الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم إجراء العقود بوسَائل الاتصَال الحَديثة
في الفقه الإسلامي (موازَنًا بالفقه الوضعي)
إعداد
سعادة الدكتور إبراهيم كافي دونمز
كليّة الإلهيّات – جامعة مرمرة - استنبول
بسم الله الرحمن الرحيم
خطة البحث:
التمهيد وتحديد الموضوع.
1-
حكم التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة في الفقه الإسلامي (من ناحية الجواز أو عدمه) .
2-
مسائل التعاقد بين الحاضرين التي لها صلة بموضوع البحث وأحكامها.
2-
1- الإيجاب.
2-
1-1- ماهية الإيجاب، التفرقة بين مفهومي (الإيجاب) و (الدعوة إلى الإيجاب) .
2-
1-2- اعتبار الإيجاب ملزمًا أو غير ملزم.
2-
2- القبول.
2-
3- ارتباط الإيجاب بالقبول (مجلس العقد) ، وتحديد وقت انعقاد العقد.
2-
3-1- ارتباط الإيجاب بالقبول (مجلس العقد) .
2-
3-2- تحديد وقت انعقاد العقد.
3-
مسائل التعاقد بين الغائبين التي لها صلة بموضوع البحث وأحكامها.
3-
1- الإيجاب.
3-
1-1- ماهية الإيجاب.
3-
1-2- اعتبار الإيجاب ملزمًا أو غير ملزم.
3-
2- القبول.
3-
3- ارتباط الإيجاب بالقبول (مجلس العقد) ، وتحديد وقت ومكان انعقاد العقد.
3-
3-1- تحديد وقت القبول بوقت وصول الإيجاب أو عدم تحديده به.
(أ) الكتابة.
(ب) الرسالة (السفارة) .
3-
3-2- اشتراط أو عدم اشتراط علم الموجب برفض الإيجاب لاعتبار الإيجاب ساقطًا.
3-
3-3- تحديد وقت انعقاد العقد.
(أ) النظريات التي تحدِّد وقت انعقاد العقد.
(ب) النتائج المترتبة على تحديد وقت انعقاد العقد.
(ج) موقف التشريع الوضعي من هذه النظريات.
(د) موقف الفقه الإسلامي من تحديد وقت انعقاد العقد.
(أأ) الكتب الفقهية القديمة.
(ب ب) آراء الباحثين المعاصرين.
(ج ج) نقد هذه الآراء وتقييمها.
(د د) رأينا في هذه المسألة من خلال نقد النظريات السابقة.
3-
3-4- تحديد مكان انعقاد العقد.
4-
تصنيف وسائل الاتصال الحديثة وتعيين الأحكام التي تترتب على كل نوع منها.
الخاتمة وملخص البحث.
بسم الله الرحمن الرحيم
التمهيد وتحديد الموضوع
إن مجرد إلقاء نظرة عامة إلى تاريخ القانون في العالم يمكِّننا من ملاحظة أن ظاهرة تناول ودراسة (انعقاد العقد) بين طرفين يكون نتيجة لتلاقي إرادتين مختلفتين ويعبَّر عنهما بتعبيرين متتالين وكذلك وضع المبادئ السائدة في هذا الموضوع، أمر حديث العهد نسبيًا بالنسبة للفقه الغربي (1) .
ومن الغريب أن هذه المسائل لم تكن معروفة في القانون الروماني، ذلك القانون الذي ذاعت شهرته واحتل مكانًا مرموقًا في تاريخ القانون في العالم وخاصةً من زاوية تناوله لمسائل فقه الالتزامات وتطوير مفاهيمه (2) ويمكن القول بأن السبب الرئيسي لهذه الظاهرة في القانون الروماني يرجع إلى أن تطور نظرية العقد – باعتبار معظمها – كان يعول على نظام (عقد المشارطة الشفهي (Stipulatio) ، بمعنى أن النزعة الشكلية كانت تسود هذا القانون. أما نظرية العقود الرضائية فلم تكن قد تطورت ذاك التطور، مما لم يتح للرومان فرصة تصور هذه المسائل وإدراك حلها (3) ؛ (4) .
ولأول مرة في تاريخ الفقه الغربي يمكننا مصادقة تناول هذه المسائل بشكل صريح في القرنين السابع عشر والثامن عشر في كتب أصحاب نظرية القانون الطبيعي. وأول قانون قام بتنظيم هذه المسائل بشكل تفصيلي هو القانون العام لدولة بروسيا (1- 5: 78 –110) . وبعكس ذلك فإننا لا نصادف بحث هذه المسائل في القانون المدني الفرنسي مطلقًا.
(1) SCHWARZ (Andres B.) ، Borclar Hukuku Dersleri، Istanbul، 1948، ترجمه إلى التركية: Bulent DAVRAN، vol. I، P. 207. أنظر أيضًا:(المؤلف نفسه) : Das einseitige Rechtsgeschaft in den envesten kodificationen des Zivilrechts، Archiv f Rechts-u wirtse haftsphilosophie 16 (1923) p. 557
…
etc.
(2)
SCHWARZ، Borclar، vol. 1، p.207-208
(3)
SCHWARZ، Borclar، vol. 1، p.208، Not.5 أنظر في stipulatio: محمصاني (صبحي) ، النظرية العامة للموجبات والعقود في الشريعة الإسلامية، بيروت، 1948م، 2/25-26
(4)
MONIER (R.) ، petit vocabulaire de Droit Romain، paris. 1942. P 271; RADO (Turkan) ، Roma Hukuku Dersleri/Borclar Hukuku، Istanbul، 1969، p.51، 67
…
etc.
وفيما بعد، نلاحظ أن هذه المسائل أصبحت ذات أهمية عظيمة وأصبحت مجالًا للبحث والنقاش في علم الباندكت (Pandect) ، الألماني في أواخر القرن التاسع عشر بسبب صدور القانون التجاري الألماني، وبعد ذلك دخلت هذه المسائل إلى التشريعات الحديثة المتعلقة بمجال القانون المدني، منها على سبيل المثال قانون الالتزامات السويسري وقانون الالتزامات التركي الجديد المأخوذ منه.
أما في الفقه الإنجليزي فقد تم تطور نظرية انعقاد العقد بشكل واسع ومفصل. ويظهر أن نتائج هذا التطور في القانون الإنجليزي تم تدوينها وتجميعها عن طريق التشريع وذلك في قانون العقود الخاص بالهند في سنة 1872 (1) .
وعلى عكس ما يلاحظ في الفقه الغربي، فإن المصادر الأصلية للفقه الإسلامي قد رسخت مبادئ الالتزامات في مجال العقود – وخاصة مبدأ الرضا منها – من جهة، وقام الفقهاء المسلمون بدراسة مسائل دقيقة تتعلق بموضوع انعقاد العقد منذ عهود مبكرة جدًّا في تاريخ الفقه الإسلامي بالحاجة إلى الاهتمام بدراسته على مستوى اهتمامهم بدراسة مسائل التعاقد بين الحاضرين، لأنه لم يكن لديهم وسائل الاتصال الحديثة ولم تبرز الحاجة إلى تلك المسائل بالشكل الذي نشعر به في هذا الزمان إلا أنه لم يهملوا هذا الموضوع بكامله، بل تطرقوا إلى مسائله بخطوطها العريضة تحت عنوان (التعاقد بالرسالة والكتابة) وبينوا أحكام هذه المسائل.
وفي وقتنا الحاضر، يكاد يشعر العالم بأسره بالحاجة إلى وحدة التشريع في هذا الموضوع (أي أحكام العقد) الذي له حيويته وأهميته والذي له صلة وثيقة بالحياة التجارية خاصة. ولعل أبرز دليل على هذه الحاجة الماسة هو (اتفاق الأمم المتحدة فيما يخص بيع السلع الدولي) الذي تم قبوله بفيينا في تاريخ 11 أبريل 1980، وذلك بعد فعاليات مشتركة بين الدول استمرت في هذا المجال منذ سنوات عديدة. وسنشير إلى هذا الاتفاق في بحثنا باسم (اتفاق فيينا) .
ومن البديهي أن موضوع بحثنا ليس شاملًا لجميع مسائل نظرية العقد بل هو محدّد بمسائل التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة.
والجانب الهام بالدرجة الأولى من وجهة نظر موضوع بحثنا هو التعاقد بين الغائبين. ولكن الأمرين التاليين يقتضيان دراسة كل من الشكلين للتعاقد أي ما بين الحاضرين وما بين الغائبين على حدة وذلك بقدر ما يتصل ببحثنا، الأمر الأول: ضرورة تطبيق أحكام التعاقد بين الحاضرين باعتبار معظمها في مجال التعاقد الذي يتم بواسطة بعض وسائل الاتصال الحديثة أيضًا. والأمر الثاني: أن أحكام التعاقد بين الحاضرين – دراسة وتحليلًا وتقييمًا – تحمل في طياتها أهمية بالغة في إلقاء الضوء على أحكام التعاقد بين الغائبين مما يتيح للباحث فرصة للتوصل إلى نتائج صائبة في هذا المضمار.
ومع هذا، فإن مسألة تحديد وقت انعقاد العقد في التعاقد بين الغائبين هي التي تكون العمود الفقري لموضوع بحثنا، ولذا فسيكون الحيّز الأوفر مخصصًا لها في هذا البحث.
وسنكتفي في بحثنا هذا بذكر بعض المعلومات الأساسية التي تسلط الأضواء على حل المسائل المتعلقة بموضوع بحثنا، متجنبين – بقدر الإمكان – تكرار المعلومات والتطرق إلى موضوعات جانبية. وبهذا الاعتبار، لن تحتل دراسة الموضوعات التالية مكانًا خاصًا في بحثنا هذا.
1-
مقارنة مفهومي (العقد) و (التصرف) .
2-
الخلاف الواقع بين الأحناف وبين غيرهم في تعريف مفهوم (الركن) وكذلك خلافهم في تعداد أركان العقد. (ويكفي هنا أن نذكر أن تراضي الطرفين (2) . هو أساس العقد وبعبارة أخرى أن حل أموال الناس منوط بالرضا باتفاق الفقهاء ولا يمكن القول بأن التراضي قد تحقق إلا بتوفر الأمور ثلاثة. (1) الإيجاب (2) القبول (3) ارتباط الإيجاب بالقبول.
(1) انظر في هذا الموضوع مع معلومات حول بعض القوانين الأخرى: SCHWARZ، Borclar، vol. 1، p.208.
(2)
بدل استعمال تعبيري (عاقدين) نفضل استعمال تعبيري (طرف) و (طرفين) . لأن الطرف الواحد قد يكون شخصًا واحدًا أو أكثر. انظر في نفس المعنى: موسى (محمد يوسف) ، الأموال ونظرية العقد في الفقه الإسلامي 1987م ط. دار الفكر العربي
3-
الخلاف الواقع بين الأحناف وبين غيرهم في تعريف كل من مفهومي (الإيجاب) و (القبول) .
(سنعول في هذه المسألة على وجهة نظر المذهب الحنفي – وهو السائد في مصطلح يومنا – وعلى هذا فإن التعبير الدال على الرضا بإنشاء العقد الواقع أولًا يسمى إيجابًا، وأن التعبير الدال على الرضا بإنشاء العقد الواقع ثانيًا يسمى قبولًا) .
4-
وسائل أو طرق التعبير عن الإرادة مثل اللفظ والإشارة، والكتابة، والتعاطي، والسكوت
…
إلخ.
(لا شك أن موضوع بحثنا يرتبط بنتائج هذه المسائل ارتباطًا وثيقًا، ولكن دراستها على حدة ومناقشة الآراء فيها ليس مكانها هذا البحث) .
5-
مسائل الإثبات (من حيث المبدأ) .
(بما أن تناولنا للموضوع سيكون من ناحية انعقاد العقد، فلن نتعرض لمسائل الإثبات إلا بقدر ما لها من صلة بأساس الموضوع) .
6-
أقسام العقود والأحكام التي يمكن تطبيقها على كل من هذه الأقسام من ناحية موضوع بحثنا.
(مع أن البحث يتناول إجراء العقود بصفة عامة، فإنه لا ينبغي تصور أن جميع الأحكام الواردة والتي يناقش فيها هذا البحث شاملة لجميع العقود. والحقيقة أن الوصف السائد في العقود التي تثير بعض المسائل الهامة من ناحية التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة هو كون العقد من (المعاوضات المالية) وكونه أيضًا (لازمًا من الجانبين) ولهذا يجب الانتباه إلى أن البحث – باعتبار كله – ينطلق من منطلق هذا النوع للعقود) .
7-
(خيار المجلس) .
(من المعلوم أن موضوع خيار المجلس يتعلق بما بعد انعقاد العقد، وإمكانية تطبيق هذا الحكم في التعاقد بين الغائبين محدودة جدًّا – كما سنشير إلى هذه النقطة في محلها – وبغض النظر عن المناقشات التي تدور حول قبول خيار المجلس أو عدم قبوله، فإن ما تجدر الإشارة إليه هو أن الطرفين إذا قاما بعقد البيع وأنواعه بشرط نفي خيار المجلس يصح البيع والشرط حتى عند من يقول بخيار المجلس (1) .
*
**
(1) هذا مذهب الشافعي ومذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه (وهو الأصح في نظر بعض الفقهاء الحنابلة)، انظر: ابن قدامة (موفق الدين) ، المغني، بيروت 1403هـ/1983م بالأوفست، 4/10-11؛ (أبو زكريا محي الدين بن شرف) ، المجموع شرح المهذب، ط. دار الفكر بالأوفست، 9/177.
-1-
حكم التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة في الفقه الإسلامي
(من ناحية الجواز أو عدمه)
في حالة التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة، فإن الخروج عن الشكل العادي للتعاقد (أي التعاقد بين الحاضرين وبطريقة التعبير اللفظي) يكون بسبب أحد هذين الأمرين أو كليهما:(1) وجود مسافة بعيدة بين الطرفين، (2) تكوين العقد بطريقة أخرى عدا طريق المشافهة. والسؤال الآن هو: هل يوجب هذان الأمران نظرة سلبية إلى التعاقد بين الغائبين وبالتالي إلى التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة حسب قواعد الفقه الإسلامي أم لا؟
وبإلقاء نظرة إلى آيات القرآن الكريم، نجد أن هذا المصدر الأول للفقه الإسلامي فقد جعل (الرسالة)(السفارة) وظيفة هامة حتى بخصوص تبليغ المواضيع ذات الأهمية البالغة، وجاء بمبدأ إمكانية توظيف شخص معين بوظيفة تتحدد حدودها بنطاق تبليغ الخبر إلى المرسل إليه دون أن يكتسب حقوقًا وأن يتحمل التزامات باسم المرسل إزاء المرسل إليه وذلك على خلاف ما يكون في (الوكالة) أو (النيابة)، وكذلك جاء بمبدأ أن لا يكون الرسول مسئولًا عن نتائج قيامه بأداء هذه الوظيفة كما بين الكتاب الكريم هذا المبدأ في آية:{وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (1) .
وقد قرَّر القرآن الكريم أيضًا تبليغ المواضيع ذات الأهمية البالغة بطريقة الكتابة وبناء الأحكام على هذا التبليغ كما جاء في قصة سليمان عليه السلام: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} (2) .
أما موقف السنة من (الرسالة) و (الكتابة) فإنه من المعروف – من السيرة النبوية – أن النبي صلى الله عليه وسلم استخدم هاتين الطريقتين في مواضيع هامة وبني أحكامًا على التبليغ بهما (3) . كما أننا نلاحظ أن بعض الفقهاء يستندون إلى هذا الدليل بخصوص تجويز التعاقد بين الغائبين، فمثلًا يقول سعدي جلبي: (
…
تمّ البيع بينهما لأن الكتاب من الغائب كالخطاب من الحاضر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبلغ تارة بالكتاب وتارة بالخطاب وكان ذلك سواء في كونه مبلغًا) (4) . وكذلك يقول الكاساني بصدد ترتب الأحكام على التعبير عن الإرادة بطريقة الكتابة والرسالة: (لأن الكتابة المرسومة جارية مجرى الخطاب. ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبلغ بالخطاب مرة، وبالكتاب أخرى وبالرسول ثالثًا وكان التبليغ بالكتاب والرسو كالتبليغ بالخطاب فدلَّ أن الكتابة المرسومة بمنزلة الخطاب
…
) (5) .
(1) العنكبوت (29) : الآية 18؛ ومن البديهي أنه يجب أن لا يغيب عن أذهاننا أن الأنبياء لهم وظائف أخرى إلى جانب وظيفة السفارة / الرسالة.
(2)
النمل (27) : الآيتان 28-29. بما أننا استفدنا من هذا الدليل كفكرة عامة، لا نشعر بالحاجة إلى تناول مسألة (حجية شرائع من قبلنا) .
(3)
والجدير بالذكر هنا هو أن كتابة الدكتور محمد حميد الله المسمى بـ (مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة) بيروت 1405هـ/1985م. (الطبعة الخامسة) يشكل مرجعًا هامًا في هذا الموضوع.
(4)
سعدي جلبي، حاشية على الهداية، وعلى شرحه العناية، بيروت، ط. دار إحياء التراث العربي بالأوفست، 5/461.
(5)
الكاساني (علاء الدين) ، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، بيروت، 1394هـ/1974م بالأوفست، 3/109.
أما الفقهاء المسلمون الذين بذلوا جهودهم من أجل التوصل إلى نتائج فقهية في ضوء أحكام القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ومبادئهما، فلم ينطلقوا من منطلق (الشكلية) في العقود بل من منطلق (الرضائية) فيها، وقالوا بأن العقد ينعقد بأي وسيلة من وسائل التعبير عن الإرادة إذا أمكن التأكد من أن هذه الوسيلة تدل على الرضا (إلا أن بعض الفقهاء والمذاهب وضعوا أحكامًا مقيّدة أو سلبية بخصوص بعض الوسائل مثل الإشارة والكتابة والتعاطي وذلك لعدم اطمئنانهم بها في التثبت من دلالتهم على الإرادة ولاهتمامهم الفائق بهذا التثبت) . وكذلك قال جمهورهم بأن التراضي يمكن أن يتحقق ولو أظهر كل من طرفي العقد رضاه وهما متباعدان وأجازوا التعاقد بين الغائبين (1) .
والخلاصة أن الأحكام التي توصل إليها الفقهاء المسلمون في مبحث انعقاد العقد قد منحت إطارًا واسعًا وشاملًا للموضوع بحيث لا تمس الحاجة – من ناحية جواز إجراء العقود بوسائل الاتصال الحديثة – حتى ولو من باب الاستفادة من قاعدة (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان)(2) . وبعبارة أخرى فإن هذا الإطار الواسع لم يترك مجالًا لتبديل الاجتهادات السابقة نظرًا للحاجات الزمنية.
كما يدل على ذلك أن لجنة تعديل (المجلة)(مجلة الأحكام العدلية) التي تكونت في أيلول 1921، لم تتردد في تقرير إضافة المادة التالية إلى هذه المجلة:(يكون الإيجاب والقبول بالتلفون والتلغراف أيضًا)(3) .
ويلاحظ أن الفقهاء المسلمين المعاصرين أيضًا يتعرضون مباشرة للمسائل التي تنشأ عن التعاقد بين الغائبين دون أن يشعروا بالحاجة إلى الاهتمام بمسائل جواز أو عدم جواز مثل هذا التعاقد.
(1) إن موقف الحنفية والحنابلة الإيجابي من التعاقد بين الغائبين واضح جدًّا، ينظر مثلًا: الكاساني، بدائع الصنائع، 5/138؛ المرغيناني (برهان الدين) ، الهداية شرح بداية المبتدي، بيروت، ط. دار إحياء التراث العربي بالأوفست، 5/461، البهوتي (منصور بن يونس) ، كشاف القناع عن متن الإقناع، بيروت 1402هـ /1982م، 3/148. ومع أن المؤلفين المالكيين يذكرون أن العقد ينعقد بالكتابة أيضًا فإنهم (حسب مشاهدتنا في عدد كبير من كتبهم) لا يتناولون التعاقد بين الغائبين بصفة خاصة ويذكرون جواز الكتابة أثناء تناولهم للتعاقد بين الحاضرين، ينظر مثلًا: الخرشي (عبد الله) ، شرح مختصر سيدي خليل (مع حاشية العدوي عليه) ، بيروت، ط. دار صادر بالأوفست، 5/55؛ الدسوقي (محمد عرفة) ، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير، ط. دار الفكر بالأوفست، 3/3، 4. أما الشافعية فإن هناك خلافًا بينهم في هذا الموضوع، وإن رأي الغزالي والرافعي في اتجاه أن التعاقد بين الغائبين يصح كما أن النووي يقول في هذا الرأي (هو الأصح) ، انظر مثلًا: النووي، المجموع، 9/167 – 168، 177.
(2)
مجلة الأحكام العدلية، المادة:39.
(3)
جريدة عدلية، كانون أول 1325هـ. السنة: 1، العدد: 2، ص94
إذن، فإن الجانب الأساسي لموضوعنا (أي التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة) الذي يهم الفقهاء المعاصرين يتمثل أولًا في القيام بتثبيت أوجه الشبه والخلاف بين أشكال التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة وبين الأشكال المذكورة في الكتب الفقهية، وثانيًا في تسليط الأضواء على هذه الأحكام آخذًا بعين الاعتبار الظروف المستجدة، وثالثًا في بعض الإضافات والتبديلات إذا اقتضى الأمر ذلك.
ويجدر بنا أن نشير هنا إلى مسألة إجراء بعض العقود بواسطة الأجهزة الأتوماتيكية الحديثة في وقتنا الحاضر، وبعبارة أصح إلى مسألة قيام هذه الأجهزة مقام أحد طرفي العقد (أو كليهما) لما لها من صلة وثيقة بموضوعنا مع أنها لا تعد في نطاق إجراء العقود بوسائل الاتصال الحديثة مباشرة.
من المعلوم أن بعض العقود التي يكون (المعقود عليه) فيها بيع بعض الأشياء أو الأمتعة أو تقديم بعض الخدمات يتم عن طريق أجهزة أوتوماتيكية في يومنا الحاضر. وإذا تناولنا موضوع جواز أو عدم جواز انعقاد العقود بمثل هذه الطريقة في ضوء ما ورد في الكتب الفقهية من مبادئ وقواعد مثل مبدأ الرضا والتيسير ومراعاة العرف فإن النتيجة تكون في اتجاه الجواز. إلا أن الموضوع إذا تم تناوله في إطار أحكام المعاطاة التي هي أبرز المباحث في الكتب الفقهية لتسليط الأضواء على الموضوع، فإنه يحتمل أن يصير إلى نتيجة سلبية من منظار بعض الفقهاء وبخاصة الفقهاء الشافعية (1) .
أما دراسة مسألة التعاقد عن طريق بعض الأجهزة الأوتوماتيكية من ناحية ماهية (الإيجاب) و (القبول) فستأتي تحت العنوانين (2-1-1) و (3-1-1) من هذا البحث.
(1) يقترح د. القره داغي كلمة (البذل) بدل (المعاطاة) أو (الفعل) . ينظر في مَنْ يُجَوِّزُ التعاقد بهذه الطريقة ومَنْ لا يُجَوَّزُه، وأدلة كل الفريقين، ومناقشتها: القره داغي، مبدأ الرضا في العقود/ دراسة مقارنة في الفقه الإسلامي والقانون المدني، بيروت، 1406هـ /1985م، 2/917-932؛ موسى (م. ي.) ، الأموال ونظرية العقد، ص370-373.
-2-
مسائل التعاقد بين الحاضرين
التي لها صلة بموضوع البحث وأحكامها
2-
1- الإيجاب:
2-
1-1- ماهية الإيجاب، التفرقة بين مفهومي (الإيجاب) و (الدعوة إلى الإيجاب) :
بعد دراسة العبارات المختلفة للفقهاء المسلمين الواردة في الكتب الفقهية يمكن للباحثين أن يجيبوا على السؤال الآتي بإجابتين مختلفتين: هل الإيجاب (1) في التعاقد بين الحاضرين في الفقه الإسلامي (تعبير ملقي)(وهو الذي يتم بمجرد صدوره) أم (تعبير متلقي)(وهو الذي لا يتم بمجرد صدوره بل لا بدَّ من توجيهه إلى الطرف المقابل؟ (2) . ولكن هذه المسألة ليست لها أهمية كبيرة من وجهة نظر موضوعنا لأن العبارات الفقهية بخصوص ماهية الإيجاب في التعاقد بين الغائبين واضحة، فلذا – دون أن نقف عند هذه المسألة – نكتفي بالإفادة أن الإيجاب في التعاقد بين الحاضرين ينبغي اعتباره تعبيرًا متلقًّى وليس ملقىً (3) .
والإيجاب يوجه عادة إلى شخص معين. فالدراسات النظرية للعقد التي تمت في ضوء تطبيقات العهود القديمة خاصة تتصور وتصور انعقاد العقد غالبًا بهذا الشكل ولهذا اشترط جمهور الفقهاء أن يتضمن الإيجاب الخطاب سوى بعض الحالات الاستثنائية. ومع ذلك، فإنه لا يسوغ القول بأن الفقهاء المسلمين اشترطوا هذا الشرط في الإيجاب بصورة قاطعة، وحقيقة نجد أن بعض الفقهاء الأحناف يكتفون بوجود المخاطبة في أحد شطري العقد فقط (4) .أضف إلى ذلك أن موقف الفقهاء المالكية من عدم اشتراط توجيه الإيجاب إلى شخص معين يتجلى بصورة واضحة في العبارة التالية:(لو عرض رجل سلعته للبيع وقال من أتاني بعشرة فهي له فأتاه رجل بذلك أن سمع كلامه أو بلغه فالبيع لازم وليس للبائع منعه، وإن لم يسمعه ولا بلغه فلا شيء له، ذكره في نوازل البرزلي ومثله في المعيار)(5) .
ويقول الدكتور القره داغي – ونحن نشاركه في رأيه –: (والذي يظهر لي هو عدم اشتراط تضمن الإيجاب الخطاب، بل كل ما يشترط هو أن يكون المقابل معلومًا ولو في الجملة. سواء كان واحدًا أو أكثر، وسواء كان معيَّنًا أو غير معيَّن، وبعبارة أخرى أن يكون الإيجاب جديًّا، يريد به الموجب إنشاء الأثر وكونه أحد ركني العقد المطلوب فحينئذٍ لا بدَّ أن يكون المقابل معلومًا أو يكون موجهًا للجمهور سواء كان التعاقد بين حاضرين أو بين الغائبين، وأن الأمر في ذلك يعود إلى أعراف الناس وعاداتهم)(6) .
(1) انظر: سوار (وحيد الدين) ، التعبير عن الإرادة في الفقه الإسلامي / دراسة مقارنة بالفقه الغربي، الجزائر، 1979، ص147 وأيضًا ص117، هامش: 1؛ الدريني (السيد نشأت إبراهيم) ، التراضي في عقود المبادلات المالية، جدة، 1402هـ/1982م، ص268.
(2)
انظر لتحليل عناصر هذين المصطلحين وللمصطلحات الأخرى المستخدمة للتعبير عن نفس المضمون سواء في الفقه الغربي أو في المؤلفات العربية المعاصرة مع المقارنة: سوار، التعبير، ص37 وما بعدها، وخاصة 74-76؛ SCHWARZ، Borclar، vol. 1، p.172. وقد جاء في كلام د. سوار عبارة (إلى شخص معين) ، ولكننا فضلنا أن نقول (إلى الطرف المقابل) ، والحقيقة أن د. سوار أيضًا حينما يتناول هذا الخصوص بصفة خاصة يرى من الصائب استخدام تسمية (الموجه إليه التعبير المتلقي) ، أو (المخاطب المنشئ للتعبير المتلقي) ، (وفي مقابل ذلك لا يستصوب أن يقال (من يهمه أمر التعبير المتلقي، انظر: سوار، ص90 هامش2.
(3)
إن الرأي السائد في الفقه الحنفي هو أن الإيجاب تعبير متلقي. انظر: سوار، التعبير، ص111؛ وينظر أيضًا: الملحق رقم 1 في آخر هذا الكتاب. كما يوصف الإيجاب في الفقه الغربي بأنه تعبير متلقي يتم بالإرادة المنفردة، انظر: TUNCOMAG (kenan) ، SCHWARZ، Borclar، vol. 1، p. 208-209، Borclar Hukuku/Genel Hukumler، Istanbul، 1972، vol. 1، p. 128.
(4)
سوار، التعبير، ص80-81؛ الدريني، التراضي، ص268؛ القره داغي، مبدأ الرضا، 2/1071-1072.
(5)
الدسوقي، حاشية الدسوقي، 3/4.
(6)
القره داغي، مبدأ الرضا، 2/1072-1073.
إزاء المعلومات السابقة وخاصة إزاء ظروف وقتنا الحاضر، ينبغي القول بأن توجيه الإيجاب إلى الجمهور يجوز وبأن العقد بهذه الطريقة ينعقد. وعلى هذا يجب مثلًا اعتبار عرض البائع سلعته في الواجهة ووضع قائمة الأسعار بإزائها إيجابًا ويجب القول بانعقاد العقد إذا التقى هذا الإيجاب بالقول ممن له أهلية التعاقد. (وعلى هذا الحكم نصت التشريعات الحديثة، نحو الفقرة الأولى من المادة (80) من القانون المدني العراقي) . لأن التراضي قد تحقق ولأن مبادئ الفقه الإسلامي في هذا الموضوع (الرضا، رفع الحرج، ومراعاة الاستعمال الشائع أو العرف العادة) تستوجب هذا القول (1)
إلا أنه يجب الانتباه هنا إلى التفرقة بين حالات الإيجاب وحالات الدعوة إلى الإيجاب. لأن جميع التعبيرات المتعلقة بإرادة التعاقد لا تعتبر إيجابًا. وعلى هذا، فإن التعبير الذي لا يشكل الكلمة الأخيرة لإنشاء العقد أو – بعبارة أخرى – فإن الاقتراح أو العرض الذي لا يريد صاحبه أن يلتزم به في حالة ما إذا صدر القبول من الطرف الآخر، لا يعد (إيجابًا) بل يعد (دعوة إلى الإيجاب) . فاقتراحات التعاقد بواسطة الإعلانات المذاعة في الراديو والتلفزيون ونحوهما، والمنتشرة في الجرائد ونحوها، والملصقة على الجدران، وما شبه ذلك، هذه كلها من قبيل الدعوة إلى الإيجاب في غالب الأحيان. ومن ثم فإن حل القضية لا يكون أمرًا سهلًا في جميع الأوقات فيما إذا طرح سؤال هل هذا التعبير إيجاب أم دعوة إلى الإيجاب؟ ، ويجب في هذه الحالة الرجوع إلى قواعد التفسير. (للتعبير عن الإرادة) . ويمكن استخراج قاعدة في هذا الموضوع إذا عبرنا عما سبق من توضيحاتنا بطريقة التعبير الإيجابي وهي: كل حالة يمكن القول فيها بأن صاحب الاقتراح قال كلمته الأخيرة معيِّنًا ومبيِّنًا جميع العناصر اللازمة لإنشاء العقد وكذلك يمكن التأكد من أنه أراد أن يلتزم باقتراحه هذا إذا صدر قبول يوافقه فالتعبير فيها يعد إيجابًا. (وفي نفس المعنى جاءت أحكام في التشريعات الحديثة، منها الفقرة الثانية من المادة (80) من القانون المدني العراقي) (2)
(1) يجب التنبّه هنا إلى أن الموضوع وإن كان له علاقة نسبية بمسألة المعاطاة فإن أحكام المعاطاة لا تكفي لحل القضية.
(2)
انظر في هذا الموضوع من وجهة نظر الفقه الغربي: SCHWARZ، Borclar، vol. 1، p. 209-211; GHESTIN (Jacques) ، Traite de Droit Civil/Les Obligations- Le Contrat، Paris، 1980، vol. 2، p160. ; TUNCOMAG، Borclar vol. 1، p.128-129 ; TEKINAY، (Selahattin Sulhi) ، Borclar Hukuku، Istanbul، 1979، p.89-91.
وفي هذا المضمار نصت المادة (14) من اتفاق فيينا ما يلي:
(إذا وجه عرض يتضمن إنشاء عقد لشخص معين أو لأشخاص معينين وهذا العرض يشكل إيجابًا إذا كان معرفًا بشكلٍ كافٍ ويتضمن إرادة صاحبة للالتزام في حالة القبول. ويكون العرض معرفًا بشكلٍ كافٍ إذا كانت السلع معينة، وإذا كان السعر والكمية محددًا بشكل صريح أو ضمني.
وإذا وُجِّه عرض إلى أشخاص غير معينين وهذا العرض يعتبر دعوة إلى الإيجاب فقط، إلا إذا صرح صاحب الإيجاب بعكس ذلك بشكل جلي) .
أما دور الأجهزة الأتوماتيكية التي تستخدم في إجراء بعض العقود فليس من الصعب التوصيف الفقهي له في التعاقد، حيث إن حالات التعاقد بهذه الوسائل – مثلًا في عقد بيع بعض الأشياء بالأجهزة الأوتوماتيكية (1) وفي عقد الإجارة بالميزان الأتوماتيكي (2) أو في عقد العمل أو الإجارة بما يقال إنسان آلي (Robot) الذي يقدم بعض الخدمات – فإن العقد ينعقد فيها بطريقة إقامة الطرف الموجب مقامه ذلك الجهاز دون أن يحضر بنفسه أو أن يحضر نائبه عند التعاقد. وإذا نظرنا إلى المسألة من زاوية الفقه الإسلامي فإنه يجب اعتبار هذه الحالات إيجابًا، وذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار الأدلة المذكورة بخصوص صحة الإيجاب الموجه إلى الجمهور. (3) .
2-
1-2- اعتبار الإيجاب ملزمًا أو غير ملزم:
يقول الرأي السائد في الفقه الإسلامي أن للموجب حق الرجوع عن إيجابه قبل أن يصدر القبول من المخاطب. إلا أن جمهرة فقهاء المالكية قالوا بأن الإيجاب ملزم وحده، وليس للموجب أن يرجع عن إيجابه في المجلس قبل أن يترك فرصة، يقرر العرف مداها، لصاحبه ليقبل أو يرفض إبرام العقد، لأنه بإيجابه قد التزم أمرًا تعلق به حق هذا الطرف الآخر، ما دام مجلس العقد قائمًا. وعلى ذلك، يتم العقد إذا قبل المخاطب في المجلس وإن كان قد رجع الموجب عن إيجابه (4)
(1) SCHWARZ، Borclar، vol. 1، p. 128.
(2)
SCHWARZ، Borclar، vol. 1، p. 209 not.8
(3)
ويمكننا أن نضيف هنا نصًّا فقهيًّا يسلط الأضواء على هذه المسألة؛ يقول البهوتي في كشاف القناع حينما يتناول البيع بالمعاطاة: (قال في المبدع وشرح المنتهي: وظاهرة ولو لم يكن حاضرًا (و) ينعقد البيع بـ (نحو ذلك مما يدل على بيع وشراء) في العادة) ، 3/149. انظر أيضًا شرح منتهى الإرادات للمؤلف نفسه، 3/141.
(4)
الحطاب (أبو عبد الله) ، مواهب الجليل شرح مختصر خليل، 1398هـ/1978م بالأوفست، 4/241؛ ابن نجيم (زين الدين) ، البحر الرائق شرح كنز الدقائق، بيروت، ط. دار المعرفة بالأوفست، 5/228؛ محمصاني، النظرية العامة، 2/39؛ موسى (م. ي.) ، الأموال ونظرية العقد، ص261-262؛ الدريني، التراضي، ص272-274.
مع أن هذه القضية لم يتم حلها في مصادر القانون الروماني فإن النتيجة المستخلصة من المبادئ العامة لهذا القانون هي أن الإيجاب ليس ملزمًا (1) . وكذلك يسود كلًّا من الفقه الإنجليزي والفرنسي والإيطالي مبدأ عدم إلزامية الإيجاب. أما في كل من الفقه الألماني والسويسري والتركي الحديث فإن الإيجاب ملزم (2) ، إلا أن هذه الصفة الإلزامية للإيجاب محددة باشتراط القبول فورًا (أي بمدة معقولة) وذلك إذا لم يعيّن ميعاد للقبول (في نفس المعني نصت الماد (27) من المدونة المدنية التونسية وكذلك المادة (94) من القانون المدني المصري) .
وحسب الرأي القائل بخيار الرجوع فإن الموجب لا يمكن له أن يستعمل هذا الحق بعد صدور القبول كما قلنا (وهذا بغضّ النظر عن الرأي القائل بخيار المجلس) . ولو خرج القبول ورجوع الموجب معًا كان الرجوع أولى (3) .
أما اشتراط علم المخاطب بالرجوع – في حالة الرجوع عن الإيجاب في التعاقد بين الحاضرين -، فإن هناك رأيين في كتب الفقه الحنفي (4) .وبعبارة أخرى فإن الرجوع عن الإيجاب في التعاقد بين الحاضرين، يعد تعبيرًا متلقًّى في رأي وتعبيرًا ملقًى في رأي آخر (5) . وإزاء هذا يمكن القول بأن هناك رأيين في الكتب الحنفية يؤيد أحدهما في هذه المسألة (نظرية العلم) والآخر (نظرية الإعلان) . (6) .
وثمة مسألة هامة من ناحية تسليط الأضواء على موضوعنا، وهي حالة ما إذا حدد الموجب للطرف الآخر مدة يقبل فيها العقد أو يرفضه، فهل يلتزم الموجب بالبقاء على إيجابه هذه المدة أو له أن يعدل عنه؟ يشير الدكتور م. ي. موسى إلى أن هذه المسألة لم يتعرض لها أحد من الفقهاء صراحة ثم يذكر المادة (93) من القانون المدني المصري (وهي كالتالي: إذا عين ميعاد القبول، التزام الموجب بالبقاء على إيجابه إلى أن ينقضي هذا الميعاد، وقد يستخلص الميعاد من ظروف الحال أو من طبيعة المعاملة) ويقول:(وهذا أدنى إلى الحق مما نستخلصه من كلام الفقهاء: من أنه ليس للطرف الآخر أن يقبل بعد انتهاء المجلس حتى في هذه الحالة، كما أن التيسير في المعاملات يقتضي القول به ما دام الموجب قد رضي بتحديد مدة للقابل، وبخاصة والمؤمنون عند شروطهم التي لا تنافي مقتضى العقد ولا تتعارض والغرض منه) . وبعد هذا الكلام، يشير المؤلف مرة ثانية إلى أنه لم يجد، بعد طول البحث وشدة التنقيب، من الفقهاء من تعرض نصًّا لهذه المسألة، ويستثنى من ذلك عبارة رآها في مواهب الجليل للحطاب (4/241) ويعتبرها مما قد يفيد الذهاب إلى ما ذهب إليه القانون. ثم يقول الدكتور م. ي. موسى في الهامش:(على أن الأستاذ الشيخ علي الخفيف يذكر (ص205 هامش رقم 1 من كتابه المعاملات الشرعية) أن المالكية يذهبون صراحة إلى ما ذهب إليه القانون، راجعًا إلى هذا الكتاب (4/23) ، وقد رجعت إلى هذا الموضوع فلم أجد الأمر على ما قال، ولعل هناك خطأ مطبعيًّا!) (7) ..
(1) SCHWARZ، Borclar، vol. 1، p. 214. (ومع هذا يقول بعض المؤلفين – بشكل مباشر – أن الإيجاب في القانون الروماني ليس ملزمًا، انظر: شحاته (شفيق) ، نظرية الالتزامات في القانون الروماني ص360، نقلًا عن (الدريني، ص274) .
(2)
محمصاني، النظرية العامة، 2/39؛ SCHWARZ، Borclar، vol. 1، p. 214-216; TEKINAY، Borclar Hukuku، p.91. وقد جاء في قانون المعاملات المدنية في الإمارات (م.136) ، وأصله الأردني (م.96) أن المتعاقدين بالخيار بعد الإيجاب إلى آخر المجلس، فلو رجع الموجب قبل القبول بطل إيجابه، الزحيلي (وهبة) ، العقود المسماة في قانون المعاملات المدنية الإماراتي والقانون المدني الأردني، دمشق، 1407هـ/1987م، ص16.
(3)
ابن نجيم، البحر الرائق، 5/288.
(4)
انظر: الدريني، التراضي، ص325 وما ورد فيها من مراجع.
(5)
سوار، التعبير، ص108-109، 147.
(6)
سيتم دراسة هذه النظريات تحت عنوان التعاقد بين الغائبين (3-3-3) لارتباطها الوثيق بذلك العنوان.
(7)
موسى (م. ي.) ، الأموال ونظرية العقد، ص260-261
ويصرح الدكتور الدريني – مستندًا إلى كتابين لمؤلفين معاصرين أحدهما كتاب الشيخ على الخفيف المذكور في عبارة د. م.ي. موسى بأن المالكية يرون أن الموجب إذا قيد إيجابه بمدة تقيد بها، فلا ينتهي إيجابه بانتهاء المجلس كما يتقيد كذلك بما يجري به العرف إذا جرى العرف على تقييد الموجب بمدة معينة الدريني، التراضي، ص274 (وهذان الكتابان هما:(1) علي الخفيف، أحكام المعاملات، ط1944م، ص175، (2) محمد مصطفى شلبي، نظام المعاملات، ص243) . ونرى أن د. شلبي (محمد مصطفى) ، يعيد الرأي نفسه في كتاب آخر له، وهو: المدخل في التعريف بالفقه الإسلامي وقواعد الملكية والعقود فيه، بيروت، 1403هـ/1983م ص430-432، ويستند في هذا الرأي إلى كتاب مواهب الجليل للحطاب، 4/241، بيد أن هذا المرجع لا يحتوي – في المكان المذكور – إلا على المسألة التي أشار إليها د. م.ي. موسى والتي لا تدل على هذه النتيجة مباشرة، وعلى العبارة التالية التي تدل على إلزامية الإيجاب – بصفة عامة -:(لو رجع أحد المتابعين عما أوجبه لصاحبه قبل أن يجيبه الآخر لم يفد رجوعه إذا أجابه صاحبه بعد القبول) .
ومهما يكن من الأمر، فإن هذا الرأي يوافق والمبادئ السائدة في الفقه (1) المالكي – على ما نرى -، لأنه يعتبر أوسع المذاهب بخصوص الإدارة المنفردة حيث يمكننا القول بأنه جعل الإرادة المنفردة مصدرًا عامًّا للالتزام وذلك من خلال اعتباره عدة أمور أهمها: إعطاء القوة الملزمة للإيجاب بوحده دون الحاجة إلى القبول، بحيث لا يستطيع الموجب سحبه إلى أن ينتهي من المجلس أو يرفضه الطرف الآخر (2) . كما سبقت الإشارة إلى ذلك. فإذا كان الإيجاب ملزمًا للموجب مدة يعين العرف مداها – أي إذا تحددت المدة بصورة ضمنية – فمن باب أولى يجب أن يكون الإيجاب ملزمًا إذا حدد الموجب ميعادًا يلتزم به بإرادته الصريحة. ومن ناحية أخرى، فإن هذا الحكم يلائم المبادئ المعروفة للالتزامات في الفقه الإسلامي عامة، منها ما يلاحظ في أحكام الخيارات من القيمة البالغة لإرادة الطرفين أو أحدهما في تحديد الصفة الإلزامية للعقد. أضف إلى ذلك أن الغاية المقصودة من إلزام الموجب نفسه بإيجابه ليست مخالفة نظام التعاقد والهدف المنشود من تشريع أحكام العقود، بل على العكس من ذلك فإنها عبارة عن سد حاجات الطرفين وتحقيق مصالحهما دون أن يضر أو يتضرر أحد منهما. وتجدر الإشارة إلى أن الأهمية البالغة التي يحظى بها هذا الحكم تتجلى بكل وضوح في التعاقد بين الغائبين كما سيأتي بيانها.
(1) مع أن د. الجميلي قد أصاب حينما قال (وذهب المالكية إلى الأخذ بالإيجاب الملزم وهو صورة من صور نشوء الالتزام بالإرادة المنفردة) ، إلا أنه لم يحالفه الصواب إذ قام بإثبات هذه الفكرة بذكر الأمثلة. لأن كلا المثالين الذين ذكرهما د. الجميلي في هذا المضمار يتعلقان في حقيقة الأمر بعدم قبول خيار المجلس، لأنه لا يلاحظ أن القبول قد صدر قبل رجوع الموجب عن إيجابه في كل من هذين المثالين. انظر الجميلي (خالد رشيد) ، الجعالة وأحكامها في الشريعة الإسلامية والقانون / نظرية الوعد بالمكافأة، بيروت، 1406هـ/1986م، ص172. وينظر بخصوص تقييم قبول نظرية (الإرادة المنفردة) في الفقه الإسلامي إلى ص8-9 من هذا الكتاب. ومن جهة أخرى، يجدر بنا أن نذكر هنا أننا لا نرى صائبًا الرأي الوارد في كتب بعض رجال القانون الذي يقول – لتوضيح حكم عدم إلزامية الإيجاب الوارد في كل من القانون الروماني والفقه المشترك (Pandect) ومجلة الأحكام العدلية -:(لأن هذه الأنظمة القانونية لا تعترف بترتب الحكم على الإرادة المنفردة، انظر: SAYMEN-ELBIR، TURK Borclar Hukuku، Istanbul، 1958، vol، 1/1، p.101 نقلًا عن: FEYXIOGLU (Necmeddin) ، Borclar Hukuku/Genel Hukumler، Istanbul، 1976، vol. 1، p. 71-72. لأنه لا يمكن القول بأن المجلة وحدها تمثل الفقه الإسلامي، أي هناك من يقول بإلزامية في الفقه الإسلامي من جهة، ولأن هناك أحكامًا تترتب على الإرادة المنفردة في الفقه الحنفي أيضًا من جهة أخرى.
(2)
القره داغي، مبدأ الرضا، 2/1031.
والحرى بنا أن نذكر هنا أن معظم التشريعات الحديثة قررت بأن الموجب إذا حدد ميعادًا للقبول، يكون ملزمًا بإيجابه إلى أن ينقضي هذا الميعاد، علمًا بأن هذا الحكم يكون بيت القصيد بالنسبة للتعاقد بين الغائبين في أغلب الأحيان ينظر مثلًا: القانون المدني المصري (م.97) ؛ القانون المدني العراقي (م.84) ؛ قانون الموجبات والعقود اللبناني (م.179) ؛ القانون المدني الكويتي (م46) ؛ المدونة المدنية التونسية (م.27) .
2-
2- القبول:
إن الأصل هو خيار القبول في الفقه الإسلامي، أي أن الطرف الموجه إليه الإيجاب مخيَّر بين قبوله ورده، ولا يصادف في الفقه الإسلامي باستثناء من هذا الأصل. (1) .
يقول الدكتور محمصاني: (غير أن القانون اللبناني، وإن كان قد أثبت المبدأ بأن من يوجه إليه العرض حر في رفضه ولا يتحمل تبعة ما بامتناعه عن التعاقد، إلا أنه أتبعه باستثناء طريف، متأثرًا في ذلك بنظرية سواء استعمال الحقوق. وهذا الاستثناء يتعلق بحالة من يضع هو نفسه في معرض من شأنه استدراج العرض،) كالتاجر تجاه الجمهور أو صاحب الفندق وصاحب المطعم، أو رب العمل تجاه العمال. ففي هذه الحالة يجب أن يسند امتناعه عن التعاقد إلى أسباب حريَّة بالقبول، وإلا كان امتناعه استبداديًّا وجاز أن تلزمه التبعة من هذا الوجه (المادة 181)(2) . إلا أننا نلاحظ أن مثل هذه الأحكام الواردة في القوانين يمكن اعتبارها من قبيل القرينة القانونية التي يسترشد بها القاضي في تفسير إرادة الطرفين ويحكم بموجبها – مبدئيًّا – بأن عرض هؤلاء الأشخاص إيجاب ملزم وليس دعوة إلى الإيجاب.
ومما يجب الانتباه إليه في هذا الموضوع هو أن الحالات التي يمكن وصفها بأنها حالات (القبول الضمني) لا ينبغي تصورها بأن المخاطب أصبح ملزمًا بالقبول فيها (3) .
ويشترط أن يصدر القبول ممن وُجِّه إليه الإيجاب لا من شخص آخر، وقد صرح الفقهاء الشافعية بأن القبول لا يجوز من غير من وُجِّه إليه الإيجاب ولو كان موكله، أما الفقهاء الأحناف فقد جوزوا قبول الفضولي، ففي مجلس العقد موقوفًا على إجازة المخاطب الغائب.
وكما سبق أن أشرنا إليه أن الإيجاب إذا وجه إلى الجمهور لا يجب أن يتم القبول من طرف شخص معين عند المالكية (4) .
ويمكن الرجوع عن القبول إلى غاية وقت انعقاد العقد على الصعيد النظري، بيد أن إمكانية استعمال هذا الحق، إذا قلنا بأن العقد ينعقد بمجرد إعلان القبول، تكاد تنعدم على الصعيد العملي. أما مسألة انعقاد أو عدم انعقاد العقد بمجرد إعلان القبول فلها صلة وثيقة بمسألة وصف (القبول) هل هو تعبير متلقى أم تعبير ملقى؟ فبما أن هذه المسألة الأخيرة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالعنوان التالي، فإنه سيتم تناولها فيه أي تحت عنوان (2-3) .
(1) محمصاني، النظرية العامة، 2/39.
(2)
محمصاني، النظرية العامة، 2/39.
(3)
وللاطلاع على حالات القبول الضمني يمكن الرجوع خاصة إلى عناوين (دلالة المعاطاة على الرضا) و (دلالة السكوت على الرضا) في الكتب الفقهية والمؤلفات الحديثة. انظر من وجهة نظر الفقه الإسلامي: محمصاني، النظرية العامة، 2/50-51، 52 وما بعدها؛ الدريني، التراضي، ص156 وما بعدها و 176 وما بعدها؛ القره داغي، مبدأ الرضا، 2/179 وما بعدها. وانظر من وجهة نظر الفقه الغربي: SCHWARZ، Borclar، vol. 1، p. 227-230، GHESTIN، Traite de Droit Civil، vol.2، p. 172-174، 226
…
etc، 239
…
etc.
(4)
انظر في هذا الموضوع (مع الشروط الأخرى للقبول) : الدريني، التراضي، ص281-284. ومن البديهي أن خاصية العقد تحظى بأهمية كبيرة في هذا الخصوص، ولهذا لم نرد أن نطيل الكلام في هذا المقام
2-
3- ارتباط الإيجاب بالقبول (مجلس العقد) وتحديد وقت انعقاد العقد:
2-
3-1- ارتباط الإيجاب بالقبول (مجلس العقد) :
إن الإيجاب والقبول لا بد من تعلق أحدهما بالآخر لأجل حصول الانعقاد، لأن الرضى هو ارتباط الإيجاب بالقبول. فاتحاد الزمان والمكان الذي يسمح لهذا الارتباط من وجهة النظر الفقهية، يسمى (مجلس العقد) . وبعبارة أخرى فإن مجلس العقد هو الاجتماع الواقع من أجل التعاقد مع أن المؤلفين العرب ينقلون المادة 181 من مجلة الأحكام العدلية بهذا الشكل، فإن أصل المادة – إذا ترجمت لفظيًّا – كالتالي:(مجلس البيع هو الاجتماع الواقع من أجل المساومة)
ومع أن الفقيه الحنفي الكاساني الشهير بجودة تصنيفه للمواضيع وبدقته في تناوله للمفاهيم الفقهية يقسم شرائط الانعقاد لعقد البيع إلى أربعة أنواع. وهي: (1) ما يرجع إلى العاقد، (2) وما يرجع إلى نفس العقد، (3) وما يرجع إلى مكان العقد، (4) وما يرجع إلى المعقود عليه (1) ، ومع أنه يبدأ كلامه بعبارة (وأما الذي يرجع إلى مكان العقد فواحد وهو اتحاد المجلس بأن كان الإيجاب والقبول في مجلس واحد) حين تناوله لما يرجع إلى مكان العقد من هذه الشروط، فإنه في دوام هذه العبارة يعترف بأن كلًّا من عنصري الزمان والمكان له أهميته الخاصة في ارتباط الإيجاب بالقبول، إلا أنه يبين أن التشدد في التمسك بالقياس (أي القاعدة في هذا الموضوع) ، وبعبارة أخرى، إن اشتراط صدور الإيجاب والقبول في آن واحد أيضًا يؤدي إلى انسداد باب البيع (2) .
(1) الكاساني، بدائع الصنائع، 5/135.
(2)
الكاساني، بدائع الصنائع، 5/137. انظر أيضًا: المرغيناني، الهداية، 5/460؛ ابن نجيم، البحر الرائق، 5/284؛ الدريني، التراضي، ص294-295.
ومع هذا فالفقهاء الأحناف لم يشترطوا الفورية وأجازوا صدور القبول ما لم يحدث شيء يدل على انتهاء المجلس وذلك لضرورة التأمل والتروي. وكذلك الحكم في المذهبين المالكي والحنبلي (1) . أما الشافعية فقد اشترطوا الفورية حيث يجب أن لا يكون الفاصل بين الإيجاب والقبول إلا يسيرًا أي ما لا يتجاوز حد الضرورة (2) . وتجدر الإشارة هنا إلى أن حكم خيار المجلس الوارد في هذا المذهب قد يزيل إلى حدٍ ما الحرج الذي يعاني منه المخاطب من أجل شرط الفورية.
ويرى معظم الباحثين في مجال الفقه الإسلامي أن الرأي الملائم لمبادئ الفقه الإسلامي ولمصلحة الطرفين في هذه المسألة هو رأي الجمهور (3) . كما أن التشريعات الحديثة تعول غالبًا على هذا الرأي، فعلى سبيل المثال تقول الفقرة الثانية من المادة (94) من القانون المدني المصري: (ومع ذلك يتم العقد، ولو لم يصدر القبول فورًا
…
) (إلا أنه يجب أن لا يفوتنا الحكم الذي يحدد مدة إلزامية الإيجاب الوارد في نفس المادة وهو: (
…
فإن الموجب يتحلل من إيجابه إذا لم يصدر القبول فورًا.
ويتضح مما سبق، أن ارتباط الإيجاب بالقبول ليس ماديًّا بل هو حكمي (اعتباري) . أما اتحاد المجلس فهو – في التعاقد بين الحاضرين – مادي بحيث لا يتحقق اتحاد المجلس إلا بوحدة المكان (4) . إلا أن المؤلفين في الفقه الحنفي بخاصة – مع اعترافنا بدقتهم في تناول المسائل في إطار المفاهيم الفقهية – وهذا الموقف يقابله منهج (Begriffsjurisprudenz) من مناهج التفسير – قد غالوا في تصوير اتحاد المجلس تصويرًا ماديًّا يعبر الدكتور السنهوري عن موقفهم هذا بـ (الإغراق في المادية) انظر لعبارات المؤلفين الأحناف ولانتقادها: السنهوري (عبد الرزاق) ، مصادر الحق في الفقه الإسلامي/ دراسة مقارنة بالفقه الغربي، القاهرة، 1967م، 2/11-14. انظر في مجلس العقد ونتائجه – مقارنًا بين الفقه الإسلامي والفقه الوضعي -: الدريني، التراضي، ص286-299 انظر أيضًا الزحيلي، العقود المسماة، ص20-22، شلبي، التعريف، ص422-424، القره داغي، مبدأ الرضا، 2/1076-1077.وتجدر الإشارة إلى أن د. سوار قد قام ببحث يتسم بالدقة والإتقان يسلط الأضواء على مواقف مذاهب الفقه الإسلامي من نظرية مجلس العقد. انظر: سوار (محمد وحيد الدين) ، الشكل في الفقه الإسلامي 1405هـ/ 1985م، من منشورات معهد الإدارة العامة (المملكة العربية السعودية) ، ص138 وما بعدها. .
(1) ابن نجيم، البحر الرائق، 5/284؛ الحطاب، مواهب الجليل، 4/240 (هناك رأي آخر في الفقه المالكي، انظر: شلبي، المدخل، ص423، هامش1) ؛ البهوتي، كشاف القناع، 3/147-148.
(2)
النووي، المجموع، 9/169.
(3)
انظر مثلًا: شلبي، المدخل ص422-424؛ الدريني، التراضي، ص295-296؛ القره داغي، مبدأ الرضا، 2/1079.
(4)
سيتم تناول مسألة تطبيق أحكام التعاقد بين الحاضرين – من حيث الزمان – في التعاقد بواسطة التلفون – بالرغم من عدم حصول وحدة المكان فيه – تحت عنوان (4-) من هذا البحث.
ولنتمكن من الحكم بأن الارتباط (الذي هو حكمي كما أشرنا إليه سابقًا) بين الإيجاب والقبول قد تحقق، فإنه يجب أن تتوفر بعض الشروط في القبول. فالشرط الذي يحظى بأهمية كبيرة من وجهة نظر موضوعنا هو صدور القبول قبل سقوط الإيجاب. ولهذا ينبغي لنا أن نلقي نظرة عابرة إلى حالات سقوط الإيجاب، وهي (قبل صدور القبول) :
(أ) رجوع الموجب عن إيجابه.
(ب) رفض المخاطب للإيجاب.
(ج) وفاة الموجب أو فقد أهليته.
(د) وفاة المخاطب أو فقد أهليته.
(هـ) هلاك المعقود عليه أو تغييره.
ونظرًا لعدم اتصال الحالات الثلاث الأخيرة ببحثنا مباشرة ولئلا يتجاوز حجم البحث الحدّ المعقول ينظر في هذا الموضوع مثلًا: موسى (م. ي.) ، الأموال ونظرية العقد، ص262-263؛ الدريني، التراضي، ص278-281، 286-287؛ السنهوري، مصادر الحق، 2/16-17؛ محمصاني، النظرية العامة، 2/40-41؛ القره داغي، مبدأ الرضا، 2/1073. . سنكتفي بالإشارة إلى بعض النقاط الهامة بالنسبة للحالتين الأوليين فقط:
(أ) رجوع الموجب عن إيجابه:
إن رجوع الموجب عن إيجابه قبل صدور القبول يسقط الإيجاب. ويجب أن لا يغيب عن أذهاننا أن الرأي السائد في الفقه المالكي يقول بالصفة الإلزامية للإيجاب. أما اشتراط علم المخاطب بهذا الرجوع فقد أشرنا سابقًا (2-1-2) أن هناك رأيين يؤيد أحدهما (نظرية العلم) والآخر (نظرية الإعلان) في الفقه الحنفي.
فالرجوع عن الإيجاب نوعان:
(أأ) الرجوع الصريح: إذا رجع الموجب قبل صدور القبول عن إيجابه صراحة ولو في بعضه (1) بطل الإيجاب (2) .
(ب ب) الرجوع الضمني: لو ترك الموجب مجلس العقد قبل قبول الطرف الآخر وكذلك لو صدر من الموجب قول أو فعل يدل على الإعراض بطل الإيجاب (3) .
ومن جهة أخرى، فإن تكرار الإيجاب مع التبديل يعتبر إعراضًا ورجوعًا ضمنيًّا عن الإيجاب الأول، إلا أن الحنفية يعتبرون الإيجاب الثاني إيجابًا جديدًا (4) . والشافعية لا يعتدُّون به ويشترطون ألا يغير الموجب شيئًا مما تلفظ به إلى تمام الشق الآخر (5) ونرى أن قول الحنفية هو الراجح سواء من ناحية التعليل الفني أو من ناحية المقاصد والمبادئ الشرعية أي موافقته لما تقتضيه طبيعة المعاملات وجريان العادة في هذا الموضوع (6)
(1) ابن نجيم، البحر الرائق، 5/288؛ البهوتي، كشاف القناع، 3/148.
(2)
مجلة الأحكام العدلية، المادة: 184؛ البهوتي، كشاف القناع، 3/148.
(3)
مجلة الأحكام العدلية، المادة:183.
(4)
مجلة الأحكام العدلية، المادة 185. وبهذا الرأي أخذ القانون المدني العراقي في مادته:83.
(5)
الرملي، نهاية المحتاج، 3/382 نقلًا عن: الدريني، التراضي، ص276.
(6)
انظر أيضًا: الدريني، التراضي، ص276-277.
(ب) رفض المخاطب للإيجاب:
وهذا الرفض أيضًا نوعان:
(أأ) الرفض الصريح: يبطل مفعول الإيجاب بالإجماع إذا رفضه الطرف الثاني (1) . هل يشترط لبناء الحكم على هذا الرفض علم الموجب برفض الإيجاب؟
وللإجابة على هذا التساؤل نجد الدكتور الدريني أنه يشير أولًا إلى عدم تعرض الفقهاء لهذه المسألة صراحة ثم يحاول أن يتوصل إلى نتيجة بطريقة قياس (رفض الإيجاب) على (القبول)، حيث يقول (مشيرًا إلى الرأيين المتعلقين باشتراط أو عدم اشتراط سماع القبول من طرف الموجب لانعقاد العقد واللذين سنتناولهما بعد قريب تحت عنوان تحديد وقت انعقاد العقد) :
(وقد رأينا أن الرأي الراجح في التعاقد بين حاضرين هو اشتراط سماع القبول، وأن بعضهم لا يشترط هذا السماع وإنما يكتفي بسماع القابل نفسه. ومقتضى القول الأول أن الموجه إليه الإيجاب لو رفض ولم يسمعه الموجب ثم قبل وسمعه الموجب فإن العقد ينعقد، لأنه قد تحقق شرط الانعقاد وهو سماع القبول، ولأنهم يرون أن تحقق الكلام لا يكون إلا بسماع الغير. ومقتضى القول الثاني أنه لو رفض فإن الإيجاب يسقط ولو لم يسمعه الموجب لأنهم يرون تحقق الكلام بسماع نفسه ولو لم يسمعه الغير)(2) .
ولكننا لانرى مبررًا لقياس (رفض الإيجاب) على (القبول) بل نعتقد بأنه قياس مع الفارق، كما نرى أنه يجب ملاحظة رفض الإيجاب تعبيرًا متلقى. ونظرًا لأن أهمية هذه المسألة تتجلى في التعاقد بين الغائبين أكثر منه في التعاقد بين الحاضرين سنتناولها تحت عنوان (3-3-2) .
(ب ب) الرفض الضمني: يمكن أن يتحقق الرفض الضمني في أحكام مختلفة.
فالتغيير الواقع في الإيجاب في صالح الموجب وإنشاء القبول قد يعتبر رفضًا ضمنيًّا وإيجابًا جديدًا مبتدأ من طرف المخاطب كما يمكن اعتباره موافقة ضمنية. وقد أخذ الفقه الحنفي بالاعتبار الثاني (3) ، وأخذت بعض التشريعات الحديثة مثل القانون المدني المصري (في المادة 96) والقانون المدني السوري (المادة 97) بالاعتبار الأول وهذا ما يوافق ظاهر المذهب الشافعي. وكذلك عدت بعض القوانين أن الجواب المعلق بشرط أو بقيد بمثابة رفض للعرض مع اقتراح عرض جديد (المادة 182 من قانون الموجبات والعقود اللبناني) النووي، المجموع، 9/169-170؛ محمصاني، النظرية العامة، 2/41؛ موسى (م. ي.) ؛ الأموال ونظرية العقد، ص256؛ يقول د. الزحيلي:(وقد نص القانون الإماراتي (م.140) ؛ والأردني (م.99) على وجوب تطابق القبول للإيجاب ولم يجز الزيادة في الإيجاب
…
وهذا موافق لرأي الجمهور غير الحنفية) ، العقود المسماة، ص30. .
(1) القره داغي، مبدأ الرضا، 2/1073.
(2)
الدريني، التراضي، ص326-327.
(3)
مجلة الأحكام العدلية، المادة:178.
2-
3-2- تحديد وقت انعقاد العقد:
إن تحديد مكان انعقاد العقد في التعاقد بين الحاضرين لا يحظى بأهمية توجب دراسة تحديد مكان ووقت انعقاد العقد كل منها على حدة ولهذا سيقتصر حديثنا هنا على تحديد وقت انعقاد العقد.
إلا أنه يجدر بنا الإلمام بمسألة صدور الإيجاب والقبول في وقت واحد إلمامًا سريعًا قبل الانتقال إلى أساس الموضوع وذلك حفاظًا على وحدة الفكرة في هذا الموضوع.
لقد ورد في كتب الأحناف رأيان مختلفان في انعقاد العقد بالنسبة لحالة صدور الإيجاب والقبول بآن واحد: الرأي الأول يقول – حسب عبارة ابن نجيم -: (ولو صدر الإيجاب والقبول معًا صح البيع كما في التتارخانية) . (1) . أما الرأي الثاني – وهو المروي عن القهستاني – فيفهم منه أن العقد لا ينعقد في هذه الحالة (2) . ويرى شارح المجلة الأحكام العدلية علي حيدر أفندي أن المجلة اختارت الرأي السلبي في هذه المسألة (3) .
ويلاحظ أن الدكتور محمصاني يرى الرأي الإيجابي معقولًا يتفق ومبدأ الرضا في العقود إلا أنه يصف هذا الخلاف بأنه نظري في الواقع قائلًا: (لأنه يصعب بل يندر جدًّا أن يحصل الإيجاب والقبول بآن واحد
…
) (4) . ولكن يمكن القول بأن هذه المسألة تكتسب أهمية لا يستهان بها في يومنا هذا. لأن هذه الحالة يمكن تصورها في الواقع فيما إذا قام صاحبا مؤسستين تجاريتين أو النائبان الشرعيَّان لشركتين بتوقيع نسختي العقد بآنٍ واحد مثلًا، مع أن عملية التوقيع تبقى عبارة عن إكمال الشكليات في بعض الحالات نظرًا لتمام العقد في المرحلة التي سبقت هذه العملية. أما في المثال التالي يمكن تصور هذه المسألة بوضوح أكثر: إذا قام كاتب العدل بتحضير العقد وعرضه على كل من طرفي العقد ويسألهما هل يقبلان هذا العقد أم لا، فإذا كان رد كليهما بالقبول فإن العقد ينعقد بآن واحد (5) .
وبالرغم من أن بعض العلماء في الفقه الإسلامي يميلون إلى حصر جواز التعاقد بالكتابة في التعاقد بين الغائبين (6) . فإننا نرجح – إزاء ظروف وقتنا الحاضر – الرأي القائل بتجويز الكتابة في التعاقد بين الحاضرين أيضًا والرأي القائل بانعقاد العقد في وقت واحد، آخذين بعين الاعتبار آراء وتحاليل الفقهاء سواء في هذه المسألة أو مسألة إشارة وكتابة الأخرس وكذلك مسألة التعاطي.
(1) ابن نجيم، البحر الرائق، 5/288.
(2)
ابن عابدين (محمد أمين) ، حاشية منحة الخالق على البحر الرائق لابن نجيم، بيروت، ط. دار المعرفة بالأوفست، 5/288.
(3)
علي حيدر أفندي، درر الحكام شرح مجلة الأحكام، إستانبول، 1313هـ. (باللغة العثمانية)، المادة:(167) 1/457.
(4)
محمصاني، النظرية العامة، 2/38.
(5)
لبعض التطبيقات في هذا الموضوع في الوقت الحاضر انظر: ENGEL (Peirre) ، Traite des Obligations en Droit Suisse، Neuchatel، 1973، P.148 نقلًا عن: EREN (Fikret) ، Borclar، Hukuku/Genel Hukumler، Ankara، 1985، p. 286.
(6)
انظر للآراء في هذا الموضوع ولأدلتها ومناقشتها: القره داغي، مبدأ الرضا، 2/941-949 وينظر لوجهة نظر الفقهاء الشافعية خاصة: النووي، المجموع، 9/167.
إذا قلنا بأن مجرد قبول المخاطب يكفي لانعقاد العقد نكون قد تبنينا (نظرية الإعلان) المعروفة في دراسات نظرية العقد. أما إذا لم نكتف بهذا واشترطنا اطلاع الموجب على القبول فيعني هذا أننا نرجح (نظرية القبول)(1) .
ونجد الدكتور سوار – مشكورًا – قد حقق دراسة قيمة في هذا الموضوع يسترشد ويستنير بها الباحث لمعرفة جواب هذه القضية من واقع الفقه الإسلامي. وقد توصل د. سوار في بحثه هذا إلى النتائج التالية (باختصار شديد) :
(أ) الفقه الحنفي: هناك رأيان في الفقه الحنفي:
(أأ) نظرية العلم: يعتبر أصحاب هذه النظرية أن القبول هو (تعبير متلقي) . وعلى هذا فإن وقت انعقاد العقد هو وقت علم الموجب بالقبول. وهذا الرأي – وأول من قال به أو نصر البلخي عام 305هجرية – هو الرأي السائد في الفقه الحنفي (2) .
(ب ب) نظرية الإعلان: وحسب أصحاب هذه النظرية أن القبول ليس تعبيرًا متلقًّى بل هو (تعبير ملقي) . وعلى هذا ينعقد العقد بمجرد إعلان القبول (3) .
(ب) المذهب الشافعي: يفترق المذهب الشافعي عن المذهب الحنفي في صدد تكون العقود بين حاضرين افترقا أساسيًا فبينما يذهب الرأي السائد في المذهب الحنفي إلى تطلب الإعلام المنشئ في كل من الإيجاب والقبول، ويأخذ بنظرية القبول، يلاحظ أن المذهب الشافعي يقرر انتفاء ضرورة الإعلام في التعبيرين التعاقدين، ويأخذ بنظرية إعلان القبول. ذلك أن العقد ينعقد في المذهب الشافعي بمجرد صدور القبول وإن لم يكن مسموعًا من الموجب. (إلا أنه يلاحظ أيضًا أن المذهب الشافعي قد تشدد في تطلب إظهار التعبير إظهارًا كافيًا بحيث يسمعه من هو بقرب صاحب التعبير عادة. ولعل المذهب الشافعي قد توخى من اشتراطه لسماع القريب من صاحب التعبير تأمين وسيلة للإثبات تحول دون نكران صاحب التعبير لتعبيره)(4) .
(1) بما أن الأهمية التي تحظى بها هذه النظريات – باعتبار نتائجها العملية – تتبلور في التعاقد بين الغائبين بوضوح أكثر، ستتم دراستها تحت عنوان (3-3-3) .
(2)
لا يشترط بعض أصحاب هذا الرأي السماع في الإيجاب والقبول في العقود كلها، فمنهم من يشترطه في النكاح ولا يشترطه في البيع مثلًا، انظر لعرض تاريخي لهذه الآراء: سوار، التعبير، ص602 وما بعدها (الملحق رقم1) .
(3)
انظر لتحليل كل من هذين الرأيين ومقارنتهما: سوار، التعبير، ص112-117.
(4)
سوار، التعبير، ص117-118.
وبعد عرض هذه الآراء ينتقد د. سوار اعتبار الدكتور السنهوري بأن أخذ الفقه الإسلامي بنظرية العلم في التعاقد بين حاضرين هو من الأمور المسلمة (1) ، مشيرًا إلى أن هذا بالتأكيد يتعارض مع صراحة النصوص الفقهية التي ذكرها سابقًا (2) .
وبالرغم من أن بحث د. سوار يتسم بالدقة والإتقان فإننا لا نعتقد أن كلام السنهوري الآنف الإشارة يتعارض مع ما ورد في الكتب الفقهية تعارضًا تامًّا لأن الرأي الثاني الذي ذكره د. سوار بالنسبة للفقه الحنفي لا يعتبر رأيا احتل مكانًا مرموقًا في الكتب الفقهية المعتبرة وترقى إلى مرتبة نظرية حقوقية بحيث يدافع عنه ويؤيد بأدلة بارزة فيها. وحين يشير د. سوار إلى وجود عدد كبير من الكتب المعتبرة في الفقه الحنفي مما يؤيد هذا الرأي، فإنه يعول على الدليل السلبي أي على عدم تصريح اشتراط هذه الكتب لشرط السماع (3) . ومن جهة أخرى فإن الرأي القائل باشتراط السماع (العلم) استقر في الكتب المعتبرة للفقه الحنفي بحيث تم تأييده بعبارة (إجماعًا)(4) في كثير منها (5) . أما ما ذكره د. سوار بالنسبة للفقه الشافعي، فإن الرأي الوارد في النصوص المذكورة في كتابه وكذلك ما توصل إليه من نتائج معولًا على هذه النصوص يمكن أن يناقش مع بعض الجوانب (6)(والحري بنا أن نذكر هنا أن د. سوار لم يكن قد بنى النتيجة المبنية للفقه الشافعي على دراسات وتحقيقات تضم عرضًا تاريخيًّا وتهدف إلى إظهار مسيرة تطور الآراء كما فعل ذلك بالنسبة للفقه الحنفي) . أضف إلى ذلك أن تبنى حكم خيار المجلس، يحط من أهمية دراسة هذه المسألة في الفقه الشافعي من ناحية التعاقد بين الحاضرين إلى حد كبير.
وإزاء التوضيحات السابقة يمكن القول بأن الرأي السائد في الفقه الإسلامي هو رجحان نظرية العلم في التعاقد بين الحاضرين يعبر عن هذا الخصوص بعض المؤلفين بصورة مطلقة (مثلًا: محمصاني، النظرية العامة، 2/41)، وبعضهم بأنه (من الأمور المسلمة) (مثلًا: السنهوري، مصادر الحق، 2/55) ، وبعضهم بأنه (الرأي السائد في الفقه الإسلامي) (مثلًا: الدريني، التراضي، ص287) ، والبعض الآخر بأنه (الرأي السائد في الفقه الحنفي) (مثلًا: سوار، التعبير، ص111 وما بعدها) - كما سبق-. مع مراعاة أن العلم يعتبر قد تحقق في الحالات التي يمكن فيها الحكم بأن العلم قد تحقق من خلال النظرة الموضوعية هذه النقطة تحظى بأهمية عملية في التعاقد بين الغائبين- كما سيأتي -. لقد ورد في كتب كثيرة للأحناف وكذلك للشافعية عبارات تشير إلى هذه النقطة مثل عبارة:(فإن سمع أهل المجلس كلام المشتري والبائع يقول لم أسمع ولا وقر في أذنه لم يصدق قضاء) . انظر مثلًا: ابن نجيم، البحر الرائق، 5/288، البجيرمي (سليمان) ، بجيرمي علي الخطيب، بيروت 1398هـ/1978م بالأوفست، 3/10. .
إذن، يمكن – عمليًا – تطبيق قاعدة إمكانية الرجوع عن القبول إلى غاية وقت انعقاد العقد التي أشرنا إليها تحت عنوان (القبول) ، إذا تم التعويل على نظرية العلم، أي أن المخاطب يمكن له أن يسترجع قبوله قبل سماع القبول من طرف الموجب.
***
(1) انظر السنهوري، مصادر الحق، 2/55 (وقد ذكر سوار مكان هذا الكلام للسنهوري بأنه ورد في 4/56. ولعل هناك خطأ مطبعيًّا) .
(2)
سوار، التعبير، ص118 هامش5.
(3)
انظر: سوار، التعبير، ص115 هامش 5.
(4)
ليس غائبًا عن ذهننا أن مفهوم (الإجماع) في الكتب الفقهية للأحناف يستخدم –غالبًا – في معنى (اتفاق علماء المذهب) وأن هذا المفهوم في كتبهم لا يعكس في بعض الأحيان الاتفاق التام حتى بين علماء المذهب) . ولكننا أردنا هنا أن نشير إلى مدى اعتمادهم على الرأي المذكور.
(5)
ينظر مثلًا: ابن نجيم، البحر الرائق، 5/288 (ويلاحظ أن هناك عبارة تشترط (الفهم) أيضًا في هذا المرجع:(وشرط في الحاوي القدسي السماع والفهم) . انظر للإحالة على ستة مراجع بهذا الخصوص: سوار، التعبير، ص610 هامش4.
(6)
انظر: الدريني، التراضي، ص313-316.
-3-
مسائل التعاقد بين الغائبين يستخدم د. السنهوري (عبد الرزاق أحمد) عبارة التعاقد بالمراسلة أو فيما بين الغائبين في مقال: contrat par correspondence، ou entre absents نظرية العقد (الجزء الأول من النظرية العامة للالتزامات) ، بيروت، ط. المجمع العلمي العربي الإسلامي، (الطبعة الأساسية: مطبعة دار الكتب المصرية، 1353هـ/ 1934م) ص 288. ومن جهة أخرى يقول د. محمصاني- حينما ينتقد كلمة (المراسلة) الواردة في المادة 184 من قانون الموجبات والعقود اللبناني-:(الأصح أن يقال بالمكاتبة، لأن المراسلة هي المخاطبة بواسطة الرسول، كما جاء في الإصلاح العربي) ، 2/66 هامش4.
التي لها صلة بموضوع البحث وأحكامها
3-
1- الإيجاب:
3-
1-1- ماهية الإيجاب:
يعد الإيجاب التعاقد بين الغائبين (تعبيرًا متلقًّى)(1) في الفقه الحنفي إجماعًا (2) . ويتم تصوير هذا الأمر في كتب الأحناف كالتالي: لو قال رجل إني بعت متاعي هذا من فلان الغائب بكذا ثم بلغه هذا الخبر- دون إعلان الموجب إرادته للتبليغ- فقَبِل لا ينعقد العقد، ولكن إذا أعلن الموجب عن إرادته للتبليغ ثم بلغ الخبر للطرف الآخر فَقَبِل ينعقد سواء قام بالتبليغ من أمر به أو غيره (3) .
أما الشافعية فلا يشترطون إعلان الرضا بالتبليغ ويقولون بأن العقد ينعقد إذا بلغ خبر الإيجاب الطرف الآخر فقبل، وإن لم يكن الموجب قد أعلن عن إرادته للتبليغ (4)
ويلاحظ أن الدكتور الدريني فاتته أهمية التفرقة بين مفهومي (التعبير الملقي) و (التعبير المتلقي) حين انتقد الرأي الحنفي وتعجب منه، إذ يقول:(وأرجح قول الشافعية.. ولا أرى وجهًا لاشتراط الأمر بالتبليغ، لأن البائع إذا كان قد أعلن عن رضاه بالبيع لشخص معين فما الفرق بين أن يبلغه هذا الإيجاب بأمر الموجب بالتبليغ أو بغير أمره، وبخاصة أن الحنفية أجازوا أن يقوم بالتبيلغ المأمور به أو غيره؟)(5) وكذلك يبدو أن الدكتور الإبراهيم لم ينتبه إلى هذه النقطة الدقيقة أثناء التعبير عن ترجيحه للرأي الشافعي الإبراهيم (محمد عقلة) ، (حكم إجراء العقود بوسائل الاتصال الحديثة/ الهاتف- البرق- التلكس في ضوء الشريعة والقانون، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية (تصدر عن جامعة الكويت- كلية الشريعة والدراسات الإسلامية)، السنة: 3، العدد 5 شوال، 1406هـ/ يوليو 1986م. ص115. .
وقد سبق أن أشرنا إليه تحت عنوان (2-1-1) أن الرأي القائل بتوجيه الإيجاب إلى الجمهور هو الراجح، ونكتفي هنا بأن هذا الرأي هو الأوفق لحاجات الناس وطبيعة جريان المعاملات في الوقت الحاضر بالنسبة للتعاقد بين الغائبين أيضًا.
كما سبق أن بينا في التعاقد بين الحاضرين (2-1-1) أن دور الأجهزة الأتوماتيكية في إجراء بعض العقود يتمثل في إقامة الجهاز مقام أحد طرفي العقد (أو كليهما حسب الأوضاع المختلفة) . والذي ينبغي لنا أن نضيفه في هذا المقام هو أن هذه الطريقة يمكن استخدامها في التعاقد بين الغائبين أيضًا. وذلك إذا كان تقديم بعض الخدمات بين الغائبين عن طريق الجهاز الذي تستعمله المؤسسة التي تكون أحد طرفي العقد وليس عن طريق استخدام موظف ينوب عن هذه المؤسسة نحو بعض الخدمات التي تقدمها مؤسسات البريد والمواصلات.
(1) انظر لهذا المفهوم (2-1-1) وهامش17.
(2)
السنهوري، مصادر الحق، 2/55، سوار، التعبير، ص 147.
(3)
الكاساني، بدائع الصنائع، 5/139؛ ابن الهمام (كمال الدين) ، فتح القدير (شرح الهداية) ، بيروت، ط. دار إحياء التراث العربي بالأوفست، 5/462.
(4)
النووي، المجموع، 9/167.
(5)
الدريني، التراضي، ص 302-303.
وهذه الطريقة يمكن متابعتها في عقد البيع وأمثاله أيضًا. وليتجلى الفرق بين الجهاز القائم مقام أحد الطرفين وبين وسائل الاتصال يمكن إعطاء المثال الآتي: لنفرض أن بائع بعض المواد الضرورية للمنزل (مثل أنابيب الغاز المستعملة في البيوت) قام بتركيب جهاز التسجيل بهاتفه المخصص لهذا الأمر والمعروف رقمه من قبل الجمهور. وإذا دق جرس الهاتف المسجل فإنه يذيع على مسامع الطرف الآخر عبارات ومعلومات قد سجلها عليه صاحبه من قبل ويمكن أن يظهر للسامع هذه العبارات: (نحن مؤسسة.. نتعهد بإرسال السلع التالية بالكميات والأسعار التالية..) بحيث يتضمن هذا التعهد جميع الشروط اللازم توفرها في الإيجاب. فإذا أجاب الشخص الذي يرفع سماعة الهاتف في الطرف المقابل بالقبول ينعقد العقد. (وإذا تشددنا في التفرقة بين (الإيجاب) و (الدعوة إلى الإيجاب) نقول بأن الكلام المذاع في الجهاز هو الدعوة إلى الإيجاب، وكلام الشخص الذي يرفع السماعة في الطرف المقابل هو الإيجاب، وتنفيذ صاحب الجهاز موجب العقد هو القبول. ومع هذا فإن التعبير عن إرادة الشخص الهاتف المسجل في الجهاز يعتبر إيجابًا وبالتالي يكون أحد شطري العقد. إذن، فإن الجهاز الذي يصلح لتسجيل تعبير الموجب يمكن اعتباره صالحًا لتسجيل تعبير القابل أيضًا، وفي كلتا الحالتين) ، فإن النقطة التي يجب الانتباه إليها هنا هي أن دور التلفون عبارة عن توفير الاتصال بين العاقدين الغائبين، أما الجهاز المسجل فهو يقوم مقام أحد الطرفين.
3-
1-2- اعتبار الإيجاب ملزمًا أو غير ملزم:
لا نصادف في الفقه الإسلامي بتفرقة بين التعاقد بين الحاضرين والتعاقد بين الغائبين من ناحية إلزامية الإيجاب أو عدم إلزاميته. وعلى هذا فإن الرأي السائد في الفقه الإسلامي هو أن للموجب حق الرجوع عن إيجابه قبل صدور القبول من المخاطب في التعاقد بين الغائبين أيضًا كما هو الشأن في التعاقد بين الحاضرين. ولكن فقهاء المالكية يرون أن الموجب لا يصح رجوعه قبل انتهاء مدة معقولة- حسن العرف- تتيح فرصة لتأمل المتخاطب فيه.
أما في اشتراط أو عدم اشتراط علم المخاطب بالرجوع عن الإيجاب لترتيب الحكم على هذا الرجوع فإن الفقه الحنفي يتفق على رأي واحد- على خلاف ماورد بالنسبة للتعاقد بين الحاضرين- وهو: أن الرجوع عن الإيجاب في التعاقد بين الغائبين لا يشترط فيه علم المخاطب به، وبعبارة أخرى فإنه يعد تعبيرًا ملقًى وإن الفقه الحنفي قد انحاز في هذه المسألة إلى نظرية الإعلان محمصاني، النظرية العامة، 2/64؛ سوار، التعبير، ص147 (وقد جاء في كتاب د. سوار- ص108- أن الرجوع عن الإيجاب في التعاقد بين الغائبين (تعبير متلقي) بالإجماع. ويبدو أن هناك خطأ مطبعيًّا- مع أنه لم يشر إلى ذلك في جدول الأغلاط المطبعية) . ويعبِّر المؤلفون الأحناف عن هذا الحكم بالعبارة التالية وأمثالها:(ويصح رجوع الكاتب والمرسل عن الإيجاب الذي كتبه وأرسله قبل بلوغ الآخر وقبوله سواء علم الآخر أو لم يعلم حتى لو قبل الآخر بعد ذلك لا يتم البيع)(1) .
ويختلف الأمر في التشريع الوضعي باختلاف وضع الإيجاب، حيث ينقسم الإيجاب أولًا إلى:
1-
إيجاب موجود فعلًا، وهو الإيجاب الذي صدر من الموجب ولما يتصل بعلم المخاطب. وهذا الإيجاب يجوز العدول عنه.
2-
وإيجاب موجود قانونًا، وهو ذلك الإيجاب الذي اتصل بعلم المخاطب.
وهذا ينقسم أيضًا إلى:
(أ) إيجاب ملزم، وهو الذي يلتزم صاحبه أن يبقى عليه مدة يحددها هو، أو يحددها القانون أو العرف. وهذا الإيجاب لا يجوز الرجوع فيه كما لم يجز العدول عنه.
(1) ابن الهمام، فتح القدير، 5/462؛ ابن نجيم، البحر الرائق، 5/290.
(ب) وإيجاب غير ملزم، وهو الذي لا يلتزم صاحبه البقاء عليه، وفي هذا يجوز الرجوع وإن امتنع العدول عنه السنهوري (عبد الرزاق أحمد) ، الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، بيروت، ط. دار إحياء التراث العربي، 1/182-184؛ موسى (م. ي.) ، الأموال ونظرية العقد، ص262-263.TEKINAY ، BORCLAR، HUKUKU ، P. 89-90
ويشرح الدكتور السنهوري الفرق الأساسي بين الفقه الإسلامي والتشريع الوضعي في هذا الموضوع بكلماته التالية: (والظاهر أن العقد في الفقه الإسلامي ينبني على توافق الإرادتين دون تحفظ، فهو رضائي إلى حد جاوز فيه القوانين التي تأخذ برضائية العقد. ومما يدل على ذلك أن الموجب لو أرسل إيجابه في كتاب أو مع رسول، ثم عدل عن هذا الإيجاب، دون أن يعلم الطرف الآخر، وقبل هذا بعد العدول، فإن العقد لا يتم لعدم توافق الإرادتين وقت صدور القبول. وقد علمنا أن القوانين الحديثة تجعل الإيجاب قائمًا قيامًا حكميًّا حتى لو عدل عنه الموجب ما دام لم يصل هذا العدول قبل أو مع وصول الإيجاب ، فلو قبل الطرف الآخر إيجابًا، عدل عنه الموجب، ولكنه (أي الطرف الآخر) لم يعلم بهذا العدول، فإن العقد يتم بالرغم من ذلك، وينبني على الثقة المشروعة لا على توافق الإرادتين) (1) .
ويعبر الدكتور الدريني عما توصل إليه من نتائج في هذا الموضوع- ونحن نشاركه في رأيه هذا – كالتالي: (وأما عدم اشتراط علم الطرف الآخر برجوع الموجب فإن فيه ضررًا بهذا الطرف الآخر، لأنه يكون قد رتب أموره على هذه الصفقة وقد يكون رفض غيرها. وقد رأينا أن أبا حنيفة يشترط في الفسخ في الخيار علم الآخر (2) لأن هذا الآخر قد يعتمد تمام البيع فلا يطلب لسلعته مشتريًا وقد تكون المدة أيام رواج بيع المبيع وفي ذلك ضرر لا يخفى. فينبغي من أجل دفع الضرر اشتراط علم الطرف الآخر برجوع الموجب في التعاقد بين غائبين كما في التعاقد بين حاضرين عند من يشترطون العلم بالرجوع) (3) .
(وستتبلور أهمية اشتراط علم المخاطب بالرجوع عن الإيجاب من خلال تصويرنا لمسألة الإيجاب المحدد بمدة معينة أدناه) .
وينبغي لنا أن نذكر هنا قضية إلزامية الإيجاب أو عدم إلزاميته إذا حدد الموجب للطرف الآخر مدة يقبل الإيجاب فيها أو برفضه. وقد سبق أن أشرنا إلى هذه القضية بالنسبة للتعاقد بين الحاضرين تحت عنوان (2-1-2) ، وبالنظر إلى شرحنا في هذا الموضوع يتبين لنا أنه يمكن القول بأن المبادئ السائدة في فقه الالتزامات المالكي تقتضي اعتبار مثل هذا الإيجاب ملزمًا طيلة المدة المحددة كما يمكن القول بأن هذا الرأي هو الأوفق لمبادئ الفقه الإسلامي بصفة عامة.
(1) السنهوري، نظرية العقد، ص302.
(2)
إن الفسخ بخيار العيب من التعبيرات المتلقاة المجمع عليها في الفقه الحنفي، انظر: سوار، التعبير، ص 147
(3)
الدريني، التراضي، ص323-324، 325-326.
وتتبلور أهمية هذه المسألة في التعاقد بين الغائبين، وخاصة في ظروف الوقت الحاضر. بناء على هذه الأهمية ينبغي لنا أن نقف أمام هذه المسألة موضحين الأمور التالية: إذا حدد الموجب للطرف الآخر مدة اعتبرها من مصلحة نفسه بعد تخطيط أموره وبإرادته الحرة، وقام الطرف الآخر معتمدًا على هذا التعهد بتحضير أموره لقبول هذا الإيجاب في إطار خطة مرتبطة بالمدة المتاحة له (وفي هذه الفترة قد يقوم الطرف الموجه إليه الإيجاب باستخدام كل الوسائل المتاحة أمامه لكي يلبي هذا الإيجاب وقد يتضرر هذا الطرف من جراء عدم انعقاد العقد نتيجة للتضحيات الجسيمة التي قدمها بهذا الخصوص) ثم قبل وأرسل خبر القبول إلى الموجب، وبعد زمن قصير وصل إليه خبر الرجوع عن الإيجاب الذي تم صدوره قبل صدور القبول أو وصل خبر الرجوع قبيل صدور القبول وتم القبول بعد هذا، فهل ينبغي لنا أن نقول بأن العقد لا ينعقد لأن الرجوع عن الإيجاب قد صدر قبل صدور القبول ولأن توافق الإرادتين لم يتحقق مهما يكن مستوى الضرر الذي لحق بالطرف الآخر؟ أم أن نقول بأن العقد ينعقد لأن الرجوع عن الإيجاب ليس من حق الموجب في هذه الفترة أي أنه صدر عن شخص لا يعتبر في نظر القانون ذا صلاحية في هذا الخصوص، وبالتالي يعتبر الإيجاب قائمًا حكمًا في مثل هذه الحالة؟
ونرى في هذه المسألة أن الحل الأول بالرغم من كونه مبنيًّا على منطق فقهي رصين فإن الحل الثاني هو الأوفق لمبادئ الفقه الإسلامي سواء من ناحية الشكل أو من ناحية المقاصد وإليك إيضاح ذلك:
أولًا: من ناحية الشكل: وكما بينا تحت عنوان (2-3-1) أن ارتباط الإيجاب بالقبول حكمي وليس حقيقيًّا. وأما في التعاقد بين الغائبين فإن اتحاد المجلس أيضًا حكمي وليس حقيقيًّا بالإضافة إلى ذلك. وإن هذا الموقف المتسامح الذي يتضمن التنازل عن بعض ما يقتضيه القياس (أي القاعدة العامة) بخصوص شكل انعقاد العقد والذي اتفق عليه معظم الفقهاء المسلمين يستهدف في حقيقة الأمر غاية مقصودة ولا يستند إلى مجرد فكرة (الشكل)(1) ويهدف هذا الموقف- أول ما يهدف- إلى إتاحة فرصة القيام بالعقد أي (سد الحاجة) أثناء قبول (الحُكمِيَّة) في كل من الحالتين السابقتين. وإزاء هذا، هل لا تكون اعتبار الإيجاب وخاصة الإيجاب المحدد بمدة معينة- وهو الذي نحن بصدده قائمًا حكميًّا إلى وقت انتهاء هذه المدة من مستلزمات الفكرة نفسها؟ وبعبارة أخرى، هل طريقة التعاقد بين الغائبين تملك حظًّا في حيز التطبيق- خاصة في ظروف وقتنا الحاضر- وهل تتحقق الغاية الآنفة الإشارة (وهي سد الحاجة) إذا لم نقل بقيام الإيجاب حكميًّا في هذه الحالة؟
ثانيًا: المقاصد العامة للتشريع: إذا قمنا بتحليل مصلحة كل من الطرفين في هذه القضية نجد أن إعطاء حق الرجوع المطلق للموجب الذي حدد إيجابه بإرادته المنفردة بمدة معينة (أي للشخص الذي تعهد أمرا معينًا إزاء آخر) هو- في التحليل الصحيح- عبارة عن (جلب المنفعة) . أما تقييد هذا الحق باشتراط انتهاء المدة المحددة فهو- في التحليل الصريح- عبارة عن (درء المفسدة) . وحسب القاعدة الكلية المقررة في الفقه الإسلامي إن درء المفسدة أولى من جلب المصلحة.
أما إذا لم يحدد الموجب ميعادًا للقبول أو إذا لم تدل الظروف أو طبيعة المعاملة على التزام الموجب إيجابه مدة معينة، فإن مبادئ الفقه الإسلامي تقتضي الاعتراف بحق الرجوع ما لم يصدر القبول كما ورد في الفقه الحنفي.
(1) يراجع في تقييم موضوع (الشكل) من وجهة نظر الفقه الإسلامي: البحث القيم للدكتور سوار بهذا العنوان، المذكور في الهامش رقم 50 من هذا البحث.
وهناك نوع آخر للإيجاب وهو ذلك العرض الذي يتضمن قيدًا احترازيًّا يهدف إلى أن الموجب سيظل حرًّا في الالتزام بالعقد. وينبغي اعتبار هذا العرض عبارة عن (الدعوة إلى الإيجاب) ولا يمكن وصفه بأنه (إيجاب) في حقيقة الأمر. أما إذا قصد الموجب من وراء هذا القيد أن يحتفظ بحق خيار الرجوع عن الإيجاب ريثما يصل إليه خبر القبول وكان هذا المقصد يفهم من ذلك القيد صراحة، فتمتد مدة حق الرجوع عن الإيجاب إلى ما بعد صدور القبول خلافًا للقاعدة واستنادًا إلى اتفاق خاص (1) ولكن ليس من اليسير التوفيق بين هذا القيد وبين الفكرة الأساسية التي تعتمد عليها مؤسسة العقد، ولهذا فإن الطريقة السليمة هي اعتبار مثل هذا العرض (دعوة إلى الإيجاب) وليس (إيجابًا) كما أشار إلى ذلك عدد من الحقوقيين (2) .
وقد نصت المادة (15) من اتفاق فيينا على أن الإيجاب يكون ساري المفعول ابتداء من وصوله إلى الخاطب، وأن الإيجاب يمكن سحبه-ولو كان إيجابًا غير قابل العدول عنه- بشرط أن يصل خبر السحب إلى المخاطب في نفس الوقت الذي وصل فيه الإيجاب أو قبله.
ونصت المادة (16) من الاتفاق نفسه على أن الإيجاب يمكن العدول عنه حتى ينعقد العقد وذلك بشرط أن يصل هذا العدول إلى المخاطب قبل إرساله للقبول. ومع ذلك فإن الإيجاب- حسب الفقرة الثانية من المادة- لا يجوز العدول عنه:
(أ) إذا انطوى الإيجاب على أنه غير قابل العدول عنه لصاحبه إما بتحديد مدة معينة للقبول وإما بطريقة أخرى.
(ب) إذا كان من المعقول أن يلاحظ المخاطب الإيجاب غير قابل العدول عنه وإذا قام بتنفيذ العقد.
3-
2- القبول
لا نصادف باختلاف الحكم في التعاقد بين الحاضرين والتعاقد بين الغائبين من ناحية خيار القبول في الفقه الإسلامي، أي أن الطرف الموجب إليه الإيجاب مخير بين قبوله ورده.
وقد سبق أن أشرنا إليه في التعاقد بين الحاضرين أن الحالات التي تعد في إطار (القبول الضمني) لا ينبغي تصورها كان المخاطب أصبح ملزمًا بالقبول. ومن الواضح أن مثل هذه الحالات تجد مجالًا أوسع في التعاقد بين الغائبين.
(1) انظر FYZIOGLU، Borclar، ukuku vol.1، P.82-83
(2)
von Tuhr، Borclar، ukuku، (Edege trc) ، Istanbul، 1952 1/191 نقلًا عن: FYZIOGLU، Borclar، ukuku vol.1، P.82
وفي اشتراط صدور القبول من شخص معين أو عدم اشتراط يجب مراعاة ما أوردناه من التوضيحات في التعاقد بين الحاضرين أيضًا.
أما إمكانية الرجوع عن القبول إلى غاية انعقاد العقد على الصعيد العملي فتتعين حسب اعتبار انعقاد العقد بمجرد صدور القبول أو عدم انعقاده أي حسب اعتبار (القبول) تعبيرًا متلقًّى أو تعبيرا ملقى. وسنتناول هذه القضية-وفق ما جرينا عليه في التعاقد بين الحاضرين- تحت عنوان (3-3-3) .
وهناك مسألة هامة أخرى تتعلق (بالقبول) في التعاقد بين الغائبين وهي مسألة تحديد وقت القبول بوقت وصول الإيجاب أو عدم تحديده به، وهذه المسألة أيضًا لما لها من صلة وثيقة بمجلس العقد سنتناولها تحت عنوان (3-3-1) .
3-
3- ارتباط الإيجاب بالقبول (مجلس العقد)، وتحديد وقت ومكان انعقاد العقد:
لقد سبق أن بينا- تحت عنوان (2-3-1) أن ارتباط الإيجاب بالقبول حكمي بالنسبة للتعاقد بين الحاضرين ولكن اتحاد المجلس فيه يتم تصويره عند الفقهاء الأحناف خاصة انطلاقًا من منطلق مادي. أما في التعاقد بين الغائبين فإن اتحاد المجلس أيضًا حكمي بحيث يعتبر حكمًا أن الرسول أو الكتاب ناقل لإرادة الموجب ويعتبر كأن الموجب حضر بنفسه في مجلس العقد (1) .
ولن نتعرض تحت هذا العنوان إلا للمسائل الأربع الآتية التي لها صلة وثيقة بموضوعنا:
1-
تحديد وقت القبول بوقت وصول الإيجاب أو عدم تحديده به.
2-
اشتراط أو عدم اشتراط علم الموجب برفض الإيجاب لاعتبار الإيجاب ساقطًا.
3-
تحديد وقت انعقاد العقد.
4-
تحديد مكان انعقاد العقد.
3-
3-1- تحديد وقت القبول بوقت وصول الإيجاب أو عدم تحديده به:
لقد تناولت الكتب الفقهية موضوع التعاقد بين الغائبين في إطار طريقتين رئيسيتين وهما: (أ) الكتابة، (ب) الرسالة. وجمعت بعض الكتب هاتين الطريقتين في حكم واحد وفرق بعضهما بينهما من ناحية الحكم. وليتبين لنا الفرق بينهما سنتناولهما على حدة:
(أ) الكتابة:
لقد جاء في معظم الكتب الفقهية للأحناف أن مكان بلوغ الكتاب وأداء الرسالة يعتبر مجلس العقد وإن العقد يتم إذا اتصل به القبول في ذلك المكان (2) .ولم تتطرق تلك الكتب إلى حالة في أغلب الأحيان: وهي حالة عدم وقوف المرسل إليه موقفًا حاسمًا من الإيجاب في مجلس بلوغ الكتاب ثم قراءته للكتاب في مجلس آخر وقبوله للإيجاب. ولكن ظاهر هذه العبارات تدل على أن الإيجاب يسقط بانفضاض مجلس بلوغ الكتاب (3) .
(1)(وهذا لأن الرسول ناقل فلما قَبِل اتصل لفظه الموجب حكمًا) ابن الهمام فتح القدير، 5/462؛ (فكأنه حضر بنفسه) الكاساني، بدائع الصنائع، 5/138. يراجع في هذا الموضوع: الهامش رقم 50 من هذا البحث وما ذكر فيه من مراجع.
(2)
ينظر مثلًا: المرغيناني، الهداية، 5/411؛ الكاساني، بدائع الصنائع، 5/138؛ ابن الهمام، فتح القدير، 5/462.
(3)
في نفس المعنى انظر مثلًا: الدريني، التراضي، ص303.
ومن جهة أخرى، يشار في بعض الكتب إلى رأي ذكره شيخ الإسلام جواهر زاده في مبسوطه- بعد أن قال (الكتاب والخطاب سواء إلا في فصل واحد) - وهو أن المرأة إذا بلغها الكتاب وقرأته ولم تزوج نفسها منه في المجلس الذي قرأت الكتاب ثم زوجت نفسها في مجلس آخر بين يدي الشهود وقد سمعوا كلامها وما في الكتاب يصح النكاح، لأن الغائب إنما صار خاطبًا لها بالكتاب، والكتاب باق في المجلس الثاني بمنزلة ما لو تكرر الخطاب من الحاضر في مجلس آخر (1) وبعد ذكر هذا الرأي يقول ابن عابدين:(وظاهره أن البيع كذلك وهو خلاف ظاهر الهداية فتأمل)(2) . ويميل بهذا الكلام إلى أن الإيجاب بالنسبة لعقد البيع (وأمثاله) أيضًا لا يسقط بانفضاض مجلس بلوغ الكتاب ويمكن أن يتم العقد بقراءة الكتاب نفسه في مجلس آخر.
ويؤيد الأستاذ على الخفيف رأي ابن عابدين ويقول بأن المخاطب يمكنه أن يقبل الإيجاب في أي وقت- ما لم يرفضه – (حتى بدون قراءة الكتاب مرة جديدة) . إذ أن الإيجاب قائم في رأيه بقيام الكتاب (3) .
ولكن الأستاذ أبو زهرة يرى أن قياس البيع على النكاح قياس مع الفارق، لأن النكاح يحتاج إلى شهود ولا يلزم أن يكونوا حاضرين وقت وصول الكتاب فيصح أن ينتظر إلى مجلس الشهود بخلاف البيع فإنه لا يحتاج إلى شهود (4) .
ويرى د. م.ي. موسى ود. الدريني عدم تجدد الإيجاب بالكتابة في مجلس آخر فيما إذا لم يصدر القبول في مجلس بلوغ الكتاب (5) .
وإذا انطلقنا من منطلق عدم إلزامية الإيجاب- وهذا هو الحكم المقرر في الفقه الحنفي- ينبغي اعتبار ما يفهم من ظاهر كتب الأحناف وجيهًا أي يناسب القول بأن الإيجاب يسقط فيما إذا لم يصدر القبول في مجلس بلوغ الكتاب. وخاصة إذا وضعنا نصب أعيينا تطبيقات العهود القديمة في هذا الموضوع تتبين هذه الوجاهة بجلاء، حيث إن حامل الكتاب يأتي إلى المخاطب في أغلب الأحيان على أساس أن يتلقى منه جوابًا- سلبيًّا كان أو إيجابيًّا- ويوصله إلى الموجب انطلاقًا من هذا الواقع يصل د. الدريني – أثناء تناوله لمسألة وقت ومكان انعقاد العقد بين الغائبين- على نتيجة أن نظرية الإعلان كانت تتضمن في نفس الوقت نظرية العلم- في نظر الفقهاء-، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يطلع عادة على القبول الصادر عن المرسل إليه في ظروف ذلك الزمن.
انظر: الدريني، التراضي، ص319. (وسندرس قضية اشتراط علم الموجب بالقبول لانعقاد العقد أو عدم اشتراطه في الصفحات القليلة القادمة بشكل مفصل: 3-3-3) . إذن، فإننا تناولنا المسألة في إطار هذه الظروف وانطلاقًا من عدم إلزامية الإيجاب، لا يمكن أن نستسيغ اعتبار قيام الإيجاب مادام الكتاب قائمًا.
ولكن التعاقد بين الغائبين في الوقت الحاضر لا يتم عن طريق ما كان يحدث في العهود القديمة (6) . حيث يصل الخبر إلى المخاطب في ظروف لا تكون مناسبةً لتكوين مجلس عقد في هذه الأثناء غالبًا. ومن جهة أخرى تستلزم ظروف يومنا ترجيح رأي جمهور المالكية القائل بأن أغلب الإيجاب يكون ملزمًا لصاحبه لمدة يحدد مداها العرف -كما بينا سابقًا-. ويمكن القول بأنه من الأحوط والأوفق لمصلحة الطرفين أن يعين الموجب ميعادًا للقبول وذلك وفقًا لمبادئ الفقه الإسلامي عامة ولفقه الالتزامات المالكي خاصة.
وفيما إذا انطلقنا من هذا المنطلق يمكننا أن نصل في مسألة وقت القبول من زاوية إقرار ارتباط الإيجاب بالقبول إلى النتيجة التالية: إن المخاطب له حق التأمل والتروي في نطاق الميعاد المحدد للقبول وليس من الضروري أن يصدر منه القبول في مجلس بلوغ الكتاب وما في حكمه لاتصال قبوله بهذا الإيجاب. أما إذا انتهى الميعاد المحدد للقبول سقط الإيجاب، ويكون القبول الصادر بعد ذلك في حكم الإيجاب الذي يوجهه المخاطب إلى الموجب الأول الذي سقط إيجابه.
(1) ابن نجيم، البحر الرائق، 5/291؛ ابن عابدين (محمد أمين) ، حاشية رد المحتار على الدر المختار، مصر، 1386هـ/1966م، 3/14، 4/512-513.
(2)
ابن عابدين، حاشية رد المختار، 4/513.
(3)
الخفيف (علي) ، أحكام المعاملات الشرعية، الطبعة الثالثة، ط. دار الفكر العربي، ص178، هامش2، ص179.
(4)
أبو زهرة (محمد) ، الأحوال الشخصية، القاهرة، ط، دار الفكر العربي، ص 44-45، هامش رقم 1.
(5)
موسى (م. ي) ، الأموال ونظرية العقد، ص 370؛ الدريني، التراضي، ص305-306.
(6)
نقصد هنا التعاقد بوسائل الاتصال التي يجب في التعاقد بها تطبيق أحكام التعاقد بين الغائبين.
(ب) الرسالة (السفارة) :
لقد ذكر المؤلفون الأحناف أحكام الرسالة والكتابة معًا بصفة عامة دون أن يفرقوا بينهما من جهة الحكم. وعلى هذا فإن الرأي الشائع عندهم بخصوص الكتابة الذي ذكرناه آنفًا يسري على الرسالة أيضًا وإن مجلس آداء الرسالة هو مجلس العقد. وإذا لم يصدر القبول في هذا المجلس يسقط الإيجاب. وينبه ابن عابدين إلى أن الرأي المنقول عن كتاب شيخ الإسلام خواهر زاده في تجدد الإيجاب بتكرار قراءة الكتاب –ذلك الرأي الذي يبدو أن ابن عابدين يتبناه ويرى توسيع مجال تطبيقه أيضًا- ينبه إلى أن هذا الرأي لا يمكن القبول به بالنسبة للرسالة مشيرًا إلى كلام الرحمتي الذي يفيد ضرورة التفريق بين هاتين الطريقتين من هذه الجهة (1) .
ولكن الأستاذ على الخفيف يدافع عن رأيه في هذا الموضع بقوله عن العقد ينعقد إذا أعاد الرسول الإيجاب بعد إعراض المرسل إليه في المرة الأولى- مادام لم يصل خبر الإعراض إلى الموجب- وإذا قبل المخاطب هذا الإيجاب في المرة الثانية. ويرد أ. الخفيف على الاعتراض المحتمل الذي يحتج بأن مهمة الرسول قد انتهت بالتبليغ الأول وليس من مهمته تكرير هذا التبليغ قائلا: إذا أمر الموجب شخصًا ما بالتبليغ أي أظهر إرادته للتبليغ، لا يشترط تحقيق هذا التبليغ من طرف شخص معين. وعلى هذا إذا أعاد الرسول رسالته فلن يكون في تلك الإعادة أقل من شخص قام بها متبرعًا، وإذا فلا مانع من أن نعتبر إعادة التبليغ إيجابًا مبتدأ كما في اعتبارنا الكتاب إيجابًا قائمًا بقيامه (2) .
وفي مقابل ذلك ينتقد د. الدريني رأي أ. الخفيف –بعد أن أفاد أنه يرجح رأي ابن عابدين - بعبارته التالية: (أما الانعقاد بناء على تبليغ فضولي فلا يقضي بجواز تجدد الإيجاب إذا أعاده الرسول في مجلس آخر- كما قال الأستاذ الخفيف- لأن رضا المرسل بتبليغ أي شخص- بعد أن أعلن رضاه بالتبليغ- لا يدل على رضائه بتكرير الإيجاب لأنه لم يعط للمبلغ هذا الحق، لأن الرسول ليس نائبًا عن المرسل وإنما مهمته مجرد نقل الإيجاب كما قالوا، ولهذا قال الأستاذ الخفيف نفسه: أما ترك الرسول المجلس أو إعراضه أو انتقاله بالحديث إلى موضوع آخر بعد إبلاغه الرسالة فالظاهر أنه لا يترتب عليه بطلان الإيجاب لأن المرسل لم يجعل له حق إبطاله)(3) .
قبل أن نبين رأينا في هذه المسألة، نرى لزامًا علينا الإشارة إلى أن ما ذكره د. الدريني لا ينهض حجة لما ذهب إليه من أن كلام أ. الخفيف- يبدو كأنه- ينقض نفسه بنفسه. لأن أ. الخفيف يفيد في كلا الموضعين من كلامه أمرين يؤيد أحدهما الآخر ودون أن ينطوي على تناقض بينهما وهما: الأمر الأول عليه سقوط الإيجاب لأن المرسل لم يجعل له حق إبطاله (كما لا يترتب سقوط الإيجاب على إعراض الرسول نفسه أيضًا) ، وبهذا يحكم أ. الخفيف بأن الإيجاب لا يزال قائمًا ولو كان المرسل إليه قد أعرض عن خبر الإيجاب ما لم يبلغ المرسل هذا الإعراض، والأمر الثاني: أن الرسول إذا أعاد الإيجاب بعد إعراض المرسل إليه فلا يعتبره أ. الخفيف بعد ذلك رسولا أعطاه المرسل حق تكرير الإيجاب أو نائبًا عن المرسل وإنما يعتبره كأي شخص آخر اطلع على إعلان الموجب عن رضاه بالتبليغ (وتبليغ الإيجاب بهذه الطريقة يصح حتى في المذهب الحنفي الذي يعتب الإيجاب في التعاقد بين الغائبين تعبيرًا متلقى كما رأينا) .
(1) ابن عابدين، حاشية رد المختار، 3/14.
(2)
الخفيف، أحكام المعاملات الشرعية، ص178 هامش2، ص179 هامش1.
(3)
الدريني، التراضي، ص307
أما رأينا في هذه المسألة فيمكن إيجازه فيما يلي: إننا إذا اعتبرنا الإيجاب غير ملزم لمدة معينة- وهو المقرر في أكثر المذاهب وخاصة في الفقه الحنفي- يجب الإقرار بأن الإيجاب يسقط فيما إذا أعرض المرسل إليه عنه في مجلس آداء الرسالة- كما كان في التعاقد بالكتابة-. وبالرغم من إننا نرى احتجاج أ. الخفيف صائبًا بخصوص عدم اشتراط أن يكون التبليغ من شخص معين ووجوب الاكتفاء بإعلان الموجب عن رضاه بالتبليغ فإننا نلاحظ في هذه المسألة أن رأي أ. الخفيف لا يتفق ونظرية اتحاد المجلس إذا حددنا أنفسنا بنطاق أحكام المذهب الحنفي. ولكننا إذا تناولنا رأي أ. الخفيف في إطار حكم إلزامية الإيجاب فيمكننا إذن، أن نحكم بأن الإيجاب يعتبر قائمًا طيلة مدة الإلزام وأن نقول بأن العقد ينعقد بقبول المرسل إليه في هذه المدة حتى دون أن تمس الحاجة إلى تبليغ ثان – ذاهبين إلى أبعد مما قاله أ. الخفيف- وذلك وفقًا للمنطق الذي يعول عليه أ. الخفيف نفسه في مسألة الكتابة-. وهذا هو الحل الذي نرتئيه ملائمًا لظروف وقتنا الحاضر وموافقًا لمبادئ الفقه الإسلامي كما بينا وجه استدلالنا تحت عنوان (الإيجاب)(3-1-2) و (الكتابة)(3-3-1/أ) .
3-
3-2- اشتراط أو عدم اشتراط علم الموجب برفض الإيجاب لاعتبار الإيجاب ساقطًا:
بادئ ذي بدء ينبغي لنا التنبيه على وجوب عدم الخلط بين المسألتين التاليتين:
الأولى: مسألة سقوط أو عدم سقوط الإيجاب بانفضاض مجلس آداء الرسالة أو الكتاب دون صدور القبول. والثاني: مسألة سقوط أو عدم سقوط الإيجاب في حالة رفضه ما لم يبلغ علم الموجب. والمسألة التي نحن بصددها الآن هي المسألة الثانية.
وقد سبق أن أشرنا في التعاقد بين الحاضرين (2-3-1) إلى أن د. الدريني يقول إن الفقهاء لم يتعرضوا لمسألة اشتراط علم الموجب برفض الإيجاب صراحة ثم يحاول أن يقيس (رفض الإيجاب) على (القبول) في التعاقد بين الحاضرين. وبناء على أن المسألة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتعاقد بين الغائبين، كنا قد أجلنا دراستها إلى هذا العنوان.
إن (رفض الإيجاب) تجب ملاحظته (تعبيرًا متلقى) ويكون قياسه على (القبول) قياسًا مع الفارق – حسب ما يبدو لنا-. لأن القيام بتوصيف القبول – أهو تعبير متلقي أم تعبير ملقي- يتعلق بتحديد وقت انعقاد العقد، بمعنى أن السؤال الذي قد يطرح نفسه بهذا الخصوص هو: هل ينعقد العقد بمجرد إعلان المرسل إليه عن القبول الموافق للإيجاب إليه، أم يجب لانعقاد العقد علم الموجب بهذا القبول؟ بينما دراسة (رفض الإيجاب) لا تنصب على ارتباط الإرادتين والنتيجة المترتبة عليه بل تنصب على التأكد من قيام أو عدم قيام (الإيجاب) الذي هو عبارة عن التعبير عن إرادة منفردة إذا تم رفضه مكن طرف من وجه إليه. إذن، يناسب قياس (رفض الإيجاب) على (الإيجاب) ولا يناسب قياسه على (القبول) .
ومن جهة أخرى، فإن رفض الإيجاب – كما أشار إليه د. سوار مصيبًا في نظرنا- قد يتضمن تعديلا للإيجاب السابق فيعتبر عندها إيجابًا جديدًا، والإيجاب كما هو معلوم تعبير متلقى (1)
وفي هذا المضمار نلاحظ أن كلام أ. الخفيف المتعلق بتعليل حكم إعراض المرسل إليه يساعدنا في تحليل هذه القضية وهو كالتالي: (لأننا ما أبطلنا الإيجاب عند الإعراض عنه إلا ليسترد الموجب حريته في التعاقد مع غير من ساومه، أو في الاحتفاظ بملكه وذلك لا يتم إلا إذا علم بالإعراض فما الضرر من اعتبار إيجابه قائمًا إلى أن يعلم، حتى إذا صدر القبول قبل العلم نشأ العقد)(2) إلا أنه يفيد في مكان آخر أن الرفض الصريح يسقط بالإيجاب. ويقوم د. الدريني بانتقاد كلام أ. الخفيف الآنف الذكر من هذه الجهة ويشير إلى أن التعليل الوارد في هذا الكلام يقتضي عدم سقوط الإيجاب بالرفض أيضًا (3) . ومع أننا نجد نقد د. الدريني وجيهًا فإننا نرجح أن نحتاط في فهم كلام أ. الخفيف ونرى من الممكن أنه قصد (بالرفض الصريح) الإعراض أو الرد الذي وصل إلى علم الموجب ولم يقصد به مجرد تعبير الرفض الذي لم يبلغ علم الموجب.
(1) سوار، التعبير، ص132 هامش1. (ويجب الانتباه إلى أن ما يذكر هنا بالنسبة لماهية الإيجاب هو حسب المذهب الحنفي) .
(2)
الخفيف، أحكام المعاملات الشرعية، ص178 هامش2.
(3)
الدريني، التراضي، ص127-128
ومع ذلك كله، يجب الانتباه إلى أن الرأي القائل بعدم سقوط الإيجاب إذا رفضه المرسل إليه ما لم يصل خبر الرفض إلى الموجب، لا يجد مجالًا واسعًا في حيز التطبيق إذا انطلقنا من الرأي الحنفي بخصوص الرسالة ومن الرأي الحنفي الشائع بخصوص الكتابة، لأن مجلس العقد في التعاقد بين الغائبين ينتهي كما في التعاقد بين الحاضرين وكذلك لا تختلف النتيجة في هذه المسألة اختلافًا كبيرًا إذا اعتمدنا على الرأي الشافعي الذي يقول بخيار المجلس أيضًا. أما إذا انطلقنا من رأي الجمهور المالكية الذي يقول بإلزامية الإيجاب وخاصة في حالة تحديد مدة معينة للقبول فإن هذه المسألة قد تكتسب أهمية كبيرة في المدة التي يبقى فيها ملزمًا لصاحبه.
وقد نصت المادة (17) من اتفاق فيينا على أن الإيجاب –وإن كان غير قابل العدول عنه- يسقط بوصول رفضه إلى الموجب.
3-
3-3- تحديد وقت انعقاد العقد:
ينبغي لنا قبل كل شيء أن نسترعي الانتباه إلى أن دراساتنا تحت هذا العنوان، ستنصب فقط على مسائل التعاقد الذي يأخذ حكم التعاقد بين الغائبين باعتبار التكييف الفقهي. أما التعاقد الذي يتحقق بين طرفين غائبين بالفعل أي متباعدين باعتبار المكان، والذي قد يأخذ مع هذا، حكم التعاقد بين الحاضرين من حيث الزمان نظرًا لشكل جريان المعاملة أي لاتحاد المجلس كما في التعاقد بين بالحاضرين، فإنه سيتم تناول هذه المسألة تحت عنوان (4-) .
ومن جهة أخرى، تجدر الإشارة إلى أننا إذا فكرنا في الموضع بشكل نظري يمكن أن نتصور أن العقد بين الغائبين (أي بالمراسلة) يتم بالنسبة لأحد الطرفين في زمان ومكان غير الزمان والمكان اللذين يتم فيهما بالنسبة للطرف الآخر، ولكن هذا لا يستقيم مع الحاجات العملية التي تقتضي في كثير من الأحوال وحدة الزمان والمكان الذين يتم فيهما العقد بالنسبة لكل من الطرفين (1) .
(أ) النظريات التي تحدد وقت انعقاد العقد:
للإجابة على سؤال (متى يتم العقد؟)
يمكن صياغة نظريات مختلفة حسب الاحتمالات المنطقية المتنوعة. وفي إطار أعمال صياغة النظريات في هذا الموضوع ظهرت واشتهرت أربع نظريات حسب الاحتمالات الأربعة الرئيسية:
1-
نظرية إعلان القبول (Theorie de la declaration) :
تقوم هذه النظرية على أن العقد توافق بين إرادتين، وتقول بأن العقد يتم وقت إعلان المرسل إليه عن رغبته في القبول وذلك قبل إرسال الجواب وقبل وصوله إلى الموجب أو العلم به من طرفه.
(1) السنهوري، نظرية العقد، ص292 هامش4.
2 -
نظرية تصدير بالقبول أو نظرية الإرسال (Theorie de la lexpedition) :
وهذه النظرية تتفق مع النظرية الأولى في أساسها، إلا أنها تشترط أن يكون القبول نهائيًّا أي تقول بأن العقد يتم إذا أرسل الطرف القابل قبوله بحيث لا يتمكن بعد ذلك من استرداده.
3-
نظرية استلام القبول أو نظرية التسلم (Theorie de la reception)
هذه النظرية تقول بانعقاد العقد عندما يتسلم المرسل (الموجب) جواب الطرف القابل ولو قبل الاطلاع على مضمونه.
4-
نظرية العلم بالقبول أو نظرية التبليغ (Theorie de l information)
تقوم هذه النظرية على أن العقد إذا كان توافقًا بين إرادتين، فإنه يجب أيضًا أن يعلم كل طرف بقيام هذا التوافق، وعلى هذا لا يتم العقد إلا عندما يتبلغ الموجب قبول المرسل إليه.
ويمكن زيادة نظرية أخرى إلى تلك النظريات الأربع وهي النظرية المختلطة التي أخذت بها بعض القوانين. وهي نظرية تتوسط بين نظرية تصدير القبول ونظرية استلام القبول. ففيها لا يعد العقد تامًّا إلا من وقت استلام القبول، من طرف الموجب. ولكن يعتبر العقد ساريًا منذ تصدير القبول يراجع في هذا الموضوع: السنهوري، نظرية العقد، ص 293-304؛ محمصاني؛ النظرية العامة، 2/65 –66؛ SCHWARZ، Borclar، vol. 1، P. 222-223;TEKINAY، Borclar، Hukuku، P.102-104; FEYZIOGLU، Borclar، Hukuku vol.1، p.94-99.
(ب) النتائج المترتبة على تحديد وقت انعقاد العقد:
تترتب على تحديد وقت انعقاد العقد آثار كثيرة ويتعين هذا الوقت حسب الترجيح بين النظريات الآنفة الذكر، كما تختلف هذه النتائج حسب هذا الترجيح. وسنكتفي بالإشارة إلى أهمها باختصار شديد:
1-
حق عدول الطرف القابل عن قبوله محدد بوقت انعقاد العقد. وكذلك للموجب أن يعدل عن إيجابه، -في حالة ما إذا لم يكن الإيجاب ملزمًا حسب قواعد الفقه الذي تدرس القضية في إطاره- إلى وقت تمام العقد.
2-
تهم معرفة وقت انعقاد العقد للحكم بانعقاد العقد أو عدم انعقاده، في حالة موت القابل بعد أن صدر منه القبول أو فقد أهليته وقبل إرساله إلى الموجب أو أن يستلمه الموجب أو أن يطلع عليه.
3-
تهم أيضًا معرفة وقت انعقاد العقد للحكم بانعقاد العقد أو عدم انعقاده في حالة ضياع خبر القبول في الطريق، أو تأخر وصوله إلى الموجب عن الوقت الذي حدده.
4-
تجب كذلك معرفة وقت انعقاد العقد للحكم بانعقاد العقد أو عدم انعقاده، في حالة هلاك الشيء المعقود عليه بعد إعلان القبول وقبل إرساله إلى بالموجب أو أن يستلمه الموجب أو أن يطلع عليه.
وعلى هذا، فإنه إذا تم الحكم بأن الشيء المعقود عليه قد هلك بعد انعقاد العقد –حسب النظرية المختارة-، تطبق القواعد العامة في معرفة مَنْ مِنَ الطرفين يتحمل تبعة هلاك الشيء.
5-
في العقود الناقلة للملكية كالبيع، إذا كان العقد بيعًا واقعًا على منقول معين، فإن ملكيته وثماره تنتقل إلى المشتري من وقت تمام العقد، ولهذا تمس الحاجة إلى تحديد وقت انعقاد العقد.
ويتفرع عن هذا أن منقولا معينًا بالذات إذا بيع إلى شخصين مختلفين ولم يسلمه البائع لأحدهما، فإن ملكية المبيع تنتقل لمن تم عقده أولا، ولذا تجب معرفة انعقاد العقد.
6-
تهم أيضًا معرفة وقت انعقاد العقد في تطبيق أحكام المواعيد التي تسري من وقت انعقاد العقد. كميعاد التقادم بالنسبة لسماع الدعوى أو بالنسبة لبعض الالتزامات، أو المدة التي يصح فيها الاستراداد في بيع الوفاء وما شابه ذلك.
7-
تجب أيضًا معرفة وقت انعقاد العقد لمعرفة صحة أو بطلان العقود التي تصدر من تاجر أشهر إفلاسه، هل انعقدت قبل فترة الريبة أو في أثنائها أو بعد تمام التوقف عن الدفع أو بعد إشهار الإفلاس؟ الذي يحدد ذلك هو معرفة تمام العقد.
8-
في دعوى إبطال التصرفات التي لا يستطيع الدائن الطعن في عقد صدر من مدينه إضرارًا بحقه إلا إذا كان هذا العقد متأخرًا في التاريخ عن الحق الثابت له في ذمة المدين. ولذا تمس الحاجة أيضًا إلى معرفة وقت انعقاد ذلك العقد يراجع في هذا الموضوع: السنهوري، الوسيط، 1/237-245؛ نظرية العقد، ص304-309؛ سلطان (أنور) ، مصادر الالتزام في القانون المدني الأردني/ دراسة مقارنة بالفقه الإسلامي، عمان، 1987م، ص67-68؛
GHESTIN، Traite de Droit Civil، vol.2 P.193; TEKINAY، Borclar Hukuku، P.104-105; FEYZIOGLU، Borclar، Hukuku vol.P.93; EREN، Borclar، Hukuku vol. 1، P.287. .
(ج) موقف التشريع الوضعي من هذه النظريات:
يقول الدكتور السنهوري أثناء قيامه بتقييم النظريات المذكورة فيما يخص تحديد وقت انعقاد العقد: (والواقع أن النظريتين الرئيسيتين هما نظرية إعلان القبول ونظرية العلم بالقبول، وما عداهما فمتفرع منهما ويرد إليهما)(1) .
ولعل بعض الباحثين المعاصرين الأجلاء ممن يدرسون هذه القضية من زاوية الفقه الإسلامي، قد تأثروا غالبًا بما ورد في كتب الدكتور السنهوري –الذي هو من أوائل من قام بدراسة هذه القضية وأمثالها بشكل مفصل في العالم الإسلامي- وهم ينطلقون من الفكرة نفسها ويبدون آراءهم في ضوء هاتين النظرتين فقط دون أن يولوا أي اهتمام للنظريات الأخرى (2) .
ولكن الأمر يختلف في الوقت الحاضر عما كان عليه في السابق مع اعترافنا بوجاهة رأي د. السنهوري في هذه المسألة والحري بنا أن نذكر هنا أن د. السنهوري –إلى جانب كلامه المشار إليه- يقول في الهامش رقم1، ص304 من كتابه نظرية العقد بخصوص (نظرية استلام القبول) :(الرأي الذي أخذ يتغلب في التشريع الحديث) وأيضًا: (هي النظرية التي يظهر أنها أخذت تكسب أنصارًا أكثر من غيرها من النظريات الأخرى) .
ويبدو أن هذه العبارات لم ينتبه إليها المؤلفون المشار إليهم آنفًا. . ويبدو أن د. القره داغي حين أبدى رأيه في ترجيح إحدى هذه النظريات من زاوية الفقه الإسلامي قائلا بأن نظرية الإعلان هي الأوفق لمتطلبات العصر الحديث وللفهم السائد في الفقه الحديث (3)، وقائلا:(إن الرأي الحديث يتجه – في الغالب- إلى تفضيل نظرية الإعلان)(4) ، ويبدو أنه يعتمد على الكتب المنشورة قديمًا (مع أنه لا يذكر أسماء المراجع التي تؤيد هذا الرأي بالذات) .
وبالرغم من أن حقوقيي القرن التاسع عشر كانوا منقسمين إلى فئتين رئيسيتين تفضل إحداهما نظرية إعلان القبول وتفضل الأخرى نظرية العلم بالقبول، فإن معظم الحقوقيين في وقتنا الحاضر وكذلك معظم التشريعات الحديثة في اتجاهين يميل إحداهما إلى ترجيح نظرية تصدير القبول والآخر يميل إلى ترجيح نظرية استلام القبول (5) .
(1) السنهوري، نظرية العقد، ص296؛الوسيط.1/243.
(2)
يمكن أن نذكر على سبيل المثال: سوار، التعبير، ص125-145: الدريني، التراضي، ص307-331، وخاصة 328-329 القره داغي، مبدأ الرضا 2-1112-1127 الإبراهيم:(حكم إجراء العقود) ص123-124.
(3)
القره داغي، مبدأ الرضا، 2/1126.
(4)
القره داغي، مبدأ الرضا، 2/1114.
(5)
SCHWARZ، Borclar، vol. 1، p.224;GHESTIN، Traitre de Droit Civil، vol.2 P.194-195.
كما سنرى في الفقرة التالية:
وقد تبنى النظام الأنجلو- الأمريكي (Anglo-American) نظرية تصدير القبول، وتبنى القانونان الألماني (م.130) والنمساوي نظرية استلام القبول. ومع أن القانونين السويسري والتركي الحديث لم يصرحا بحكم ما في هذه القضية، فإن القانونيين لا يختلفون في أنهما تبنيا نظرية مختلطة في هذا المضمار وعلى هذا، فإن النظرية المعتمد عليهما في هذين القانونين هي نظرية استلام القبول –مبدئيًّا- من حيث وقت انعقاد العقد، ونظرية تصدير القبول من حيث سريان مفعول العقد (وإلى جانب ذلك ينص هذان القانونان على أن العقد تترتب عليه آثاره منذ وصول الإيجاب إلى المرسل إليه من حالات عدم الحاجة إلى قبول صريح للإيجاب)(م.10، 9، 5، 3) . وفي الفقه الفرنسي، من أن القضية لم يتم حلها من طرف حكم قانوني فإن الاجتهادات القضائية بعد أن ترددت بين نظريتي إعلان القبول والعلم بالقبول فترة من الزمن وبين نظريتي تصدير القبول واستلام القبول فترة أخرى من الزمن، مالت – أغلبها- السنوات الأخيرة على نظرية تصدير القبول، وأما القانون المدني الإيطالي الجديد (م. 1335) يعتمد – أساسًا- على نظرية العلم بالقبول، إلا أنه وضع قرينة يفرض بمقتضاها أن الموجب قد علم بالقبول بمجرد استلامه له انظر السنهوري، نظرية العقد، ص300؛ النظرية العامة، 2/65-66؛
SCHWARZ، Borclar، vol. 1، P. 224-228; GHESTIN، Traite de Droit Civil، vol.2 P. 194-198; TEKINAY، Borclar Hukuku، P. 102-103; FEYZIOGLU، Borclar، Hukuku vol. 1، P. 96-100.
بعض الملاحظات:
1-
عن الدكتور السنهوري لم يحالفه الصواب حينما قال: (وقد قضت المادة العاشرة من قانون الالتزامات السويسري بأن العقد فيما بين الغائبين ينتج أثره من الوقت الذي يصدر فيه القبول، وإذا لم تكن هناك ضرورة لقبول صريح فإن العقد ينتج آثاره من وقت صدور القبول. ومن ذلك نرى أن هذا القانون قد أخذ بنظرية تصدير القبول، ما لم يكن القبول ضمنيًّا فيكتفي بإعلانه) . (نظرية العقد، ص300) لأن هذا القانون يصرح بأن العقد ينتج آثاره –في حالة القبول الضمني- (من وقت وصول الإيجاب) لا (من وقت صدور القبول) ، ومن جهة أخرى، فإن هذا القانون يأخذ – في الحالات العادية أي في حالة القبول الصريح – بنظرية استلام القبول من حيث وقت انعقاد العقد وبنظرية تصدير القبول من حيث سريان مفعول العقد- كما أشرنا إلى ذلك وكما سيأتي تحليل هذه النظرية تحت عنوان (د د) في الصفحات القليلة القادمة-. ولعل بعض الباحثين قد تأثروا بهذا الكلام للدكتور السنهوري (وقد جاء في كتابه الوسيط أيضًا-1/244- إن تقنين الالتزامات السويسري يأخذ بمذهب تصدير القبول) ، وقالوا بأن القانون السويسري قد أخذ بنظرية تصدير القبول، انظر مثلا: الدريني، التراضي، ص328؛ الإبراهيم، (حكم إجراء العقود) ، ص123.
2-
إن د. الدريني (التراضي، ص328) ود. القره داغي (مبدأ الرضا، 2/1114) لم يحالفهما الصواب أيضًا حينما قال كل منهما إن القانون المدني الألماني قد أخذ بنظرية العلم.
3-
لا يعتبر كلام د. الإبراهيم صائبًا حيث قال: (إن القانون الفرنسي قد أخذ بنظرية استلام القبول شريطة أن يكون قرينة على العلم بالقبول) . (حكم إجراء العقود) ، ص123
أما في البلدان العربية فيلاحظ وجود اتجاهين رئيسين أحدهما يتمثل في المادة (97)(وأيضًا 91) من القانون المدني المصري التي تنص على تبني نظرية العلم بالقبول والتي تنطوي على قرينة يفرض بمقتضاها أن الموجب قد علم بالقبول بمجرد استلامه له –كما هو الوضع في القانون المدني الإيطالي- وقد تبنى هذا الاتجاه معظم التشريعات الحديثة في البلدان العربية، منها: القانون المدني العراقي (م.87) ، والقانون المدني الجزائري (م.67، وأيضًا 61) ، والقانون المدني الكويتي (م.49) ، والقانون التجاري الكويتي (م.112) ، والقانون الليبي (م.97) ؛ وتجدر الإشارة إلى أن هذا الاتجاه لا يهدف –أساسًا- إلى تطبيق نظرية العلم بالقبول بصورة مطلقة، ويمكن القول بأنه يقترب جدًّا إلى نظرية استلام القبول باعتبار نتائجه على الصعيد العملي، مع قبولنا بأن القرينة الآنفة الإشارة ليست قرينة قاطعة بل يمكن للموجب أن يثبت عكس ذلك (1) . والاتجاه الثاني تبنى نظرية إعلان القبول، كما ورد في قانون الموجبات والعقود اللبناني (م.184) ، والقانون المدني السوري الذي اقتدى في ذلك بالقانون اللبناني لكثرة المعاملات بالجارية بين سورية ولبنان (م.98) ، والقانون المدني الأردني (م.101) والمدونة المدنية التونسية (م.28) والقانون المراكشي. ومع هذا ، فإن هذه القوانين تقيد هذا الحكم غالبًا بقيد:(ما لم يوجد اتفاق أو نص قانوني يقضي بغير ذلك)(2) .
وقد تبنى اتفاق فيينا نظرية استلام القبول في مادته (23) و (24) مع ملاحظة الفقرة 2 من المادة (18)(3) . إلا أن المخاطب إذا عبر عن رضاه بطريقة التنفيذ الفعلي مثل تأدية الثمن أو إرسال السلعة دون الإخبار عن قبول صريح بطريقة المراسلة –حسب التطبيقات المستقرة بين الطرفين أو العرف والعادة- فإن القبول يكون ساري المفعول منذ ذلك التنفيذ. (الفقرة 3 من المادة 18) .
(1) انظر في نفس المعنى: السنهوري، مصادر الحق 2/54 هامش2؛ الوسيط، 1/248؛ نظرية العقد، ص297 وهامش2؛ SCHEARZ، Borclar، vol. 1، P. 224-225، Not. 4.
(2)
يراجع في هذا الموضوع: السنهوري، مصادر الحق، 2/53-54؛ الدريني، التراضي ص331؛ القره داغي، مبدأ الرضا، 2/1116 –1118؛ الزحيلي، العقود المسماة، ص21؛ عبد التواب (معوض) ، مدونة القانون المدني، القاهرة، 1987، 1/130، 139 وما بعدها.
(3)
STOFFEL (W.A) ، Formation du Contrat، Convention de Vienne de 1980 sur La Vente Internationale de Marchandises/ Collogue de Lausaanne des 19 et November 1984، Zurrich، 1985، P.59.
(د) موقف الفقه الإسلامي من تحديد وقت انعقاد العقد:
(أأ) الكتب الفقهية القديمة:
يلاحظ أن الكتب الفقهية القديمة تصرح – غالبًا- بأن التعاقد بين الغائبين يصح، وإن العقد ينعقد إذا قبل المرسل إليه الإيجاب الذي وصل إليه بواسطة الكتاب أو الرسول، دون التطرق إلى قضية اشتراط أو عدم اشتراط علم الموجب بالقبول، ولكن ظاهر عبارات هذه الكتب تدل على أن العقد ينعقد بصدور القبول دون اشتراط علم الموجب بالقبول. ولا نرى فائدة في ذكر النصوص الفقهية المتعلقة بهذا الخصوص (1) ، بل سنكتفي بالاهتمام بتقييم هذه القضية في الصفحات القليلة القادمة.
(ب ب) آراء الباحثين المعاصرين:
سنعرض خلاصة آراء بعض الباحثين المعاصرين في الفقه الإسلامي في هذه القضية تحت هذا العنوان (ثم سنقوم بنقد هذه الآراء في العنوان التالي) .
* يبدأ الدكتور السنهوري كلماته في هذا الموضوع قائلًا: (أما في الفقه الإسلامي فلم نعثر على نص صريح في هذه المسألة يبين متى يتم العقد بين الغائبين، هل يتم بمجرد إعلان القبول أو لا يتم إلا بعلم الموجب بالقبول؟)(2) ، ثم يذكر نصوصًا من الكتب الفقهية تتعلق بـ (وجوب سماع المتعاقد الآخر الإيجاب) ، وبـ (وجوب سماع الموجب للقبول) بالنسبة للتعاقد بين الحاضرين، وكذلك يذكر منها ما يتعلق بالتعاقد بين الغائبين.
ويعبر د. السنهوري عن النتيجة التي توصل إليها من خلال دراسته في هذه المسألة كالتالي:
(فيتم العقد بين الغائبين، إذن، في الفقه الإسلامي، بإعلان القبول ولا يشترط علم الموجب بالقبول، وإذا كان التعاقد بين الحاضرين يشترط فيه سماع الموجب للقبول كما تصرح النصوص بذلك، فكل ما يشترط في التعاقد بين الغائبين أن يكون الموجب قد أراد تبليغ إيجابه للمتعاقد الآخر كما قدمنا، حتى يعلم بذلك أن إيجابه باتّ، ولا يشترط أن يسمع هو –أي الموجب- قبول المتعاقد الآخر أو يبلغه هذا القبول.
(1) يراجع في هذا الموضوع: الكاساني، بدائع الصنائع، 5/138؛ البابرتي (محمد بن محمود) شرح العناية على الهداية، بيروت، ط. دار إحياء بالتراث العربي بالأوفست، 5/461؛ ابن الهمام، فتح القدير، 5/461-462؛ ابن نجيم، البحر الرائق، 5/290؛ العدوي، حاشية العدوي على الخرشي، 5/5؛ الدسوقي على الدردير، 3/3، 4؛ النووي، المجموع، 9/167؛ البهوتي، كشاف القناع، 3/184. (ويجب مراعاة ملاحظتنا السابقة في الهامش رقم 12 من البحث) .
(2)
السنهوري، مصادر الحق، 2/54.
هذا مانستخلصه من ظاهر النصوص ولكنا مع ذلك نرى أن الفقهاء لم يواجهوا، في وجوب سماع الموجب للقبول، حالة التعاقد بين الغائبين مواجهة صريحة. وهم لم يواجهوا في ذلك إلا حالة التعاقد بين الحاضرين، ولو أنهم واجهوا الحالة الأولى كما واجهوا الحالة الثانية، لما كان بعيدًا ـ أن تختلف الآراء فيها. بل نحن نذهب إلى أبعد من ذلك، ونقول إن منطق القاعدة التي تقول بوجوب سماع الموجب القبول في التعاقد بين حاضرين تقتضي القول بوجوب علم الموجب بالقبول في التعاقد بين غائبين والسماع في حالة حضور الموجب يقابله العلم في حالة غيابه) (1)
* ويقول الدكتور محمصاني استنتاجًا من بعض ماورد في الكتب الفقهية من العبارات في هذه المسألة ودون أن يقوم بتحليل أو تقييم: (فإذن، تنتمي الشريعة الإسلامية إلى نظرية إعلان القبول)(2) .
* ويقول الدكتور سوار – بعد أن أشار إلى مساوئ كل من نظرية الإعلان ونظرية القبول (3) : (عن المآخذ الجدية التي أسلفنا عرضها والتي تلحق بنظريتي العلم والإعلان تدعونا إلى التخلي عن كلتي النظريتين بوضعهما الحالي المعيب)، ثم يشير إلى الحل السليم –في نظره- بقوله:(وإننا لواجدون مفتاح هذا الحل بكل يسر وسهولة في الفصل بين انعقاد العقد ولزومه. وذلك بالعمل على تعجيل انعقاد العقد بحيث يكفي لانبرامه مجرد صدور القبول، وهذا هو الوجه الحق في نظرية الإعلان. وتأخير لزوم العقد بحيث لا يكفي وجود شطريه لكي يغدو لازمًا، لا بد لهذا اللزوم من التقاء الشطرين وعلم الموجب بالقبول، وهذا هو وجه الصواب في نظرية العلم)(4) .
وبعد ذلك يقترح د. سوار نظرية جديدة أطلق عليها (نظرية خيار الطريق (في ظل نظرية الإعلان) انطلاقًا من فكرته المشار إليها أعلاه. كما يقوم بتوضيح نظريته تحت العناوين التالية: نطاقها، أحكامها، تأصيلها وتسميتها، مزاياها (5) . ونحن دون أن نتطرق إلى تفاصيلها نكتفي هنا بذكر ملخص نظرية خيار الطريق للدكتور سوار، إذ يقول:(تقنين من وضعنا: وبناء على ما تقدم نقترح تعديل نص المادة (98) من القانون المدني السوري بحيث يصبح على الشكل الآتي (م.98) : (1) يعتبر التعاقد بين الغائبين قد تم في المكان وفي الزمان اللذين صدر فيهما القبول ما لم يوجد اتفاق أو نص قانوني يقضي بغير ذلك. (2) لكل من العاقدين خيار الرجوع عن العقد قبل وصول القبول الصريح إلى علم الموجب وينتقل هذا الخيار على الوارث حال وفاته، وإلى نائبه الشرعي حال فقده أهليته. (3) يعتبر وصول القبول إلى علم الموجب قرينة على العلم به ما لم يقم الدليل على عكس ذلك) (6) .
* يقول الدكتور الدريني أولا: (والمشهور على ألسنة الكتاب أن الفقه الإسلامي يتبع نظرية الإعلان، وهذه المسألة اجتهادية يجب أن يراعي فيها قاعدة دفع الضرر..) وبعد هذا نجد د. الدريني يلح على ضروة عدم الرجوع عن القبول بعد ثبوت القبول، ولهذا يرجح – مبدئيًّا- نظرية الإعلان عن القبول، إلا أنه يجب في نظره اشتراط إرسال القبول في وقت مناسب بموجب قاعدة (دفع الضرر)(7) . ومع ذلك، فإنه يقول في مكان آخر من كتابه أن سر اكتفاء الفقهاء بالإعلان يمكن إيضاحه باحتواء الإعلان في ظروف زمنهم على علم الموجب بالقبول أيضًا (8) .
(1) السنهوري، مصادر الحق، 2/54-56. ويعبر د. السنهوري عن هذه النتيجة في كتابه نظرية العقد (ص302) بالعبارة التالية:(ويؤخذ من هذا أن العقد بالمراسلة في الشريعة الإسلامية يتم بإعلان القبول) .
(2)
محمصاني، النظرية العامة، 2/64، 66.
(3)
سوار، التعبير، ص129-132.
(4)
سوار، التعبير، ص132.
(5)
سوار، التعبير، ص132-145.
(6)
سوار، التعبير، ص145.
(7)
الدريني، التراضي، ص322-324.
(8)
الدريني، التراضي، ص319.
* ويدافع الدكتور القره داغي عن نظرية الإعلان بشكل حاسم. ويذكر د. القره داغي لترجيح هذا الرأي الأمور التالية:
1-
(إن العقد على ضوء الفقه الحديث عامة لا يتطلب أكثر من الإيجاب والقبول، فإذا تم القبول فقد تم العقد. ففي القبول بنظرية العلم بالقبول ونحوها تأخير كبير لآثار العقد لا يتفق مع متطلبات العصر الحديث من سرعة إنهاء المعاملات)(1) .
(إن الرأي الحديث يكاد ينبذ نظرية العلم، ويتجه – في الغالب- إلى تفضيل نظرية الإعلان عن القبول عليها)(2) .
2-
(كما أن ذلك (القول بنظرية العلم ونحوها) يؤدي إلى زعزعة الثقة وعدم اطمئنان القابل من فعالية قبوله، حيث أن للموجب الحق في رفض التعاقد بعد القبول وقبل وصوله إلى علمه، فاشتراط علم الموجب بقبوله دون اشتراط علم القابل بعدم رفض الموجب قبوله تحكم دون دليل مقنع) .
3-
(وما ذكر من الأدلة (يقصد ما في صالح نظرية العلم) لا تخلو عن كونها أدلة للإثبات لا للانعقاد، ونحن لا ننكر أهمية ذلك في نطاق الإثبات، أما الانعقاد فيتم بوجود الرضاءين دون اشتراط عنصر ثالث وهو علم الموجب بالقبول) .
4-
(ثم إن الأعراف التجارية تقتضي في بعض الأحيان عدم الحاجة إلى رد شفهي أو كتابي على الإيجاب، فمن أرسل بضاعة إلى عميل له في بلد آخر مثلا، فهل العقد لا يتم إلا إذا بلغ إلى علم الموجب القبول مع أن الفقه والقضاء على أن السكوت في هذه المسائل يكفي – كما سبق -، فلو شرطنا ذلك ليضار العاقدان أو أحدهما بهذا الإجراء، كما أنه يعطي فرصة لأحدهما أن يسحب إيجابه أو عرضه فيما إذا عرف أن المصلحة في ذلك، وفي هذا زعزعة لاستقرار التعامل وقلقلة للقواعد وأعراف التجارة)(3)
*أما الدكتور الإبراهيم- بعد أن أشار إلى بعض الآراء والمعلومات في هذا الموضوع بشكل خاطئ (كما سنناقش ذلك في العنوان التالي)، يقول:(يمكن القول بأن الفقه الإسلامي يأخذ بفكرة إعلان القبول..)(4) .
(ج ج) نقد هذه الآراء وتقويمها:
بادئ ذي بدء، ينبغي لنا أن نقوم بتثبيت الرأي الصحيح في الخلاف الوارد بين د. السنهوري ود. سوار فيما يتعلق بموقف بالفقهاء من هذه النظرية.
(1) القره داغي، مبدأ الرضا، 2/1126
(2)
القره داغي، مبدأ الرضا، 2/1114
(3)
القره داغي، مبدأ الرضا، 2/1126
(4)
الإبراهيم، (حكم إجراء العقود) ، ص127.
يقول د. السنهوري – في كلامه الذي ذكرناه مفصلا
-: (ولكنا مع ذلك نرى أن الفقهاء لم يواجهوا، في وجوب سماع الموجب للقبول، حالة التعاقد بين الغائبين مواجهة صريحة، وهم لم يواجهوا في ذلك إلا حالة التعاقد بين الحاضرين، ولو أنهم واجهوا الحالة الأولى كما واجهوا الحالة الثانية، لما كان بعيدًا أن تختلف الآراء فيها)(1) .
وينتقد د. سوار هذا الرأي قائلا: (فنحن نعتقد أن الفقهاء قد واجهوا شريطة السماع في حالة التعاقد بين غائبين مواجهة صريحة، أطلقوا على السماع في هذه الحالة تسمية السماع الحكمي، وقصروه على الإيجاب فقط وجعلوا قراءة الإيجاب من الموجب له بمنزلة سماعه مباشرة من الموجب)(2) . ثم ينقل د. سوار نصوصًا فقهية لا تختلف اختلافًا كبيرًا في مضمونها عما أوردناه سابقًا من نصوص فقهية، أضف إلى ذلك أن النص الفقهي الذي يقول فيه د. سوار (ولعل أوضح نص يشير إلى مواجهة الفقهاء مواجهة صريحة..) لا يمكن اعتباره كافيًا لتمثيل موقف الفقهاء من هذه القضية لأن مؤلف الكتاب الذي ورد فيه هذا النص هو من علماء القرن العشرين.
ويبدو لنا أن د. سوار قد نظر إلى كلام د. السنهوري من منظار لفظي بحت لأن الرأي الذي أشار إليه د. سوار ليس مجهولًا عند د. السنهوري، وقد ذكر د. السنهوري نفسه نصوصًا فقهية في هذا المضمار. ونرى أن المقصود من كلام د. السنهوري في العبارة التالية:(لم يواجهوا مواجهة صريحة) يفهم بوضوح اكثر إذا تابعنا القراءة حيث نجد هذه العبارة: (ولو أنهم واجهوا
…
لما كان بعيدًا أن تختلف الآراء فيها) . والحقيقة أن الفقهاء لم يواجهوا هذه القضية في إطارها التطبيقي من منظور زماننا الحاضر، ولم يولوا اهتمامًا كبيرًا لما قد يستجد من مسائل حول هذا النوع من التعاقد. وإذا وضعنا نصب أعيننا ما سبق من معلومات فإننا نجد أن عددًا من مسائل انعقاد العقد الدقيقة قد تناولها الفقهاء المسلمون في عهود مبكرة جدًّا في تاريخ الفقه الإسلامي وأبدوا فيها آراء مختلفة بالرغم من كونها مجهولة في القانون الروماني وعدم تناولها في الفقه الغربي إلا بعد القرن السابع عشر، ولو افترضنا – إزاء هذا الواقع – بأن الفقهاء المسلمين لم يبدوا آراء مختلفة في هذه القضية رغم مواجهتهم لها مواجهة صريحة ورغم وجود احتمالات منطقية مختلفة فإن هذه الفرضية التي افترضناها لا يتفق وطابع الفقه الإسلامي.
ولهذا نشارك رأي د. السنهوري من هذه الناحية. (وحتى يمكن القول بأن العبارات في كتب الفقه التي تخص التعاقد بين الغائبين تنصب على بيان جواز هذا النوع من التعاقد أكثر من أن تكون منصبة على دراسة المسائل الدقيقة له (3) . ويمكن كذلك القول بأن بعض هذه العبارات تهدف أول ما تهدف إلى بيان ضرورة التفرقة بين بعض التصرفات مثل البيع والنكاح والخلع بالعوض في هذا النوع من التعاقد)
(1) السنهوري، مصادر الحق، 2/56.
(2)
سوار، التعبير، ص120-122.
(3)
الإبراهيم، (حكم إجراء العقود) ص126، وتأييدًا لهذه الفكرة يجب مراعاة وجود رأي قائل بعدم صحة التعاقد بين الغائبين في الفقه الشافعي.
وعلى أية حال، فإن هذه القضية لم يرد فيها نص خاص كما لم ينقل رأي صريح فيها عن أئمة المذاهب،، ويصبح عندئذ من المعقول أن نقول بأن الفقهاء لم يواجهوا مسائل التعاقد بين الغائبين على شكلها المعروف في الوقت الحاضر. ومن أبرز الأدلة على ذلك أن يقول د. سوار: (إن المآخذ الجدية
…
تدعونا إلى النخلي عن كلتي النظريتين (أي الإعلان والعلم) بوضعهما الحالي المعيب) (1) بعد أن قام بانتقاد رأي د. السنهوري، وإن قال:(إن الأخذ بنظرية الإعلان في التعاقد بين غائبين هو موضع إجماع الفقهاء)(2) .
* رأي الدكتور سوار في النظرية التي يجب الأخذ بها والاعتماد عليها.
يهدف د. سوار إلى إيجاد حل وسط بين نظريتي الإعلان والعلم ويقترح نظرية جديدة وهي (نظرية خيار الطريق) . وحسب هذه النظرية ينعقد العقد بمجرد الإعلان عن القبول إلا أن كلا من طرفي العقد يملك حق الخيار ريثما يطلع الموجب على القبول (ويعتبر وصول القبول إلى الموجب قرينة على علمه به) ، أي أن العقد لا يكتسب الصفة الإلزامية بالنسبة إلى كل من الجانبين إلى وقت اطلاع الموجب على القبول.
ويبدو لنا أن د. سوار بالرغم من نجاحه في دراسة مسائل دقيقة جدًّا في موضوع التعبير عن الإرادة – قد فاتته نقطة الانطلاق لهذه النظريات كما أنه لم ينتبه إلى أحكام الرجوع عن الإيجاب كما ينبغي؛ لأن هذه النظريات تنصب – في الدرجة الأولى – على تحديد وقت اكتساب القبول الصفة الإلزامية ووقت بناء الحكم عليه. أما حق (أو خيار) الرجوع عن الإيجاب يمكن تعيينه بصورةٍ ما في كل من هذه النظريات عدا نظرية الإعلان عن القبول. وحتى أن الأنظمة القانونية التي تقول بعدم إلزامية الإيجاب في الفقه الغربي (مثل فقه الباندكت (Panadect) والفقه الفرنسي الحالي) تميل إلى تحديد خيار الرجوع بوقت القبول أو بوقت تصدير القبول (إذا لم يكن هناك اتفاق خاص بخصوص توسيع حق الرجوع عن الإيجاب)(3) .
(1) سوار، التعبير، ص132 وما بعدها.
(2)
سوار، التعبير، ص123
(3)
انظر: GHESTIN، Traite de Droit Civil، vol. 2 P.160.. etc special: 199-200، not.129; FEYZIOGLU، Borclar، Hukuku، vol. 1، P.82.
أما في الفقه الإسلامي فإن حق الرجوع عن الإيجاب محدد بوقت وصول الإيجاب أو بوقت القبول كحد أقصى، حتى عند الفقهاء الأحناف الذين يقولون بأن الموجب له حق الرجوع عن إيجابه ولو لم يعلم المرسل إليه بهذا الرجوع (1) ، ومن جهة أخرى يحاول د. سوار أن يؤيد نظريته بالاستفادة من أحكام خيار المجلس وليس من المعقول- فيما يبدو لنا أن يحاول د. سوار أن يستفيد من الفكرة الأساسية التي يستند إليها حكم خيار المجلس، في الوقت الذي يعبر عن مخالفته لهذا الحكم مشيرًا إلى بعض مواطن الضعف له، مع أن النظرية التي يقترحها د. سوار لا تخلو من نقاط الضعف نفسها، إذ يقول:(لئن كنا ندعو إلى نظرية خيار الطريق وهي صورة مهذبة لنظرية خيار المجلس فنحن في نفس الوقت ننحاز إلى جانب نفاة هذه النظرية الأخيرة، نظرًا لإضعافها القوة الملزمة للعقد من جهة، وصعوبة تطبيقها في حالة التعاقد بين الغائبين من جهة أخرى) . سوار، التعبير، ص136 هامش4.، ولكننا إذا أمعنا النظر في آراء من يقول بخيار المجلس نجد أن إمكانية الرجوع عن الإيجاب – حتى عند هؤلاء – محدد بوقت مفارقة المرسل إليه المجلس بعد صدور القبول، وفي هذا المعنى ورد في كتب الشافعية:: قال الغزالي في الفتاوى إذا صححنا البيع بالمكاتبة فكتب إليه ثبت له خيار المجلس ما دام في مجلس القبول. قال ويتمادى خيار الكاتب إلى أن ينقطع خيار المكتوب إليه حتى لو علم أنه رجع عن الإيجاب قبل مفارقة المكتوب إليه مجلسه صح رجوعه ولم ينعقد البيع ((2) فبناءً على ذلك، إذا صدر القبول وفارق المرسل إليه المجلس فلا يمكن القول بعد ذلك بقيام حق الرجوع عن الإيجاب في أي من مذاهب الفقه الإسلامي.
كما يلاحظ أن د. سوار يظن – كما كان شأن بعض الباحثين الآخرين_ إن إعطاء الموجب حق الرجوع عن الإيجاب إلى وقت انعقاد العقد من المستلزمات الضرورية لنظرية العلم (كذلك النظريات الأخرى سوى نظرية الإعلان) ، ويحاول – انطلاقًا من هذا الفهم – أن يليِّن نظرية الإعلان بإعطاء حق الخيار لكل من الطرفين ريثما يصل القبول إلى علم أو متناول يد الموجب وذلك بعد الحكم بأن العقد قد انعقد منذ وقت الإعلان عن القبول. ولكن ليس من الصعب للباحث أن يتفطن إلى محاذير إعطاء الموجب حق الرجوع عن الإيجاب بعد صدور القبول وبعد الحكم بأن العقد قد انعقد سواء من الناحية النظرية أو العملية إذا أخذ بعين الاعتبار الفكرة الأساسية التي تعتمد عليها العقود اللازمة (3)(وهذا بغض النظر عن حالات الاتفاق بالخاص التي يحمل الإيجاب فيها قيدًا احترازيًا في توسيع حق الرجوع عن الإيجاب كما أشرنا إليها تحت عنوان 3-1-2) .
(1) يصادف في كتب الأحناف بعبارات مثل: (ويصح رجوع الكاتب والمرسل عن الإيجاب الذي كتبه وأرسله قبل بلوغ الآخر وقبوله) . انظر مثلا: ابن الهمام، فتح القدير، 5/462.
(2)
النووي، المجموع، 9/168.
(3)
(اعلم أن الأصل في العقد اللزوم، لأن العقد إنما شرع لتحصيل المقصود من المعقود به أو المعقود عليه ودفع الحاجة، فيناسب ذلك اللزوم دفعًا للحاجة وتحصيلًا للمقصود) القرافي (شهاب الدين) ، أنوار البروق في أنواء الفروق، بيروت، ط. دار المعرفة بالأوفست، الفرق السابع والمئتان، 4/13.
ومن جهة أخرى فإننا، نلاحظ أن نظرية خيار الطريق التي جاء بها د. سوار تتعارض مع أفكاره في مسألة توصيف (القبول)، وبذلك تكون آراء د. سوار قد نقضت نفسها بنفسها. وإليك إيضاح ذلك:
يشير د. سوار – عندما ينتقد نظرية العلم – إلى حالات القبول الضمني التي يعتبر العقد فيها قد تم في الزمان الذي بدأ فيه التنفيذ (في القانون المصري)، ثم يقول:(.. ليس من المقبول عقلًا اعتبار انعقاد العقد متراخيًا إلى حين وصول القبول إلى علم الموجب في الحالة الأولى (أي حالة القبول الصريح) ، واعتبار انعقاد العقد فوريًّا بمجرد صدور القبول في الحالة الثانية (أي حالة القبول الضمني) ؟! وبعبارة أخرى ليس من وجه سائغ لاعتبار القبول الصريح تعبيرًا متلقى في الوقت الذي يعتبر فيه هذا القبول نفسه لو صدر بصورة ضمنية تعبيرًا ملقى!) (1) .
ومن جهة أخرى يقول د. سوار حين تعيينه لنطاق نظرية خيار الطريق أما المعاوضات المالية التي يكون القبول فيها ضمنيًّا. فهي خارجة عن نطاق تطبيقها وهي تظل من ثم خاضعة للقاعدة العامة في نظرية الإعلان، أي أن العقد فيها يقوم منعقدًا ولازمًا بمجرد القبول، ثم يأتي المؤلف بتوضيحات معقولة للفكرة التي تستند إليها أحكام القبول الضمني (2)(وهذا أمر معروف في أنظمة القانون التي انحازت إلى نظريات مختلفة عدا نظرية الإعلان بصفة عامة) . وكما يلاحظ أن وجه الانتقاد الذي يوجهه د. سوار إلى نظرية العلم (مع الحكم بأن العقد ينعقد في وقت التنفيذ في حالات القبول الضمني) موجود أيضًا في النظرية التي جاء بها وأسماها نظرية خيار الطريق (3) .
* رأي د. القره داغي في النظرية التي يجب الأخذ بها.
سبق أن ذكرنا أن د. القره داغي يبدي موقفًا حاسمًا من ترجيح نظرية الإعلان، كما سبق أن ذكرنا الأسباب التي يستند إليها في هذا الترجيح باختصار. والآن سنبين رأينا في هذه الأدلة حسب الترتيب السابق.
1-
مع قبولنا بأن الحاجة تمس إلى سرعة إنهاء المعاملات في عصرنا، فإن القول بأن الفقه الحديث يتجه- في الغالب – لحل هذه القضية إلى نظرية الإعلان لا يعتبر صائبًا. وقد سبق أن بينا موقف التشريع الحديث في بلاد العالم المختلفة من هذه القضية.
(1) سوار، التعبير، ص134.
(2)
سوار، التعبير، ص134.
(3)
قارن مع ما ورد في كتاب د. سوار تحت عنوان (تعاصر تمام التعبير الملقي ولزومه) ، التعبير، ص105.
ويكفي لنا أن نشير هنا إلى موقف اتفاق فيينا في هذه القضية: - ذلك الاتفاق الذي يعتبر ممثلًا لآخر ما توصل إليه معظم الحقوقيين في العالم في هذا المضمار- وهو الانحياز إلى نظرية استلام القبول.
2-
نرى أن د. القره داغي يقع في نفس المعضلة التي وقع فيها د. سوار حيث يفهم من كلامه أنه يعتقد أن الانحياز إلى نظرية العلم (أو إلى نظرية أخرى عدا نظرية الإعلان) يستلزم بالضرورة إعطاء الموجب حق الرجوع عن إيجابه إلى وقت انعقاد العقد. إذا يقول في نظرية العلم مثلًا: (حيث إن للموجب الحق في رفض التعاقد بعد القبول..) ويقول: (.. كما إنه يعطي فرصة لأحدهما أن يسحب إيجابه أو عرضه..) ويقول في نظريات العلم والاستلام والتصدير) وقبل انعقاد العقد على ضوء هذه النظريات يكون للموجب الحق في الرجوع كقاعدة عامة (1) . وهذا المعنى يفهم من كلامه بوضوح أكثر، إذ يقول:(وأما المالكية فهم يقولون بأن الإيجاب ملزم للموجب – كما سبق- فعلى هذا لا يتماشى مع قواعد مذهبهم أن يشترطوا علم الموجب بقبول القابل حتى يتم العقد)(2) وكما يلاحظ فإن د. القره داغي يظن أن اعتبار الإيجاب ملزمًا لا يسمح لنا بتبني نظرية عدا نظرية الإعلان، وهذا الفهم ليس صحيحًا – كما بينا -.
3-
مع أن كلام المؤلف يعكس حقيقة الأمر حين أشار إلى أن الأدلة التي تدعم نظرية العلم لا تخلو عن كونها أدلة للإثبات، فإننا نلاحظ أن قضية الإثبات في هذا الموضوع تحظى بأهمية بالغة تقتضي القول بالتخلي عن نظرية الإعلان.
4-
نلاحظ أن المؤلف قد أصاب حين أشار إلى نشوء مشاكل تحدث بسبب حالات القبول الضمني. ولكن هذا لا يستلزم بالضرورة أخذ نظرية الإعلان على إطلاقها، بل إن هذه القضية قد تم تنظيم أحكامها بشكل خاص حتى في الأنظمة القانونية التي أخذت بنظرية استلام القبول وبنظرية العلم بالقبول (3)
* رأي د. الإبراهيم في النظرية التي يجب الأخذ بها.
قبل كل شيء نرى لزامًا علينا أن نذكر أن د. الإبراهيم لم يحالفه الصواب حينما نسب إلى د. سوار قوله أن الفقه الإسلامي يتبنى نظرية العلم بالقبول (4) . ويبدو أنه لم تتح فرصة دراسة كتاب د. سوار جيدًا، لأن رأي د. سوار في هذا الموضوع هو كما ذكرناه سابقًا.
ونجد د. الإبراهيم أنه يشير إلى أن نظرية الإعلان تمنع الموجب عن الرجوع عن إيجابه (5) ، وكذلك يلح على أهمية هذه النقطة حين يعبر عن ترجيحه في هذا الموضوع تحت عنوان (موقف الإسلام من النظريات الأربع)(6) ، أي أنه يخلط أيضًا – كما كان الشأن في كلام كل من د. سوار ود. القره داغي – بين الفكرة الأساسية في هذه النظريات وبين مسألة حق الرجوع عن الإيجاب. والحقيقة أن بعض عبارات المؤلف يدل على أنه لم يجد فرصة كافية لدراسة هذه النظريات كما ينبغي، مثل العبارات التالية:(وتعتبر نظريتا إعلان القبول والعلم به أشهر هذه النظريات وأكثرها أنصارًا)(7) ، (والملاحظ أن نظرية العلم بالقبول هي التي يميل معظم فقهاء القانون المدني إلى الأخذ بها)(8) .
(د د) رأينا في هذه المسألة من خلال نقد النظريات السابقة:
إذا نظرنا إلى المسألة من زاوية تكون العقد يجب القول بأن العقد ينعقد بتلاقي الإيجاب بالقبول في حالة ما إذا توفرت الشروط اللازمة في كل من الإيجاب والقبول وارتباطهما. وهذه النظرة تقتضي تبني (نظرية الإعلان) . ولكن المقصد الأساسي من التعاقد ليس تحقيق بعض الشكليات، بل هو إيجاد بعض الحقوق والالتزامات بتراضي الطرفين، أي تحقيق مصلحة الطرفين، وبالتالي فإن النظر إلى المسألة من هذه الزاوية تقتضي اشتراط علم كل من الطرفين. برضا الطرف الآخر ويؤدي ذلك إلى تبني (نظرية العلم) .
(1) القره داغي، مبدأ الرضا، 2/1114، 1126.
(2)
القره داغي، مبدأ الرضا، 2/1097.
(3)
لقد أشرنا إلى هذه المسألة أعلاه، انظر، سوار، التعبير، ص134.
(4)
انظر: الإبراهيم، (حكم إجراء العقود) ، ص125.
(5)
الإبراهيم، (حكم إجراء العقود) ، ص120.
(6)
الإبراهيم، (حكم إجراء العقود) ، ص127.
(7)
الإبراهيم، (حكم إجراء العقود) ، ص122
(8)
الإبراهيم، (حكم إجراء العقود) ، ص124.
وبالرغم من أن الفقهاء لم يتناولوا مسألة اشتراط علم الموجب بخبر القبول في التعاقد بين الغائبين بصورة خاصة، وقالوا بأن العقد ينعقد – بصفة عامة – بمجرد الإعلان عن القبول منطلقين من ظروف زمنهم، فإنه يمكن تبني نظرية العلم في التعاقد بين الغائبين بالتعويل على الرأي السائد الذي يقول باشتراط علم الموجب في التعاقد بين الحاضرين (أي بالتعويل على المبدأ السائد في تفكير الفقهاء أيضًا) على غرار اقتراح د. السنهوري.
بيد أنه تبين من خلال التطبيقات الحقوقية (أي بعد أن قامت مختلف بلاد العالم بتجربة النظريات المختلفة) أن كلًا من هاتين النظريتين تحتمل إلى حدٍ كبير سوء الاستعمال وغير صالحة لتحقيق مصلحة الطرفين. وأن دعوة د. سوار إلى التخلي عن هاتين النظريتين ومحاولته لإيجاد حل وسط بينهما – رغم ادعائه بأن القبول في التعاقد بين الغائبين هو تعبير ملقي بإجماع الفقهاء-، إنْ دل هذا على شيء إنما يدل على أن الانحياز إلى كل من هاتين النظريتين في ظروف وقتنا الحاضر لا يتفق وأسس الفقه الإسلامي.
وكذلك يدل موقف د. السنهوري – الذي له خبرة واسعة في مجال القانون- من هذه القضية (وهو كما سبق – لا يرى تبني نظرية الإعلان ملائمًا لتفكير الفقهاء بالرغم من تصريحه بأن ظاهر أقوال الفقهاء في اتجاه تبني نظرية الإعلان في التعاقد بين الغائبين، ولهذا يميل إلى نظرية العلم) على أن نظرية الإعلان لا تأتي في ظروف يومنا هذا بنتائج يطمئن الفقيه إليها حسب أسس الفقه الإسلامي.
وإذا وضعنا نصب أعيينا التعليلات الفنية التي قام بها الفقهاء المسلمون حين دراستهم لصورة تحقق التراضي (أي تلاقي الإيجاب بالقبول) ، نلاحظ إنهم يجعلون المصلحة والقواعد المستمدة من هذا المبدأ مثل الضرورة والتيسير مهيمنة على الحلول التي توصلوا إليها.
إذن، فإن الحل السليم في هذا الموضوع هو ذلك الحل الذي يسد حاجات الطرفين بأكمل وجه والذي يحصر الخلاف والنزاع في حدِّه الأدنى ولا يؤدي إلى الأمور المنهي عنها في الفقه الإسلامي مثل إضرار الغير والكسب غير المشروع. والذي يجب على الفقهاء المعاصرين في وقتنا الحاضر، هو الأخذ بعين الاعتبار الحلول المحتمل تطبيقها في هذه القضية واختيار أوفقها للأوصاف آنفًا.
وقد سبق أن أشرنا إلى الصور الخمس لحل هذه القضية، وهي تلك الصور التي ظهرت من خلال التطبيقات القانونية في عالمنا اليوم الذي يمتلئ بالعلاقات التجارية المكثفة والتي تبني كلا منها مختلف البلاد في العالم. ولا شك أن الاحتمالات المنطقية لا تنحصر في هذه الصور الخمس، ويمكن إيجاد نظريات جديدة بطريقة إضافة بعض العقود إلى تلك الصور.
ولكننا نفضل – بدل المصير على نظرية جديدة – اختيار إحدى النظريات التي ظهرت محاسنها ومساوئها بشكل جلي من خلال التطبيقات القانونية التي هي بمثابة مرآة الحاجة (المصلحة) ، ما لم يوجد دليل خاص في الفقه الإسلامي (دون أن نعترض على إيجاد نظرية جديدة إذا أمكن دعمها بدليل مقنع) .
وينبغي لنا الآن، أن نلم إلمامًا سريعًا بمحاسن ومساوئ تلك النظريات الخمس:
1-
نظرية إعلان القبول:
لقد وُجِّه انتقاد إلى هذه النظرية من ناحية التوصيف الفقهي للتعبير عن (القبول) أولًا. لأن القبول إذا تم اعتباره من التعبيرات المتلقاة – تمشيًّا مع الرأي السائد -، لا يمكن القول بأن العقد ينعقد بمجرد الإعلان عن القبول، مثلًا في حالة ما إذا كتب المرسل إليه قبوله في رسالة ثم لم يرسلها إلى الموجب.
إذا تم تبني هذه النظرية فإن إثبات وقت صدور القبول يشكل صعوبة كبيرة إلى درجة إنه يستحيل الإثبات في غالب الأحيان، وعلى سبيل المثال، إذا أعلن المرسل إليه عن قبوله إما بكتابة رسالة – لم يودعها في البريد بعد – أو بتعبير شفهي عند أحد موظفيه فإن العقد يعتبر منعقدًا وينتج آثاره منذ وقت صدور القبول حسب هذه النظرية. ولكن القابل يسعه أن يغير مضمون القبول أو يبطله ما لم يرسله إلى الموجب. أما تمكن الموجب من إثبات صدور هذا القبول ومن إثبات محتواه فلا يمكن الوصول إليه في غالب الأحيان.
إن هذه النظرية – مع أنها لا تتضمن فوائد النظرية التالية (أي نظرية تصدير القبول) - فإنها تنطوي على محاذيرها أيضًا. حيث إن القبول يمكن أن يفقد في الطريق بعد أن أرسله القابل، وأن الموجب الذي ليس على علم بذلك قد يعتبر إيجابه ساقطًا وقد يتعاقد مع شخص آخر ظنًّا منه بأن إيجابه لم يقبله المرسل إليه. وفي مقابل ذلك، يكون القابل في هذه الفترة على ثقة من انعقاد العقد وينظم أموره حسب ذلك.
2-
نظرية تصدير القبول:
وهذه النظرية تتفادى مواطن الضعف والانتقادات الموجهة للنظرية السابقة حيث يتصف القبول فيها بصفة التعبير المتلقي، وتنتفي صعوبات الإثبات إلى حد كبير. وإذا أمعنّا النظر في هذا الحل من زاوية موازنة مصالح الطرفين، نلاحظ أن الموجب هو الذي يتحمل عبء فقدان القبول في الطريق، لأنه يعتبر في مثل هذه الحالة ملزمًا بالعقد مع أنه ليس على علم بالقبول. ومن جهة أخرى يلاحظ أن هذا الحل في صالح القابل لأن هذه النظرية أتاحت له فرصة الاطمئنان إلى انعقاد العقد من جهة والاستفادة من نتائج العقد وآثاره فورًا من جهة أخرى. أما إمكانية الرجوع عن القبول أو التغيير فيه للقابل محدودة بفترة قصيرة جدًّا
3-
نظرية استلام القبول:
راعت هذه النظرية موازنة مصالح الطرفين حيث أجلت انعقاد العقد وظهور آثاره إلى وقت استلام القبول ومنحت القابل فترة أطول نسبيًّا بالمقارنة مع النظرية السابقة، وكذلك لم تحكم بانعقاد العقد في حالة ضياع القبول في الطريق بهذا وسلكت مسلكًا يؤدي بالنزاعات والخلافات إلى حدها الأدنى.
وأهم محذور في هذه النظرية هو الصعوبة في تحديد وقت وصول خبر القبول، ويمكن الإشارة إلى قاعدة تمثل النقاط المشتركة لآراء ظهرت بخصوص هذه القضية وهي: أن المقصد من (الوصول) هو بلوغ خبر القبول إلى متناول يد الموجب وأن يكون الموجب في حالة تمكنه من الإطلاع على هذا الخبر كلما شاء، وليس المقصود من ذلك وصول عين الخبر إلى ذات الموجب، فالرسالة مثلًا إذا ألقيت في صندوق بريد الموجب فإن الوصول يكون قد تحقق من جراء ذلك.
4-
النظرية المختلطة:
إن هذه النظرية تعتمد على نظرية استلام القبول من زاوية وقت انعقاد العقد وتعتمد على نظرية تصدير القبول من زاوية سريان مفعول العقد - كما سبقت الإشارة إلى ذلك -، وقد استهدفت هذه النظرية إزالة محاذير النظريتين الآنفتي الإشارة.
وقد لا تعد هذه النظرية وجيهة باعتبار أنها تأخذ بمبدأ سريان مفعول العقد قبل وقت انعقاده مما ينافي المنطق. ولكن بعض التشريعات انحازت إلى هذه النظرية انطلاقًا من الفرضية التالية: إن العاقدين يريدان أن ينتج العقد آثاره في وقت مبكر بقدر الإمكان، وانطلاقًا من مبدأ توفير السرعة في المعاملات أي لتحقيق مصالح الطرفين المشتركة. ويلاحظ أن هذه النظرية سلكت مسلكًا يعدّ في صالح مبدأ الحفاظ على العقد (Favor Contractus) . لأن إثبات الإرسال أسهل بالنسبة إلى إثبات الوصول.
5-
نظرية العلم بالقبول:
توفر هذه النظرية إمكانية التأكد من انعقاد العقد، ولا تترك مجالًا للشك من هذه الناحية. ولكنها تحتمل إلى حد كبير سوء الاستعمال. لأن قبول انعقاد العقد يعد كأنه متروك إلى مشيئة الموجب.
ومن محاذير هذه النظرية أيضًا، الصعوبة في إثبات الاطلاع (على القبول) ووقته؛ والبطء في سير المعاملات (1)
* ترجيحنا
بما أننا أشرنا في بداية هذا العنوان إلى عدم صلاحية كل من نظريتي الإعلان والعلم لسدّ حاجات الطرفين وتحقيق مصالحهما مع اعترافنا باستناد كل منها إلى أساس منطقي رصين من الناحية النظرية، فإننا لن نتطرق إلى الحديث عنهما مرة أخرى.
(1) يراجع في هذا الموضوع: المراجع المذكورة في الهامش رقم 114، 115 من هذا البحث. وانظر أيضًا: SCHWARZ، Borclar، vol. 1، P.224
وإذ قمنا بموازنة بين النظريات الثلاث الباقية نجد أن النظرية المختلطة تحاول أن تجمع محاسن نظريتي التصدير والاستلام، وأن تزيل مساوئهما ولهذا يستحق الأخذ بها. إلا أنه يمكن الاعتراض على هذه النظرية من ناحية الفقه الإسلامي بحجة أنها تتضمن خروجًا بينًا على القاعدة الفلسفية التي تقتضي تقدم السبب على مسببه، والقاعدة الفقهية التي تقضي بتعاصر تمام التعبير وإنتاجه لأنه. ومع هذا يمكن التسامح في الخروج عن القاعدة إذا أمكن التأكد من تحقيق المصلحة بهذه الطريقة، لأن هناك مسائل تتقدم الأحكام فيها على أسبابها في الفقه الإسلامي. (1) .
ومع أننا نشارك د. السنهوري فيما ذهب إليه من أن الأمر يرجع قبل كل شيء إلى نية المتعاقدين، بل هو يرجع في الواقع إلى إرادة الموجب، وآمن فرض في تفسير إرادة الموجب أن يفرض ما هو في صالحه، والأصلح له ألا يتم العقد إلا عند علمه بالقبول، فإننا نلاحظ أن د. السنهوري يقترح في نهاية الأمر أخذ نظرية العلم ولكن على أن يكون استلام القبول قرينة على حصول العلم. وكذلك نعرف أن الأخذ بنظرية العلم بهذا القيد يؤدي إلى نظرية استلام القبول باعتبار أغلب نتائجها على الصعيد العملي كما سبق. ولذا نجد د. السنهوري نفسه يقول في الهامش:(ويتفق هذا الرأي مع الرأي الذي أخذ يتغلب في التشريع الحديث، فإن نظرية العلم بالقبول معدلة بنظرية استلام القبول هي النظرية التي يظهر أنها أخذت تكسب أنصارًا أكثر من غيرها من النظريات الأخرى. (2)
ونظرًا لهذا كله، ونظرًا لعدم اتصاف نظرية استلام القبول بالتعقيد نسبة إلى النظرية المختلطة، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أيضًا أن اتفاق فيينا – الذي يمثل آخر ما توصل إليه معظم الحقوقيين في العالم في هذا الموضوع – قد قرر الانحياز إلى نظرية استلام القبول، فإن ترجيحنا يتعين في الأخذ بهذه النظرية.
3-
3-4- تحديد مكان العقد:
إن تشخيص وسائل الاتصال الحديثة وتعيين أحكام التعاقد بها لا يحظى في تحديد مكان انعقاد العقد بأهمية قدر ما يحظى بها في تحديد وقت انعقاد العقد ولهذا سنكتفي هنا بالإشارة إلى أمور ثلاثة في إيجاز شديد:
الأمر الأول: إن تحديد مكان انعقاد العقد يرجع قبل كل شيء إلى مشيئة المتعاقدين، وإلى تفسير وتقدير القاضي حسب الظروف المختلفة التي تحيط بالعقد والمتعاقدين.
الأمر الثاني: يتفق تحديد الوقت مع تحديد المكان في بعض الحالات.
الأمر الثالث: يختلف تحديد الوقت عن تحديد المكان في بعض الحالات الأخرى (3) .
(1) انظر: سوار، التعبير، ص99، 67.
(2)
السنهوري، نظرية العقد، ص303، 304 وهامش 1. وينبغي التنبه إلى أن هذا الفهم يتفق وما ورد في الكتب الفقهية من آراء الفقهاء المسلمين، انظر الهامش رقم 79 من هذا البحث.
(3)
ولمزيد من المعلومات انظر: السنهوري، نظرية العقد ، 309- 312؛ سلطان ، مصادرالالتزام ص 68؛ محمصاني، النظرية العامة، 2/67؛ GHESTIN، TRAITE de Droit Civil، vol. 2P. 193-194; FEYZIOGLU، Borclar، Hukuku، vol. 1، P. 76.
-4-
تصنيف وسائل الاتصال الحديثة
وتعيين الأحكام التي تترتب على كل نوع منها
قبل كل شيء ينبغي لنا أن نلفت النظر إلى أن المقصود هنا من الوسائل هو ما يوفر إمكانية المخابرة أو المراسلة بين طرفي العقد المتباعدين من وسائل الاتصال الحديثة فقط، ولا يدخل في نطاق هذا الموضوع دراسة الأجهزة الأتوماتيكية التي تقوم مقام أحد طرفي العقد (أو كليهما) ، ويمكن للقارئ أن يرجع على عنوان (3-1-1) لتصور الحالات التي يمكن فيها استخدام وسائل الاتصال من جهة، واستخدام الأجهزة القائمة مقام أحد طرفي العقد في نفس الوقت من جهة أخرى.
إذن، فالسؤال الذي تدور دراستنا حوله هنا هو: إذا تم العقد والطرفان متباعدان تباعدًا ماديًّا إذا تم التعاقد بتوجيه الإيجاب إلى المخاطب بطريقة الكتابة (وليس شفهيًّا) وطرفا العقد في مجلس (مكان) واحد، هل يطبق في هذا العقد أحكام التعاقد بين الغائبين أم أحكام التعاقد بين الحاضرين؟ فهذه المسألة جرت مناقشة حولها في الفقه الغربي وظهرت آراء مختلفة فيها، انظر:
STANDINGER/COING، Kommentar zum burgerliches Gesetzbuch، Berlin، 1957، band 1،: 47، no. 3; FLUME (Werner) ، Allgemeiner Teil dse Burgerlichen Gesetzbuch، Berlin، 1960، 1/1، ; 35، 1، 2،
نقلًا عن:
TEKINAY، Borclar Hukuku، P.95، not.15.
انظر لبعض الفرضيات في هذا الموضوع، السنهوري، نظرية العقد، ص289 وهامش 3، 4. وقد ناقش الفقهاء المسلمون في جواز هذه الصورة للتعاقد أو عدم جوازها. والذي يفهم من خلال هذه المناقشات هو وجوب تطبيق أحكام التعاقد بين الحاضرين في هذه الصورة عند من يجوزها. انظر: القره داغي، مبدأ الرضا، 2/941 –949. فهل يطبق على هذا النوع من التعاقد أحكام التعاقد بين الغائبين بصورة مطلقة أم يجب تطبيق أحكام تختلف باختلاف وسائل الاتصال؟
وحسب ما يبدو لنا فإنه ينبغي تناول الوسائل التي يطلق عليها اسم (وسائل الاتصال الحديثة) من ناحية الأحكام التي تترتب على التعاقد بهذه الوسائل في فئتين:
(أ) الهاتف وما شابه من وسائل.
(ب) الكتابة (الرسالة) وما شابه من وسائل.
وقبل الانتقال إلى دراسة كل من هاتين الفئتين نود أن نشير إلى أمرين عامين:
الأمر الأول: لا ينصب اهتمام بحثنا هذا – مبدئيًّا – على مسائل الإثبات التي قد تحدث في التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة كما نبهنا إلى ذلك في (التمهيد وتحديد الموضوع) وعلى هذا فإننا لن نتطرق إلى تناول الصعوبات التي قد تعترض أثناء إثبات التعاقد بالتلفون (1) وسنحصر دراستنا هنا على (انعقاد العقد) فقط.
(1) انظر لبعض الطرق المستخدمة في إثبات التعاقد بالتلفون: السنهوري، نظرية العقد، ص291 هامش1. علمًا بأن هناك تطورات في مجال التكنولوجيا في الآونة الأخيرة يسهل بفضلها حل هذه القضية إلى حد كبير.
الأمر الثاني: إن الغلط أو التزوير الواقع أثناء تبليغ إرادة أحد الطرفين إلى الطرف الآخر، يشكل موضوعًا خاصًّا بين مواضيع فقه الالتزامات. ولبيان أحكام هذه الحالات يجب أولًا دراسة كل من نظريتي (الإدراة الظاهرة) و (الإرادة الباطنة)(آراء المذهب المادي والمذهب الشخصي) وتناول موقف الفقه الإسلامي من هاتين النظريتين بشكل مفصل وهذا – كما يظهر – يبقى خارج نطاق موضوع بحثنا.
(أ) الهاتف وما شابهه من وسائل الاتصال:
في حالة التعاقد الذي يتم بواسطة هذا النوع من الوسائل يتحقق ارتباط الإيجاب بالقبول كما في التعاقد بين الحاضرين، وإن كانت هنالك مسافة بعيدة بين طرفي العقد لأن الإعلان عن القبول والعلم به يتحققان بآن واحد – عدا بعض الحالات الاستثنائية – ولهذا يجب تطبيق أحكام التعاقد بين الحاضرين من حيث الزمان إذا تم العقد بهذه الطريقة. ويلاحظ أن التشريعات الحديثة وآراء الباحثين في الفقه الإسلامي تتفق على قبول هذه المنطقة (1) .
والسمة المميزة في التعاقد بالتليفون هي أن هذه الطريقة تمكّن الطرفين من تبادل التعبير عن إرادتهما وإجراء مفاوضات العقد بينهما بشكل شخصي كما كان في التعاقد بين الحاضرين بعينه. ففي مثل هذه المكالمة لا يصعب – من الناحية الفقهية – القيام بتثبيت ما به يتعين تحقق أو عدم تحقق ارتباط الإيجاب بالقبول، أو الإعراض عن العقد أو انفضاض مجلس العقد، فلهذا يجب أن تتصف الوسائل التي يمكن إلحاقها بهذه الفئة بالصفة المشار إليها آنفًا في المكالمة التلفونية. إذن يمكن القول بأن التلفون التلفزيوني (الآلة التي تجعل الصورة مصاحبة للصوت) وما شابهه يلحق بهذه الفئة من باب أولى. أما الوسائل مثل التلكس والفاكس وما شابهها فإننا لا نرى إلحاقها بهذه الفئة بصورة مطلقة.
وليتضح لنا هذا الأمر يجب أن يقوم بتحليل بعض الحالات في التعاقد بالتلفون ثم نقارن بينه وبين التعاقد بهذه الوسائل:
لنفرض أن المكالمة انقطعت أثناء التعاقد بالتلفون وذلك بعد أن صدر الإيجاب من الموجب وسمعه المخاطب، فهل يعتبر الإيجاب في هذه الحالة ساقطًا وبالتالي لا ينعقد العقد حتى ولو رفع الطرف الآخر الهاتف فورًا وعبر عن قبوله مخاطبًا الموجب، أو يعتبر أن الإيجاب لا زال قائمًا ويمكن بالتالي انعقاد العقد إذا عبر المخاطب عن قبوله بهذا الشكل؟
(1) انظر مثلًا: الإبراهيم، (حكم إجراء العقود) ص131.
نلاحظ أن رجال القانون (في الفقه السويسري والألماني) يفرقون في هذه المسألة بين احتمالين مختلفين: لو كانت المكالمة قد انقطعت بسبب عرض فنّيّ فإن الإيجاب يعتبر ساقطًا. أما إذا انقطعت المكالمة بفعل صدر عن الموجب عمدًا فإن للمخاطب حق بناء قبوله على هذا الإيجاب بأن يهتف فورا أو بأن يرسل القبول بوسيلة سريعة مثله (1) .
والذي يجب الانتباه إليه هنا هو أن الرأي القائل بأن الإيجاب يبقى قائمًا في الاحتمال الثاني ينطلق من حكم إلزامية الإيجاب. ولكننا إذا انطلقنا من حكم خيار الرجوع عن الإيجاب ما لم يصدر القبول (وهو الرأي السائد في الفقه الإسلامي والذي نراه راجحًا بالنسبة للتعاقد بين الحاضرين فيما إذا لم يحدد الموجب ميعادًا للقبول) ، ينبغي لنا القبول بأن الإيجاب يسقط حتى في حالة انقطاع المكالمة بسبب الفعل الصادر عن الموجب عمدًا. وحقيقة، أن الموجب إذا قصد من وراء فعله هذا الرجوع عن إيجابه نادمًا على هذا الإيجاب الذي لم يحدّد ميعاد معين لقبوله والذي لم يرتبط بالقبول بعدُ فإن منح هذا الحق له يكون أقرب للعدل وأوفق لمبادئ الالتزامات المعروفة في الفقه الإسلامي، إلى جانب صعوبات الإثبات التي تتمثل في انقطاع الخط بسبب فنّيّ أو بسبب فعل صادر عمدًا. وعلى هذا لا يمكن بناء القبول على الإيجاب الساقط في مثل هذه الحالة ولو وجه المخاطب قبوله بوسيلة أخرى فورًا.
والحقيقة أن القبول إذا صدر عقب الإيجاب (أي دون أن يكون بينهما فاصل زمني يتجاوز الحد المسموح في التعاقد بين الحاضرين) في التعاقد بواسطة التلكس وما شابهه فإن تعيين نوعية التعاقد (أي هل هو تعاقد بين حاضرين أم بين غائبين) ، لا يحظى بأهمية كبيرة على الصعيد العملي. لأن المدة التي تفصل بين الإيجاب والقبول قصيرة جدًّا، ولا تختلف النتائج العملية اختلافًا كبيرًا في مثل هذه الحالة أيًّا كان ترجيحنا في النظريات التي تحدد وقت انعقاد العقد، ولعل أهم مسألة في هذه الحالة هي أن يرسل المخاطب خبر رجوعه عن القبول إلى الموجب بوسيلة أسرع من الوسيلة التي استخدمها في إرسال القبول، ولا شك أن إلحاق هذه الوسائل إلى الفئة الأولى – التي نحن بصددها – أو إلى الفئة الثانية التي سنتناولها في السطور القليلة القادمة يكتسب أهمية لا يستهان بها.
(1) FLUME (Werner) Allgemeiner Teil des Burgerlichen Rechts، des Rechtsgeschaft، 1965.: 35، 1.2 P.638; نقلًا عن: TEKINAY، Borclar Hukuku، P.93.
أما الأهمية الكبرى لإلحاق هذه الوسائل إلى هذه الفئة أو إلى تلك وبالتالي اعتبار التعاقد بها تعاقدًا بين حاضرين أم بين غائبين تتبلور في حالة عدم صدور القبول عقب الإيجاب، وإذا تم إلحاق هذه الوسائل بهذه الفئة – التي نحن بصددها -، يجب اعتبار الإيجاب ساقطًا إذا حصل انقطاع في المراسلة لسبب ما قبل صدور القبول أو وصوله إلى الموجب حسب ما بينا الحالة نفسها في المكالمة الهاتفية. ولكننا إذا أمعنا النظر في القضية نلاحظ أن التعاقد بوسيلة التلكس أو الفاكس أو ما شابه ذلك لا يستند في حقيقة الأمر على أساس تبادل وجهات النظر وجهًا لوجه بل يهدف إلى إتاحة فرصة التأمل والتروي للطرف بالمقابل أكثر مما يوجد في التعاقد بالتلفون، إلى جانب أنه يهدف – بطبيعة الحال – إلى تثبيت العقد بمستند كتابي، مع أن استخدام هذه الوسائل واستخدام التلفون يتفقان في غاية واحدة وهي تأمين السرعة في المعاملات. إذن، فإن الإيجاب المرسل بهذه الوسائل يجب اعتباره قائمًا إذا انقطعت المراسلة حتى لو أرسل المخاطب قبوله بوسيلة أسرع منها دون انقطاع في المراسلة، ما لم يصل رجوع الموجب عن إيجابه إلى المخاطب قبل صدور القبول، وعلى هذا يمكن بناء القبول على ذلك الإيجاب أي ينعقد العقد بصدور القبول الموافق لهذا الإيجاب.
ونشاهد أن قضية إلحاق التلكس بالبرق أو بالتلفون قد اختلفت فيها الآراء سواء عند القانونيين أو عند الباحثين المعاصرين في الفقه الإسلامي.
وكما هو معلوم أن المراسلة بالتلكس تختلف عن البرق من جهة عدم الحاجة إلى وساطة مصلحة البريد، ولهذا يمكن أن يتواجد كل من طرفي العقد عند آلتي التلكس وأن تتم المراسلة بينهما خلال مدة قصيرة. أما إذا تمت المراسلة بالتلكس بوجود أشخاص آخرين دون أن يوجد كل من طرفي العقد عند آلتي التلكس فلا شك أن التلكس يلحق بالبرق وأن التعاقد بهذه الطريقة تأخذ أحكام التعاقد بين الغائبين.
إذن، فإن الحالة التي يمكن أن تختلف الآراء فيها هي أن يتبادل طرفا العقد الإيجاب والقبول وهما موجودان عند آلتي التلكس. فهناك رأي في الفقه الغربي يقول إن التعاقد بهذه الطريقة لا يمكن تطبيق أحكام التعاقد بين الحاضرين عليه (1) . وهناك رأي آخر يقول بأن المخاطب إذا كان في ظروف تمكّنه من إرسال قبوله فورًا – حسب الإمكانيات التقنية- فإن هذه الطريقة من المراسلة يمكن اعتبارها مثل المكالمة الهاتفية (2) .
(1) ENGEL (Pierrre) ، Traite des Obligations en Droit Suisse، Neuchatel، 1973; نقلا عن: Tekinay، Borclar Hukuku، P. 93-94
(2)
Tekinay، Borclar Hukuku، P. 94
أما اتفاق فيينا ينص في مادته (13) على أن التعبير (الكتابي) يتضمن – من وجهة نظر غاية هذا الاتفاق – التعبيرات عن الإرادة التي ترسل بالتلغراف والتلكس أيضًا، وبهذا اعتبر هذا الاتفاق التلكس من وسائل المراسلة الكتابية. (1) .
أما الباحثون المعاصرون في الفقه الإسلامي فيمكننا أن نعثر على رأيين مختلفين عندهم أيضًا. فيعتبر مثلًا د. القره داغي – ونخن نشاركه الرأي – التلكس مثل البرق (2)، ولكن الإبراهيم الذي كتب مقالًا يتناول حكم التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة بصورة خاصة لا يرى فرقًا بين التلكس والتلفون من جهة نوعية المراسلة ويسوّي حكم التعاقد بهما (3) . ونود الإشارة – قبل كل شيء – إلى أن عبارة د. الإبراهيم التالية لا تعكس الحقيقة حيث يقول:(فالتلكس أحدث وسائل الاتصالات التي تتم بها معظم حالات تبادل الإيجاب والقبول التي تترك أثرًا مكتوبًا) ، لأن هناك وسائل أحدث من التلكس مثل الفاكس. وغايتنا الأساسية إلى هذه الحقيقة المعروفة التي لا تحتاج الوقوف عندها بصورة خاصة، هي التنبيه إلى أن المؤلف المذكور يبدو أنه لم تتح له فرصة كافية لدراسة قضايا هذا الموضوع كما يدل على ذلك مجمل الانتقادات التي أشرنا إليها سابقًا أيضًا. ومن جهة أخرى فإن التعاقد عن طريق التلكس لا يشبه التعاقد عن طريق التلفون إلا إذا تبادل الطرفان الإيجاب والقبول وهما عند آلتي التلكس كما أن إلحاق التعاقد عن طريق التلكس في هذه الحالة بالتعاقد بين الحاضرين رأي لا يميل إليه معظم الحقوقيين.
ومع أن الفاكس أسرع وأحدث بالنسبة إلى التلكس ومع أن المراسلة به يتحقق عن طريق الخط الهاتفي فإننا لا نرى إلحاقه بهذه الفئة – التي نحن بصدد دراستها – نظرًا لتحليلاتنا السابقة سواء بالنسبة للتعاقد عن طريق التلفون أو التعاقد عن طريق التلكس والفاكس.
والخلاصة أننا نرى أن الوسائل التي تمكّن الطرفين من تبادل الإيجاب والقبول شخصيًّا وبشكل مباشر يسمح لهما التعاقد كما في التعاقد بين الحاضرين بعينه هي التي يمكن اعتبارها وحدها في هذه الفئة.
(1) انظر في هذه المسألة: STOFFEL، Formation du contrat، P. 60-61.
(2)
القره داغي، مبدأ الرضا، 2/950-956.
(3)
الإبراهيم، (حكم إجراء العقود) ، ص129، 132.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن تطبيق أحكام هذه الفئة بأسرها على تعاقد ما يجب أن يتم تبادل الإيجاب والقبول في عملية الاتصال نفسها وعن طريق الوسائل الداخلة في هذه الفئة. فمثلًا إذا تم إرسال الإيجاب عن طريق التلغراف وإذا تم تبليغ القبول إلى الموجب أو نائبه بالذات عن طريق التلفون، يجب تطبيق أحكام التعاقد بين الغائبين على هذا العقد بالنسبة للفترة التي تسبق وقت القبول، أما وقت انعقاد العقد فلا يختلف باختلاف النظريات الخمس المعروفة لأن القبول قد صدر وتم التعلم به في آن واحد. ولك إذا بلغ الموجب إيجابه عن طريق التلفون وحدد للمخاطب ميعادًا للقبول وإذا تم تبليغ القبول بعد فترة من الزمن فإن هذا الإيجاب يعتبر كأنه تم تبليغه بالوسائل التي تدخل في الفئة الثانية.
والحري بنا أن نذكر أن بعض الحقوقيين يميلون إلى تطبيق النظريات التي تحدد وقت انعقاد العقد على تحديد مكان انعقاد العقد أيضًا، وعلى هذا يقولون بأن التعاقد بالتلفون – بالرغم من أنه يعتبر كالتعاقد بين الحاضرين من حيث الزمان – يسترجع صفته الحقيقية من حيث المكان ويصبح المكان بين غائبين وأن العقد يعتبر قد تم في مكان (بلد) من صدر منه الإيجاب إذا أخذنا بنظرية العلم وفي مكان (بلد) من صدر منه القبول إذا أخذنا بنظرية الإعلان (1) . ومع أن د. السنهوري يقول:(ولذلك قيل إن التعاقد بالتلفون هو تعاقد فيما بين حاضرين من حيث الزمان) مشيرًا إلى المادة (147) من القانون المدني الألماني والمادة (4) من قانون الالتزامات السويسري (2) ، فإننا لم نجد عبارة (من حيث الزمان) في هذين القانونين، بل نرى أنهما ينصان على هذا الحكم بصورة مطلقة. وهناك تشريعات حديثة نصت على أن التعاقد بطريقة الهاتف أو بأي طريقة مشابهة يسري عليه حكم التعاقد بين الحاضرين من حيث الزمان وحكم التعاقد بين الغائبين من حيث المكان مثل القانون المدني السوري (م.35) والأردني (م.102) . ويلاحظ أن المادة (94) من القانون المدني المصري اكتفت بالإشارة إلى أحكام التعاقد بالتلفون (أو بأي طريق مماثل) حينما نصت على أحكام التعاقد بين الحاضرين. أما القانون اللبناني فقد ذهب إلى حل مرن، فنص أن العقد الذي ينشأ بالمخاطبة التلفونية يعد بمثابة العقد المنشأ بين أشخاص حاضرين. وحينئذ يعين محل إنشائه إما بمشيئة المتعاقدين، وإما بواسطة القاضي وبحسب أحوال القضية (م.185)(3) .
(1) السنهوري، نظرية العقد، ص312.
(2)
السنهوري، نظرية العقد، ص290 وهامش3.
(3)
محمصاني، النظرية العامة، 2/67.
وعلى أي حال فإننا لا نستسيغ تطبيق النظريات التي تحدد وقت انعقاد العقد على تحديد مكان انعقاد العقد في التعاقد بالتلفون. لأن الأسباب والاحتمالات التي تعول عليها هذه النظريات لا يمكن تصورها فيما إذا تم صدور القبول والعلم به بآن واحد – كما رأينا سابقًا -.
(ب) الكتاب (الرسالة) وما شابهه من وسائل الاتصال:
يسري على التعاقد بطريقة هذه الفئة من الوسائل أحكام التعاقد بين الغائبين. وإن إلحاق البرق بهذه الفئة أمر لا يحتاج إلى دراسة خاصة.
وكما سبق أن بينا في الفئة الأولى أن التلكس والفاكس وما شابههما من وسائل بالرغم من إمكانية تصور بعض الحالات لإلحاقها بالتلفون فإنه يجب إلحاقها – في نهاية الأمر وفي التحليل الصحيح – بهذه الفئة.
ومن البديهي أن التعاقد بطريقة إرسال الكاسيت والديسكيت وما شابههما (مع أن هذه الطريقة ليست شائعة على الصعيد العملي حاليًا) يجب ملاحظته في إطار هذه الفئة.
أما التعاقد بالعقل الإلكتروني (وليس عن طريق إرسال الديسكيت) حسب الطريقة التي تسمى بـ (ON-LINE) فإنه يمكن التوصل إلى نتائج مختلفة بدراسة كل حالة من الحالات في هذا النوع من التعاقد. وإذا كان هناك عقل إلكتروني تمت برمجته حسب مضمون العقد، فإن التوصيف الفقهي يكون على أساس قيام الجهاز مقام أحد طرفي العقد (أو كليهما) كما قدمنا سابقًا. ولكن الطرفين إذا تبادلا الإيجاب والقول وهما أمام شاشتي العقل الإلكتروني، فإن هذه الطريقة يجب ملاحظتها في نطاق هذه الفئة مثل إلحاق التلكس والفاكس بها على ضوء ما ورد من توضيحاتنا للمكالمة التلفونية ولهاتين الوسيلتين، وإن كان بالإمكان القول بوجود شبه بين هذه الطريقة والمكالمة التلفونية أيضًا.
الخاتمة وملخص البحث
سنحاول فيما يلي أن نعرض النتائج التي توصلنا إليها من خلال بحثنا هذا مع ملخص للبحث. (وقد أشرنا تحت عنوان التمهيد وتحديد الموضوع إلى بعض الموضوعات الجانبية التي لم نعتبرها في نطاق موضوع بحثنا والتي قد يتساءل القارئ عن عدم تناولنا إياها) .
بعض الملاحظات التي تشكل نقطة الانطلاق لآرائنا:
قبل كل شيء ينبغي لنا أن نشير إلى بعض العوامل الأساسية التي أثرت على أسلوب تفكيرنا وصولًا إلى النتائج التي سنذكرها بعد قليل.
1-
بالرغم من أن مسائل انعقاد العقد (أي تكونه نتيجة لتلاقي إرادتين مختلفتين وللتعبير عنهما بتعبيرين متتالين) كانت مجهولة في القانون الروماني الذي ذاعت شهرته في تناول المفاهيم بشكل دقيق خاصة في مجال الالتزامات، وبالرغم من أن الفقه الغربي لم يتناول هذه المسائل إلا منذ القرن السابع عشر، فإن الفقهاء المسلمين قد أبدعوا في تناول ودراسة هذه المسائل بالدقة والإتقان منذ عهود مبكرة جدًّا في تاريخ الفقه الإسلامي. ويمكن اعتبار هذه الظاهرة دليلًا واضحًا على أن مبدأ الرضا في مجال الالتزامات هو الأساس في التفكير الحقوقي للفقهاء المسلمين بينما نجد أن النظرة الشكلية هي السائدة في التفكير الحقوقي للقانونيين الرومان.
2-
مع أن التعاقد بين الحاضرين تمت بشكل مفصل في كتب الفقه الإسلامي فإنه لم يتم تناول التعاقد بين الغائبين فيها إلا بخطوطه العريضة ومحددًا بظروف وحاجات ذلك الزمن تحت العنوانين (الكتابة) و (الرسالة) خاصة. ونعتقد أن الفقهاء المسلمين لم يواجهوا مواجهة صريحة – كما قال د. السنهوري- واقعة التعاقد بين الغائبين على شكلها المعروف في وقتنا الحاضر. (بيّنّا لماذا لم نشارك رأي د. سوار حينما انتقد كلام د. السنهوري في هذا الموضوع) . ولو كانوا قد واجهوا تطبيقات التعاقد بين الغائبين التي هي وليدة حاجات بيئة تشكل مجالا لعلاقات مكثفة يتم جريانها عن طريق وسائل الاتصال السريعة جدًّا، ولو كانوا قد واجهوا مواجهة صريحة لما كانت حلول هذه التطبيقات في الكتب الفقهية على نحو ما نراه فيها من عدم وجود خلافات جذرية وآراء مختلفة في هذا الموضوع.
إذن، يجب أن لا يفوتنا أن الأحكام الواردة في الكتب الفقهية بهذا الخصوص منوطة بالمصالح التي راعاها الفقهاء نظرًا لظروف وحاجات زمنهم، وتجب مراجعة هذه الأحكام حسب الحاجات المستجدة.
3-
يلاحظ أن الفقهاء –حين تناولهم لمسائل انعقاد العقد التي لم ترد نصوص خاصة في أحكامها وحين إيجادهم حلولًا مناسبة لهذه المسائل- يلاحظ أنهم راعوا المبدئين التاليين واتفقوا على التنويه بهما وإن كانوا قد اختلفوا في تعيين الحلول التي تحققهما بأكمل وجه. وهما:
(أ) التراضي (الابتعاد عن الكسب غير المشروع) .
(ب) تحقيق المصلحة (سد حاجات الناس) .
وحتى أن الفقهاء الذين أوجدوا نظريات فقهية تمثل الحد الأقصى للتصوير المادي وتعكس النزعة الموضوعية الحاسمة لاهتمامهم البالغ بالمفاهيم الفقهية، فإنه يمكن القول بأن جهودهم كانت مبذولة من أجل التفتيش والبحث عن وجود ارتباط الإيجاب بالقبول بما لا يدع مجالًا للشكل من تحقق التراضي.
أما اهتمامهم بمبدأ المصلحة فيلاحظ بشكل جلي حينما أشاروا إلى محاذير التشدد في التمسك بالقياس (القاعدة العامة) بمناسبات كثيرة معبرين عن أهمية مبدأ المصلحة بعبارات مثل (دفعًا للعسر) ، و (دفعًا للحرج) ، و (لجلب اليسر) ، و (سد الحاجة) ونحوها.
وهناك أمر هام وهو أن العرف قد لعب دورًا بالغ الأهمية أثناء تطبيق هذين المبدئين في حوادث الحياة الواقعية – ما لم يتعارض العرف مع النص-، وهذا الدور قد اعترف به التشريع الإسلامي واعتمد الفقهاء المسلمون في عدد كبير من اجتهاداتهم –بالرغم من عدم احتلال العرف مكانًا مرموقًا في كتب الأصول (1) . ويمكن أن نذكر على سبيل المثال بالنسبة لموضوع بحثنا أحكام انعقاد العقد التي أوردها الفقهاء في بيع (المزايدة) والتوضيحات الواردة في كتبهم حول تحليل هذه الأحكام، إلى جانب أمثلة كثيرة لا يسع هذا المقام ذكرها.
(1) ينظر في هذا الموضوع: دونمز (إبراهيم كافي) ، العرف في الفقه الإسلامي، بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة المنعقدة بالكويت.
4-
من مقتضيات مبادئ الفقه الإسلامي وأصوله مراعاة الخبرات والتطورات الملحوظة في العالم بالنسبة للمسائل الاجتهادية وخاصة المسائل التي تحظى فيها المصالح المستندة إلى العرف بأهمية كبيرة، وكذلك الأخذ بعين الاعتبار الحاجة الماسة إلى توحيد النصوص التشريعية الدولية في المسائل التي تتسم بالسمة التجارية (1) . (ونشاهد أن عددًا من الباحثين في مجال الفقه الإسلامي يشيرون أيضًا إلى هذا الخصوص حينما يوضحون سبب ترجيحهم إحدى النظريات من بين النظريات التي تحدد وقت انعقاد العقد) . وسنكتفي هنا بالإشارة إلى دليلين واضحين يدلان على الحاجة الماسة إلى هذا التوحيد ويتعلقان بموضوع بحثنا مباشرة:
الأول: لقد اقتدى القانون المدني السوري في مادته (98) بقانون الالتزامات اللبناني (م. 184) في مسألة الانحياز إلى نظرية الإعلان عن القبول، وهذه إحدى المسائل النادرة التي خالف فيها القانون المدني السوري القانون المدني المصري، (وذلك –كما تقول المذكرة الإيضاحية للقانون السوري- لكثرة المعاملات الجارية بين سورية ولبنان بحيث تفضي المصلحة بتوحيد النصوص التشريعية في هذا الموضوع بين البلدين لئلا يقع تنازع بين قانونيهما يؤدي إلى الإضرار بحقوق ذوي العلاقة)(2) .
الثاني: إن المحاولات والجهود التي بذلها حقوقيو مختلف بلاد العالم لتوحيد التشريع فيما يخص بيع السلع الدولي والتي استمرت منذ سنوات عديدة قد توّجت بقبول اتفاق فيينا في 11 أبريل 1980. وإن هذا الاتفاق قد نجح أثناء الأعمال التحضيرية بتجميع عدد كبير من الدول تختلف أنظمتها القانونية والاقتصادية بعضها عن البعض الآخر، وتم توقيع المذكرة النهائية له من قِبَل 65 دولة كما تمت المصادقة عليه من قِبَل 15 دولة باعتبارها طرفًا في هذا الاتفاق، ومن بينها مصر وسوريا. ويلاحظ أن عددًا كبيرًا من الدول على وشك المصادقة عليه ويزداد عدد الدول الأطراف بمرور الزمن انظر في هذا الموضوع:
ERDEM (H.Ercument) ، Uluslararasi mal satislarinda 11 Nisan 1980 tartihli Birlesmis Milletler Solesmesinin uygulama alani، Izmir Barosu Dergisi، annee: 54، no. 1 Ocak 1989-1990; Conventionne d Vienne de 1980 sur La Vente Internationale des Marchandises/ Collogue de Lausanne des 19 et 20 Novembre 1984، Zurich، 1985. .
(1) انظر في هذا الموضوع: الجبر (محمد حسن) ، العقود التجارية وعمليات البنوك في المملكة العربية السعودية، الرياض، 1404هـ/1984م، ص 15-17.
(2)
السنهوري، مصادر الحق، 2/53-54.
(ب) النتائج:
1-
تكاد تتفق آراء الفقهاء المسلمين على عدم اشتراط وجود طرفي العقد في مكان واحد وعلى جواز التعاقد بين طرفين متباعدين. والحقيقة أن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة قد جاءا بمبدأ بناء الأحكام على المخابرة بطريقتي (الكتابة) و (الرسالة)(السفارة) ، ولهذا لا يعتبر هذا الموضوع مثارًا للجدل، كما أن الباحثين في مجال الفقه الإسلامي في الوقت الحاضر لا يشعرون بالحاجة –أثناء دراساتهم للعقد- إلى نقاش واسع في جواز أو عدم جواز التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة. وأدل شيء على ذلك أن لجنة تعديل مجلة الأحكام العدلية لم تترد في تقرير إضافة مادة إلى هذه المجلة تنص على صحة التعاقد بواسطة التلغراف والتلفون في سنة 1921.
2-
وإذا وضعنا نصب أعيينا أن معظم الأحكام المتعلقة بانعقاد العقد لم تأت بها النصوص الخاصة بل وتوصل إليها الفقهاء من خلال التحليلات والتقييمات الفقهية أي من خلال الجهود المبذولة من أجل التأكد من وجود الرضا بين الطرفين، فإنه يتبين لنا أن هذه الأحكام التي وردت في الكتب الفقهية - باعتبار معظمها - ليست أحكامًا آمرة (أي من (النظام العام)) بل هي أحكام مكملة أو مفسرة حسب اصطلاح القانون.
إذن، يمكن للطرفين أن يعينا أو يحددا أحكام المسائل المتعلقة بانعقاد العقد (وخاصة بوقت أو مكان انعقاد العقد) . حتى ويمكن القول بأن هذا التعيين المسبق يكون أصلح وأوفق مع مبادئ الفقه الإسلامي من جهة سد باب النزاع والخلاف.
وعلى هذا، يجب ملاحظة الأحكام والنتائج التي سنذكرها فيما يلي بشرط (أن لا يكون الطرفان قد اتفقا على عكس ذلك) .
3-
بيّنّا أن الرأي القائل بأن الإيجاب (تعبير متلقى) وليس (تعبيرًا ملقًى) سواء في التعاقد بين الحاضرين أو في التعاقد بين الغائبين هو الراجح –في نظرنا-. وعلى هذا، فإن الإيجاب لا يتم بمجرد صدوره بل لا بد من توجيهه إلى الطرف المقابل وبعبارة أخرى فإنه يجب إظهار الموجب إرادة تبليغ الإيجاب أي رضاه بالتبيلغ لترتيب الحكم على الإيجاب. (وقد أشرنا إلى الرأي المعارض له الوارد في كتب الشافعية) .
وكذلك أشرنا إلى رجحان الرأي القائل بأن توجيه الإيجاب إلى الجمهور يصح ويترتب الحكم على هذا التوجيه.
وبعد أن نبهنا إلى ضرورة التمييز بين مفهومي (الإيجاب) و (الدعوة إلى الإيجاب) بينا أن كل تعبير يدل على أن صاحبه يريد به أن يلتزم به في حالة قبوله بما لا يدع مجالًا للشك – بأي طريق كان هذا التعبير (بالمواجهة الشخصية، بطريق الإعلان، بوسائل الاتصال، بوضع أجهزة أتوماتيكية) - يجب اعتباره (إيجابًا) .
وفي هذا النطاق أشرنا إلى أن الأجهزة الأتوماتيكية يمكن أن تقوم مقام أحد طرفي العقد (أو كليهما إذا كانت الظروف والإمكانيات مواتية لذلك) .
وقد قمنا بتوضيح أن الإيجاب يمكن الرجوع عنه - في الحالات العادية - إلى وقت القبول (وهذا هو الرأي السائد في الكتب الفقهية) ، غير أننا لاحظنا أن اشتراط علم الطرف المقابل بالرجوع عن الإيجاب لترتب الحكم على هذا الرجوع هو الأوفق لمبادئ الفقه الإسلامي (خلافًا لما ورد في كتب الأحناف) . ومن جهة أخرى، فإن الإيجاب الذي وصل إلى الطرف المقابل والذي يمنح له حق التأمل والتروي مدة معينة إما بالتصريح وإما بدلالة الحال أو طبيعة المعاملة، ارتأينا أنه من الأوفق لمبادئ الفقه الإسلامي اعتباره ملزمًا لصاحبه طيلة هذه المدة (خاصة في حالة تعيين ميعاد للقبول) ، ورجحنا بهذا الخصوص رأي جمهور المالكية.
4-
بعد أن ذكرنا أن خيار القبول هو الحكم المتفق عليه في الفقه الإسلامي، أشرنا إلى أن الحالات التي يمكن وصفها بأنها حالات (القبول الضمني) لا ينبغي تصورها بأن المخاطب أصبح ملزمًا بالقبول فيها.
وقد رأينا أن وقت القبول يتحدد بمدة قيام المجلس الذي تم فيه أداء الكتابة أو الرسالة إذا تصورنا التعاقد بين الغائبين محددًا بطريقتي (الكتابة) و (الرسالة) في إطاره التطبيقي من منظور ظروف وحاجات ذلك الزمن. ولكن التعاقد بين الغائبين في ظروف وقتنا الحاضر لا يتم حسب الطريقة التي كانت جارية في الأزمان السابقة، ولهذا توصلنا إلى نتيجة أن سد الحاجة في يومنا هذا لا يتحقق إلا إذا قلنا بإمكانية القبول في المدة التي يعتبر فيها الإيجاب ملزمًا على ضوء ما ذكرناه من رأي جمهور المالكية بهذا الخصوص.، وإذا تم قبول هذا الرأي ينبغي القول أيضًا بأن الإيجاب لا يعتبر ساقطًا في حالة رفضه من طرف المرسل إليه ما لم يصل خبر الرفض إلى الموجب.
ونبهنا إلى أن القبول يمكن الرجوع عنه إلى وقت انعقاد العقد على الصعيد النظري. وأما على الصعيد العملي فإن هذا الرجوع لا يمكن إذا حكمنا بأن العقد ينعقد بمجد الإعلان عن القبول أي إذا تبنينا نظرية الإعلان (سنبين رأينا في النظريات المتعلقة بتحديد وقت انعقاد العقد بعد قليل) .
5-
رأينا أن ارتباط الإيجاب بالقبول حكمي (اعتباري) وليس حقيقيًّا سواء في التعاقد بين الحاضرين أو التعاقد بين الغائبين. أما اتحاد المجلس فهو مادي/ حقيقي (أي مرتبط بالمكان) في التعاقد بين الحاضرين، إن كان حكميًّا في التعاقد بين الغائبين ولكننا نوّهنا بكلام د. السنهوري الذي ينبه إلى ضرورة عدم الإغراق في التصوير المادي بالدرجة التي تؤدي إلى إهدار الغاية المقصودة من أحكام اتحاد المجلس.
وبما أن قيام الإيجاب إلى وقت القبول يحظى بأهمية بالغة في قبول تحقق هذا الارتباط فإننا رأينا من المناسب الإلمام بحالات الإيجاب إلمامًا سريعًا.
6-
وتحت عنوان (تحديد وقت انعقاد، العقد في التعاقد بين الغائبين) الذي يشكل أهم وأوسع جزء من بحثنا، قمنا بتلخيص النظريات الموجودة في هذا الموضوع، وموقف كل من التشريع الوضعي والكتب الفقهية القديمة منها، وكذلك آراء الباحثين المعاصرين في الفقه الإسلامي في هذا المضمار. وقد تبين لنا من خلال نقد هذه النظريات والآراء حولها:
- أن عددًا من الباحثين المعاصرين في الفقه الإسلامي (ومنهم من يتعرض للموضوع بصفة خاصة مثل د، القره داغي ود. الدريني ود. الإبراهيم) لم يحالفهم الصواب فيما ذكروه من معلومات حول اتجاه الفقه الحديث في هذا الموضوع، ولعلهم استندوا غالبًا إلى المراجع القديمة ولم تتح لهم فرصة دراسة الموضوع بشكل دقيق. وقد اكتفى هؤلاء المؤلفون وكذلك د. سوار –الذي تناول بشكل مفصل ووضع نظرية جديدة فيه- بالوقوف أمام نظريتي (الإعلان) و (العلم) دون التطرق إلى تقويم النظريات الأخرى.
-وقد قمنا بتثبيت أن هؤلاء المؤلفين (د. سوار، د. الإبراهيم، خاصة د. القره داغي) وقعوا في معضلة وهي: ظنهم بأن الانحياز إلى نظرية عدا نظرية الإعلان يستلزم بالضرورة إعطاء الموجب حق الرجوع عن إيجابه إلى وقت انعقاد العقد. وأثبتنا أن هذه الفكرة التي تأثر بها هؤلاء المؤلفون في ترجيحهم للمسألة، ليس صائبة وقمنا بتوضيح أن الغاية الأساسية من وضع هذه النظريات - بالدرجة الأولى - تنصب على وقت اكتساب القبول الصفة الإلزامية وبالتالي على وقت انعقاد العقد ولا تنصب على وقت اكتساب الإيجاب الصفة الإلزامية. وكذلك أشرنا إلى أن إلزامية الإيجاب أو عدم إلزاميته يمكن تعيينها بصورة ما في النظريات الأخرى عدا نظرية الإعلان. وعلى هذا فإنه يمكن في تلك النظريات تحديد حق الرجوع عن الإيجاب إلى وقت انعقاد العقد نظريًّا، إلا أنه يختلف الأمر على الصعيد العملي، إلى درجة أن الأنظمة القانونية التي تقول بعدم إلزامية الإيجاب –مبدئيًّا-، تميل إلى تحديد هذا الحق بوقت القبول أو تصديره كحد اقصى.
أما في الفقه الإسلامي فقد بينا أن حق الرجوع عن الإيجاب محدد بوقت القبول، وكذلك أنه محدد بانفضاض المجلس الذي صدر فيه القبول عند من يقول بخيار المجلس كحد أقصى. وعبرنا عن قناعتنا بأن نظرية (خيار الطريق) التي جاء بها د. سوار لا تليق بالترجيح، مشيرين في ذلك إلى هذا الحكم الوارد في الفقه الإسلامي وإلى بعض مواطن الضعف الأخرى التي تكتنف هذه النظرية.
- وبعد دراسة تلك النظريات الخمس كل على حدة توصلنا إلى نتيجة أن نظرية استلام القبول هي الأوفق لمبادئ الفقه الإسلامي آخذين بعين الاعتبار ظروف وقتنا الحاضر، ومع ذلك لا يمكن أن ننكر أن الموضع يحتمل اكثر من وجه ويوقع المرء في حيرة لا محالة.
7-
أشرنا أولًا إلى أن وسائل الاتصال الحديثة يمكن دراستها في فئتين:
(أ) التلفون وما شابهه من وسائل.
(ب) الكتاب (الرسالة) وما شابهه من وسائل.
وبينا أن الفئة الأولى يجب تطبيق أحكام التعاقد بين الحاضرين فيها من حيث الزمان، وأن الفئة الثانية يجب تطبيق أحكام التعاقد بين الغائبين فيها. ثم وضحنا – بعد الإشارة إلى بعض مسائل التعاقد بالوسائل التي تدخل ضمن الفئة الأولى- أن الوسائل التي تشبه التلفون مشابهة تامة مثل التلفون التلفزيوني (الآلة التي تجعل الصورة مصاحبة للصوت) يجب إلحاقها بالفئة الأولى، في حين أن الآلات مثل التلكس والفاكس ينبغي إلحاقها - مبدئيًّا- بالفئة الثانية (واستثنينا من ذلك حالة تعاقد الطرفين وهما عند آلتي التلكس أو الفاكس وقلنا بأن أحكام التعاقد بين الحاضرين يمكن تطبيقها في مثل هذه الحالة حسب الإمكانيات والظروف التقنية، وقد نبهنا إلى أن النتائج العملية في هذا التعيين- أي إلحاقها بالفئة الأولى أو الثانية - محدودة جدًّا) . وذكرنا أن التعاقد بواسطة العقل الإلكتروني ينبغي تطبيق أحكام التعاقد بين الغائبين فيه - من حيث المبدأ -، وذلك في ضوء ما ورد من ملاحظاتنا حول استخدام كل من التلفون والتلكس والفاكس. والله أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور إبراهيم كافي دونمز