الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلا أنه غر كريم في بعض الأحيان يتصور للأشياء المعقولة وجوداً خارجياً كثيراً ما يداعبه أحبته على الطعام الحلو فيصفونه له بالحرارة فيشتكي ألم حرارته ويظهر عليه أثر شكايته ويقيم عند صديقه الوزير العربي زروق بجبل المنار وإذا عزم على الإياب دس له الوزير المذكور من يتحدث في المجلس بوجود اللصوص وقطاع الطريق فيعدل عن عزمه ويقيم إلى أن يتأكد عنده أمن الطريق.
وقد ثقل عليه في آخر عمر ضعف بصره فكان من ذلك في تعب أخبرني الشيخ محمود قابادو أنه أرسل إليه هدية من راحة الحلقوم وكتب إليه صحبتها: [الكامل]
مولاي إن كرام إسلامبول قد
…
بعثا إلي برحلة وقدومِ
ورأوا كأن الدرس أتعب مقولي
…
فتداركوه براحة الحلقوم
وكان الحاضر بين يديه شيخ لا يحسن القراءة فقرأها عليه قراءة نثر فظنها الشيخ من النثر فكتب إليه مجيباً بنثر وهو قوله: بعثوا لك يا مولاي بما يشبه في اللين دماثة أخلاقك وفي الطيب نداء صولتك وأعراقك، وفي العذوبة ما تجده النفس عند ارتشاف أذواقك، فلئن بعثوا لك راحة الحلقوم فلأنت راحة النفوس، ولا غرو أن ما فعلوا معك ذلك فلا عطر من عروس.
ومن لطائف شعره ما كتبه إلى الشيخ الإسلام متشفعاً في بعض المسجونين من العدول فقال:
أعيد أيديَ للنعماء موجبة
…
أن يظهر السلب يوماً في مبانيها
وطلعةٌ قرنت باليمن مسفرةً
…
أن يرهق اليأس يوماً من يعانيها
يا سيداً منه للأيام إذ عسفت
…
أسنى شفيع فلا تحفل بلاحيها
نبئت أن قد أتى نعمان واقعة
…
يستوجب الزجرَ بالتعزيز آتيها
لكن له صبية باتت مروعة
…
ذرف العيون بما تبكي بواكيها
فانظر لهن رعاك الله مقتصداً
…
فأنت من أنت إجلالاً تنويها
ملازماً للتدريس إلى أن توفي في ذي القعدة الحرام سنة 1267 سبع وستين ومائتين وألف عليه رحمة الله آمين.
34
الشيخ محمد بن سلامة
هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن الطيب بن أحمد بن علي بن الباهي بن سلامة الطرابلسي المحمودي من بني سليم قدم جده الباهي من سلامة من طرابلس إلى حاضرة وكان تونس وكان بها مؤدباً.
ونشأة ولده الشيخ أبو الحسن علي في خدمة العلم الشريف وقرأ على فحول العلماء وتصدى لبث العلم في جامع الزيتونة فأخذ عنه علماء كثيرون منهم شيخ الإسلام البيرمي الثاني وغيره وتقدم إماماً وخطيباً بجامع التوفيق فزان المحراب والمنبر بعلمه وفصاحته، وتقدم لخطة قضاء باردو المعمور فقام بها أحسن قيام وأنصف في إبرام الأحكام إلى أن سار لرحمة المالك العلام وأرخ وفاته الشيخ محمد المولا الحنفي بقوله:[المتقارب]
ألا كل شيء ملاقٍ حمامهْ
…
بذا الربُّ في اللوح خطَّ ارتسامهْ
فطوبى لمن كان مستعتباً
…
غداً سالكاً لسبيل السلامهْ
كهذا الإمام الزكي منْ عليه
…
قد انتشرت للقبول علامه
وقضّى الزمان بحسن قضاهُ
…
وخصّ بدرس العلوم كلامه
ولبى مجيباً لداعي الحمام
…
فحلَّ القصور بدار الكرامه
فأغمره الله من فضله
…
وأعطاه رب البرايا مرامه
فمن أجل ذاك أرخوا
…
ببيت كسمط أجادوا انسجامه
حوى كل رفد وكل المنى
…
عليُّ الإمام هو ابن سلامه
وترك ولده الشيخ أبا العباس، متحلياً من العلم بأفخر لباس، أخذ العلم عن والده وعن الشيخ صالح الكواش، وتصدى للتدريس فزان جامع الزيتونة. ولما توفي والده تقدم عوضه لإمامة جامع التوفيق وخطب على منبره كوالده ثم قدمه الأمير حمودة باشا قاضياً ببنزت فأقام فيها مدة ثم حن إلى منبت غرسه فاستقبال من الخطة وولي عوضه فيها الشيخ حمزة الجباس سنة خمس عشرة فأقام هنالك نحو الخمسة الأشهر ثم استقال فرجع مصحوباً بمرض لازمه إلى الوفاة.
وأما الشيخ أحمد بن سلامة فإنه لما رجع إلى الحاضرة أقام على التدريس بجامع الزيتونة وتقدم شاهداً على أوقاف الحرمين الشريفين يوم الأحد الثامن عشر من جمادى الأولى سنة 1216 ست عشرة ومائتين وألف ولما توفي الشيخ صالح الكواش قدمه الأمير لمشيخة المدرسة المنتصرة عوضه فزانه بدروسه ولما توفي الشيخ الطاهر بن مسعود أواخر صفر الخير سنة 34 أربع وثلاثين تقدم عوضه مدرساً بجامع الزيتونة بدرس مراد باي وكانت دروسه بجامع الزيتونة بين فقه وحديث مع القيام بشهادة الحرمين الشريفين غير أنها كانت سبب محنته التي أصيب بها في آخر عمره وذلك أن الأمير حسين باشا كان يبلغه عنه ما يسوؤه من ذم دولته ومدح أبناء عمه السالفين وكان يغض الطرف عن ذلك حتى اتفق أن عرضت نازلة زيتون أوصلته الوراثة للشيخ أحمد بن سلامة وهو في شركة ابن الأمير محمد باي فأراد الأمير أن يضم لابنه الجزء الذي بيد الشيخ ورام أن يرسل إليه في طلب بيعه فامتنع رجال الدولة كلهم من طلب الشيخ في ذلك متعللين بتشدده وعدم ميله فتأكد عند الأمير ما كان يبلغه فأرسل إليه وأحضره بين يديه وسأله بيع الزيتون بما يريد من الثمن فلم يتهيب أن تجاسر عليه بكلمات لا يخاطب بها الملوك بعد التمنع من البيع وتزايد أمامه في التفاوه حتى أمر بقتله فأخرج من بين يديه وترامى أحد أعيان الدولة على الأمير متوسلاً في حفظ دمه لعلمه فقبل شفاعته وأمر بعزله من جميع وظائفه وهي شهادة أوقاف الحرمين الشريفين ودرس مراد باي بجامع الزيتونة وجراية ثلاثة أرباع من الجزية ومشيخة المدرسة المنتصرة التي قد وليها بعده الشيخ محمد العذاري قاضي المحلة وأمر بسجنه ومحاسبته عما تعاطاه في أوقاف الحرمين الشريفين فأجلت المحاسبة على أن عند الشيخ أموالاً باهظة أخذ فيها جميع كسبه الذي منه جزء الزيتون الذي امتنع من بيعه وبقي ولده يجمع المال ويدفع عن والده إلى أن أصابه مرض الطاعون العام فتوفي في سجنه يوم الجمعة السابع عشر من جمادى الأولى سنة 1234 أربع وثلاثين ومائتين وألف ورثاه الشيخ أبو عبد الله محمد بيرم الثاني بقصيدة قال في آخرها:
فيا زائراً إنْ حمت حول ضريحه
…
فزوده مما كان يبديه في الدَّرسِ
وقل يا أبا العباس وابن سلامة
…
عليك سلام ما بقيت بذا الرَّمسِ
وما قرأ المجتازُ قول مؤرخ
…
(ليهينك ما قد نلت من أطيب الأنس)
(1234)
وأما ولده الشيخ الطيب فقد كان ثقة عدلاً تقدم لشهادة الحرمين الشريفين وامتحن بفقد ولده في حياته وتوفي سنة 1278 ثمان وسبعين ومائتين وألف.
وأما ولده صحب الترجمة فقد ولد عام 1216 ستة عشر ومائتين وألف، وتبناه جده واعتنى بتعليمه، فأخذ عنه كثيراً من كتب المبادئ إلى أن ختم عليه المكودي على الألفية وحفظ على يده كثيراً من المتون وجلس للأخذ عن علماء جامع الزيتونة، فقرأ على الشيخ محمد بيرم الثالث علم البيان، وقرأ على الشيخ الشاذلي بن المؤدب الكفاية وشرح الشيخ السنوسي على العقيدة، وقرأ على الشيخ محمد السقاط، وقرأ على الشيخ محمد المناعي شرح الشيخ عبد الباقي على المختصر الخليلي، وقرأ على غير هؤلاء كتباً كثيرة من المعقول والمنقول حتى قرأ تفسير القاضي البيضاوي على الشيخ إبراهيم الرياحي واستجارة فأجاز له بقوله:[الكامل]
حمداً لمن جعل الإجازة سلما
…
يرث المجاز بنيلها نسباً سما
وصلاته وسلامه أبداً على
…
خيرِ الورى متعلّما ومعلما
ولآله وجميع أمته الرضى
…
لاسيما علماؤهم لا سيما
هذا وإن الفاضلَ ابن سلامةٍ
…
ذاك الذي متن الكمالَ تسنَّما
هشَّت إلى نيل الإجازة نفسه
…
لما رآها للأفاضل مغنما
فمن الفقير لها ارتجى معْ أنني
…
ما كنت للظمآن فيها معلما
لكنْ رجوتُ تشبهاً برجالها
…
آبائنا العلماء ومن يشبه فما
فأقول إني قد أجزت له بلا
…
ثنيا رواية ما يصح ليَ انتمى
من كل ما أدريه أو أرويه لا ال?
…
جعفيَّ أقصد فقط أو مسلما
موصي كما أوصيت بالتقوى التي
…
أوصى بها القرآن نصاً محكما
وبدعوة منه بقلب حاضر
…
أرجو بها حسن الختام مكرَّما
والله إبراهيمُ يحمدُ مبدياً
…
أزكى الصلاة على الرَّسول مسلّما
وتصدى للإقراء فأخذ عنه كثيرون وفي سنة إحدى وخمسين أولاه الأمير شهادة أوقاف المارستان والتكية فقبل الأولى وامتنع من قبول الثانية حيث كانت ولايتها بيد الشيخ محمد المساكني صهر الشيخ الشاذلي بن المؤدب مراعاة لشيخه ثم في رمضان المعظم سنة 53 ثلاث وخمسين ولي إمامة جامع سبحان الله ومشيخة المدرسة المنتصرة وخطب من إنشائه فزان بأدبه وفصاحته المنبر ولما تقدم الشيخ الخضار للفتيا قدمه المشير أحمد باشا باي قاضي المحلة المنصورة يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان المعظم سنة 53.
وكان ملازماً للشيخ محمد البحري فأخذ عنه فقه القضاء ولما توفي الشيخ المذكور وترقى للخطة جدي الشيخ محمد السنوسي تقدم صاحب الترجمة لقضاء باردو أواخر ربيع الأول سنة 1254 لأربع وخمسين ومائتين وألف فحضر في المجلس الشرعي وعلق همته بمزاحمة الشيوخ وتكلم في المجامع العلمية.
ولما توفي جدي المذكور قدمه المشير قاضياً بالحاضرة أول شهر رمضان المعظم سنة 1255 خمس وخمسين ومائتين وألف، وكان عالي الهمة فشمر عن ساعد الجد واستعان عل الخطة بفحول أهل عصره وجمع العلماء بداره للمسامرة على المسائل فلم يلبث أن صار فقيهاً ذا خبرة بفقه القضاء.
وصار من فحول العلماء مع ما عنده من الميل إلى الدنيا وحب متاعها وقد ساعده على ذلك البخت فتمكن حبه من نفس المشير أحمد باشا وأفاض عليه سجال نعمه وأعطاه العطايا العباسية حتى صار يدخل عليه إلى بيته بدون إذن ولا يتخلف عن زيارته ومسامرته. ولما استحكم أمره عنده استظهر بحجج جده في ذلك الزيتون الذي أخذه منه المقدس حسين باشا وطلب من المشير أن يملكه جميعه فأرسل المشير في الحال إلى ابن عمه وولي عهده محمد باي وطالبه برسوم جميع الزيتون المذكور التي على ملكه، فلم يسعه إلا أن أرسلها إليه وصدر أمر في تمليك جميعه له ولم يكفه ذلك حتى طلب من المشير استغلاله عن جميع السنين الفارطة من يوم خروج جزئه من يد جده إلى ذلك العهد وآذن المشير بتحرير ذلك من دفاتر بيوعات الزيتون وأعطاه في مقابلة ذلك كثيراً من الربع والعقار وكفى بهاته الواقعة شاهداً على نفوذ كلمته وسطوته وعلو شأنه وكان العقلاء ينكرون عليه ذلك خشية سوء عاقبته التي وقع فيها ولده من بعده لولا أن تداركه حلم المشير الثاني وذلك أن المولى محمد باشا باي لما استقل بالملك آذن بوضع اليد على جميع ملك الشيخ ابن سلامة الذي أعطاه المشير أحمد باشا باي حيث إنه ملك الدولة أخذه بدون حق وإن رجوعه لبيت مال المسلمين أولى وتصرفت الدولة في جميع الربع والعقار الذي انتزعه من ملكه وأصبح ولده لا كسب له ومع ذلك طولب بدفع ثمن ما فوته الشيخ بالمبيع وعظم الكرب بذلك لولا أن تداركت عناية الله وحلم المشير وكرم نفسه فتفضل أولاً بإسقاط الطلب فيما فات ثم اتفق أن وكيل البايليك تجاهر بالشكاية بمطالبة ولد الشيخ في المحكمة وكان ولد الشيخ جالساً بها في أثناء الكتاب فرأى المشير حال ولد الشيخ من الخجل والوجل والانكسار ووجد من نفسه ما يجد أبو الأبناء عند رؤية الخطوب، فرحم ذله وأصدر أمراً بإرجاع جميع ما كان في تصرف الشيخ إلى ولده رحمة منه وشفقة وهو أهل الفضل والكرم والله لا يضيع أجر المحسنين.
ولنرجع لما نحن بصدده من الكلام على صاحب الترجمة فنقول: إنه قد استصحبه المشير الأول في سفره لأطرف المملكة، وأظهر في ذلك السفر من البذاخة والبذل والإطعام ما لم يزل حديثه يتلى في كل جيل، كل ذلك بمساعدة مودة المشير إليه، واستحسان ما يقع منه وإعانته عليه.
ومكث في خطة القضاء نحو ثماني سنين انتهى إلى رتبة عالية في التفقه ثم إنه طلب من المشير أن ينقذه من ربقة القضاء بسبب رؤيا رأى فيها أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله عتها تنهاه وتحذره القضاء وأقام في داره متعللاً بالمرض وأرسل مكتوب استعفائه وهذا نصه:
أما بعد فلا يخفاك أن طاعتك فريضة وأن من جزئياتها النصيحة لك كما قال عليه السلام: الدين النصيحة لله ولرسوله ولأيمة المسلمين وعامتهم وها أنا ممن ألهمك الله في تقديمه لهاته الخطة التي بها قوام حال العباد والبلاد، وإلهامه لا يمنعك من إمعان النظر في صلاح القوم وعدمه إذ لا معارضة بين المن ووقوع المقدور على وفق مراد القدر والذي يجب علي أداء نصيحة نفسي ونصيحتك أني لها لا أليق، ولحمل أعبائها غير مطيق، لا من جهة الأهلية ولا من جهة ضعف البدن الذي قام عليه دليل العيان، وفي الحديث لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان، قال العلماء كافة لا مفهوم لهذا الوصف بل هو إشارة إلى كل مشوش حتى الصيام فالمرض محل اتفاق أنه مدخل في حديثه عليه السلام وإذا كان صاحب الشريعة قال لي: لا تقضي فكيف أعصيه فيما أنا أزعم كاذباً نائبه فيه حاشا لله أكون أهلاً للنيابة عنه وأنا المجروح، والملفوظ من رحى العدالة المطروح، فسألتك بجاهه الذي لا يرد إلا ما أقلتني وعن رضى منك عافيتني وهذا ربنا تعالى الملك الأكبر، لم يرد هنا الجاه فأنت يا ملك الأرض أحرى وأجدر، ولست أخادعك بالتمويه فإني لا أرضاه، يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وقال تعالى بل الإنسان على نفسه بصيرة ثم ليكن في علمك أني لست على حرف في خدمتك ولا ممن تقربه الولاية أو تبعده العزل عن حومتك بل ضعني من المنازل حيث شئت غير هاته الخطة فإني راض لأني لا أصلح للنياية عن الله ورسوله في أحكامه والتحية معادة من فلان.
ثم إن الأمير راجعه وامتنع عن قبول استعفائه فأعاد إليه الطب وألح على الخروج من الخطة وعند ذلك قبل الأمير استعفاءه وقدمه مفتياً ثانياً من أول وهلة وتقدم بذلك على من سبقه في الخطة وذلك يوم الثلاثاء التاسع عشر من المحرم سنة 1261 إحدى وستين ومائتين وألف وعند ذلك تصدى للإقراء بجامع الزيتونة فأقرأ شرح التاودي على العاصمية وألزم جميع مدرسي الجامع بالحضور عليه فحضروا وكان فيمن حضر بين يديه العالم الشيخ حمدة بن عاشور وكتب حاشية على الشرح المذكور مملوءة فقهاً وتحريراً وصل فيها إلى الرهن وقرظها جدي الكاتب الشاعر الشيخ محمد ابن الشيخ محمد السنوسي بقوله: [البسيط]
زارتْ بتيهٍ ولم تخطر على بالي
…
رغماً على حسّادي وعذّالي
وأقبلت وعليها للبها حلل
…
تختال في أربح منها وإجلال
وسكَّنت قلب صب مغرمٍ دنفٍ
…
بعد التمنع مشحوناً بإمطال
بتنا وللشهب غارات ومزدحم
…
كأنها افتقدت قطباً وبرقال
وقد خلوت بها واللّيل منسدل
…
وحدي وقد ظفرتْ بالوصل آمالي
مددت كفِّي لأحظى من تمتعها
…
والنفس طاغية من فرط إملال
فصادفتْ عقدها المنضود فانتشرت
…
منه الجواهر فافترَّتْ بإقبال
فبتُّ ألتقط الدر النفيس إلى
…
أن أقبل الصبح أومتْ لي بإنزالي
فقلت من أنت قالت وهي ضاحكةٌ
…
أنا ابنةُ الفكر مضروب بأمثال
أنا ابنة الثاقب الذهن الذي نشأتْ
…
بين الأكارم في عز وإفضال
أنا اليتيمةُ في دهري ولا هجبٌ
…
جسمي من الدر فاستبصر لإكمال
بحري محيط ولا يخشى لراكبه
…
بأس ولا عطب في خير أحوالي
إذ ذاك نبئت أن الدرَّ منشؤه
…
بحر السلامة فاسبح واتل أقوالي
ذاك الهمامُ الذي جالت قريحته
…
بخالص القول إذ حفّت بأنوال
ذاك الذي عز عن شبه النظير له
…
إذا طما بحر إعمالٍ وإهمال
بحر العلوم فلم يدركه ذو شرف
…
سواه يسبح في فهم وإشكال
في غامض الفقه يروي عن جهايذة
…
لم يرم مرماه ذو سبق ولا تالي
حارت عقول النهى عن نيل مدركه
…
وفاز عنهم بتحرير وأعمال
يا من تحكم بالإبداع رونقه
…
وزانه حسن تقرير كسلسال
خذ هذه خردا تحكي فضائل ما
…
صاغته أفكاركم من غير إملال
لا زلت أيَّ سراج يستضاء به
…
إذا دجا مشكلُ يوفي بإجمال
وكتب حاشة على خطبة القاضي البيضاوي تبلغ نيفاً وعشرين كراساً، وشرح قصيدة البكري.
وأنشا قصيدة في فضل النعال الشريفة وشرحها.
وكتب تاريخاً تونسياً خص به مخدومه المشير أحمد باشا باي أودعه ما شاء من أخباره معه وما قيل فيه من المدائح والأشعار.
وله رسالة في الحرب بديعة سماها العقد النفيس وقدمها لمخدومه.
وقرظها الشيخ أبو عبد الله محمد بن الخوجة بما نصه: يا حامل لواء مذهب مالك على كاهله، ومن لا يزول الصدى إلا بالكرع من عذب مناهله، الجهبذ الذي بيديه مقاليد اليراعة، الحائز قصبة السباق في ميادين البراعة مولانا سيدي محمد بن سلامة، كان الله له في الظعن والإقامة، أما بعد سلام من النسيم وأروق من محادثة الوسيم فقد زارني من بنات فكرك ما يخجل البدر ويحاكيه في جلالة القدر.
[الكامل]
أندى على الأكباد من قطر الندى
…
وألذّ في الأجفان من سنةِ الكرا
غرض انفردت بمضماره، وتجردت لحماية ذماره، ومقصد تتطأطأ له الرؤوس، وترتاح إليه النفوس، ويقول ناظره لاعطر بعد عروس، فحق لمولانا الملك المجيد، أن يحل هذا العقد النفيس محل القلادة من الجيد وبالجملة فإن شأوك لا يدرك وشعبك لا يسلك بحيث إن الحبر الماهر يعجز عن أن يأتي بمثاله أو يحوك على منواله.
[الطويل]
وفي تعب من يحسد الشمس نورها
…
ويزعم أن يأتي لها بضريب
فالله تعالى، يبقيك ويقيك، ونسأله أن لا يجري دمع الحزن في مئآقيك، والسلام ختام وقد أجابه صاحب الترجمة بما نصه: يا أمير المذاهب كلها، وواضع ألويتها بمحلها، إن بتقليدك تلك الولاية، استطعت حمل تلك الراية ثم خافت بهمتك الناظرة إليها سقوطاً، ولاحت بوصل من إشارتك عليها لا صعوداً ولا هبوطاً قد حركت عزماتها بشائر طلائع إمدادك فأزالت عنها الفشل، فرواها ثناؤك عللاً بعد نهل، ولعمي إنها التناعس انزوت بالنشاط وطالت، ودخلت بحومة النزال فجالت وقالت آذنني المولى الهمام شيخ الإسلام، أن أتقدم بهذا الفضا، وأقول لكل مصل خلفي صلاته قضا منذ قدمني ركن الإسلام، محمد بن الخوجة الهمام واحد الدنيا والسلام.
[الطويل]
إذا قيل من في الناس يعدل كلَّهم؟
…
فقل معلناً هوَّ الإمامُ محمدُ
فما كان عن تعطيله فمعطل
…
وما كان عن تقليده فمقلد
هذا وإن السلام لولا إنه تحية الإسلام لكان عدم الرد مقتضى المقام إذ بماذا أجيبك وأقول فيك وما ملأ الكون يكفيك إن قلت أرق من النسيم فلطفه منك إليه سرى، أو قلت أروق من محادثة الوسيم، فعسل بلاغتك في ريقه جرى، إذ لم يكن لولاك وأنت أنت وما أدراك لم يكن رد تحيتك إلا حياك مولاك، لله أبوك، لافض فوك، ولقد أرسلت بنتي على أن تستمد منك بختاً، وتستعبر من قبولك ما تتخذه تختاً، فأتت بأكثر من الأمل ترفل في حلي وحلل، مع احتياجها أي احتياج، لأن العروس لا بد له من ملابس الابتهاج، فكانت إلى ما حليتها به من نيل الراجي ما شط من طلبه.
[الكامل]
أشهى إلى الراجين من نيل المنى
…
وألذُّ من وصل الحبيب لعاشقِ
وأعز من رؤيا العيون محاسناً
…
وأجلب من تأكيد ودّ سابق
وليت مولانا يكتفي بتحليتها عن تحليتي فلم يفضحني في عجزي عن ثواب هديتي.
[البسيط]
ما كلف الله نفساً غير طاقتها
…
ولا تجود إلا بما تجد
وما غرني ما ذكرته من شأني ورفعت به مكاني، فكلنا في الأمر معذور، أنا على نفسي بصيرة وأنت بذاتك عند التحقيق مسستور، نظرت في ذاتك، فانطبعت فيه محاسن صفاتك، وأنا في هذا المعنى أقول (شعر) :[الطويل]
وأحمق خلق الله من غره أمرٌ
…
رأى منه ما قد كان فيه انطباعه
فكل فتى مرآته عين ذاته
…
فما غرني مما ذكرت سماعه
أعزك الله وأجلك، وشيد قدرك وأعلى محلك، وأجاب فيك ما يعود على كل مسلم نفعاً، اللهم لا تثلم الدين بفقدانه، ولا تزلزله فإنه أعظم أركانه، وأقر عينه في بنيه، وأريه فيهم ما رآه أبوه فيه، والسلام، ختام.
وقد طلب المشير الأول أحمد باشا باي معاوضة أرض وقف القنديل خارج باب سعدون في ربيع الأول سنة 1261 إحدى وستين فامتنع القاضي أبو عبد الله محمد البنا من ذلك حيث رأى فساد المعاوضة المذكورة فحرر صاحب الترجمة رسالة في صحة المعاوضة المذكورة نحا فيها عدة أنحاء استشهد فيها بعمل متأخري فحول المالكية والحنفية مثل القاضي إسماعيل والمولى الجد القاضي السنوسي وساق فيها من نظمه لقط الدرر، ما زان به تلك الطرر، وجرى عمل المشير على مقتضاها.
وقد قرظها شيخ الإسلام أبو عبد الله محمد بيرم الرابع بقوله: [الطويل]
تبدت فأبدت للمعاني جمانها
…
فقال الهوى للحق كن ترجمانها
ومن مفصح عما حوته طروسها
…
فما أطلقت إلا بصدقٍ لسانها
ألم ترها قد أبدعت في اجتنائها
…
ومدت بما تهوى النفوس خوانها
وجاءت ببرهان لو احتملت به
…
شناخب صم الصخر يوماً ألانها
فلله من أبدى جواهر عقدها
…
ونظم في تلك النصوص حسانها
وأبدع في تحقيقه غير منشئىٍ
…
لمسألة لم تثن يوماً عنانها
فما سألت غير الرِّضى ابن سلامة
…
وقد كررت في خاطبيها امتحانها
وكانت حروناً لا تطاق فراضها
…
بإرشاده حتى أزال حرانها
ومحجوبة عن طالبي لمحِ حسنها
…
فأبدى لهم من حجبها لمعانها
فلا زال مهما وجه الفكر كاشفاً
…
لمشكلة إلا وأصلح شانها
وقرظها الشيخ أبو عبد الله محمد الخضار بقوله: [الطويل]
يميناً بمن بالحق شيَّد شانها
…
لقد ودت الأفلاك تحوي مكانها
وقد أبرزت شمس المعارف للورى
…
ومدّت على أفق العلوم حسانها
فلا زلت عزاً للشريعة ملجأ
…
إذا سامها التغيير كنت أمانها
إليك إمام الدين والعلم غادة
…
كساها النهى ثوب الحياء فزانها
فإن قصرت فالصفح فيك سجية
…
وإن كملت فالفضل منك أعانها
ولا زلت بحراً مستمراً ومورداً
…
لتحقيق آيات تفيد بيانها
وقرظها العالم الأديب الشيخ محمد الأمين بن أحمد الكيلاني بقوله: [الطويل]
طروس عقود بالنفائس زانها
…
وجبّنها عما أضرّ وشانها
وأودع في تحقيق ما قد أتى به
…
مباحث من حرّ الكلام أبانها
فلله ما أبدت قرائحُ فكره
…
بوراق قد أجلت لها لمعانها
وقد قبلت أعلام تونس ما أتى
…
به من نقول قد أشاد بيانها
وسلمت الآراء لابن سلامة
…
نفائس أبحاث من القدح صانها
وأنثوا على تحريرها وطرازها
…
وما صاغ لفظاً في حلاها وزانها
فلا بدعَ أن أمست تجرّ رداءها
…
وقد فوقت للعاذلين سنانها
وقام لسان الحال عنها مترجماً
…
فكن كاشفاً للمشكلات فكانها
فلا أنسى لا أنسى عقوداً تنظّمت
…
فرائد قد أجلت إلينا بيانها
فلا زال يهدي للعويصات فهمه
…
إذا حارت الأفهام يوماً أعانها
وقرظها الأديب الكتب الشيخ محمد ابن خوجة الجلد الجزيري بقوله: [الطويل]
تجلت فأجلى الحق فيها بيانها
…
رسالة لا يلوي الزمان عنانها
فجاءت بإذن أن نعوض ملكنا
…
نعم بالنفوس العوض اللَّذّ أزانها
حوت من نقول قاطعات فقل لمن
…
يريد انتقاداً شامخُ العلم صانها
هو العلم النحرير وابن سلامة
…
به تصلح الأحكام مما أشانها
فلا استعصت الأقوال إلاّ ألانها
…
ولا خفتِ الأشياءُ إلا أبانها
فناهيك من طود به يهتدي النُّهى
…
وللسمحة البيضاء كان أمانها
فلا زال يرقى في المعالي وهكذا
…
معاليه من فوق الثريا أصانها
وختم الشفا للقاضي عياض بجامع الزيتونة وحضر في الختم المذكور كل من الأمير والمأمور ولم يتخلف عنه من الشيوخ غير الشيخ إبراهيم الرياحي.
وأنشد في آخر الختم من نظمه قوله: [المتقارب]
بجاه الرسول النفيس الأجلْ
…
فريدِ المعالي عزيزِ المثلْ
سألتك يا من بدا ذاته
…
وحاشاه من كل عيب أخل
وأجلى به النورَ بعد العمى
…
فكان الحري بوطء المقل
تفضل علينا بنيل المنى
…
وإخلاص ما كان لي من عمل
قرأت الشفاء لكي أشتفي
…
فكان الشفاءَ لكل العلل
خدمت به حضرةَ المصطفى
…
وإن كان منها بقدري أقل
أيا سيد الرسل يا من به
…
إلى الله كلُّ خديمٍ وصلْ
تفضل بعدِّك لي خادماً
…
فما بعد ذا مطلبٌ إن حصل
وجاز الأمير على صنعه
…
بإعلاء مدحك أعلى القلل
فكان لإقراء ذا سبباً
…
فصلْ منه حبلاً بكمْ قد وصلْ
وسهل سبيلي إلى زورة
…
وأنعم بإذنك لي عنْ عجلْ
وذاك جزاءي لتدريسه
…
لظِّني محو الخطا والزلل
وحسنت ظني فأرخته
…
تمَّ الشفاء وراق العملْ
1264
ومدحه في ذلك الختم الشيخ الطاهر بن عاشور بقصيدة بديعة وهي قوله: [الطويل]
لكَ الله من برق بدا متبسماً
…
تألق ما بين المنازلِ والحمى
أضاء لطرفي بالعقيق معاهداً
…
فهيج أشواق الفؤاد وتيّما
فديناك هل من ماءِ رامة رشفةً
…
تعافى بها القلب الجريح من الظما
وهلْ تحسن الأخبار عن عرب النقا؟
…
فشنِّف بها سمعي وإن كنت أعجما
همُ خيّموا بالرَّقمتينِ وجوُّهمْ
…
على البعد ما بين الترائب خيَّما
عذوليَ دعني والتصابيَ والنوى
…
فما نفع التذكارُ سمعاً مصمَّما
أيرجىَ سلوِّي بعد ما عاهدت يدي
…
أهيل ودادي عهد صدق محكَّما
ومن شيمتي حفظ العهود وصدقها
…
وما كل عهد بالوفاء متمما
من الماجد الأسمى الذي قد علت
…
له همة فوق السماك وغن سما
جليل كسا ركن الجلالة مفخراً
…
وأوضح من معنى السيادة مبهما
هو الحبر والعلَاّمة الفرد من غدت
…
مآثرهُ في غرة الدَّهر أنجما
هو البحر لكن ساغ عذب زلاله
…
هو البدر إن ليل الجهالة أظلما
إمام محا رسم الضلال بهديه
…
وأحيا سبيلاً للهدايةِ قيّما
إذا ثار نقع للخلاف وأشكلت
…
مسالكه كان الرّئيسَ المحكما
وإن حمت يوماً نحوَ ساحلِ درسه
…
رأيت من الياقوت عقداً منظَّما
جواهر تبدو كالزواهر في الدجى
…
لقد أبدع النِّظام فيها وأحكما
وكم من مزايا دون معشار عشرها
…
تخرس منطيق الثناء وألجما
ولا سيَّما هذا الختامُ الَّذي غدا
…
على فخره سعد السعود مترجما
ختام به كان الشفاءُ من الهوى
…
وحازت به الخضراء مجداً معظَّما
محا غيهبَ الأفكار طالعُ نوره
…
وأضحى به العرفان عضبا مقوما
تباشرت الأرجاء منها وأشرقت
…
وغنى به طيرُ الفلاة ورنَّما
وكم رام قطب الجد تهنئة به
…
رأى ما قد رآه فأحجما
رأى طلعة الباشا المشير تحفها
…
سرادق عزٍّ ما أجل وأنجما
مليكٌ يقاد النصرُ طوعاً لعزمه
…
وإن عدت الأقيالُ كان المقدَّما
تصدى لحفظ الدين بالحزم والنهى
…
فشيَّد أركاناً وأوضح معلما
وأحيا رسوم العلم بعدَ اندراسها
…
وجيَّشَ في قهر البغاة عرمرما
بكل كمي الدرع صارم سيفه
…
ترى فيه في يوم الوقيعة ضيغما
فأرهب أعداء الإله بصولة
…
لو انبسطت لم تبق في الأرضِ مجرما
سرى صيتهُ في الخافقينَ فلن ترى
…
لهيبته إلّا مطيعاً مسلِّما
ومن كان في نصر الشريعة حزمه
…
حري بأن يحمى حماه ويعظما
تهنّى ملاذ العصر بالمفخر الذي
…
ملأتْ به الآفاق بشرى وأنعما
يهنى به الإسلام والعلم والهدى
…
ودهر زها من نشره وتبسَّما
وما هذه أولى أياد منحتها
…
تسر الليالي منّةً وتكرما
أياد يغار الغيث من نفحاتها
…
ولا غرو إذ كانت أعزَّ وأعظما
كفى بك فخراً للمريد وملجأً
…
وحسبه أن والى علاك ويمَّما
ومدحه أيضاً الشيخ الباجي المسعودي بقصيدة نحا فيها منحى الأستاذ وهي قوله: [المتقارب]
لقد ساعفتنا بنيل الأمل
…
وزارت على رغم من قد عذلْ
وحيّت وأحييت حبيباً به
…
من الشوق ما لفظه لم يقلْ
تبدلت الغنج عن كحلها
…
وبالدل عن حليها والحللْ
وتبسم عن مثل نظم الجمان
…
وترمي المنادي بسيف المقل
حديث المتيِّم فيها صحيح
…
فحدث ولا تخش فيه مللْ
لحى الله لاح على حبها
…
أما يعرف الوجه أو يستدل؟
دليل عليها كمثل الشهابْ
…
ومثل الشفاء بإثر العلل
وكابن سلامة في فضله
…
وقد سار في الناس سيرَ المثلْ
إمام تسامت به تونسٌ
…
وأبدت به زينةَ المحتفلْ
وبوّأه الله سبحانه
…
من العلم والحلم فوقَ الأملْ
إذا ما تصدر في مجلس
…
ترى الناس حلت ببرج الحمل
وإن بسطَ القولَ في درسه
…
ترى كيف يبسط رقمُ الحلل
وإن أخذت خمسة ليراع
…
ترى أهله حوله كالخول
أيا عضد الدين سعده
…
ويا ناصر الحق سامي المحل