المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(أ) حقيقة الجنين وحكم الانتفاع به في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية.(ب) حكم زراعة خلايا الدماغ والجهاز العصبي.إعداد فضيلة الدكتور محمد نعيم ياسين - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٦

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد السادس

- ‌كلمةمعالي الأمين العاملمنظمة المؤتمر الإسلاميالدكتور حامد الغابد

- ‌كلمةمعالي رئيس مجمع الفقه الإسلاميالدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌كلمةمعالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدوليالدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌كلمةصاحب السمو الملكيالأمير ماجد بن عبد العزيز

- ‌كلمةمعالي الأستاذ خالد أحمد الجسار

- ‌كلمةمعالي الدكتور حامد الغابد

- ‌كلمةمعالي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائهاإعدادسماحة الشيخ الدكتور محمد سيد طنطاوي

- ‌التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائهاإعدادسعادة الدكتور عبد الله إبراهيم

- ‌التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائهاإعدادفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌الطرق المشروعة للتمويل العقاريإعدادفضيلة القاضي محمد تقي العثماني

- ‌بيع التقسيطإعدادفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌بيع التقسيطإعدادفضيلة الدكتور محمد عطا السيد

- ‌بيع التقسيطإعدادفضيلة الدكتور إبراهيم فاضل الدبور

- ‌البيع بالتقسيط: نظرات في التطبيق العمليإعدادفضيلة الدكتور علي أحمد السالوس

- ‌تقسيط الدين في الفقه الإسلاميإعدادفضيلة الدكتور محمد رضا عبد الجبار العاني

- ‌بيع التقسيط: تحليل فقهي واقتصاديإعدادسعادة الدكتور رفيق يونس المصري

- ‌حكم زيادة السعرفي البيع بالنسيئة شرعًاإعدادفضيلة الدكتور نظام الدين عبد الحميد

- ‌القبضصوره، وبخاصة المستجدة منها وأحكامهاإعدادفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌القبض:صوره، وبخاصة المستجدة منها، وأحكامهاإعدادفضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌القبض:أنواعه، وأحكامه في الفقه الإسلامىإعدادفضيلة الدكتور محمد رضا عبد الجبار العاني

- ‌القبض:صوره وبخاصة المستجدة منها، وأحكامهاإعدادسعادة الدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌القبض:صوره، وبخاصة المستجدة منها، وأحكامهاإعدادفضيلة الدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌القبضتعريفه، أقسامه، صوره وأحكامهاإعدادفضيلة الدكتور سعود بن مسعد الثبيتي

- ‌حُكم قبض الشيكوهل هو قبض لمحتواه؟إعدادفضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌القبض الحقيقي والحكمي: قواعده وتطبيقاتهمن الفقه الإسلاميإعدادفضيلة الشيخ نزيه كمال حماد

- ‌حكم إجراء العقود بوسَائل الاتصَال الحَديثةفي الفقه الإسلامي (موازَنًا بالفقه الوضعي)إعدادسعادة الدكتور إبراهيم كافي دونمز

- ‌الإسلام وإجراء العقودبآلات الاتصال الحديثةإعدادفضيلة الشيخ محمد الحاج الناصر

- ‌الأسواق المالية وأحكامها الفقهيةفي عصرنا الحاضرإعدادفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌أحكام السوق الماليةإعدادفضيلة الدكتور محمد عبد الغفار الشريف

- ‌السوق الماليةإعدادفضيلة الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌الأسواق المالية والبورصة والتجربة التونسيةإعدادسعادة الدكتور مصطفى النابلي

- ‌السوق المالية ومسلسل الخوصصةإعدادسعادة الدكتور الحسن الداودي

- ‌الأدوات المالية الإسلاميةإعدادسعادة الدكتور سامي حسن حمود

- ‌الأدوات المالية الإسلاميةإعدادفضيلة الدكتور حسين حامد حسان

- ‌الأسواق الماليةمن منظور النظام الاقتصادي الإسلامي(دراسة مقارنة)إعدادسعادة الدكتور نبيل عبد الإله نصيف

- ‌الأدوات المالية الإسلاميةوالبورصات الخليجيةإعدادسعادة الدكتور محمد فيصل الأخوة

- ‌الأدوات المالية التقليديةإعدادسعادة الدكتور محمد الحبيب جراية

- ‌الأسواق الماليةإعدادسعادة الدكتور محمد القري بن عيد

- ‌تجلي مرونة الفقه الإسلاميأمام التحديات المعاصرةإعدادفضيلة الأستاذ محمد الأزرق

- ‌وثائقندوة الأسواق الماليةالمنعقدة بالرباط

- ‌زراعة خلايا الجهاز العصبي وبخاصة المخإعدادفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌زراعة خلايا الجهاز العصبي وخاصة المخإعدادفضيلة الشيخ محمد المختار السلامي

- ‌زراعة الأعضاء وحكمه في الشريعة الإسلاميةإعدادفضيلة الشيخ الشريف محمد عبد القادر

- ‌زراعة خلايا المخمجالاته الحالية وآفاقه المستقبليةإعدادسعادة الدكتور مختار المهدي

- ‌إجراء التجارب علىالأجنة المجهضة والأجنة المستنبتةإعدادسعادة الدكتور محمد علي البار

- ‌الاستفادة من الأجنة المجهضة أو الزائدة عن الحاجةفي التجارب العلمية وزراعة الأعضاءإعدادسعادة الدكتور مأمون الحاج علي إبراهيم

- ‌حكم الاستفادة من الأجنة المجهضةأو الزائدة عن الحاجةإعدادفضيلة الدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌الاستفادة من الأجنة المجهضة والفائضةفي زراعة الأعضاء وإجراء التجاربإعدادسعادة الأستاذ الدكتور عبد الله حسين باسلامة

- ‌(أ) استخدام الأجنة في البحث والعلاج(ب) الوليد عديم الدماغمصدراً لزراعة الأعضاء الحيويةإعدادالدكتور حسان حتحوت

- ‌(أ) حقيقة الجنين وحكم الانتفاع به في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية.(ب) حكم زراعة خلايا الدماغ والجهاز العصبي.إعداد فضيلة الدكتور محمد نعيم ياسين

- ‌حكم الانتزاع لعضومن مولود حي عديم الدماغإعدادفضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌الاستفادة من الأجنة المجهضةأو الزائدة عن الحاجةفي التجارب العلمية وزراعة الأعضاءإعدادفضيلة الدكتور عمر سليمان الأشقر

- ‌زراعة الأعضاء من الأجنة المجهضةإعدادفضيلة الشيخ محمد عبده عمر

- ‌حكم إعادة ما قطع بحد أو قصاصإعدادفضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌زراعة عضو استؤصل في حد أو قصاصإعدادفضيلة حجة الإسلام محمد علي التسخيري

- ‌زراعة عضو استؤصل في حدإعدادفضيلة القاضي محمد تقي العثماني

- ‌زراعة عضو استؤصل في حدإعدادفضيلة الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌حكم إعادة اليدبعد قطعها في حد شرعيإعدادفضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌هل يجوز إعادة يد السارقإذا قطعت بصفة شرعية أم لا؟إعدادفضيلة الشيخ مولاي مصطفى العلوي

- ‌زراعة الأعضاء البشريةالأعضاء المنزوعة من الأجنة المجهضة.الغدد والأعضاء التناسلية.زراعة عضو استؤصل في حد كإعادة اليد التي قطعت في حد السرقة.زراعة خلايا الجهاز العصبي.إعدادسعادة الأستاذ أحمد محمد جمال

- ‌إمكانية نقل الأعضاء التناسلية في المرأةإعدادسعادة الدكتور طلعت أحمد القصبي

- ‌أحكام نقل الخصيتين والمبيضين وأحكامنقل أعضاء الجنين الناقص الخلقةفي الشريعة الإسلاميةإعدادفضيلة الدكتور خالد رشيد الجميلي

- ‌نقل وزراعة الأعضاء التناسليةإعدادفضيلة الدكتور محمد سليمان الأشقر

- ‌زرع الغدد التناسلية والأعضاء التناسليةإعدادسعادة الدكتور محمد علي البار

- ‌زراعة الغدد التناسلية أو زراعةرحم امرأة في رحم امرأة أخرىإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌زراعة الأعضاء التناسلية والغدد التناسليةللمرأة والرجلإعدادسعادة الدكتورة صديقة علي العوضي

الفصل: ‌(أ) حقيقة الجنين وحكم الانتفاع به في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية.(ب) حكم زراعة خلايا الدماغ والجهاز العصبي.إعداد فضيلة الدكتور محمد نعيم ياسين

(أ) حقيقة الجنين وحكم الانتفاع به في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية.

(ب) حكم زراعة خلايا الدماغ والجهاز العصبي.

إعداد فضيلة الدكتور محمد نعيم ياسين

رئيس قسم الفقه المقارن والسياسة الشرعية.

بكلية الشريعة – جامعة الكويت

بسم الله الرحمن الرحيم

(أ) حقيقة الجنين وحكم الانتفاع به

في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية.

تقديم وتقسيم:

القضية المطروحة للبحث في الواقع العملي هي مدى مشروعية أخد أجزاء من الجنين، واستعمالها في علاج أمراض معينة يمكن أن يقع الإنسان فريسة لها، ومدى مشروعية اتخاذ الجنين محلا للتجارب العلمية بهدف التوصل إلى الكشف عن حقائق علمية تفيد في تقويم صحة الإنسان علاجاً ووقاية.

وهذه مسألة مستجدة بلا ريب، فلا يتناولها بصورة مباشرة نص من كتاب ولا سنة، ولم يبحث فيها علماء المسلمين القدامى؛ لأنها وليدة مراحل كثيرة من التقدم العلمي في مجال الطب، ولا نظن أن لها مثالاً مطابقاً من الوقائع التي بت فيها الشرع بحكم معين.

ومنهج الباحث المسلم في مثل هذه المسألة أن يستقصي جوانب الخير والمصلحة وجوانب الشر والمفسدة في موضوعها، ثم يستنبط الحكم بناءً على ما عهد في الشرع من طلب لمصالح العباد ودفع للمفاسد عنهم، وجعل العبرة في ذلك للغالب منهما، وإيجاب تحصيل أعظم المصلحتين المتعارضتين، ودفع أعظم المفسدتين عند تعذر الجمع بين تحصيل المصالح كلها ودفع المفاسد كلها.

وإذا كان تبين المصالح والمفاسد في موضوع هذا البحث أمراً يمكن تحقيقه بالرجوع إلى أهل الاختصاص في صنعة الطب، فإن عملية الموازنة بينها هي الأكثر خفاءً والأشد صعوبة على الباحث المسلم؛ وذلك أن أساس هذه العملية هو معرفة القيم الحقيقة لتلك المصالح والمفاسد في ميزان الشرع. وليس مجرد معرفة حجمها من حيث الكثرة والقلة؛ فرب مفسدة لعمل ما أعظم في ميزان الشرع من عشرات الفوائد التي يمكن نسبتها لذلك العمل، والعكس ممكن أيضاً. والأصل في ذلك كله هو التصور السليم (المطابق للواقع) لحقيقة التصرف المراد معرفة حكمه.

وفي موضوع هذا البحث فإن حقيقة التصرف بالجنين في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية لا يمكن تحديدها إلا بمعرفة حقيقة المحل الذي يقع عليه ذلك التصرف وهو الجنين ذاته: هل هو في نظر الشرع آدمي من أول لحظة يتكون فيها، أم أنه ليس كذلك أم أنه يكون آدمياً في مرحلة من مراحل الاجتنان ولا يكون كذلك في مرحلة أخرى؛

ص: 1385

فإذا كان الشرع يعتبر الجنين آدمياً في جميع مراحله فإن ذلك التصرف يكون في أغلب الأحيان قتلاً له أو إيذاءً له في جسده بما دون القتل. وإيذاء الآدمي بالقتل أو بما هو أقل منه كبيرة من الكبائر، ولا مسوغ له أبداً؛ إذ القتل وإيقاع الأذى على جسد الآدمي لا يكون أي منهما مشروعاً في الإسلام إلا أن يكون عقوبة على أفعال حددها الشرع، ولا يتصور وقوع ذلك من الجنين، فلا يسوغ قتله أو إيذاءه في جسده أية منفعة يمكن تحقيقها من جراء ذلك، وإن كانت إحياء شخص آخر، أو كانت مكاسب علمية ذات أثر فعال في مكافحة الأمراض والعاهات، ولا مجال هنا للقياس على تبرع الإنسان العاقل البالغ ببعض أعضائه، لأن التبرع من الجنين لا يتصور، والتبرع من وليه غير مشروع؛ لما هو معلوم أن النيابة الشرعية مقيدة بتحقيق المصلحة.

وهكذا فإن اعتبار الجنين آدمياً من اللحظة الأولى يسد الباب تماماً في وجه أي تصرف في جسده يضره ولا ينفعه.

وأما إذ لم يكن الجنين آدمياً في مرحلة من مراحله، وإنما هو مخلوق آخر أقل رتبة في ميزان الشرع من الإنسان، فإن ذلك يفتح مجالاً للنظر عندما يكون إتلافه سبباً في تحقيق مصالح معتبرة للآدمي ودفع مفاسد حقيقية عنه.

وأغلب الظن عندي أن البحث عن حقيقة الجنين والوقت الذي يكتسب فيه إنسانيته وهويته الآدمية ينبغي أن يكون المنطلق لأي بحث يقصد منه معرفة حكم أي تصرف في جسده، ثم يأتي بعد ذلك اعتبار المصالح والمفاسد المترتبة على ذلك التصرف في ضوء ما يسفر عنه البحث عن تلك الحقيقة.

ومما تقدم يتضح وجه اختيار عنوان البحث "حقيقة الجنين وحكم الانتفاع به "، ويدرك العذر لما سيرى من الإطالة في البحث عن حقيقة الجنين، والوقت الذي يكتسب فيه هويته الآدمية؛ لأن ذلك يعتبر كالأساس بالنسبة للبحث عن أحكام ما يقع على جسد الجنين من التصرفات، ولا يمكن بدونه الاطمئنان لأية نتيجة في هذا الموضوع.

ص: 1386

وبناء على ما سبق فإن البحث سينقسم إلى مبحثين:

* المبحث الأول - في حقيقة الجنين، ويتضمن خمسة مطالب هي:

المطلب الأول - معنى الجنين في اللغة والاصطلاح.

المطلب الثاني - تطور الجنين.

المطلب الثالث - التطور الذي يغير حقيقة الجنين هو نفخ الروح وبرهان ذلك من العقل والشرع.

المطلب الرابع - وقت نفخ الروح في الجنين.

المطلب الخامس - حقيقة الجنين بعد نفخ الروح وقبله.

. المبحث الثاني - حكم الانتفاع بالأجنة في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية، ويتضمن خمسة مطالب هي:

المطلب الأول - حقيقة الانتفاع بالأجنة في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية.

المطلب الثاني - الحكم الشرعي للانتفاع بالجنين بعد نفخ الروح.

المطلب الثالث - الحكم الشرعي للانتفاع بالجنين قبل نفخ الروح فيه، ويتضمن هذا المطلب ثلاثة أفرع:

الفرع الأول - حكم الانتفاع بالجنين في بطن أمه.

الفرع الثاني - حكم الانتفاع بالجنين الحيي الذي هو خارج البطن ويمكن غرسه في رحم أمه.

الفرع الثالث - حكم الانتفاع بالجنين الميت واقعاً أو حكما.

المطلب الرابع - شروط وقيود الانتفاع بالأجنة الآدمية في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية.

المطلب الخامس - ما ينبغي أن يكون عليه حكم الانتفاع بالأجنة الآدمية عند من ينكرون الروح.

ص: 1387

المبحث الأول

حقيقة الجنين

المطلب الأول

معنى الجنين في اللغة والاصطلاح

الجنين في اللغة هو الولد في البطن، والجمع أجنة وأجنن، وهو مشتق من جن، أي استتر، وسمي جنيناً لاستتاره في بطن أمه.

وجنين الآدمي هو المخلوق الذي يتكون في رحم المرأة نتيجة تلاقح بيضتها مع الحيوان المنوي الذي يحتوي عليه ماء الرجل، ويطلق اسم الجنين على هذا المخلوق ما دام في رحم أمه، لتحقق استتاره فيه، فيشمل جميع مراحله من حين تكونه إلى وقت ولادته (1)

ويستعمل الفقهاء المسلمون لفظ الجنين بمثل ما يستعمل في اللغة، غير أن بعضهم قصره على الحمل الذي يتبين منه شيء من خلق الآدمي، ولم يطلقه على ما دون ذلك (2)

وأما عند الأطباء فيطلق بعضهم لفظ الجنين على الولد في بطن أمه عندما يظهر عليه الطابع الإنساني بتكون الأجهزة المعروفة للإنسان، ويكون ذلك فيما بين الشهر الثالث من الحمل إلى حين الولادة، ويقصره بعضهم على الولد في بطن أمه إذا اكتملت بنيته، وكان بإمكانه أن يعيش إذا نزل حياً من بطن أمه، ويكون هذا في الفترة الواقعة بين بداية الشهر السابع إلى وقت الولادة (3)

ومن علماء الأجنة من يطلق الجنين على الفترة الواقعة بين انغراز البيضة الملقحة في جدار الرحم ونهاية الأسبوع الثامن، ثم يطلقون عليه بعد ذلك اسم "حميل " إلى أن يولد (4)

ولا مشاحة في الاصطلاحات، وإنما العبرة بحقيقة الحمل في كل مرحلة من مراحل تطوره، وما يترتب على تحديدها من أحكام.

وموضوع هذا البحث يدخل فيه الحمل بجميع أطواره ومراحله، من وقت تكونه بتلقيح البيضة إلى وقت ولادته، وسواء أحصل ذلك التلقيح داخل الرحم أم خارجه في أنابيب الاختبار ثم أعيد إلى الرحم ليكمل رحلته بعناية ربه ورعايته.

(1) المصباح المنير، الكليات للكفوي: 2/ 171، وتفسير القرطبي: 17/ 110.

(2)

بدائع الصنائع للكاساني: 7/ 325، الموسوعة الفقهية: 17/16 1.

(3)

تطور الجنين وصحة الحامل - محيي الدين طابو: ص 12.

(4)

خلق الإنسان بين الطب والقرآن - محمد علي البار: ص 376، 379.

ص: 1388

المطلب الثاني

تطور الجنين

لا نقصد من الكلام عن تطور الجنين هنا بيان ما يحدث له في رحم أمه من تصوير وتخليق ونمو وهدم وبناء وغيرذلك؛ فإن هذا من شأن أهل صنعة الطب وعلماء الأجنة. ولكن الذي يعنينا في هذا البحث هو معرفة المراحل الأساسية التي تتعاقب على الجنين، ويكتسب في كل مرحلة منها خصائص ومؤهلات جديدة يمكن أن تكون مناطاً للأحكام الشرعية التي تحكم تعاملنا مع جسده، فيستعان بها على معرفة الحلال والحرام من أشكال ذلك التعامل.

ولا شك في أن الأصل في معرفة مناطات الأحكام هو الرجوع إلى الشرع نفسه نصوصاً ومبادىء، ولا ينكر في هذا المقام دور المعارف البشرية المحصلة بالحس والمشاهدة والتجربة مما توصل إليه أهل الصنعة في هذا المجال.

والذي يدل عليه هذان المصدران أن الجنين قد أخضعه ربه خلال فترة الحمل لنوعين من التطور:

أحدهما: تطور مادي محسوس يمكن أن يلاحظ بالمشاهدة من أهل الاختصاص. وموضوعه العناصر المادية التي يتكون منها الجنين، وما يتعاقب عليها من نمو وتخليق وتسوية وتعديل وغير ذلك.

والثاني: تطور غير محسوس، ولا يخضع في ذاته لحس ولا مشاهدة ولا تجربة، وموضوعه مخلوق روحاني جمع الله تعالى بينه وبين تلك العناصر المادية من الإنسان في لحظة من اللحظات، وجعله مصدراً للأنشطة الإنسانية المتميزة، والتي ميز بها الإنسان عن سائر الأحياء، كالتصور والتعقل والتخيل والإرادة والتفكير وغير ذلك. وقد سمى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم هذا المخلوق بالروح.

ص: 1389

وقد وردت الإشارة إلى كلا النوعين من التطور في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ففي القرآن قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [سورة الحج: الآية 5] ؛ ففي هذه الآية بيان لمعالم التطور المادي الذي يتقلب فيه الجنين بالانتقال من صورة إلى صورة.

وقاد سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [سورة المؤمنون: الآيات 12 - 4ا] ؛ وقد نقل كثير من المفسرين عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من الصحابة والتابعين أن المقصود بقوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ} هو نفخ الروح بعد استكمال تخليقه وتصويره (1)

وقال عز وجل: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ ونَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ والأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [سورة السجدة: الآيات 6 - 9 [؛ ففي هذه الآيات أيضاً إشارة إلى النوعين أيضاً.

وفي السنة أحاديث صحيحة ذكرت أطوار الجنين الجسمانية، وما يطرأ عليه من

تعلق الروح بجسده، وأشهرها حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد)) (2) ؛ ففي هذا الحديث ذكر للمعالم الرئيسية لتطور الجنين المادي المحسوس، وتحديد للزمن الذي تنفخ فيه الروح.

(1) انظر مثلاً: تفسير القرطبي 2 1/ 09 1، وفتح القدير للشوكاني 477/3، وكتاب التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي 3/ 49، والتفسير الكبير للرازي 23/ 85، وفي ظلال القرآن 18/ 2459، تفسير الماوردي 3/ 94، مختصر تفسير ابن كثير 2/ 561.

(2)

متفق عليه، انظر: اللؤلؤ والمرجان حديث رقم 1695، فتح الباري 417/11، عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي لابن العربي 301/8، صحيح مسلم بشرح النووي 16/ 190، جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 44.

ص: 1390

ووردت أحاديث أخرى فيها بيان لبدء تصوير الجنين وتخليقه منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليه ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها

)) (1)

ولم يرد في النصوص الشرعية تفصيلات ما يحدث للجنين من تطور مادي سوى ما ذكر من الإشارة إليها في معرض التذكير بقدرة الله تعالى وقدره. ولكن هذا النوع من التطور لما كان موضعه ما يطرأ على خلايا الجنين من نمو وتكاثر وتشكل، وما يتبع ذلك من ظهور أعضاء وأجهزة وأعصاب وغير ذلك، فإن الوقوف على تفصيلاته أمر يقدر عليه الإنسان؛ لأنه مشاهد ومحسوس، وقد عرف منه العلماء المسلمون قدراً معتبراً، ووصفوه وصفاً جيداً (2) وإن لم يصلوا في دقة الوصف إلى ما تحصل لأهل صنعة الطب المعاصرين.

وأما علماء الأجنة المعاصرون فقد استطاعوا بما اكتشف من الآلات والأجهزة الدقيقة أن يتابعوا التطور الجنيني المادي في معظم مراحله يوماً بيوم وأسبوعاً بأسبوع وشهراً بشهر.

وأما النوع الثاني من التطور الجنيني، وهو ما يحدث بإذن الرب جل وعلا من نفخ الروح في بدن الجنين، وما يكتسبه بذلك من شخصية جديدة هي حقيقة الشخصية الإنسانية، فإن ذلك لا يقع في اختصاص الأطباء وعلماء الأجنة، ولا يتوقع أن يتوصلوا إلى تحديد وقته بوسائلهم المادية ولا سبيل لهم إلى ذلك؛ لأن العنصر الجديد الذي يخلقه الله في الجنين ليس جسما مادياً ولا تناله الحواس مهما كانت الوسائل المعينة لها. وإنما السبيل إليه هو إخبار الذي خلقه عن طريق الوحي إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يرد في ذلك ما ذكر من النص لظل مبدأ تعلقه بالبدن مطوياً في علم الغيب، ولكن الباري أوحى بذلك إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ونقل الرسول إلينا ما أوحي إليه وعلمنا أن الروح تنفخ في الجنين بعد مائة وعشرين يوماً من تكونه.

(1) رواه مسلم: انظر: مختصر صحيح مسلم حديث رقم 1894.

(2)

انظر مثلاً: ما كتبه داود الأنطاكي في النزهة المبهجة 143/1 وما بعدها، والتبيان في أقسام القرآن لابن القيم ص 337، وجامع العلوم والحكم لابن رجب ص 47. 1868.

ص: 1391

وهذه المعارف الشرعية لا تتعارض مع معارف أهل الصنعة التي حصلوها بالتجربة والحس والمشاهدة فلا يقتضي التسليم بإحداهما نفي الأخرى؛ فإن التسليم بتطور الجنين في عناصره المادية المحسوسة لا ينفي تطوره باستقبال عنصر روحاني لطيف في فترة من فترات قراره داخل الرحم. فموضوع كل من النوعين السابقين من المعارف يختلف عن الآخر، ووجهة البحث في كل منهما مختلفة، وكذلك وسائل تحصيلها (1)

وإذا تبين أن وسائل العلم المادية لا تستطيع أن تدرك من نوعي التطور الذي يقع على الجنين سوى النوع الأول، فإنها أيضاً لا تستطيع أن تنفي وقوع التطور الآخر الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بنفخ الروح في الجنين؛ لأن وسائل تحصيل المعرفة لا يقتصر على التجربة والمشاهدة، فإن هذه إحداها، والاقتصار عليها في إثبات الموجودات يعد قصوراً في البحث، وبخاصة إذا كان المبحوث عنه أمراً لا يحس ولا يشاهد. وإن من وسائل المعرفة التي لا ينكرها العقلاء الخبر الصادق عمن عنده علم عن الموضوع محل البحث، والمحاكمة العقلية السليمة التي قد تنطلق من المشاهد المحسوس، وقد تنطلق من الخبر الصادق أيضاً؛ وقد أشار كتاب الله تعالى إلى هذه الوسائل المعتبرة في الوصول إلى الحقائق والمعارف في قوله عز وجل:{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [سورة الإسراء: الآية 36] ؛ فأشار سبحانه إلى تلك المصادر بذكر آلاتها التي رزقها للإنسان من أذن تسمع وعين ترى وفؤاد يعقل.

(1) المطالب القدسية في أحكام الروح وآئارها الكونية - الشيخ مخلوف ص 95.

ص: 1392

المطلب الثالث

التطور الذي يغير حقيقة الجنين هو نفخ الروح

لا شك في أن حقيقة كل مخلوق تتحذ بما يتميز به ذلك المخلوق عن غيره من القوى والملكات والخصائص الذاتية التي توجد فيه ولا توجد في سواه، وأما ما يشترك به مع المخلوقات الأخرى من تلك القوى والخصائص فلا يحدد حقيقته؛ وفي ذلك يقول ابن مسكويه:(كل موجود من حيوان ونبات وجماد ونار وهواء وأرض وماء وأجرام علوية له قوى وملكات وأفعال بها يصير ذلك الموجود هو ما هو وبها يميز عن كل ما سواه. وله أيضاً قوى وملكات وأفعال بها يشارك ما سواه. ولما كان الإنسان من بين الموجودات كلها هو الذي يلتمس له الخلق المحمود والأفعال المرضية، وجب أن لا ننظر في هذا الوقت في قواه وملكاته وأفعاله التي بها يشارك سائر الموجودات؛ إذ كان ذلك من حق صناعة أخرى وعلم آخر يسمى العلم الطبيعي، وأما أفعاله وقواه وملكاته التي يختص بها من حيث هو إنسان وبها تتم إنسانيته فهي الأمور الإرادية التي بها تتعلق قوة الفكر والتمييز 000)(1)

ولذلك فإن العلماء المسلمين يرون أن حقيقة الإنسان لم تتحدد بهيكله المخصوص بما يحتوي عليه من عناصر مادية وما يتكون منها من أعضاء وأجزاء. وإنما تحددت بروحه التي نفخت فيه والتي هي مصدر إرادته وقوته العاقلة؛ يقول الشيخ مخلوف: (على أن حقيقة الإنسان هي النفس الناطقة المتعلقة ببدنه تعلق التدبير والتصرف (2) والهيكل المخصوص خارج عن حقيقته، فلو وجدت الروح الإنسانية الناطقة في حيوان لما كان حيواناً، بل كان إنساناً في صورة حيوان. والنفس الإنسانية من أخص أوصافها النطق الفكري الذي يتأهب الإنسان به إلى النطق البياني، ويخوض به غمار البحث عن حقائق الأشياء وأحوالها ليتكمل به علما وعملاً، وذلك ليس بموجود في الحيوان مهما اهتدى إلى أي عمل من الأعمال) (3)

(1) تهذيب الأخلاق: ص. ا. وانظر قريباً من هذا المعنى عند الغزالي في معارج القدس: ص 17.

(2)

لا نظن أن الشيخ يقصد بهذا أن مسمى الإنسان هو الروح فقط دون بدنه، وإنما يعني أن العنصر الأهم من الإنسان هو روحه التي تميزه عن سائر أنواع الحيوان، وإلا فإن بدن الإنسان متميز أيضاً عن بدن الحيوان. ولكن هذا التميز ليس في حقيقة العناصر والمواد التي يتكون منها بدن الاثنين، ولكن في تصويرها وتسويتها؛ فقد صورها الله في بدن الإنسان أحسن تصوير، وجعله في أحسن تقويم؛ لأن هذا البدن بالذات صنعه ربه ليكون آلة للروح ومركباً لها، وقد أجرى الله العادة بلا استثناء أن الروح الإنسانية لا تسكن إلا ذلك البدن المهيأ لها، ولا تركب غيره. وهذا التميز في التصوير البدني يستحق أن يلاحظ عند تعريف الإنسان أو عند البحث عن مسماه، كما ينبغي أن يلاحظ ذلك الجمع المعجز الذي جمع به بين الروح والبدن مما لا يوجد مثيله في غير الإنسان، فالحق أن الإنسان هو المجموع الحاصل من الروح والبدن، وهذا ما عليه الجمهور انظر كتاب الروح لابن القيم: ص 241. ومع ما تقدم فإن المميز الأول للإنسان يظل ما أسكن فيه من روحه التي هي مصدر جميع ما يختص به من الآثار الخارجية.

(3)

المطالب القدسية: ص 19، وقد أشار إلى هذا المعنى ابن مسكويه فيما تقدم نقله عنه، والغزالي في معارج القدس: ص 17، وابن القيم في كتاب الروح: ص 261، والفخر الرازي في التفسير الكبير: 1 39/2، 43،؛ فقد ذكر سبع عشرة حجة على ان حقيقة الإنسان هي روحه وليست جثته. ويقول سيد قطب في ظلال قوله تعالى:{ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} : (هذا هو الإنسان ذو الخصائص المتميزة، فجنين الإنسان يشبه جنين الحيوان في أطواره الجسدية، ولكن جنين الإنسان ينشأ خلقاً آخر، ويتحول إلى تلك الخليقة المتميزة المستعدة للارتقاء، ويبقى جنين الحيوان في مرتبة الحيوان مجرداً من خصائص الارتقاء والكمال التي يمتاز بها جنين الإنسان. إن الجنين الإنساني مزود بخصائص معينة هي التي تسلك به طريقه الإنساني فيما بعد، وهو ينشاً خلقاً آخر في آخر أطواره الجنينية، بينما يقف الجنين الحيواني عند التطور الحيواني لأنه غير مزود بتلك الخصائص، ومن ثم فإنه لا يمكن أن يتجاوز الحيوان مرتبته الحيوانية، فيتطور إلى مرتبة الإنسان تطوراً آلياً – كما تقول النظريات المادية – فهما نوعان مختلفان، اختلفا بتلك النفخة الإلهية التي بها صارت سلالة الطين انساناً، واختلفا بعد ذلك بتلك الخصائص المعينة الناشئة من تلك النفخة، والتي ينشاً بها الجنين الإنساني خلقاً آخر. إنما الإنسان والحيوان يتشابهان في التكوين الحيواني، ثم يبقى الحيوان حيواناً لا يتعداه، ويتحول الإنسان خلقاً آخر قابلاً لما هو مهيأ له من الكمال بواسطة خصائص مميزة وهبها الله له عن تدبر مقصود لا عن طريق تطور آلي من نوع الحيوان إلى نوع الإنسان) - في ظلال القرآن: 2459/18.

ص: 1393

وإذا كانت حقيقة الإنسان تتحدد بما ذكرنا من إسكان الروح في بدنه فإن هذا يلزمنا القول: إن التطور الذي يقع للجنين، فينقله من حقيقة إلى أخرى، فيجعله آدمياً بعد أن لم يكن إنما هو نفخ الروح فيه.

وأما التطور البدني الذي يحدث للجنين فإنه لا يغير حقيقته التي نشأ بها عند تكونه من ماء الرجل وماء المرأة، وإن نوع الحياة التي تسببه - بإرادة الله عز وجل واحد لا يتغير؛ فتلك الحياة هي التي أجرى الله بها انقسام الخلية الواحدة التي تنشأ عند ذلك التكون، وتوليد خلايا جديدة وكثيرة، وهي التي ينشاً عنها كل ما ينشاً بعد ذلك للجنين من أعضاء وأجهزة وأعصاب ودم وعظم وشعر وغير ذلك، وتبقى مع الإنسان في جميع أطواره، قبل ولادته وبعدها، وبها تتجدد خلايا جسده، وتعوض ما يفنى منها، وتغذيها، إلى أن يحين أجله. وقد تبقى هذه الحياة مع بعض أجزاء الإنسان بعد وفاته، وخروج روحه ومفارقتها لتلك الأجزاء؛ فإن أهل صنعة الطب قد قرروا أن أعضاء الجسد تظل محتفظة بهذا النوع من الحياة بعد موت الدماغ، وذلك لمدد متفاوتة، فبعضها تبقى فيه تلك الحياة لدقائق وبعضها لساعات وبعضها لأيام، هذا إذا تركت دون تدخل صناعي من أهل الاختصاص، وأما مع تدخلهم بأجهزة صناعية ابتكرت في هذه الأيام صار من الممكن زيادة الفترات التي تظل معها تلك الحياة في أعضاء الجسد الذي مات دماغ صاحبه (1) ومع أن هذه الزيادة ما زالت محدودة بالساعات والأيام والأسابيع، لكن مجرد النجاح فيها ينبىء عن تقدم علمي يمكن بوساطته الحفاظ على تلك الحياة في أعضاء الموتى إلى مدد أطول قد تصل إلى السنين دون أن تكون في خدمة روح آدمية، ودون أن يكون في مقدورها ممارسة وظائفها التي كانت تمارسها في أجساد أصحابها تحت إمرة أرواحهم؛ فلا اليد تتحرك فضلاً عن أن تبطش، ولا العين ترمش فضلاً عن أن تبصر، ولا الأذن تسمع، ولا الرجل تمشي. ومع ذلك فإن نوع تلك الحياة التي بدأت مع الخلقة الأولى من جسد الآدمي ما زالت موجودة. فإذا ما وضعت هذه الأعضاء التي ما زالت تحتفظ بتلك الحياة في خدمة روح جديدة، فزرعت في جسد آدمي فيه روح استعملتها هذه الروح الجديدة، وأدت هذه الأعضاء وظائفها بالفاعلية نفسها التي كانت تؤديها عند انفصالها عن جسد صاحبها الأول (2)

(1) انظر بحثاً للدكتور محمد علي البار عنوانه (انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاً) مقدماً إلى مجمع الفقه الإسلامي في دورته المنعقدة عام 987ام: ص 5، 9.

(2)

مع أن تنفيذ هذا في الواقع يعتبر من ثمرات التقدم العلمي في النصف الثاني من القرن العشرين لكن بعض علماء المسلمين القدامى أشاروا إلى أنه لو أمكن نقل عضو من إنسان إلى إنسان آخر بدلاً من عضوه الضعيف، فإن العضو المنقول يعمل بكفاءته التي كان عليها، ومما قالوه في ذلك:(إن الشيخ لو وجد عيناً كعين الشاب لأبصر كما يبصر الشاب) - انظر: مناهج الأدلة في عقائد الملة لابن رشد: ص 247. ويدل ذلك على أنهم كانوا يدركون حقيقة أن الجسد آلة الروح، وأن فيه نوعاً من الحياة يختلف عن حياة الروح، وأن هذه الحياة تبقى وان انفصلت عنها الروح التي كانت تستخدمها، وأنها مستعدة بإعداد الله تعالى لها لخدمة أية روح بشرية بكامل فعاليتها من غير أن تتأثر.

ص: 1394

فهذه الأعضاء الحية احتفظت بما أودع الله فيها من الحياة في جسد الأول تحت خدمة روحه، وفي جسد الثاني تحت خدمة روحه، وظلت هذه الحياة موجودة فيها في المرحلة الوسطى بعد الانفصال عن الجسد الأول وقبل الاتصال بالجسد الثاني. وهذه المرحلة الوسطى صار العلم يتدخل فيها بإطالة مدتها بواسطة التبريد بطرق فنية متقدمة. وإذا ذكرنا في هذا المقام ما أسفر عنه التقدم العلمي من التمكن من تبريد اللقيحة (وهي الجنين في مبدأ تكونه) إلى مدة طويلة تقدر بالسنوات، ثم إعادتها إلى وضعها الذي كانت عليه قبل التبريد وغرسها في رحم المرأة لتواصل نموها حتى تكتمل جنيناً ثم مولوداً (1) إذا ذكرنا ذلك أدركنا وجه الشبه بين هذه اللقيحة قبل أن تقترن بحياة الروح وبين أعضاء الجسد الأدمي بعد وفاة صاحبه وخروج روحه، التي أمكن تبريدها أيضاً والحفاظ على الحياة فيها أيضاً مدة من الزمن.

إن هذه الكشوف العلمية فيها أبلغ الدلالة على أن الإنسان الحي مخلوق استودعه الله نوعين من أنواع الحياة: إحداهما مخدومة هي الأصل والمقصودة من خلقه، والأخرى خادمة للأولى، جمع بينهما بأسلوب معجز لا يعلم حقيقته الأ الله تعالى. وأن الحياة الخادمة تخلق قبل المخدومة، بحيث تعد لاستقبال سيدها. وأن شخصية الإنسان تبدأ في هذه الدنيا عندما تجتمع الحياتان، وأنها تنتهي عندما تفترقان. وأن مجرد وجود الحياة الخادمة لا يستلزم وجود الحياة الإنسانية، وأن الحياة الحاملة للإنسان المنتجة لآثاره الإرادية، ليست هي إلا الحياة المخدومة، حتى إذا ما رحل مصدرها (وهو ما أسماه القرآن والسنة بالروح) انتهت حياة الإنسان في هذه الدنيا، وإن بقي بعد ذلك شيء من الحياة الخادمة في بعض أجزاء الجسد الآدمي.

(1) انظر بحثاً للدكتور عبد الله حسين باسلامه بعنوان "مصير الأجنة في البنوك " مطبوع في الثبت الكامل لأعمال ندوة الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية: ص 446.

ص: 1395

اعتراض وجواب:

وقد يعترض على ما تقدم بأن بقاء نوع من الحياة في بعض أجزاء الجسد بعد وفاة صاحبه، لا يدل على أكثر من وجود نوعين من الحياة كانتا مجتمعتين في الإنسان الحي، إحداهما أرقى من الأخرى، وقد ذهبت الأولى وبقيت الأخرى. ولا يلزم أن مصدر الأولى مخلوق آخر حي عاقل جمع مع بدن الإنسان في طور من أطواره؛ وذلك أن هذا الذي ذهبتم إليه هو أحد احتمالين يقبلهما العقل. وأما الاحتمال الآخر فهو أن مصدر الحياة الأرقى كان هو الدماغ، وأنه هو الذي يفرز ما يميز الإنسان من إدراك وفكر ومشاعر، كما تفرز الكبد الصفراء والكلى البول، فلما مات الدماغ ذهبت تلك الحياة المميزة للإنسان، وهذا يقتضي أن التطور الذي يطرأ على الجنين ويكسبه مؤهلات تميزه عن غيره هو اكتمال دماغه، وليس خلق حياة جديدة في بدن الجنين.

وأساس هذا الاحتمال أن الأنشطة الإنسانية المتميزة إنما يقترن تخلفها مع تعطل الدماغ، وأن عجز الأعضاء وأجهزة الجسد الآدمي يقع دائما عند انقطاع صلتها بدماغ حي.

والجواب عن هذا الاعتراض أن مبناه - كالاحتمال الأول - على الإقرار بأن حياة الجنين تبدأ عند تكونها مجردة من المصدر الذي تصدر عنه حياة الفكر والإرادة؛ لأنه ينسب هذه الحياة العاقلة للدماغ، والدماغ، كما هو معلوم عند أهل الاختصاص، لا يتكون مع الجنين من أول لحظة، وإنما يبدأ تكونه بعد تلقيح البييضة بأسابيع، ويكتمل في الأسبوع الثاني عشر (1)

والمادة التي يتكون منها الدماغ هي عين المادة التي تنشاً منها بقية أعضاء الجسد. ونوع الحياة الذي يتسبب في نشوء الجميع واحد؛ فإن أصل الجنين خلية واحدة، تنقسم وتنقسم أقسامها وأقسام أقسامها

وهكذا، ثم يحدث تخلق الأعضاء من تكتل الخلايا الناتجة عن عمليات الانقسام، وبفعل عمليات حيوية متعددة فإذا كان الأمر كذلك فإن هذا يقتضي أن تكون الوظائف التي تقوم بها مختلف أعضاء الجسم من جنس واحد، وإن اختلفت تخصصاتها، وهي وظائف غير إرادية ولا فكرية، لأنها كلها نشأت من أصل واحد، هو الخلية الأولى والخلايا المتولدة منها، وهذا الأصل الذي نشأت منه جميع الأعضاء مجرد عن الفكر والإرادة، كما يقضي به احتمال المعترض، ويستحيل بحسب سنن الكون وموجوداته أن يتولد بصورة آلية المريد من غير المريد، والمفكر من غير المفكر. وإنما يتصور ذلك عندما يضاف إلى المتولد المجرد عن الفكر والإرادة مصدر آخر مريد ومفكر بذاته، وذلك بتدخل خارجي. ولا يتصور أن يكون المتدخل هنا سوى الله عزوجل؛ فإنه سبحانه هو المختص بالخلق المباشر، ولا يقدر على ذلك سواه، ومع هذا اللزوم يتحول الاحتمال الذي أورده المعترض إلى احتمال قريب من الاحتمال الآخر ومؤكد له.

(1) انظر بحث الدكتور مختار المهدي "بداية الحياة الإنسانية" ضمن أبحاث ندوة الحياة الإنسانية ": بدايتها ونهايتها في المفهوم الإسلامي ص 67 - 69.

ص: 1396

وأما ما يؤثر عن بعض العلماء الماديين من أن الإرادة والفكر والشعور وغيرها من الأنشطة الإنسانية الاختيارية إنما تنشاً عن الدماغ نتيجة تفاعلات كيميائية وفيزيائية، فهذا رأي لا يؤيده النظر، ويؤدي إلى نتائج غير مقبولة لا عقلياً ولا واقعياً؛ وذلك أن كل تفاعل لا بد له من عامل أو مؤثر يتسبب به، وهذا المؤثر إما أن يكون خارج الإنسان أو داخله، فإن كان خارج الإنسان، فمعنى ذلك أن أفكار كل إنسان وأنشطته الإرادية ومشاعره المختلفة كل ذلك ثمرات إلزامية لأمور لا يد له فيها، وغاية ما في الأمر أنه كان وعاءً جرى فيه التفاعل بتأثير غيره، وكل ما على وجه الأرض من الإنجازات العلمية والكشوف والعلوم ليست إلا ردود فعل لمؤثرات خارجية، ولا دخل لأصحابها فيها، ولا يستحقون عليها جزاء ولا شكوراً، وهذا اتجاه لتجريد الإنسان من الإرادة في كل ما يقوم به، وهو ينافي تماماً ما نشعر ونحس به، ويؤول في الوقت ذاته إلى إعفائه من مسؤولية أعماله، وهو تفسير للحياة الإنسانية بالفوضوية؛ لربط أنشطتها كلها بمصادر غير إرادية، ومع هذه النتائج الشاذة التي يؤدي إليها هذا الرأي إلا أنه مبهم وغير مفهوم في ضوء ما عرف من سنن الكون وموجوداته، إذ كيف يمكن لمؤثر خارج دماغ الإنسان أن يكون سبباً مباشراً في إجراء تفاعل مادي كيميائي أو فيزيائي داخل الدماغ؛ فهل عهد في مختلف أصناف التفاعلات، وما تجري عليه من العناصر خارج الكيان الإنساني أن تؤثر الأمور المعنوية في إجراء تفاعل كيميائي أو فيزيائي؛ ولماذا لا يستطيع العلماء الماديون أن يرتبوا - ولو مرة واحدة - تجربة توضع فيها العناصر والمركبات في أنابيب الأختبار، ثم يدفعوها إلى التفاعل بالتأثيرات المعنوية بدلاً من العوامل المادية المعهودة؟

هذا على فرض أن المؤثر في إجراء التفاعل المزعوم في الدماغ البشري كان من خارج الإنسان، وأما على افتراض أنه كان من داخله فما هو؛ هل هو مجرد احتكاك الخلايا والأعصاب أم هو مجرد وصول الدماء إلى عروق الدماغ أم هو شيء آخر؛ فليكن أي شيء، فلماذا تتعدد وتختلف نتائج ذلك التفاعل الكيميائي المزعوم باختلاف الأشخاص من جهة، وباختلاف الأزمان والساعات والأحوال في الشخص الواحد من جهة أخرى؛ إن محتويات الأدمغة واحدة في الأشخاص وفي الأزمان، وأنشطتها المادية واحدة، فلماذا تتعدد إذن نتائج التفاعلات التي تحدث فيها؛ فتتعدد الأفكار وتتعدد المشاعر والأحاسيس، وتتعدد الاكتشافات وتتعدد المواهب عند الأشخاص، بل وتتعدد عند الشخص الواحد: فتجده في الساعة الواحدة يتقلب من حال إلى حال، في مشاعره وأحاسيسه وأفكاره، فلماذا تكون النتائج مختلفة لمعادلة كيميائية واحدة، عناصرها واحدة، ومؤثراتها واحدة؛ ألا يدل ذلك على وجود مصدر آخر غير الدماغ وما يزعم من تفاعلات تجري فيه؛ الجهاز واحد هو الدماغ، وهو عند أبناء آدم متشابه في مكوناته المشاهدة المحسوسة ولا يختلف سوى في الوزن أو في الشكل ونحو ذلك، ومن المؤكد علمياً أن هذه الأمور غير مؤثرة في اختلاف وظائف الأدمغة عند البشر، ودماغ الشخص الواحد لا يختلف في تكوينه وعناصره ومحتوياته كلها بين آن وآن، ولا حال وحال، ولا مكان ومكان، ومع ذلك فإن منتجات صاحب هذا الدماغ من الأنشطة الإرادية والأفكار والمشاعر والخواطر والخيالات وغير ذلك مختلفة ومتعددة تعدداً لا نظير له.

خذ أي عدد من الناس كثر أو قل، ثم اجمعهم في قاعة واحدة، وأنشىء لهم دافعاً واحداً للتفكير، فاسألهم سؤالاً يحتاج في جوابه إلى النظر والاجتهاد أو اطلب منهم أن يكتبوا موضوعاً معيناً، ثم انظر ماذا ترى؛ فمع أن المؤثر واحد ومع أن لكل منهم دماغاً، وكل دماغ يشبه الآخر في تركيبه العضوي، مع كل ذلك فإن النتائج ستكون مختلفة، ومنتجات الأدمغة ستكون متعددة، وسيظهر بينها اختلافات واضحة. فلماذا هذا التفاوت في منتجات الأدمغة بين هؤلاء الناس مع تشابه أدمغتهم في تكوينها؛ إن تشابه التكوين واتحاد المؤثر لم يؤد إلى تشابه النتائج مع أنه كان ينبغي أن يؤدي إلى نوع واحد من التفاعلات المزعومة.

ص: 1397

ثم إنك تجد الشخص الواحد يفكر في موضوع معين، وتجد أن رأيه فيه قد يختلف باختلاف الزمان، والدماغ المستعمل واحد، وخلاياه واحدة، فلماذا لم تتشابه نتائج التفكير في هذا الدماغ مع وحدة خلاياه وعدم تغيرها؟

هل هناك من تفسير لتعدد منتجات هذا الجهاز المسمى بالدماغ واختلافها باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان سوى تفسير واحد هو أن هذا الجهاز لا يقوم بتلك الأنشطة بذاته، وإنما يوجد وراءه مخلوق حي مريد بذاته يستعمل ذلك الجهاز بأساليب متعددة وهيئات مختلفة، وهو في ذاته مختلف بين شخص وشخص؛ لا سبيل إلى تفسير أنشطة الإنسان الإرادية والفكرية بغير هذا. ونسبتها إلى الدماغ لا ينبغي أن تتعدى نسبة المصنوع إلى آلة الصانع الحقيقي، وأما الصانع الحقيقي فهو ذلك المخلوق الحي المريد العاقل الذي سماه الشرع روحاً أو نفساً.

وأما ارتباط وجود العمل الإرادي والفكري بوجود الدماغ، وعدم إمكانه بغيره في هذه الحياة الدنيا (إن صح عند أهل الاختصاص على إطلاقه) ، فنرى أنه لا ينقض ما تقدم برهانه من وجود مخلوق حي مريد بذاته وراء الدماغ ينشىء ذلك العمل. وإنما يضيف إليه إضافة جديدة مفادها أن ذلك المخلوق الحي العاقل المريد قد جعل الخالق قيامه بوظائفه في هذه الدنيا عن طريق الدماغ، فجعله مخزناً لمعلوماته وإدراكاته ومجمعاً لاتصالاته إرسالاً واستقبالاً؛ فمن خلال الدماغ يؤثر ذلك المخلوق في الجسد، فإذا تعطل هذا الجهاز المسمى بالدماغ انقطع اتصال ذلك المخلوق المريد العاقل بالجسد، وانقطع عن تأثيره فيه، فيكون وجود الدماغ شرطاً لبقاء ذلك المخلوق في جسد الإنسان وتأثيره فيه. وبالتالي يكون شرطاً لبقاء الحياة الإنسانية الإرادية، وليس سبباً في وجودها؛ بمعنى أن عدمه يستلزم انعدام تلك الحياة ورحيل مصدرها عن الجسد وحصول الموت. ولكن وجود الدماغ لا يستلزم وجود تلك الحياة من الناحية النظرية. وإذا كانت التجارب العلمية تمكنت من أثبات الشطر الأول من هذه المقولة، ولم تستطع الوصول إلى أثبات الشطر الثاني منها، فإن ذلك لا يدل على بطلان هذا الشطر. بل إن النظر العقلي الذي قدمناه يثبت صحته ويؤكده؛ لأن الدماغ بتكوينه المعروف ونوع الحياة التي تكون منها لا يتصور أن يكون في ذاته مصدراً للأنشطة الإرادية والفكرية التي يقوم بها الإنسان، وإنما يجب أن تكون تلك الأنشطة متولدة عن مصدر حي مريد عاقل في ذاته. وإذا لوحظ الارتباط الواقعي المستمر بين وجود الدماغ ووجود الحياة الإرادية الفكرية، فإن هذا لا ينقض ما يحكم به النظر العقلي، وإنما يدل على عجز التجارب وأهلها عن مواصلة البحث إلى مداه، وذلك أن الاتصال بين حياة الجسد المجردة عن الإرادة والفكر وحياة الروح وعدم وجود صورة الانفصال بينهما في هذه الدنيا لا يرجع إلى كون الأولى مولدة للثانية، وإنما يرجع إلى سبب آخر، وهو أن الحياة الأولى المجردة من الفكر والإرادة ليست مقصودة لذاتها، وإنما خلقت لتكون مركباً لحياة الفكر والإرادة التي مصدرها الروح. وليس من المتصور في واقع هذه الدنيا أن يخلق اله جسداً بكامل أعضائه، ولا يمزج معه حياة الفكر والإرادة؛ لأن هذا يتنافى مع الحكمة من خلق الإنسان، وهو الابتلاء بإعمار الأرض وفق المناهج الإلهية، والعقل لا يمنع أن ينفصل المصدر الذي تنبثق منه حياة الفكر والإرادة عن مصدر الحياة الأخرى عندما يموت الإنسان، وهو ما قررته الشرائع الإلهية. ولكن العقل لا يتمكن من رصد ذلك المصدر منفصلاً عن الجسد بعد رحيله عنه بالموت، ولا يمكنه ذلك أثناء الحياة ما دام الجسد كله صالحاً وغير مستعص على تعلق ذلك المصدر به، وصلاح الجسد للتعلق بذلك المصدر مرهون بصلاح الدماغ، لأنه حلقة الوصل بين ذلك المصدر وبين بقية أعضاء الجسد.

ص: 1398

إن ما تقدم من النظر العقلي والتقليب الفكري يدل على أنه يحدث للجنين قبل ولادته تطور ينقله من حال إلى حال مختلفة، ومن طبيعة إلى طبيعة مباينة، ومن حياة مجردة عن قوة الفكر والإرادة إلى حياة مشتملة على مصدر هذه القوة. وأن هذا التطور في الجنين لا يحدث إلا بعد تخلق الدماغ، وصيرورته صالحاً لاستقبال الحياة الجديدة والامتزاج بها. وأن هذه الحياة الجديدة ليست متولدة من الحياة السابقة لها بصورة آلية، لا من الدماغ ولا من غيره، وأنها إنما تنشاً بخلق مباشر من الله تعالى في بدن الجنين بعد استكمال خلق أعضائه. وأنها مادامت غير متولدة مما سبقها لم يلزم أن يكون وجود مصدرها بعد تمام تكون الدماغ مباشرة. وأن العقل بمفرده لا يستطيع أن يحدد الوقت الذي يخلق فيه ذلك المصدر بيقين.

تلك هي النتائج التي يمكن أن يتوصل إليها العقل البشري بالنظر في الواقع وفي معطيات العلم الحديث، بمعزل عن المعارف الشرعية التي يمكن أخذها من نصوص القرآن والسنة وأفهام الصحابة وعلماء المسلمين لتلك النصوص.

وهي نتائج ليست كلها قطعية ويقينية، والقطعي منها هو حدوث تطور في الجنين ينقله من حقيقة إلى حقيقة وحياة إلى حياة أعلى منها ومغايرة لها أشد المغايرة. وما سوى ذلك فقد يدخل عليه بعض الاحتمالات وهي وإن كانت ضعيفة لكنها تذهب القطع واليقين في الأمر.

وأما الشرع فقد جاء بما يقطع به العقل، وزاد عليه تفصيلات أدق وأوفى، وأسقط تلك الاحتمالات الضعيفة. ولولا أن المقصود بتلك المناقشات المنطقية هو الرد على أولئك الماديين الذين لا يؤمنون بالروح، ويزعمون أن الإنسان مادة فقط، وأن أنشطته المختلفة لا تعدو أن تكون إفرازات لما يبصره أهل الاختصاص من أجزاء الجسد، وأن الجنين لا يقع عليه أي تطور سوى التطور الذي يشاهده الأطباء وعلماء الأجنة، ولولا أن هذا الاتجاه المادي في بيان حقيقة الإنسان وتطوره قد ألقى ظلالاً مادية على بعض الباحثين المسلمين، فآمنوا بالروح إيماناً يقترب من إنكارها، بأن آمنوا بوجودها، وأنكروا كل أثر لها، لولا ذلك لما كان لذلك الجهد المضني في التفكير أية فائدة سوى ترويض العقل على النظر.

وذلك أن المتدبر لنصوص القرآن والسنة وما أثر عن الصحابة وعلماء المسلمين يستطيع أن يصل في هذا الموضوع إلى نتائج أكثر دقة وتفصيلاً وتحديداً بجهد أقل:

فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا فيما تقدم ذكره من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن الله يأمر بنفخ الروح في الجنين، وحدد موعد ذلك بأنه يكون بعد تمام أربعة أشهر من تكون الجنين في بطن أمه.

ص: 1399

ثم وجدنا كتاب الله عز وجل يذكر الروح بأنها المخلوق الذي جعله الله سبباً لاكتساب أبي البشر آدميته، فاستحق بذلك التكريم، وتأهل به للعلم والإدراك اللذين هما مناط الابتلاء في هذه الدنيا فقال تعالى:{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [سورة الحجر: الآية 29، سورة ص: الآية 72] . ووجدنا فيه أيضاً ذكر الروح ينفخها في سلالة آدم بعد أن يسويهم في بطون أمهاتهم، قال سبحانه:{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ ونَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ والأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [سورة السجدة: الآيات 7 - 9] . ووجدنا فيه ما يدل على أن الله تعالى بعد أن ينقل بدن الجنين من طور إلى طور، ينشئه بعد تمام أطواره الجسمانية خلقاً آخر مغايراً لما تقدم من أطواره، فيقول سبحانه:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [سورة المؤمنون: الآيات 12 - 14] .

ويصلنا بعد ذلك بيان من ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم أن المقصود بهذا الخلق الآخر هو نفخ الروح (1) وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (إذا أتت على النطفة أربعة أشهر بعث الله إليه ملكاً فنفخ فيه الروح في ظلمات ثلاث، فذلك قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ} ، يعني نفخنا فيه الروح) . ومثل ذلك روي عن أبي سعيد الخدري ومجاهد وعكرمة والشعبي والضحاك والحسن البصري (2)

ومع أن تلك النصوص لم تذكر بصراحة أن الروح التي يأمر الله بخلقها في الجنين هي ما تكون بها حياة ابن آدم، لكن هذا مستفاد من نصوص قرآنية ونبوية أخرى.

(1) تفسير القرطبي: 12/ 109، تفسير الماوردي: 3/ 94، مختصر ابن كثير: 2/ 561.

(2)

مختصر ابن كثير: 561/2.

ص: 1400

ففي القرآن ما يدل على أن الموت إنما يفع للإنسان بخروج نفسه، وهي روحه، عندما يأمر الله تعالى ملائكته بإخراجها، فقال عز وجل:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [سورة الزمر: الآية 42]، والأنفس هي الأرواح (1) وقال أيضاً:{ولَوْ تَرَى إذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ المَوْتِ والْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ} [سورة الأنعام: الآية 93] ؛ فبين سبحانه في هذه الآية حال الظالمين وهم في غمرات الموت، وأن الملائكة يبسطون أيديهم لانتزاع أرواحهم (2) وقال أيضاً:{فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سورة الواقعة: الآيات 83 –87] ، والمقصود بذلك الروح وهي في طريقها إلى الخروج من الجسد، فتخرج منه، ولا يستطيع أحد ردها إليه (3) وقال سبحانه:{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [سورة القيامة: الآية 26] ، أي بلغت الروح التراقي (4)

وفي السنة الصحيحة ما يؤكد ما دلت عليه نصوص القرآن من أن الموت يقع بخروج الروح من الجسد الذي نفخت فيه من قبل. وفي بعضها إشارة إلى أن دخول الروح في الجسد هو الذي يبعث فيه الحياة، وأن خروجها هو الذي ينقله من الحياة إلى الموت، ومن هذه الأحاديث:

- ما رواه البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد،

فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم، فقعد وقعدنا حوله، كأن على رؤوسنا الطير، وهو يلحد له، فقال:((أعوذ بالله من عذاب القبر)) (ثلاث مرات)، ثم قال:((إن العبد إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزلت إليه ملائكة كأن وجوههم الشمس، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان. قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقا، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها....)) ، ثم قال صلى الله عليه وسلم:((إن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح (5) فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة، أخرجي إلى سخط من الله وغضب. قال: فتتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها

)) (6)

وفي رواية أخرى عن البراء قال: كنا في جنازة رجل من الأنصار، ومعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((إن المؤمن إذا احتضر أتاه ملك الموت في أحسن صورة وأطيبه ريحاً، فجلس عنده لقبض روحه

فاستخرج ملك الموت روحه من جسده رشحاً

)) (7)

(1) تفسير الماوردي: 3/ 470.

(2)

تفسير الماوردي: 1/ 545، مختصر تفسير ابن كثير: 1/ 600.

(3)

تفسير القرطبي: 17/ 230، 231.

(4)

تفسيرالقرطبي: 19/111.

(5)

أي ثياب من الشعر غليظة.

(6)

جزء من حديث طويل رواه أحمد وأبو داود ورجاله رجال الصحيح - مجمع الزوائد 3/ 50، الروح لابن القيم ص 58، 59، مختصر تفسير ابن كثير 298/2، شرح العقيدة الطحاوية ص 387.

(7)

قال ابن القيم هذه الرواية والتي قبلها: هذا حديث ثابت مشهور مستفيض صححه جماعة من الحفاظ، ولا نعلم أحداً من أئمة الحديث طعن فيه، بل رووه في كتبهم وتلقوه بالقبول وجعلوه أصلاً من أصول الدين في عذاب القبر ونعيمه ومساءلة منكر ونكير وقبض الأرواح وصعودها إلى ما بين يدي الله تعالى

الروح ص 68.

ص: 1401

وفي الحديث الصحيح قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الروح إذ اقبض تبعه البصر)) (1) ؛ فهذا أيضاً وصف الرسول للروح بأنه يقبض. وفي الصحيح أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن الشهداء أنهم لما سئلوا: ما تريدون؟ قالوا: نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل فيك مرة أخرى (2) ؛ فانظر إلى مفهوم الحياة والقتل في هذا الخبر، وأن الحياة رد الروح إلى الجسد، وأن القتل إخراجها.

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدانها. قال حماد: فذكر من طيب ريحها وذكر المسك. قال: ويقول أهل السماء: روح طيبة جاءت من قبل الأرض صل الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه 00. (3) فوصف أبو هريرة الروح بالخروج معبراً عن موت صاحبها. وتدبر قوله: (جسد كنت تعمرينه) ، فإنه تعبير واضح عن التصور الإسلامي لعلاقة الروح بالجسد، وأن الجسد مسكن الروح والروح تعمره بما تشيع فيه من الحياة.

وصح عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول إذا أراد النوم: ((باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسى فاغفر لها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ عبادك الصالحين)) (4) ففسر الموت بإمساك الروح عن العود إلى الجسد.

والأحاديث التي ذكرت هذا المعنى كثيرة ومتفرقة في مواضع كثيرة من كتب الحديث، وهي متضافرة على ما ذكرنا من أن الموت إنما يكون بخروج الروح من الجسد.

فيدل على ما تقدم من النصوص وما في معناها أن الروح التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم أنها تنفخ في جسد الجنين بعد مائة وعشرين يوماً هي التي تكون بها حياة الإنسان، وهي التي يترتب على مفارقتها لجسده موته كما يدل على أنها جوهر مستقل، وليست جزءاً من بدنه ولا عرضاً من أعراضه، ولا صفة من صفاته؛ لأن الأعراض لا يمكن أن توصف بالدخول والخروج والقبض والأخذ والرد وغير ذلك مما ورد في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.

(1) رواه مسلم - انظر مختصر صحيح مسلم حديث رقم 456.

(2)

رواه مسلم - انظر مختصر صحيح مسلم حديث رقم 1068.

(3)

رواه مسلم - انظر مختصر صحيح مسلم حديث رقم 458.

(4)

رواه مسلم - انظر مختصر صحيح مسلم حديث رقم 1900.

ص: 1402

وهذا هو الذي فهمه علماء المسلمين من تلك النصوص وأشباهها، فصرحوا في كتبهم أن الروح التي تنفخ في جسد الإنسان وهو جنين في بطن أمه هي ما تكون به حياة الإنسان، وما يكون مفارقتها لبدنه سبباً في وفاته، وأن الروح ذات مستقلة عن الجسد وإن كانت سارية فيه، وليست متولدة عنه ولا عرضاً من أعراضه، وإنما هي مبدعة بأمر الله تعالى، قال لها: كوني فكانت من غير تحصل من أصل ولا تولد من مادة (1) كما فهموا من تلك النصوص ونصوص نسبت إلى الروح التعارف والتناكر والحب والكره والاطمئنان والسرور وغير ذلك، فهموا منها أن الروح هي مصدر الشعور والفكر وجميع الأنشطة الإرادية التي تصدر عن الإنسان. وفيما يأتي نذكر بعض أقوالهم الواردة في هذا الموضوع:

ا - يقول ابن تيمية: (الروح المدبرة للبدن التي تفارقه بالموت هي الروح المنفوخة فيه، وهي النفس التي تفارقه بالموت) . ثم استدل على هذه المقدمة ببعض ما ذكرنا من النصوص وزاد عليها (2)

ويقول في موضع آخر: (النفس التي هي الروح المدبرة لبدن الإنسان هي من باب ما يقوم بنفسه، فهي جوهر وعين قائمة بنفسها، وليست من باب الأعراض التي هي صفات قائمة بغيرها

وإنها يشار إليها وتصعد وتنزل وتخرج من البدن وتسل منه كما جاءت بذلك النصوص ودلت عليه الشواهد العقلية) (3)

2 -

ويقول ابن قيم الجوزية: (الروح جسم مخالف لهذا الجسم المحسوس، وهو جنس نوراني علوي خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء، ويسري فيه سريان الماء في الورد وسريان الدهن في الزيتون والنار في الفحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي ذلك الجسم اللطيف مشابكاً لهذه الأعضاء، وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة الإرادية. وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها، وخرجت عن قبول تلك الآثار فارق الروح البدن، وانفصل إلى عالم الأرواح. وهذا القول هو الصواب في المسألة، وهو الذي لا يصح غيره، وكل الأقوال سواه باطلة، وعليه دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة

) ، ثم ساق على قوله هذا مائة وستة عشر دليلاً من الكتاب والسنة والمعقول. وأجاب عن الأقوال الأخرى لبعض الطوائف والفلاسفة بعشرات الأجوبة (4)

(1) رسالة العقل والروح من مجموعة الرسائل المنيرية 2/ 1 2، 37، 41 0 التفسير الكبير 21/38، الكليات 2/ 374، المطالب القدسية ص 28، 29.

(2)

رسالة العقل والروح من مجموعة الرسائل المنيرية 36/2، 37.

(3)

رسالة العقل والروح من مجموعة الرسائل المنيرية 36/2، 37 ص 47.

(4)

كتاب الروح ص 242 وما بعدها.

ص: 1403

ويقول في موضع آخر: (وأما الروح التي تتوفى وتقبض فهي روح واحدة وهي النفس)(1)

ويقول تعقيباً على حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قبض أرواحكم حين شاء وردها حين شاء)) : - (فهذه الروح المقبوضة هي النفس التي يتوفاها الله حين موتها وفي منامها، وهي التي يتوفاها ملك الموت

وهي التي يجلس الملك عند رأس صاحبها ويخرجها من بدنه كرهاً، ويكفنها بكفن من الجنة أو النار، ويصعد بها إلى السماء، فتصلي عليها الملائكة أو تلعنها، وتوقف بين يدي ربها، فيقضي فيها أمره، ثم تعاد إلى الأرض، فتدخل بين الميت وأكفانه، فيسأل ويمتحن ويعاقب وينعم، وهي التي تجعل في أجواف الطير الخضر تأكل وتشرب من الجنة، وهي التي تعرض على النار غدواً وعشياً، وهي التي تؤمن وتكفر وتطيع وتعصي، وهي الأمارة بالسوء، وهي اللوامة، وهي المطمئنة إلى ربها وأمره وذكره، وهي التي تعذب وتنعم وتسعد وتشقى وتحبس وترسل وتصح وتسقم وتلذ وتألم وتخاف وتحزن 000) (2)

3 – ويقول الفخر الرازي: (انه تعالى ذكر مراتب الخلقة الجسمانية فقال: {ولَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} إلى قوله تعالى: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} ، ولا شك أن جميع هذه المراتب اختلافات واقعة في الأحوال الجسمانية. ثم إنه تعالى لما أراد أن يذكر نفخ الروح قال:{ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ} ، وهذا تصريح بأن ما يتعلق بالروح جنس مغاير لما سبق ذكره من التغيرات الواقعة في الأحوال الجسمانية، وذلك يدل على أن الروح شيء مغاير للبدن 000) (3)

وقال في موضع آخر: (واعلم أن الأحاديث الواردة في صفة الأرواح قبل تعلقها بالأجساد وبعد انفصالها من الأجساد كثيرة، وكل ذلك يدل على أن النفس شيء غير هذا الجسد، والعجب ممن يقرأ الآيات الكثيرة الواردة في النفس، ويروي تلك الأخبار الكثيرة في صفات الأرواح ثم يقول: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان يعرف الروح، وهذا من العجائب والله أعلم)(4) وساق في موضع آخر عدة حجج عقلية على وجود الروح وتميزها عن البدن (5)

(1) كتاب الروح ص 293.

(2)

كتاب الروح ص 205.

(3)

التفسير الكبير 21/ 51.

(4)

تفسير الكبير 52/21 (بتصرف بسيط لملائمة السياق) .

(5)

تفسير الكبير 45/21 وما بعدها.

ص: 1404

4 -

ويقول ابن رشد الجد: (أكثر أهل العلم، أن الروح والنفس اسمان لشيء واحد

والمراد به ما يحيا به الجسم، وهو الذي يتوفاه ملك الموت ويقبضه فيدفعه إلى ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب

وإنما قلنا إنه ما يحيا به الجسم ولم نقل: إنه الحياة الموجودة بالجسم؛ لأن الحياة الموجودة معنى من المعاني، والمعاني لا تقوم بأنفسها، ولا يصح عليها ما وصف الله تبارك وتعالى به الأنفس والأرواح في كتابه وعلى لسان رسوله من القبض والإخراج والرجوع والطمأنينة والصعود والتنعيم والتعذيب. فمعنى قولنا: ما يحيا به الجسم، أي ما أجرى الله تعالى بأن يحيا الجسم بكونه ويميته بإخراجه منه) (1) 5 – وقال الفراء:(الروح هو الذي يعيش به الإنسان)، وقال ابن الأثير:(وقد تكرر ذكر الروح في الحديث كما تكرر في القرآن ووردت فيه على معان، والغالب منها أن المراد بالروح الذي يقوم به الجسد وتكون به الحياة)(2) وقال الفيومي: (مذهب أهل السنة أن الروح هي النفس الناطقة المستعدة للبيان وفهم الخطاب، ولا تفنى بفناء الجسد، وأنه جوهر لاعرض؛ ويشهد لهذا قوله تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} ، والمراد هذه الأرواح)(3)

6 -

وقال الكفوي: (الروح ما به حياة البدن، والأرواح عندنا أجسام لطيفة غير مادية خلافاً للفلاسفة، فإذا كان الروح غير مادي كان لطيفاً نورانياً غير قابل للانحلال سارياً في الأعضاء للطافته، وكان حيا بالذات؛ لأنه عالم قادر على تحريك البدن. وقد ألف الله بين الروح والنفس الحيوانية وجعل بينهما تعاشقاً، فما دام الروح في البدن كان البدن بسببه حياً

وان فارقه بالكلية فالبدن ميت. 00) (4)

7 -

ويقول عضد الدين الإيجي: (تعلق النفس بالبدن ليس تعلقاً ضعيفاً يسهل زواله بأدنى سبب مع بقاء المتعلق بحاله كتعلق الجسم بمكانه، وإلا تمكنت النفس من مفارقة البدن بمجرد المشيئة من غير حاجة إلى أمر آخر. وليس أيضاً تعلقاً في غاية القوة بحيث إذا زال التعلق بطل المتعلق مثل تعلق الأعراض والصور المادية بمحالها، لما عرفت أنها متجردة بذاتها غنية عما تحل فيه، بل هو تعلق متوسط

ومن ثم قيل: هو تعلق العاشق بالمعشوق عشقاً جبلياً إلهامياً، فلا ينقطع ما دام البدن صالحاً لأن تعلق به النفس؛ ألا يرى أنها تحبه ولا تمد مع طول الصحبة وتكره مفارقته؛ وذلك لتوقف كمالاتها ولذاتها العقلية والحسية عليه 000) (5)

(1) المقدمات الممهدات 1/ 170.

(2)

لسان العرب - مادة روح.

(3)

المصباح المنير - مادة روح.

(4)

الكليات 2/ 374، 375.

(5)

المواقف 7/ 253، 254.

ص: 1405

8 -

وقال السبكي: (الروح هي التي أجرى الله تعالى العادة بأنها إذا كانت في الجسد كان حياً، فإذا فارقته مات)(1) ونقل مثل هذا القول عن العز بن عبد السلام (2) كما نسب إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (3)

9 -

وقال الشيخ محمد حسنين مخلوف: (دلت نصوص الشريعة الإسلامية كتاباً وسنة وإجماعاً على وجود الروح الإنسانية، وأنها نفخت في الجنين وهو في بطن أمه، وأجمع الِملِّيون وغيرهم على وجود الروح الإنسانية، وأن هناك شيئاً مغايراً لأعضاء البدن بالذات يسمى روحاً، وهو مصدر التصور والتعقل والتخيل والإرادة والفكر. 00)(4) ثم قال: (ولا يعبأ بشرذمة من الماديين أنكروا وجود الأرواح البشرية زاعمين أن القوة العقلية في الإنسان مصدرها الدماغ، وأن الشعور والفكر وظيفة عضوية نسبتها إلى الدماغ كنسبة الصفراء إلى الكبد والبول إلى الكلى، وأن الإنسان آلة مادية تعرض له التأثيرات الخارجية، وعند الموت يتلاشى منه كل شيء، وينطفىء فيه نور الشعور والفكر. فإن هذا قول باطل ومذهب عاطل، أصبح بنور العلم قديمه وحديثه كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. ونصوص الشرع جمعاء وأبحاث مشاهير العلماء الذين اعتنقوا مذهب الروحانية من الغربيين وغيرهم، بل والذين تعمقوا في علم الفزيولوجيا أسفرت عن وجود الروح الإنسانية، وتميزها عن قوى المجموع العصبي ووظيفته. فلا يلتفت لمثل هذا المذهب بعد انعقاد إجماع المسلمين وغيرهم على خلافه) .

(1) المنهل العذب المورود 2/ 22.

(2)

حاشية البيجوري المسماة " تحفة المريد على جوهرة التوحيد " ص97.

(3)

المطالب القدسية ص15.

(4)

المطالب القدسية في أحكام الروح وآثارها الكونية ص 11.

ص: 1406

ويقول في موضع آخر: (نحن لا ننفي نوع الحياة التي يثبتها الأطباء للجنين قبل نفخ الروح، ولا ما يترتب عليها من نمو. وإنما نقول: إن هذه الحياة المنبثة في الجنين قبل نفخ الروح حياة طبيعية محضة تشبه حياة النبات، ليس لها ظاهرة سوى خاصة حركة النمو والتغير في كم البدن وكيفيته، وهي ما تسميه الحكماء حياة التغذية والتنمية والتوليد أو الحياة الطبيعية. وبعد نفخ الروح الإنساني في البدن وسريانها فيه يتحصل نوع آخر من الحياة تندمج فيه الحياة الطبيعية للجنين، بحيث يكون مصدراً لظاهرة الحس والحركة الإرادية، ومبدأ مصححاً للعلم بالفكر والروية وغير ذلك من الأثار اللائقة بنوع الإنسان، وهو ما يسمونه حياة الحس والحركة والعلم والتمييز. فالحياة الأولى حياة حيوانية مترتبة على أرواح وقوى طبيعية، والحياة الثانية حياة إنسانية مترتبة على ما ذكر وعلى الروح الإنساني

وأهل الطب والتشريح يستندون في كثير من مباحثهم إلى التجربة والمشاهدة والفكر. وأهل الشرع يتمسكون مع ذلك بصريح النقل. ومن هنا مع تباين الاصطلاحات قد يتوهم خلاف بين ما جاءت به الشريعة الغراء في هذا الباب ونحوه وبين ما يذكره أرباب الصناعة في ذلك. وفي الحقيقة لا خلاف، وإنما هو اختلاف في النظر ووجهة البحث (1) ولوعني أصحاب الصناعة الحديثة بما ورد به الشرع في هذا الباب وأمثاله وفهموه على وجهه، وما أثبتته النظريات الصحيحة والتجربة الكافية، وأعطوه جانباً من العناية والتصرف الفكري، كما كان عليه الأوائل من أرباب هذه الصناعة في كثير من مباحثهم كالشيخ الرئيس ابن سينا وصاحب التذكرة، لاتسع لهم نطاق العلم ومجال الفهم وخرجوا عن كثير من المضايق الفنية التي تعترضهم أثناء تطبيق العلم على العمل. 00) (2)

(1) وهذا صحيح ما دام كل فريق يتمسك بما توصل إليه وحصلة بوسائل معرفته، ولا ينفي ما أثبته الفريق الآخر مما لم يستطع أثباته ولا نفيه بتلك الوسائل؛ فإن ما يثبته الأطباء بتجاربهم وبحوثهم من وجود نوع من الحياة في الجنين قبل مائة وعشرين يوماً من عمره الجنيني لا يتناقض مع ما أثبته الشرع من نفخ الروح وبعث الحياة الإنسانية في الجنين عند ذلك الوقت، وإنما ينشأ الخلاف بعد ذلك عندما ينفي فريق من الأطباء ما أثبته الشرع أو يؤولونه بما يشبه نفيه وإنكاره حيث لا يرتبون أي أثر على نفخ الروح ولا يعترفون بحياة جديدة تبعثها في الجنين. كما ينشأ الخلاف أيضاً عندما ينفي بعض علماء الشريعة وجود أي نوع من الحياة في الجنين قبل نفخ الروح.

(2)

المطالب القدسية ص 95.

ص: 1407

ويقول في موضع آخر تكلم فيه عن معنى الحياة والموت: (والمعنى المبحوث عنه هنا هو الحياة التابعة لتعلق الروح الإنساني بالبدن وأجزائه، وهي المعبر عنها في تعريف النفس بالضوء المنتشر في قول الإمام الرازي وغيره. والنفس عبارة عن جوهر مشرق روحاني إذا تعلق بالبدن حصل ضوء في جميع الأعضاء، فذلك الضوء المنتشر هو الحياة الإنسانية. فالحياة أمهر فائض عن تعلق الروح بالبدن منتشر في سائر أعضائه، وكل عضو يصل إليه نور الروح يتحول من الجمادية إلى الحياة، ففي النشأة الأولى إذا تكون وتم استعداده، وهو المراد بقوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} أنفذ الله فيه الروح الإلهي داخل أعضائه نفاذ النار في الفحم والماء في الورد فأحياه بعد موته، وذلك قوله تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} ؛ فإن النفخ عبارة عن اشتعال نور الروح في الجسم بعد تسويته باستعداده، وذلك النور المنتشر في سائر الأعضاء هو الحياة الإنسانية)(1)

تلك هي أقوال العلماء المسلمين القدامى، وإنما استزدنا منها وأطنبنا في ذكرها لأن المسألة خطيرة يتوقف عليها معرفة حقيقة الإنسان وحقيقة الجنين ومعنى الحياة الإنسانية ومتى تبدأ ومتى تنتهي، وهي مفتاح الحل في البحث عن أحكام التصرف بالجنين في مختلف مراحله، سواء بالانتفاع بأعضائه أو بإجراء التجارب عليه أو غير ذلك كما أشرنا إليه في مقدمة هذا البحث.

وتلك المعاني التي حرصنا على نقل نصوص العلماء فيها متفق عليها بينهم، وأبرزها أن بدء الحياة الإنسانية يكون عند نفخ الروح في الجنين، وأن الروح هي سبب اكتسابه الهوية الآدمية، وأن الروح ليست هي الدماغ ولا صفة من صفاته ولا جزءاً من الجسد. ولم نشاً أن ننقل جميع أقوالهم في الروح؛ فإن لهم ما وراء ذلك الحد المتفق عليه تفصيلات كثيرة، وفيها كثير من الاختلاف، ولا تفيدنا في هذا المبحث. وفيما اتفقوا عليه كفاية لما نحن فيه.

(1) المطالب القدسية ص 165.

ص: 1408

المطلب الرابع

وقت نفخ الروح في الجنين

وكما اتفق علماء الإسلام على النتائج السابقة المتعلقة بنفخ الروح اتفقوا أيضاً على وقت حدوث هذا النفخ، لحديث عبد الله بن مسعود الذي ذكرناه سابقاً، والمتفق على صحته؛ حيث حدد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك باليوم، وأنه يكون بعد مائة وعشرين يوماً من تكون الجنين.

وقد اشتهر هذا التحديد بين العلماء المسلمين القدامى، والتزموا بما دل عليه الخبر الصحيح، وتلقوه بالقبول. ولم أعثر فيما رجعت إليه من كتب المفسرين وشراح الحديث والفقهاء وكل من تكلم في الروح ووقت نفخها من خرج عن ذلك التحديد. بل نقل غير واحد منهم إجماع العلماء على ذلك وعدم اختلافهم فيه؛ فقال القرطبي:(لم يختلف العلماء أن نفخ الروح في الجنين يكون بعد مائة وعشرين يوماً، وذلك تمام أربعة أشهر، ودخوله في الخامس - كما بيناه بالأحاديث - وعليه يعول فيما يحتاج إليه من الأحكام)(1)

وقال ابن عابدين: (نقل بعضهم أنه اتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر، أي عقبها

ولا ينافي في ذلك ظهور الخلق قبل ذلك، لأن نفخ الروح إنما يكون بعد الخلق) (2)

وقال النووي: (واتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر

) (3)

وقال الأبي في شرحه على صحيح مسلم: (لم يختلف العلماء في أن النفخ يكون لتمام أربعة أشهر والدخول في الخامس، وذلك موجود بالمشاهدة وعليه يعول فيما تحتاج إليه الأحكام في الاستلحاق عند التنازع وفي وجوب النفقة على حمل المطلقة 000)(4)

وقال ابن رجب الحنبلي: (فأما نفخ الروح فقد روي صريحاً عن الصحابة رضي الله عنهم أنه إنما ينفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر كما دل عليه ظاهر حديث ابن مسعود)(5)

ونقل ابن حجر القول باتفاق العلماء على أن نفخ الروح لا يقع إلا بعد أربعة أشهر عن أكثر من واحد: فنقل عن الفاضل علي بن المهذب قوله: (اتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يقع إلا بعد أربعة أشهر)(6) 2وقال ابن حجر: (وحديث ابن مسعود بجميع طرقه يدل على أن الجنين يتقلب في مائة وعشرين يوماً في ثلاثة أطوار كل طور منها في أربعين، ثم بعد تكملتها ينفخ فيه الروح)(7) وقال في موضع آخر: (ثم يكون للملك فيه تصور آخر وهو وقت نفخ الروح فيه حين يكمل له أربعة أشهر كما اتفق عليه العلماء أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر) . ونقل عن القاضي عياض في موضع آخر أنه قال: (اختلفت ألفاظ هذا الحديث في مواضع ولم يختلف في أن نفخ الروح فيه بعد مائة وعشرين يوماً، وذلك بعد تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس، وهذا موجود بالمشاهدة، وعليه يعول فيما يحتاج إليه من الأحكام)(8)

(1) تفسير القرطبي: 12/ 8.

(2)

الحاشية: 1/ 302.

(3)

شرح النووي على صحيح مسلم: 16/ 191.

(4)

7/75

(5)

جامع العلوم والحكم ص 49، وانظره في ص 46.

(6)

فتح الباري: 11/ 420.

(7)

فتح الباري: 11 / 422.

(8)

فتح الباري: 11/423، 424.

ص: 1409

وكل من تعرض لشرح حديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي رواه البخاري ومسلم - أخذ بالتحديد المذكور في الحديث، وحمله على ظاهره، ولم يؤوله تأويلاً آخر. ولم ينقل أي واحد من شراح ذلك الحديث قولاً مخالفاً لعالم من علماء المسلمين (1)

وبالرغم من هذا الاتفاق الذي لم تخرمه مخالفة أحد من علماء المسلمين القدامى فقد وجد من الباحثين المعاصرين من قال بأن نفخ الروح يكون بعد الأربعين الأولى من مبدأ تكون الجنين في بطن أمه. وربما تأثروا في ذلك بما يقرره الأطباء من بدء تخلق الجنين في مرحلة مبكرة، واكتمال أعضائه الرئيسة قبل أربعة أشهر بأربعين يوماً تقريباً، وظناً منهم أن علماء المسلمين كانوا يجهلون هذه الحقيقة الطبية، وأنهم كانوا معذورين في حمل حديث ابن مسعود على ظاهره؛ لعدم معرفتهم بحالة الجنين في واقع الأمر. ولما كان هذا الرأي مخالفاً لظاهر الحديث المذكور أخذوا يبحثون عن تأويلات له تتفق مع الاتجاه الذي اتخذوه فمنهم من زعم أن رواية ابن مسعود رواية شاذة. ومنهم من سلم بصحتها، ولكنه رأى أنها لا تفيد أن نفخ الروح يكون بعد مائة وعشرين يوماً، وأن المراحل التي ذكرت فيه كلها تقع في أربعين يوما، والتمس لتوجيه رأيه بعض الاختلاف في اللفظ بين رواية البخاري ورواية مسلم؛ وذلك أن رواية مسلم وردت هكذا: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك

"؛ فزعم أن الإشارة الأولى تعود إلى "الأربعين يوماً" ولا تعود إلى بطن الأم، فيكون علقة ومضغة في الأربعين الأولى، فرتب على ذلك أن نفخ الروح يكون بعد أربعين يوماً وليس بعد مائة وعشرين يوماً. ثم رأى أن هذا التأويل ينبغي أن يصار إليه للتوفيق بين رواية ابن مسعود وروايات أخر ذكر فيها أن الملك الذي نسب إليه نفخ الروح في حديث ابن مسعود وكتب القدر من رزق وأجل وشقاوة وسعادة وغير ذلك، إنما يرسل إلى الجنين بعد أربعين يوماً (2)

وهذا الاتجاه في تأويل حديث ابن مسعود، المتفق على صحته، والذي بلغ حد الشهرة وتلقته الأمة بالقبول (3) فيه تكلف ظاهر، ولي لأعناق النصوص، وتقويم غير سليم لها، لما يأتي:

ا - الروايات التي ذكر فيها نفخ الروح ليس فيها أي نوع من التعارض، بل جاء ذكر نفخ الروح فيها بعد مائة وعشرين يوماً من تكون الجنين. وأما التعارض الموهوم فإنما جاء بين أحاديث أخرى لم تتعرض لذكر الروح، وإنما سيقت لبيان القدر المكتوب على الإنسان، فاختلفت في وقت كتابة القدر ولم تختلف في وقت نفخ الروح؛ لأنها لم تتعرض لذكره أصلاً، فإقحام نفخ الروح في الروايات المتعارضة غير صحيح. ومع ذلك فقد وجد من العلماء القدامى من جمع بين تلك الروايات المتعارضة في الظاهر من حيث وقت كتابة القدر، دون المساس بما ورد في حديث ابن مسعود عن وقت نفخ الروح (4)

(1) انظر فتح الباري: 11/405، وجميع شروح الصحيحين والروح لابن القيم: ص 237، والتبيان له: ص 337، وشفاء العليل له أيضاً: ص 22.

(2)

انظر الثبت الكامل لندوة "الحياة الإنسانية: بدايتها ونهايتها في المفهوم الإسلامي": ص 246، 253.

(3)

جامع العلوم والحكم: ص 44. وانظر كثرة رواة حديث ابن مسعود وتعدد طرقه عن كثير من الصحابة في فتح الباري: 11/ 417 وما بعدها، وقال ابن حجر عن هذا الحديث (وكنت خرجته في جزء من طرق نحو الأربعين نفساً عن الأعمش: 11/418) .

(4)

انظر شفاء العليل: ص 22.

ص: 1410

2 -

كل من تعرض لشرح حديث ابن مسعود من شراح الحديث لم يشكك في التوقيت الزمني الوارد فيه، ولم يتجاوز ظاهر النص فيما يتعلق بذلك قيد أنملة، سواء في ذلك من شرح صحيح البخاري ومن شرح صحيح مسلم. بل سبق أن طائفة من العلماء نقلوا الاتفاق على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد تمام الأربعة الأشهر من عمر الجنين ودخوله في الشهر الخامس.

3 -

ومن جهة أخرى فإن حديث ابن مسعود قد جاء متفقاً مع ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ} . [سورة المؤمنون: الآيات 12 - 14] .

وذلك أن كثيراً من المفسرين وغيرهم نقلوا عن ابن عباس أن المقصود بالخلق الآخر نفخ الروح، ونقلوا مثل ذلك عن غيره من الصحابة والتابعين، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك، وإذا كان كذلك فإن نفخ الروح لا يكون إلا بعد تمام الخلق والتصوير بمقتضى نص القرآن الكريم. وهذا في اعتقادي مما يؤيده النظر في الآية على ضوء ما يعرف من تطور الجنين ونشوء عظامه، واكتسائها بالعضلات؛ وذلك أن الآية الكريمة تقرر أن الجنين في مرحلة من مراحله ينشاً خلقاً آخر، أو ينشاً له خلق آخر هو الروح كما يقول بعض المفسرين، وأن هذه المرحلة التي تتضمن المغايرة لما سبقها لا تكون إلا بعد خلق العظام وكسوتها باللحم بفترة؛ كما تدل عليه لفظة "ثم". ومن المعلوم أن ذلك لا يكون في الأيام الأربعين الأولى من عمر الجنين، وإنما يكون بعدها، ولا يحدث في يوم أو يومين أو أسبوع، فثبت بذلك أن نفخ الروح في الجنين بحسب نص القرآن لا يمكن أن يكون فور تمام الأسبوع السادس من عمر الجنين ولا بعد ذلك بأيام، وإنما ينبغي أن يكون بعد تكون العظام وكسوتها بالعضلات، وأن يكون بعد ذلك أيضاً بفترة تناسب اللفظة القرآنية المستعملة في العطف وهي لفظة "ثم" التي تقتصي التراخي.

ص: 1411

4 -

وأما ما ذكره بعض الباحثين المعاصرين من أن رواية ابن مسعود شاذه، فهذه دعوى تحتاج إلى برهان، والبرهان قائم على ضدها؛ فقد ذكر ابن حجر في الفتح أن أحداً من رواة الحديث عن ابن مسعود لم يتفرد به عن شيخه؛ فقد رواه عن سليمان الأعمش عشرات ورواه مع الأعمش عن زيد بن وهب أكثر من واحد، ورواه مع زيد عن عبد الله بن مسعود أكثر من واحد أيضاً (1) ؛ فأين الشذوذ؛ وأين الرواية التي تفوق رواية ابن مسعود لموضوع الحديث؛ بل يقول ابن الصلاح - وهو من علماء الحديث - (أعرض البخاري عن حديث حذيفة بن أسيد، إما لكونه من رواية الطفيل عنه، وإما لكونه لم يره ملتئما مع حديث ابن مسعود، وحديث ابن مسعود لا شك في صحته)(2) فإذا كان حديث ابن مسعود كما وصفه علماء الحديث، فالأولى إيراد الشك على ما لا يلتئم معه، على أن أكثر العلماء لم يروا تعارضاً بين الحديثين وجمعوا بينهما بطريقة أو بأخرى دون المساس بما اتفق عليه من وقت النفخ الوارد في حديث ابن مسعود.

5 -

وأما ما قيل من تأويل حديث ابن مسعود في رواية مسلم ليتفق مع ما ذهبوا إليه، بجعل المراد من اسم الإشارة الأول في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:((ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك)) الأربعين المذكورة قبله، وليس إلى "بطن أنه "، فإن هذا التأويل - فضلاً عن أنه لم يقل به أحد ممن شرح صحيح مسلم - لا يجد له أي سند من الناحية اللغوية، ولاً يستقيم به الكلام النبوي أبداً، وبيان ذلك:

أن العبارة المشار إليها فيها اسمان للإشارة، وينبغي أن يكون لكل منهما عائد يعود إليه، ولا يجوز الوقوف عند أحدهما في تحديد عائده حتى يعرف ما يعود إليه اسم الإشارة الأخر. وقبل الكلام في هذا الأمر لا بد من التنويه إلى أن جميع الروايات الصحيحة عن ابن مسعود لم يذكر فيها لفظ "النطفة"، وإنما وقع ذكرها في رواية واحدة عند "أبي عوانة" فقط، وقد وضعت بين لفظ "أحدكم" ولفظاً "الأربعين"؛ يعني هكذا:"إن أحدكم يجمع نطفة في بطن أمه أربعين يوماً"(3)

فإذا عدنا إلى البحث عن مرجع اسمي الإشارة: فأما رواية أبي عوانة التي ذكر فيها لفظ "نطفة" بين كلمة "أحدكم" وكلمة "أربعين"، فلا سبيل فيها إلى إعادة اسم الإشارة الأول إلى الظرف الزماني؛ لأن النص في هذه الرواية واضح في دلالته على أن الذي يجمع أربعين يوماً هو النطفة، ولا يمكن أن يدخل في مفهومها العلقة والمضغة.

(1) فتح الباري: 11/ 417.

(2)

فتح الباري: 11/ 417.

(3)

فتح الباري: 11/ 418.

ص: 1412

وأما على الروايات الأخرى، وهي التي لم يذكر فيها كلمة نطفة، فلا سبيل أيضاً إلى إعادة اسم الإشارة الأول إلى الظرف الزماني؛ إذ لو فعلنا ذلك لتعذر علينا معرفة مرجع اسم الإشارة الثاني الوارد في العبارة السابقة؛ لأن المشار إليه عندئذ لا يعدو أن يكون أمراً ذكر سابقاً، والأمور التي ذكرت قبل اسم الإشارة الأول هي الظرف الزماني "أربعين يوماً" والظرف المكاني "بطن الأم"، ونائب الفاعل للفعل "يجمع" وهو خلق الإنسان، والإنسان ذاته المعبر عنه بقوله "أحدكم". فأيها يصلح أن يكون مرجعاً لتلك الإشارة الثانية على فرض أن مرجع اسم الإشارة الأول الظرف الزماني؛ فأما الظرف الزماني فلا يمكن أن يكون مرجعاً للإشارتين في آن واحد. وأما الظرف المكاني فلا يمكن أيضاً؛ لأن المعنى يصير هكذا:"ثم يكون خلق أحدكم في تلك الأربعين مثل بطن أمه"، وهو غير مستقيم. وكذلك لا يصح أن يكون مرجعه نائب الفاعل؛ لأن المعنى يصبح هكذا:"ثم يكون خلق أحدكم في تلك الأربعين مثل خلق أحدكم " وهو غير سليم أيضاً. وكذلك الحال في إرجاع الإشارة إلى "أحدكم".

بقي أن يقال: ألا يمكن أن يكون المرجع هو المصدر المفهوم من قوله "يجمع خلقه"؟ والجواب أن ذلك غير ممكن أيضاً؛ لأنه يؤدي إلى التناقض بين معنى العبارة الأولى: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً" وبين العبارة التي تليها؛ إذ يصبح المعنى هكذا: (ثم يكون خلق أحدكم في تلك الأربعين علقة مثل ذلك الجمع)، والمعنيان لا يلتقيان؛ وبيانه أن المراد بجمع الخلق أحد أمرين هما: الأول ما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه من تفسيره بأن النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد الله أن يخلق منها بشراً طارت في جسد المرأة تحت كل ظفر وشعر، ثم تمكث أربعين يوماً، ثم تنزل دماً في الرحم فذلك جمعها (1) وقد قيل عن هذا التفسير إئه ليس لابن مسعود وإنما هو لأحد رواة الحديث، نقله عنه بعضهم وأدرجه في الحديث حتى أوهم أنه من كلام ابن مسعود (2) والتفسير الثاني للجمع ذكره ابن قيم الجوزية، وهو أقرب لكلام الأطباء في الماضي والحاضر، وهو أن المراد به تخطيط أعضاء الجنين وتصويرها تصويراً خفياً (3)

(1) فتح الباري: 11/ 419.

(2)

فتح الباري: 11/ 419.

(3)

التبيان في أقسام القرآن: ص 337.

ص: 1413

فأما المعنى الأول لجمع الخلق، فإن كان هو المعتمد لدى أولئك الباحثين، فإنه صريح بأن الذي يستغرق أربعين يوماً هو ذلك الجمع المنقول عن ابن مسعود أو عن بعض الرواة عنه، ولا يدخل فيه العلقة ولا المضغة. وأما المعنى الثاني لجمع الخلق الوارد في الحديث، فإن كان هو المراد، فإن معنى الشطر الأول من الحديث أن التخطيط الخفي يستغرق أربعين يوماً. فإذا كانت العلقة أمراً مختلفاً عن ذلك الجمع، فكيف توضع في ذلك الظرف الزماني الذي يملؤه كله جمع الخلق، فإنها لو وضعت معه لما صح أن جمع الخلق يستغرق أربعين يوماً، بل ينبغي أن يكون أقل من ذلك حتى يكون هناك متسع للعلقة والمضغة؛ وأصل ذلك أن الظرف سواء أكان زمانياً أم مكانياً لا بد له من متعلق، ولا يوجد أدق شك في أن متعلق الظرف المكاني "بطن الأم " والظرف الزماني "أربعين يوماً هو الفعل "يجمع "، فإذا كان كذلك تعين أن تكون الأربعون يوماً ظرفاً زمانياً لفعل الجمع، وأن هذا الفعل يستغرق جميع تلك المدة. فإن كان معناه ما ذكر آنفاً لم يكن مجال لأن يشترك معه تصير الجنين علقة وتصيره مضغة، إلا أن يحمل النص النبوي ما لا يحتمله.

فإن قيل: إن تصيير الجنين علقة وتصييره مضغة داخل في مفهوم الجمع، فالجواب: أن هذا ترده صيغة البيان النبوي في الحديث الشريف؛ حيث عطف هذا التصيير على جمع الخلق بثم؛ وهذا الأسلوب قطعي في دلالته على أن ذلك التصيير يحدث بعد جمع الخلق مرتباً عليه، وليس داخلاً فيه. ولو كان داخلاً فيه لاستعمل الرسول صلى الله عليه وسلم الحرف الذي وضع في لغة العرب للتفسير والتفصيل وهو الفاء، وذكر قبله المجمل وبعده التفسير المفصل لمراحل الجنين الثلاث بأن قال:((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً: فيكون فيها نطفة ثم علقة ثم مضغة)) . وأما "ثم" فإنه حرف عطف يفيد مغايرة المعطوف للمعطوف عليه، ولا يحتمل دخول الأول في الثاني دخول الجزء في الكل، وما دام الظرف الزماني في الحديث، وهو الأربعون يوماً، قد ذكر بعد المعطوف عليه وقبل المعطوف بثم، فإنه يكون ظرفاً للمعطوف عليه، ولا يكون ظرفاً للمعطوف.

ص: 1414

ولذلك فإن ابن القيم بعد أن فسر جمع الخلق الوارد في أول الحديث بالتصوير الخفي صرح بأن ذلك الجمع إنما يحدث في الأربعين الأول، ولم يدخل فيه مرحلة العلقة ومرحلة المضغة، وإنما يتم كل طور من هذين الطورين بانصرام أربعين يوماً على نهاية المرحلة التي قبلها، ثم يكون نفخ الروح في بداية الأربعين الرابعة (1)

6 -

كان العلماء المسلمون يدركون تمام الإدراك أن الجنين ينمو ويتخلق ويكتمل تصويره وتخليقه قبل تمام الأشهر الأربعة، وكان هذا معروفاً لديهم في الشرع وفي الطب: فأما في الشرع فقد صح من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: ((إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها

)) (2) ؛ فهذا خبر واضح في أن تصوير الجنين وخلق كافة أعضائه يكون بعد ستة أسابيع من عمره في بطن أنه. وأما طبياً فقد نقل أكثر من فقيه مسلم عن أطباء عصرهم أن الجنين يستكمل أعضاءه قبل تمام الأشهر الأربعة، وأن ذلك لا يتعارض مع ما جاء به الشرع من حقيقة تأخر نفخ الروح إلى ما بعد تمام تلك الأشهر الأربعة، بل يقتضيه ويتلاءم مع مقتضى الحكمة؟ فإن مقتضاها أن الروح لا تتعلق بالجنين إلا بعد تمام خلقه لا قبله؟ لأن البدن مركب لها، وآلة تستعملها في تحقيق ما خلقت من أجله، والحكمة تقتضي إعداد المركب وتحضير الآلة قبل خلق الراكب المستعمل لها، وفيما يلي أذكر نصوصاً لعلمائنا توضح ذلك:

يقول ابن قيم الجوزئة: (إذا اشتمل الرحم على المني ولم يقذف به إلى خارج استدار على نفسه وصار كالكرة، وأخذ في الشدة إلى تمام ستة أيام، فإذا اشتد نقط فيه نقطة في الوسط، وهي موضع القلب، ونقطة في أعلاه، وهي نقطة الدماغ، وفي اليمين، وهي نقطة الكبد. ثم تتباعد تلك النقط ويظهر بينها خطوط حمر إلى تمام ثلاثة أيام أخر، ثم تنفذ الدموية في الجميع بعد ستة أيام أخر، فيصير ذلك خمسة عشر يوماً، ويصير المجموع سبعة وعشرين يوما، ثم ينفصل الرأس عن المنكبين، والأطراف عن الضلوع، والبطن عن الجنبين، وذلك في تسعة أيام، فتصير ستة وثلاثين يوماً، ثم يتم هذا التمييز بحيث يظهر للحس ظهوراً بينا في تمام أربعة أيام، فيصير المجموع أربعين يوماً تجمع خلقه

وهذا مطابق لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: ((ان أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً)) . واكتفى النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الإجمال عن التفصيل. وهذا يقتضي أن الله قد جمع فيها خلقها جمعاً خفياً. وذلك الخفي في ظهور خفي على التدريج، ثم يكون مضغة أربعين يوماً أخرى، وذلك التخليق يتزايد شيئاً فشيئاً إلى أن يظهر للحس ظهوراً لا خفاء به كله، والروح لم تتعلق به بعد؛ فإنها إنما تتعلق به في الأربعين الرابعة بعد مائة وعشرين يوماً، كما أخبر به الصادق، وذلك مما لا سبيل إلى معرفته إلا بالوحي، إذ ليس في الطبيعة ما يقتضيه، فلذلك حار فضلاء الأطباء وأذكياء الفلاسفة في ذلك، وقالوا: إن هذا مما لا سبيل إلى معرفته إلا بحسب الظن البعيد

وحقيقة العلم فيه عند الله تعالى، لا مطمع لأحد من الخلق في الوقوف عليه) ، ثم قال ابن القيم: (قد أوقفنا عليه الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى بما ثبت في الصحيحين: (إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً

الخ) (3)

(1) التبيان: ص 337.

(2)

رواه مسلم - انظر مختصر صحيح مسلم حديث رقم 1849.

(3)

التبيان ص 337، 338.

ص: 1415

فهذا ابن القيم يصف التطور الجسماني للجنين بما لا يبتعد في مجمله عما توصل إليه الطب المعاصر (1) ويقرر أن التصوير والتخليق يحدث قبل أربعة أشهر بمدة طويلة، ومع ذلك فإنه يقرر أيضاً أن نفخ الروح لا يقع إلا بعد أربعة أشهر تمسكاً بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم. بل يذهب إلى أكثر من ذلك، وهو أن أية حركة تصدر عن الجنين قبل ذلك الوقت فإنها لا تكون حركة ذاتية إرادية، بل لعلها حركة عارضة بسبب الأغشية والرطوبات ثم قال:(ولكن الذي نقطع به بأن الروح لا تتعلق به إلا بعد الأربعين الثالثة، وما يقدر من حركة قبل ذلك إن صحت لم تكن بسبب الروح)(2)

وقد نقل ابن حجر عن الأطباء في عصره ما هو قريب مما ذكره ابن القيم، وكذلك ابن رجب الحنبلي. وهما أيضاً قد صرحا بأن نفخ الروح لا يقع إلا بعد مائة وعشرين يوماً ونقلا الاتفاق على ذلك كما تقدم (3)

كما تقدم النقل عن ابن عابدين أن ظهور الخلق قبل أربعة أشهر لا ينافي نفخ الروح بعدها؛ لأن الروح إنما يكون بعد الخلق.

وقال النووي – مع تأكيده اتفاق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر – (لأن نفخ الروح لا يكون إلا بعد تمام صورته)(4)

وأكد الشيخ داود الأنطاكي - وهو من علماء عصره في الطب - أن الروح التي تكسب الجنين الحياة الإنسانية إنما تنفخ بعد مائة وعشرين يوماً، كما جاء به الشرع، وسماه الروح النفساني، وأن ما يذكره الأطباء من حياة قبل ذلك فهي خالية من هذه الروح الإنسانية، وسببها ما سماه الروح الطبيعي (5)

(1) خلق الإنسان بين الطب والقرآن: ص 403 وما بعد ما.

(2)

التبيان: ص 339.

(3)

فتح الباري: 11/ 424، جامع العلوم والحكم: ص 46، 47.

(4)

شرح النووي على صحيح مسلم: 16/191.

(5)

النزهة المبهجة: 154/1.

ص: 1416

وقال الشيخ محمد حسنين مخلوف: (

ولما كان الغالب على الجنين في الطور الأول أعراض النطفة، وفي الأربعين الثانية أعراض العلقة، وفي الأربعين الثالثة أعراض المضغة ورد الحديث على هذا البيان طبقاً للظاهر المحسوس، وان كان خلق الجنين وتصويره قد تم قبل ذلك، فإن الروح الإنساني مستدع لتمام خلقه وتصويره؟ كيف والروح هي اللطيفة الربانية المتعلقة بالبدن تعلق التدبير والتصرف، وذلك يستدير تمام الخلقة والتصوير) (1) وقال في موضع آخر:(وإنما اختص طور العظام بنفخ الروح في البدن وتعلقها به لأنه الطور الذي صلبت فيه المضغة حتى صارت عظاماً مقومة للهيكل الإنساني، قابلة للآثار الروحية والأفاعيل المختلفة، فهو الحد الذي يصلح فيه البدن لقبول الآثار الفائضة عليه من عالم التدبير. 00)(2)

فيتبين مما تقدم أن العلماء المسلمين القدامى كانوا يعلمون أن الجنين يتخلق قبل نفخ الروح، وأن ذلك كان مشتهراً في أوساطهم الطبية، ولم يمنعهم ذلك من الأخذ بظاهر حديث ابن مسعود، بل اتفقوا على الأخذ به، ورأوا أن منطق الأشياء يقتضي تأخير نفخ الروح إلى وقت تكون فيه أعضاء الجنين الرئيسة قد اكتملت، ولم يتأثروا بما كان قد عرف في الأوساط الطبية من وجود نوع من الحياة أو الحركة السابقة على نفخ الروح، ولم يروه مناقضاً للحديث الشريف ولا مستدعياً لتأويله، بل رأوه مناسباً له ومؤكداً لحكمة مدلوله.

(1) المطالب القدسية: ص 75.

(2)

المطالب القدسية: ص 82.

ص: 1417

المطلب الخامس

حقيقة الجنين قبل نفخ الروح

الجنين الذي بلغ أربعة أشهر من عمره، ونفخت فيه الروح، يكون إنساناً بحسب مختلف التصورات، وعند جميع الطوائف والعلماء:

أما في الإسلام، فلأن الروح هي أصل الحياة الإنسانية، ومصدر الإرادة والشعور والتفكير - كما تبين مما سبق تفصيله - وباتصالها بالجسد الجنيني يصبح الجنين إنساناً، ويكون حياً بالحياة الإنسانية، ويظل كذلك ما دام جسده، وروحه متحدين، فإن افترقا حل به الموت.

وأما عند الذين لا يؤمنون بالروح، أو يؤمنون بها ولكن لا يجعلون لها أي أثر؟؛ فلأن الجنين ينبغي أن يعتبر عندهم إنسانا بمجرد تكونه من الحيوان المنوي وبيضة المرأة؛ إذ لا يوجد في مسار التطور الجسدي الجنيني نقطة تصلح لاعتبارها مبدأ لتكون الإنسان أهم من لحظة ذلك التكون؛ فهي أوضح نقطة في ذلك المسار، وفيها يصبح الجنين قادراً على التدرج في مدارج النمو الجسماني حتى يفضي إلى التخلق الكامل ثم الولادة. وقبلها لا يمكن أن يدخل في ذلك التدرج، ولأنه تكتمل الحصيلة الإرثية لجنس الإنسان من تلك اللحظة (1)

وهكذا، فإنه مع إنكار اتصال الروح بالجسد في زمن لاحق لتكون الجنين لا يوجد مبدأ أهم من ذلك التكون يصلح أن ينسب إليه وجود الإنسان، وإذا كان كذلك فإن الجنين الذي بلغ من عمره أربعة أشهر لا شك في اعتباره إنساناً عند هذا الفريق أيضاً. والنتيجة أنه لا يخالف أحد في وصف الجنين بالإنسانية بعد بلوغه أربعة أشهر ودخوله في الخامس.

وأما قبل نفخ الروح فينبغي أن تختلف النظرة فيه ببن علماء الإسلام وبين أولئك الذين لا يؤمنون بالروح أو يؤمنون بها ولا يرتبون أي أثر عليها، ولا يعترفون بفاعليتها في تكوين الإنسان:

فأما حقيقته في الإسلام، وكما يراها علماء المسلمين القدامى، فهو أنه مخلوق أودع الله فيه نوعاً من الحياة، بمجرد تكونه من ماء الرجل وماء المرأة، وجعل فيه قوى النمو والتطور البدني والاغتذاء ليصل إلى وضع جسماني يكون فيه صالحاً لنفخ الروح. وهو في هذه الفترة لا يكون آدمياً ولا يوصف بالإنسانية، ولا يكون حياً بالحياة الإنسانية (المتميزة عن جميع أنواع الحياة في هذا الوجود) . وكذلك لا يوصف بأنه آدمي ميت؛ لأن هذا الوصف لا يطلق إلا على الجسد الذي حلته الروح في وقت ما ثم فارقته. وهذا لم تحل فيه الروح أصلاً، فلا يوصف بأنه حي بالحياة الإنسانية، ولا يوصف بأي وصف يدل على أنها كانت فيه. فلا سبيل إلى تعريفه بغير ما ذكرنا من أنه مخلوق حي بحياة النمو والاغتذاء والتطور جعله الله أصلاً للآدمي الذي تنفخ فيه الروح.

(1) الحياة الإنسانية: بدايتها ونهايتها في المفهوم الإسلامي: ص 59.

ص: 1418

ومع أن ما قدمنا من النصوص القرآنية والنبوية وأقوال العلماء في الروح وآثارها ووقت اتحادها مع جسد الجنين فيه دلالة كافية على نظرة الإسلام وعلمائه إلى الجنين قبل نفخ الروح فيه، لكننا هنا نستزيد من أقوال العلماء الصريحة في أن الجنين في هذه المرحلة لا يعتبر آدمياً ولا حياً بالحياة الإنسانية، ولا يوصف بأنه إنسان حي ولا ميت، سواء أكانت فيه حياة الاغتذاء والنمو أم كان فاقداً لها؟ وذلك لخطورة هذا الموضوع، وتأثيره بشكل أو بآخر في كثير من الأحكام العملية لتصرفات يكون الجنين موضوعها:

1 -

يقول القرطبي في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: ((ينفخ فيه الروح)) (إن النفخ سبب خلق الحياة الإنسانية في الجنين، وأن هذا يحدث بإحداث الله تعالى)(1)

2 -

وبقول ابن قدامة الحنبلي بصدد كلامه عن أحكام السقط (وأما قبل نفخ الروح فلا يكون الجنين نسمة، فلا يصلى عليه كالجمادات والدم)(2)

3 -

ونقل الشوكاني عن الشافعي أنه كان يرى أن الجنين قبل أربعة أشهر لا يكون حياً ولذلك لا يغسل ولا يصلى عليه، ثم قال:(وقد رجح المصنف رحمه الله تعالى هذا واستدل له فقال: قلت: وإنما يصلى عليه إذا نفخت فيه الروح، وهو أن يستكمل أربعة أشهر، فأما إن سقط لدونها فلا؛ لأنه ليس بميت إذ لم ينفخ فيه روح)(3)

4 – ويرى ابن قيم الجوزية أن للجنين حياتين: الأولى كحياة النبات تكون معه قبل نفخ الروح وبعدها، ومن آثارها حركة النمو والاغتذاء غير الإرادية، والثانية حياة إنسانية، وتحدث في الجنين بنفخ الروح فيه، ومن آثارها الحس والحركة الإرادية (4) 5 – وقال فقهاء الحنفية بحسب ما ينقل عنهم ابن عابدين:(إنما يباح للمرأة استنزال الجنين قبل نفخ الروح؛ لأنه ليس بآدمي)(5)

6 – وقال ابن رشد الحفيد: (واختلفوا من هذا الباب في الخلقة التي توجب الغرة

والأجود أن يعتبر نفخ الروح فيه، أعني أن يكون تجب فيه الغرة إذا علم أن الحياة كانت وجدت فيه 000) (6)

(1) تفسير القرطبي: 12/ 6.

(2)

المغني: 2/398.

(3)

نيل الأوطار: 4/83.

(4)

التبيان في أقسام القرآن: ص 351.

(5)

حاشية ابن عابدين: 1/302.

(6)

بداية المجتهد: 2/ 450.

ص: 1419

7 -

كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: خلق ابن آدم من سبع ثم يتلو هذه الآية: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} ، وسئل عن العزل، فقرأ هذه الآية ثم قال: فهل يخلق أحد حتى تجري فيه هذه الصفة؟ وفي رواية عنه قال: وهل تموت نفس حتى تمر على هذا الخلق؟ وروي عن رفاعة بن رافع قال: جلس إلي عمر وعلي والزبير وسعد ونفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتذاكروا العزل، فقال: لا بأس به، فقال رجل: إنهم يزعمون أنها الموؤودة الصغرى، فقال علي رضي الله عنه: لا تكون موؤودة حتى تمر على التارات السبع: تكون سلالة من طين، ثم تكون نطفة، ثم تكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم تكون عظاماً ثم تكون لحما، ثم تكون خلقاً آخر، فقال عمر رضي الله عنه: صدقت أطال الله بقاءك (1) فهذا مفهوم الوأد "وهو نوع من القتل" عند الصحابة رضوان الله عليهم لا يتحقق إلا إذا أنشىء الجنين خلقاً آخر بعد تعاقب الأطوار الأخرى عليه، كما ذكرت الآية الكريمة. وقد تقدم أن الصحابة ومنهم ابن عباس وعلي كانوا يفسرون قوله تعالى:{ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ} بأنه نفخ الروح.

8 -

وقال الشوكاني في معنى قوله تعالى: {ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} : ما أكمل خلقه بنفخ الروح فيه فهو المخلقة، وهو الذي ولد لتمام، وما سقط كان غير مخلقة، أي غير حي بإكمال خلقته بالروح (2)

9 -

- وقال البيجوري: وأما السقط، وهو الذي لم تتم له ستة أشهر، فإن ألقي بعد نفخ الروح فيه أعيد بروحه ويصير عند دخول الجنة كأهلها في الجمال والطول، وإن ألقي قبل نفخ الروح فيه كان كسائر الأجسام التي لا روح فيها كالحجر، فيحشر ثم يصير ترابا (3)

10 -

ويقول ابن حزم الظاهري في معرض الرد على من يجعل غرة الجنين الذي لم تنفخ فيه الروح للورثة: أما قولهم: إن الغرة دية فهي كحكم الدية، وقد صح أن الدية موروثة على فرائض المواريث فالغرة كذلك، فإن هذا قياس باطل؟ لأن الجنين الذي لم ينفخ فيه الروح لم يقتل قط، فقياس دية من لم يقتل على دية من قتل باطل لو كان القياس حقاً؛ لأنه قياس الشيء على ضده، فبطل. وأما نحن فإن القول عندنا هو: ان الجنين إن تيقناً أنه قد تجاوز الحمل به مائة وعشرين ليلة فإن الغرة موروثة لورثته، وإن لم يوقن أنه تجاوزها فالغرة لأمه فقط؛ برهاننا على ذلك أن الله تعالى قال:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يقاد وإما أن يودى)) .

(1) جامع العلوم والحكم: ص 46.

(2)

فتح القدير: 3/436.

(3)

تحفة المريد على جوهرة التوحيد: ص101.

ص: 1420

فصح بالقرآن والسنة أن دية القتيل في الخطأ والعمد مسلمة لأهل القتيل، والقتيل لا يكون إلا في حي نقله القتل عن الحياة إلى الموت بلا خلاف من أهل اللغة التي نزل بها القرآن، وبها خاطب الرسول. والجنين بعد مائة وعشرين ليلة حي بنص خبر الصادق المصدوق، وإذ هو حي فهو قتيل قد قتل بلا شيء

وأما إذا لم يوقن أنه تجاوز مائة وعشرين ليلة فنحن على يقين من أنه لم يحي قط ولا كان له روح بعد ولا قتل، وإنما هو ماء أو علقة من دم أو مضغة من عضل أو عظام ولحم، فهو في كل ذلك بعض أمه؛ فإذا ليس حياً بلا شك، فلم يقتل؛ لأنه لا يقتل موات ولا ميت، وإذ لم يقتل فليس قتيلاً، فليس لديته حكم دية القتيل (1)

هذه النصوص التي ذكرناها لبعض علماء الإسلام، وتلك النصوص التي ذكرناها في المطلب السابق لعلماء آخرين، والتي تدل على ارتباط الحياة الإنسانية بنفخ الروح، والتي استند فيها أولئك العلماء إلى ما ورد في الكتاب والسنة من نصوص حول الروح وآثارها، كل ذلك يدل بما لا يدع مجالاً للشك على أن الجنين قبل نفخ الروح لا يوصف بأنه إنسان حي ولا ميت، سواء أكانت فيه حياة الاغتذاء والنمو أم زالت عنه.

ومن الجدير بالذكر أنني لم أجد في مصنفات العلماء المسلمين القدامى من صرح بخلاف ما ذكرنا من نفي الحياة الإنسانية عن الجنين الذي لم تنفخ فيه الروح، سواء في ذلك علماء التفسير وعلماء الحديث وعلماء الفقه وغيرهم. بل إن أسلوب من تعرض لهذا الموضوع وبحث فيه يوحي بأن هذه القضية مسلم بها، وليس حولها شك. ولا يتعارض مع هذا أن كثيراً من علماء الإسلام قد رتبوا بعض الأحكام العملية على وجود الجنين مهما كان عمره في بطن أمه؟ فإنها عند التدقيق فيها يتبين أن مبنى تلك الأحكام لا يقوم على نفخ الروح ووجود الحياة الإنسانية في الجنين، وإنما مبناه على أمور أخرى: من ذلك تحريم إجهاضه ووضع حد لنموه وتطوره؟ لأن هذا العمل إتلاف لمخلوق لو ترك لنما وتشكل وصار أهلاً لنفخ الروح فيه، واكتساب الهوية الآدمية، ولا شك في أن إتلاف ما هذا شأنه لا يجوز، فإن إتلاف الأشياء النافعة أو التي يتوقع نفعها لذويها حرام إلا لمصلحة راجحة. ولهذا السبب أيضاً حرم الشرع إقامة الحد المهلك أو الذي يغلب على الظن أن يتضرر منه الجنين.

(1) المحلى: 8/ 30، 33.

ص: 1421

ومن الأحكام التي تتعلق بالجنين وان لم ينفخ فيه الروح انتهاء العدة بسقوطه، فإن ذلك غير مرتبط بنفخ الروح؟ حيث ربط الشارع انتهاء عدة الحامل بوضع حملها، وحكمة العدة – وهي استبراء الرحم – تحصل بالوضع مهما كان الجنين. ومنها أيضاً حجز نصيب من الميراث لحساب الجنين إذا تبين الحمل بغض النظر عن نفخ الروح فيه؟ لأن الغالب تطور الجنين ليصل إلى مرحلة نفخ الروح فيه وصيرورته إنساناً وولادته حياً، فلابد من النظر له، ولكن ما يحجز له لا يكون حقاً له قبل صيرورته إنساناً وولادته حياً، حتى لو سقط قبل ذلك لم يورث عنه ما حجز له.

فهذه الأحكام لا تدل على أن العلماء المسلمين قد خالفوا ما نصوا عليه بصراحة من أن الجنين قبل نفخ الروح لا يكون آدمياً؛ لأنها، كما يرى، غير متربطة بنفخ الروح ولا بإنسانية الجنين، وإنما ارتباطها بمعان أخرى.

ويرد هنا تساؤل يستحسن الإجابة عنه، وهو أن الجنين الذي لم تنفخ فيه الروح إذا لم يكن آدمياً فهل يمكن اعتباره جزءاً من آدمي هو أمه؟

وفي الجواب لابد من الإشارة إلى أن بعض الفقهاء المسلمين قد ورد في كتبهم ما يدل على أن الجنين يعامل معاملة العضو من الأم في بعض الأحكام (1)

غير أن أغلب الظن عندي أن الجنين مخلوق مستقل عن أمه، سواء أنفخت فيه الروح أم لم تنفخ، وان كان له نوع اتصال بها، وأن بعض الفقهاء إنما اعتبره كالعضو من الأم من الناحية الحكمية لغرض ترتيب بعض الأحكام المتعلقة بالتعويض الواجب على إسقاطه (2)

وتوجيه ظننا في هذا الموضوع أن جسد الآدمي مركب الروح وآلتها بحسب التصور الإسلامي الذي بيناه فيما سبق. وهذا المركب مكون من أجزاء كلها تقع في موقع الخدمة للروح بأساليب وصور شتى. ومن خصائص تلك الأجزاء مصاحبة الروح من وقت نفخها إلى وقت رحيلها، وعدم مفارقتها لها بصورة آلية؛ لما جعل الله تعالى بين الروح والجسد من عشق جبلي لا ينقطع بدون سبب قوي؛ فالعين والأذن والقلب والدماغ والأطراف وكل عضو من أعضاء الجسد لا يفارق الروح المختصة به بصورة ذاتية إلا أن يوجد عارض قوي ينسب بتلك المفارقة، فالروح لا تلفظ اليد والرجل والعين والأعضاء التي خصها الله بها، ولا هذه الأعضاء تنسلخ عن الروح وإنما يمكن أن تنتزع منها انتزاعاً بسبب من الأسباب.

(1) انظر المحلى: 8/ 30، وتكملة فتح القدير المسماة "نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار" لقاضي زادة: 10/ 30.

(2)

انظر المحلى: 8/ 30، وتكملة فتح القدير المسماة "نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار" لقاضي زادة: 10/ 30.

ص: 1422

والجنين في بطن أمه، سواء قبل نفخ الروح أو بعدها لا يتصف بشيء مما ذكرنا من خصائص الأعضاء، فهو لا يخدم روح الأم، ولا يأتمر بأوامرها (1) ولا يتوقف عليه صلاح أي عضو من أعضاء جسدها، وتنحصر علاقته بجسدها في الأخذ دون العطاء، وهو أشبه ما يكون بالرضيع الذي يأخذ لبن أمه بعد ولادته، ولكنه لما كان قبل الولادة غير قادر على الأخذ بطريقة الوليد رتب له ربه تبارك وتعالى طريقة أخرى تناسب طبيعته. وهو بعد ذلك صائر إلى الانفصال عن جسد الأم بصورة ذاتية. بل إن ذلك الجسد لا يقبله أكثر من المدة المعهودة للحمل، وروح الأم المسيطر على ذلك الجسد لا يطيق وجوده أكثر من تلك المدة. وكل ذلك يدل على أنه كيان مستقل عن أمه وعارض عليها، وليس جزءاً منها.

فنخلص مما تقدم إلى أن الجنين قبل نفخ الروح في التصور الإسلامي، ليس ادمياً ولا جزءاً من آدمي، وإنما هو مخلوق في طور الإعداد لاستقبال الروح التي تصيره آدمياً.

وأما الجنين عند الذين لا يؤمنون بالروح من العلماء الماديين، ومن تأثر بهم فأقر بوجودها وجردها من آثارها، فإن مقتضى عقيدتهم هذه أن حقيقته واحدة من أول لحظة يتكون فيها باتحاد مني الرجل ببييضة المرأة، وأن آدميته تولد معه في هذه اللحظة، ولا يطرأ عليها ما يغيرها في مختلف مراحله الخلقية حتى يتوفى بهلاك جسده؛ وذلك أن حقائق الأشياء لا تتغير بصغرها وكبرها، ولا بثقلها وخفتها، وإنما تتمايز باختلاف جوهرها. والحياة عندهم تنشأ مع الجنين من تلك اللحظة، وتبقى معه متصفاً بها حتى يفقدها بسبب من الأسباب ويفنى ذلك الجسد.

ونعتقد أن أي تغير في جسد الجنين المادي المحسوس من تعلق بجدار الرحم ونمو وكبر حجم وزيادة وزن وظهور طلائع الجهاز العصبي والأجهزة الأخرى وغير ذلك من التغيرات الجسمانية لا يصلح أبداً مستنداً للقول بتغير حقيقة الجنين؟ لأن جميع هذه التغيرات إنما هي ثمرات لنوع الحياة الذي وجد مع الخلية الأولى من خلايا جسد الجنين المتكون؛ فعند تكون الجنين بخليته الأولى ينشأ فيه ذلك النوع من الحياة، ويكون سبباً في كل ما يطرأ عليه من تحولات وإضافات وتشكلات وغير ذلك، فإن حقيقة الحياة التي وجدت في الخلية الأولى ومكنتها من رحلتها التطورية لا تختلف عنها في أي طور، بل هي عينها الحياة التي تكون فيه مهما كان عمره ووزنه وطوله وشكله، بل هي عين الحياة التي تكون معه بعد ولادته، والتي يكون من آثارها نموه في الطول والعرض وترميم أعضاء الجسم التالفة، ومقاومة الجراثيم الدخيلة، ولأم الجروح، ونمو الشعر والظفر، وهي عين الحياة التي تبقى فترة قصيرة من الزمن في الأعضاء بعد الموت الدماغي للإنسان.

(1) وإذا كانت الروح تسيطر على الجسد المختصة به بواسطة الدماغ، وعن طريقه تحرك بقية الأعضاء، فإنا نظن - بالرغم من قلة بضاعتنا في علم وظائف الأعضاء - أن الدماغ لا صلة بينه وبين أعضاء الجنين، ولا سلطان له على أي عضو منها. وليس هذا رجماً بالغيب، وإنما هو استنتاج من الظواهر التي أشرنا إلى طائفة منها في المتن.

ص: 1423

وهكذا فإن إنكار الروح وإنكار انضمامها إلى جسد الجنين في لحظة من لحظات عمر الجنين يلزم القائلين به والممالئين لهم ممن اعترفوا بالروح وأنكروا آثارها، وآثروا إهمالها عند البحث في حقيقة الجنين، يلزمهم بأن يعتبروا الجنين إنساناً من أول لحظة يتكون فيها باتحاد المني مع البييضة.

ومع أن هذا هو مقتضى تلك النظرة لكننا نجد كثيراً من أصحابها يرون أن موت الإنسان يقع بموت دماغه بعد نشوئه وقيامه بوظائفه (1) والذي يتفق مع نظرتهم تلك إلى حقيقة الجنين بصورة خاصة والإنسان بصورة عامة أن يكون موت الإنسان بذهاب تلك الحياة التي صاحبته منذ تكونه لا بمجرد موت دماغه؟ وإلا فإن الجنين قبل تكون دماغه وقيامه بوظائفه يعتبر بناء على نظرتهم تلك إنساناً حياً، فالقول بحياته يتعارض مع قولهم بأن الموت هو موت الدماغ، وتحديد الموت بموت الدماغ يتناقض مع القول بحياة الجنين قبل نشوء دماغه، ولا يخلصهم من هذا التناقض إلا القول بوجود نوعين من الموت: أحدها موت الجنين قبل نشوء دماغه ويكون بذهاب الحياة الموجودة في خلاياه وتوقفها عن النمو والتشكل والاغتذاء، والثاني موت الإنسان الذي تكون له دماغ ومارس هذا الدماغ وظائفه، ويكون بموت هذا الدماغ موتاً نهائياً، على أن هذا المخرج يلزم القائلين به الاعتراف بوجود نوعين من الحياة يتعاقبان على الجنين: النوع الأول قبل نشوء دماغه، والثاني بعد نشوئه؛ لأن الموت نقيض الحياة ووجود نوعين من الموت يقتضي وجود نوعين من الحياة، حتى يصدق على كل واحد منهما أنه نقيض الموت الذي يقابله، وهذه النتيجة تقترب إلى حد ما - وإن لم تطابق - مع نظرة علماء الإسلام في تحديد حقيقة الجنين قبل نفخ الروح وبعده. والفرق بينهما اعتبار نفخ الروح مصدراً للحياة الثانية في النظرة الإسلامية ونشوء الدماغ مصدراً لها في النظرة الأخرى. وقد تقدم ما يبعد معه كون الدماغ سبباً لإحداث نوع جديد من الحياة، وذلك عند الكلام عن تطور الجنين وأثره في تحديد حقيقته.

(1) انظر كتاب: موت القلب أو موت الدماغ: ص 102 وما بعدها.

ص: 1424

المبحث الثاني

حكم الانتفاع بالأجنة

في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية

تقدم أن البحث عن حكم تصرف ما لا يستقيم إلا بالبدء من معرفة حقيقة ذلك التصرف، وأن هذا التصرف إن كان عملاً يقوم به الإنسان في شيء ما، ويترك آثاراً بليغة في هذا الشيء، فإن تصوره يتوقف على معرفة ذلك الشيء الذي يقع عليه.

وقد أفضنا - في المبحث الأول - في بيان حقيقة الجنين، وخرجنا بنتيجة محددة في ذلك، وفيما يأتي سنتخذ تلك النتيجة أساساً في البحث عن حقيقة التصرف في الجنين بأخذ بعض أعضائه لزراعتها أو بجعله محلاً للتجارب العلمية. ومن ثم ننتقل إلى بيان حكم هذا التصرف من وجهة النظر الشرعية، وقيود ذلك ونختم المبحث - إن شاء الله تعالى - ببيان ما ينبغي أن يكون عليه حكم هذا التصرف عند من ينكرون الروح.

المطلب الأول

حقيقة الانتفاع بالأجنة في زراعة الأعضاءوالتجارب العلمية

ليس من غرضنا في هذا المطلب بيان حقيقة التصرفات التي تقع على الجنين، ولا تتسبب إلى أي نوع من الإضرار بجسده، أو تلك التي يقصد بها معالجة الجنين، سواء أكانت نتائجها إيجابية أم سلبية؛ فإن حقيقة هذه التصرفات أنها أعمال نافعة أو يقصد بها تحقيق مصالح معتبرة للبشرية عامة أو للجنين محل التصرف خاصة، وهي إما أن تكون سالمة تماماً من أي ضرر يقع على الجنين، كتلك الأبحاث التي تجرى على الجنين وتعتمد على ملاحظته داخل بطن أمه أو خارجه دون التسبب له بأية مضاعفات، وإما أن يكون الضرر الناشىء عنها غير مقصود وإنما جاء نتيجة لمحاولات طبية يراد بها إنقاذ الجنين من الهلاك أو من خلل جسدي (1) فمثل ذلك لا شبهة في تحديد حقيقته، ولا شك في جوازه شرعاً وعقلاً، وقد يقع على الإنسان المولود، كبيراً كان أو صغيراً.

(1) انظر بحث "إجراء التجارب على الأجنة" للدكتور محمد علي البار المقدم إلى الندوة الفقهية الطبية الخامسة: ص 21.

ص: 1425

وإنما نقصد من هذا المطلب بيان حقيقة التصرف بالأجنة مما يسبب لها الضرر، فيهلكها كلياً أو جزئياً دون أن يكون الهدف الأصلي منها إنقاذ الجنين أو معالجته، وذلك بأخذ بعض أجزائه لزراعتها في جسد إنسان مريض، أو بإجراء التجارب العلمية عليه مما يقتضي تفتيته أو تغيير أوضاع الخلقة الأصلية التي خلق عليها ونحو ذلك.

ومن وجهة النظر الإسلامية لا شك في أن تحديد حقيقة تلك التصرفات يختلف باختلاف المرحلة التي يكون فيها الجنين: مرحلة ما قبل نفخ الروح ومرحلة ما بعده، كما يختلف باختلاف حال الجنين إن كان حياً أو كان ميتاً.

وأما من وجهة النظر الأخرى التي لا تعترف بالروح، ولا تقر إلا بنوع واحد من الحياة يكون فيه الجنين في جميع أطواره، فإن حقيقة تلك التصرفات لا تختلف إلا من حيث وجود الحياة في جسد الجنين أو عدم وجودها.

حقيقة تلك التصرفات من وجهة النظر الإسلامية:

إذا كان الجنين قد استقبل الروح بانصرام مائة وعشرين يوماً على تكونه، ولم ترحل عنه، فهذا آدمي حي بحياة الروح كما ذكرنا، وأخذ أحد أعضائه أو إخضاعه للتجارب العلمية في المختبرات مما يتسبب في مفارقة روحه لجسده، يكون قتلاً له بالمعنى الاصطلاحي الدقيق للقتل. فإن نجا من ذلك كان ذلك التصرف إيذاء لجسد آدمي حي على أقل تقدير.

وهذا لا يختلف سواء أكان الجنين في بطن أمه أو سقط منه أو أسقط، ما دام حياً بحياة الروح، ويعرف ذلك بصدور أية حركة إرادية عن الجنين أو بتبين صلاحية دماغه وعدم موته؛ لأن الروح إنما تسيطر على الجسد بواسطة الدماغ، كما أسلفنا، ولا ترحل عنه إلا بتلفه تلفاً كليا. ولا يؤثر على ذلك كون الجنين قد سقط من بطن أمه في زمن لا يعيش فيه مثله، وأن مصيره إلى الموت وحدوث مفارقة روحه لجسده؛ لأن العبرة بوجود الروح في الجسد، وليس بما سيؤول إليه الوضع، وقد يتمكن أهل صنعة الطب من توفير الظرف المناسب للجنين الذي يسقط في وقت مبكر بعد نفخ الروح، فيظل على قيد الحياة (1)

(1) بحث "إجراء التجارب على الأجنة " للدكتور محمد علي البار: ص 07 الحياة الإنسانية: بدايتها ونهايتها في المفهوم الإسلامي: ص 207.

ص: 1426

وأما إذا فارقت الروح جسد الجنين بوفاة دماغه، سواء أكان في البطن أم خارجه، فإنه يصبح آدمياً ميتاً. ويكون أخذ عضو منه أو إجراء التجارب عليه تصرفاً بجسد آدمي كان مسكناً للروح، ولا يكون ذلك قتلاً له. وهذا كله إذا كان الجنين قد جاوز في عمره مائة وعشرين يوما أو بلغها.

وأما قبل ذلك، حيث لم تنفخ فيه الروح بعد، فإن التصرف فيه بأخذ جزء منه أو بإجراء التجارب عليه على النحو الذي بيناه لا يعد قتلاً لآدمي، وإن أدى ذلك إلى فقدانه قابلية النمو والاغتذاء والتطور؛ لأن القتل بمعناه الاصطلاحي الفقهي الدقيق هو فعل من الأدمي يؤدي إلى إزهاق روح آدمي آخر، فلا توجد حقيقة القتل إلا إذا كان محله آدمياً فيه روح (1) وهذا لم تنفخ فيه الروح بعد. نعم، قد يطلق على هذا الفعل قتلاً، لأنه أدى إلى إيقاف نوع من الحياة، ولكن لا يراد به عندئذ المعنى الاصطلاحي للقتل، وإنما يراد به إفساد الجنين بوقفه عن التطور والتغذي والتخلق، ومنعه من الوصول إلى كمال هذه المرحلة ببلوغ الحد الصالح لنفخ الروح.

على أنه ينبغي التمييز بين حالتين: إحداهما يكون فيها التصرف في الجنين قبل نفخ الروح فيه بأخذ جزء منه أو بإجراء التجارب عليه إفساداً له. والثانية لا يعتبر ذلك فيها إفسادا له:

فأما الحالة الأولى فتكون عندما يقع ذلك التصرف على جنين لو ترك على حاله الذي هو فيه لنما وتخلق وتطور، ليصل إلى الوضع الذي يصبح فيه صالحاً لنفخ الروح. والصورة الوحيدة المعروفة حالياً لهذه الحالة أن يكون الجنين الذي لم تنفخ فيه الروح موجوداً في بطن أمه، وفيه حياة النمو والاغتذاء. فإذا أسقط من بطن أمه لغرض أخذ جزء منه أو لغرض التجارب الطبية كان ذلك إفساداً له.

وأما الحالة الثانية فهي أن يكون الجنين الذي لم تنفخ فيه الروح في وضع لوترك فيه لتوقف عن النمو والتطور وفقد الحياة التي تسبب ذلك فيه، ويكون هذا عندما يكون الجنين خارج بطن الأم، ولا يمكن في الواقع أو في الشرع أن يجعل في وضع يتمكن فيه من النمو والتطور ليتأهل لنفخ الروح. ويقصد بعدم الإمكان في الواقع أن يكون أهل الصنعة عاجزين عن توفير الوضع الذي يجعل ذلك الجنين يواصل مسيرته التطورية، بحيث تستيقن أنه سيفقد الحياة التي تمكنه من النمو والتخلق قبل أن تنفخ فيه الروح، كما لو سقط الجنين الذي لم تنفخ فيه الروح، وعجز الأطباء عن إعادته وعن توفير الرحم الصناعي البديل. ففي هذه الحالة يعتبر الجنين فاسداً حكما. وإذا كان كذلك فإن ما يقع عليه من أخذ بعض أجزائه، أو إجراء التجارب عليه لا تعد إفساداً له. والفرق في هذه الحالة بينه وبين جنين نفخت فيه الروح أن الحياة المودعة في الجنين قبل نفخ الروح ليست مقصودة لذاتها، وإنما جعلت فيه لتوصله إلى الوضع الذي يصلح فيه لاستقبال الروح، ولتكون خادمة لحياة الروح بعد نفخها، فإذا تيقن من عدم التمكن من الوصول إلى ذلك الوضع، فقدت تلك الحياة حكمتها وفائدتها. وأما حياة الروح فهي مقصودة لذاتها، لا لغيرها، فلا تعتبر فاسدة ما دامت الروح موجودة في الجسد، وإن كان يقطع من الناحية الواقعية بأنها سترحل عن الجسد بعد فترة قصيرة جداً.

(1) المحلى: 8/33، التشريع الجنائي الإسلامي: 2/6 0 القصاص - الموضوع (7) من نماذج الموسوعة الفقهية - الطبعة التمهيدية: ص 22.

ص: 1427

ويقصد بعدم الإمكان في الشرع أن لا يسمح الشرع بوضع الجنين في الظرف الذي يمكنه من التطور، ويكون ذلك في اللقائح الزائدة عن الحاجة في مشاريع أطفال الأنابيب، إذا استحال من الناحية الواقعية غرسها في رحم الزوجة صاحبة البيضة، كما لو توفيت بعد تلقيح بيضتها في المختبر بمنوي زوجها، أو خيف عليها الهلاك من الحمل ونحو ذلك، فلا يجوز شرعاً غرس تلك اللقائح في رحم امرأة أخرى، فإذا اجتمع مع ذلك عجز الطب عن توفير الرحم الصناعي الذي يمكن أن توضع فيه اللقيحة لتواصل تطورها، اعتبرت أيضاً في حكم الفاسدة ولا يعتبر التصرف فيها إفساداً لها، لما ذكرنا.

هذا ومن نافلة القول أن يذكر هنا أن التصرف بالجنين الذي لم تنفخ فيه الروح والذي فقد حياة النمو والتطور، بأخذ جزء منه أو بإجراء التجارب عليه لا يعد إفسادا له، وإن كان في بطن أمه، لأنه فاسد حقيقة، ولا يعتبر ذلك أيضاً اعتداء " على جثة آدمي ميت، لما سبق أنه ليس بآدمي.

حقيقة تلك التصرفات من وجهة نظر الذين لا يؤمنون بالروح:

ذلك كله من وجهة النظر الشرعية، وأما عند الذين لا يؤمنون بوجود الروح، وكذلك بعض الباحثين المعاصرين الذين يثبتون وجودها ولكنهم ينفون أن يكون لها أي تأثير في حقيقة الجنين والإنسان، فإن مقتضى هذا التصور أن يكون أي تصرف بالجنين يفقده صفة الحياة الموجودة فيه قتلاً لإنسان حي، سواء أكان عمره ساعة واحدة أم كان عمره تسعة أشهر، ما دام فيه الحياة التي تمكنه من النمو والتخلق، وأفقده ذلك التصرف تلك الحياة.

كما يقتضي هذا التصور أن يعتبر التصرف بالجنين الذي فقد تلك الحياة تصرفاً بجثة آدمي ميت.

ص: 1428

المطلب الثاني

الحكم الشرعي للانتفاع بالجنين

بعد نفخ الروح فيه

سبق أن الجنين الذي بلغ من العمر أربعة أشهر ونفخت فيه الروح آدمي حي. وأن الانتفاع بأخذ أجزائه أو بإجراء التجارب عليه إذا تسبب في إزهاق روحه يكون قتلاً لآدمي حي. وقتل الآدمي في الإسلام لا يحل إلا أن يكون عقوبة على معاص حددها الشرع، ولا يوجد مسوغ له غير ذلك، وهو لا يتصور من الجنين بلا شك. ولا يسوغ إزهاق روح الآدمي كونه سبباً في إحياء روح آدمي آخر (1) ؛ لأن الأرواح الآدمية في ميزان الإسلام سواء ما دام أصحابها لم يرتكبوا من المعاصي ما يستوجب إهدار أرواحهم.

وهذا الحكم لا يختلف سواء أكان الجنين في بطن أمه، أم كان قد سقط منه بسبب من الأسباب ما دامت روحه باقية فيه، ولم تخرج من جسده؟ فلا يحل في شرع الله تعالى أن يمس بأي أذى، وإن كان ذلك بإذن الأبوين أو بناء على تبرعهما نيابة عن الجنين؟ لأن النيابة مقررة لمصلحة المنوب عنه، وليس لأي نائب أن يتصرف بما يتسبب بالضرر لمن ينوب عنه.

وأما إذا كان الجنين ميتاً بأن فارقته الروح بعد نفخها فيه، فحاله كحال الآدمي المولود الذي فارقته الروح، وحقه في الشرع أن يكرم بغسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه وعدم التمثيل بجثته. والأصل أنه لا يحل أن يؤخذ شيء من جسد الأدمي الميت أو يجرى عليه من التجارب ما يغير خلقته إلا بإذن صدر من ذلك الميت قبل وفاته. والإذن من الجنين قبل وفاته غير متصور، ومقتضى القواعد الشرعية أن لا يقبل إذن أبويه؛ لأن إذن الإنسان في غير ما يملك لا قيمة له، وهما لا يملكان أن يتبرعا بشيء من جسد الجنين، لا عن طريق الإرث، ولا عن طريق النيابة الشرعية؛ أما الأول فلأن الإرث لا محل له بالنسبة لجسد الميت، وأما النيابة فلأنها تنتهي بالموت، ولأنها مقيدة في الشرع بعدم الضرر كما تقدم.

(1) حاشية ابن عابدين: 1/602. لذلك أجمع الفقهاء على أنه لا يحل لمضطر أن يقتل غيره لإنقاذ نفسه من هلاك محقق؟ فنصوا على أنه إذا أشرفت سفينة عل الغرق، وكانت سلامتها في إلقاء بعض ركابها، فلا يجوز أن يقرع على طرح أحد الركاب في البحر لإنقاذ البقية. كذلك لا يحل لمن أصابته مخمصة أن يأكل لحم إنسان حي لينقذ نفسه من الموت: البدائع: 7/177، المبسوط: 24/76، كشاف القناع: 4 /118، أحكام القرآن للجصاص: 3/378، أحكام القرآن لابن العربي: 4/ 1611.

ص: 1429

ولكن يحتمل القول بجواز الأخذ من جسد الجنين في حالة الضرورة بمعناها الاصطلاحي الدقيق؟ بأن يترتب على ذلك إنقاذ آدمي مشرف على الموت، أو إنقاذ طرف من أطراف إنسان آخر أو حاسة من حواسه، ويمكن قياس ذلك على ما ذهب إليه فريق من الفقهاء المسلمين من جواز أكل المضطر من جثة آدمي ميت (1) وإذا كانت الضرورة هي مستند هذا الاتجاه، فلا بد عندئذ من مراعاة شروطها بأن لا يكون هنالك سبيل آخر لدفعها، وأن تكون حالة، بأن يكون الضرر واقعاً أو على وشك الوقوع، وأن يكون الأخذ من الجنين الميت والزرع في المريض المشرف على الهلاك الكلي أو الجزئي موصلاً إلى النجاة أو الشفاء في غالب الظن. وبغير هذه الشروط الثلاثة لا يجوز الأخذ من الجنين الميت.

ومقتضى قاعدة الضرورة أن لا يشترط استئذان الوالدين في ذلك، ولا شك في أن أخذ إذنهما وتطييب خاطرهما أمر مستحسن.

(1) التاج والإكليل للمواق: 2/ 254، المغني: 11/ 79، 89، المجموع: 9/ 36، حاشية قليوبي وحاشية عميرة: 4/262، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 1/ 95.

ص: 1430

المطلب الثالث

الحكم الشرعي للانتفاع بالجنين قبل نفخ الروح فيه

الجنين الذي لم تنفخ فيه الروح له أربع صور:

الأولى - أن يكون في بطن أمه حياً.

الثانية - أن يكون خارج البطن حياً ويمكن في الواقع والشرع غرسه في رحم أمه.

الثالثة - أن يكون خارج البطن حياً ويمنع تطوره مانع واقعي أو شرعي.

الرابعة - أن يكون ميتاً فقد ما أودع فيه من قوى النمو والتطور سواء كان في البطن أو خارجه.

وقد تبين من المطلب الذي عقدناه لبيان حقيقة الانتفاع بالجنين أن الصورة الثالثة تلتحق بالصورة الرابعة؛ من حيث إن الجنين في كل منهما فاسد، فهو في الرابعة فاسد حقيقة، وهو في الثالثة فاسد حكما.

لذلك فإن هذا المطلب سيتفرع إلى ثلاثة أفرع:

الفرع الأول

حكم الأنتفاع بالجنين الحي في بطن أمه

الانتفاع بالجنين الحي الموجود في رحم أمه، بأخذ عضو منه أو بإجراء التجارب عليه - على النحو الذي بيناه في المطلب الأول من هذا المبحث - يقتضي إسقاطه من بطن أمه. والبحث عن حكمه مرتبط بمعرفة حكم إجهاض الجنين قبل نفخ الروح؛ وفيما يأتي نبين باختصار أقوال الفقهاء في ذلك والرأي الراجح:

حكم الإجهاض قبل نفخ الروح:

اختلف فقهاء الإسلام في حكم إجهاض الجنين قبل نفخ الروح فيه على عدة أقوال:

القول الأول - إباحة الإجهاض في أي وقت قبل نفخ الروح. وقد قال بهذا القول معظم فقهاء الحنفية وجمهور الشافعية (وهو المعتمد عندهم) وابن عقيل من الحنابلة (1)

(1) شرح فتح القدير: 2/495، حاشية ابن عابدين: 1/302، حاشية قليويي على شرح المحلى: 3/159، 160، نهاية المحتاج: 8/416، حاشية الجمل على شرح المنهج: 5/491، الإنصاف: 1/ 386.

ص: 1431

الفول الثاني - تحريم الإجهاض في جميع مراحل الجنين قبل نفخ الروح، وهو قول معظم فقهاء المالكية، وبعض فقهاء الحنفية والغزالي من فقهاء الشافعية وابن الجوزي من فقهاء الحنابلة (1) وصرح بعض هؤلاء أن التحريم مقيد بعدم وجود العذر، فإن وجد عذر أبيح الإجهاض (2)

القول الثالث - إباحة الإجهاض في مرحلتي النطفة والعلقة (أي في الأيام الثمانين الأولى من عمر الجنين) ، وتحريمه في مرحلة المضغة، (أي في الأيام الأربعين السابقة لنفخ الروح) ، وهو قول بعض الشافعية (3)

القول الرابع - إباحة الإجهاض في مرحلة النطفة (أي في الأيام الأربعين الأولى) ، وتحريمه في مرحلتي العلقة والمضغة، وهو قول معظم فقهاء الحنابلة واللخمي من فقهاء المالكية (4)

ويظهر أن حجة الفريق الأول والثالث تقوم على أن الجنين قبل نفخ الروح لا يكون آدمياً (5) وأن هذا النفخ لا يقع إلا بعد مائة وعشرين يوماً من تكون الجنين. وإنما استثنى الفريق الثالث الأربعين الأخيرة منها احتياطاً لما قد يقع من الخطأ في تحديد عمر الجنين، فجعلها حريماً للروح (6)

وأما القائلون بالتحريم في جميع المراحل فحجتهم أن الجنين قبل نفخ الروح مخلوق فيه قابلية لأن يصبح آدمياً وأنه أصل للآدمي، فيحرم إتلافه، كالمحرم لا يحل له أن يكسر بيض الصيد؛ لأن البيض أصل الصيد، فكذلك لايحل إتلاف أصل الأدمي (7)

وأما أصحاب القول الأخير، فيظهر من أقوال بعض علمائهم أنهم إنما قصروا الإباحة على الأربعين؟ لأنهم كانوا يظنون أن الجنين لا ينعقد قبل ذلك (8)

(1) حاشية ابن عابدين: 6/950، 591، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 2/267، حاشية الرهوني على شرح الزرقاني: 3/264، فتح العلي المالك: 1/399، إحياء علوم الدين: 2/53، الإنصاف: 1/ 386، تنظيم النسل للطريقي: 184، 185.

(2)

فتح العلي المالك: 399/1، حاشية ابن عابدين: 6/ 1 59.

(3)

تحفة الحبيب على شرح الخطيب: 3/303.

(4)

فتح العلي المالك: 1/ 399، الإنصاف: 1/ 386، الفروع: 6/191.

(5)

حاشية ابن عابدين: 1/302، تنظيم النسل: ص 192.

(6)

نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: 8/416.

(7)

حاشية ابن عابدين: 6/ 590، 591، إحياء علوم الدين: 2/53.

(8)

جامع العلوم والحكم: ص 46.

ص: 1432

والراجح – حسبما يغلب على ظني – أن الأصل هو تحريم الإجهاض قبل نفخ الروح، ولكنه تحريم غير مطلق، وإنما يخضع لقاعدة الضرورات، والقاعدة التي توجب الأخذ بأعظم المصلحتين ودفع أعظم المفسدتين. وليس كتحريم الإجهاض بعد نفخ الروح الذي هو تحريم مطلق لا يخضع لقاعدة الضرورة، ولا يدخل في الموازنة عند التعارض مع مصالح أخرى.

فأما توجيه الحكم الأصلي، وهو التحريم، فهو ما ذكرنا في حقيقة الجنين قبل نفخ الروح، وأنه مخلوق نافع يتدرج في مدارج التأهيل لاستقبال الروح واكتساب الهوية الآدمية في مرحلة معينة، وذلك ما دامت فيه حياة النمو والتطور، ولا يمنع من تطوره مانع واقعي أو مانع شرعي بحسب ما وضحناه فيما سبق، فيكون إفساده عملاً ضاراً محرما.

وأما توجيه عدم الإطلاق في تحريمه، وخضوعه لقواعد الضرورة والمصلحة؟ فلأنه ليس ادمياً، وإيقاف حياته لا يعتبر قتلاً لآدمي، على التحقيق الذي سبق، وإنما هو إتلاف لمخلوق نافع. وإفساد ما ليس بأدمي من الأشياء النافعة قد ينتقل إلى دائرة الإباحة إذا غلب على الظن تحقيق مصالح أعلى من المصالح التي تفوت بإتلافه، أو دفع مفاسد أعظم من المفاسد التي تقع بإتلافه.

وهذه النتيجة التي توصلنا إليها في حكم إجهاض الجنين قبل نفخ الروح تسلمنا إلى البحث في مصالح التصرفات التي نبحث عن حكمها ومفاسدها، والموازنة بينها.

مفاسد تلك التصرفات:

ا - المفسدة الأولى المتبادرة من استخدام الأجنة في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية هي مفسدة إتلاف الجنين؟ بمعنى أن ذلك يمنع من تمام إعداده ليكون مركباً صالحاً للروح.

2 -

والمفسدة الثانية التي تترتب على تلك التصرفات هي المعاناة التي تصيب أم الجنين من. جراء إسقاطه.

3 -

والمفسدة الثالثة هي كشف عورة المرأة التي يراد أخذ الجنين منها.

4 -

والمفسدة الرابعة هي المساس بكرامة الآدمي؛ وذلك من جهتين:

الأولى: جعل مادة جسده محلاً للقطع والتشريح والتجارب.

والثانية: أن تلك التصرفات يمكن أن تتخذ ذريعة للمتاجرة بأعضاء الأجنة، واستعمالها لأغراض لا تليق بكرامة الإنسان.

ص: 1433

مصالح تلك التصرفات:

يذكر الأطباء مصالح كثيرة تترتب على زراعة أعضاء الأجنة، وإجراء التجارب عليها، يعود معظمها إلى علاج أمراض مستعصية، أو الوقاية منها، إما مباشرة باستعمال بعض أجزاء الجنين أو خلاياه، وإما بصورة غير مباشرة، بالتوصل إلى معارف طبية تمكن الأطباء من العلاج والوقاية.

ومما ذكره الأطباء من المنافع التي يمكن تحصيلها في هذا المجال:

1 -

معالجة بعض الأنواع من الأمراض العصبية الخطيرة، وبعض أمراض المناعة، وبعض الأنواع من مرض السكري، وبعض أنواع العقم عند الرجال، وبعض أنواع الحروق.

2 -

الوقاية من الإجهاض التلقائي، ومن بعض العيوب والأمراض الوراثية.

3 -

استخراج أنواع من العقاقير والأدوية واللقاحات المفيدة في العلاج والوقاية.

4 -

الوصول إلى معارف تشريحية عن الإنسان تساعد بصورة فعالة في اكتشاف كثير من الأمراض وعلاجها.

وهنالك فوائد أخرى يذكرها الأطباء، ويمكن الرجوع إليها في كتبهم وأبحاثهم (1)

(1) انظر بحث "إجراء التجارب على الأجنة المجهضة" للدكتور محمد علي البار: ص 1، 5، 21، وبحث (انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر) للدكتور محمد أيمن صافي: ص 15، 16، وبحث (الاستفادة من الأجنة المجهضة) للدكتور مأمون الحاج: ص 5.

ص: 1434

الموازنة بين مفاسد تلك التصرفات ومصالحها:

تقتضي عملية الموازنة بين مفاسد تصرف ما ومصالحه نصب ميزان له كفتان، يوضع في إحدى كفتيه ما يراد وزنه من مفاسد أو مصالح، ويوضع في الكفة الأخرى المعايير التي توزن بها تلك المفاسد والمصالح، ثم يقارن بين النتائج، ليعرف أيهما أعظم أثراً على الإنسان، ثم يحكم بعد ذلك على التصرف بالنظر إلى نتائج المقارنة، فلنبدأ بتحديد المعايير التي يوزن بها:

هنالك معياران يتخذهما أهل العلم والاجتهاد لمعرفة قيم المصالح والمفاسد: معيار نوعي هو الأهم، ومعيار كمي:

فأما الأول فهو تحديد نوع المقصد الشرير الذي تتعلق به المفسدة أو المصلحة، هل هو ضروري أم حاجي أم تحسيني.

وأما الثاني فهو تحديد كمية المتضررين من الناس من جراء وقوع المفسدة أو ترك المصلحة، وكمية المنتفعين من جراء دفع الأولى وتحقيق الأخرى. وذلك بالنظر إلى عدد الناس المتضررين والمنتفعين إن كان محصوراً أو غير محصور.

المعيار الأول:

يرى علماء الشريعة أن أحكامها ترجع إلى تحقيق مقاصد الشارع في الخلق وحمايتها. وأن هذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: أحدها أن تكون ضرورية، والثاني أن تكون حاجية، والثالث أن تكون تحسينية. ويقول الشاطبي في تحديد مفاهيم هذه الأقسام:

(الضرورية معناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين

ومجموع الضروريات خمسة وهي: حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل

وأما الحاجيات فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع دخل على المكلفين - على الجملة - الحرج والمشقة

كإصابة الصيد والتمتع بالطيبات مأكلاً ومشرباً وملبساً ومسكناً ومركباً وما أشبه ذلك

وأما التحسينيات فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق) (1)

(1) الموافقات: 2/8، 11، وانظر أيضاً مصادر التشريع الإسلامي ومناهج الاستنباط للدكتور محمد أديب صالح ص 466، 470.

ص: 1435

وبالنظر في الأساس الذي بنى عليه العلماء ذلك التقسيم يتبين أنه مقدار الحرج الذي يقع على الإنسان بسبب فقد المصلحة أو وقوع المفسدة؟ فما فوت الحياة أو أفسد نظامها كان متعلقاً برتبة الضروريات، وما أدى إلى حرج أقل من ذلك أو مشقة لاحقة كان متعلقاً برتبة الحاجيات، وما لم يترتب عليه حرج، وإنماا فوت على الملكف وضعاً أحسن كان متعلقاً برتبة التحسينيات.

المعيار الثاني:

يقوم هذا المعيار على أساس النظر إلى عدد الناس المتضررين من ترك المصلحة أو وقوع المفسدة، وقد قرر العلماء أن ما كان من المصالح والمفاسد أعم وأشمل كان أولى بالاعتبار طلباً أو دفعاً (1) كما قرروا أن الحاجة إذا عمت صارت في منزلة الضرورة (2)

وبعد تحديد المعايير التي توزن بها المصالح والمفاسد، نشرع في وزنها في ضوء ما سبق:

وزن المفاسد:

أعظم مفسدة تذكر لاستخدام الأجنة في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية هي مفسدة إتلاف الجنين. فما قيمتها إذا وضعناها في الميزان في ضوء المعيارين السابقين؟

وفي الجواب عن هذا السؤال لا بد أن نشير أولاً إلى ما دل عليه الشرع واتفق عليه علماء الشريعة حسبما أسلفنا من أن إتلاف الجنين قبل نفخ الروح فيه لا ينطوي على إزهاق روح، ولا على إفساد جزء من جسد تستخدمه روح آدمية، لأن الجنين في هذه المرحلة لا روح فيه، ولا يعتبر آدمياً؛ فهذا العمل إذن ليس قتلاً لآدمي، ولا إيذاء لآدمي في ذاته، ومن هذه الجهة لا يعتبر تفويتاً لحياة إنسانية، ولا يترتب عليه حرج غير محتمل، ولا يجعل حياة الأم والأب فاسدة أو مختلة؛ نظراً لأن هذا الأمر يكون برضاهما، ولا يسمح به إلا بهذا الشرط كما سيأتي، وإذنهما هنا من أهم الأمور في تحديد قيمة هذه المفسدة؟ لأن الحاجة إلى الولد نسبية، وتختلف قيمتها باختلاف الناس، وباختلاف شوقهم ورغبتهم في تحقيقها، ويتدخل في تحديدها ظروف الزوجين كليهما، وقد لا تكون لهما حاجة في الولد، لكثرة أولادهما أو لأسباب أخرى، وإنما يعبر عن تلك الحاجة الرغبة المشتركة بين الطرفين، فإن أذنا بإسقاط الجنين من أجل تحقيق مصلحة صحية لشخص آخر أو للناس عامة دل ذلك على أن حاجتهما إلى الولد ضعيفة أو منعدمة. وأما إجبارهما على ذلك فقد يكون فيه تفويت لضرورة من الضرورات؟ فليست هذه الصورة مما نتكلم عنه.

(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 87.

(2)

الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 88.

ص: 1436

ومما تقدم يتبين أن إتلاف الجنين الذي لم تنفخ فيه الروح إذا كان بإذن أبويه ليس فيه تفويت لمصلحة ضرورية ولا حاجة تخص الجنين أو والديه.

وأما مفسدة كشف عورة المرأة المتبرعة، فتحديد مرتبتها أيسر من سابقتها؟ وذلك أن كلمة العلماء متفقة على أن ستر العورة يقع في رتبة التحسينيات، ومفسدة كشفها أقل في رتبتها من مفاسد كثير من الأمراض العادية، فضلاً عن الأمراض المستعصية؟ حتى أذن الشارع بتحملها للعلاج، ولأعذار أخرى (1)

وأما مفسدة المساس بكرامة الآدمي فأغلب الظن أنها مفسدة مبالغ فيها إذأ صيغت على النحو السابق؛ لأن الجنين في هذه المرحلة ليس آدمياً ولا جزءاً من آدمي، كما بينا في المطلب الأول من هذا المبحث. وأصل كرامة الآدمي ما نفخ فيه من روح، هي الذات الحية العاقلة التي تمنحه جميع خصائصه المتميزة، مما جعل مكانته في قمة مراتب المخلوقات.

ومن جهة أخرى فإن معنى المساس بالكرامة الآدمية يتوقف وجوده على القصد من الأفعال التي فعل بالآدمي؛ حتى إن الفعل الواحد قد يوصف بأنه مهين للإنسان ومسيء إلى كرامته، وقد لا يوصف بذلك، تبعاً لقصد فاعله وغايته من فعله، فإن كان قصده التمثيل والتشنيع والإهانة كان عملاً مسيئاً للكرامة الآدمية، وإن تجرد قصده عن ذلك، واتجه إلى تحقيق مصالح معتبرة لبني آدم لم يكن في ذلك اساءة للكرامة الإنسانية؟ ألا يرى أن الاجتهاد المعاصر قد استقر على جواز التبرع ببعض أعضاء الآدمي، وأجاز إجراء التجارب والبحث على الدم والمني وتشريح الجثث الآدمية لأغراض علمية وغيرها، ولم يقف معنى الكرامة حائلا دون ذلك الاتجاه.

وأما مفسدة فتح الباب أمام الاستغلال وإساءة التصرف في أجزاء الأجنة، فهذا أمر لا ينشاً عن ذات التصرف محل البحث، وإنما عن الانحراف في ممارسته، وكل مباح يمكن أن يساء استعماله، فلا يكون ذلك سبباً في التحريم، وإنما يكون حافزاً على أخذ الاحتياطات العملية عند التنفيذ، فإن أحداً لا يستطيع أن يزعم بأن الأعمال الطبية، وهي أعمال موضوعها الجسد الإنساني، كلها محرمة، مع أنها في معظمها يمكن أن يساء استعمالها، فالنساء يلدن في المستشفيات والاحتمال قائم في اختلاط المواليد، والمرأة تمرض وتحتاج إلى العلمية الجراحية، والاحتمال قائم في استغلالها وأخذ بيضاتها وهي تحت التخدير لا تدري شيئاً، والحيوانات المنوية تؤخذ من الرجال لإجراء الفحص عليها في كثير من الحالات المرضية مع قيام الاحتمال باستعمالها في أغراض محرمة، ولا يكاد عمل من أعمال الأطباء الذي يكون محله الآدمي إلا ويدخله احتمال الاستغلال وإساءة التصرف، ولا أحد يقول بتحريم العلاج وإجراء العمليات الجراحية ونحو ذلك. والمخرج في ذلك كله هو تقييد المباحات التي تحتمل الاستغلال، والاحتياط لها في الواقع بالقيود التنفيذية، والمراقبة الفعالة، ومنع التعرف في ممارستها بالتشريعات الدقيقة الجامعة المانعة، وإلا فإن هذا يدخل كل باب ويؤول إلى التضييق على العباد.

(1) انظر: قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 1/ 115، والموافقات للشاطبي: 2/ 11.

ص: 1437

ولو أن إجراء عمليات أخذ الأعضاء وزرعها، والاختبارات التي يكون محلها الجنين وأجزاء الإنسان، لو أن ذلك ضبط من حيث المراكز التي تقوم به، ومنع من ممارسته في غير هذه المراكز، وخصص لها من أجهزة الرقابة المكونة من أهل الشرع وأهل الاختصاص، وكان ذلك على مستوى مقبول من الجدية والشمول، لما وقعت تلك المفاسد الناشئة عن الاستغلال واساءة الاستعمال. كذلك يغلب على ظني أن تحريم مثل تلك التصرفات لن يحول دون تلك الممارسات الخاطئة.

وخلاصة الرأي في قيمة ما ذكر من مفاسد التصرفات محل البحث أن شيئاً منها لا يعدو مرتبة التحسينيات، وأن بعضها موهوم أو مبالغ فيه.

تلك هي قيمة المفاسد بحسب المعيار الأول، وأما بحسب المعيار الثاني، فإن الضرر في المفسدة الأولى وهي إتلاف الجنين وتفويت فرصة تكون الولد إنما يقع على الأبوين، والمفروض أنهما أذنا بذلك. والمفسدة الثانية تختص بالأم، وكذلك الثالثة. وأما المفسدة الرابعة في شقها الأول، وهي ما قيل من الإساءة إلى كرامة الآدمي بالتصرف في مادة جسده بالقطع والتشريح، فقد تقدم أنها مفسدة موهومة، ولا مجال لوصفها بالعموم أو بالخصوص. وكذلك هي في الشق الثاني منها، لما تقدم أنها لا تنشاً عن التصرف ذاته، وأنه يمكن الاحتياط لها وسد بابها أو التخفيف منها.

وزن المصالح:

المصالح التي ذكرها الأطباء لاستخدام الأجنة في زراعة الأعضاء في التجارب العلمية، والتي سبقت الإشارة إليها، يقع بعضها في رتبة الضرورات، وبعضها في رتبة الحاجيات، وبعضها في رتبة التحسينيات، وبعضها أقل من ذلك، ويقع في مرتبة الزينة أو مرتبة الفضول (1)

ومثال الأولى ما يذكرونه من علاج بعض الأمراض المستعصية الخطيرة، كبعض الأمر اض العصبية العويصة، مثل مرض الشلل الرعاشي (الباركنسونزم) ، ومرض الخرف المبكر (الزهايمر) ، ومرض رقص هنتنجتون (2) ؛ فإن هذه الأمراض تسبب لأصحابها حرجاً عظيما، وتفسد عليهم حياتهم، وإن لم تفوتها بالكلية. وبالرغم من عدم إطلاعنا على التفصيلات الكافية لإبراز خطورة بعض الأمراض الأخرى التي يمكن معالجتها بأجزاء الأجنة المجهضة، كبعض الأمراض التي تصيب جهاز المناعة في الصغار، وبعض أنواع مرض السكري، وبعض أنواع الحروق، وغيرها، فإنا لا نستبعد أن تصل في خطورتها إلى مرتبة الضروريات، ولا نظن أنها تتدانى عن مرتبة الحاجيات.

(1) يقصد بمرتبة الزينة مرتبة التوسع في المشتهيات المباحة، كاشتهاء الأطعمة اللذيذة ولبس الأثواب الفاخرة، ويقصد بمرتبة الفضول التوسع بأكل الحرام أو اتخاذ ما فيه شبهة ذكر هاتين المرتبتين الزركشي في "المنثور في القواعد": 2/319، 320.

(2)

انظر بحث: "إجراء التجارب على الأجنة المجهضة " - محمد علي البار: ص 5.

ص: 1438

وكذلك فإنا نظن أن ما يذكره الأطباء من أنواع المعارف التي يحصلون عليها من إجراء التجارب على الأجنة، وتكون سبباً في الوقاية من بعض الأمراض والعيوب. التي تنغص على الإنسان حياته، تلك المعارف لا تقل عن مرتبة الحاجيات وقد تنزل منزلة الضروريات بسبب اتصافها بصفة الشمول، وعموم نفعها على جنس الإنسان. ومثال ذلك ما يذكرونه من تحصيل المعارف المؤدية إلى الوقاية من الإجهاض التلقائي وبعض أنواع العقم عند الرجال، وبعض المعارف التي توصل إلى طرق لتعجيل اكتشاف الأمراض الوراثية والتشوهات الخلقية الخطيرة، فتمكن الأطباء من معرفة وجودها في الجنين قبل نفخ الروح فيه، فإن تلك الآفات شديدة الخطورة، وتتسبب في موت المولود بعد الولادة بأيام أو أشهر، وإن عاش معها أكثر من ذلك عاش حياة متخلفة سقيمة، وتشخيص حالاتها في الوقت الراهن لا يمكن أن يتم إلا بعد الأسبوع السادس عشر، كما يقول أهل الاختصاص (1) أي بعد نفخ الروح أو قبله بقليل، والراجح جواز إسقاط الأجنة المصابة بها إذا عرفت قبل نفخ الروح، ويمتنع المفتون - بحق - عن الإفتاء بجواز إسقاطها بعد نفخ الروح؛ فإن الآفات المذكورة تفوت على قطاع كبير غير محصور من البشر حاجات كبيرة، وتسبب لهم حرجاً شديداً، وإنقاذهم منها تلبية لتلك الحاجات ودفع لذلك الحرج.

وكذلك يمكن أن يقال فيما ذكره الأطباء من تحصيل بعض العقاقير واللقاحات والمضادات المفيدة في العلاج والوقاية من أمراض تنتشر بين الناس، ولا ترجى الوقاية منها بغير ذلك.

نعم يذكر بعض الأطباء أن الأجنة المجهضة قد تستعمل لتحصيل منافع تقل في قيمتها عما تقدم، وربما كانت من التحسينيات، أو أقل منها، وربما كانت من باب التوسع في تلبية شهوة البحث العلمي

، ولا تؤدي إلى منافع عملية، وربما كانت من قبيل التوسع في طلب مشتهيات الإنسان، كاستخراج يعض مستحضرات التجميل من الأجنة (2) فهذه لا شك في أنها منافع هابطة القيمة، ومصالح ملغاة، ولا تستحق أن توضع في كفة الميزان في مقابلة ما ذكرنا من مفاسد اجهاض الأجنة التي لم ينفخ فيها الروح.

(1) انظر مقالاً للدكتور نجم عبد الله عبد الواحد في مجلة المجتمع عدد 935 الصادر في 3 أكتوبر 989ام تحت عنوان: "إجهاض الأجنة المريضة وراثياً أو المشوهة خلقياً": ص 50 - 53.

(2)

انظر بحث: " انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر" للدكتور محمد أيمن صافي: ص 21.

ص: 1439

تلك هي قيمة المصالح المذكورة بحسب المعيار الأول. وأما بحسب معيار العموم وعدمه، فإن طائفة منها مصالح خاصة - بلا شك - ولكنها كما ذكرنا قد تكون في مرتبة الضرورات أو الحاجيات، وكثير منها مصالح عامة يستفيد منها أناس غير محصورين، وبعض منها تافه من حيث نفعه للإنسان، وإن اصطبغ بصبغة الشمول.

نتيجة الموازنة:

بالنظر في مؤشر الميزان الذي نصبناه لوزن المفاسد والمصالح التي تذكر لاستخدام الأجنة المجهضة في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية، ومقارنة ما أشار إليه في كل منهما، يتبين أن مصالح هذا التصرف تتفوق على مفاسده من حيث الجملة. وأما من حيث التفصيل فينبغي أن ينظر إلى كل حالة بخصوصها، وإلى قيمة المصالح التي هي مظنة لتحقيقها، ومقارنتها بما سبق ذكره من المفاسد؟ لما تقدم ذكره من تفاوت مصالح ذلك التصرف بحسب الحالات والأهداف، واقتصار بعض حالات استخدام الأجنة على مصالح تحسينية، أو منافع قليلة الأهمية لا تخدم أي مقصد شرعي. فإن كانت الحالة واقعة في هذا التصوير الأخير كانت مفاسدها أعظم من المنافع التي تحققها، وكانت مستثناة من تلك القراءة الإجمالية لمؤشر الميزان.

ولذلك نرى أن الحكم الشرعي لذلك التصرف ينبغي أن يأخذ ذلك المنحى، فيقال بجواز استخدام الأجنة التي لم تستقبل الروح بعد في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية، وجواز إسقاطها لهذا الغرض من حيث الجملة، مع ضرورة النظر إلى كل حالة على حدة ليستبعد من هذا الجواز الحالات التي تقتصر على مصالح تحسينية أو أقل منها. ومع هذا ينبغي أن يتفطن إلى أمر آخر عندما يراد معرفة حكم شرعي عملي مبناه على أساس شرعي نظري، وهو وجود بعض الأمور والاعتبارات الواقعية التي تفرض نفسها على الباحث عن ذلك الحكم العملي، وتوجب عليه مراعاتها؟ وذلك من باب طلب الدقة والاحتياط. ومن ذلك:

ا - الأساس النظري الذي بنينا عليه تحديد المفاسد وقيمتها هو ما توصلنا اليه من حقيقة الجنين قبل نفخ الروح، وأنه ليس آدمياً، وأنه مخلوق فيه نوع في الحياة تختلف عن الحياة التي تفيضها الروح على الجسد بعد اتصالها به، فتجعله إنسانا. وأن هذا الاتصال بين جسد الجنين والروح الإنسانية إنما يحدثه الله تعالى بعد تمام مائة وعشرين يوماً من تكون الجنين. فاقتضى ذلك من الناحية النظرية أن يكون محل ما ذكرناه من الحكم الإجمالي هو الجنين الحي بذلك النوع من الحياة، الذي لم يبلغ من عمره ذلك الزمن. وهذا يقتضي أن يعرف بيقين أن الجنين لم يبلغ بعد مائة وعشرين يوماً.

ص: 1440

ولكن جميع الطرق المعروفة اليوم لتحديد عمر الجنين ما زالت تقريبية، سواء ما اعتمد منها على إخبار الحامل ببدء حملها وحصول إلقاحها، أو بتاريخ آخر حيض رأته، وما اعتمد منها على القياسات الطبية، فإن ذلك كله يدخله احتمال الخطأ (1) ؛ لذلك وجب أن تجعل فترة احتياطية قبل تمام المائة والعشرين يوماً تكون حريماً للروح، وسياجاً زمنياً لها، بحيث تعطى الجنين فيها حكم الجنين الذي قطع بنفخ الروح وأما تحديد هذه المدة باليوم أو بالأسبوع ونحو ذلك، فإني غير مؤهل له بلا شك، ولكن يمكن تقييدها بقيدين اثنين، وعلى ضوئهما يمكن لأهل الاختصاص تحديدها:

القيد الأول: أن يستبعد من وسائل تقدير عمر الجنين تلك الطرق التي تعتمد على إخبار المرأة، لما قد يرد عليه من احتمالات الخطأ والتضليل، وإنما ينبغي أن تعتمد على أدق الوسائل العلمية في تحديد ذلك، ولا بأس بأن يستأنس بإخبار المرأة دون الاعتماد عليه.

القيد الثاني: أن لا يكون خلاف بين أهل الاختصاص في عدم إمكان وقوع خطأ في تقدير عمر الجنين يساوي الفترة الاحتياطية المقترحة أو يزيد عليها؛ فلو ذهب معظم أهل الاختصاص من الأطباء إلى أن الخطأ في تقدير عمر الجنين في الأشهر الأربعة الأولى قد يصل إلى عشرين يوماً ولا يتجاوزها، ورأى بعضهم أن الخطأ قد يتجاوز ذلك، وجب أن لا يؤخذ بها لتحديد فترة حريم الروح، ولكن يجب أن يؤخذ بالحد الأعلى الذي لا خلاف حوله.

وقد يقال: إن الأحكام العملية تبنى على غلبة الظن كما قرر علماء الأصول (2) والوسائل العلمية الدقيقة مع المعلومات التي تعطيها الأم عن بدء الحمل تكفي لتوليد غلبة ظن قوي بصحة عمر الجنين، وينبغي أن تبنى عليها الأحكام، وأن لا ينظر إلى الحالات الشاذة التي قد يحدث فيها الخطأ.

والجواب أن مجال الأرواح البشرية من المجالات التي تراعى فيها الشبهات، ويكون لها أثر في تغيير الأحكام لصالح الإبقاء على تلك الأرواح، والخطأ في تقدير عمر الجنين في هذا المقام قد يؤدي إلى إزهاق روح نفخت في ذلك الجنين الذي وقع الخطأ في تقدير عمره. ووجود احتمال هذا الخطأ مهما كان ضعيفاً يعتبر شبهة محرمة. ومن المعلوم أن مبدأ اعتبار الشبهات في الأحكام مبدأ مسلم به في باب العقوبات الشرعية المقدرة، حيث تقوم فيها غلبة الظن على وقوع موجباتها، فيهدرهذا الظن القوي ويعتبر فيها الاحتمال الضعيف، ويدرأ العقاب الشديد عن المجرم. فإذا كان كذلك فإن الأخذ بهذا المبدأ والاحتياط لروح الجنين أولى؟ لأن الجنين هنا على فرض وقوع الخطأ في تقدير عمره، وسبق نفخ الروح فيه، إنسان معصوم، ولم يرتكب شيئاً يستوجب العقاب، فالاحتياط له أولى، فلا ينبغي أن يقال بجواز إسقاط الجنين لأي عذر أو مصلحة إلا إذ احصل اليقين بأن الروح لم تتصل بجسده بعد، وأنه لم يبلغ مائة وعشرين يوماً، وحيثما قال الأطباء: إن هنالك احتمالاً – مهما كان ضعيفاً – ببلوغ الجنين ذلك العمر، فيجب استثناؤه من حكم الجواز.

(1) انظر كتاب "خلق الإنسان بين الطب والقرآن " – محمد علي البار: ص 411 وما بعدها، وانظر أيضاً في كيفية تقدير عمر الجنين كتاب (تطور الجنين وصحة الحامل " – محي الدين العلبي: ص 223 وما بعدها.

(2)

انظر كتاب: 5 المنخول من تعليقات الأصول لأبي حامد الغزالي: ص 327.

ص: 1441

هذا وقد انتبه أحد فقهاء الشافعية لهذا المعنى، وهو بصدد الكلام عن حكم الإجهاض، ورأى أن الأصل وإن كان إباحة الإجهاض قبل نفخ الروح، فإنه ينبغي أن يحرم في الأيام الأربعين السابقة لنفخ الروح، واقتصر في الاستدلال لذلك بأن هذه الفترة ينبغي أن تعتبر حريماً للروح (1)

فإذا اتفق أهل الاختصاص على تحديد المدة الاحتياطية أضيفت هذه المدة إلى عمر الجنين الذي تدل عليه الوسائل العلمية، فإذا بلغ الناتج مائة وعشرين يوماً عومل هذا الجنين معاملة الآدمي الحي، وحرم إسقاطه واستخدامه في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية.

وأما إذا لم تتفق الأوساط الطبية على تحديد مدة الاحتياط، فإنا نميل إلى ما ذهب إليه ذلك الفقيه الشافعي من اعتبار مرحلة المضغة كلها حريماً للروح، ومعاملة الجنين فيها كما لو بلغ مائة وعشرين يوماً بالفعل، وتحريم مساسه بأي أذى ومهما كان في هذا التحديد من المبالغة، فإنه خير من وقوع خطاً واحد تذهب فيه روح آدمي؟ فإنه من قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا. والخطأ في تفويت المصالح التي يتوقع تحقيقها من استخدام الأجنة في الزراعة والتجارب أهون في ميزان الله تعالى من الخطأ في ازهاق روح الآدمي.

2 -

ومن الأمور الواقعية التي تستحق أن يأخذها الباحث بعين الاعتبار، وهو يبحث عن الحكم الشرعي لاستخدام الجنين في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية، المرحلة التطورية التي يكون الجنين قد وصل إليها بحسب إفادة الأطباء، بحيث تكون المصالح التي توضع في مقابلة إسقاط الجنين متناسبة مع المرحلة التي وصل إليها في تطوره الجسدي، وقربه أو بعده من لحظة كمال التخلق حيث تتصل به الروح مباشرة بحسب سنة الله عزوجل، فينبغي أن تكون المصالح التي تبيح إسقاط الجنين في مراحله القريبة من لحظة نفخ الروح قبل الدخول في مدة حريمها في مرتبة أعلى من تلك التي تبيح إسقاطه في المراحل البعيدة عن تلك اللحظة.

(1) صاحب هذا الرأي هو الرملي ذكره في نهاية المحتاج: 8/416.

ص: 1442

وتأصيل ذلك أن الجنين قبل نفخ الروح فيه مخلوق حي في طور الإعداد لاستقبال الروح الإنسانية، والشأن في كل شيء يعد لغيره أن تتعاظم قيمته مع اقترابه من نقطة الكمال الإعدادي، كالبيت يعد لساكنه، يكون إعداده على مراحل، وكلما اقترب من لحظة التهيئة التامة كلما غلت قيمته، وكلما ابتعد عنها تناقصت؟ فالجنين في مرحلة المضغة يكون أعلى قدراً وأعظم قيمة منه في مرحلة العلقة، وهو في هذه المرحلة أعلى قدراً من مرحلة النطفة. وكل مرحلة من هذه المراحل تشتمل على درجات بحسب تقدم الجنين فيها.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المصالح، وإن صنفها العلماء المسلمون إلى ثلاث رتب هي الضروريات والحاجيات والتحسينيات، فإن كل رتبة منها تتفاوت مصالحها في القدر؟ فليس كل الضروريات سواء وليس كل الحاجيات سواء، وكذلك التحسينيات.

ولهذا فإن الدقة في التشريع لهذا الأمر تقتفي أن تقام مصالح استخدام الأجنة في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية على المراحل التطورية للجنين قبل أن تنفخ فيه الروح، ويمكن بقيام تعاون جدي بين علماء الشرع وعلماء الطب المسلمين، ودراسة متعمقة من الناحيتين العملية والنظرية، تصنيف تلك المصالح بصورة تفصيلية ودقيقة إلى فئات وزمر، على أساس ما يدفع بها من حرج عن الناس، وتصنيف مراحل الجنين على أساس ما يطرأ عليه من تغيرات هامة، ثم تقسيم فئات المصالح وزمرها على مراحل الجنين قبل نفخ الروح، بحيث لا يصح إسقاطه في مرحلة من تلك المراحل إلا بالزمرة المخصصة له من المصالح أو بالزمرة الأعلى.

ص: 1443

والذي نستطيع قوله في غيبة ذلك التصنيف المأمول إن الجنين في مرحلة المضغة، إذا استثنينا منها المدة الاحتياطية (1)(حريم الروح) ينبغي أن يراعى لجواز استخدامه في زراعة الأعضاء وإجراء التجارب العلمية أن تكون المصالح المراد تحقيقها في مرتبة الضروريات، كإنقاذ مريض من مرض مهلك أو مرض متلف لأحد الأعضاء الهامة، أو مرض مزمن يجعل حياة المريض صعبة محرجة، ولا علاج لهذه الأمراض سوى أخذ بعض أجزاء الأجنة الحية.

وذلك لما يذكر الأطباء أن الجنين إذ ابلغ أول هذه المرحلة اكتمل تكوينه الجسدي، بما في ذلك دماغه، وأن ما يجري عليه بعد ذلك من التطور إنما هو من قبيل نضج الأعضاء المتكونة، ولا تحدث له إضافات جسدية جوهرية (2)

وأما في مرحلة العلقة، وهي المرحلة المتوسطة من عمر الجنين قبل نفخ الروح، ومدتها أربعون يوماً، فيمكن أن يشترط لجواز استخدام الجنين فيها لزراعة الأعضاء والتجارب العلمية، أن تكون المصالح المراد تحقيقها لا تقل عن مرتبة الحاجيات التي تنزل منزلة الضروريات؟ وذلك لأن هذه المرحلة، وإن لم يتم فيها تكون أعضاء الجنين، فإنها تتسم من أولها إلى آخرها بالنشاط التخلقي في جسد الجنين وبناء الأعضاء شيئاً فشيئاً (3)

وأما مرحلة النطفة، وبخاصة قبل علوق الجنين بجدار الرحم فيمكن الاكتفاء فيها بالحاجيات لإباحة الانتفاع به.

وأما المصالح التحسينئة، وما يقترب منها من أدق درجات المصالح الحاجية، فلا نظن أنها تصلح مسوغاً لاستخدام الأجنة المجهضة.

3 -

وهنالك اعتبارات أخرى تقتضي تسييج ما ذكرنا من جواز الاستفادة من الأجنة المجهضة بشروط موضوعية وقيود تنفيذية، سنرجىء ذكرها إلى المطلب التالي؛ لأن كثيراً منها يشترك فيه حكم هذه الصورة وأحكام الصور الأخرى التي لها في الفرعين الثاني والثالث من هذا المطلب.

(1) مدة مرحلة المضغة أربعون يوماً تسبق نفخ الروح. فإذا فرضت المدة الاحتياطية عشرين يوماً كان محل الحكم المذكور في المتن الفترة الباقية من الأربعين "20 يوماً"، والتى تقع قبل المدة الاحتياطية.

(2)

"خلق الإنسان بين الطب والقرآن": ص 352، 0353"تطور الجنين وصحة الحامل ": ص 132.

(3)

"تطور الجنين": ص 130، 132.

ص: 1444

الفرع الثاني

حكم الانتفاع بالجنين الحي الذي هو خارج رحم أمه

ولا يمنع مانع من غرسه فيه

صورة هذه الحالة أن يحدث تكوين الجنين خارج رحم الأم بتلقيح بيضتها في أنابيب الاختبار، ولا يوجد مانع واقعي أو شرعي يحول دون غرسه في رحم أمه، ليواصل تطوره.

والأصل في إتلاف هذه اللقيحة أو تركها حتى تفسد هو التحريم، ما دام الأمر كما افترضنا من عدم وجود المانع الذي يمنع من غرسها في الرحم، ولكن يمكن أن يرخص بإتلافها في سبيل تحصيل مصالح معتبرة؛ وذلك أن مفاسد إتلاف هذا الجنين تقل كثيراً عما ذكرنا من مفاسد تترتب على إسقاط الجنين في الصورة السابقة؛ فهو من جهة في أدق مراحله الإعدادية؛ لأنه في أبعد مدى عن زمن نفخ الروح. كما أن إتلافه لا يستلزم كشف العورات، ولا يتسبب بمعاناة جسدية للمرأة التي أخذت منها البيضة؛ وذلك على فرض أن عملية التلقيح الصناعي لم تجر خصيصاً لهذا الغرض، وإنما لغرض غرس اللقيحة في رحم المرأة صاحبة البيضة، ثم بدا لذوي اللقيحة أن يتبرعا بها لغرض الزراعة أو التجارب.

وفي الوقت ذاته، فإن أهل الاختصاص يذكرون أن طائفة من المصالح التي ذكرت في الصورة السابقة يمكن تحصيلها أيضاً باستخدام مثل هذا الجنين (1)

لذلك، فإن حكم التصرف فيها لهذا الغرض هو الجواز كما في الصورة السابقة، ما دامت المصالح التي يراد تحصيلها لا تقل عن مرتبة الحاجيات، ولا تتدانى إلى مرتبة التحسينيات أو مرتبة التزين والفضول. وذلك مع مراعاة القيود والشروط التي سنذكرها في المطلب التالي.

(1) انظر: بحث (البويضات الملقحة الزائدة عن الحاجة) للدكتور مأمون الحاج، منشور في الثبت الكامل لندوة "الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية": ص 452 - 455.

ص: 1445

الفرع الثالث

حكم الانتفاع بالجنن الذي لم تنفخ فيه الروح

إذا كان ميتاً حقيقة أو حكما

سبق أن الجنين قبل نفخ الروح فيه لا يوصف بأنه آدمي، ولكنه يكون حياً إذا وجدت فيه قوة النمو والتطور، ويكون ميتاً إذا فقد تلك القوة، وقد سبق الكلام عن حكم استخدام الجنين الحي، وفي هذا الفرع نتبين حكم استخدام الجنين الميت:

وما دام الجنين في هذه الصورة لم يسبق اتصال الروح به، فإن المقصود بموته صيرورة خلايا جسده عاجزة عن النمو والاغتذاء والانقسام. ومثل هذا لا يمكن أن يستفاد منه في زراعة الأعضاء، وأغلب الظن أنه غير مجد في الأبحاث أيضاً؛ لأن زراعة الأعضاء والأجزاء يستلزم أن تكون أنسجة الجنين حية، كما يرى أهل الاختصاص (1)

وعلى أية حال فإنه إذا احتيج إلى مثل هذا الجنين في بعض الأبحاث، فإنه لا يوجد شرعاً ما يمنع من الاستفادة منه، ولا يشترط لذلك إلا أن يرجى النفع من البحث في خلاياه، وأن لا يكون عبثاً.

وهنالك صورة أخرى تلحق بالصورة المذكورة، ولكن مجال الانتفاع بالجنين فيها أوسع، وبخاصة في التجارب العلمية، وهي أن تكون خلايا الجنين حية، ولو غرس في الرحم لنما وتطور، ولكن يوجد مانع واقعي أو ضرر يمنع من غرسه في رحم امرأة، كما في اللقائح التي تزيد عن الحاجة في مشاريع أطفال الأنابيب، ولا يمكن غرسها في رحم صاحبة البيضة لسبب من الأسباب. وكذلك الجنين الذي سقط من رحم أمه والطب عاجز عن إعادته إليه بالرغم من بقاء الحياة في خلايا جسده. فقد تقدم في مطلب سابق أن التصرف بمثل هذا الجنين بما يؤدي إلى فساد خلاياه لا يعد إتلافاً له، لأنه غير صالح لتحقيق المقصود من خلقه، وهو الوصول إلى الوضع الذي تحل الروح فيه، ومصيره المحتوم هو التوقف عن النمو قبل نفخ الروح.

واستخدام الجنين في هذه الصورة لزراعة الخلايا والأنسجة وفي التجارب العلمية حكمه كحكم استخدام الجنين في الصورة السابقة، لأنه يعتبر ميتاً حكما، وإن كانت خلايا جسده حية في الحقيقة.

(1) بحث "استخدام الأجنة المجهضة" - محمد علي البار: ص 9.

ص: 1446

المطلب الرابع

شروط وقيود الانتفاع بالأجنة التي لم تنفخ الروح فيها

في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية

لما كانت الأحكام التي توصلنا إليها مبناها في الجملة على الموازنة بين المصالح والمفاسد، ولما كان الأصل الذي رجحناه في حكم إجهاض الجنين قبل نفخ الروح، والإضرار به بأي أسلوب من غير مصلحة راجحة، هو التحريم، فإنا نرى أن القول بتلك الأحكام لا بد من أن يكون مشروطاً ببعض الشروط، ومقيداً ببعض القيود التي يفرضها التطبيق السليم لقاعدة الترجيح بين المفاسد والمصالح، وتفرضها أيضاً بعض المبادىء والقواعد الشرعية، وفيما يأتي نفصل هذا الإجمال:

1 -

يشترط أولاً أن يغلب على الظن تحقيق مصالح معتبرة للآدمي الذي ينقل إليه جزء الجنين، أو للمجتمع من إجراء التجارب على الجنين، وأن يكون فوات هذه المصالح أخطر من مفسدة إتلاف الجنين بحسب المعايير التي تقدم ذكرها ولا يتحقق هذا بمجرد الشك، ولا بد من قناعة أهل الاختصاص به.

ويستثنى من هذا الشرط الصورة التي يكون فيها الجنين ميتاً حقيقة بتلف خلاياه أو حكما بأن تكون خلاياه حية ويمنع من نموه وتطوره مانع واقعي أو شرير، كاللقائح الزائدة عن الحاجة في مشاريع أطفال الأنابيب. وإنما اختلفا عن الجنين الحي الذي يكون في وضع يمكنه معه التطور والنمو؟ لأن الأصل في الجنين الصالح تحريم إفساده، والإباحة فيه من باب الرخصة، وهي خلاف الأصل، ولا يصار إليها إلا عندما يغلب على الظن تحقيق مصلحة أعلى، وأما في الجنين الفاسد حكما أو حقيقة فالأصل هو الجواز؟ لأن الفعل ليس فيه إفساد ولا إتلاف، ويكفي أن يكون في استخدامه نفع معتبر.

2 -

والشرط الثاني هو أن لا توجد طريقة أخرى لتحقيق المصالح المبتغاة تكون خالية من المفاسد، أو ذات ضرر أقل مما ذكرنا؛ فإذا أمكن العلاج بغير إتلاف الجنين الحي بقي العمل غير مشروع. وكذلك إذا كان من الممكن تحقيق النتائج العلمية المرجو تحقيقها باستخدام غير جنين الآدمي، كأجنة الحيوانات.

كذلك لا يجوز استخدام الأجنة الحية في مراحل عليا من تطورها إذا أمكن تحقيق المطلوب باستخدام أجنة في مراحل أدق؟ فلا يصح استخدام جنين في مرحلة المضغة إذا أمكن واقعياً وعلمياً تحقيق المقصود باستخدام جنين في مرحلة العلقة أو النطفة، ولا استخدام جنين في مرحلة العلقة إذا أمكن استخدام جنين في مرحلة النطفة، ولا استخدام جنين في مرحلة النطفة تعلق بجدار الرحم إذا أمكن استخدام جنين لم يتعلق بعد بذلك الجدار، ولا استخدام جنين في الرحم إذا أمكن استخدام لقيحة خارج الرحم، ولا استخدام لقيحة خارج الرحم يمكن غرسها في رحم الأم إذا أمكن تحصيل المصلحة المقصودة من استخدام لقائح حية لا يمكن غرسها لمانع شرعي أو واقعي.

ص: 1447

وهكذا فإن إباحة استخدام الأجنة مشروطة بهذا التدرج. وأصل هذا الشرط ما اتفق عليه العلماء من أن قاعدة الأخذ بأعظم المصلحتين مشروطة بعدم إمكان تحقيقهما جميعاً (1) وما اتفقوا عليه أيضاً من أن الضرورات والحاجات تقدر بقدرها إذا اقتضت مراعاتها ارتكاب فعل محرم في أصله (2)

3 -

والشرط الثالث أن يكون استخدام الجنين بإذن أبويه ورضاهما كليهما.

وذلك لأن الجنين إذا كان في بطن أمه استلزم استخدامه الإضرار بها، وان كان ضرراً مؤقتاً يمكن استدراكه، فلا بد من إذنها، ولا بد من إذن والد الجنين أيضاً؟ لأن في ذلك تفويت فرصة تكون الولد له. ويستذكر هنا ما أشرنا إليه في المطلب السابق من أن حاجة الإنسان إلى الولد قد ترتفع إلى رتبة الضروريات إذا كان يرغب في تحقيقها، ولا يأذن بعفويتها، فإن أذن تدنت رتبتها.

وإذا كان الجنين حياً خارج الرحم، ولا مانع يمنع من غرسه فيه، فيشترط ذلك أيضاً لما ذكرنا من أهمية حاجة الإنسان إلى الولد إذا رغب فيه.

وإذا كان الجنين حياً خارج الرحم، ولا يمكن غرسه في رحم صاحبة البيضة، ويمكن في رحم غيرها؟ فلان هذا الإمكان يصلح لتكون خشية في نفس الأبوين من استغلال لقيحتهما وزراعتها في رحم امرأة أخرى، وتسرب نسلهما إلى غيرهما، فهذه مفسدة معتبرة، ولكنها دون ما ذكرنا من مفاسد الصورتين السابقتين.

غير أنه في هذه الحالة الأخيرة قد يتجاوز عن شرط الإذن إذا كان الأخذ من الجنين ضرورياً لتحقيق شفاء من مرض مستعص أو لإنقاذ آدمي من الهلاك؛ لأن الإذن في حالة الضرورة ليس بشرط إذا لم يكن المحظور المرتكب لدفعها، واقعاً في رتبة الضروريات أيضاً.

وكذلك لا يشترط الإذن إذا امتنع جميع الناس عن السماح بإجراء التجارب العلمية على لقائح لا فائدة منها لذويها؟ لأن تحقيق المصالح التي يذكرها الأطباء لهذه التجارب من باب فروض الكفاية بالنسبة للمجتمع، فيجب العمل لتحقيقها؛ فنلغى اعتبار الإذن فيما يقع من الحالات أولاً، فإن تحققت الكفاية به عاد الأمر إلى اعتبار الإذن لتحقيق المزيد من المعارف النافعة، وإلا بقي الحال على عدم اشتراطه حتى تتحقق الكفاية.

(1) قواعد الأحكام: 1/98.

(2)

الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 86.

ص: 1448

4 -

والشرط الرابع يقتضيه الاحتياط للأنساب، وهو أن يكون الجزء الذي يؤخذ من الجنين لزراعته مما لا يؤدي نقله إلى تلك المفسدة العظيمة.

وبناءً على هذا الشرط يحرم أخذ خصية الجنين أو مبيضه لزراعته في شخص آخر؟ لما يقرره أهل الاختصاص من أن الحيوانات المنوية والبيضات تتكون من خلايا الخصية ذاتها، والمبيض ذاته، بحيث إذا نقلت الخصية فإن الحيوانات المنوية تتكون من خلايا تلك الخصية المنقولة، فتكون نسبتها إلى الجنين صاحب الخصية، وكذلك الحال في المبيض (1) والشرع قد حرم كل ما يؤدي إلى نسبة الولد إلى غير صاحب المنوي أو غير صاحبة البيضة، فيكون الأخذ في هذه الحالة محرماً.

وأغلب الظن أن غير هذين العضوين يجوز أخذه من الجنين لزراعته في شخص آخر.

حكم زراعة بعض خلايا الجهاز العصبي المأخوذة من الأجنة:

قد يثار - في هذا المقام - تساؤل حول جواز نقل الخلايا العصبية المأخوذة من الجنين لعلاج بعض الأمراض المستعصية.

ويغلب على ظني أن هذه الخلايا كبقية خلايا الجسد وأعضائه سوى ما استثنينا قبل قليل. ولا نظن أنه يرد هنا ما أورده بعض الباحثين من أن غرس خلايا عصبية في الجهاز العصبي أو في الدماغ قد يؤثر على شخصية المتلقي بحجة أن التفكير والعاطفة والإرادة وغيرها من المعاني مركزها في الدماغ، كما يقدر العلم التجريبي في الوقت الراهن (2)

(1) انظر بحث: "غرس الأعضاء في جسم الإنسان " - محمد أيمن صافي ص 13، وبحث "انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر"، محمد علي البار ص 18، وله أيضاً بحث "زرع الغدد والأعضاء التناسلية " ص 7، وما بعدها. وانظر أيضاً بحث "إمكانية نقل الأعضاء التناسلية في المرأة " - طلعت أحمد القصبي ص 4، 5.

(2)

انظر بحث: "انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر"، - محمد علي البار، ص 19، وقارن مع بحث الدكتور مختار المهدي "زراعة خلايا المخ "، ص 9.

ص: 1449

وذلك أن علماء الإسلام قد قرروا - كما سبق بيانه - أن الذي يؤثر في الجسد الإنساني، وينتج عنه تصرفات الإنسان هو مخلوق عاقل نفخه الله في ذلك الجسد اسمه الروح، وأن كل نشاط اختيار يقوم به الإنسان من أثر من آثار الروح، وأن كل ما في العالم من الآثار الإنسانية إنما هو من تأثير الأرواح بواسطة الأبدان التي تعلقت بها؛ فالأبدان آلات للأرواج وجنود لها (1)

وأما العلماء الماديون، فإنهم لا يبحثون إلا في المحسوس، ولا يعترفون إلا بنتائج هذا البحث المادي؟ فإذا أرادوا تفسير أي نشاط يقوم به الإنسان تتبعوا ما يحدث لأجزاء الجسم المحسوسة عند ممارسة هذا النشاط، ولاحظوا مختلف التطورات والأفعال وردود الأفعال المحسوسة التي تقوم بها أعضاء الجسم المختلفة، فإذا انتهى بهم المطاف إلى آخر نشاط حيوي يقع تحت آلاتهم، نسبوا ذلك إلى العضو - الذي صدر عنه هذا النشاط الأخير - التصرف الذي قام به الإنسان.

وهكذا عندما اكتشفوا أن المخ هو العضو الأخير الذي ينفعل بأنواع من الانفعالات لكل تصرف يصدر عن الإنسان نسبوا إليه كل تصرف إنساني ماديا كان أو غير مادي.

والحقيقة أنهم قد يكونون على حق في تفسير جميع الخطوات المادية التي تتم داخل الجسد عند قيام الإنسان بتصرف ما، فهذا مجالهم وهم أدرى به.

ولكن الذي لا يقرون عليه أن ينسبوا النتائج النهائية إلى العضو المادي الذي كانت فيه خاتمة الانفعالات المادية قبل صدور ذلك التصرف، دون النظر في مدى التناسب بين ماهية ذلك العضو وخصائصه الخلقية وبين طبيعة الأنشطة التي نسبوها إليه؟ وذلك أن جميع التصرفات الإرداية الصادرة عن الإنسان فيها عنصر معنوي غير مادي هو الإرادة؛ والذي تدل عليه سنن الحياة ومعهودات الكون أن المادة لا يمكن أن تنتج المعاني، وإنما ينتج عن المادة مادة مثلها. ولا بد من أن يكون هناك مخلوق غير مادي عاقل مريد خلقه الله في جسد الإنسان، تصدر عنه جميع المعاني التي لا يمكن نسبتها إلى المادة.

(1) كتاب الروح لابن القيم: ص 242، 285. شرح العقيدة الطحاوية: ص 381.

ص: 1450

صحيح أن المخ وبقية أعضاء الجسد تختلف عن الأجهزة المادية الجامدة؟ بأنها تتكون من خلايا حية تنمو وتتطور وتموت، ولكن هذه الحياة غير عاقلة، وهي عينها حياة الجنين قبل نفخ الروح، وهي عينها حياة القلب النابض المقلوع من جسد الإنسان المحفوظ تحت ظروف معينة.

وبناء على هذا التصور في مبدأ نشوء التصرفات الإرادية عند الإنسان، فإن أغلب ظني أن نقل بعض الخلايا العصبية إلى الدماغ أو الجهاز العصبي لا ينقل معه أي مقوم من مقومات الشخصية، كالعقائد والعواطف والفكر والإرادة والشعور، وإنما يثمر تحسنا في عمل الدماغ المستفيد، كما يثمر نقل العين تحسناً في الإبصار، فيصبح الدماغ أفضل استجابة لأوامر الروح التي خص الله بها صاحب هذا الدماغ. والدماغ في هذا كبقية أعضاء الجسد (1) ؛ لأن علاقة الجميع بالروح واحدة من حيث النوعية، وهي علاقة الجندي المطيع بالقائد الآمر الناهي، وإن كانت علاقة الدماغ بالروح أعظم من حيث الأهمية؛ لأن سيطرة الروح على الجسد كله إنما هي بوساطته.

وبناء على ما تقدم فإني لا أرى مانعاً يمنع من نقل خلايا الجنين العصبية وغرسها في جهاز عصبي أو دماغ لإنسان محتاج ما دام ذلك ضمن الشروط السالفة الذكر.

5 -

والشرط الخامس يقتضيه الاحتياط أيضاً لبعض المقاصد الشرعية؟ فإنه لما كان الجنين – وان لم تنفخ فيه الروح – أصلاً للآدمي، وكان التصرف فيه في الزراعة والتجارب قد تتخذ ذريعة لأعمال تتنافى مع مقاصد الشارع، ولا يكون الهدف من ذلك التصرف ما ذكره الأطباء من المصالح المعتبرة، كأن تستعمل أجزاء الجنين للتجارة، مما يتنافى مع كرامة الآدمي بامتهان أصله ومادته، وكأن تستعمل اللقائح الزائدة في مشاريع أطفال الأنابيب استعمالاً يؤدي إلى اختلاط الأنساب، كأن يزرع في رحم امرأة أجنبية، وقد تباع لأجل هذا الغرض. وكأن تستعمل تلك اللقائح في بحوث غير جادة ولا هادفة، ولا حاجة إليها. لما كانت هذه الاستعمالات وغيرها مما يتنافى مع مقاصد الشرع ممكنة الوقوع، فإن إباحة استخدام الأجنة في مجال زراعة الأعضاء والتجارب العلمية ينبغي أن تحاط بجملة من القيود التنفيذية؟ فلا يسمح بذلك الا لمراكز محددة ومتخصصة ومراقبة بأجهزة فعالة، بحيث لا يدخلها شيء من الأجنة ولا يخرج منها إلا أن يكون تحت نظر المراقبين.

(1) وهذا ينطبق أيضاً على الخصية والمبيض، ولكن حرم نقلهما لمعنى آخر لا يوجد في سواهما من الأعضاء، وهو أن الشرع شدد في الاحتياط للأنساب، فقصر طريقة التناسل المشروعة على صورة واحدة، وهي أن يكون النسل قد تكون من اتحاد منوي رجل وبيضة امرأة أثناء قيام علاقة الزوجية بينهما، وحرم أية طريقة أخرى. فإذا نقلت خصية رجل لآخر، ثم عاشر المتلقي زوجته انتقل إليها منوي مصدره تلك الخصية المنقولة. والأمر بعد ذلك يتوقف على تحديد من ينسب إليه ذلك المنوي: أهو المتبرع أم المتلقي؟ فإن كان للأول وقع المحظور الشرعي؟ لأن النسل عندئذ سيتكون من منوي رجل غريب عن المرأة صاحبة البيضة، وليس بينها العلاقة الشرعية، علاقة الزوجية. والأطباء كلهم متفقون على أن ذلك المنوي ينسب إلى الأول؟ بناء على أنه يتكون من الخصية مباشرة، ويتم تصنيعه من موادها الأولى، ولا تحتاج إلى أية مواد خارجية تدخل في تصنيع النطفات التي تحتوي على الحيوانات المنوية. وبناء عل أن الصفات الوراثية الموجودة في الحيوانات المنوية الناتجة من الخصية المنقولة إنما تتبع المتبرع لا المتلقي، ولأن تلك الصفات لا تتغير بعد نقلها بحيث تصبح تابعة للمتلقي، بل تظل تتبع المتبرع؛ لأن مصدر تلك الصفات، وهو ما يسمى بالجينات، يجعل الله فيها برنامجاً محدداً منذ البداية، أي عندما خلقها في الجنين، ولا يحدث أي تغيير في برنامجها، وإن نقلت إلى شخص آخر. ومثل ذلك يمكن أن يقال في المبيض (انظر بحث:"غرس الأعضاء في جسم الإنسان، للدكتور محمد أيمن صافي، ص 13، وبحث الدكتور محمد علي البار: "زرع الغدد التناسلية والأعضاء التناسلية " ص 7، 9. وبما تقدم يتضح أن هذين العضوين: الخصية والمبيض يختلفان عن بقية أعضاء الجسد بما فيها الدماغ؟ فإن أية معاشرة جنسية يقوم بها من تلقى بعض الخلايا العصبية أو أي عضو آخر لا يخشى أن تكون سبباً في خلط الأنساب. كما أن النقل ذاته لا يتسبب في نقل الأفكار والمشاعر والعقائد كما أسلفنا، فلا يرد عليها ما قيل آنفاً عن الخصية والمبيض.

ص: 1451

المطلب الخامس

ما ينبغي أن يكون عليه حكم الانتفاع بالأجنة

عند من ينكرون الروح

تقدم أن الذين ينكرون الروح أو يعترفون بها وينكرون آثارها يعتبرون الجنين إنساناً من أول لحظة يتكون فيها، فإن كان فيه حياة التطور والنمو فهو إنسان حي عندهم، فإن ذهبت منه تلك الحياة كان آدمياً ميتاً.

وتقتضي هذه النظرة للجنين أن يكون التصرف فيه بما يذهب منه حياته الطبيعية عملاً غير جائز؛ لأنه يكون قتلاً لآدمي حي، وقتل الآدمي لا مسوغ له إلا في حالة العقاب، والجنين ليس محلاً للعقاب مطلقأ.

وينبغي أن لا يختلف هذا الحكم عند أصحاب تلك النظرة بين لقيحة عمرها لحظات وجنين عمره تسعة أشهر، حيث يزعمون أن الجنين يكتسب إنسانيته بمجرد تكونه.

فإذا كان الجنين قد فقد حياته التي يتمكن بها من النمو والتطور وجب على أصحاب ذلك التصور أن يعتبروه إنساناً ميتأ، وينبغي عندئذ أن يعامل معاملة الآدمي الميت.

بل إن هذا التصور يقتضي أن لا يسمح بتلقيح بيضات تزيد عن الحاجة، كما يصنع الآن في مشاريع أطفال الأنابيب، حيث يلقح في المعمل أكثر من ثلاث بيضات، فيغرس بعضها، ويبقى الزائد احتياطاً لعدم نجاح العملية، فإن نجحت بقيت اللقائح الزائدة ليس لها مصير إلا فقدان الحياة، فيكون هذا تسبباً في قتل آدمي بناءً على تلك النظرة.

بل ذهب بعض العلماء الغربيين إلى أنه لا يجوز تجميد اللقائح في البرادات؟ لأنها كائنات بشرية، ولا يجوز سجنها بهذه الطريقة وتعريض حياتها للخطر؟ فقد جاء في صحيفة الشرق الأوسط (العدد 3910 - عام 1989 م) ما نصه:(اعتبر مدير المعهد الوطني الفرنسي للأبحاث العلمية البروفيسور جيروم لوجون أن وضع كائنات بشرية صغيرة في مكان شديد البرودة وحرمانهم من الوقت يضعهم في وضع حياتي معلق شبيه بأوضاع معسكرات الاعتقال) .

وهذا الذي ذهب إليه هذا العالم متلائم مع تلك النظرة للجنين والإنسان، والتي لا تعترف باتصال الروح بالجسد في فترة من فترات تطور الجنين، والتي يترتب عليها اعتبار الجنين إنساناً من أول لحظة يتم فيها اتحاد المنوي مع البيضة؟ فإن الإنسان ينبغي أن يعامل معاملة واحدة لا تختلف سواء أكان صغيراً لا يرى بالعين المجردة أو كبيراً.

وأما الذين لا يعترفون بالروح أو لا يرتبون على الاعتراف بها أي أثر، ويعتبرون الجنين إنساناً من بدء تكونه، ثم يجيزون تبريده، وتوقيف نموه، وإسقاطه لأخذ أعضائه، أو لإجراء التجارب عليه، ويجيزون التسبب في موته بأية وسيلة، فهؤلاء متناقضون مع أنفسهم.

الدكتور محمد نعيم ياسين

ص: 1452