الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد ألف رسالة في رؤية الهلال وأخرى في مسائل الحيطان، وله اختام على أبدع نظام، فقد ابتهجت ببهجته الليالي والأيام، وصاهر بابنته الأمير حمودة باشا فنال غاية الاحترام، وقد رزق منها بولد سماه محمداً وتوفي يوم الأربعاء الخامس والعشرين من المحرم سنة 1215 خمس عشرة.
وقد نال الشيخ من إقبال دنياه غاية المرام، وتقلب في النعم الجسام، إلى أن أدركه الحمام، يوم الثلاثاء سابع عشر ثاني ربيعي سنة 1216 ست عشرة ومائتين وألف، عليه رحمة الله وأرخ وفاته العالم الشريف الشيخ عمر المحجوب بقصيدة قالها في تاريخها:[الطويل]
وقال بشير الحال فيه مؤرخاً
…
(أعدّت له دارُ السلام ونزلها)
ورثاه أيضاً أخوه العالم الشيخ أحمد البارودي بقوله: [الطويل]
قفا بضريح ضم نور محمد
…
شقيق لبدرٍ لا أقول لفرقد
جميلٌ عفيفٌ ذو وقار مقرر
…
عزيز كريم ذو فخارٍ وسؤدد
جليلٌ مهاب في القلوب معظّمٌ
…
إذا ما بدا فرداً على كل مفردِ
فقف خاشعاً واعلم بأن مصير ذا
…
إلى مثل هذا المصرع المتوحّدِ
وعظْ واتعظْ وانهض إلى الفوز بالتقى
…
كما كان ذا بالبر والمجد يرتدي
هو العلمُ العلامةُ الفاضلُ لاذي
…
علمتُ به علماً به كنتُ أهتدي
محمد البارودي يا طيب محتدٍ
…
له، ابن حسين سيّدٌ وابن سيّد
رئيس لعلم الشرع من بعد والدٍ
…
فكان بحمد الله أكرم مقتدِ
تصدّر للإفتاء لما بدت لنا
…
عوائصه قد كان أرشد مرشدِ
لما كان فيه من صلاحٍ وعفةٍ
…
وذهنٍ منير ثاقب متوقّدِ
فكان بفضل الله فيه مثابراً
…
على الحق يرويه برأي مسدّدِ
وقد كان في فنّ التلاوة آيةً
…
تحرّى بها فضلاً على كل محتدِ
بكته المعالي والمنابر مذ بدا لها
…
لها نعيه: وافرقتاهُ لمنشدِ
كذاك محاريب المساجد هدّمت
…
ولم تر فيها بعده من مجدّد
فطبت أخي حيّاً وميتً ومبعثاً
…
وجوزيت بالقرآن قرباً لأحمدِ
كذاك شقيقي قلت فيك مؤرخاً
…
(قبلتَ بقرآنٍ جوار محمدِ)
18 الشيخ محمد بيرم الثاني
هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمد بن حسين بن أحمد بن محمد بن حسين بن بيرام تقدمت ترجمة والده شيخ الإسلام الأول.
وقد ولد ولدُه هذا في السادس عشر من ذي القعدة الحرام عام 1162 اثنين وستين ومائة وألف، واعتنى والده بتعليمه فقرأ القرآن العظيم وجوّده على أعيان منهم الشيخ محمد قارة باطاق، وقرأ على الشيخ قاسم بن عاشور أيضاً صغار كتب النحو إلى الشذور وشرح الشيخ في الكلام، وقرأ على الشيخ أحمد سويسي الفاكهي والألفية والتصريح، وقرأ على الشيخ الكواش القطر والفاكهي والعصام ومختصر السعد ونبذة من المطول ومختصر ابن الحاجب، وقرأ على الشيخ أحمد الثعالبي مختصر السعد والكبرى، وقرأ على الشيخ محمد الدرناوي التهذيب والوسطى ونبذة من مختصر السعد وقرأ على الشيخ محمد الشحمي دروساً من التهذيب والقطب والمطالع والكبرى. وقد تضلع من معقول العلوم ومعقولها، وحصّل ما بلغ به الغاية في فروعها وأصولها، حتى صار مشاراً إليه في سائر العلوم، عمدة المنطوق والمفهوم.
وقد أخذ صحيح البخاري عن والده ونظم سنده فيه بقوله: [الرجز]
سندُ هذا العبد في البخاري
…
عن والدي صين من الأكدار
قراءة بعضه والبعضُ قدْ
…
أجازني فيه بوجه معتمدْ
وهوَ روى عن شيخه المكودي
…
عن الحريشي العلم المقصودِ
عن شيخه الفاسيّ عبد القادر
…
عن عابد الرحمن ذي المفاخر
عمّ أب له عن القصّار
…
عن شيخه خروف النظار
عن شيخه الفخر سقين العاصمي
…
عن زكريا الفذّ ذي المكارم
عن حافظ الدنيا الإمام ابن حجر،
…
لعسقلان الفخرُ إذ منها ظهر
عن التنوخيّ عن الحجّار
…
عن الزبيدّي الشائع الأذكار
ذا عن أبي الوقت عن الداوودي
…
عن السّرخي المنهل المورود
عن الفربريّ عن البخاري
…
دامت عليه رحمات الباري
وجلس للتدريس وعمره ثماني عشرة سنة، فقلّد الرقاب من در علومه النفيس ما شئت من تدقيق وتحرير، فاق به الجهابذة النحارير، وما شئت من أدب يملأ المحاضر، ومتانة علم تخلدت آثارها في بطون الدفاتر، تحريراته في المذهب النعماني بالديار التونسية هي التي عليها اليوم العمل، وكم له في ذلك مما يبلغ به المتحري في دينه غاية الأمل، وقد كتب على شرح الشيخ قاسم لمختصر المنار الأصولي شرحاً بديعاً، وشرح رسالة الشيخ لطف الله الأرزويلة في الترتيب بين الفوائت، وكتب رسالة في شرح عبارة الدرر في الطير ورسالة نيل المنى في استحقاق المشترى بعد البنا، ورسالة القول الأسد في حكم الميت في الوقف من غير ولد، ورسالة تحقيق المقال في حكم المغارسة والاستنزال، ورسالة تحقيق المناط في عدم إعادة الساباط، ورسالة حسن الحط على توهم جواز الاحتجاج عندنا بالخط، ورسالة فيما يلحق من الطلاق المردف، ورسالة فيما يرجع فيه الدافع عن غيره وما لا يرجع، ورسالة الوفا بأحكام بيع الوفا، ورسالة في السفينة التي استؤجر ملاحها على تبليغ متاع لموضع معين فغرقت هل له أجر أم لا وسماها "طلوع الصباح على المتحير في أجر الملاح".
وقد قرظها والده شيخ الإسلام الشيخ محمد بيرم الأول بما نصه: حمداً على نعمه التي لا تحصى، وآلائه التي لا يمكن بالعد أن تستقصى، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ذي الشرف والكمال، وعلى جميع أصحابه والآل. وبعد فقد أجلت فكري في مطاوي هذا الورق، الذي هو باسم الورق أحق، فألفيته أنبأ عن فكر ألمعي، وذكاء لوذعي، إذ أخذ بجميع أطراف مسألة السفينة، وتمكن بمتعلقاتها مكنةٍ مكينة، وصدق فيها المثل السائر، "كم ترك الأول للآخر" أشكر الله تعالى على هذه النعمة الحميدة، شكراً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، أن أهّل ولدي ثمرة عمري، وجلاء بصري، لهذا الجمع الغريب، والأسلوب العجيب، في التفرقة بين المخطئ في هذه المسألة والمصيب، فرفعت أكف الابتهال، إلى الكريم المتعال، في أن يمتع المسلمين بطول وجوده، ويفيض عليه سحائب كرمه وجوده، ويوفقه لما فيه رضاه، ويتولى حفظه في دنياه وأخراه، انتهى.
وآدابه قد خلدت آثار البلاد، بأبدع طريقة تستجاد، فقد نظم ملوك الدولة التركية بتونس، وشرح نظم المفتين الحنفية خاصة بها وشرحه المذكور هو الذي دعاني إلى تحرير هاته العجالة ولكن أقول:[البسيط]
وابنُ اللّبون إذا ما لزّ في قرنٍ
…
لم يستطع صولة البزل القناعيس
استغفر الله أن أكون محاكيه، وأين الثريا من يد المتناول.
وكتب رسالة في التعريف بنسبهم البيرمي أودعها جميع ما مدح به هو وما قاله من الشعر الرقيق مما أغناني عن ذكر ذلك هنا.
ونظم سلاطين آل عثمان، وله نثر وشعر رقيق يرزي بكأس الرحيق.
وقد قدمه والده لمشيخة المدرسة العنقية وخطبة الجامع اليوسفي وقد أخذ عنه خلق كثير وانتفعوا بعلمه.
وفي صبيحة يوم السبت الرابع والعشرين من ربيع الأول سنة 1192 اثنتين وتسعين ومائة وألف قدمه الأمير علي باي لخطة القضاء فأحسن القيام بها وتحرى لدينه فكان من قضاة العدل إلا أنه لم يرض البقاء على تحمل أخطارها واستقال منها بمكتوب بديع كاتب به الأمير وهذا نصه:
"أما بعد حمد الله مقيل المستقيل من العثار، وغافر ذنب التائب بعد الإصرار، والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبيه المختار، وحبيبه المصطفى على المرسلين الأخيار، المنتقى من أطهر عنصر ونجار، وأظهر بيت سؤدد وفخار، وعلى آله الأطهار وصحبه الأبرار من المهاجرين والأنصار، والدعاء للمقام العليّ، والفخر الجلي، الظاهر ظهور الشمس في رابعة النهار، ذي الدولة التي هي في جبهة جبين الدهر غرة، وفي قلادة لبّته درّة، وفي معصمه سوار، الطالع بدرها في أفق السيادة وفلك السعادة أمناً من السرار بجعل الملك كلمة باقية في عقبه إلى يوم القرار، فيا مولانا خلد الله تعالى على حضرتكم الشريفة سوابغ الإنعام، وأدام ظلالها الوريفة على الخاص والعام. ولا زلت ملجأ القاصدين، ووجهة الراغبين، إني قصدت مقامك العلي للإقالة طالبا، وفي رفع يدي عن خطة القضاء راغبا، مقدماً شرح حالي لدى السيادة العلية، مؤملاً من فيض فضلها بلوغ الأمنية، فليكن في شريف علم مولانا حرس الله مجده، وصان سعده، ولا أرانا فقده، أني تقلدت هذه الخطة، ودخلت في هذه العهدة البعيدة الشقة، بعد أن سبق بذلك القضاء الغالب، والقدر الذي لا ينجو من طلبه هارب. وذلك أمر سطر في الكتاب، وإنما العبد مجيب للقدر لا مجاب، على علم مني بصعوبة مداركها، وضيق مسالكها، وكثرة عطب سالكها، غير أن الإجمال ليس كالتفصيل، والكثير في نظر البعيد قليل. وما أمكنني إذ ذاك مقابلة أمرك المطاع، بالرد والامتناع، بل إن ذلك عقوق، لما للسيادة علينا من الحقوق، تأنف من أن تتلبس به هنا طباع لها في باب رعاية الحقوق، مع أن طلبتي الآن للإقالة، أولى من الامتناع في تلك الحالة، فإن اللائق أن أكون للمقام العلي طالباً لا مطلوباً، وراغباً في فضله لا مرغوبا. فقبلتها والقلب مني راجف، والدمع على الخدين واكف، فلاقيت من وصبها ليل السليم، واستقبلت من نصبها ما يعلمه السميع العليم. فما صفا لي منذ تقلدتها يوم، ولا ذاق جفني بعدها حلاوة نوم، وكيف لا وهي الفيح التي تتيه فيه القطا ويقصر عن سلوكه مديد الخطى. هذا مع ضعف جسدي، وقلة جلدي، ونهوك جسمي، وشمول النحول لحمي وعظمي، وأنّى لمثلي ممن لم يذق لذة شباب، لتوالي علله وأوصابه، والقيام بهذا الأمر العظيم، ومعاناة الخطب الجسيم، فمكثت فيها هذه المدة قابضاً يدي على الجمر، مستسلماً لمن له الخلق والأمر، ثم إن الضعف بي لشدتها قد زاد، والنحول لهولها أربى على المعتاد، والفساد تدرج في المزاج وقد ألهى عن العلاج وحين رأيت الصحة رجعت مني القهقرى، وجند صبري ولى مدبرا، وسحاب المرض عليّ متراكما، وما كان من عرضه مفارقاً عاد لازما، قلت أفيء لمولاي الذي تفضل بإسداء نعمتها، ليتطول علينا رفع كلفتها، حتى يكون أيده الله تعالى جامعاً فيها بين عطيتين، منعماً عليّ فيها بنعمتين، وفضل هذا عندي أعظم، وشكري عليها أوجب وألزم، فإن خلاص العبد من هذه العهدة، هو لديه حديث الفرج بعد الشدّة والذي لا يحلف به المسلم كاذبا، ولا ينجو من درك الحنث في القسم به ذاهباً أو آيباً. ليس لي فوق هذا المطلب مرام، سوى من الله تعالى علي الموت على الإسلام. على أنه لو لم يكن لي عذر المرض، وما طرأ بالجسم منه وعرض، ففي المنقول عن إمامنا أبي حنيفة، بوأه الله تعالى إلى الرتب المنيفة، أن لا يترك القاضي على القضاء أكثر من سنة كي لا ينسى العلم، هذا والرجال رجال وقته أولو التحقيق والفهم، فكيف بنا والحال ما هو معلوم، وهل تقاس الحصباء بالنجوم، مع أني قد بلغت الحد المعدود، بل تجاوزت الأجل المعهود.
فها أنا قد شرحت للمقام العلي باطن أمري، وللحضرة السامية بينت عذري، وتوسلت في تبليغ المرام، وإرواء الأوام، بالسادات الأنجال الكرام، بدور الليالي وشموس الأيام، أبقاهم الله بهجة للزمان، متحلياً بهم سرير الملك والإيوان.
والمعهود من تلك الحضرة أسماه الله تعالى وأعلاها، وأدام على الأنام غمام نداها، أن لا تردّ فيها الوسائل، ولا يخيب لديها سائل، فاجبر أيها المولى الكبير وفك المعاني والأسير، وارحم العليل، وبرد له الغليل، وانظر بعين الشفقة لجسم بال ترشقه من كنانة الألم نبال، واغتنم دعاء صاحب هذا الحال لمقامكم العلي في أطراف الليال.
[الطويل]
أقلني فقد ضاقت عليّ مذاهبي
…
وأثقل مني الظهر ما أن حاملُ
وجاوز ما قد حل في كلّ غايةٍ
…
وعند التناهي يقصر المتطاول
ودعني أدعو والأنامُ تجيبني
…
بآمين إذ تصغى لما أنا قائل
بقيت بقاء الدهر يا كهف أهله
…
وهذا دعاء للبرية شامل
اللهم يا مفرج الكروب، وكاشف الخطوب، ومقلّب القلوب، قلّب لنا قلب مولانا لإجابة هذا المطلوب، وإنالة هذا المحبوب المرغوب، إنك أكرم من أجاب الدعا، وحقق ظن من توجه إليه وسعى، وأفضل الصلاة والتسليم (وأكمل التبجيل المحفوف بالعظيم) على سيدنا المخصوص بعموم الشفاعة، تلك الساعة، وعلى آله وصحبه الغيوث النافعة، أن تيسر لنا ما نرومه ونرجوه، فأنت أكرم من توجهت إليه الوجوه. أهـ.
وعند ذلك أقاله الأمير من خطة القضاء يوم الأحد الرابع من رجب الأصب عام 93 ثلاثة وتسعين ولازم بث العلوم في صدور الرجال، غير أنه لم تمض عليه العشرة الأشهر حتى استعاده لخطة القضاء فعاد إليها يوم الإثنين السادس والعشرين من ثاني ربيعي سنة 94 أربع وتسعين واستمر على كرهه للخطة قائماً بأعبائها، وفي شهر ربيع الأول سنة 97 سبع وتسعين أعاد الكرة إلى طلب الإقامة وكتب في ذلك مكتوباً بديعاً أجابه عنه الأمير بما اقتضى إبقاءه بعد المراجعة واستمر على خطته حتى كانت مدة مباشرته نحواً من الاثنين والعشرين سنة.
وقد امتحن في الطاعون الجارف سنة تسع وتسعين ومائة وألف بفقد خمسة أولاده وزوجته وأخته وقد قال في ذلك: [الوافر]
إذا فكّرتُ ما فعل الوباء
…
بأولادي وضاقَ بيَ الفضاءُ
أقول لئن غدوتُ الآن فرداً
…
ففي الله الكفاية والرّجاء
وبعد ذلك كاتبه والده في التزوج فأعلمه أنه ترك التزوج حيث أيس من الولد. فكتب إليه والده "لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون"(87 يوسف) وزوجه بابنة الفلايح فرزق منها بولده العالم وقد عاش حتى رآه في خطة الفتيا ورأى ولده عالماً.
ولما توفي نقيب الأشراف الشيخ عبد الكبير الشريف قدمه الأمير حمودة باشا لنقابة الأشراف سنة ست ومائتين وألف، وقد علمت مما سبق أن له نسبة في الشرف النسبي زيادة على الشرف العلمي.
ولما توفي شيخ الإسلام والده قدمه الأمير حمودة باشا (لنقابة الأشراف سنة ست ومائتين وألف وقدمه) لخطة الفتيا يوم السبت سابع المحرم من سنة 1215 خمس عشرة ومائتين وألف فأولاه مفتياً ثانياً وأقام في الفتيا إلى أن توفي شيخ الإسلام البارودي فقدمه الأمير لخطة مشيخة الإسلام ثاني ربيعي سنة عشر ومائتين وألف، فنهض لها نهوض زعيم، وبذل في خدمة العلم الجهد العظيم، ونظم من مسائل الفتاوي كثيراً وحرر كثيراً من الرسائل، في مهمات المسائل، وله رسالة جليلة في صحة الرجوع عن الوصية الملتزم عدم الرجوع عنها نحا فيها منحى الاجتهاد وجمع بين مذهبه ومذهب المالكية ثم عرضها على علماء عصره المالكية فكتب عليها العالم الشريف الشيخ محمد المحجوب مقرظاً بقوله:[الطويل]
إليك فخذها درةً في نظامها
…
فريدة فذِّ العصر بل وأفخمُ
حباك بها فرعُ العلوم محمّدٌ
…
كما أصله فرد الكمالات (بيرمُ)
هما فاضلا عصريهما وكلاهما
…
به مذهب النعمان جذلانُ يبسم
ولما تبدت بان للحق وجههُ
…
فأصبح منثوراً وقد كاد يهدم
ولمْ لا وقد وافت بجند دلائل
…
تلاه من التحقيق جيشٌ عرمرم
تعاضد فيها المذهبان وحبذا
…
وفاق بلا خلفٍ بدا فهو أسلم
فجوزي بالحسنى وقوبل بالرضا
…
من الله في يوم رضا الله أعظم
وقرظها الشيخ أبو محمد حسن الشريف بتقريظ بديع وهذا نصه: حمداً لمن أقام لتبيان أدلة الشريعة أقواما، ونصب لتوضيح مشكلها أعلاما، وصلاة وسلاماً على من قررها أكمل تقرير، ثم على من بلغها لمن جاء في الزمن الأخير.
وبعد فقد وقفت على هاته الرسالة التي يرحل إليها، والفوائد التي يعوّل في بيان المعاني الغوامض عليها، الفرائد التي لا يلفت إلى ما خلفها ولا يقبل إلا على ما بين يديها، وتأملتها بعين الإنصاف، ولحظت ما اشتملت عليه من بدائع الأوصاف، فوجدت لسان التحقيق قد نطق بفضلها، وحاكم الانقياد قد قضى برفعة محلها، ورأيت نقودا لا سبيل لصرفها عن الصواب، وأسئلة يعسر عنها فتح باب الجواب، وأبحاثاً قد شهد ميزان الامتحان برجحانها، وصدق الاختبار بفضلها عند امتحانها، ومسائل قضاياها محفوظة من النقض، وأبكار مزاياها محروسة عن الفتك والفض وتصاريف إلا عن الإجادة مصروفة، وبمنع الموانع معروفة وموصوفة، فدلت على جودة جواد منشيها، وىذنت بصولة أنظار مبدعها ومبديها، وأنه مفرد العصر، وعلامة هذا المصر، فلله در ناظم عقودها، وراقم برودها، فقد جلا عليها للأبصار ما شاء من زين، وجلا عن البصائر ما شاء من رين، ما تصدى فيها لبحث إلا بثته بغاية البيان، ولا وجه جياد آرائه إلى غاية إلا كانت مطلقة العنان، فيا لها من غرر مجد في وجه الزمان ساطعة، ودرر فضل في جيد الزمان لامعة.
[الطويل]
سرتْ غرراً تزري من الحسن أنجما
…
وعن درّها ثغر العلوم تبسّما
عجبتُ لها في جنح ليل تطلعتْ
…
وما استندت إلا إلى الشمس منتمى
عقيلة فكر قلد الحسنُ جيدها
…
وصاغ لها حليّاً وعقداً منظما
أبتْ أن تجوب الترب إلا ترفعا
…
فما وطئت إلا بدوراً وأنجما
وضاءت بأذن الجهر شنفاً وأشرقت
…
محاسنها في الثغر منه تبسما
وجرّت ذيول التيه عن حامل الربى
…
فأزهرت بأزهار الرياض تنسما
بأيّ حجا صيغت فقد أعجز الحجا
…
وأفحم معناها الفحولَ تفهما؟
ترنّم إعجابا بها الدهر ناطقا
…
وأعرب حتى قيل: ما الدهر أعجما
أبان لسانُ الحق فيها رسوخه
…
وأفصح فيه العلم عنهُ مترجما
يراها فيزري ذو العلوم بنفسه
…
ويقسم جهراً أنه ما تعلما
فلو كان للسر المكتم سلّمٌ
…
لكانت لما استخفى من العلم سلما
بني العصرِ إذعانا فمن كان قبلكم
…
ومن بعدُ يأتي لو رآها لسلما
قد استخلفتها الكتب في العلم كله
…
كما استخلف النعمان في الفقه (بيرما)
رسالة محمود المقام (محمّدٍ)
…
لحق على إعجازها أن تسلما
مقدمة إذ قدم الله ربّها
…
محكّمة إذ كان هو المحكّما
ولا غروَ أن كان الأخير فإنه
…
إذا ذكرَ الأعلامُ عدّ المقدما
فتىً كرمت آباؤه وجدوده
…
فهم مرهم في الفضل منهم لآدما
إليهم لوى علم الشريعة لائذاً
…
بهم والتقى فيهم أناخَ وخيّما
ولا مثلُ مأثور الكمال محمد
…
هدى أوْ جداً أو عزة وتكرما
إمامٌ به الفتيا أطيلَ عمادها
…
وأرسيَ حتى جاوز الأرض والسما
حبا الدينَ إفضالاً به الله منعم
…
به حرم الإسلام قد عز واحتمى
بأسرع من لبّى وأدفع من حمى
…
وأنفعِ من أسدى وأرفع من سما
وأعظم مقداراً وأقدم مفخراً
…
وأفخم آثاراً وأعلى وأعلما
تذكرك النعمان غرُّ علومه
…
وآدابه تنسي (الوليد ومسلما)
تقيّ لو ألقى جملة من عظاته
…
على كافر من حينه عاد مسلما
ولوْ ميت جهلٍ أمّهُ لأعاده
…
حياة وما أمَّ المسيحَ ابن مريما
إليك تنهى التحقيق في العلم وانتمى
…
إلى كل فضل من إلى علمك انتمى
أرى كل ما ألَّفت معتنياً به
…
من الناس من عانى العلوم وعلما
ولو كان مسبوقاً لما افترقوا له
…
وكم زائدٍ علماً على من تقدما
فخلّدتَ من غيث من العلم نافع
…
متى خص غيث عم أوضن أنعما
ولا زلت في كل المعاني نهايةً
…
وغايةُ من عاداك حطُّ إذا سما
ولا غرو كونه في التحقيق، كعبة يحج إليها، وللتدقيق، عمدة يعول عليها، إذ قد انتهى في المعارف إلى أقصى أمدها، وكرع في بحرها لإثمدها، وملك أعنتها، وقاد أزمتها، فعلا قدرا، ولاح في سنا السّناء بدرا، وصار أولئك الصدور صدرا، وبالجملة فلسان القلم في وصف مدحه قصير، ومن أتى بأبدع مقال فإنما آتٍ بيسير. قال بفمه، وزير بلسان قلمه، العبد المسربل بسرابيل الخطا والأوزار، الراجي للتنصل منه رحمة العزيز الغفار، فقير ربه اللطيف، حسن بن عبد الكبير الشريف، أصلح الله حاله، ونعم بالتقوى باله، آمين. أهـ.
وقرظها الشيخ إبراهيم الرياحي بقوله: [الطويل]
كأنّك تهوى أنّ عذلك ينفعُ
…
وهلْ كان عند الصب للقول مسمع
إذا كان من ذاتي رجوعي إلى الهوى
…
فما نفع قولي: إنني لست راجع
وهل وقع الملزوم يوماً ولم يكن
…
للزمه في ساحة الكون موقع؟
لذاك تراني كلما شمت بارقاً
…
يسابقه من برق وجدي أدمع
فأمّا إذا تبدو محاسنُ (بيرم)
…
فكيف تر الحربا إذا الشمسُ تطلعُ
سماءُ علوم كلما لاح لامعٌ
…
تقفّاه منها ألمعٌ ثم ألمعُ
وبحرٌ فهوم يزدري الدرُّ عندها
…
على أنه للنقل والعقل مجمع
وفي هذه الحسنا التي برزت هنا
…
بألوانِ حسنٍ للمنازع مقنع
بدت للمنى روضاً وللعين قرة
…
وفيها الذي عن ذا وذلك أنفع
فجاءت تهادى لا سوى السحرِ غنجها
…
ولا ما سوى ماء الوسامة برقع
ترى بين معناها ورقّة لفظها
…
عناقاً على نولْ الطبيعة تصنع
إذا اختصم النعمان فيها ومالك
…
تقول لكل منهما فيّ منزع
ومهما ادّعاها العقل ردّ اختصاصه
…
بها نصّ قولٍ بالحقيقة يقطعُ
وإن تفخرِ الفتيا بها فلكم بها
…
لأهل القضا من تاج عز يرصع
فسبحان مختار الإمام محمّد
…
لها وهو أدرى أيّهم هو موضع
وكيف وبيتُ الدين والعلم بيته
…
وللمجد والتقوى مصيفٌ ومربع
وهيَ القرون المستطابة هديها
…
على سنّة فضلى لها الدين مبدع
عفافٌ على وجد وعفو بقدرة
…
وجاهٌ ولكن لم يدنسه مطمع
وخفضٌ على رفعٍ وتليينُ منطقٍ
…
على أنه للصّلد في الحق يصدع
وفضل ثبات ما الرواسي رواسخاً
…
لديه إذا طارتْ نهىً وهي وقّع
وقدرٌ تمنّى النجم نيل محله
…
فكيف ترى من في الثرى فيه يطمع؟
إلى ما يفوت العد من كل حلية
…
بها شمل أشتات الكمال مجمّعُ
فدمْ واحداً لا من يضاهيك في الورى
…
وعزك موصول وأمرك يسمع
ولا تحتقر شعري وإن كان دونكم
…
فقدركمُ من أبلغ المدح أرفع
ولكننّي حاولت شرح مودةٍ
…
وشافع شعري في الوداد مشفع
وأزكى سلامٍ من سليم مودةٍ
…
عليك بريحان الرضا يتضوّعُ
وأجابه الشيخ محمد بيرم الثاني عن ذلك بقوله: [الطويل]
بدتْ وهي أبهى من ذكاء وأرفع
…
عقيلةُ فكر للمحاسن مجمعُ
تشير بطرف اللّخط فاتن
…
له كل أرباب الصّبابة خضّعُ
لقد جمعت ما بين رقة لفظها
…
وقوة معناها وذلك أبدع
ولكنّها حلّت من الفضل عاطلاً
…
وليس له في ذلك الروض مرتع
فحاولت نفسي أن تقومَ بحقها
…
وتشربَ من كأس أدارت وتكرع
فألفيتها وافتْ وعمريَ مدبرٌ
…
ولم يبقَ مني للصبابة موضع
وحال جريضي عن قريظي فلم أطق
…
أجاوب عنها بالذي فيه مقنع
فحسبي دعاءٌ للذي صاغ تاجها
…
بما هو في الدنيا وفي الدين ينفع
وقرظ الرسالة المذكورة الشيخ أحمد البارودي بقوله: [الرمل]
لؤلؤٌ نظّمَ أم درّ نثر
…
أمْ سنا الفجر جلا وجهَ السحرْ؟
أم وميض البرق جنح الدّجى
…
جاءه الغيثُ بماء منهمرْ؟
أم شعاعُ الشمس يتلوه ضيا
…
في رياضٍ؟ إنها نورُ الشجر
لا ولكن نورُ علمٍ ساطع
…
سافرٍ عن وجه شرعٍ منتشر
بمقولات الهمام المرتضى
…
وتعاليلٍ بقولٍ مختصر
من فنونٍ تقصر الأفهام عن
…
درك ما استخرج عنها بالفكر
فوجوه الحق منها تنجلي
…
أنّ وجه الحق يجلى بالنظر
قل لمن رام المعالي يقتفي
…
إثرَ من قدّم من سنِّ الصّغر
ذلك ركن الشرع فينا (بيرمٌ)
…
وابنُ ركنٍ للفتاوي مشتهر
عمدةُ الفتوى عماد للهدى
…
وإمامق كالإمام المنتظر
أفريدَ العصر حاوي السبق في
…
مذهب النعمان موصولَ الأثر
كنت من بيت شريف وله
…
من شريف الشرع ركنٌ معتبر
يا ولاةَ الأمر شرعاً أذعنوا
…
محض الحقُّ فهل من مدّكر
هكذا المختارُ للفتوى فمن
…
شاء فليؤمن ومن شاء كفر
من يقل في الناس خلفاً يأتنا
…
بكتاب مثل هذا مستطر
واتل قول الله في تنزيله
…
ما جزاء التقي فيمن ذكر
عانك الله ولا زلت المدى
…
ناصراً للحق مأمون الغير
هاكها عذراً عروساً تجتلى
…
مهرها منكم قبولٌ مغتفر
فاقبلوها واقبلوا عذراً لها
…
إن من عذري لكم بشر
إن أكن قصّرتُ في قولي فما
…
فضلكم يقصر عمن يعتذر
وقد ألف رسالة في عدم فسخ الإجازة بموت المؤجر له وقرظها أيضاً الشيخ أحمد البارودي بقوله: [الخفيف]
أقبلَ الفجر صادقاً مستنيرا
…
ودجى اللّيل عنه ولّى حسيرا
فبشمس الهدى أتانا بشيراً
…
ولمحق الظلام جاء نذيرا
فظلام الضلال أعمى تولى وضياءُ الهدى تراه بصيرا
مثل ذاك الهدى فتاوى همامٍ
…
في سماء العلوم يبدو منيرا
حلّ من مشكلاتها معضلاتٍ
…
بعد ما الطّرفُ باء عنها حسيرا
كل من أمّه ليروي علوماً
…
عنه يلقي عليه درّاً نثيرا
عالمٌ عامل تقيٌّ عفيف
…
صائب الراي يافعاً وكبيرا
ذلِكمْ (بيرمٌ) محمدُ ابنٌ
…
لسميّ له الكبير شهيرا
مثلكم من يكون نجل همام
…
أيّ ذلك الهمام فاسأل خبيرا
ما على النجل من جناح إذا ما
…
شابهَ الأصل فاضلاً أو حقيرا
فنتاجُ المها يلدن مهاة
…
وحوايا الحمير يلفى حميرا
وحبوب الحصيد قوتٌ وذخرٌ
…
وحصيد السّباخ يلفى حصيرا
كل من كان من كرام أصول
…
فكريماً تجدْه طلقاً بشيرا
ومتى كان من وضيع أصول
…
فعبوساً تراه أو قمطريرا
يا كريم الأصولِ يا خير نجلٍ
…
طاب أصلاك فانتشرت عبيرا
فرّج الله عنك ما كان محصى
…
ووقاكم بما صبرتم سعيرا
وجزاكم بجنة الخلد عمّا
…
جئت بالحق ناصحاً ونصيرا
لا عدمناك للمفاخر فخراً
…
أو عماداً ودمت فينا أميرا
وبحسن الختام ندعوه ربّاً
…
نرتجي عفوه عفواً قديرا
وصلاتي على النبي وآل
…
كلما سامرَ السميرُ سميرا
وسلامي عليه ما أنشدونا
…
أقبل الفجر صادقاً مستنيرا
وأجابه الشيخ محمد بيرم الثاني بقوله: [الخفيف]
جلبت إذ بدتْ إلى العين نورا
…
وإلى القلب بهجةٍ وسرورا
بنتُ فكر تسبي العقول بفكرٍ
…
فاترٍ في الفؤاد يلفى قديرا
شنّفت مسمعي بصوت رخيمٍ
…
زاد عقلي سماعهُ تحريرا
وأتت من بديعها بمعان
…
وبيان أنستْ بذلك (جريرا)
وكستني من نسجها ثوب مدحٍ
…
جوهري ولا أقوال حريرا
لست أهلاً له لكنه الح
…
ب يغضُّ عن الحبيب ستورا
ربها الباروديُّ أحمد من قد
…
أدرك السبق للمعالي صغيرا
طرفاه إن أرسل الطرف ولّى
…
عنهما خاسئاً وولى حسيرا
فأبوه وعمه وأخوه
…
وكذا خاله حووا تصديرا
فقهاءٌ أجلّةٌ وهو أيضاً
…
مثلهم هل ترى لذلك نظيرا
ولقد رمت أن أجيب وهيها
…
ت وقد أصبح اللسان قصيرا
فتوالي السّقام أخمدَ فكري وأعاد الصحيح مني كسيرا
والذي هكذا بعيدٌ عن النظ
…
م وإن كان بالقريض بصيرا
فاقبلن عذره وعدّ قصوراً
…
منه فيما أتاك لا تقصيرا
وجزاه رب البرية عنها
…
فوق ما ترتجون منه كثيرا
بنبي الهدى عليه صلاة الله
…
ما عانق الغماما ثبيرا
وعلى الآل كلما قال صب
…
جلبت إذ بدت إلى العين نورا