الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهلم جر إلى آخرها.
فهذه الأعجوبة السنية، التي لا تكاد أن تكون إنسية، هب ملكي وفي حوزتي أهدانيها مؤلفها بعد رجوعها إليه من الآستانة وقال لي إنه لم يمكن أحداً من نسخها وعليها له شرح وجيز لبيان وجه واحد من وجوه استخراج التواريخ منها فبقتضاه يخرج 74440 تاريخاً وقد نقلت بعض حواشي من تسويد أعارني إياه غير كامل قال فيه إنه يخرج من البيت الواحد في خويصة نفسه 13827 تاريخاً غير ما يخرج بالوجه السالف وإنه يخرج من كامل القصيدة ألوف ألوف ألوف ألوف ألوف مكررة الإضافة خمس مرات وإنه يزيد عدد التواريخ التي فيها على ما يحصل من تضعيف رقعة الشطرنج فسبحان الذي قسم رحمته بين أهل الأرض، ورفع بعضهم درجات فوق بعض.
وقد اطلعت في الديوان على تصديره وتشطيره قصيدة بشر وساءني عدم ذكركم أنه مرتجل، ولعلكم ما علمتم ذلك على أن واقعى حال نظمها أعظم شأناً وأكبر قسمة لبيان طبقة ذكائه من مجرد رؤية بلاغته فيها فأنا الذي اقترح ذلك عليه وأخذه عنه، إذ وردت عليه يوماً فقلت له قد جئتك يا سيدي في حاجة، قال: على الرأس إن كانت في وسعي قلت تشطير قصيدة بشر قال: ابن عوانة، قلت: نعم، قال: طلبت هينا لكنه قد طال عهدي برؤيتها فسأبحث عنها وأشطرها لك، قلت: ها هي معي، قال: إذاً ستأخذها غداً مشطرة إن شاء الله، قلت: بل الساعة إن تكرمت، قال: الله أكبر ومن يفعل مثل هذا، قلت: أنت، قال: هذا أمر صعيب، قلت: على غيرك، قال: قريحتي والله صدية، قلت: أجلها بالنظم، قال: سأفعل الليلة، قلت: بل اليوم إن كنت عليّ من المتفضلين، قال: أنّى والأمر يبحتاج إلى التروي، قلت: افعل وأنا معك من المنتظرين، قال: لابد من توطئة قبل التشطير، قلت: هذا أحسن إحسان والله لا يضيع أجر المحسنين، قال: قد أعييتني حجة يا فلان هاتها، فتناول القصيدة ولم يقرأ غير مطلعها ثم قال: اكتب على خيرة الله، ورفع رأسه وأغمض عينيه وأخذ يملي علي التصدير وأنا أكتب حتى خيل لوهمي أنه تجرد عن العالم الجسماني وغداروحانياً يرى البعيد الغائب، لا تحجب بصيرته الحاجب، فلما تلعثم والله في بيت ولا تهمل ريثما يجد شطراً أو كلمة ولا بدأ بفقرة ثم أتى بأحسن منها ولكنه كان كمن يقرأ في صحيف6ة وكنت أنا اجهد نفسي بسرعة الكابة ولا أفوه ببنت شفة حتى لا أثبط ذلك السيل عن انهماره، ولا أقف في طريق ذلك البحر عند تدفق تياره، اللهم نعم قد وقفت مرة في المجال، والحق أحق أن يقال لأنه أملى عليَّ بيتاً غير تام الفحولة فلم أرضه له فتكلفت واستأذنت واستسمحت وما داهنت فقلت له: يا سيدي إذا كانت خزائن البلاغة في تصرفك فأعطني منها لهذا المكان بيتاً أعظم هيبةً وأكبر فخامة، فتبسّم وقال: اكتب.
[الوافر]
ومن هولٍ لوجبته أراني
…
هدمت به بناء مشمخرّا
ثم استمر يملي عليَّ حتى أتى على آخرها فبقيت مبهوتاً بين يديه ولا أجد كلاماً يفي حق الثناء عليه ثم خرجت من حضرته وأنا أمجد الله وأسبحه وأحمده وما برحت إلى الآن مذهولاً من تلك الموهبة الربانية، والمنحة الصمدانية، التي امتاز بها هذا القطب على الأبدال والنجباء والمجددين والنقباء والأعمدة والأخيار، وجميع ذوي الأسرار، فإن رأيت أني وقعت هنا في الغلط أو ارتكبت الشطط فاعذر ثم أذكر أنها قالة أديب لا عقيدة وعندي أنه إذا كان مجموع ديوانه شاهداً لدخوله في عداد الفحول من الشعراء المتقدمين ففي سوق الأساطيل وهذا الارتجال الجليل شاهدان لتفضيله على كل بليغ سابق، وأنه أقام للإعجاز حداً أمام كل لاحق، وقد رأيت من الواجب أن أورد عليكم الخبر لكي تذكروه إذا طبعتم من كلامه شيئاً آخر لعلكم تحسنون تلخيصه في الرائد وتتحفون به أصحاب نسخ الديوان وهكذا لا نكون ألتناه من عمله من شيء فإن لم يتيسر لكم ذلك فأنا سوف أؤدي شهادتي له لإيفاء حق مننه علي، وتودده إلي، عندما أطبع سوق أساطيل البوراج مع ما عندي من شرحها ولذلك ألتمس الآن من فضلكم أن تستنسخوا لي كراسة الشرح المشار إليها في الديوان وتعلموني بالمصروف لكي أبادر إلي إيصاله إليكم مع الشكر الجزيل، والثناء الجميل.
استدراك
يظهر لي أن من تروّى في المحاورة المذكورة في أمر التشطير لابد له من أحد أمرين، فإما أنه يتهم صدقها، أو أنه ينتقد علي عملي ويراني أبرمت الشيخ وثقلت عليه، بوقوفي لديه موقف الغريم المستقضى ديناً واجباً، فلهذا وجب أن أبيّن سبب ما فعلت، ليتحقق صدق ما نقلت، وبتقديمي هذا البرهان أكون زدت المطالع معرفة بهذا الرجل الذي كان آية من بدائه خلق الله.
والحكاية هي أني وجدت يوماً في مجلس جماعة من كبراء الدولة التونسية فذكر أحدهم شدة إعجابه بقصيدة بشر ثم تلاها عليهم فتهز هوت إليها القلوب وودوا أن تكون أكثر طولاً فقال رجل منهم إن أحببتم تطويلها بما يفوق على ما سمعتم حسناً فاقترحوا على الشيخ محمود قابادو أن يشطرها لكم ففرحوا برأيه وكلفوه إلى الافتراح فاعتذر، وأشار إلى آخر، والآخر إلى غيره، وكلهم يقول لا فائدة في الطلب لأن الشيخ بخيل بجواهره، فيعد ثم يلوي ويضيع السعي سدىً، ثم إنه وقع الإجماع على أن أكون أنا السفير إليه، وقالوا كلنا يعلم ما لك عنده من العزازة، فلا شك في أن يستحي منك ويلبي دعوتك، ولكن حذار من قبول الوعد إلى غد، قلت: لابد من إمهاله ولو ليلة لمثل هذا الاقتراح، فضحكوا كلهم وقالوا: كأنك لا تعلم اقتدار صاحبنا، وأخذوا يوردون علي من إخباره ما يذهل العقل، فمن ذلك أنه كان في دعون معهم مرةً فذكروا بيتاً حماسياً لأبي الطيب والتمسوا منه أن ينظم لهم قصيدة على ذلك النمط من الغلو والإغراق بالفتوة، فأخذ ينشد حتى غادر ذلك المتنبئ وراءه بمراحل، ثم ابتدره أحدهم ببيت من تائية الفارضي، واقترح عليه النظم على نسق تلك الجناسات، فانتقل فوراً من فخامة ذلك التحمس إلى رقة ذلك النسيب، حتى أدهشهم، وقالوا: لو شاء الإنشاد يوماً كاملاً لقدر عليه لما عنده من غزارة المادة فهو بحر لا ينزح. وذكروا لي عجائب أخبار عن ذاكرته الوقادة حاصلها أنه ما قرأ شيئاً فنسيه وأن ما يقرع سماعه إعادتها عليهم ففعل، فمن ذلك ما أترك العهدة فيه على الناقل، أنه تلي عليه يوماً رسالة بالفرنساوية، فلما فرغ منها، أعاد الشيخ كلماتها مع أنه لا يعرف شيئاً من لغات الإفرنج، فلما سمعت كل ذلك توجهت إليه حازماً على الإلحاح، فكان في ما بيننا ما مر بيانه وجاء فعله بقصيدة بشر مصداقاً لما قيل لي عنه.
أما حليته، فقد كان طويل القامة، مستوفي الجسامة، رقيق البشرة، أبيض مشرباً بحمرة، أدعج العينين، حسن الابتسام، عذب الألفاظ لطيف نغمة الكلام، يميل برقة لفظه إلى الإشمام، وكان سهل الجناب رقيق الحاشية أنيساً متواضعاً على أنه ما كان يحجم أحياناً عن القول أنه أعلم الناس طراً وما كان مهذاراً، ولا سريع الكلام، وكان يخيل لسامعه أن فيه سراً موجباً لتصديق ما ينطق به، ذلك لأنه ينطق متأنياً، كأن كلماته تتصعد من سويداء قلبه يرافقها أحياناً تصاعد أنفاسه، وكان يحب الوحدة كأنه غير راضٍ عن الناس، ومع علو طبقة عقله كان يظهر أحياناً ساذجاً، وما كان يسعى للدنيا ولا يحتال لطلب الوجاهة، ولذلك كان قليل النشب، تلازمه حرفة الأدب، أما علومه ففضلاً عن أنه كان الفقيه المحقق، والحافظ المدقق، واللغوي النحرير والأديب الماهر، الناظم الناثر، والمالك لزمام المعاني، والبيان والبديع، والنحو، والصرف، والعروض، لم يكن أجنبياً عن سائر العلوم كالفلك، والمساحة، والحساب، والطب، والتاريخ، واستخراج الغوامض من علوم النجوم والجفر وأشباهها، وما كان يرى من الألغاز والمعمى شيئاً، إلا وكشف عنه الغطاء فوراً، وقد توفي وما أخاله بلغ الخمسين، وإني عليه لمن الآسفين. أهـ. مكتوب رشيد الدحداح.
وحيث تضمن هذا المكتوب ذكر واقعة تشطير القصيدة الغراء وتصديرها فإني أثبت ذلك هنا تزييناً لترجمته وهذا نصه: [الوافر]
رنت بفواتر الأجفان سكرى
…
يُخيِّل سحرهن النجب خزرا
فيالك من فتون في فتور
…
ومن سكر به السحر استمرا
عقيلة ربربٍ جيداً وطرفا
…
وخوطةُ بانةٍ قدّاً وخصرا
يجول بخدها ماء وراح
…
ليمتزجا فما أن يستقرّا
يبيح لناظر ورداً نضيراً
…
ويورد حائماً ورداً مقرّا
أما وعيونها الدعج اللواتي
…
أقامت للهوى العذري عذرا
وخالٍ بين قوسي حاجبيها
…
بحيث يكون قطب الحسن قرَّا
وفرع ليله فرقٌ لفرق
…
به صبح الجبين أبان فجرا
لقد غطت على بصري وسمعي
…
بملثوم جلا حبباً ودراً
فبالثغر النظيم تدير كأساً
…
وبالنطق الرخيم تدير أخرى
فيالك سورة أضحى فؤادي
…
لصورتها هيولى ليس يعرى
وكيف يُفيق من يُسقة بكأس
…
يكررها التفكر مستمرّا
فيا سرعان ما وطّنت نفسي
…
على ما غيره بالحرّ أحرى
عصيت تجملي وأطعت وجدا
…
يسخرني لها سراً وجهراً
ولم أعطِ الهوادة عن هوان
…
ولا جزعٍ لأن حُملت إصرا
ولكني خطبت ظباء أنس
…
جعلت رضائهن علي مهرا
(أفاطم هل علمت مضاء عزمي)
…
ومطمح همتي نخواً وكبرا
وجود يدي وإقدامي وبأسي
…
وصدقي كلما استسهلتُ وعرا
وأني لا أسامُ الدهرَ ضيماً)
…
ولا أعصي لباغي العرف أمرا
تلين لمن يسالمني قناتي
…
(وتصلبُ إن يرم ذو الغمز هصرا)
(وإني لا أعدّ الوفر ذخراً)
…
ولكني أعدّ الذكر ذخرا
وما كل الخلال تذاع بأواً
…
(ولا كل المذاع يصح سبراً)
وفي التجريب ما ينفي ارتياباً
…
ويصدق سنُّ بكر منه فرَّا
(أفاطم لو شهدت ببطن خبت)
…
لهانت عندك الأخبار خُبرا
ولو أشرفتِ في جنح عليه
…
(وقد لاقى الهزبرُ أخاكِ بشرا)
(إذا لرأيتِ ليثاً رام ليثاً)
…
وكلٌّ منهما بأخيه مغرى
يرى كل على ثقة أخاه
…
(هزبراً أغلبا لاقى هزبرا)
(تبهنس إن تقاعس عنه مهري)
…
وأقبل نحوه أذنيه ذعرا
فكاد يريبه فيخال مني
…
(محاذرة فقلت عُقرتْ مهرا)
(أنلْ قدميَّ ظهر الأرض إني)
…
أرى قدمي للإقدام أجرا
ولست مزحزحي شيئاً ولكن
…
(رأيت الأرض أثبتَ منط ظهرا)
(وقلت له وقد أبدى نصالاً)
…
بأهرتَ فاغرٍ يصررن صرّا
وشوصاً تلتظي أرنت لحاظاً
…
(محددة ووجهاً مكفهرا)
(يكفكف غيلة إحدى يديه)
…
كبالي القوس ينزع مسبطرّا
ولا يثنى براثن منه إلا
…
(ويبسط للوثوب علي أخرى)
(نصحتك فالتمس يا ليث غيري)
…
+فلي بُقيل عليك وأنت أدرى
ومهرى قائل لك لا تخلني
…
(طعاماً إن لحمي كان مرا)
(ألم يبلغط ما فعلته كفّي)
…
ولست ترى الأظافر منه حمرا
ألم تكُ طاعماً أشلاء سيفي
…
(بكاظمة غداة قتلتُ عمرا)
(فلما خال أن النصحَ غش)
…
وغرته الجراءة فاستغرّا
ولج على التهور في نزالي
…
(وخالفني كأني قلت هُجرا)
(مشى ومشيت من أسدين راما)
…
مساورة فلاقى البحرُ بحرا
روجّا الأرض إذْ بغيا عليها
…
(مراما كان إذْ طلباه وعرا)
(سللت له الحسام فخلت أني)
…
أسلت من المجرة فيه نهرا
ولم أمشِ الضراء له لأني
…
(شققت به لدى الظلماء فجرا)
(وأطلقت المهند من يميني)
…
وقائمه بها المحبوس إسرا
هفا إبريقه هفيان برقٍ
…
(فقد له من الأضلاع عشرا)
(فخر مضرجاً بدمٍ كأني)
…
نصحت عليه عبَّ السكر سؤرا
ومن هول لوجبته أراني
…
(هدمت به بناء مشمخرّا)
(بضربة فيصل تركته شفعا) +تضاجع بطنه في الأرض ظهرا
وشيكاً فاثنى منها مثنَّى
…
(لديَّ وقبلها قد كان وترا)
(وقلت له يعز عاي أني) +أراك معفّراً شطراً فشطرا
وأستحيي المروءة أن تراني
…
(قتلت مناسبي جلداً وقهرا)
ولكن رمت أمراً لم يرمه)
…
مريد سلامة قد هاب خطرا
ولم يكُ سامني بالنصح خسفاً
…
(سواك فلم أطق يا ليث صبرا)
(تحاول أن تعلمني فراراً) =فهل علمت نفسك أن تفرّا
وتنفض مذرويك لحل عزمي
…
(لعمر أبيك قد حاولت نكرا)
(أتيت تروم للأشبال قوتاً)
…
فلو ما طلتها ما كان ضرّا
ولكني أدافع منك بغياً
…
(وأطلب لابنة البكريّ مهرا)
فلاغ تبعد فقد لاقيت حراً)
…
ولا تذمم فقد أبلغت عذرا
وعن كرم برزتَ إلى كريم
…
(يحاذر أن يعاب فمتَّ حرا)
ولا أسفٌ على عمر تقضى
…
أفادك منه حسن الذكر عمرا
وله في العلوم المعقولة من الأصول والبيان والمعاني والنحو مدركة تشتعل اشتعالاً يستحضر بها سائر الأبحاث وما عساه أن يقال في المسألة في آن واحد من غير مطالعة، ولطالما نقلت له كلام السعد وقبل أن أذكر ما أورده عليه السيد وما تحمله الشيخ عبد الحكيم وما يمكن أن يكون قد خطر ببالي فيعاجلني بإيراد جميع ذلك كأنما كان يسامرني في تلك المسألة مع طول عهده بها، أما درسه فلم يكن على رتبة علمه لأنه لا يمكن له أن يقصر كلامه في المسألة التي بين يديه حتى ينفصل منها بل كان ينتقل من حال إلى حال في آن واحد فيذهب مع كل خاطر ويخرج عن المقصود وذلك من سعة علمه وعدم تقيده بالتدريس.
وله معرفة تامة بالعلوم الرياضية وما ألحق بها غير أني لا علم لي بها ولم ندر ما هو عليه فيها.
وقد اشتغل في مبادئ أمره بإقراء البشير بن سليمان كاهية ولازمه للتعليم وسلك به مسلكه في الولوع بأهل الله وخدمتهم حتى كان من أعيان السالكين في الطريقة الشاذلية.
وقد ألّف فيها كتاباً سماه سفينة المريد والعلم المفيد، وقد وقفت فيه على إجازة له من صاحب الترجمة أستاذه في الطريقة المدنية كتبها له في حدود عام 1250 فأحببت أن أثبتها هنا وهذا نصها: الحمد لله مستحق الحمد ووليه، والصلاة والسلام على نبيه، أما بعد فيقول عبد ربه محمود بن علي الشريف الشهير بقابادو والد قاوي الراجي رحمة مولاه، الراقب له في سره ونجواه، إني أجزت أخي في الله وسويداء فؤادي وأعز الناس عندي سيدي محمد البشير بن سيدي سليمان كاهية في قراءة المخروجة المدنية على الصلاة المشيشية التي هي من لوازم طريقتنا بالإذن من المؤلف شيخي وقدوتي ونور بصري وبصيرتي المربي سيدي محمد بن حمزة المدني القاطن بطرابلس الغرب بجبل غريان هناك، أبقى الله لنا وجوده، وأدام شهوده، لانخراطها في سلكها الشريف إجازة تامة كما أجازني بها شيخي عن مشايخه والله يتولانا وإياك بلطفه ويجمع قلوبنا عليه ويشرح قلوبنا بأنوار معرفته كما أجزته وأذنته بذكر الورد في أوقاته وذكر اسم الاستغراق على الحالة المعهودة وتلقاها مني بالإذن من الشيخ والله يبلغه ويمده بمحبة الشيخ إنه المنعم الكريم ا. هـ.
وبينما كان الشيخ في تعليم تلميذه المذكور وإطلاعه على بعض علومه الحرفية حتى أحس من المشير الأول ما حمله على الخروج فارتحل إلى إسلامبول وأقام لها مدة، ثم رجع إلى تونس وتقدم شيخاً في مكتب الحرب يقرئ المهندسين ما يحتاجون إليه من النحو واللغة والفقه وغيرهما. ثم قدمه المشير محمد باشا باي مدرساً بجامع الزيتونة في الرتبة الأولى ابتداء سنة ثلاث وسبعين فأقرأ بالجامع وتقدم لمشيخة المدرسة الجديدة بعد وفاة الشيخ محمد بن صالح بن ملوكة الشارني سنة ست وسبعين وأقرأ فيها وختم فأبدع في أختامها.
ثم قدمه المشير محمد الصادق باشا باي لخطة قضاء باردو يوم الأحد الخامس عشر من شعبان الأكرم سنة 1277 سبع وشبعين ومائتين وألف فلازم القيام بالخطة، وتقدم لإنشاء الرائد وتصحيح المطبوعات بمطبعة الدولة التونسية، ثم تأخر عنها لأشغال خطة قضاء باردو ثم تقدم مفتياً خامساً تاسع شعبان الأكرم سنةةة 1285 خمس وثمانين ومائتين وألف.
وقد أدركته قبل الفتيا فلازمته ليلاً ونهاراً في غير أوقات دروسي وقرأت عليه دروساً من الجربي على أيساغوجي ودروساً من القاضي على الخزرجية وفي آخر أمره قرأت عليه دروساً من القطب على الشمسية ودروساً على المطول واستفدت مع ذلك بمراجعته ومحاضرته وكان عالماً متبحراً فهامة شاعراً مفلقاً غراً كريماً عزيز النفس سريع البكاء شفوقاً ينخدع لكل مخادع رخي العيش لسعة ذات يده، أغلب كسبه أنفقه في شراء الكتب فاكتسب كتباً لا حد لها تلاشتها الأيدي من بعده، وقد اجتمعت معه مدة لترتيبها فلم يتم ذلك.
ولم يستكمل الستين 60 سنة من عمره وأتاه محتوم الأجل فتوفي في صبيحة الأربعاء ثالث رجب الأصب سنو 1288 ثمان وثمانين ومائتين وألف ودفن بالجلاز بتربة الشيخ سيدي الونيس ابن السعدي الشريف المشيشي رضي الله عنه رحمة الله عليه، ورثاه الشيخ سالم بو حاجب بقوله: كك [السريع]
نبل قسي الموت هدَّافها
…
يصمي وأهل الفضل أهدافها
والدهر مهما ينتبذ درة
…
من جيده لم يُرجَ إخلافها