصة بواسطة صيغ كثيرة فإذا ما أعرنا اهتمامنا لحجم الإصدار الإجمالي للقيم المنقولة فلا يسعنا إلا أن نلاحظ هزالة هذا الأسلوب من التمويل سواء بالنسبة إلى الناتج الداخلي والإجمالي أو إلى التكوين الإجمالي للرأسمال الثابت، ذلك أن نسبة الإصدار الإجمالي إلى الناتج الداخلي الإجمالي لا يتجاوز 3 % في 1970 و 4 % في 1983، وأن هذه النسبة إلى التكوين الإجمالي للرأسمال الثابت بلغت على التوالي معدل 22 % و 16 % ويبدو أن تفسير هذا الضعف يرجع إلى خصوصيات السوق ذاته، فعلا إن هذه السوق تمتاز بطابع الأحادية ما دامت كل العمليات التي تشهدها يكون العوض فيها نقدا، فنقص الأوراق المالية في البورصة وكذا ضعف الحركة فيها يدعمان محدودية هذا السوق. من جهة أخرى تستجيب بورصة القيم بالدار البيضاء لبعض التفضيل نحو البيع المباشر للقيم ذات الدخل المتغير، غير أنه كلما كثر هذا البيع كلما نزع الثمن المتوسط نحو الثبات. وهذا ما يبين الأسباب التي تجعل الأثمان الرسمية لكثير من الصكوك تبقى ثابتة خلال مدة طويلة. بالإضافة إلى ما سبق يمثل إهمال الشركات من جهة وانعدام مسايرة قنوات فعلية للأخبار من جهة أخرى عاملا رئيسيا آخر مسئولا من عدم فعالية البورصة. ويعكس هذا النمط من السير أيضا نمط سلوك مختلف المتدخلين في البورصة.
(ب) تقطب سوق البورصة:
ونعني بتقطب السوق تمركز القائمين بالعمليات في مجموعتين مختلفتين تدخلها شبه مؤسسي وبطريقة مهيمنة أحدهما في جانب العرض والآخر في جانب الطلب.
(1)
عارضو الصكوك:
يجب التمييز بين فئتين من العارضين:
- الخزينة والهيئات العمومية من جهة.
- والشركات من جهة أخرى.
بالنسبة للفئة الأولى يجب الإشارة إلى هيمنة إصدارات الخزينة وبالنسبة للفئة الثانية يجب التنبيه إلى أن إصداراتها تتمثل أساسا في أسهم تضم صكوكا لا تدخل بالضرورة إلى السوق لأنها تمثل إما الزيادات في الرأسمال أو إحداث شركات جديدة، وبالتالي فإنها لم تساهم بالفعل في خلق قيم مستقبلية.
(2)
طالبو الصكوك:
إزاء هيمنة القروض المستندية التي تصدر عن الدولة وبعض المؤسسات العمومية نصادف هنا أيضا التمركز القوي للأشخاص المشاركين في الاكتتاب، فإلى حدود 1977 كان الأمر يتعلق بهيئتين رئيسيتين هما: صندوق الإيداع والتدبير وشركات التأمين ولقد انضاف إليهما البنك المركزي الشعبي ابتداء من 1978.
هذه هي إذا الخطوط العريضة لخصوصيات سوق القيم بالمغرب، ما هي آثار هذه الخصوصيات على مستوى نشاط ديناميكية البورصة؟
ثانيا- التحليل الكمي لنشاط البورصة:
بالنظر إلى رقم أعمال البورصة بالدار البيضاء يتضح أنه في تراجع سريع، وهذا يفيد أن مكانة السوق المالية تعرف تدهورا قويا في السياسة المالية وفي الاقتصاد الوطني عموما كما يتراءى ذلك من خلال الجدول التالي (بملايين الدراهم) .
السنة 1966 68 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79
رقم الأعمال 20 33 50 63 108 117 193 212 182 174 107 202
السنة 80 81 82 83
رقم الأعمال 168 111 86 146
لقد دخل رقم الأعمال طور الانخفاض عمليا ابتداء من 1975 إذا ما استثنينا التحسن الملاحظ خلال 1979، وهذا التحسن راجع في هذا التاريخ إلى إدخال قرض الصحراء الصادر عام 1976، ويرتبط التراجع المشاهد بعد 1979 أيضا بصكوك الدولة وبالأخص بالأداء التدريجي لديونها من قبل الخزينة مما أدى إلى تقليص الصكوك المتداولة.
وفي ما يرجع إلى الصكوك المحولة إلى رأسمال قابل للتداول في البورصة (1) يمكن الإشارة على أنها أشد ضعفا قياسا بما يجرى في أماكن أخرى كما هو مبين أدناه (بالمليارات بالنسبة لسنة 1981)(2) :
المدينة الصكوك المحولة (الأسهم + الندوات)
البيضاء 2.009 درهم
باريس 795
ليون 15.2
نانسي 5.2
ليل 3.0
بوردو 3.2
وفي النهاية نلاحظ ثلاث مميزات رئيسية:
- محدودية حجم البورصة القيم بالدار البيضاء لاستيعاب كمية إضافية من الصكوك المعروضة.
- الشركات بصفة أكثر والأفراد أو المدخرون الصغار لا يعيرون أي اهتمام للبورصة لأسباب متعددة.
ومن بين ما يمكن استخلاصه منطقيا هو أنه من المحتمل أن يكون مصير مسلسل الخوصصة هو الفشل نظرا لتواضع مستوى السوق المالي كما بيناه.
وحتى الحالة غير المحتملة التي يفترض فيها وجود من يقتني المقاولات الخاضعة للخوصصة تقابلها آثار سلبية على الاستثمار في المدى القصير والمتوسط ما دام جزء كبير من الادخار الخاص يستقطبه هذا البيع من قبل الدولة، وما دام المنطق الجديد يقضي بألا تستثمر الدولة إلا في البنيات الأساسية فإن قسطا كبيرا من إيراد مبيعاتها سوف يستهلك في القطاعات غير المنتجة، وهذا أمر غير مرغوب فيه.
وإذا رجعنا إلى المحتمل فإننا نصل إلى النتيجة السابقة التي مفادها أن هناك تفاوتا بين العرض والطلب. وأن استيعاب العرض بكامله في ظروف مميزة يفترض الإشراك القوي للرساميل الأجنبية لتساهم في شراء المقاولات المرشحة للخوصصة الشيء الذي يثير مسألة الاستقلال الاقتصادي تجاه البلدان الصناعية.
إن تحدي الخوصصة يكمن إذا في البيع بثمن مرتفع دون أن يحدث تقوِّيًا في مستوى الاستثمار، وهذا يُحتم تحريكا هامًّا للادخار عن طريق الانتشار الواسع للأسهم، وكل بلد على حدة سوف يواجه صعوبات كبيرة في سبيل ضمان هذه الشروط، وبالأخص إذا علمنا أن دخل شعوب العالم الإسلامي لا يتجاوز سنويا 800 دولارا للفرد الواحد وهي حالة تنطبق على المغرب أيضا، وهو ما يبرز الطابع الضيق للإطار الوطني، ويستوجب طرح المسألة على مستوى أكثر امتدادا وفي ظروف جديدة، والمستوى الإسلامي يبدو حلا مناسبا ليس فقط لأن في بعض البلدان يتواجد ادخار عائد من جراء محدودية قدرات استيعابها للرساميل في حين أن البعض الآخر يعاني عجزا خطيرا على هذا المستوى، ولكن أيضا لأن أساليب التمويل الإسلامي تشجع كثيرا الاستثمارات المنتجة المباشرة التي من شأنها أن تقضي على أي شكل من أشكال المديونية، ذلك أن الممارسة الربوية هي جوهر المديونية وهي ممارسة تحرمها الشريعة الإسلامية.
والحل يكمن إذا في منح الفرصة لكل مواطن بإحداث ظروف مشجعة للاستثمار الخاص إلى جانب قطاع عمومي يتحدد حجمه في نقطة التوازن.
إن الإسلام يقبل شكلي الملكية العامة والخاصة دون أن يناصر مبدئيا لا هذه ولا تلك، بل إن الحكمة البالغة التي يمتاز بها هي اعتماده على مبدأ التوفيق الأمثل للشكلين معا، وإذا كانت ظروف تاريخية معينة تملي على البلدان الإسلامية تدعيم القطاع العام كضرورة حيوية وبالتالي مشروعة، فإن الحكمة تدعو اليوم إلى التقليص منه وليس إلى القضاء عليه.
والحكمة تقتضي أيضا أن يوظف ادخار البلدان الإسلامية لصالح العالم الإسلامي، الشيء الذي لا يمكن تحويله إلى واقع إلا إذا أنشئت بنيات ملائمة لها التوظيف، البنيات التي تحتل ضمنها السوق المالي الإسلامي مكانه الصدارة، والتي من شأنها أن تحرك الادخار الذي تغريه أسواق البلدان المصنعة أو الذي يفضل اللجوء إلى الأشياء المحافظة على القيمة كالذهب والأعمال الفنية، ولكن يجب العمل أيضا على حماية ادخار البلدان الأكثر فقرا من تحويله إلى البلدان الأكثر تصنيعا التي تمنح فرصا للاستثمار أكثر من سواها، بل يجب العمل على إيجاد نظام لإعادة التوزيع الذي يعمل على تعويض خروج الرساميل في الدول الفقيرة بجلب ما يقابلها أو أكثر من الرساميل الخارجية مثلا في إطار المضاربة أو المشاركة ليس في المجال التجاري ولكن أساسا في المجال الإنتاجي. وظهور مثل هذه الصيغ على مستوى العالم الإسلامي من طبيعتها أن تحرك الادخار الرافض للقنوات المالية التقليدية، ويصبح في الإمكان مشاهدة تراكم الرأسمال الشعبي وهو أمر محمود لدى الجميع.
الدكتور الحسن الداودي
(1) عدد الصكوك قيمة × ثمنها المتوسط.
(2)
المصدر: Durant Leboure ed. Maspero، p27.