الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تقسيط الدين في الفقه الإسلامي
إعداد
فضيلة الدكتور محمد رضا عبد الجبار العاني
الأستاذ المساعد بكلية الشريعة بجامعة بغداد
بسم الله الرحمن الرحيم
لثبوت الدين في الذمة أسباب متعددة، وأكثرها اشتهارًا البيع والقرض، ومن ثبت في ذمته دين لزمه أداؤه لمستحقه (الدائن) .
وقد يكون أداء الدين حالًا وقد يكون مؤجلًا، والمؤجل قد يؤدى قسطًا واحدًا وقد يؤدى أقساطًا.
والذي نريد البحث فيه هنا هو أداء الدين تقسيطًا، وهذا يستدعي منا دراسة الأمور التالية:
1-
تعريف التقسيط.
2-
مشروعية التأجيل والتقسيط.
3-
أحكام التقسيط.
4-
مقابلة تأجيل الدين بزيادة فيه.
5-
تعجيل أداء الدين مقابل إسقاط جزء منه.
وسوف أخصص لكل من هذه الأمور مبحثًا خاصًّا.
المبحث الأول
تعريف التقسيط
التقسيط يقال له التنجيم أيضا.
ومعنى التنجيم في اللغة: أداء الدين نجومًا أي على دفعات.
ففي مختار الصحاح: النجم: الوقت المضروب، ومنه سمي المنجم. ويقال نجم المال تنجيمًا إذا أداه نجومًا (1) .
وفي مختار الصحاح أيضًا: القسط: الحصة والنصيب يقال تقسطنا الشيء بيننا (2) وهو يعني في موضوعنا جعل الدين حصصًا تدفع حصة حصة.
أما تعريفه في المصطلح الشرعي: فقد قالوا.
التنجيم: هو التأخير لأجل معلوم نجمًا أو نجمين (3) أو: هو المالك المؤجل بأجلين فصاعدًا (4) .
والتعريف الثاني أصدق وأدق في التعبير عن المراد بالتنجيم (التقسيط) لأنه أخرج الدين المؤجل ليدفع نجمًا واحدًا فهذا ليس مقسطًا، لأن الدين لكي يسمى مقسطًا ينبغي أن يطلب أداؤه في دفعتين فأكثر، وهذا كما هو ظاهر بخلاف التعريف الأول فهو شامل للدين المؤجل مطلقا سواء كان مطلوب الأداء دفعة واحدة أو دفعات.
والتعريف الأول تميز عن الثاني بتقييد الأجل بالمعلومية وهو شرط ضروري لدفع الجهالة عن المعاملة.
(1) مختار الصحاح للرازي: ط2، ص 647.
(2)
نفس المصدر: ص 539.
(3)
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 4/346.
(4)
كشاف القناع: 4/539
المبحث الثاني
مشروعية تأجيل الدين وتقسيطه
إن تأجيل الدين مشروع وإن كان خلاف الأصل.
ومشروعيته ثبتت بالقرآن الكريم والسنة النبوية واتفاق الأمة.
ففي القرآن الكريم جاء قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [سورة البقرة: الآية 282](1) فالنص يصرح بجواز تأجيل الدين، ومقتضى تسمية الأجل معلوميته، أما الكتابة فقد حملت على الندب لا الوجوب.
ومن السنة النبوية المطهرة ((أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى طعامًا وأجل الثمن)) (2) ، كما أن الأمة زاولت وما تزال تزاول هذه الصيغة من التعامل لا يعلم مخالف في هذا (3) .
وإذا ثبت جواز تأجيل الثمن ثبت جواز تأجيله ليدفع قسطًا واحدًا أو أقساطًا لأن الحالتين مشمولتان بالتأجيل.
وقد نصت مجلة الأحكام العدلية في المادة (245) على أن (البيع مع تأجيل الثمن وتقسيطه صحيح) .
وينبغي أن يلاحظ أن تأجيل الدين أو تقسيطه لا يثبت إلا بالنص عليه عن طريق الشرط في العقد أو بعده، لذا فإنه مع الإطلاق لا يثبت التأجيل إلا إذا كان العرف يقتضي التأجيل (مادة 251 مجلة الأحكام العدلية) .
على أنه ينبغي أن يعلم أن تأجيل الدين المتولد عن البيع حين يشترط في العقد أو بعده، فإنه لازم للبائع وليس له إلزام المشتري بأداء الدين قبل حلول موعد أدائه.
ويمكن أن يقال هذا في دين متولد عن ضمان المتلفات أو بدل الإيجار أو غيره (4) .
أما دين القرض فقد حصل خلاف بين العلماء في لزوم أجله إذا اشترط تأجيله، فالجمهور على أن دين القرض يثبت في الذمة ويكون تأجيله تبرعًا من المقرض فإذا اشترط الأجل فيه فإنه لا يلزم، ويجوز للمقرض أن يطالب بالقرض متى شاء.
أما الإمام مالك يوافقه الليث بن سعد فقد ذهبا إلى أن القرض يلزم إلى أجله إذا أجل، فلا يطالب المقرض المدين قبل حلول الأجل لأن المؤمنين عند شروطهم (5)
* * * *
(1) انظر تفسير القرطبي: 3/377.
(2)
انظر فتح الباري: 5/35، 143؛ صحيح مسلم: 3/1226.
(3)
المغني والشرح الكبير: 4/49، 287.
(4)
المغني والشرح الكبير: 4/354، ويبدو مما يذكره ابن قدامة أن بدل الإيجار وضمان المتلف والصداق وبدل الخلع اختلف الفقهاء في ثبوت الأجل فيها إذا أجلت. وقد نقل عن أبي حنيفة أنه يرى ثبوت الأجل في هذه الأمور، وصرح بأنه خلاف مذهب الحنابلة في عدم ثبوت الأجل.
(5)
انظر: المهذب: 1/33، بدائع الصنائع: 7/396، المغني والشرح الكبير: 4/354، الخرشي: 5/232، حاشية الدسوقي: 3/226 وانظر الأشباه والنظائر للسيوطي، طبعة دار الكتب العلمية: ص 329.
المبحث الثالث
أحكام التقسيط
يمكن إيجاز أحكام تقسيط الدين بناء على القول بلزوم الأجل في البيع اتفاقًا أو في غيره على الخلاف الذي ذكرناه بالنقاط الآتية (1) :
أولا: إذا اقترن التقسيط بالعقد أو اتفق عليه بعد العقد لزم بيان المدد الزمنية للأقساط، لأن إطلاقها جهالة تفضي إلى المنازعة، وهي جهالة مخلة بالعقد، ويلاحظ أنه إذا كان في البيع خيار، فإن حساب المدد الزمنية يبدأ حين سقوط الخيار، لأن الخيار مؤثر في لزوم البيع.
كما يلاحظ أنه لو امتنع البائع عن تسليم المبيع وتأخر تسليمه فإن حساب المدة يبدأ من حين تسليم المبيع وإلا فمن وقت الانعقاد.
ثانيا: إذا مات البائع، فإن الدين لا يحل على المشتري ويبقى حق المدين في دفع الأقساط على ما اتفق عليه، أما إذ مات المشتري فإن الدين المؤجل سواء كان مقسطًا أم لا يصبح حالًّا واجب الدفع من تركة المشتري لما عرف من أن تركة المشتري تنتقل بموته إلى الورثة، وهذا الانتقال لا يتم قبل وفاء ديون الميت وتنفيذ وصاياه.
ثالثًا: لا يجوز للمشتري الامتناع عن دفع الأقساط في مواعيدها المقررة فإن فعل ألزمه القاضي بالدفع إلا إذا كان المشتري معسرًا فإنه ينظر إلى الميسرة.
رابعًا: ينتهي زمن القسط بحلول الأجل المضروب لأدائه، فعلى المدين أداء كل قسط في أجله وليس له التمسك بالتأجيل إلا فيما لم يحل أجله من الأقساط.
خامسًا: لا يجوز بيع الدين بالدين كأن يبيع دينًا له (أي الدائن) على رجل من رجل آخر بالتأخير، وكذلك لا يجوز فسخ الدين بالدين مثل أن يدفع الغريم لصاحب الدين ثمرة يجنيها أو دارًا يسكنها لتأخر القبض في ذلك، وكذلك إن باع الدين من المدين بالتأخير وفي المسألة بعض خلاف (2) .
(1) انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 330، كتاب المعاملات الشرعية المالية للشيخ أحمد إبراهيم، ط. دار الأنصار بالقاهرة: ص 136- 137، وشرح مجلة الأحكام العدلية للمرحوم منير القاضي: 1/280 وما بعدها.
(2)
انظر القوانين الفقهية لابن جزي: ص 249، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 330، فتح القدير: 5/379.
المبحث الرابع
اقتران تأجيل الدين بزيادة فيه
إذا أدى المدين دينه فالأصل أن يؤديه بلا زيادة أو نقص.
أما إذا أدى زيادة طابت بها نفسه بدون اشتراط فلا غبار على صحة زيادته ويأخذها الدائن حلالًا، لأن ذلك من حسن القضاء الذي ندب إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:((خياركم أحسنكم قضاء)) (1) ، وسواء كان الدين حالًّا أم مؤجلًا وهذا الذي قلنا هو محل اتفاق العلماء إذا كان الدين متولدًا عن بيع (2) .
أما لو اشترطت الزيادة في الدين مقابل تأجيله فإن له صورًا ثلاثًا:
الصورة الأولى: أن تشترط الزيادة بعد تمام العقد، كما لو باع شخص لآخر سلعة بألف ثم قال للمشتري: إن شئت أجلت لك الدين ويكون الدين ألفًا وخمسين وهذا التصرف باطل وهو ربا الجاهلية المحظور شرعًا.
الصورة الثانية: أن يقترن شرط الزيادة في العقد فيقول البائع: بعتك السلعة بألف نقدًا وإن شئت نسيئة بألف وخمسين، وهذه كالصورة التي قبلها إذ هو بيع اقترن بشرط فاسد، وهذا الشرط الفاسد متمثل في كونه (بيعتين في بيعة) وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقد فسر قوله صلى الله عليه وسلم ((بيعتين في بيعة)) (3)، أو صفقتين في صفقة على عدة أوجه أشهرها قول البائع: بعتك نقدًا بعشرة ونسيئة بعشرين، هذا التفسير نقله ابن قدامة عن مالك والثوري وإسحاق وهو رأي الجمهور، وقرروا بطلان مثل هذا العقد، كما أنه تفسير منقول عن أبي عبيد القاسم بن سلام وهو تفسير سماك راوي الحديث (4) .
(1) فتح الباري: 5/56- 59، صحيح مسلم: 3/1224.
(2)
جاء في القوانين الفقهية، ص 249:(وإن قضى المدين أكثر من الدين، فإن كان من بيع جاز مطلقًا سواء كان الفضل صفة أم مقدارًا في الأجل أو قبله أو بعده إذا كان الفضل في إحدى الجهتين، ومنع إن دار من الطرفين لخروجه عن المعروف، وإن كان الدين من السلف: فإن كان بشرط أو وعد أو عادة منع مطلقا، وإن كان بغير شرط ولا وعد ولا عادة جاز اتفاقًا في الأفضل صفة لأن النبي صلى الله عليه وسلم استلف بكرًا وقضى جملًا بكرًا خيارًا، واختلف في الأفضل مقدارًا: (ففي المدونة لا يجوز إلا في اليسير جدًا، وأجازة ابن حبيب مطلقًا) ، ومنع أحمد في رواية أخذ الزيادة وروي ذلك عن أبي بن كعب وابن عبيد وابن عمر، وأوجبوا على الدائن أن يأخذ مثل قرضه ولا يأخذ فضلًا لأنه يكون قرضًا جر منفعة، وهذا خلاف الجمهور (المغني والشرح 4/354) ورأي الجمهور هو الراجح لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، وكون القرض يجر منفعة بدون اشتراط يتعارض مع باب المعروف والتبرع المندوب إليه شرعًا ولأن الربا لا يتحقق بلا شرط) والله أعلم
(3)
حديث " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة " رواه أحمد والنسائي وصححه الترمذي وابن حبان، ولأبي داود من حديث أبي هريرة:" من باع بيعتين في بيعة فله أو كسهما أو الربا "(سبل السلام: 3/16) .
(4)
انظر: المغني والشرح الكبير: 4/490، القوانين الفقهية: ص 223، فتح القدير: 5/218، الخرشي: 72 -73 /5 الروضة الندية شرح الدرر البهية: 2/101.
وعلة فساد هذا التصرف أنه تضمن جهالة فإنه مثل قوله: بعتك هذا أو هذا، أو مثل بيع أحد مثمونين بثمن واحد.
وهذا التفسير (لبيعتين في بيعة) نفاه السبكي عن الإمام الشافعي وأصحابه إذ يقول في فتاواه (1) : اعلم أن الشافعي والأصحاب تكلموا في بيعتين في بيعة مفسرين الحديث بتفسيرين:
أحدهما – أن يقول بعتك داري هذه بألف على أن تبيعني عبدك هذا بألف، إذا وجبت لك داري وجب لي عبدك.
الثاني – أن يقول بعتك بألف على أن تبيعني أو تشتري مني.
إلا أن الإمام النووي وكذلك البيضاوي قد فسرا بيعتين في بيعة بصورتين (2) .
الأولى - أن يقول بعتك بألف نقدا أو ألفين إلى سنة
الثانية - أن يقول بعتك ذا العبد بألف على أن تبيعني دارك بكذا وهذه الصورة كالتي قالها السبكي كما لا يخفى
وقد نقل الصنعاني الصورة الأولي قولًا للشافعي (3) .
وعند الحنفية – كما فسره المرغناني – أن صفقتين في صفقة: أن يتضمن العقد عقدين كاجتماع إجارة وبيع أو إعارة وبيع (4) وعند ابن الهمام أن كون الثمن على تقدير النقد ألفًا وعلى تقدير النسيئة ألفين ليس في معنى الربا (5)، وقد سبق تعليل منع بيعتين في بيعة على تفسيرها: بعتك بالنقد بعشرة وبالنسيئة بعشرين، بناء على الجهالة لا على أنها ربا.
على أن كلام ابن الهمام ينبغي أن يفسر على التخيير لا على الجزم، أما أن يقترن بالعقد مثل هذا الشرط جزفًا فإنه الجهالة، ويمكن أن يقال بالربوية لأن العقد تضمن زيادة مشروطة لأحد المتعاوضين مقابل أجل الذي هو ربا الجاهلية.
(1) انظر: فتاوى السبكي نشر مكتبة القدس بالقاهرة: 1/356.
(2)
انظر: منهاج الطالبين بهامش مغني المحتاج: 2/31، الغاية القصوى في دراية الفتوى للبيضاوي: 1/469، تحقيق السيد علي محيي الدين القره داغي.
(3)
سبل السلام: 3/16.
(4)
الهداية وفتح القدير: 5/218.
(5)
فتح القدير: 6/81، هكذا في الموسوعة الفقهية: 9/266.
الصورة الثالثة: أن تشترط الزيادة في الدين مقابل تأجيله قبل العقد، كما لو قال البائع: أبيعك هذه السلعة نقدًا بمائة ونسيئة بمائة وعشرين، فيلاحظ أنه قد استخدم لفظ الفعل المضارع وهو يفيد التخيير لا الجزم، فإن اختار المشتري أحد الطريقين للشراء ووافقه البائع فإن البيع ينعقد على أحد الوجهين بالنقد أو بالنسيئة مع قرينة إرادة الحال لا الاستقبال.
وهذا الوجه صححه طاوس والحكم وحماد (1) ، وهو اختيار المالكية حسب شرح العدوي على الخرشي (2) ، وهو مقتضى توجيه الشافعية حسب ما صرح به السبكي من أن الشرط المبطل للتصرفات هو الشرط المقارن فلو تقدم لم يبطل (3) .
وخرج ابن قدامة وجهًا في الصحة (4) .
ويبدو لي أن هذه الصورة هي الشائعة في سوق التعامل اليوم، إذ أن المشتري مخير بين أمرين: إما أن يشترى بالنقد كذا، أو بالنسيئة بكذا ويتعاقد على هذا الأساس، وهذه الزيادة لا يبدو أنها تسبب جهالة أو أنها من الربا، لأنه جاز للمشتري أن يشتري نقدًا بثمن النسيئة، فلو كان ثمن النقد وثمن النسيئة مائة وعشرين فإنه يجوز للمشتري أن يشتري بمائة وعشرين نقدًا أو نسيئة.
فلما كان الأمر كذلك وأنه مبني على تخيير المشتري في المضي على أحد السبيلين في التعاقد – ولاشك أن للأجل اعتبارًا في تقدير الأثمان في نظر العلماء – لذلك فإن الجواز في هذه الصيغة يمكن المصير إليه والله أعلم.
على أن الإمام الأوزاعي يوافقه عطاء بن أبي رباح يذهبان إلى أنه إذا اقترن العقد بالنقد بعشرة وبالنسيئة بخمسة عشر فإنه صحيح على أن لا يفارقه قبل المباتّة باختيار إحدى البيعتين، فإن أخذ السلعة قبل المباتّة وقع البيع بأقل الثمنين لأبعد الأجلين (5) .
فيلاحظ أنه قد اعتبر من النقد الثمن ومن النسيئة الأجل فروعي جانب المشتري. لكن يمكن أن يقال إن الحكم بني على إيجاب وقبول غير متفقين، لأن الثمن تقرر من صيغة البيع نقدًا، والأجل تقرر من صيغة البيع نسيئة، وهذا لا يخلو من النظر والله أعلم.
(1) المغني والشرح الكبير: 4/290.
(2)
حاشية العدوي: 5/73.
(3)
فتاوى السبكي: 1/350.
(4)
وتخريجه جاء بناء على الإجارة حيث قال: وإن قال إن خطت هذا الثوب اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فلك نصف درهم فعن أحمد فيه روايتان: إحداهما – لا يصح وله أجر المثل وهو مذهب الجمهور. الثانية – يصح وهو قول الحارث العكلي وأبي يوسف ومحمد لأنه سمى لكل عمل عوضًا معلومًا. (المغني والشرح: 6/87) لكن ابن قدامه احتمل عدم صحة هذا الوجه للفرق حيث يمكن صحته بناء على كونه جعالة يحتمل فيها الجهالة بخلاف البيع 0 (المغنى والشرح: 4/290)
(5)
انظر كتاب: فقه الإمام الأوزاعي للدكتور عبد الله محمد خليل الجبوري 2/88
المبحث الخامس
تعجيل أداء الدين مقابل إسقاط جزء منه
إذا تقرر جواز تأجيل الدين أقساطًا أو قسطًا واحدًا فهل يجوز تعجيل قضاء الدين مقابل إسقاط بعضه فيقول المدين للدائن: ضع بعض دينك وتعجل الباقي، أو يقول الدائن للمدين: عجل لي بعضه وأضع عنك باقيه؟
هذه المسألة بحثها الفقهاء تحت قاعدة (ضع وتعجل) .
قال ابن جزي (1)(قاعدة – ضع وتعجل – حرام عند الأربعة بخلاف عن الشافعي وأجازها ابن عباس وزفر، وهي أن يكون له عليه دين لم يحل فيجعله قبل حلوله على أن ينقص منه، ومثل ذلك أن يعجل بعضه ويؤخر بعضه إلى أجل آخر، وأن يأخذ قبل الأجل بعضه عينًا وبعضه عرضًا، ويجوز ذلك كله بعد الأجل باتفاق، ويجوز أن يعطيه في دينه عرضًا قبل الأجل وإن كان يساوي أقل من دينه) .
والتحقيق أن في المسألة ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول – عدم جواز هذه المعاملة:
وهو مروي عن عمر بن الخطاب وابن عبد الله وزيد بن ثابت والمقداد والحسن وسالم والحكم والشعبي وهشام بن عروة والثوري وابن عيينة وابن علية وإسحاق وهو رواية عن سعيد بن المسيب وإليه ذهب الأئمة الأربعة (2) لكن أشير هنا إلى أنه وإن نقلت بعض المراجع رأي الحنفية والشافعية على المنع مطلقًا إلا أن هذا لا يبدو مسلمًا فقد رأيت أن ابن جزي نقل عن الإمام زفر القول بالجواز، كما أن السبكي يقول: إني كلمت الحنفية – يعني في هذه المسألة – فرأيتهم مضطربين في تحرير مذهبهم وضبط ما يمتنع فيه مما لا يمتنع (3) .
(1) القوانين الفقهية: ص 217.
(2)
المغني والشرح الكبير: 4/174- 175، الموطأ برواية محمد بن الحسن: ص 271، الزرقاني: 3/23، فتح العزيز هامش المجموع: 10/300، فقه سعيد بن المسيب: 3/31- 32 للدكتور هاشم جميل عبد الله
(3)
فتاوى السبكي: 1/351، ويلاحظ أن للشافعي تفصيلًا فذكر رأيا منفردًا في المتن.
أدلة هذا الفريق:
يدل على رأي الجمهور ما يأتي:
أولا: ما روي عن المقداد بن الأسود، قال: أسلفت رجلًا مائة دينار، ثم خرج سهمي في بعث بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: عجل لي تسعين دينارًا وأحط عشرة دنانير فقال: نعم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:((أكلت ربا المقداد وأطعمته)) ، قال السبكي رواه البيهقي بسند ضعيف (1) .
وقريب من ذلك عن المقداد جاء في الطبراني الكبير وفي سنده أبو المعارك قال في مجمع الزوائد 4/130 لا أعرف أبا المعارك وبقية رجال الحديث ثقات.
ثانيًا: سئل ابن عمر رضي الله عنهما عن هذه المعاملة فكرهها ونهى عنها كما أنه قد نسب النهي لأبيه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه (2) .
ثالثًا: روي في الموطأ النهي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه (3) .
فمن هذه الأدلة تلخص للجمهور أن تعجيل الأداء مقابل إسقاط جزء من الدين ربا، فكما تحرم الزيادة على مقدار الدين في مقابلة تأجيله، فكذلك يحرم النقص عنه مع تعجيله.
المذهب الثاني – الجواز مطلقًا:
وهو كما ذكر ابن جزي وغيره منقول عن ابن عباس وزفر كما أنه رواية عن سعيد بن المسيب وبه قال النخعي وأبو ثور (4) .
قال هؤلاء من يفعل ذلك فلا أكثر من أنه قد أخذ بعض حقه وترك بعضه وهذا جائز كما لو كان الدين حالًّا.
ويدعم مذهب هؤلاء: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بإخراج بني النضير من المدينة جاءه أناس منهم فقالوا: يا رسول الله: إنك أمرت بإخراجنا ولنا على الناس ديون لم تحل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((ضعوا وتعجلوا)) قال السبكي ضعفه. البيهقي وقال الحاكم صحيح الإسناد (5) .
(1) الفتاوي: 1/350.
(2)
المرجع نفسه.
(3)
المرجع نفسه
(4)
المغني والشرح الكبير: 4/174، الزرقاني: 3/323، فقه سعيد بن المسيب: 3/33.
(5)
الفتاوى: 1/351 وفي رواة الحديث مسلم بن خالد الزنجي قد اختلف في توثيقه مجمع الزوائد، وانظر الميزان: 3/165.
المذهب الثالث – التفصيل بين المنع والجواز:
ذهب الشافعية كما حرره السبكي: إذا جرى تعجيل الدين مقابل إسقاط جزء منه بالشرط بطل، وإن لم يشترط بل عجل بغير شرط وأبرأ الآخر وطابت بذلك نفس كل منهما فهو جائز وهذا مذهبنا، والشرط المبطل هو المقارن فلو تقدم لم يبطل وهو مقتضى تصريح جميع الأصحاب.
والدليل كما يقول السبكي: أن فقهاء الشافعية حملوا اختلاف الآثار الواردة في ذلك حظرًا وجوازًا، فذهبوا إلى التفصيل المذكور.
وهذا الرأي يبدو لي هو الأقرب للقبول، لأن الشرط يجعل المعاملة محفوفة بشائبة الربا فلا سبيل إلى الجواز مطلقًا، فبقي الجواز مع عدم الشرط لأن النفوس قد تطيب بالتبرع والأعمال بالنيات فلماذا نمنع معروفًا يبدو للدائن فعله؟
والله أعلم.
محمد رضا عبد الجبار العاني
مراجع البحث
1-
القرآن الكريم.
2-
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير.
3-
المغني والشرح الكبير لابن قدامة المقدسي.
4-
كشاف القناع للبهوتي.
5-
القوانين الفقهية لابن جزي.
6-
شرح الخرشي وحاشية العدوي عليه.
7-
فتح القدير / شرح الهداية.
8-
فتاوى السبكي.
9-
الروضة الندية شرح الدرر البهية.
10-
مغني المحتاج للخطيب الشربيني.
11-
الغاية القصوى في دراية الفتوى للبيضاوي.
12-
فتح العزيز للرافعي بهامش المجموع.
13-
الموطأ للإمام مالك.
14-
سبل السلام للصنعاني.
15-
فقه الإمام الأوزاعي للدكتور عبد الله الجبوري.
16-
فقه سعيد بن المسيب للدكتور هاشم جميل عبد الله.
17-
شرح مجلة الأحكام العدلية للمرحوم منير القاضي.
18-
المعاملات الشرعية المالية للمرحوم أحمد إبراهيم بك.
19-
الموسوعة الفقهية الكويتية.
20-
مختار الصحاح للرازي.