الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي آخر أمره اختلف عليه بنوه وكابد منه ولده نصيره يونس باي عَرق القِربةِ! حتى وثب للطيران إلا أنه تحزب على والده وتحصن بالقصَبة هو ومن معه فدخلها ظهر يوم الاثنين تاسع جمادى الثانية سنة خمس وستين ومائة وألف وكان النصف القبلي من البلاد في نصرته، فأطلق المدافع ودافعه أبوه وأطلق الكور في وسط البلاد واستمر الحال على ذلك بعد توسط العلماء في إصلاح ذات البين ولم يغنوا شيئاً إلى أن نفدت ذخائر القصبة فخرج هو وكاتبه أحمد السُّهيْلي من مماليكه وأتباعه ضحوة يوم السبت الثالث من شعبان وأبقى أبناءه الثلاثة أحمد باي وإسماعيل باي ومصطفى باي وفر بمن معه إلى قسمطينة. وعند ذلك دخل أخوه محمد باي إلى الحاضرة وسفط السيف على من قدر عليه، وأظهر ما في نفسه من الحقد واحتقار وجوه الناس وأبوه مرتض لصنيعه. ولم يزل يتمادى في سوء صنيعه حتى فوق سهمه لأخيه سليمان وخشي من وراثته الملك بعد أبيه لما يرى لأبيه من إيثاره عليه لما فيه من الأهلية فعاجله بالإطعام فمرض أسبوعاً وفاضت نفسه على حين لم يكن والده ليتوقع له ذلك، فتوفي ظهر يوم الجمعة من صفر الخير سنة ثمان وستين ومائة وألف، وترك ولده نعمان باي، فعدم أبوه بمكيدة ولده وسوء صنيعه بأخيه، وتحقق أن الله أذاقه بأس ولده محمد بإعدامه لعضدي نصرته يونس بالفرار وسليمان بالممات. وكان ذلك من مبادىء انتقام الله منه، والله عزيز ذو انتقام.
وقد كان علي باشا باي مع سفكه للدماء وامتهانه للخاصة وإضراره للمملكة بمظالمه- معدوداً في العلماء، وشرح تسهيل ابن مالك النحوي شرحاً مهماً اعتكف الناس على قراءته بجامع الزيتونة مدة دولته، وقرظه سائر علماء عصره. وكتب عليه الشيخ أبو الحسن علي البارع قوله:[الكامل]
لله شرح للأمير موضح
…
لم يتصف بصعوبة التلويح
سهل التناول بالخفاء مصرّح
…
قد فاق في التسهيل والتصريح
فإذا افتقرت إلى كتاب موضح
…
فكتابه المغني عن التوضيح
وقد كان الباشا مع علمه ولوعاً بالكتب واكتسابها، وبنى تربته التي بالقشاشين ومدرسة الباشية، وقدم لمشيختها الشيخ محمد المحجوب الحنفي، وبنى المدرسة التي نسبها لولده سليمان، وقدم لمشيختها العالم الرباني، الشيخ محمد بن علي بن خليفة الغرياني. وجميع هاته الأبنية كانت حول الجامع الأعظم. وبنى مدرسة بئر الحجار وقدم لمشيختها الشيخ مسعود المغراوي الباجي. وبنى مدرسة حوانيت عاشور وقدم لمشيختها الشيخ عبد الله السوسي. وجميع هاته المدارس أوقف عليها أوقافاً من الربع والعقار تخرج منها جرايات كافية للشيوخ والتلامذة إعانة على طلب العلم الشريف. واعتنى بتحصين البلاد، وجهز الثغور، وأجرى السقايات العظيمة النفع، وهدم حانات الحفصية، ومنع بيع العنب لمن يعتصر الخمر، وبنى المباني الضخمة بباردو. ولما امتلأ مكياله ولاقى من عقوق بنيه ما صنعه لعمه وقيدته هموم فقد ولديه بعد أن جمع جميع أموال المملكة بين يديه دهمه الخبر بتجهيز أبناء عمه بالمحلة المنصورة من الجزائر تحت رئاسة حسن باي، فوردت المحلة إلى الحاضرة مع من حشد إليهم من الأعراب حتى نزلوا قبلي الحاضرة، ولج الباشا هو وابنه محمد في القتال حتى انهزما معاً، وقتل ولده محمد قرب الملاسين، وترك ولدين، وهما محمود باي ويوسف باي. واستؤسر الباشا بمحلة الجزيريين وأقام في الأسر عند حسن بايمما الجزيري على حال سيئة أياماً تعادل أعوام تملكه. ثم أمر بقتله فقتل أواسط ذي الحجة الحرام سنة تسع وستين ومائة وألف.
وقد استكمل استقصاء خبره مع عمه وخبر أبناء عمه المؤرخ الشيخ محمد ابن يوسف الحنفي الباجي في تاريخه المسمى. "المشرع الملكي، بدولة أبناء علي تركي" بما يشفي الغليل. وقد دفن حيث دفن ولداه بتربته. عليه رحمة الله وأرخ وفاته كاتبه الشيخ محمد الورغي بقوله:
مضت دولة الباشا عليِّ كأنه
…
من الدهر يوماً في البريةَّ ما عاشا
أتته المنايا وهو في عُظم قوة
…
وجيش كثيف مثله قط ما جاشا
فصار دفيناً بعد ما كان دافناً
…
فقلت وقد أرخته: دفن الباشا
3 المولى محمد الرشيد باشا باي
[1122 1172]
هو الأمير أبو عبد الله محمد الرشيد بن حسين بن علي تركي، ولد في ذي الحجة الحرام سنة اثنتين وعشرين ومائة وألف، فاعتنى والده بتربيته وتعليمه وحنكه بما أهله إلى المراتب العالية، واختصه بإمامه الشيخ الحاج يوسف برتقيز، فاعتكف على إقرائه العلوم العقلية والدينية إلى أن بلغ خمس عثرة سنة، فأجمع رجال الدولة على طلب تقديمه لولاية الأمحال ليكون وارث الملك بعد والده، وألحوا بالطلب على والده، لما رأوا فيه من الأهلية لذلك فأجاب مطلبهم، وقدمه لولاية الأمحال أوائل سنة سبع وثلاثين ومائة وألف، وظهرت فيه الكفاءة لذلك مع ملازمته لقراءة العلم. وأكثر ولوعه بالعلوم المعقولة، وعلى الخصوص الأدب، فقد نسج فيه على منوال ملوك الأندلس، وأبدع رقيق الشعر باعتناء قاضي محلته وأستاذه الشيخ محمد بن محمد الشافعي الشريف ومن انضم إليه من الأدباء. ولم يزل مدة تملك والده في اعتناء عظيم بالعلم والأدب. ولما انقضت دولة والده وخشي سطوة ابن عمه خرج من القيروان بعد طول الحصار هو وأخواه علي باي ومحمود باي ومعهم الموفون بالعهد من أشياخهم وكتابهم وأتباعهم أوائل صفر الخير سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف فقصدوا الجزائر، وطلبوا من حاكمها نصرتهم على ابن عمهم. وبعد طول المقام جهزهم بمحلة خرجوا بها في ربيع الأول سنة تسع وخمسين ومائة وألف. وكان أمير المحلة حسين باي قسمطينة فوصلوا بها إلى الكاف، وامتدت أعناق الآمال إلى الإسعاف، ووافتهم نجوع العرب بالمدد، وواصلوهم بالرجال والعدد، لولا ما غدر به أمير المحلة فردها بدون كبير قتال، وغره في ذلك ما وصله من المال، وتفرقت جموع الحاشدين، وأسفوا من شماتة الحاسدين، حتى أتى الأسف على أخيهما محمود باي ففاضت نفسه بقسمطينة في الحادي عشر من شوال سنة تسع وخمسين، ولازم الأخوان الصبر مع قوة الرجاء في الله جل جلاله.
ولم يكن هذا الأمير في جميع هاته المدة يعلق آماله بغير الله وأوليائه حسبما يعلم ذلك من مطالعة ديوان شعره المملوء بالتوسلات التي حقق الله إجابتها. ومن أعز ما رأيته في ذلك مكتوبه الذي وجهه إلى الولي العارف بالله الشيخ أبي العباس أحمد بن باباس وهو من إنشاء شيخه الشريف الشافعي، ولأهمية هذا المكتوب في واقعة الحال التزمت إثباته منقولاً من خطه المختوم بختم الأمير وهذا نصه:[الطويل]
رفعت إليك الحال يا نجل باباس
…
وليس لهدا الأمر غيرك من آسي
فأنت نهاراً كوكب الخور في الدنا
…
وبالليل نبراس السما أيُ نبراس
فكن فارساً حامي الذمار بسيفه
…
وجئني بعباس وجئني بمرداس
يحاربني قوم بأصناف مكرهم
…
وجاءوا بأنواع الحروب وأجناس
وما علموا أني بعزك عائذ
…
فأنت لهم يا أيها الجبل الراسي
وخذ بيدي لله طال تفكري
…
وضربيَ أخماسي زمانا بأسداسي
أجب دعوة المظلوم ولتكُ ناصراً
…
له حين لاذوا النصر يوجد في الناس
وخُلْ جولةً تمحو بها كل ماكر
…
وما كان من ضر وما كان من باس
رجوتك تكسوني من المجد حلة
…
فأنت لأبناء السبيل هو الكاسي
وأحظى بما أرجوه فيك من المنى
…
ويذهب إيحاشي ويُقْدِم إيناسي
عليك سلام ليت حامله الصَّبَا
…
إليك فلا أحتاج فيه لقرطاس
ولو أنني اسطَعْتُ المسير لجئتكم
…
فطوراً على عيني وطوراً على رأسي
أقول بعد حمد الله الذي به تنجلي الكربات، وتكشف البليات، وتسري النكبات، وتدرأ الرزيات، والصلاة والسلام على نبيه ومصطفاه، وحبيبه ومجتباه، صلاة تمحو آثار الكرب، وتهزم كتائب النوب، إني لما زحف إليّ الزمان بمحاله، وسقاني صرف كؤوس أهواله، وأجلاني من مقري، وكسا بجلباب الخسوف بدري، وكرَّ عليَّ بجيوش الكمد، وأعدمني الوالد والولد، فاستنسر عليَّ البغاث، وفقد المستصرخ والمستغاث، لم أزل أستجير من ظلمه فلا أجد مجيراً، واستنصر عليه ولا أوافي نصيراً، فأنا في غمار تلك الحال، ضجيع أوحال وأوجال، ناداني الفكر المطاع، بما لبته القلوب والأسماع، يا هذا لقد جئت شيئاً فريا، ونسيت من لم يك منسيا، أيا هذا الإنسان، المغمى عليه من تداول الأشجان والأحزان، حتى غفل عن الملاذ بذوي العرفان، الآسي ما تقرح من جراح الزمان، تالله لقد حدت عن الباب، والتمست الزكاة من غير مالك نصاب، وطالبت الضامن والمضمون حاضر، وتحيرت والأمن ظاهر، أين أنت عن أصفياء الله، وذوي الحمية والجاه، أين أنت عن المولى الذي ربضت الفضائل بناديه، ولبى المنى لمناديه، وعرجت الآمال بأرجائه، وآب قاصده برجائه، وانتشرت معارفه في الأقطار، ووكفت عوارفه كصيبات الأمطار، وكتبت على صفحات الزمان مفاخره، وصفت بواطنه وظواهره، سابق فبرز، ونال من المحاسن غايتها وأحرز، فأي عبارة تفي بعلياه وأي رام يطمع في بلوغ مرماه، هيهات هيهات ما هو إلا غرة هذا العصر، وحسنة من حسنات الدهر، تطلب المجد جاهداً، وتناول النيرين قاعداً، الجامع بين الشريعة والحقيقة، المتخذ الأتباع رفيقه وفريقه، فانتبهت لنداء الفكر من نومتي، وأفقت من غفلتي، علمت أني ظمئت والماء أمامي، وضللت وبجنبي إمامي، وأن المعني بالخطاب، والموجه إليك ذلك الجواب، وحامل لواء العرفان بلا ارتياب، الآتي من دقائق العلوم ورقائق الفهوم بالأمر العجاب، بقية أهل الإملا، والمدخر للجلى، حامي من بحماه احتمى، مروي صدى من أتاه على ظما، عمدتي وعياذي، وعدتي وملاذي، ومنبع إيجاري وإنقاذي، ومقصد تعريجي ولواذي، نتيجة قضايا الحجا ولا ريب ولا التباس، ومجمع أصناف الذكاء فأنى يضاهيه إياس، مظهر أساس العرفان حين تلاشت الأساس، لابس حلل التربية التي فيه حين نبذ ذلك اللباس، مولاي وأستاذي أبو العباس، سيدي أحمد بن باباس، لا زال مهتصراً من المعارف والعلوم أفناناً وأي أفنان، آية من آيات الزمان، ناشراً لسنة عنصر آل عدنان.
أما بعد فأيها السيد الجليل، ذا الفخر العريض الطويل، أهدي إلى حضرتكم سلاماً أشهى من البرء للعليل، وأنفع من الماء للغليل، ورحمة الله وبركاته. وأشكو إليك جوى فؤاد عولت عليك أفلاذه، وأعول طويلاً وأنت مالكه وأستاذه، وفارقه وسنة، ورافقه حزنه وشجنه، وهام في طرقات همه، وأمسى أمسه خيراً، من يومه، وارتدت على أعقابها آماله، وغدا شذر مذر حاله. وموضوع قضيتي مطال، وشرح قصتي تكل عنه الأقوال، وقد اقتضى الحال سرد بعضها على حضرتكم، وعرض أمري على سدتكم، ليتضح من ينسب الظلم إليه. ويظهر الباغي والمبغي عليه، وذلك أن والدنا رحمه الله لمها قلد بطراز الولاية، ورشح لهذه الرعاية، اتفق على ولايته أهل الحل والعقد، ورضيه ذوو الاختبار والنقد، ولم يزل راغباً عن الإمارة، راهباً من ورطة النفس الأمارة، إلى أن ولوه بالرغم عليه، حيث توسم الناس الخير فيه، فقام في ذلك المقام، أحسن قيام، وعامل الناس بالرفق، وسلك سبيل الحق، واجتهد في إعلاء السنة المحمدية، وإحياء الشريعة الأحمدية، حتى غدا عصره أحسن عصر، ومصره أجمل مصر، والناس بحسن سيرته في أمن وعافية، وعيشة راضية، ولعله بلغكم ما فعله من الخيرات، وسوابغ الحسنات، ولولا الحرص على تعريف حضرتكم بالحال، وشرح المقال، لما سطرت يمناي في هذه التزكية حرفاً. ولا أعملت في ميدانها طرفاً. ثم إن والدنا رحمه الله لما جرته الأقدار إلى موقف الملك، وانتظم في ذلك السلك، كان له ابن أخ رباه صغيراً، وسقاه من صنوف الإحسان سلسلاً نميراً، فرأى أن الأقارب أحق بالتقريب، وصلة الأرحام من أحسن ما سعى إليه اللبيب، فقرب ذلك الربيب وأدناه، وخصصه واجتباه، وولاه الولايات. ورأسه على الجبايات، وصاهره بكريمته، وأسنى في قيمته، وقدمه على الأجناد، وفعل معه ما لا يفعله إلا الوالد مع الأولاد، إلى أن أضحى بالعيون مرموقاً منظوراً، ولم يكن شيئاً مذكوراً، فلما شب وازدهى، واقتعد السهى، نبهوا والدنا عليه، وقرروا عنده ما يجنح إليه. وأغروه به، وعلى الاستراحة من نصبه وتعبه، فرأى والدنا رحمه الله أن هذا محض ظن ووهم، وإن بعض الظن إثم، وأن الإقدام على الحد بغير ثبوت شرعي يسخط الرب، ويدخل في ظلمات الذنب، فأعرض عنه إعراض من ثبت لديه بغيه، وما يرتاده سعيه، وتغافل عما يبدو منه وأغضى، واختار الرضى بالقضا، فلم يلبث إلا قليلاً وفر ذلك الربيب ومال إلى بعض الجبال، وجمع عليه أهل البغي والضلال، وأفسد الطرقات، ومنع المعيشات، ورماح بغيه على المسلمين شرعٌ، وأموالهم نهب يوزع، ولم يزل والدنا يقاسي في حسم ذلك الفساد، والبلاء النازل على العباد، إلى أن أجلي من تلك الأقطار، وعاد الأمن إلى ما كان، وحسن الزمان، وسرت البلاد والعباد، وانمحى البغي والفساد، وحين وضعت الحرب أوزارها، وراجعت العافية دارها، رأى والدنا أن تأخير الحج المفروض المحتم، كتأخير رأس مال السلم، فعزم على الحج إلى بيت الله الحرام وزيارة قبره عليه السلام، وأن يلازم ذلك المحل، إلى أن تتلاشى روحه وتضمحل، وعمد أن جمع مجلساً عاماً حضره العلماء الأخيار، والفضلاء الأبرار، وعهد إليّ بالولاية، وقلدني بالملك والرعاية، وبايعني الناس عامة على السنة المألوفة، والطريقة الموصوفة، وهذا العدو إذ ذاك بالجزائر يفسد في نفوس حكامها، وولاة أحكامها، ويحسن لهم القيام علينا، وإضرام نار الحرب في نواحينا، حتى استزلهم بدهاه، وبلغ من ذلك مناه، وكان ما في علمكم، وتقرر عندكم، وآل أمره إلى أن جرع والدنا الحمام بيده. وتولى ذبح مربيه ووالده، وغصب لنا ملكنا، واستحل هلكنا، وأقبل على الخلق قتلاً وصلباً، ونهباً وسلباً، وبدل الناس البأس بالعيش الأول، وأفعال الله لا تعلل.
[الخفيف]
هذه قصتي وهذا حديثي
…
وإذا كنت خاذلي من يجير
وقد قصدت جنابك، وطرقت بابك، ويممت فناك، وأملت دعاك، وتوسلت إليك بسيد البشر، الشفيع المشفع في المحشر، أن لا تتركني سدى، ولا تشمت بي الأعدا، يا بدر الصالحين، يا تاج العلماء العارفين؛ جئت إليكم مستجيراً، فالله الله في هذا النازح الوطن، المحالف الشجن، المفارق الألف والسكن، ناشدتك الله لا تنبذني ظهرياً، ولا تتركني نسيأ منسياً، أيخيب القاصد حماكم، أيرمى المتمسك بدعاكم، وأنتم أهل الله لا يخيب من بكم استجار، ولا يخشى صولة الأذعار، حنانيك أي هذا الإمام، جوارك يا علم الأعلام، لألو لك أن تعرض عمن بكم لاذ، وبسواكم استعاذ، وبحرمكم استظل، وبفيض كرمكم أم وأمل، ألا راحم لغربتي، ألا ساد لحلتي، ألا منفس لشجوي وكربتي، أليس عاراً عليكم، ضيعة القاصد بعزمه إليكم، فلا تتركوني مضاعاً، وفؤادي ملتاعاً، وقلبي شعاعاً، وأشجاني أجناساً وأنواعاً. كيف أضام وإليكم قصدت، كيف أحرم وبكم وثقت وتعلقت، كيف لا أظفر بمرادي، وأنتم مخيم ودادي، ومواليَّ وأسيادي. وعليكم اعتمادي، وبهمتكم إمدادي وإسعادي، وإني أتوسل إلى حضرتكم بالله الذي لا إله إلا هو الرحيم الرحمن، الرؤوف المنان، والأنبياء والمرسلين، وبمحمد الصادق الأمين. والسادة صحابته، والأخيار قرابته، وبالمهاجرين والأنصار، والأقطاب والنجباء والأخيار. وبجميع الأولياء والصالحين، والعلماء الراسخين، أن لا تحرمني من دعاكم، والتوجه بهمتكم، إلى خديم سدتكم، حتى أظفر بمأمولي، وأبلغ غاية سؤلي، فلا خاب من إليكم انتسب، وعليكم أكب، فأغيثوا هذا المظلوم، الكثير الكُلوم، الغريب الديار، المقلب على الجمار، كلا فإني لما وفقت لقصدكم، واشتملت بودكم، وانتميت لذلك المقام، واعتززت بذلك الذمام، ظفرت بالأهل المطلق، ونزلت على المحلق. فمثلكم من يحمي جاره. ويبلغه أوطاره. لا زلتم موقف الآمال، ومحط المجد والنوال. وعائد السلام عليكم، كما بدا من ابنكم المنتمي إليكم، الطالب فضلكم ورفدكم، الفقير إلى رحمة ربه ولطفه محمد باي ابن حسين باي ابن علي. وكتبت بتاريخ أواخر جمادى الأولى من عام1161.
هذا والغيب قد هيأ لهؤلاء الأمراء أعز السعادة المستدامة إلى أن تخلصوا خلوص التبر، وحنوا إلى وطنهم وساعدهم القدر. وأعيا الناس ما لاقوه من ابن عمهم، وكاتبوهم يستنهضونهم، فجهزهم حاكم الجزائر بمحلة منصورة تحت رئاسة حسن باي أزرق عينه. وأقبلوا مع من حشد إليهم من نجوع الأعراب الذين أعياهم الجلد وقاموا بإمدادهم إلى أن تغلبوا على عدوهم، واتصلوا بتراث أبيهم من غاصبه، واقتص الله لهم دم أبيهم ودخلوا الحاضرة في يوم مشهود، خفقت فيه الرايات والبنود، وهو يوم الخميس سادس ذي الحجة الحرام سنة تسع وستين ومائة وألف، فهرعت الخاصة والعامة إلى بيعتهم واطمأنت الأنفس وقرت العيون.
[الطويل]
وألقت عصاها واستقر بها النوى
…
كما قر عينا بالإياب المسافر
وأقام الجزيريون أياماً كدروا بها صفو مشرب الباشا محمد الرشيد باي من إعناتهم وجراءَتهم وإضرارهم بالأهالي إلى أن أراحه الله من إقامتهم على ما هو مبسوط في كتاب "المشرع الملكي، بدولة أولاد علي تركي " وأقبل الأمن على الأهالي بعود الدر إلى معدنه وتنادى الناس بالفرح المديد، من ولاية محمد الرشيد، فاقتعد دست الملك التونسي وعم بإحسانه كل من وفد عليه سائلاً، وأنشأ من حماسة عزة نفسه الملوكية قائلاً:[الطويل]
أيشبهنا في العالمين قبيل
…
ونيل علانا ما إليه سبيل
أرى العز لا يأوي سوى بيت مجدنا
…
ولا في حمانا يستذُّل ذليل
وأعراضنا بين الأنام جواهر
…
وجوهرنا في الخافقينْ يسيل
ترى السعد والأيام ملك يميننا
…
تميل على العِلات حيث نميل
صوارمنا تطغى على طول دهرنا
…
لها في رؤوس الدارعين صليل
إذا استقبل الأعداء صارمَ سيفنا
…
فماضيه بالنصر العزيز كفيل
وإن نحن سرنا في كماة جيوشنا
…
وللخيل وقع في الثرى وصهيل
تكاد جال الأرض من عظم بأسنا
…
تذوب على سطح الثرى وتميل
تسع وستين ومائة وألف، فهرعت الخاصة والعامة إلى بيعتهم واطمأنت الأنفس وقرت العيون.
[الطويل]
وألقت عصاها واستقر بها النوى
…
كما قر عينا بالإياب المسافر
وأقام الجزيريون أياماً كدروا بها صفو مشرب الباشا محمد الرشيد باي من إعناتهم وجراءَتهم وإضرارهم بالأهالي إلى أن أراحه الله من إقامتهم على ما هو مبسوط في كتاب "المشرع الملكي، بدولة أولاد علي تركي " وأقبل الأمن على الأهالي بعود الدر إلى معدنه وتنادى الناس بالفرح المديد، من ولاية محمد الرشيد، فاقتعد دست الملك التونسي وعم بإحسانه كل من وفد عليه سائلاً، وأنشأ من حماسة عزة نفسه الملوكية قائلاً:[الطويل]
أيشبهنا في العالمين قبيل
…
ونيل علانا ما إليه سبيل
أرى العز لا يأوي سوى بيت مجدنا
…
ولا في حمانا يستذُّل ذليل
وأعراضنا بين الأنام جواهر
…
وجوهرنا في الخافقينْ يسيل
ترى السعد والأيام ملك يميننا
…
تميل على العِلات حيث نميل
صوارمنا تطغى على طول دهرنا
…
لها في رؤوس الدارعين صليل
إذا استقبل الأعداء صارمَ سيفنا
…
فماضيه بالنصر العزيز كفيل
وإن نحن سرنا في كماة جيوشنا
…
وللخيل وقع في الثرى وصهيل
تكاد جال الأرض من عظم بأسنا
…
تذوب على سطح الثرى وتميل
عوائدها التي كانت عليها تلك المدة، وساعده البخت فأخصبت البلاد، وأعلن أصحابه ومن كانوا بمعيته بأفراحهم فاستعملوا الآلات المطربة للأنس بعد طول غربتهم، وجرى معهم في ذلك الميدان غيرهم. حتى كانت أيام تلك الدولة كأنها أعراس، وفاقت به وسطى دول بني العباس، ولا سيما وقد أكرم الله هذا الأمير بولديه أبي الثنا محمود باي وأبي الفداء إسمعيل باي اللذين جعل الله الملك مخلداً في عقب أولهما جزاءً من الله على حسن طوية هذا الأمير.
وكان عالي الهمة عزيز النفس ضخم الدولة مشيداً لدعائم شارات الملك وتعظيم شأن الدولة والميل إلى المعالي وحب العلم والعلماء وهو منهم، له ديوان شعر بديع جيد النظم والنثر والتوشيح. وقد نظم قصائد نبوية وتوسلية تدل على حسن وثوقه بالله وأوليائه.
أما قصيدتاه الميمية والقافية فهما آية الله في الإبداع. وقد سمى أولاهما "محركات السواكن، إلى أشرف الأماكن" وهي التي يقول في مطلعها: [الكامل]
هل زَورَة تشمِي فؤاد متيم
…
يا أهل مكة والحطيم وزمزم
وشرحها أستاذه الشريف الشافعي بجزأين ضخمين التزم في شرح كل بيت منها خمسة فنون؛ وهي اللغة والنحو والمعاني والبيان والبديع عدا حاصل المعنى وسمى شرحه المذكور "إظهار النكات، من خبايا المحركات " فكان شرحاً مشحوناً علماً وأدباً حيث اعتكف به مؤلفه على استخراج الدر من بحرها العميق إذ أنه لما استقر به النوى ورجع مع تلميذه ومخدومه إلى أرضه التونسية التزم الإقامة بجبل المنار تاركاً جميع علائق الدولة. وكان الأمير يرسل له ليلة كل جمعة فرسه الأشهب، ولم يمتطه غير أستاذه المذكور فيحضر عنده بباردو للمبيت ومن الغد يرجع الفرس المذكور موصولاً بجميل الصلات، ووافر العطيات، وهو في رغد العيش من إقبال السعد، بإنجاز الدهر لجميل الوعد، يرصع تيجان تلك القصيدة، بالجواهر النضيدة، حتى أظهر ما احتوت عليه من النكات، بالآيات البينات، فرحم الله الناظم والشارح، إذ أخصبا تلك المسارح.
وأما القصيدة الثانية القافية فقد شرحها الشيخ محمد الكواش وقيل شارحها والده الشيخ صالح الكواش غير أني لم نطلع عليه.
وقد عم فضل هذا الباشا سائر الموفين بعهده من أصدقائه ومن أدركهم من رجال دولة والده إلى أن مرض نحو العشرة أيام، وأدركته المنية ليلة الاثنين الرابع عشر من جمادى الثانية سنة اثنتين وسبعين ومائة وألف، ودفن بتربة والده عليه رحمة الله. وقد رثاه الشيخ محمد الورغي بقصيدة كتبت على قبره وهي قوله:[الكامل]
هذا ضريح للإمام الأمجد
…
نجمِ الملوك السيد ابن السيد
علم غدا للقاسمين مجاوراً
…
فأضا أمامهما ضياء الفرقَد
لاقى برأفته العباد فربه
…
يلقاه بالغفران يوم الموعد
عم الأنامَ الهديُ في أيَّامِه
…
إحكام حكم قل من لم يهتد
فالحلم شيمته وحليته الرضا
…
والخير فيه لمن يروح ويغتدي
يا واقفاً بضريحه سل ربه
…
كرماً يمتعه بجور نهدِ
واقرأ له أم الكتاب هدية
…
فعسى يفوز برحمة يم تنفذ