الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما أخوه صاحب الترجمة فقد ولد سنة 1226 ست وعشرين ومائتين وألف، وحفظ القرآن العظيم حفظ تثبيت وجوده، وقرأ العلم الشريف على شيوخ كثيرين، منهم الشيخ أبو عبد الله محمد البنأن والشيخ محمد النيفر، ثم اشتغل بأحواله وتعاطى التجارة بسوق القماش وسوق العطارين الكبار مع ملازمته تلاوة القرآن ثم أنه تقدم لمشيخه أحزاب الأسبوع لجامع الزيتونة عند وفاة الشيخ الذي قبله وما توفي نائب الخليفة الإمام الثالث الشيخ أحمد القروي قدم المشير محمد الباشا صاحب الترجمة للنيابة غمامً ثالثأن وقدم الشيخ محمد بن سليمان إماماً للتراويح وشيخاً على الختمة، وكان خليفة الجامع يومئذ هو الشيخ محمد البنا والإمام الأكبر هو عم صاحب الترجمة الشيخ محمود محسن، فقام بالنيابة احسن قيام، في كثير من العوام، ثم عند وفاة خليفة عمه قدمه المشير الثالث محمد الصادق باشا باي خليفة لعمه في أواسط المحرم سنة 1283 ثلاث وثمانين ومائتين وألف، وصادف ذلك هرم عمه وعجزه فقام متحملاً أعباء الخطة ولازم المحراب والمنير وقام بالخمس والجمعة إلى أن توفي عمه فقدمه المشير المذكور لخطة الإمامة الكبرى بجامع الزيتونة أواسط شهر رمضان المعظم سنة 1284 أربع وثمانين ومائتين وألف، ولما توفي إمام التراويح وشيخ الختمة الشيخ محمد بن سليمان تقدم عوضه ولده الشاب الشيخ حمودة محسن، فرآه أبوه متقدماً بمحراب جامع الزيتونة، ونال مسرة ذلك، وكان عليه رحمة الله مصاباً بذات الرئة، اشتد به المرض بعد حين، ولازم الفراش في مبادئ عام تسع وثمانين حتى منعه من الحضور لعمل المولد الشريف.
وكان حسن الأخلاق حسن المحاضرة، تقياً بالله، لا تأخذه في الله لومة لائم، دخل في أعضاء المجلس الكبر مدة القوانين، فظهر منه النصح للأمة والدين، وهو معقد عند العموم تجله الخاصة والعامة، اخبرني خليطه أبو عبد الله محمد بروطه أنه في صفر الخير من عام وفاته مر على دار الشيخ علي محسن فرآه فقال له: هل تأتيني بأخي؟ فأجابه لذلك، وطلب من صاحب الترجمة الذهاب إلى أخيه، وكان يومئذ يجد ألم صدره، فأحضر له كروسة، وذهباً معاً إلى الشيخ، فلما رآه الشيخ قال له: أأنت أخي؟ فقال له: نعم، فقال له: وهل بقيت دارنا التي بها شجرة الحناء؟ فقال له: نعم، فقال له: أو إن الحناء الآن موجودة؟ فقال له: غن الشجرة قد ماتت، ثم سأله عن عمه فأخبره بوفاته، فسأل عمن تركه، فأخبره بأبنائه، فطلب إحضارهم فأحضروهم له في الحين، وبارك عليهم، وأمرهم بالرجوع من حيث أتوا ثم طلب من أخيه الإمام الكبر صاحب الترجمة أن يدخل معه إلى داخل رحابه، فدخل وأقام معه منفرداً هـ نحو الساعة، ثم خرج وصحبته قفتان مخاطتان إحداهما بالجوز والأخرى باللوز، ورجع إلى داره، وف يتلك الليلية ظهر عليه حال واختلاج واكثر التوسل لله مما لا طاقة له به، ولازم بيته على كماله وإجلاله والناس يتبركون بزيارته إلى أن توفي ثاني عشر ربيع الأول سنة تسع وثمانين ومائتين وألف وتبرك الناس بحضور جنازته، وأعقب في الجامع ولده، وكان مدفنه في تربة آبائه بالزلاج عليه رحمة الله آمين.
الشيخ صالح النفير
هو شيخنا أبو الفلاح صالح بن احمد بن قاسم بن محمد بن محمد بن أبي النور النيفر، قدم جده أبو النور إلى حاضرة تونس من بلد صفاقس، وكان مقدم آبائه إليها من مصر القاهرة في تجارة، وهم يلبسون العمامة الخضراء علامة على شرفهم، واخبرني بعض الشيوخ منهم انهم من ذرية الشيخ الرفاعي رضي الله عنه وهو مولاي أحمد بن سليمان بن احمد بن سيلمان بن احمد بن إبراهيم بن أبي المعالي بن العباس الرحبي البطايحي الرفاعي شيخ الفقراء الأحمدية إليه كثير من الفقراء الحمدية، وروى الحديث عن سبط السلفي، وحدث وكانت وفاته ليلة الاثنين سادس ذي الحجة الحرام سنة إحدى وتسعين وستمائة، ودفن برواقه المعروف به بحارة الهلالية خارج باب زويلة من مصر.
وأما آباء صاحب الترجمة الأربعة المذكورون فقد ولدوا بتونس، وتعاطوا صناعة الحرير والتجارة بسوق القوافي والعطارين، وساعدهم البخت فربحوا وأثروا مع ما فيهم من البذل والتصدق، وكلهم حج بيت اله الحرام.
وولد شيخنا المذكور سنة 1236 ست وثلاثين ومائتين وألف، ونشأ نشأة صالحة وشد إلى التعلم عزائمه، ونتوجه لقراءة العلم الشريف بجامع الزيتونة، فقرأ على أخيه الأكبر الشيخ محمد النيفر المفتي المالكي كتب النحو من مباديها إلى أن أتى على ألفيبة ابن مالك، وقرأ عليه مصطلح الحديث ومختصر السعد، ونبذة من المطول، وتفسير القاضي البيضاوي، وقرا على الشيخ أبي عبد الله محمد بن سلامة المفتي المالكي شرح التاودي على نظم ابن عاصم بحواشيه، وشرح الشفا للقاضي عياض، وقرأ على المولى الجد الشيخ أبي عبد الله محمد السنوسي المختصر الخليلي، وقرأ على شيخ الإسلام أبي عبد الله محمد معاوية المطول، وقرأ على الشيخ أبي عبد الله محمد بن ملوكة رسالته المنطقية وغيرهأن وقرأ على غير هؤلاء من أعلام الشيوخ كالشيخ أبي أسحق إبراهيم الرياحي، وشيخ الإسلام الشيخ محمد بن الخوجة والشيخ أبي عبد الله محمد الخضار المفتي المالكي، والشيخ أبي عبد الله محمد البنأن وقد برع في المعقول والمنقول مع حسن العارضة وجلس للتدريس بجامع الزيتونة، وتقلب في خطط علمية رفيعة الشأن، فتقلد خطة التدريس من الرتبة الثانية في الثاني عشر من ربيع الأول سنة 1265 خمس وستين، ثم في سابع جمادى الثانية من السنة الموالية لها ترقى إلى الرتبة الأولى، وأفاد الطالبين وختم كتباً مهمة ولما ختم مختصر السعد هنأه أحد تلامذة الدرس، وهو الموثق الفرضي المجود، المدرس الشيخ محمد البشير التواتي بقوله:[الطويل]
أبدر تمامٍ حلّ في طالعه السعد
…
أمِ البرقُ يبدو من نواحي بني سعدِ
أم ارتفع الجلباب عن وجه بثنة
…
فبانت ثنايا الدر في مجمع الشَّهد
فآنستُ وجهاً أنه الشمس في الضحى
…
وأن الحيا قد حاك ورداً على نجدِ
وقد سدَّدتْ نحوي سهامَ لواحظٍ
…
ليفعلنَ بي فعل المواضي من الهند
فبتُّ ونار الشوق وسط حشاشتي
…
ولم تذق العينان طمعاً من البرد
زكم وعدت مقتولها بحياته
…
فشاب ولم يظفر بمائسة القدَّ
وإني قنوع في الوصال بنظرة
…
إلى الغادة الحسنا مبرَّرة النَّهد
فإن لامني العذال فالقصد صالحٌ
…
لدى الناس مثل النار ليلاً على بند
تقيٌّ نقيٌّ ناسكٌ متورع
…
هو الفاضل المحمود في القرب والبعد
إمام همام لوذعي وسيد
…
من الشرفاء الطاهرين أولي النجد
خلاصة أخيارٍ ومفتاحُ كنزهم
…
وبحر محيط لا يغيض من الورد
كمال لنا كشفٌ لكل ملمة
…
خليل لطلاب العلوم أولي الرشد
رياضُ علومٍ كأس عذبٍ رحيقها
…
أساس مبانيها يصول كما الرعد
كأنّه ليس في جيوش دروسه
…
وفي معرك الألباب سيف بلا غمد
إذا ما تصدّى للبيان رأيته
…
يصوغُ المعاني في البديع بلا جحد
وكم لهجت أنفاسه بجواهرٍ
…
منظمةٍ كاللؤلؤ الدر في العقد
يفوق الورى في كل أمر يسودهم
…
وغن ذكروا مجداً تقدم في العد
أيا ماجداً قد حاز كل فضيلةٍ
…
ويا سيداً دامت له سبلُ الودَّ
فدونك بنت الفكرِ قد تمّ حسنها
…
أتتك تهنّي في ختامك للسعد
وقد ولي مشيخة المدرسة المرادية في السابع عشر من ذي الحجة الحرام سنة 1271 إحدى وسبعين، وتقدم للإمامة والخطبة بجامع درب العسال في السابع من ربيع النور من السنة الموالية لهأن وتعاطى في مبدإ أمره المتجر، وكان حانوته بالعطارين الكبار يومئذ وجلس للإشهاد، وكان الولي الصالح الشيخ صالح المثلوثي كثير التردد عليه، فاتاه مرة إلى حانوته، وقال له: يا شيخ صالح هات دفترك واكتب إنك ستولى خطة كذا وخطو كذأن وذكر له عدة وظائف رفيعة يعز اجتماعهأن وكان المر كما ذكر الشيخ رضي الله عنه فقد قدمه المشير الثالث لخطة القضاء بالحاضرة منتصف ربيع الأول سنة 1277 سبع وسبعين ومائتين وألف، وتقدم في مجالس الجنايات عند وضعهأن ثم في غرة صفر الخير سنة ثمانين ترقى إلى خطة الفتيا ثم في شهر شوال استعفى من خطته في مجالس الجنايات، وخرج لحج بيت الله الحرام ثانياً غرة ذي القعدة الحرام سنة 1280 ثمانين ومائتين وألف، فحج وزار ورجع إلى الحاضرة على خطة الإفتاء، وكان مفتياً سادسأن ولما توفي الشيخ محمد البنا صار مفتياً خامسأن ولما توفي الشيخ الطاهر بن عاشور صار مفتياً رابعأن ولما توفي الشيخ احمد بن حسين ترقى إلى رئاسة المجلس الشرعي، فولي خطة باش مفتي بتقدمه على المفتي الثاني يومئذ الشيخ الشاذلي بن صالح، والمفتي الثالث الشيخ علي العفيف، وكانت ولايته الخطة المذكورة تاسع شعبان الأكرم سنة 1285 خمس وثمانين ومائتين وألف بعد أن تقلد وظيفة الحسبة والنظر على بيت المال أواخر ذي الحجة الحرام سنة 1284 أربع وثمانين ومائتين وألف.
وقد كان فقيهاً عالمأن له حسن دراية، يضرب بها المثل، مع مزيد التحصيل في الفروع والأصول، وحسن الجاه الذي لم يشاركه فيه أحد يومئذ، وله ولع بالتصوف والأذكار، وحب الصالحين والزيادة لهم، ومواسة الغرباء أينما كانوأن وله حسن محاضرة لا تمل مع اقتدار كلي على إبراز الكلام في قوالب شتى.
وقد قرأت عليه الكفاية شرح الرسالة للشيخ سيدي عبد الله بن أبي زيد القيرواني، وكانت قراءته لذلك قراءة تحقيق بعد صلاة الصبح، ولما ولي رئاسة الفتيا تأخر عن الدرس المذكور، وكانت تقاريره ومباحثه تسحر الألباب، وأذكر منها أنه لما كان يقري قول الشيخ "ومملا يجب اعتقاده أنه تعالى فوق عرشه، المجيد بذاته" وقد أورد الشارح الاستشكال على ظاهر العبارة بما هو مبسوط في محله من إشعاره بالجرمية والاستقرار بالذات نفسهأن فاستظهر رحمة الله أن الجملة مركبة من عقيدتين، وهما كونه تعالى فوق عرشه، وكونه تعالى مجيداً بذاته، بجيث يقرأ المجيد (بالرفع) خبراً ثانيأن لا بالجر على انه نعت للعرش، قال: وهذا الوجه أخذته من قراءة الوقف على ذي العرش في قوله تعالى: (يوجد آية) وهو وجه يزيدك حسناً كلما زدته نظرأن وهكذا كانت أختامه ودروسه كلها في غاية حسن التقرير والتحرير، وأدعيته لطيفة الإنشاء، يبدع في تحريرها كيف شاء، وقد كتب أختاماً كثيرة على أبواب مهمة من صحيح البخاري، وتصدى لشرح الموطأ فكتب عليها كتابة جليلة حين لازم إقراءها بجامع الزيتونة بلغ في الشرح المذكور إلى حيث بلغ في التدريس وتركه مسودة.
وأما تدرجه في مراقي إمامة جامع الزيتونة فقد تقدم للنيابة إماماً ثالثاً في الرابع عشر من صفر الخير سنة 1283 ثلاث وثمانين ومائتين وألف عند وفاة الخليفة الشيخ محمد البنأن وأقام المغرب والعشاء والصبح مدة، وكان كثيراً ما يعتكف الليالي العديدة بجامع الزيتونة لأداء صلاة العشاء والصبح، وقد استصحب في ليلة النصف من شعبان تلك السنة للمبيت معه الشيخ محمود قبادو، فارتجل قصيدته، هنالك التي يقول في مطلعها:[الطويل]
إلى بيتك اللَّهمَ بالعزم أقبلنا
…
حططنا به رحل الضيافة فاقبلنا