الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
زراعة خلايا الجهاز العصبي وبخاصة المخ
إعداد
فضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور
عضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن إلا الله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه.. أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وإن الله تعالى يقول في التنزيل:{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [سورة النساء: الآية 83] . هذا، وإن هذه الواقعة وأمثالها من واقعات العصر خليقة بالدرس المتأني لاستخراج المدرك واستنباط الحكم، لا سيما أن هذه الواقعات لم توجد في كتب المتقدمين ولا المتأخرين من الفقهاء، فوجب التخريج والاستنباط ضمن دائرة الاجتهاد المذهبي بقدر الوسع والطاقة.
هذا، وقد بذلت الجهد في استنباط الحكم لهذه المسألة (زراعة خلايا الجهاز العصبي وبخاصة المخ) مستنيراً بقرارات مجمع الرابطة وما سبقها من دراسات موفقة مع الرجوع إلى أمهات كتب الفقه وعلم الخلاف واستشارة جهابذة الأطباء، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
هذا، لأن بحثي المتواضع هذا يتكون من مدخل ومقصد وخاتمة، فأقول وبالله التوفيق.
مدخل إلى البحث
الجملة العصبية شيء غير النفس والأطراف اللتين نص الفقهاء المتقدمون عليهما وفضلوا القول فيهما، فالجملة العصبية لا يمكن- بحال من الأحوال كما ثبت عند الأطباء- نموها واستدراك ما فات منها، لأن الخلية العصبية ذات خصائص تختلف عن كل الخلايا في الجسم الإنساني، وأن كل شيء من الوعي والإدراك مربوط بها، بل إن الحياة ذاتها مربوطة ببعض أجزائها، كشجرة الحياة في الجزء الخلفي من الدماغ، لذلك وجب النظر إليها من زاوية جديدة لا يمكن قياسها على الأطراف أو الحواس أو أي عضو من الأعضاء الإنسانية حتى يقال فيها ما يقال في تلك.
المقصد الأول
الأخذ من الإنسان الحي
إن تنازل إنسان حي عن شيء من جملته العصبية أو عن مخه لغيره تنازل عن حياته قطعاً، وهذه الحياة لا يملكها الإنسان، لأن الله تعالى هو المالك للنفس الإنسانية عبودية، والإنسان هو المالك لها استمتاعاً فقط، لذلك لا يجوز لأحد أن يتنازل عن حياته لغيره ولا عن بعضها كما يقول القرافي:(وحرم القتل والجرح صوناً لمهجته وأعضائه ومنافعها عليه، ولو رضي العبد بإسقاط حقه من ذلك لم يعتبر رضاه ولم ينفذ إسقاطه)، وجاء في الموافقات: إذ ليس لأحد أن يقتل نفسه ولا أن يفوت عضواً من أعضائه فقد قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [سورة النساء: الآية 29] . فإذا أكمل الله على عبد حياته وجسمه وعقله التي بها يقيم التكاليف لا يصح إسقاطه شيئاً منها) .
وعلى هذا لا يجوز لإنسان حي أن يعطي من خلاياه العصبية أو يهب دماغه أو مخه لغيره، أو يبيعه أو يتنازل عن شيء من ذلك بأي وجه من الوجوه، كما يحرم ذلك على المعطي والآخذ والطبيب المعالج لأن في ذلك إتلافاً لإنسان حي وهو حرام.
لكن إذا كان هذا الإنسان الحي المعطي للخلايا العصبية أو للمخ في حالة احتضار وتوقع للموت بين لحظة وأخرى، وحكم عليه الأطباء بأنه لن يعيش أكثر من وقت قصير جداً يكون فيه دماغه أو مخه المستطيل أو مخيخه أو الحبل العصبي الممدود في العمود الفقري- يكون كل ذلك- بحالة سليمة مهيأة للتلف بالموت القادم لا محالة، وأخذ شيء من ذلك أو كله لمريض ينقصه هذا الترقيع وهو بحاجة إليه، وربما أنقذه من موت محقق لولاه فما الجواب؟ الجواب: امتناع ذلك وحرمته أيضاً لأن المريض الأول بالرغم من جزم الأطباء بموته ربما شفي فجأة فما الذي يجعلنا نحكم عليه بالموت، والحياة بيد الله عز وجل والموت بيده عز وجل وحده "، ثم إن المريض الثاني ليس لدينا يقين ولا غلبة ظن إلى الآن بأنه سينجو من موت محقق إذا رقعناه بهذه الأعصاب
…
!! فالمسألة لدينا سيان ولا مرجح، فتبقى الحياة للمريض الأول مقطوعاً بها في بقاء أجهزته كاملة غير منقوصة حتى يموت، والمريض الثاني ربما شفاه الله بغير ترقيع فالله قادر على ذلك.
المقصد الثاني
الأخذ من الإنسان بعد موته
بقيت لدينا مشكلة ثانية: وهي أخذ المخ أو شيء من الجملة العصبية من إنسان بعد موته مباشرة وبعد تيقن موته بالطب الحديث وقبل فساد هذه الأجهزة في جسم الميت، فهل يجوز هذا النقل بالطب الحديث ووسائله لإنسان محتاج إليها؟ يبدو لي أن هذا أمر جائز بشروط.
الأول: أن يأذن من سيؤخذ منه المخ أو شيء من الجملة العصبية قبل موته وهو بالغ عاقل مختار أو يأذن أولياؤه بعد موته بذلك.
الثاني أن تكون فائدة العلاج يقينية أو غالبة على الظن، لا موهومة.
الثالث: أن يتعين ذلك، النقل للعلاج، فلو لم يتعين لا يجوز النقل.
الرابع: أن لا يكون ذلك معاوضة كبيع أو شراء أو هبة بمعنى المعاوضة أي (هبة صورية) كمن يهب دماغ أبيه ليهبه الآخر مبلغاً من المال أو متاعاً، بل يجب كون ذلك مجرد تبرع محمض ليس فيه أي معنى من معاني المعاوضات.
والشرط الأساسي كما قدمت هو القطع بموت الأول من الوجهتين الطبية والشرعية معاً، وتأصيل هذه الواقعة، أن الشارع الحكيم كرم الإنسان ميتاً كما كرمه حياً، وأن للإنسان الميت حقاً في المحافظة على بدنه بعد موته كما له الحق في المحافظة على كفنه وقبره، ففيه حق لله وحق للميت، أما حق الميت فقد سقط بإسقاطه له، وهو حي، وأما تكريمه فهو مصلحة، ومصلحة إنقاذ حياة الحي المضطر مصلحة أخرى، ولدى الموازنة بين المصلحتين تبين أن المصلحة الثانية أعظم فترجحت، لهذا اشترطنا في النقل للعلاج بعد موت الأول للدماغ والجملة العصبية ما اشترطناه من نقل سائر أجزاء الميت بعد موته، أن يكون حصوله متيقناً أو غالباً على الظن فيما تأكد نجاحه بحيث تكون نسبة النجاح سبعين بالمائة على أقل تقدير، وعدم جواز شيء من هذا النقل في ما كان أقل من هذه النسبة كما قرره وأفتى به أستاذنا العلامة الدكتور الشيخ أحمد فهمي أبو سنة، وإني في هذه المسألة ونسبتها أميل إلى ما مال إليه- حفظه الله- وأفتى به والله تعالى أعلم، وذلك خلافاً لما ذهب إليه مجمع الرابطة الموقر في مكة المكرمة في قراره رقم 99 بشأن تبرع الحي بنقل عضو منه أو جزئه إلى مسلم مضطر إلى ذلك حيث أباح ذلك المجمع ولا أرى لذلك وجهاً صحيحاً والله تعالى أعلم.
خاتمة
بعد هذا الذي ذكرت أعود فأقرر أن المسألة بحاجة إلى درس وتمحيص يسبقهما ورع وتحوط لأن الكلام في الفتيا ليس كأي كلام في أي أمر، لهذا وجب سد الذرائع الفاسدة وما يوصل إلى المحرم، وإني هنا أعود لأضيق الأمر أكثر فأقول:
(إن هذه الفتيا بقسميها ليست إلا مخلصاً ومخرجاً من الحرج حالة الضرورة أو الحاجة مشروطة بشروطها) وما عدا ذلك فلا مجال للتوسع أبداً لأننا رأينا كيف صار في الغرب من تمييع للمفاهيم بحيث صار الناس يبيعون أعضاءهم بعد أن يؤمنوا عليها، بل رأينا لما أفتى بعض المفتين بجواز التشريح لجثث الموتى كيف اجتراً الناس على جثث الناس في المقابر وصاروا يشترونها بأبخس الأثمان ويسلقونها بالماء الساخن بالنار حتى ينبكت الجلد ويبقى العظم ثم يبيعونها بأغلى الأثمان وصار لها سوق سوداء ووسطاء وسماسرة، وصارت تجارة رائجة وحرفة، وأصل الأمر غير ذلك وأبعد من ذلك بكثير.
لذلك أناشد العلماء والمفتين أن يتحوطوا لدين الله ولا يترخصون إلا في موضع الضرورة أو الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة في إباحة ما كان محظوراً، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
والحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات.
الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور