الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسافر سفيراً إلى إيطاليا لتهنئة ملكها بجلوسه على سرير الملك. وكان ركوبه صبيحة يوم الأربعاء السادس والعشرين من المحرم سنة خمس وتسعين ورجع يوم الخميس الثامن عثر من صفر. ثم سافر إلى باريس عند افتتاح معرض سنة 1878 مسيحية صبيحة يوم السبت التاسع من جمادى الأولى ورجع يوم الثلاثاء السادس عشر من جمادى الثانية.
واستمر على مباشرة خدمته مع القيام بشخصيات مصالح مخدومه، ثم ارتقى إلى خطة الوزارة الكبرى والوزارة الخارجية ورئاسة الكومسيون المالي بعد استعفاء من قبله. وباشر التصرف في الخطط المذكورة على الوجه الأتم.
وحين أقبل عام سبعة وتسعين اجتمع بعض أعيان الأهالي على عمل مصحفين كريمين دفتاهما ذهب مرصع بالألماس وخرج يوم رأس العام وفد من أعيان الأهالي يقدمهم الشيخ محمد الشريف إمام جامع الزيتونة وتلقاهم الأمير بموكبه المحتفل بسراية باردو وعن انتظام الموكب خطب الشيخ خطبتين في الغرض الذي قدموا من أجله وقدموا المصحف الأول هدية للأمير والثاني هدية للوزير فخطب الشيخ محمد العزيز بوعتور باش كاتب على لسان الأمير خطبة هذا نصها: "الحمد لله فياض ذوارف المنن، الذي أنبت في قلوبنا حب الوطن، النبات الحسن، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي فاز بطاعته المحسنون، وسعد باتباعه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وعلى آله وأصحابه صلاة وسلاماً يتأرجان عن شذا الزَّهر، ويتبلجان عن سني الكواكب الزُّهو.
هذا ويا أيها الملأ الأعيان إن أسعد أماني وأقصى آمالي، تقدم البلاد ونجاح الأهالي، ولما انطوت عليه ضمائري من حب بلادي ومملكتي، ومنبتي ومنبت سلفي وعترتي، فلم أزل أخلص لله في وسائل أمنهم وراحتهم نيتي، وأعقد على جر خيرهم طويتي، فتخيرنا لكم من آثرناه لخدمتنا، وربيناه تحت كنفنا، وفي ظل نعمتنا، وأحللناه محل الولد، وفلذة الكبد، وهذبنا بالآداب خلقه، وعلم سبب العمران وفئ قه، فجاء على قدر، وسبق إلى كل مكرمة وضاحة الغرر، مع حسن الطوية وخفض الجناح للمضطهد والمضطر، فما اخترت لمصالح البلاد إلا غرْسي، ولا أحببت لها إلا من أحببته لنفسي، وهو الصدر العماد وزيرنا الأكبر ابننا مصطفى بن إسماعيل آغا. أسبغ الله تعالى على الجميع آلاءه إسباغاً.
هذا وإن مقدمكم أيها الملأ الأعيان، وقع مني موقع المسرة والاستحسان، وتلقيت هديتكم كاب الله تعالى المجيد أمان الأرض، وشارع الشريعة وفارض الفرض، ومنار الهداية إلى سواء السبيل، بغاية من القبول والتعظيم والتبجيل، والله عز اسمه وري الإعانة، على القيام بأعباء الأمانة".
القسم الأول
في التعريف بأئمة جامع الزيتونة
أدام الله عمرانه اعلم أن هذا البيت العتيق من المواضع المباركة في بلاد الإسلام، وصومعتُه كان يتعبد بها أحد الرهبان، وكانت إلى قربه زيتونة، وهنالك موضع شيخه الراهب صاحب الصومعة بسياج من الشوك حفظاً له، ولما أقبلت العرب على ذلك المحل سألوا الراهب عن سبب وضعه ذاك السياج في ذلك الموضع فأخبر أنه يرى في كل ليلة عموداً من نور متصلاً بالأفق فأراد حفظه من الأقذار. ولما قدم حسان بن النعمان الغساني الأزدي على عهد عبد الملك بن مروان ووصل إلى تونس سنة تسع وسبعين من الهجرة وفتحها في أخبار مذكورة أسس عند تلك الصومعة هذا الجامع الأعظم وجعل المحراب في موضع عمود النور، وأبقى شجرة الزيتون فسمي بها. ثم لما قدم إلى تونس عبيد الله بن الحبحاب على عهد هشام بن عبد الملك بن مروان أتم بناء جامع الزيتونة سنة إحدى وأربعين ومائة فقان سقف بيت الصلاة مقاماً على أكثر من مائة وخمسين أسطوانة من الرخام وبعضها مرمر. وقد جاء تاريخه (اعلم 141) المرتسم على الأقواس التي فوق التوابت. ثم إن زيادة الله بن الأغلب بنى فيه الأبنية الضخمة حين بنى سور الحاضرة التونسية ونقش في القبة التي فوق المحراب اسم أمير المؤمنين المؤمنين المستعين بالله بتاريخ سنة خمسين ومائتين فكان تأسيس هذا الجامع الأعظم على تقوى من الله في البقعة المباركة.
وفيه مواضع كثيرة معروفة بمحلات استجابة الدعاء وأماكن أخبر عنها أصحاب الكشف أنها محل لحضور رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لخاصة أولياء الله رضي عنهم أجمعين.
وقد كساه وحسّنه أمير المؤمنين يحيى بن المستنصر الحفصي ووقع الفراغ من كسوه سنة ست وسبعين وستمائة.
وفي عام ستة عشر وسبعمائة أمر السلطان زكرياء الحفصي بعمل عوارض وأبواب من خشب لبيت الصلاة وكتب تاريخ ذلك في أعلى باب البهور ثم إن السلطان أبا عبد الله الحفصي أنشأ فيه المقصورة التي بابها مما يلي صحن الجنائز. وأوقف بها كتباً جمة وبنى السبيل الذي تحتها على رأس المائة العاشرة وجعل النظر على المكتبة لإمام الجامع يومئذ الشيخ محمد بن عصفور.
ثم إن الأمير محمد باي المرادي شيد منه أعلى صومعته وسقَّفها وأدار بها السياج المحيط بها، ووضع الرخامة لتحرير الوقت وكتب عليها اسمه ثم إن إمام الجامع الشيخ محمد تاج العارفين البكري بنى في صحن الجامع المجنبة الشرقية في ذلك العهد وكتب اسمه في سقفها.
أما التغيير في سقف الجامع وأبنيته فقد وقع بكثرة وقد أدركت تغييراً كثيراً من سقف بيت الصلاة وسائر بناء مجنبات الصحن وسقفها وبناء صحن الجنائز وسقفه إلى غير ذلك من الإصلاحات الجارية.
وقد أحدث به أميرنا المشير الثالث بيتاً بالمقصورة المسماة مقصورة النواورية المشرفة على الطيبيين وكان وضع البيت المذكور لخصوص اجتماع المشايخ النظار بجامع الزيتونة للمفاوضة في الأعمال العلمية التي اقتضاها الترتيب السابق الذكر.
ولم يزل أهل البر يوقفون على هذا البيت المعظم الأوقاف المعتبرة لإقامة شعائره وإيقاده وتحصيره على أكمل وجه.
وهو قائم الشعائر بإقامة الخميس والجمعة والعيدين على مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه. ومع ذلك تجري به الدروس العلمية سائر أيام الأسبوع على ما سلفت إليه الإشارة في ذكر اعتناء الأمير بالعلم وأهله.
أما أحزاب القرآن العظيم التي تتلى به كل يوم فهي كثيرة على نوعين: منها ما يتلى عن ظهر قلب بقراءة حزبين في كل يوم بحيث يكون تمام الختمة بشهر. ومنها ما هو بقراءة الأسفار بحيث تختم الختمة كل يوم وهي أحزاب أقامها أربابها من أهل البر بأوقاف جارية على من يتولى القيام بها من القراء، ونظر أغلبها إلى إمام الجامع.
وأعظم هاته الأحزاب حزب الأسبوع، وهو يقرأ تلاوة بعد صلاة الصبح كل يوم وقراؤه منقسمون إلى سبع دول كل دولة يحضر قي قراؤها يوماً من الأسبوع يقرؤون به سبعاً من القرآن العظيم أقام المحراب تلاوة، وتمام الختمة يحصل يوم الجمعة من كل أسبوع وعليه أوقاف لها بال ولا يتقدم للقراءة إلا من يشهد بحفظه شيخ مشايخ تلك الدول بالتلاوة بين يديه وأخذ التقديم منه بعد الحصول على تذكرة الأمير.
وأما بقية الأحزاب التي بالجامع فهي ثلاثة أحزاب بعد صلاة الصبح، وسبعة أحزاب قمل الزوال، وثلاثة أحزاب عند الزوال، وستة عشر حزباً قبل صلاة الظهر، وخمسة عشر حزباً بعدها، وثلاثة عشر حزباً بعد صلاة العصر، وحف بان بعد صلاة المغرب عدا تجويد شيخ الختمة وصاحب سجادة الجامع على كرسيه قبل الصلاة نسأل الله أن يديم عمرانه بدوام ذكره.
وحيث إن هذا البيت اختص بالمزايا الفاخرة، كانت خطة الإمامة به من أعظم خطط البلاد زيادة على تعظيمها الشرعي. وقد تقدم لها من جهابذة علماء الدين وحفاظ المذهب المالكي وصالحي الرجال أعيان كثيرون منذ صارت حاضرة تونس مستقراً لسلاطين إفريقية وأمرائها، وذلك أواسط المائة السابعة من الهجرة على ما سبق ذكره في صدر المقدمة.
وهنا نقدم على المقصد أنموذجاً في ذكر من ولي هذه الخطة الجليلة من خطباء جامع الزيتونة وأئمته منذ ذاك التاريخ رضي الله عنهم أجمعين فممن ولي هاته الخطة قاضي الجماعة: 1 "الشيخ إبراهيم بن عبد الرفيع" واتفق مدة ولايته أن جُدِّد السقف الذي تحته منبر الجامع، فأمر بتغطية ذلك الموضع بالحصر، وخطب فقام أبو علي القروي منكراً على الإمام خطبته بدون سقف وأغلظ عليه في القول بين العامة فأمر به فسجن. وعان ابن عرفة يقول ليس من شرط الخطبة أن تكون تحت سقف إذ ليس من شرط الجامع أن يكون مسقفاً كله فلو خطب الخطيب في الصحن جاز.
2 وقد تأخر الإمام ابن عبد الرفيع عن الخطبة، ثم وليها العالم الصالح "الشيخ هارون الحميري" فكان إماماً وخطيباً ومفتياً بعد صلاة الجمعة بجامع الزيتونة إلى أن توفي في شهر رمضان سنة تسع وعشرين وسبعمائة.
3
وكان في مرضه استخلف عمدة المذهب الشيخ محمد بن عبد السلام الهواري فبلغ ذلك إلى قاضي الجماعة ابن عبد الرفيع فمنعه. وقال: إن أهل تونس لا يولون جامعهم إلا لمن هو من بلدهم.
4 واستخلف المدرس (الشيخ محمد بن محمد بن عبد الستار التميمي) شيخ مدرسة المعرض. واستقل بالخطبة عند وفاة أبي موسى الحميري. وكان ورعا يتعاطى الفلاحة بنفسه. يخطب يوم الجمعة بثياب صلاته وإذا كان من الغد لبس جبة خشنة وجعل على ظهر حماره الرَّشا وساقه بيده إلى جنانه الذي كان يخدمه بيده ويتمعش منه. أما الفُتيا بعد صلاة الجمعة فوليها الشيخ محمد بن محمد بن هرون الكناني وكان الخليفة إمام الخمس على عهد ابن عبد الستار الحافظ الشيخ أبو محمد عبد الله بن محمد بن أبي القاسم بن علي بن عبد البر التنيوخي خطيب جامع القصبة. وكان عدلاً ذات سمت حسن له عناية بالتاريخ والرواية. اختصر ذيل السمعاني، واقتضب تاريخ الغرناطي، وألف تاريخاً على طريقة الطبري في ستة أسفار، وكان يجلس لرواية مقامات الحريري بدُويْرة جامع الزيتونة، واحتج ابن عرفة في مختصره الفقهي بصنيعه في ذلك مع ما في المقامات من المثالب. وتوفي في التاسع والعشرين من جمادى الثانية سنة سبع وثلاثين وسبعمائة.
وولي بعده خليفة بالجامع الشيخ إبراهيم البسيلي. ولم يزل الشيخ ابن عبد الستار خطيب الجامع وإمامه الأكبر إلى أن توفي سنة تسع وأربعين وسبعمائة.
5 ووليها القاضي الشيخ عمر بن عبد الرفيع قال الأبي في شرح مسلم: كان خطيباً بجامع الزيتونة الأعظم. ولا يقرأ في الخطبة آية (يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً) لعذر يمنعه من طول الوقوف إلى أن أمره حاجب السلطان الشيخ ابن تافراجين بقراءتها أو ترك الخطة فالتزمها.
6 ولما توفي الخليفة الشيخ إبراهيم البسيلي سنة ست وخمسين وسبعمائة تقدم عوضه لإمامة الخمس حافظ المذهب صاحب المختصر الفقهي (الشيخ محمد بن محمد بن عرفة الورغمي) ثم ولي خطيباً سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة، وكان يومئذ المفتي بعد صلاة الجمعة هو الشيخ أحمد الغبريني إلى أن توفي سنة سبعين وسبعمائة، ودفن بجبل المنار، فوليها عوضه الإمام ابن عرفة. ولما خرج لحج بيت الله الحرام سنة اثنتين وتسعين استخلف للخمس والفتيا بجامع الزيتونة تلميذه، أبا مهدي عيسى الغبريني وللخطبة به الشيخ محمد البطرني ولما عاد باشر خططه بنفسه لحى عادته.
وكان إماماً في العلوم، وصنف في كثير منها، واشتغل في آخر عمره بالفقه. وكان معتنياً بالمدونة ملازماً للنظر فيها محتجاً بها، صواماً قواماً كثير التلاوة لكتاب الله عز وجل، مجداً في دنياه موسعاً عليه فيها مالأ وجاهاً ونفوذ كلمة، عاش سبعاً وثمانين سنة وتوفي في الرابع والعشرين من جمادى الثانية سنة ثلاث وثمانمائة. ودفن تحت جبانة ولي الله المنتصر بالزلاج وقد جمع الشيخ محمد الورغي تواريخ ولادة الإمام ابن عرفة وإمامته وابتداء تأليفه المختصر الفقهي وانتهائه وحجته ووفاته في بيتين وهما قوله:[الطويل]
ولادته: أرّخ سروري وأمهُ:
…
نثور، وبدء الكتب: فتحكُمُ يدري
[716]
[756][772]
وإكماله: درع التمام، وموته:
…
خراب، وكان الحج: فاض من السر
[786]
[803][797] 7
وبعد وفاة ابن عرفة ولي عوضه إماماً وخطيباً ومفتياً بجامع الزيتونة بعد صلاة الجمعة تلميذه حافظ المذهب قاضي الجماعة (الشيخ أبو مهدي عيسى الغبريني) قال الشيخ عبد الواحد الغرياني: لما ولي شيخنا القاضي عيسى الغبريني إمامة جامع الزيتونة سألني هل عندك علم في مسند النقارة (طبلة صغيرة ينقر عليها) التي تهز بدويْرة الجامع إعلاماً بإقامة الصلاة، فأخبرته: أن أبي حدثني عن شيخه عبد الله بن عبد البر أنه كان إذا أتى للجامع أكثر ما يجلس على إصطبل بإزاء باب الجنائز فإذا رآه المؤذن هنالك أقام الصلاة. وقليل جلوسه في الدويرة إلا لعذر أو رواية كتاب عليه بحيث ربما لا يعرف المؤذن هل هو هنالك أم لا فتجد خدمة الجامع يهزون تلك النقارة إعلاماً بحضوره على وجه الندرة، قال: فاستحسن إعلامي والتزم تركها. وكان يقول: لم أدرك وجهاً للخلاص في فعلها، واستعادها البرزلي اقتداءً بشيخه ابن عرفة. ثم اختلف حال الأيمة من بعده فمنهم من فعلها ومنهم من تركها كالإمام أبي الحسن اللحياني. اهـ.
قلت: أما اليوم فقد انقطع استعمالها ولم يبق من آثار الإعلام بحضور الإمام غير مناداة قيم الجامع عند باب الدويرة المسماة اليوم "مقصورة الإمام" قبل صلاة الظهر خاصة بقوله "الصلاة حضرت يرحمكم الله" فينادي بها المؤذنون عند أبواب الجامع وهو إعلام حسن. وقد توفي الإمام الغبريني في التاسع والعشرين من ربيع الثاني سنة خمس عشرة وثمانمائة ودفن بالزلاج.
8 ثم وليها عوضه شيخ مدرسة ابن تافراجين الفقيه الحافظ (الشيخ أبو القاسم بن أحمد بن محمد البرزلي) فاجتمعت نجيده الإمامة والخطبة والفتيا بعد صلاة الجمعة بجامع الزيتونة، ولازم القيام بالخطط المذكورة مثل شيخه إلى أن بلغ من العمر إلى مائة وثلاث سنين. وكان يلقب شيخ الإسلام. وتوفي في الخامس عشر من ذي القعدة الحرام سنة ثلاث وأربعين وثمانمائة ودفن بالزلاج.
9 وولي في الخطط المذكورة عوضه قاضي الجماعة (الشيخ أبو القاسم القسنطيني) وولي يومئذٍ الشيخ عمر القلشاني خطبة جامع التوفيق والفتيا به عوض قاضي الجماعة. وأما مدرسة ابن تافراجين فقد وليها بعد البرزلي الشيخ محمد بن عصفور وأقام القاضي القسنطيني على الخطط المذكورة مع خطة القضاء إلى أن ضرب بمغروس وهو على سجادته عند باب البهور بعد سلامه من صلاة الصبح يوم الأربعاء السابع عشر من صفر الخير سنة ست وأربعين وثمانمائة. وقتل ضاربه في الحين تحت صومعة الجامع، ورفع الشيخ إلى داره فكتب وصيته ومات في الليلة القابلة ودفن هت الغد بالزلاج.
10 وتقدم عوضه (الشيخ عمر بن محمد بن عبد الله القلشاني الباجي) شارح الطوالع ومختصر ابن الحاجب نولي خطة قضاء الجماعة وخطبة جامع الزيتونة والفتيا به بعد صلاة الجمعة. وأما إمامة الخمس فوليها الشيخ محمد بن عمر المسراتي القروي خطاب جامع القصبة. وتنقلت خطبة جامع التوفيق والفتيا به بعد صلاة الجامعة من الشيخ القلشاني إلى الشيخ محمد بن عقاب.
ولازم الشيخ عمر القلشاني القيام بالخطط المذكورة إلى أن بلغ من العمر أربعاً وسبعين سنة وأصيب بالوباء، وطال به مرضه المتصل بوفاته ليلة الأربعاء الرابع والعشرين من شهر رمضان سنة سبع وأربعين وثمانمائة ودفن بالزلاج.
11 وتقدم عوضه خطيباً بجامع الزيتونة (الشيخ محمد المسراتي) وأما فتيا الجامع وقضاء الجماعة فوليهما الشيخ محمد بن عقاب مع خطبة جامع القصبة.
وتوفي الشيخ محمد المسراتي يوم الجمعة الثامن عشر من شوال سنة خمسين وثمانمائة ودفن من الغد بالزلاج.
12 وتقدم عوضه للإمامة والخطبة قاضي الجماعة (الشيخ محمد بن محمد بن عقاب) فاجتمعت لديه الخطط الثلاث مع خطة القضاء. وتنقلت خطبة جامع القصبة مع التدريس بالمدرسة التوفيقية إلى الشيخ أحمد بن محمد القلشاني. وتوفي الإمام ابن عقاب بعد العشاء من ليلة الاثنين السابع عشر من جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين وثمانمائة. ودفن من الغد بجبل المنار بجبانة سيدي أبي سعيد الباجي.
13
وتقدم عوضه للإمامة والخطبة بجامع الزيتونة (الشيخ محمد بن أبي بكر الونشريسي) . وأما الفتيا بعد صلاة الجمعة فوليها قاضي الأنْكحة الشيخ محمد البحيري خطيب جامع أبي محمد بباب السويقة في الثامن من المحرم سنة اثنتين وخمسين فكان يصلي الجمعة بجامع أبي محمد ويأتي للفتوى بجامع الزيتونة. وقد توفي الإمام الونشريسي عند العصر من يوم الأربعاء خامس ربيع الثاني سنة ثلاث وخمسين ودفن من الغد بالزلاج.
14 وتقدم عوضه للخطبة (الشيخ محمد البحيري) يوم الجمعة سابع الشهر المذكور مع الفتيا به بعد صلاة الجمعة. وأما إمامة الخمس فوليها الشيخ أبو الحسن بن محمد اللحيائي ومات الخطيب البحيري عشية الاثنين خامس ذي القعدة الحرام سنة ثمان وخمسين ودفن من الغد بالزلاج.
15 وولي عوضه في الخطبة والفتيا بعد صلاة الجمعة (الشيخ أحمد بن محمد القلشانى) مع مشيخة المدرسة الشماعية منتصف رجب وهو شارح المدونة ومختصر أبن الحاجب والرسالة. ولما توفي إمام الخمس اللحياني تقدم عوضه خليفة الشيخ أبو الحسن الجباس. ومات في الثامن والعشرين من المحرم الحرام سنة إحدى وستين.
وتقدم عوضه خليفة لإقامة الخمس بجامع الزيتونة الشيخ أحمد بن عمر المسراتي أوائل صفر. وتنقلت منه خطبة جامع أبى محمد والفتيا به إلى قاضي الأنكحة الشيخ أحمد القسنطيني، ولم تزل فتيا جامع الزيتونة وخطبته بيد الشيخ أحمد القلشاني إلى أن توفي عند غروب شمس يوم الأحد ثامن شعبان سنة ثلاث وستيى وثمانمائة ودفن من الغد بالزلاج. وبعد وفاته لعشرة أيام خرج السلطان بمحلته ثم أرسل لتأخير الشيخ أحمد القسنطيني مر قضاء الأنكحة وخطبة جامع م بي محمد والفتيا به.
16 ومن الغد تقدم الشيخ أحمد بن عمر المسراتي إلى خطبة جامع الزيتونة مع الإمامة، وتقدم قاضي الجماعة الشيخ محمد بن عمر القلشاني خطيبا بجامع القصبة ومفتياً بعد صلاة الجمعة بجامع الزيتونة، وتقدم الشيخ محمد الزنديوي للخطبة والفتيا بجامع التوفيق ومشيخة المدرسة الشماعية وتقدم الشيخ محمد الغافقي للخطبة والفتيا بجامع باب الجزيرة ومشيخة مدرسة ابن تافراجين. واستقرت إمامة جامع الزيتونة وخطبته بيد الشيخ أحمد المسراتي. وهو الذي صفى على جنازة الغوث الشيخ سيدي أحمد بن عروس رضي الله عنه ثاني صفر الخير سنة ثمان وستين وتوفي الإمام المسراتي سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة.
17 وتقدم عوضه قاضي الجماعة (الشيخ محمد القلشاني) فجمع بين الخطط الأربع وهي القضاء وفتيا جامع الزيتونة والخطبة والإمامة إلى أن أقعده المرض أواسط صفر سنة ست وثمانين.
18 ولما توفي تقدم عوضه للخطط المذكورة (الشيخ محمد بن بلقاسم الرصاع الأنصاري) شارح حدود ابن عرفة، ثم تخلى عن القضاء. ولازم القيام بوظائف جامع الزيتونة إلى أن توفي سنة أربع وتسعين وثمانمائة.
19 فولي عوضه (الشيخ محمد بن محمد بن عصفور) وهو حفيد الأستاذ النحوي أبي الحسن علي بن موسى الحضرمي الملقب بابن عصفور الإشبيلي. ولد بإشبيلية سنة سبع وتسعين وخمسمائة. وتوفي بتونس ليلة الأحد الخامس والعشرين من ذي القعدة الحرام سنة تسع وستين وستمائة. ودفن بمقبرة ابن مهنى قرب جبانة ابن نفيس. وقد تقدم حفيده أبو عبد الله محمد بن عصفور إلى ولاية نظارة الأحباس خامس شعبان سنة ثمان وخمسين وثمانمائة غير أنه صرف منها بولاية الشيخ محمد البيدموري أواخر سنة إحدى وستين وسبعمائة. وتوفي محمد بن عصفور في صفر سنة اثنتين وستين. وتقدم ولده محمد إلى مشيخة مدرسة ابن تافراجين ثم إلى الخطبة والإمامة بجامع الزيتونة بعد وفاة إمامه الأنصاري ولازم ذلك إلى أن توفي سنة أريع وتسعمائة.
20 وجميع هؤلاء الأيمة ملأ ذكرهم سائر تواريخ البلاد فنشرت من تراجمهم وحسن أخبارهم في العلم والفضل ما اشتهر به فضلهم، ولذلك اقتصرت على مجرد تواريخ ولاياتهم ووفياتهم غير أنه بعد ذلك توالت على البلاد طواعين والتاثت أمور السلطنة ولم يوجد في البلاد من يؤرخ رجالها، ولذلك لم نقف على خبر للمتولين خطة الإمامة إلى أن وليها الشيخ محمد بن إبراهيم الأندلسي الأنصاري فكان هو القائم بإمامة جامع الزيتونة سنة سبعين وتسعمائة.
21
ثم وليها (الشيخ أبو الفضل بن أبي القاسم البرشكي) حفيد قاضي الجماعة إلى أن توفي سنة اثنتين وتسعين وتسعمائة.
22 ثم وليها (الشيخ محمد بن سلامة) الفقيه المفسر الواعظ إلى أن توفي في جمادى الثانية سنة ثلاث وتسعين وتسعمائة.
23 ثم وليها (الشيخ محمد الأندلسي) الأستاذ النحوي تلميذ العيسي ولازمها إلى أن توفي سنة سبع عشرة وألف.
24 وولي (الشيخ أبو يحيى بن قاسم الرصاع الأنصاري) خطيباً وإماماً بجامع الزيتونة بعد أن استقال من الفتيا ولازم القيام بإمامة الجامع أكثر من سبع عشرة سنة. ولما مرض قيل له: هل يصلح ابنك للإمامة؟ وكان صغير السن بين يديه قال: لا، فقيل له: هل يصلح الشيخ محمد براو؟. وكان إماماً في العربية فقال: يصلح لها إلا أن أهل المدينة يأنفون منه لكونه ليس منهم، فقيل له: والشيخ محمد الغماد؟ فقال: جوهرة عليها الران. فقيل له: والشيخ محمد تاج العارفين؟ فقال: جوهرة ما مستها يدان. وتوفي الإمام الرصاع يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ذي الحجة الحرام سنة ثلاث وثلاثين وألف.
25 وتقدم عوضه (الشيني محمد تاج العارفين البكري) ، واستمرت الإمامة في بيته بين بنيه مائة وثلاثاً وتسعين سنة. وفي أثنائهم كان مبدأ الدولة الحسينية خلد الله عزها، ولذلك نذكر هنا الآيمة من عهد المقدس حسين بن علي تركي إلى الآن على شرطنا السابق فنقول وبالته نستعين: الشيخ علي البكري هو الشيخ أبو الحسن علي بن أبي بكر بن محمد تاج العارفين بن أبي بكر بن أحمد بن أبي بكر الأموي رابع من تقدم لخطة الإمامة الكئرى بجامع الزيتونة من السادة البكريين رضي الله عنهم أجمعين وحسبه بذلك فخراً. ورث الفضائل كابراً عن كابر، ملئت بمفاخرهم الصحف والدفاتر. من ذرية الخليفة الثالث جامع القرآن، عثمان بن عفان- رضي الله عنه فهم عفانيون وجدهم الذي ينتسبون إليه هو (الشيخ أبو بكر) دفين المنيهلة من غابة تونس وثروتهم أشهر من أن تذكر لسعة أوقاف بيتهم. قيل: إن هناشير أوقافهم خاصة بلغت مائة هنشير وهنشيراً عدا العقارات، كلها هم المختصون بعشر زكاتها ليس للدولة معهم شيء منه.
وكان والد الشيخ تاج العارفين من أهل الله الكرماء ونشأ ولده (الشيخ محمد تاج العارفين البكري العفاني) إماماً في العلم والصلاح، وتقدم لإمامة جامع الزيتونة في الثالث والعشرين من ذي الحجة الحرام سنة ثلاث وثلاثين وألف بإشارة أستاذه الإمام من قبله الشيخ أبي يحيى الرصاع، وقام بالإمامة والخطبة وزان المحراب والمنبر بعلمه وعمله. قيل: إنه لم يخطب على منبر جامع الزيتونة من إنشاء غيره ولم يكرر خطبة قط، مع ما فيه من المعرفة بالته جل جلاله وفصاحة اللسان وثبات الجنان، ومع ذلك له من الحزم والدراية ما ليس لغيره، ولذلك لما وقعت المشاغبة بين تونس والجزائر واشتد القتال بين العسكرين في واقعة عام الشطار في شهر رمضان سنة سبع وثلاثين وألف خرج الشيخ محمد تاج العارفين ومعه ولي الله الشيخ إبراهيم الجديدي والشيخ عبد النبي خطيب جامع القصر ومن معهم لعقد الصلح بين الفريقين وتعيين الحدود، فكاد الحد الذي تعين بين المملكتين هو وادي سراط بحيث أن غربيه للجزائر وشرقيه لتونس. وكتب رسم التحديد لشهادة المفتي المالكي الشيخ قاسم البرشكي والشيخ محمد بن أبي الربيع الحنفي ورمضان أفندي خطيب الجامع اليوسفي وعلي آغة كرسي الجزائر ورجع الشيخ محمد تاج العارفين بإتمام الصلح وقرار الراحة.
وهو زينة جامع الزيتونة يومئذ يقرىء صحيح البخاري دراية ودروساً في علوم الدين وله في النثر يد، ورأيت هن إنشاءاته مراسلة أرسلها من قصر جابر مكاتباً بها صديقه الشيخ عبد الكريم الفكون وهذا نصها:
الحمد لله الذي أطلع شمس الطلعة الفكونية من الأفق المغربي ويا عجباً من طلوعها أماناً للعالم، وجمع فيها ما افترق من شتات العلوم في كل نحرير عالِم، وأزاح بها سحب الإشكال، وأراح بها من سحب الجهالة المخدرة لوجوه المعاني والأشكال، وقيد شوارد العلوم، وقرت بها على طريقة التحقيق بين المعوق والمفهوم، أحمده حمد من ركب إليه في استصواب الصواب، وأشكره شكر من علم أن شكره سبحانه هو غاية المرغوب والثواب. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبد محقق في إيمانه، مخلص في عرفانه وإيقانه، ونشهد أن سيدنا ومولانا محمداً عبده ورسوله الذي أوتي من الكلم جوامعه، وعُمِّر به من كل سبيل صوامعه وجوامعه، الفهم صل وسلم عليه وعلى آله أولي الجد والتحقيق، وصحبه خير صحب وأكثر فريق، ما ذر شاردتي وأشرق غارب، وسكب هاطل وهطل ساكب.
وبعد فسلام يسابق النسيم، ويجاري برقته نفاسة التسنيم، يصافح الروض فيكتسب من بشره، ويفاوح الأزهار فلا تجد أذكى من نشره، يسترقُ العنبر من عبيره، ويسترق المسك لفوته عنه في كثرة الشم وتكويره، كما قلت:
أهدي إليك سلاماً
…
يفاوح الندَّ نشره
يلقاك من كل فج
…
إذا تلقاك بشره
أهديه إلى السيد الفقيه، العالم العلم النزيه، النحرير المتفنن الوجيه، من لنا إلى حبه ركون، سيدي عبد الكريم الفكون، كان الله له في الحركات والسكون، آمين.
هذا واعلم أيها الصديق الحميم، أذاقنا الله وإياك برد الرضا والتسليم، أني رقمته والخجل في الوجنات يبدي حمرته، والوجل يظهر تارة صفرته، في منزل به خيام المَحَال، أسأل الله أن يجعل الإسعاد بها لا من المحال.
وقد تفاءلنا باسمه جابر، وقد طاب منه مشربه الرائق الزاهر، منزل جبر الله فيه القلوب، وشر الله فيه كل مرغوب ومطلوب، من إصلاح الله سبحانه بين عباده، ورد سيف المعاند والكائد في أغماده، أوجب الله لكم السعادة، وشمر لكم أسباب الحسنى وزيادة، وأن السيد الفقيه، المشارك الوجيه، سيدي أبا العباس أحمد بن الحاجّة، جعل الله حسناته في أسواق القبول رائجة، هو ومن معه من السادات الفقهاء الأعيان شنفوا أسماع الفقير، بما لا يسعه وضع لسان القلم وإملائه على التطريس والتسطير من محاسن أخباركم التي راءت لنا منهم بكل وجه جميل، وكرروا علينا عائدها في البردين والمقيل. ولقد قلت في ذلك:[الطويل]
شغفت بكم لما تشنف مسمعي
…
وعشق الفتى بالسمع مرتبة أخرى
لا جرم كاتبناكم وأيدي الشوق تتلقف حبات القلوب، وقد شبّ عمرها عن الطوق، وكفى أن عَلِمَ ذلك علَاّمُ الغيوب. وأعلمكم أني لا أنساكم من الدعا، كما أني أطلب ذلك منكم لاسيما بإصلاح الوعا، فإن الدعاء بظهر الغيب مستجاب، والتحابُّ في الله في هذا الزمان الصعب من العجب العجاب. ولا تنْسنا من مكاتبتكم مع الواردين، كما أنها ترد إليكم منا مع الصادرين. سقاكم الله رحيق الوداد في كاسات الإخلاص، وأورد صحائفكم مبيضة الوجوه مع زمرة صحائف أهل الاختصاص، ومن معنا من الجماعة وهم: سيدي محمد العامري، وسيدي علي الشرفي، وسيدي محمد الأندلسي، وسيدي الحاج عون الله، يُهدون إليكم أطيب السلام، ويخصونكم بالتحية والإكرام، ويطلبون دعواتكم، في خلواتكم وجلواتكم، ومعاد عليكم منا ورحمة الله وبركاته.
رقَّمه بأنامل التقصير، العبد العاجز الفقير، المذنب الجاني، محمد تاج العارفين العثماني. لطف الله تعالى به بمنه. بتاريخ أوائل ذي القعدة الحرام عام سبعة وثلاثين وألف بقصر جابر. جبر الله صدع قلوبنا، وغفر عظيم ذنوبنا، وجعل استعدادنا لمعاده ووفر دواعينا فيما ينجينا ويقربنا منه زلفى بمنه ورحمته. وصفى الله على مسكة الختام، ولَبِنة التمام، سيدنا ومولانا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام 10 هـ.
26 [الشيخ أبو بكر البكري] وبعد وفاة تاج العارفين تقدم لخطة الإمامة والخطبة ورواية الحديث بجامع الزيتونة ولده (الشيخ أبو بكر) وكان من رجال العلم والدين جلس لإقراء صحيح البخاري دراية بجامع الزيتونة وعمره سبع عشرة سنة وحضر درسه جميع علماء ذلك العصر عدا والده، فرأوا آية كبرى، وجزموا لأن ذلك كان بعناية ربانية زيادة على علمه وكانت أمه ابنة الشيخ أبي الغيث القشاش ومن بيتها انجر غالب أوقاف البكريين.
قيل إنه كان في صغره واقفاً عند باب دارهم فمر به الولي الصالح الشيخ علي دبوز وبيده إناء مملوء لبناً فيه رائحة كريهة وعرض عليه شربه فشرب جميعه، ولما دخل وأخبر والده الخبر قال له: ذلك مرادي. وقد قرأ بزاويتهم على الشيخ محمد بن عبد الله "الكبرى وتفسير الجلالين" ونسج في علمه وعمله وإقامة منار الجامع على منوال والده، وظهرت له مكاشفات وأسرار، نقل عن خليفته بالجامع الشيخ عدي العامري أنه خرج معه مرة في زمن الربيع إلى زرع له فأعجبه خصبه فقال الشيخ لخليفته: أما أنا فلا آكل منه فكان عام وفاته. وفيه ختم البخاري دراية بملازمته لذلك في الثلاثة الأشهر المعظمة نقل عنه في يوم ختمه أنه كان كثير الاستظهار بحيث إنه سمع منه في ذلك الدرس عنوان المباحث ب (قلت) كثيراً. وكان خليفته يومئذ في إقامة الخمس والخطبة بجامع الزيتونة الشيخ علي بن محمد العامري وهو شيخ القراء بالجامع وعمدة المدرسين به- رضي الله عنه وكانت وفاة الإمام أبي بكر البكري بسبب طاعون أصابه فتوفي سنة اثنتين وسبعين بعد الألف وأرف الشيخ محيد الوزير السراج بقوله: [المتقارب]
أبو بكر أحزننا موته
…
وكان لدينا رواءَ الأوام
وكان قديماً خديمَ الحديث
…
فسار بعزٍّ لدار السلام
تقدم ممتثلاً للقضا
…
وإن التقدم شأن الإمام
فبادرْ بنصْبِ الأكف دُعاً
…
لجرّ النعيم ورفع المقام
فمسك أحاديثه عدها ال
…
هداة وقد أرخوه: الختام
[1072]
27 [أبو الغيث البكري] وعند ذلك تقدم للإمامة والخطبة ورواية الحديث بجامع الزيتونة أكبر بنيه (الشيخ أبو الغيث بن أبي بكر بن محمد تاج العارفين البكري) ثالث الأيمة البكريين رضي الله عنهم أجمعين. وكان شجاعاً فاضلاً قليل الكلام عزيز النفس يروي الحديث الشريف بدون دراية بحيث أن تدريس الأيمة للحديث بجامع الزيتونة في الثلاثة الأشهر المفضلة انقطع به، وقد قال الرعيني في تاريخه المؤنس: لم يكن بالديار التونسية من يوم حلّ بها العسكر العثماني من تعاطى الرواية والدراية إلا الإمام العالم الرباني، الشيخ أبو عبد الله محمد تاج العارفين العثماني، سقى الله ثراه من صوب الرحمة والرضوان. وكان مجلسه بالجامع من أجل المجالس وتحضره الأجلاء من أهل العلم وتدور بينهم المباحث الجميلة في العلوم الجليلة، ولا يخلو مجلسه من فوائد في الثلاثة الأشهر رجب وشعبان ورمضان إلى يوم الختم، وهو اليوم السادس والعشرون من رمضان. ثم تلاه ولده العلم الشهير، والعالم النحرير، الشيخ أبو بكر فسار بسيرة والده، وقام بعلم الحديث الشريف أحسن قيام، وشهد له بالدراية علماء الإسلام. فكان في هذا الفن نسيج وحده، وحصل له سر أبيه وبركة جده، إلى أن سار إلى رحمة ربه في سنة ثلاث وتسعين وألف (هكذا ذكر) فتغيرت تلك القاعدة وصارت رواية لا غير، وجرت بها العادة للتبرك، وانقطعت المادة من السير لأن ولديه لم يبلغا مبلغه ولا سعيا سعيه اهـ.
وكان خليفته في إقامة الخمس والجمعة هو خليفة أخيه أعني الشيخ علي العامري هو شيخ المدرسة العنقية، وليها بعد وفاة الشيخ أبي الفضل المسراتي سنة خمس وثمانين وألف، وكان يقرىء بها الكبرى وعند وفاته تقدم خليفة عوضه أكبر ابنيه الشيخ أبو الفضل العامري شيخ القراء أيضاً بعد والده. وبعد وفاته ولي عوضه أخوه الشيخ حسن العامري فلازم إقامة الخمس ومشيخة القراء، وواظب على إقراء التجويد بالجامع، واستفاد منه خلق كثير إذ كان صاحب سجادة القراءة مجيزاً بالجامع والمدرسة المرادية. وقد أخذ عن الشيخ أحمد التدغي، ولازم خدمة الجامع بإقامة الخمس والتلاوة، والإمام أبو الغيث البكري يقيم الجمعة والعيدين ورواية الحديث خاصة.
وعلى عهده جرت واقعة الشيخ حمودة فتاتة وذلك أنه كانت له مودة مع رمضان باي لحسن محاضرته ولطف أدبه ووئوق علمه وكان والده الشيخ محمد فتاتة يومئذ هو صاحب الفتيا بمذهب مالك وبذلك كانت وجاهة ابنه مع علمه عظيمة.
وكان لرمضان باي مغن يحسن ضرب الأرغنو يسمى مزهودا فتمكن بضرب الآلة من نفس سيده وتركه مشتغلاً بالملاهي. وأخذ يتصرف في الدولة وسعى في فصل مودة الشيخ حمودة فتاتة حتى منعه من الدخول إلى باردو، فرجع الشيخ إلى دروسه العلمية بجامع الزيتونة وتصدى لإقراء المختصر الخليلي والهمزية ثم ابتدأ درساً من صحيح البخاري دراية على حين لم يكن بجامع الزيتونة من يقرىء الصحيح دراية وكان راويه يومئذ هو الشيخ محمد زيتونة صاحب حاشية تفسير أبي السعود، فاجتمع على الدرس المذكور خلق كثير بين صلاتي الظهر والعصر وازدحمت عليه الخاصة والعامة حتى اضطر الأبعدون إلى سماع الدرس على حالة القيام ليتمكنوا من مشاهدة الشيخ وطار له بذلك صيت أحسَّ منه مزهود فأرسل إلى الإمام أبى الغيث البكري بأن يمنعه من إقراء درس الحديث بالجامع إذ ربما يؤول به الأمر إلى طلب إمامة الجامع وإن رأى منه عدم الامتثال والتمادي يمتنع من الحضور للصلاة ليكون ذلك سبب بعده عن الجامع فأرسل إليه الإمام البكري بإبطال الدرس فلم يتأخر، ولما رآه جلس إلى درسه خرج من الجامع ولم يقم صلاة العصر ذلك اليوم بجامع الزيتونة. ولما رأى الشيخ حمودة فتاتة صنيع الإمام تنقل بدرسه إلى مسجد سوق البلاط وغص المسجد بالرواة ولم يزد ذلك مزهوداً إلا غماً وحسداً فأغرى به رمضان باي ومنعه من الخروج من داره ولم يكفه ذلك حتى أرسل حرسأ هجموا على دار الشيخ وأخرجوه بترويع أمه وأبيه، وأهله وبنيه، وأوقعوا به ما بلغ به إلى الشهادة، ولاقى من الله الحسنى وزيادة. ولم يشعر بذلك رمضان باي إلا بعد الفوات، وكان ذلك على الدين وأهله من أعظم الحسرات. لكن لم تمض غير أيام، وقد شتت الله شمل مزهود وسيده وأشياعه بعد الالتئام، فدارت عليهم الأيام، والله عزيز ذو انتقام. وحسبك أن والده مفتي الأنام قابل تلك المصيبة بالتوجه إلى سيد الأنام، حيث قال في ذلك المقام:[الطويل]
إليك رسولَ الله وجهت آمالي
…
وألقيت ياسُؤلي ببابك أحمالي
وأدعوك يا أعلى النبيئين رتبةً
…
أغثني فإني في ضيق وأهوال
أغثني أغثني يا ملاذي وملجئي
…
فأنت عمادي في مُقامي وترحالي
ألستَ الذي أرسلتَ للخلق رحمةً
…
ويلجأُّ في الضرَّا إلى بابك العالي
ألسْت الذي ما في سواك مؤمل
…
وليس بمرجُوٍّ سواك في لأوجالِ
ألست ملاذ الخلق في كل شدة
…
وفي كل مكروه ألمَّ وأوبال
فكن ليَ يا خيرَ الأنام وسيلة
…
إلى الله كيما أن أبلغ آمالي
ويا رب أنت الله سؤلي وموئلي
…
وغايةُ قصدي ليس دونك من والِ
بعينكَ ما قد نالني من مهانة
…
وما شفَّني من سوء حال وإذلال
وجئتك مضطراً بقلب به أسى
…
ودمع جرى في صفحة الخد هطَّال
فكن لي ولياً وانتصر لي ووالِني
…
وجدْ لي بلطف منك ياخير مفضَال
وإن لم تكن لي ناصراً وموالياً
…
فمن ذا الذي أرجو لتسديد أحوالي
وخذ ليَ حقي من ظَلوم أصابني
…
بسوء وعجل ذاك يارب في الحال
ومزِّقه ياذا البطش كل ممزق
…
على الفور يا جبار من غير إمهال
وسلط عليه منك كل بلية
…
تعاجله في النفس والأهل والمال
ودمره تدميراً وصيره مثلة
…
ذليلاً حقيراً كاسف الذهن والبال
وكدْه وشتت شمله وامحُ ذكره
…
وأَحلِلْه في هون وبؤس وإذلال
بجاه أُولي العزم الكرام وفضلهم
…
وجملة أصحاب النبي مع الآل
ولما ولي مراد باي ثامن شهر رمضان المعظم سنة عشر ومائة وألف وأرسل من قتل رمضان باي وأحرقه وألقى رماده وأعمل السيف في جميع شيعته كان من جملة أعماله في الحاضرة أنه عزل الإمام أبا الغيث البكري وبعد عزله خرج إلى حج بيت الله الحرام وأتم الحج والزيارة، وتوفي ليلة الخميس الثاني عشر من ربيع الأول سنة إحدى عشرة ومائة وألف.
28 [علي الرصاع] والذي تقدم لإمامة جامع الزيتونة والخطبة ورواية الحديث به هو المفتي (الشيخ علي بن حميدة الرصاع) حفيد الإمام أبي يحيى الرصاع السابق الذكر.
29 [أبو الحسن البكري] ولما أفضت الدولة إلى إبراهيم الشريف أواسط المحرم الحرام سنة ثلاث
عشرة ومائة وألف أرجع الدر إلى معدنه فقدم لإمامة الجامع رابع الأيمة البكريين وهو أخو البكري السابق: الشيخ أبو الحسن علي بن أبي بكر البكري صاحب الترجمة لفضله ودينه. يروى بين يديه صحيح البخاري والشفا، وهو زينة المحراب والمنبر. وقد أتقن حفظ القرآن وهو حسن الصوت والأداء، خطيب مؤثر، جهوري الصوت عالي الهمة، كريم وافر العطاء. وكان خليفته في إقامة الصلوات الخمس والخطبة، شيخ القراء الشيخ "حسن العامري" فناب عنه وعن أخيه السابق الذكر. وبعد وفاته ولي عوضه ولده العالم الشيخ حمودة العامري وقد ولد سنة ستين وألف وأخذ القراءات عن الشيخ "إبراهيم الجمل الصفاقسي" وأخذ العلم عن الشيخ "علي العامري" والشيخ "محمد قويسم" وتقدم بعد وفاة والده خليفة الخمس والخطبة وشيخ القراء بجامع الزيتونة ولازم القيام بذلك مع تدريس النحو والفقه والقراءات بالمقصورة مدة الإمام أبي الحسن البكري صاحب الترجمة الذي كانت وفاته أواخر ليلة الثلاثاء منتصف شعبان الأكرم سنة ثلاث وعشرين ومائة وألف ودفن بزاويتهم من ربض باب السويقة مع سلفه عليهم رحمة الله وأرخه الشيخ محمد الوزير السراج بقوله:[المتقارب]
تُوفي علي ويا طالما
…
على منبر الفضل إذْ ماخطب
وأمَّ الأنامَ كما أمه
…
ذوو فاقة فانثنوا بالأرب
وإذ ما تمطِّى جواد الفنا
…
وسار فأرخ تمام الخطب
30 الشيخ حمودة البكري هو الشيخ أبو محمد حمودة بن علي بن أبي بكر بن محمد تاج العارفين البكري خامس الأيمة البكرين تقدم للإمامة صبيحة الثلاثاء منتصف شعبان الأكرم سنة ثلاث وعشرين ومائة وألف، وكان عمره يومئذ دون الثلاثين سنة، فصلى على والده بجامع الزيتونة وكانت العادة أن البكريين يصلون عليهم في بيوتهم. واستخلف خليفة والده الشيخ "حمودة العامري" فاجتمع حمودتان في خطة الجامع. وكان البكري المذكور عزيز النفس عالي الهمة رفيع الحسب إلى أن أدركته المنية فتوفي عليه رحمة الله.
31 الشيخ أبو الغيث البكري هو الشيخ أبو الغيث بن علي بن أبي بكر بن محمد تاج العارفين البكري سادس الأيمة البكريين تقدم للإمامة بعد أخيه غير أنه لم تكن فيه أهلية لها وكان جليل الحسب والمقدار، رفيع النسب مرموقاً بعين الاعتبار، إلى أن أدركته المنية فتوفي عليه رحمة الله.
وكان صاحب السجادة على عهده الشيخ "أحمد بن قاسم عزوز". ولد بتونس واشتغل بعلوم القراءات وأتقن العشر عن الشيخ "عبد الرحمن العصابي"، وله مشاركة في كثير من العلوم، وكان خطيباً بجامع الحلق خارج الباب الجديد وصاحب سجادة التجويد بالجامع الأعظم والمدرسة المرادية إلى أن أدركته المنية وهو يتلو القرآن سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف عليه رحمة الله. وكاد شيخ الختمة بجامع الزيتوتة يومئذ هو الشيخ "علي بن محمد سويسي" شيخ شيوخ جامع الزيتونة وخطيب جامع سبحان الله بربض باب السويقة إلى أن توفي نحو سنة ست وأربعين ومائة وألف عليه رحمة الله.
32 الشيخ حمودة الريكلي هو الشيخ "أبو محمد حمودة الريكلي الأندلسي" ولد بتونس وتصدى لقراءة العلم على فحول أوائل المائة الثانية عشرة ثم اختص بعالم العصر الشيخ "محمد
زيتونة المنستيري" رضي الله عنه فلازم دروسه وقرأ عليه معقول العلوم ومنقولها بجامع الزيتونة والمدرسة المرادية حتى عد من فحول العلماء. ولما أراد أستاذه الشيخ (محمد زيتونة) السفر إلى حج بيت الله الحرام سنة أربع وعشرين ومائة وألف اختاره للنيابة عنه في المدرسة المرادية فأقام دروسها، ولما عاد الشيخ من حجته ورجع إلى القيام بوظيفته قدم الأمير "حسين بن علي التركي" تلميذه صاحب الترجمة مدرساً بجامع الزيتونة، وعين له مرتباً من جراية بيت المال فأفاد الطالبين وتخرج عليه كثير منهم. ولما أوقف محمود خزندار أوقاف التدريس بمسجد سيدي معاوية اختاره مدرساً وأجرى له ولطلبته جراية الوقف فنفع هنالك أيضاً. ولما توفي شيخه صبيحة يوم الخميس الخامس من شوال سنة ثمانٍ وثلاثين وألف قدمه المقدس حسين باشا لمشيخة المدرسة المرادية التي بسوق القماش فكان هو ثالث شيوخها إذ أن مراد باي لما أتم بناءها أواخر سنة خمس وثمانين وألف قدم لمشيختها أولاً الشيخ "محمد الغماد" ولما توفي ثاني رمضان سنة ست عشرة ومائة وألف تقدم عوضه الشيخ "محمد زيتونة" بمناظرة جرت عند باب الشفاء بجامع الزيتونة حضرها أمير العصر. ولما توفي تقدم لها صاحب الترجمة بعلمه، وأقرأ بها الدروس التي أفادت العموم وأوضح بها مسالك المنطوق والمفهوم. وانتصب للإشهاد فكان من موثقي عدول المدينة، وانتصب منصبه في الإشهاد ولداه "محمد وأحمد" فكانا أيضاً في العدالة مثل والدهما رضي الله عنهم أجمعين. ثم إن علي باشا قدمه إلى خطة القضاء بالحاضرة فزانها بعلمه وعدله مع كمال عفة وتواضع حتى أنه لما توفي الشيخ أبو الغيث البكري وخلف ولدين صغيرين قدمه الباشا عوضه خطيباً وإماماً وراوياً للحديث بجامع الزيتونة، وخطب على منبره من إنشائه مدة إلى أن صلح للإمامة الشيخ عثمان البكري فارتجع الخطة منه باستحقاق الوراثة من آبائه الكرام وأقام صاحب الترجمة على خطة القضاء، وبث العلم في صدور الرجال. وكان عالماً عفيفاً صالحاً متقشفاً خمولاً قليل الكلام كثير المحاورة في العلم فصيح العبارة حسن التقارير متثبتاً، لا تأخذه في الحق لومة لائم يحضر مجالس الباشا العلمية مع أعيان العلماء.
قيل: إن الباشا المشار إليه ذكر لهم في بعض الليالي حسن معاملته للعلماء وتقريبهم من مجلسه مع ما كانوا يعانونه من الدول السالفة فسكت جميع الحاضرين وبعضهم شكر فضله. أما صاحب الترجمة فلم يتهيب أن قال له: إن ما كان يعانيه العلماء السابقون كان متسبباً عن وقوفهم مع أمرائهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واليوم جميع الحاضرين لا تجد واحداً منهم ينكر عليك ما أنت فاعله. فلم يقدر الأمير على إجابته وتوقع بعض الحاضرين للشيخ ما توقع وزاد الأمير بعد انتهاء المسامرة أن أرسل إلى الشيخ بأن لا يرجع إلى تونس صباحاً فلم يشك الشيوخ فيما توقعوه، لكن من الغد أجزل الباشا صلته وشكره على حسن تنبيهه وأركبه في شريوله للإياب إلى الحاضرة فكانت منقبة جميلة لكل منهما. ولم يزل الشيخ على فضله وفخره في بث العلم ومباشرة القضايا إلى أن أدركته المنية فتوفي سنة إحدى وستين ومائة وألف عليه رحمة الله.
33 الشيخ عثمان البكري هو الشيخ أبو النور عثمان بن أبي الغيث بن علي بن أبي بكر بن محمد تاج العارفين البكري سابع الأيمة البكريين. لما توفي والده أخذ في اكتساب ما يؤهله للالتحاق بسلقه، فتعلم القرآن العظيم وتصدى لقراءة العلم الشريف على الشيخ "محمد سعادة" ولازم الدروس، لإحياء ما ذوى في أصوله من الغروس، إلى أن برقت على أساريره بروق النجابة، ولاحت غياهب الجهل عن وجهه منجابة، وكاد أن يحيى ما عفا من مراسم بيته الرفيع، ويلتحق بأجداده فيكون زهرة في روض فضلهم المريع. وعند ذلك أعمل الأسباب، وأمل من دهره نيل الآراب، فجرى ذكره بخير عند الباشا، وحسنوا عنده إلحاقه في إمامة الجامع فصيح العبارة حسن التقارير متثبتاً، لا تأخذه في الحق لومة لائم يحضر مجالس الباشا العلمية مع أعيان العلماء.
قيل: إن الباشا المشار إليه ذكر لهم في بعض الليالي حسن معاملته للعلماء وتقريبهم من مجلسه مع ما كانوا يعانونه من الدول السالفة فسكت جميع الحاضرين وبعضهم شكر فضله. أما صاحب الترجمة فلم يتهيب أن قال له: إن ما كان يعانيه العلماء السابقون كان متسبباً عن وقوفهم مع أمرائهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واليوم جميع الحاضرين لا تجد واحداً منهم ينكر عليك ما أنت فاعله. فلم يقدر الأمير على إجابته وتوقع بعض الحاضرين للشيخ ما توقع وزاد الأمير بعد انتهاء المسامرة أن أرسل إلى الشيخ بأن لا يرجع إلى تونس صباحاً فلم يشك الشيوخ فيما توقعوه، لكن من الغد أجزل الباشا صلته وشكره على حسن تنبيهه وأركبه في شريوله للإياب إلى الحاضرة فكانت منقبة جميلة لكل منهما. ولم يزل الشيخ على فضله وفخره في بث العلم ومباشرة القضايا إلى أن أدركته المنية فتوفي سنة إحدى وستين ومائة وألف عليه رحمة الله.
33 الشيخ عثمان البكري هو الشيخ أبو النور عثمان بن أبي الغيث بن علي بن أبي بكر بن محمد تاج العارفين البكري سابع الأيمة البكريين. لما توفي والده أخذ في اكتساب ما يؤهله للالتحاق بسلقه، فتعلم القرآن العظيم وتصدى لقراءة العلم الشريف على الشيخ "محمد سعادة" ولازم الدروس، لإحياء ما ذوى في أصوله من الغروس، إلى أن برقت على أساريره بروق النجابة، ولاحت غياهب الجهل عن وجهه منجابة، وكاد أن يحيى ما عفا من مراسم بيته الرفيع، ويلتحق بأجداده فيكون زهرة في روض فضلهم المريع. وعند ذلك أعمل الأسباب، وأمل من دهره نيل الآراب، فجرى ذكره بخير عند الباشا، وحسنوا عنده إلحاقه في إمامة الجامع وكان الأمير المذكور يميل إلى إجراء الأمور على عوائدها التي كانت عليها مدة المقدس والده حسين باشا فقيل له: إن من عادة جامع الزيتونة مدة المقدس الوالد أمر الجامع يكون بيد إمامه الأكبر يولي فيه من يشاء وعند ذلك فوض الأمير وظائف الجامع إلى الإمام البكري فعزل خليفته الشيخ غيث غلاب لولايته مكانه مدة الباشا واستمر معزولاً مدة ثم أعاده إلى النيابة بوسائط واستمرت الإمامة بيد صاحب الترجمة وهو مرموق بعين احترامها، معدود في زمرة أعلامها، إلى أن أتاه محتوم الأجل سنة ست وسبعين ومائة وألف ودفن بزاويتهم عليه رحمة الله.
35 الشيخ حمودة البكري هو الشيخ أبو محمد حمودة بن أبي الغيث بن علي بن أبي بكر بن محمد تاج العارفين البكري ثامن الأيمة البكريين- وليها بعد وفاة أخيه المتقدم مع أنه بعد وفاة والده لم يتعاط شيئاً من اكتساب ما يتأهل به لولاية الخطة المذكورة وبقي في تنعم بيته بعد وفاة والده ومدة إمامة أخيه إلى أن توفي أخوه واستحق هو إرث الخطة المذكورة فقدمه إليها الأمير علي باشا باي الحسيني إماماً أكبر بجامع الزيتونة. قيل: إنه لما صعد على المنبر يوم الجمعة لم يقدر أن يفوه ببنت شفة وبقي حصة صامتاً إلى أن استنزله المزوار بهيئة ازدراء وخطب مكانه خليفة الجامع واستمر على خطته وجهله محترماً معظماً إلى أن توفي عليه رحمة الله. وكان خليفة الجامع يومئذ "الشيخ محمد بن علي سويسي" يقيم الخطبة والخمس بجامع الزيتونة مع ما له فيه من الدروس العلمية. وشيخ الختمة ولده "الشيخ علي سويسي" فزان كرسيها بحسن تلاوته مثل جده سميه، وصاحب سجادة التجويد هو "الشيخ محمد بن أحمد عزوز" ولد سنة ست ومائة وألف وأخذ القراءات عن والده وأخذ معقول العلوم ومنقولها عن الشيخ "محمد زيتونة" والشيخ "علي سويسي" والشيخ "أحمد مجاهد". وتقدم بعد وفاة والده خطيباً بجامع الحلق، وتصدى للتجويد على سجادة جامع الزيتونة فنفع كثيراً إلى أن توفي عليه رحمة الله.
36 الشيخ أبو الغيث البكري هو الشيخ أبو الغيث بن حمودة بن أبي الغيث بن علي بن أبي بكر بن محمد تاج العارفين البكري، تاسع الأيمة البكريين، وليها بعد وفاة والده فخلف أباه وجده في عدم التأهل وأشرك معه قريبه "الشيخ تاج " واستمرت الخطة بيده وهو محترم باحترامها، وإليه مرجع الأمر والنهي في الجامع إلى أن توفي وصرف بوفاته قريبه المذكور، عليه رحمة الله.
وكان خليفة الجامع على عهده "الشيخ محمد سويسي" قاضي الحاضرة. وبعد وفاته سنة أربع ومائتين وألف أقيم عوضه خليفة لإقامة الخمس والجمعة الشيخ "محمد بن أحمد الطويبي" قاضي الحاضرة وحيث أن الإمامين البكريين الأخيرين لم ينتفع منهما الجامع بإمامة ولا بخطبة ولا برواية الحديث زاد الأمير علي باي خليفة آخر إماماً ثالثاً لإقامة شعائر الجامع عند عجز الخليفة. وقدم لذلك الشريف "الشيخ علي بن أحمد محسن" فكان الإمام البكري يحضر بذاته في الجامع وقت رواية الحديث وخليفتاه يروبان بين يديه صحيح مسلم والشفا للقاضي عياض رضي الله عنهم أجمعين.
الشيخ علي البكري هو الشيخ أبو الحسن علي بن أبي الغيث بن حمودة بن أبي الغيث بن علي بن أبي بكر بن محمد تاج العارفين، عاشر الأيمة البكريين. وليها بعد وفاة والده مع عدم تأهله، وزاد على من قبله بالتغفل والبله حتى كمان محجوراً عليه ونظره للوجيه أبي العباس "أحمد النوّي" وكان يمنعه من الخروج ستراً لحاله. وكان خليفته الإمام الثاني على عهده الشيخ "محمد الطويبي" قاضي الحاضرة والإمام الثالث الشيخ علي محسن. ولما توفي الإمام الثالث في السادس والعشرين من ذي القعدة سنة تسع ومائتين وألف تقدم عوضه بعدَ حين شيخ التجويد على الختمة العالم الشريف الشيخ "عمر المحجوب" في غرة رجب سنة عشر. وتقدم للتجويد على كرسي الجامع الشيخ "محمد بن محمد الصفار القيرواني الرعيني".
ولما توفي الإمام الثاني ليلة الثلاثاء الحادي والعشرين من يناير الموافق لتاسع شوال سنة سبع عشرة قدم حمودة باشا يوم الثلاثاء السادس عشر من شوال عوضه الشيخ "عمر المحجوب" إماماً ثانياً، وأقام العالم الصالح الشيخ "محمد العيوني" إماماً ثالثاً، وكان يستند في تدريسه إلى الإسطوانتين المتلاصقتين أمام الختمة وظهرت له في الجامع كرامة، وذلك أن الإمام الثاني اتفق له أن مرض ورام هذا الشيخ المبيت بجبل المنار فاستناب شيخ الختمة للصلاة وخرج لجبل المنار فاتفق للنائب أن اعترضه إسهال أول الليل حضر معه لصلاة العشاء بالجامع محلى غاية التعب وتزايد به الأمر بعد ذلك، وبينما كان الشيخ العيوني مع مجالسيه بجبل المنار أواسط الليل قال لهم: إنه لا بدّ لي من أن أرجع الآن إلى تونس، وخرج في ذلك الحين راجعاً يستضيء بضوء القمر. ولما حان وقت صلاة الصبح وأيس وقادُ الجامع من حضور النائب فتح الجامع وبقي محتاراً ينتظر ما يصنع وإذا بالشيخ العيوني أقبل على الجامع رضي الله عنه.
ولم تطل مدة إمامته بل إنه لم يلبث أن توجه إلى طريق الله وأعرض عن الدنيا وعلائقها على حين مرض الإمام الثاني فأرسل الأمير حمودة باشا بتولية العالم الفاضل الشيخ "عمر بن علي المؤدب" فتقدم إماماً ثالثاً صبيحة يوم الأحد الثامن والعشرين من جمادى الثانية سنة عشرين وأقام بجامع الزيتونة لإقامة الخمس والجمعة والتدريس بالجامع مدة حيث إن الإمام البكري عاجز والخليفة مريض ولم يزل الشيخ "محمد الصفار" شيخ الختمة في جلالة خطته واحترامها.
قيل: إن الأمير حمودة باشا لما بلغه خبر وفاة المنفرد بحسن الصوت الذي
لم يأت بعده مثله في التجويد الشيخ "حمادة بن الأمين" المتوفى يوم الجمعة السادس والعشرين من ذي القعدة الحرام سنة عشرين قال: كنت أتمنى أن نوليه على ختمة جامع الزيتونة غير أن الحياء من الشيخ الصفار منعني من ذلك، ولما تأخر الخليفة الإمام الثاني الشيخ "عمر المحجوب" قاضي الحاضرة من خططه يوم الجمعة التاسع والعشرين من صفر الخير سنة إحدى وعشرين أبقى الأمير الإمام الثالث على خطته، وقدم الشيخ "الطاهر بن مسعودبن أبي بكر اليعسوي كذا الفاروقي" إماماً ثانياً خليفة بجامع الزيتونة رضي الله عنه بعلمه وجلالته وهو عالم العصر، والمفرد العلم في هذا المصر، آية الله في التحصيل والذكاء. ولد بقبيلة أولاد سيدي عيسى من الناحية الغربية في بيت جده سيدي عيسى المذكور بيت العلم والصلاح والفضل من عهد جدهم الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقدم إلى تونس في طلب العلم ونزل بالمدرسة التوفيقية فقرأ المعقول والمنقول بجامع الزيتونة على الشيخ "صالح الكواش" والشيخ "أحمد بوخريص" والشيخ "محمد الطويبي" والشيخ "حسونة الصباغ" وقرأ "القطب" على الشيخ "حسن الشريف" ونحو ربع المختصر الخليلي على الشيخ "عمر المحجوب". وتصدى لبث العلم بما له من الذكاء والتحصيل والتحرير فانتفع به كثير من الفحول حملة المعقول والمنقول. وتقدم لمشيخة المدرسة السليمانية بعد وفاة شيخها الغرياني وأقرأ بها. وشرَخ الرسالة السمرقندية في علم البيان شرحاً بديعاً تعقب به شروح العصام والملّوي والدمنهوري وسلك فيه مسلك التحقيق، فقاق على سائر شروحها السالفة. وقد كتبت على قطعة منه حواشي. والأمل في الله أن نبلغ المراد في إتمامها على الوجه المأمول رضي الله عنه. وقد استمر الخليفة المذكور على خطته وملازمة بث العلم إلى أن بلغ من العمر نيفاً وستين سنة فأصابه الطاعون في صلاة الصبح بمحراب جامع الزيتونة، وبقي ثلاثة أيام مريضاً وأدركته المنية بعد فراغه من صلاة العصر يوم الأربعاء الخامس والعشرين من صفر الخير سنة أربع وثلاثين ومائتين وألف ودفن من الغد جوفي الزلاج، فكان هو رابع إخوته الدفينين بتونس، وهم: الشيخ محمد الكبير، والشيخ العربي، والشيخ العابد، وكلهم علماء قرأوا في بلادهم ولحقوا بأخيهم. وكانت وفاتهم بتونس ولهم ببلدهم أيضاً ثلاثة إخوة أخر، وهم: الشيخ الزين، والشيخ الطيب، والشبخ إبراهيم. وكان أبوهم صالحاً ذا كرامات رضي الله عنهم أجمعين.
أما الإمام البكري صاحب الترجمة فلم يكن له في مدة ولايته من مباشرة خطة الإمامة بجامع الزيتونة إلا حضور جسده في وقت رواية البخاري وخليفتاه من العلماء الأعلام يتداولان الرواية بين يديه واستمر على ذلك إلى أن توفي بسانيتهم بمرناق في الحادي والعشرين من جمادى الأولى سنة سبع وعشرين ومائتين وألف.
وهو آخر الأيمة البكريين فاستمرت الإمامة في بيتهم مائة سنة وثلاث وتسعين سنة تخلفت عنهم مدة يسيرة في خلال ذلك غير أنهم- رضي الله عنهم كانوا معتمدين في شرفهم وفضلهم على الخطة المذكورة إلى أن بلغوا إلى الغاية التي أخرجتها من أيديهم. وهذه عادة الله الجارية في بيوت الفضل والشرف من الملوك وغيرهم إذا تطاول عليها الزمان واعتمد عليها أبناؤها ولم يحصلوا على شرف لأنفسهم فلا يلبث بهم الاشتغال بالترف ونضارة العيش أن يهدم معاليَهم التي بناها آباؤهم وغفلوا عن تجديد زقها رحم الله أعظم جميعهم. وسبحان من بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون.
38 الشيخ حسن الشريف
هو الشيخ أبو محمد حسن بن عبد الكبير بن أحمد بن محمد بن أحمد الشريف إمام مسجد دار الباشا ابن حسن بن علي بن حسن بن أحمد بن القاسم بن محمد بن قريش بن عيسى بن عبد الرحمن بن خلف بن علي بن نهج بن علي بن محمد المكتوم بن إسماعيل بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. حبذا عقد سؤدد تناسقت جواهر آل البيت النبوي فيه اتساقاً، وأفق فخر طلعت بدورُه لا تختشي خسموناً ولا محاقاً، نبغ فيه هذا الإمام، وطلع شمس هداية في دياجي الظلام، علماً وشرفاً توارثهما من آبائه الكرام، وأجداده السادة العظام. أصل هذا الفرع النبوي من الهند، ومنه كان مقدم جدهم إلى حاضرة تونس، وهم من ذرية الشريف السيد علي ابن الشريف السيد محمد المكتوم جد الملوك العبيديين، ولا زالت فروع هذا الجد الشريف في نواحي الهند إلى هذا اليوم ببلد أجمير، وبها زاوية الشيخ علي المذكور قائمة المعالم والشعائر فهم أشراف هنديون ولذلك يقال لهم: بنو الشريف الهندي وإلى ذلك يشير شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن محمد بن الخوجة في مدح آل هذا البيت بقوله: [الطويل]
ألا أن نور الله بعد محمد
…
بنو بنته الأطهار من وصمة الحقد
وكلهُم سيف فِرنده لامع
…
ولكنما الأسياف أشرافها الهندي
وكان ثالث أجداد هذا الإمام الشريف الحسيني (الشيخ أحمد الشريف) الإمام بمسجد دار الباشا عالماً صالحاً. ولد بتونس وأخذ العلم عن الشيخ "ساسي بن محمد نوينة الأنصاري الأندلسي" وعن الشيخ "محمد جمال الدين القيرواني". وولع بكتب الأعاجم النحوية، وكتب الحديث والفقه، ولازم التدريس عند الفجر بمسجد دار الباشا وكان يقول: لي في إمامة هذا المسجد سبعة أجداد. وقد حجّ بيت الله الحرام أميراً على الركب التونسي. وكان جميل الصورة، نحيف الجسم، نظيف الشيب، يقبل يده كل من لاقاه قد تجمّلت التواريخ التونسية بذكر مناقبه ومآثر علمه وصلاحه، إذ كان شيخ شيوخ جامع الزيتونة علماً وفضلاً يقرىء الصحاح الست وسائر العلوم بالجامع.
وقد نقل عن معاصره الولي الصالح الشيخ "ابن خودانه" قال: إن الشيخ أحمد الشريف بلغ إلى القطابة وله كرامات محفوظة منها: إن بعض تلامذته ممن كان يسكن ربض باب السويقة قد تأخر في المدينة في قضاء حاجة له إلى أن غلق عليه الباب مدة عتو الترك في البلاد، فحضر لدار الشيخ بحوانيت عاشور وطلب منه أن يبيت عنده فأحسن قبوله، ثم لم يلبث الشيخ أن خرج إليه وقال له: إن والدتك كادت تتمزق كبدها من جهتك فلابدّ أن تذهب إليها فقال له ة يا سيدي إن الباب مُغلق وأنا أخشى سطوة الترك أن يقتلوني فقال له: اذهب ولا تخف، وإذا بلغت عند زاوية الشيخ سيدي محرز تجد هنالك رجلاً يذهب معك ليفتح لك باب السويقة ويبلغك إلى دارك، فكان الأمر كما ذكر الشيخ وأدرك والدته تتخبط في أشراك جزعها عليه، وله كرامة سيدنا يحيى فإنه قد هرم وآيست زوجه ولم يولد له، فاتفق أن آذاه بعض أقاربه بسبب عدم الولد فشكى ذلك إلى زوجه وكانت ابنة المفتي الشيخ "أبي الفضل المسراتي"، ولما كانت آيسة من نفسها خرجت تخطب له زوجة، وأخذت بكراً وجهزتها له وأحضرتها بنفسها رغبة في الولد. ولما كانت ليلة الدخول توضأ الشيخ وصلى وسأل الله جبر زوجته التي تركته يدخل على زوجة أجنبية وطلب أن تكون منها عمارة داره، ودخل بزوجه فلم تمض مدة حتى ظهر الحمل على كل من الزوجتين، وولدتا له ولدين سمى أحدهما الحسن وسمى ولد زوجته الأولى محسنا، ثم إن الزوجة الجديدة لم تحمل أكثر وعاد الحمل ثانية إلى الأولى، فولدت ولده محمداً جد صاحب الترجمة ولم يزل أبناء محمد وأبناء محسن يتقلبون في فضل فخره ودعائه وأبناء الحسن تناقلوا مع والدهم إلى ربض باب السويقة، ولم يزالوا هنالك مرموقين بعين اعتبار فضل شرفهم رضي الله عنهم.
وقد توفي الشيخ يوم الاثنين الثاني عشر من رجب سنة اثنتين وتسعين وألف، وصلي عليه بجامع الزيتونة ودفن بجبل الفتح من الزلاج.
ونسج أبناؤه على منواله في العلم والتقوى حتى كانوا كعوباً متناسقة في الفضل وكراماتهم وآثارهم يرويها الخلف عن السلف. فولي ولده الشيخ مَحمد بفتح الميم عوضه في إمامة مسجد دار الباشا ومنه تنقلت إلى ابنه سميّ جده الشيخ أحمد مدرس الجامع الحسيني ونائب خطة القضاء بتونس وقد تداولوا يقابة الأشراف وورثها بعد المذكور ولده "الشيخ عبد الكبير" مع إمامة مسجد دار الباشا، ودرس جامع محمد باي المرادي، ودرس باب الشفا ودرسين آخرين بجامع الزيتونة كما ولي مشيخة مدرسة حوانيت عاشور بعد وفاة الشيني "عبد الله السوسي". وولي خطبة جامع أبي مَحمد ثم تأخر عنها وكان عالماً صالحاً شاعراً جليلاً اجتمع بشمهووش الصحابي رضي الله عنه.
وذلك أنه وقعت مرمة عندهم رأى فيها أحد الخدامين ثعباناً قتله فوقع صريعاً ثم رأى نفسه بين يدي قوم من الجن يدَّعون عليه قتل واحد منهم على يد شمهروش فسأله عن ذلك فأنكر القتل، وقال: إنما قتلت ثعباناً، واستشهد بالشيخ عبد الكبير الشريف فطلب منه الاجتماع به في خلوة وعند وقوعه سأله عن ذلك وبمجرد ما أعلمه الشيخ القصة قال شمهروش: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من تطور بغير صورته فقمل فدمه هدر" وعند ذلك خفي سبيل الخادم المسكين.
ولما أقبل الجزائريون على نهب البلاد قصدوا داره فوضع الشيخ يده على بابه يقرأ عليه فبادره أحد أشقيائهم ببلطة ليضرب بها الباب فلم يشعر إلا وحديدها عاد عليه وخر من ضربتها ميتاً فصاح أصحابه يطلبون من الشيخ العفو وأتوا بصنْجَق وضعوه على باب الدار، وأقاموا عليها حراساً منهم حموا بهم جميع أهل تلك الحومة.
على أنه آية الله في تحصيل العلوم، والخبرة بمواقع المنطوق والمفهوم، مع ذكاء وميض، وبحث عريض، وقد سبق له ذكر في مجلس الأمير علي باي وكم له من ظهور على مجادليه، بلغ به في العلم إلى الشأن النبيه. وقد امتدحه في بعض ظهوراته تلميذه الشيخ محمد الغضبان بقوله:[المجتث]
أمن تألُّقِ بَرْق
…
في الدَّجْن لاحت غزاله
أم بدر تم تبدَّى
…
حفته بالنور هاله
أم روضة العلم لاحت
…
ووشَّحتْها الجزاله
ببحث حبْر جليل
…
تاج الهدى والعداله
كبيرِ قدرٍ وعلمٍ
…
وتفي الذكا والمقاله
يُعزَى لخير البرايا
…
من كلَّمتْه الغزاله
قل للمُجادِل فيه
…
قد خضت بحرَ الجهاله
إن عُدْتَ للحرب يوماً
…
أهْدَى إليك نباله
وإن جنحت لسَلم
…
تنجو على كل حاله
سلم لبحر المزايا
…
لبَّاس بُردِ الجلاله
كم مستفيد أتاه
…
لنيل مجد فناله
من نحوه الشُّهبُ ترمي
…
لمن يروم مناله
لذا الأمير اصطفاه
…
لقربه فاستماله
فراية العدل منه
…
هالت فضاهي مثاله
والسعد وافاه يسعى
…
لمن يروم نِزاله
لازال في المجد يرقى
…
وأصلح الله باله
وحفه بسرور
…
ومجْدُه في استطاله
بحق من قد أتانا
…
بالسيف ماحي الضلاله
عليه أزكى سلامٍ
…
ماسح مزن سجاله
وقد اعتكف على بث العلم وانتفع الناس بعلمه إلى أن أدركته المنية فتوفي سنة ست ومائتين وألف وله من العمر خمس وثمانون سنة، وفخر علمه وفضله متلو بكل لسان.
وقد ولد ولده صاحب الترجمة عام ثلاثة وسبعين ومائة وألف ونشأ في حِجر تعاليم أبيه، صاحب الشأن النبيه، العالم الشهير الشيخ "عبد الكبير"، وقرأ عليه المعقول والمنقول والفروع والأصول، كما قرأ أيضاً على فحول المتقدمين من علماء تونس منهم أبو "عبد الله الشيخ محمد بن علي بن خليفة الغرياني الطرابلسي". ومنهم أبو محمد الشيخ "عبد الله السوسي" ومنهم أبو عبد الله الشيخ "محمد الشحمي" وغير هؤلاء من فحول العلماء فلازم الأخذ مدة شبابه وتصدى للإقراء.
ثم إن والده قدمه عِوضه لدرس باب الشفاء والدرسين الآخرين بجامع الزيتونة ومشيخة مدرسة حوانيت عاشور واعتكف على بث العلم، وله في الأدب يد طاوَل بها نجوم الأفلاك، حيث فاقت بدائعه على الدر في الأسلاك، مع فصاحة اللسان عند المحاورة، وغرابة اللطائف في المحاضرة، عاتبه العالم الشيخ "محمد القابسي" بقوله:[الكامل]
يا فاضلاً حاز الفخارَ ذكاؤه
…
فله بحل المشكلات تكفُّلُ
لازال ربع الدرس مأهولاً بكم
…
ولكم بنشرٍ للعلُومِ تجمّل
أَغْمِد سيوفَ الصدِّ والأعراض عن
…
خلٍّ وفيٍّ ما عراه تنقل
ثم السلام من أربعين م وخُمسها ح
…
مع أربعين م وعشرها لا يبطل
يُهدى لسيدنا الذي أعنيه في
…
نظمٍ بديعٍ بالمحاسن يرفل
من سدس عشر الثاني ضف لثلاثة
…
أخماسَ سدس العشر الأول يحصل
وأنسب لآخر أولاً أيضاً وقل
…
أخماس رباع لخمس يافُلُ
والسدس من ثانٍ أخيرِ ثم في
…
حُسنٍ به صدر المفاخر يكمُل
فأجابه الشيخ "حسن الشريف" من شعره بقوله: [الكامل]
لك في المعالي المكرماتُ الكمّلُ
…
وسواك من تلك المآثر أعزلُ
ولمثْلِكَ الهممُ التي أدنى مرا
…
تبها لها فوق الثريا منزل
ذو راحة قد كنت أحسب أنها
…
غيثٌ ولكنْ هذه لا تمْحل
خبرٌ إذا جالت قرائحه على
…
حلِّ العويص أطاعهن المُشكِل
أوجفْتَ خيلَ ملامةٍ نحوي وقد
…
سلسلتَ عتبَك وهو عذب سلسلُ
فطرِبتُ لمَّا أن تضمن ذكرهم
…
وودته لو كان من ذا أطول
إني لعمرِي ما تركت زيارة
…
لك من جفا أو كنت عنكم أعدِلُ
لكن علمْتَ لكثرة الشغب التي
…
قد أذهلت يا ليت عذري يقبل
أتظن أن أسلُو ولو كاشفت عن
…
ما بالضمير ظننت بي ما يجمُل
ورأيت فيه من الوفاء لكُم من ال
…
مثل الذي ضربوه حق أمثلُ
فعزمت في يوم الخميس أزوركم
…
وأنال من لقيَاكم ما آمَلُ
لازلت في أفق العُلا قمراً به
…
هُدِيَ البرية ما ترنم بلبل
وعليك أزكى تحية ياذا العُلا
…
ما صافحت زهر الحدائق شمأل
ولكمال براعته في حسن الإنشاء انتخبه الأمير حمودة باشا لخطة الكتابة، وقربه اهتماماً بشأن شرفه وخضه بأسراره حتى أحش منه كاتب سره يومئذ العزيزي فتجسس على بعض الأسرار المودعة عند الشيخ وأفشاها ناسباً روايتها إلى الشيخ الذي أمانته ينبو عنها مثل ذلك، لكن على كل حال اتخذ كاتب السر المذكور ذلك وسيلة للتنديد على الأمير في تقريب الشيخ حتى عزله الأمير من خطة الكتابة فكان عزله رحمة للعلم وأهله. وأصبح الشيخ يملي الدروس العلمية واجتمع عليه فحول العلماء حتى كان شيخ شيوخ العصر. وبعد برهة من عزله تحقق الأمير براءته مما نسب إليه، وعلم حقيقة ما جرى لديه، فبقي ينتظر ما يحسن أن يقدمه إليه، وهو ملازم للتدريس في معقول العلوم ومنقولها، مع فصاحة وحسن خلق، ولين مع التلامذة ومواظبة على الدروس، بحيث لا يتخلف إلا لعذر عظيم، وبذلك انتفع عليه كثير من فحول جامع الزيتونة لا يحصى لهم عدد، وكانت تلامذته لا يصبرون على مفارقة درسه وقد كان مريض سنة ست وعشرين ومائتين وألف. ولما أن عوفيَ من مرضه قدم إليه تلامذته وفي مقدمتهم الشاعر المُجيد الدراكة الوحيد الشيخ "قاسم بن كرم" وأنشده من رائق شعره البديع تهنئة لطيفة وهي قوله:[البسيط]
بشرى فذَا بارقُ الأفراحِ قد ومضا
…
واشرق النْسُ وإنجاب الأسَى ومضَى
بالأمس كان الضحى كالليل حين دجا
…
والآن أضحى الدجى مثل النهار أضا
أبدت محاسنها الدنيا وزينتها
…
للناظرين، فأحمِدْ للمنى غرضا
وافى السرورُ ووفّى الأمنُ موعدَه
…
والحمد لله أن دهر الأسى انقرضا
فهذه أنعمُ لله عمَّ بها
…
كل العباد فكان الشكر مُفترضا
إذ الرضا الأشرف الأسى الهمام أبو
…
محمدٍّ حسن من سُقمِه نهضَا
ذاك الذي شرَّف الله العبادَ به
…
فصاغه جوهرا مذ صانه عرضا
فلم نجد منه بُدّا لا ولا بدلا
…
فيهم ولم نلفِ عنه منهُم عوضا
علا على طائر النسرين مرتفعا
…
إذا نراه جناحا للورى خفضا
مولّى إلى اللهو لم ينفض قط ول
…
كن من يديه أمانِي النفس قد نفضا
وحفَّظ الله في سر وفي علنٍ
…
وما ثنى الجد عن كسب الثنا حفضا
هو المعانيُّ مع فرط الحجا وبه
…
طرْفُ العلا في بحار الجد كم ركضا
يأيّها الأعلم الأعلى الأجل ومن
…
له بكل كمال ذو الجلال قضى
فكان أكرم مخلوق وأشرف من
…
مشى على الأرض أو من في صما ومضا
شفاك ربُّك من داء الجهالة يش
…
في العالمين وثوب السقم عنك نَضا
أضنى بصحتك الله العباد وفي
…
قلوبهم مرض قد زادهم قرضا
يهنيك يا سيدي هذا الشفاء وإن
…
كان به أبدا شانيكمُ جرضا
إن غض ذو الجهل طرفاً عن سناك فلا
…
غروٌ فذا النور نار للبغيض غضا
تالله ما ضدّكم آل النبي سوى
…
مضلل تائه، عنه الهدى رفضا
تفديك من كل مكروه نفوسٌ فتى
…
سر الإله عليه حبكم فرضا
كم أبرد البرء من صدر وأثلجه
…
فكان قبلاً يحاكي حره الرمَضَا
أحيا النفوسَ ورد البؤسَ طالعُه
…
يا حبذا فرفي منه الضنا حبضا
يا أفضل الناس لكن ليس أفضل للتش
…
ريك فافخر بفضل ليس معترضا
وابسط يمينك كي تُشفى الشفاهُ بها
…
يا من على المجد والعليا بها قبضا
لازلت ملجأ ذي الجلَّى إليك على
…
أن ليس إلَاّك إن ما حادث نقضا
فكم أمَطّتَ أذى في العين كان قذى
…
وفادحا جللا جليت إذ بهضا
إليك حجَّتْ ذوو الحاجات وانصرفوا
…
وكلُّهم وطراً مما يروم قضى
كذا لكل المهمات الهمام فلا
…
سواك أمرأهمَّ المرءَ إذ عرضا
بنيت للدين والدنيا بناءَهما
…
يهدي إليك لنيل الحامل الغرضا
قد أقرض الله قرضاً عنده حسنا
…
منْ في محاسنكم شعراً له قرضا
حق علينا لكم حق الوفاء به
…
وحقِّكم ليس مَن أوفى كمَنْ نقضا
ألستَ سِبْط النبي المجتبى كرما
…
من خالص النصح كل الخلق قد محضا
صلى وسلم مولاه عليه كما
…
يحبه وعليهم مع مزيدِ رضا
وكان له صلابة في الحق وغيرة على حقوق الله بلغت غايتها.
اتفق له في بعض الأيام أن كان قادماً لجامع الزيتونة قبل الظهر ولما قرب من زاوية الشيخ سيدي أحمد بن عروس وجد جندياً من الترك ماسكاً بأطراف بنت وهي تستغيث ولا يتجرأ أحد على افتكاكها من يده فوقف الشيخ ونهاه فلم ينته فألقى برنسه وهجم عليه وأيده الله فافتك منه البنت وخلى سبيلها وأمسكه وسار به إلى الدريبة والناس من خلفه، ولما قرب من الدريبة تعرضت له الحوانب لأخذ الجندي من يده فلم يسلمه إلاّ بين يدي الدولاتلي وأخبره بالقصة ورجع الشيخ إلى الجامع لإقراء دروسه فكتب الدولاتلي بذلك إلى الأمير حمودة باشا فأرسل الأمير في الحين مكتوباً بخط يده يأمره بخنق الجندي بالقصبة. وما هاته بأولى غيرته وهمته الهاشمية عليه من الله أزكى التحية.
ولم يزل ملازماً للتدريس إلى أن توفي الإمام البكري رضي الله عنه أواخر جمادى الأولى سنة سبع وعشرين ومائتين وألف فقدمه الأمير حمودة باشا إماماً أكبر بجامع الزيتونة، فزان المحراب والمنبر بعلمه وعمله وفصاحته، وخطب من إنشائه خطباً رائقة أطنب فيها ما شاء وأبدع، وجمعها ديواناً في غاية النفاسة ما زال يتداوله خطباء تونس.
وعلى عهده توفي الإمام الثاني الشيخ "الطاهر بن مسعود" فقدم الأمير محمود باشا الشيخ "عمر بن المؤدب" إماماً ثانياً، والشيخ "محمود بن علي محسن" إماماً ثالثاً أواخر صفر الخير سنة أربع وثلاثين. ولم يزل الإمام الأكبر صاحب الترجمة قائماً بأعباء خطة الإمامة الكبرى وملازماً للتدريس بجامع الزيتونة مع التأليف بما تخلد في صدور الرجال وبطون الأوراق ومع ذلك لما توفي الشيخ "سويسي" في ذي القعدة الحرام سنة اثنتين وثلاثين قدمه المولى محمود باشا باي إلى خطة الإفتاء فصار مفتياً ثانياً وزان الخطة المذكورة، وأفاد المستفتين وتحرى لدينه.
وكتب في الفتاوى كتائب عزيزة من أهمها كتابه "معين المفتي" وكتب "حاشية جليلة على القطر" لابن هشام سلك فيها مسلك المحققين من علماء المعقول قد طبعت في المطبعة التونسية وقرأناها وأقرأناها فإذا هي عنوان علم واسع ومدرك شاسع، ومنها يستفاد أن له كتابة على شواهد المغني غير أنا لم نقف عليها، أما "حاشيته على لامية الزقاق" فهي كنز التحارير الرقاق، وناهيك به من إمام شريف، تحلى بالعلم والتأليف، وزين ذلك بحسن الأدب اللطيف، له غيرة وحمية، وكرم نفس وإنسانية، وهيبة ربانية، رفعت مقامه على سائر أهل الروية. وله من علو المقدار وحسن الآثار، ما خلد ذكر، بكثير من الأخبار، الدالة على خلوص علمه وعمله بغير إنكار، ولم تزل الرجال تأخذ عنه طبقة بعد طبقة إلى أن أتاه أجله فتوفي ليلة السبت الثامن والعشرين من ذي القعدة الحرام سنة أربع وثلاثين ومائتين وألف ودفن بتربة آبائه في أعلى الزلاج عليه رحمة الله. وقد رثاه الشيخ "أحمد الكيلاني" بقوله:[الطويل]
أيا عينُ فيضي واهطلي بسجامِ
…
أمامَ ضريح ضم خير إمام
ويا قلبُ كيف الصبر قد حال بيننا
…
وبين غَمام الديق غيم حمام
فأعظْم به رزءاً لقد حل بالثرى
…
وأمسى به في حيرة وهيام
وأظلم أفق الجو واعبَرَّ لونه
…
متى هتف الناعي بنعي همام
إمام جليل القدر من آل هاشم
…
سليلِ فحول من بطون كرام
هو الحسن الندْب الشريف الذي رقت
…
به زمرة الأشراف أعلى مقام
فقد كان في دنياه أعذبَ مورد
…
وقد صار مرجوٌّا ليوم قِيام
وقد كان للدين الحنيفي صارماً
…
وللعان والملهوف صوبَ غمام
وما كنت أدري قبل أن ضمه الثرى
…
بأن الثرى يُخفي بدورتمام
فراح ولم تعرف له قط هفوةً
…
وسار إلى فردوسه بسلام
فمن لدروس العلم أو لمنابرٍ
…
ومن للقضايا عند نشر خصام
ومن لعويص القول من بعد سيد
…
يحلُّ من التعقيد كل كلام
تآليفه قد طار في الأرض صيتُها
…
بتحرير أبحاث وحسن نظام
سَيتْدُبُه البيت العتيق ومن به
…
ويبكيه طول الدهر كل إمام
ولا غرْوَ أن شخ السماء بنوْئه
…
وصار الثرى من فقده كرجام
وماذا عجيب للذي كان علمه
…
سراجاً منيراً في سواد ظلام
فلا زلت يا فخر الزمان مخلدا
…
لأرفع مجد في أعز مقام
ولازلت يا طود العلوم مُرقرقاً
…
على تربك المسكي فيضُ ركام
عليك سلام الله ما هبت الصَّبَا
…
وما لاح برق من خلال غَمَام
مدى الدهر ما قد قال فيك مؤرخ:
…
فلله من رمس لأسمى همام
[..1234..] 39 الشيخ محمد الشريف هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الكبير أخو الإمام المتقدم الذكر، وناهيك به من جوهرة برزت من أصداف النبوة، وتقدم إلى التكريم والتبجيل في زمن الفتوة، ولد سنة خمس وستين ومائة وألف وتربى في عز بيته وتعاليم أبيه وجده، وأخذ عن والده والشيخ "صالح الكواش" والشيخ "محمد الغرياني" وعن خاله الشيخ "محمد الشحمي" والشيخ "محمد بن قاسم المحجوب" وغيرهم من أعلام جامع الزيتونة إلى أن بلغ في العلوم أشده، وظهرت عليه البراعة التي أضافت إلى شرفه ومفاخره مكارم مستجدة، وجلس للتدريس، وقلد الأجياد من در علومه النفيس. وتقدم لشهادة الديوان يوم الأربعاء الرابع والعشرين من جمادى الثانية سنة عشرين ومائتين وألف عوضاً عن الشيخ "حسونة بوكراع"، ثم قدمه والده عوضه للتدريس بجامع محمد باي المرادي، ونقابة الأشراف، وإمامة مسجد دار الباشا فزان جميعها بعلمه وفضله. غير أنه عند وفاة والده تنقلت نقابة الأشراف من بيتهم واستمر هو في خدمة العلم لولا أنه شغلته خطة الإشهاد على أوقاف الديوان، وكانت من الخطط النبيهة في ذلك الأوان، بما يقتضيه التحري والوقوف على جزئيات مداخيل الوقف ومصاريفه كما هو شأن عدول الرضا أمثاله، ولذلك لم يبلغ في بث العلوم إلى غاية آماله. ومع ذلك كان يقرىء بجامع الزيتونة قرب باب الشفاء وأقرأ شرخ التاودي على العاصمية وغيره.
وعند وفاة أخيه الإمام الأكبر بجامع الزيتونة قدس الله روحه قدمه الأمير محمود باشا باي إلى خطة الإمامة الكبرى بجامع الزيتونة، وولاه مشيخة مدرسة حوانيت عاشور ودرس باب الشفاء عوض أخيه فزان المنبر والمحراب، وترنم في التلاورة فأتى من حسن تأثير صوته بالعجب العجاب، تتفجر الدموع من سامعيه انفجاراً، وتخشع القلوب من مواعظه وتتأجج إنذاراً. ومع ذلك لم يترك بالمرة التدريس بالجامع، بل كان يقرىء فيلقي الدرر اللوامع، وكان مع ذلك جانحاً إلى أخلاق الصالحين، في الزهد والقناعة ولين الجانب والأخذ بخواطر المساكين. وهو معتقد للخاصة والعامة رضي الله عنه.
أخبرني حفيده أنه كان في بعض الأيام قرع عليه البات ربئ غريب فخرج إليه الشيخ فطلب منه الدعاء، وقال له: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبت منه الدعاء، فقال لي: اذهب إلى ولدي محمد الشريف يدعو إليك فجئتك لذلك، فدعا له بما يسر.
وأما واقعة الشيخ "أحمد بن الخوجة" القاضي الحنفي معه فهي شهيرة أخبرني بها حفيده شيخ الإسلام، وذلك أن الشيخ الإمام كان مطلوباً في نازلة عند الشيخ القاضي الحنفي فأرسل إليه فامتنع من القدوم عليه عدة مرات حتى تشدد عليه في ذلك فلما كانت تلك الليلة رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره بمساعدته، وقال له: إنه ولدي وعندما أصبح ذهب إليه بنفسه وبمجرد تلاقيهما أكبا على بعضهما يبكيان وتسامحا أحسن مسامحة، وعند ذلك بادر الشيخ إلى أداء ما عليه من الحق على أكمل وجه- رضي الله عنهما أجمعين- وقد أشرت إلى الواقعتين المذكورتين في قصيدتي "الأجنة الدانية الاقتطاف بمفاخر سلسلة السادة الأشراف" بقولي:[البسيط]
كان المجابَ الدعا في غير حادثة
…
وأهل عصره من ذا الباب كم نقلوا
لذاك وافاه شيخ طالب أملاً
…
بدعوة منه عنها ليس ينعزل
وقال: إن رسول الله أرشده
…
لنجله ذاك وهو السيد الجللُ
والمصطفى أمر القاضي ببره في
…
فصْل القضا حيث مافي حكمه جدل
فجاءه يترضى وهو سامحه
…
مبادراً لأداء الحق يمتثل
وعلى عهده توفي الإمام الثاني الشيخ "عمر بن المؤدب" ليلة الأحد الثاني عشر من جمادى الأولى سنة خمس وأربعين. وتقدم الشيخ محمود محسن إماماً ثانياً والشيخ الشاذلي بن عمر بن المؤدب إماماً ثالثاً ولم يزل صاحب الترجمة في الإمامة الكبرى إلى أن بلغ عمره التسعين سنة فأصابه نقط جلدي عطله نحو شهر وتوفي ليلة السابع والعشرين من جمادى الثانية سنة خمس وخمسين ومائتين وألف. وتبرك الأمير والمأمور بمشاهدة جنازته عليه رحمة الله.
40 الشيخ إبراهيم الرياحى هو الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن عبد القادر بن أحمد الرياحي ابن الفقيه إبراهيم الطرابلسي المحمودي. قدم جده إبراهيم من طرابلس، ونزل بالموضع المعروف بالعروسة من عمل رياح، وكان يحفظ القرآن، وله معرفة بسر الحروف فاشتغل هنالك بتأديب صبيان تلك الجهة، ثم تنقل ابنه أحمد إلى بلد تستور، وبها دفن هو وابنه عبد القادر، وبها كانت ولادة صاحب الترجمة عام ئمانين ومائة وألف وقرأ هنالك القرآن وكان هنالك الوليّ الشيخ "صالح بن طراد"، معروف بالجذب فأتى بجلاب مملوء أطعمة مختلطة من أنواع كثيرة ووضعه على أُسكفَّة باب المكتب، فعمد إليه صاحب الترجمة واستف جميع ما حواه الحلاب وتركه في مكانه. فجاء الشيخ يسأل عمن أكل طعامه، فاعترف له، وعندما علم أنه هو الذي أكله صار يصيح به، ويلتفت إليه وإلى مؤدبه يظهر التعجب، ويقول له: أأنت أكلت الجميع ولم تترك شيئاً لأحد من إخوانك إنها لك عطية من الله. وبعد أن قرأ القرآن بتستور ارتحل إلى تونس في طلب العلم الشريف أواخر القرن الثاني عشر ونزل بمدرسة حوانيت عاشور مدة، ثم تنقل منها إلى مدرسة بئر الحجار، وأعمل يعملات اجتهاده في العلم ولازم دروس الفحول.
فقرأ النحو على عالم عصره الشيخ "حمزة الجباس" كان يقرأ عليه في حانوت الإشهاد كتاب المغني لابن هام. وكان الشيخ يقرىء بدون نسخة وتلميذه يظن أنه نظر قبل حضوره حتى اتفق له ذات يوم أن اختلف تقرير الشيخ مع ما في نسخة التلميذ، ولما سرد عليه محل الاختلاف شك الشيخ في تحريف نسخة تلميذه فأمره أن يقوم إلى مرفع هنالك عليه كتب الشيخ قد سترتها الغبرة، وقال له! نظن أن نسختي في هذا المرفع فقام التلميذ فوجدها متلاصقة الأوراق بالزاج، فإذا هي الصحيحة والأمر فيها كما قرره علي تطاول عهده به. وكان الشيخ حمزة المذكور مفرد علم العربية. وقد توفي سنة سبع عشرة ومائتين وألف، ودفن بالزلاج، وأرخ وفاته الشيخ "قاسم بن كرم" بقوله:[الكامل]
أما الحياة فتلك ظل زائلُ
…
تخفي الشموس وكل بدر آفلُ
طوبى لمن طابت يقينا نفسُه
…
فاختار أخراه وذاك العاقل
هذا أبو يعلى المعلَّى حمزة ال
…
جباس أستاذ الأنام الكامل
قد أبعد الدنيا الدنيئة إذ دنا
…
من ذي الجلال فنال ما هو آمل
فهو المتوج منه بالرضوان تش
…
رسيفاً وفي حلل السعادة رافل
مولى بتقوى الله مغرى قلبه
…
وبعلمه والله يشهد عامل
أنسى (إياساً) في الذكاء وعنده
…
(سحبان وائل) في الفصاحة (باقل)
تبدي بسلك الدرس كل نفيسة
…
ما إن لها من ناقد بل ناقل
تبدي لمنتجع الهدى غيث الندى
…
ويشيم برق السؤل منها السائل
درسَت ربوع العلم بعد دروسه
…
والروض يبلى أن عداه الوابل
فلطالما أجلى دجى جهل كما
…
ينجاب بالحق المبين الباط
وتحلت العليا بعقد وجوده
…
واليوم جيد المجد منه عاطل
ولذاك لما أدى مضى أرخته:
…
مات الرضا الملجا الهمام الفاضل
[
…
1217
…
] [الشيخ صالح الكواش] وقرأ أيضاً صاحب الترجمة على الشيخ "صالح الكواش" وهو عالم البلد على الإطلاق، الورع الصالح صاحب العلَم الخفاق، أبو الفلاح صالح بن حسين بن محمد الكافي. قدم جده محمد من بلد الكاف إلى تونس بعد المائة والألف ونقل عن الشيخ أن نسبهم ينتهي إلى الشيخ سيدي عبد السلام بن مشيش لن ألي لكربن علي بن حرمة بن عيسى بن سلام بن المزوار بن حيدرة بن محمد بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو شريف حسني. وكان ارتحالهم من المغرب إلى الكاف، ومنها تنقل محمد الكافي إلى تونس، ونشأ بها ولده حسين في تعاطي الفلاحة وحج بيت الله الحرام. وكان كواشاً في كوشة سيدي المشرف. وقد ازداد ولده ليلاً في ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائة وألف وكان في زراعة له، فسمع تلك الليلة هاتفاً ينادي. يا صالح (ثلاثاً) ولما رجع إلى أهله وعلم بازدياد ولده سماه صالحاً واعتنى به في حفظ القرآن، فظهرت له نجابة كان بها مؤدبه يملي عليه ما يمكنه فيحفظه بالإعادة مرتين أو ثلاثاً، واتفق له في صغره أن مر على الشيخ عبد الله أبي العظام، فسقاه لبناً حامضاً امتلأ به حتى خشي عليه، وكان الشيخ "عبد الله المغربي" يقول له: يا شيخ المشرق والمغرب، فتوفي والده وتركه وعمره أربع عشرة سنة وتوجه إلى خدمة العلم الشريف، وقرأ بجامع الزيتونة على فحول العلماء فقرأ الأزهرية على الشيخ حسونة الترجمان، وقرأ علم الكلام والمنطق وقطعة من شرح العقائد النسفية بجميع حواشيه على الشيخ "محمد الغرياني" محشي الخبيصي، وقرأ على الشيخ "عبد الكبير الشريف" والشيخ "حمودة الريكلي" والشيخ "أحمد اللعلاع" والشيخ "محمد المنصوري" شارح المختصر الخليلي شرحاً يبلغ
أربعة عشر جزءاً في النصفي، والشيخ "عبد الله الغدامسي" معقول العلوم ومنقولها، واجتمع مع الشيخ "محمد الشحمي" على نظر مختصر السَنوسي في المنطق وخرج إلى طرابلس في طلب العلم فأدرك بها الشيخ "محمد التاودي بن سودة الفاسي" فختم عليه الشفا، وقرأ هنالك التفسير والحديث على الشيخ "نسوس المغربي"، ورجع إلى تونس على أكمل حالة من التحصيل، إذ بنى علمه على أصل أصيل، له اليد الطولَى في المعقول، وهو المرجع في الفروع والأصول، وتقدم لمشيخة المدرسة المنتصرية بعد وفاة الشيخ "إبراهيم المزاج الأندلسي" قاضي الحاضرة في ذي القعدة الحرام سنة خمس وسبعين ومائة وألف، وأقرأ بها دروسه الفائقة واعتكف على العلم والعمل، إلى أن بلغ في نفع العباد إلى غاية الأمل.
وقد رحل من تونس على عهد الأمير علي باي حيث أنكر على قراء الأحزاب أسلوب قراءة القرآن الذي أفضى إلى تغييره وشدد النكير عليهم في النهي حتى وقع اضطراب بين العامة فاضطره الأمير إلى الرحيل ورجع بعد حين، ونال به العلم وأهلُه قرة العين، إذ كان يلازم التدريس بجامع الزيتونة والمدرسة وهو شيخ شيوخ البلاد، وصالحُها الذي بلغت به إلى غاية المراد، متخلق بالزهد وملازم للتقشف لا تأخذ في الحق لومة لائم حاضر الجواب لا يتهيب فيما يخطر بباله، سواء عنده الأمير والمأمور في جميع الأمور.
استدعاه الأمير حمودة باشا لمنزله في بعض الليالي، ولما دخل إلى مجلسه أصابت شمعة ثوبه فتلا قوله تعالى:(ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) . وقد ثقل عليه ضعف بصره في آخر أمره وبلغ من العمر نحو التسعين سنة وأدركته المنية فتوفي يوم الاثنين السابع عشر من شوال سنة ثماني عشرة ومائتين وألف. ودفن من الغد خلف ضريح الإمام ابن عرفة من الزلاج عليه رحمة الله ورثاه تلميذه شاعر البلاد الشريف العالم الشيخ "أحمد زروق" قاضي المحلة بمرثية ميمية مثبتة في شعره أبدع فيها ما شاء، وأرّخ وفاته بقصيدة غراء سارت بخبرها الركبان وكتبت على ضريحه وهي قوله:[الطويل]
لمثلك من خطب تنوحُ النوائحُ
…
وترتاع في أغمادهن الصفائحُ
أُرِيقَت له دون الدموع دماؤنا
…
وشفت له دون الجيوب الجوارحُ
هو القدر المحتوم يلقاه سانح
…
ويرمي به في غامض اليم سابح
وأما وقد أودى الحِمام بصالح
…
وقد عم ثلم في علا الدين واضح
هو العلم العلاّمة الفرد مَن غدا
…
ولا فرد في أدنى معاليه طامح
هو المنهل الفياض ينبوع علمه
…
بماء حياة بحره العذب طافح
إمام الورى الشيخ الهمام الذي له
…
مآثر راقت في علاها المدائح
فتى كان أمّا فكره فهو معجز
…
ذكاءً علمه فهو فاضح
حوى فكره كل العلوم فنقلها
…
ومعقولها متن له وهو شارح
فص لعلوم الدين من بعد صالح
…
إذا نابها خطب من الغير فادح
كوى مصرعُ (الكواش) أكبادَ أهله
…
ففي قلب كل من جوى الحزن قادح
حوى قبره معْ ضيقه من علومه
…
رواسيَ قد ضاقتْ بهن الأباطح
حوى جامع العلم الذي انقاد لاسمه
…
إذا ما تلا من مشكل العلم جامح
فما غاب حتى أدبرت أنجم الهدى
…
وصاح بإدبار المعارف صائح
وقال الورى قد مات علاّمة الورى
…
فأرّخ: يموت العلم إن مات صالح
[
…
1218
…
] [محمد الفاسي] وقرأ أيضاً صاحب الترجمة المذكور على الشيخ "محمد الفاسي" الذي كان وفوده إلى تونس قبل طاعون سنة تسع وتسعين ومائة وألف في سن الشبوبية بين العشرين والثلاثين، وقرأ على الشيخ صالح الكواش والشيخ حسونة بن خليل الحنفي، وقرأ المختصر الخليلي بمدرسة علي باي على الشيخ "محمد بن خليل الحنفي"، إلى غير ذلك من الدروس التي لازمها، وطلع بدراً في هالاتها، حتى أصبح من فحول علماء تونس مع ما عنده من الخيرية والفضل والتصدي لنفع المتعلمين ومعرفة الأسرار الربانية، وقد اختص به الشيخ "محمد بن حسين البارودي" فكان يلازم بيتهم إلى أن توفي سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وألف، ودفن بتربة البارودي قرب كوشة المنتشالي عليه رحمة الله ورثاه تلميذه صاحب الترجمة الشيخ إبراهيم الرياحي بقوله:[الكامل]
شرفُ الورى يا دهر كيف هدمته
…
وقصدت عمدا للهدى فثلمتهُ
يا ليت أنَّك والمنى ممنوعةٌ
…
تلوي على نقض الذي أبرمته
لمْ تألُ في سوقِ الخيار إلى الردى
…
يا ليت شعري هل بذا أكرمته؟
أفلمْ يغب بغروب شمس محمدَّ
…
فضلٌ سما عن أن تكون علمته؟
والعلمُ لو كانت لقلبك رقةٌ
…
لبكيته من بعده ورحمته
يا من إلى نور الكتاب وسرَّه
…
يسعى لقد أخفقت فيما رمته
(كشافُ) أسرارِ البلاغة قد مضى
…
ولسان (تلخيص) البيانِ عدمته
من للكلام إذا يدوَّن فخرهُ
…
منْ مبطلٍ شبه الضلال كلمته؟
ومتى أتى بوساوسٍ متفلسفٌ
…
أرهقته وهدى الإله أقمته
ولوَ أن أفلاطون ساعده اللقا
…
لدرى بأن العلم ما علَّمته
يا محييَ (الإحيا) ليهنك مغنمٌ
…
عمرٌ بإحياء العلوم ختمته
لهفي عليك ولستُ فيه بمفرد
…
يا مفرداً جمع الكلام نظمته
شمس بفاسٍ أشرقتْ وبتونسٍ
…
غربت فيا أسفا عليك ضرمته
قسماً بمن أعطاك خلقاً كاملاً
…
وثبات حلم في الأمور عزمته
لو تفتدى لفداك من تحت السما
…
وبقيت حيا ما تشاء أقمته
لكنَّ ما تلقاه من حسن القرى
…
خيرٌ وأبقى والذي قدمته
فله دعا داعي الورى فأجبته
…
وجميل ظنك بالرجا أحكمته
والله أحرى أن ينبلك كلَّ ما
…
بجميل ظنك في الضمير كتمته
وحرٍ لمجدك أن يناديَ زائر
…
ومؤرخ: وا رمسُ كيف ضممته
فكانت قراءة الشيخ إبراهيم على هؤلاء الفحول جد واجتهاد، أتى بها على فنون من المعقول بلغ فيها غاية المراد، وأخذ بها عنهم أعالي الكتب التي بلغ بها العلم إلى أعلى الرتب، وقد قرأ أيضاً على الشيخ "عمر المحجوب" والشيخ "حسن الشريف" والشيخ "إسماعيل التميمي" والشيخ "الطاهر بن مسعود" وغيرهم من علماء الحاضرة التونسية إلى أن ظهر عليه فضل العلم والعمل، وبلغ من تحصيله غاية الأمل، وأجازه الشيوخ فتصدر للتدريس، وشهد الخاصة له بالفخر النفيس.
قيل: إن الشيخ "الطاهر بن مسعود" كان يقرئ مختصر السعد في جامع الزيتونة وتلميذه صاحب الترجمة كان يقرئ المختصر المذكور أيضاً بطرف الجامع، فاتفق أن سكنت زماجر العلماء، فسكت الشيخ الطاهر في أثناء درسه فسمع تلميذه المذكور يقرئ سمعه حصة ثم قال لمن حوله: ما أحوجنا أن يحضر جميعنا في هذا الدرس، مشيراً إلى درس تلميذه الشيخ إبراهيم وكفى بذلك له شهادة في مبدأ أمره.
وأما معارفه الربانية وطرق وصوله إليها فإنه قد أخذ عدة طرق وانتهى إلى الطريقة الشاذلية سالكاً في ذلك مسلك أستاذه العارف بالله الشريف الشيخ البشير ابن عبد الرحمن بن السعدي بن محمد بن أبي القاسم بن الحبيب بن العابد بن أبي عبد الله بن محمد بن عيسى بن عبد الكريم بن عبد الله بن محمد بن عبد السلام بن مشيش رضى الله عنه وعن آله، وكان باراً بأستاذه المذكور ملازماً لخدمته وهو يدخله بيته بدون إذن مستنزله منزلة ابنه وهو يستمد به المعارف الربانية والأسرار حسبما تدل على ذلك استغاثته الرجزية في برء أستاذه المذكور التي قال فيها بعد توسلات كثيرة:[الرجز]
ثم بذاك الجاه والقدر الكبير
…
نسأل في شفاء شيخنا البشير
وفي آخرها يقول:
ويسأل الناظم إبراهيم
…
محبة بسكرها يهيم
والعطف من شيخ الصفا البشير
…
والجمع في اليقظة بالبشير
صلّى وسلّم عليهِ الله
…
ما لا يفي العد بمنتهاه
ثم إنه في سنة ست عشرة ومائتين وألف رأى من عناية الله به في نومه أنه دخل جامع الزيتونة فوجد به رجلاً مغربياً بين يديه محفل وكتاب متنه أكثر من شرحه وأنه قال له: يا شيخ إبراهيم عليك بالطريقة الأحمدية، ولم يسبق له في ذلك سابق، ولما دخل جامع الزيتونة من الغد تذكر الرؤيا فنظر فإذا الرجل الذي رآه في النوم جالس على تلك الحالة في الموضع الذي رآه فيه، فقصده وبمجرد رؤيته له ضحك، وقال له: أجلس يا شيخ إبراهيم فرأى آية كبرى من المعرفة بالله والصلاح، وإذا هو العارف الشيخ أبو الحسن على حرازم أحد أصحاب الشيخ أحمد التجاني رضى الله عنهم فأعلمه أن ذلك منتهى سفره وأنه قدم من المغرب فطلب منه أن ينزل عنده في بيته بمدرسة بئر الحجار، فنزل عنده.
ولم تزل الكرامات تظهر على الشيخ حرازم حتى اتفق في بعض الليالي أن أيقظه وقال له: قم واطلب من اله ما تريد فكتب مطالب بلغ بها غاية الآمال، في جميع الأعمال، وقد وقفت على تقييدها منقولاً من خطه، وهذا نصه: 1 طلبت من الله تعالى دوام رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا تلبيس.
2 وطلبت عليك يا رب التصرف بالاسم الأعظم.
3 وطلبت عليك يا رب المعرفة لك التامة على أن تكون مقاماً لا حالاً.
4 وطلبت عليك يا رب معرفة الكيميا ونتائج عملها بسهولة.
5 وطلبت عليك يا رب أن لا تتولاني بعجزي عن أن أتولاك.
6 وطلبت عليك يا رب امرأة على وفق المراد على سبيل الدوام.
7 وأبناء صالحين.
8 وعمراً طويلاً بالخير معموراً بالطاعة.
9 ومشيخة في علمي الظاهر والباطن على وفق ما يرضيك ويرضى رسولك.
10 وأن تغني قلبي وكفي.
11 وأن تسخر لي الروحانية والجن والإنس.
12 وأن تبلغني في الآخرة والدنيا ما يليق بكرمك مما لا نعلمه ولا ندري كيف نسألك إياه.
13 وأن تفهمني عنك فهماً حقيقياً.
14 والموت على الإيمان الكامل.
وقد أجاب الله مطالبه، وقضى له مآربه، حتى حصل على سعادة الدارين، ولم يزل رضى الله عنه في اتباع الشيخ مدة طويلة حتى خشي من ملازمته، وتوقع أن يعتريه الحال فطلب من الشيخ أن يقيل عثاره فأخذه الشيخ وضمه إلى صدره وستره بثوبه، قيل: أنه عند ذلك رأى جميع ما كان ويكون، ثم أطلقه واستدعاه للطريقة الأحمدية التجانية فقال له: يا سيدي نرجو أن تتركني إلى أن نستأذن أستاذي فأجابه لذلك وعند ذلك ذهب إلى دار أستاذه الشيخ البشير، وكان من عادته الدخول بدون إذن وبمجرد قرعه للباب خرجت له أمة واستوقفته إلى أن تستأذن عنه وبعد برهة خرجت وقالت له: إن الشيخ يسلم عليك ويقول لك: تمم ما أتيت من اجله، فأخذ ذلك الإذن منه وتلقى الطريقة التجانية عن إذن شيخه العارف بالله من الشيخ العارف بالله، وابتدر إلى مدح الشيخ علي حرازم بقصيدة جليلة نال بها جائزة جميلة، قد أثبتها في أثناء ديباجة غراء ذكر فيها اجتماعه بهذا الأستاذ وأخذه عنه هذه الطريقة ووظائفها من الذكر وبعض فضائلها المنقولة عن مظهرها الشيخ أحمد التجاني، وهذا نصها: الحمد لله الذي من علينا بالاجتماع، مع شيخنا الإمام العلم الهمام رأس العارفين بلا نزاع، وقطب الواصلين بلا دفاع، ولي الله الذي هو في مراقبة الله وعبادته، مولانا ووسيلتنا إلى الله سيدي الحاج علي حرازم أبقى الله وجوده ونوره لائح الأسرار، وسره ساطع الأنوار، بحرمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله الأطهار، وصحابته الأخيار، فأخذنا عنه والمنة لله الطريقة التجانية المنسوبة لشيخه أمير الأولياء، وخاصة الأصفياء الأظهر، العارف الأكبر، والكهف الأفخر، مركز دائرة المختر بن أحمد بن سالم، العالم المشهور حفظ الله علاه، ولا زال بعين الرضا من مولاه، أواسط جمادى الأولى من شهور سنة 1216 (ست عشرة ومائتين وألف) فأجازني في الورد والوظيفة.. وهنا ذكر الورد والوظيفة وبعض فضائلهما.
ولما اشتد به وجدي، ولم يطق حمل أعباء شوقي ومحنتي به جهدي، أنشدته إنشاد الهائم، وأنشأت له قصيدة مطرزة ببعض شمائله، ولم أخف فيه لومة لائم، فقلت، وعلى فيض سره عولت:
كرمَ الزمانُ وله يكن بكريمِ
…
وصفا فكان على الصَّفاء نديمي
وأفاض من نعمٍ عليَّ سوابغا
…
لله يشكرها فمي وصميمي
عظمت على الشعر البليغ وربما
…
عجز الثناءُ عن الوفا بعظيم
وأجلها نظري إلى (ابن حرازم)
…
وتمتعي من وجهه بنعيم
وتلذذي من خلقه بمحاسن
…
وتنعُّمي من خلقه بنسيم
وتعرُّفي من عرفه بعوارفٍ
…
ومعارفٍ ولطائفٍ وفهومِ
وتعزُّزي يتذلُّلي لجماله
…
وتشرفي من نعله المخدوم
ذاك الذي حملت خزائن سرَّه
…
ما لو بدا لارتاب كل حليم
وهو الذي منح المعارف فارتقى
…
منها لأرفعِ سرَّها المكتوم
وهو الذي جعلت أسرَّةُ وجهه
…
مرآة إسعاد وبرء سقيم
وهو الذي نال الرضا من ربه
…
وبنيله إن شاء غير ملوم
وهو الذي أذن الرسول بوصله
…
وأمدَّه من عنده بعلوم
وهو الذي (التيجاني) أودع سره
…
فيه وخصَّ مقامه بعموم
وهو الذي وهو الذي وهو الذي
…
وهو الذي معناهُ غيرُ مروم
عظمت لديه مواهبٌ أضحت لها
…
هممُ الورى تسعى بكل سليم
وسعت محبَّته إلى أرواحهم
…
فهي الغذاء لراحلِ ومقيمِ
يا سيدي، ولكمْ دعوت لسي
…
حتى عرفتك فاستبنتُ رجومي
وعلمت أني كنت أرقمُ في الهوا
…
وأسيرُ خلفي والشفاء نديمي
هل أنت كاشفُ كربتي فلقد سطتْ
…
وطغت عليَّ وساوسي وهمومي؟
هل أنت راحمُ شقوتي فتريحني
…
فخيارُ أهلِ الله خيرُ رحيم؟
هل منقذٌ من قد تحير لم يجد
…
من مسعد بجلا الهموم زعيم؟
فارحم دموعاً قد رأتك عيونها
…
فتكرمت باللؤلؤ المنظوم
وجوانحاً جعلتك في سودائها
…
وقد اصطلت وتكلَّمتْ بكلوم
وجوارحاً ضرعتْ إليك يقودها
…
أصلٌ عظيمُ الشأن غيرُ هضيم
وسرائراً لو أنَّها بليت لما
…
وجدت سوى شرقٍ إليك أليمِ
ومتيماً لولا التذكر لم يكن
…
بمجدَّدِ الأشواق غير رميم
لا تقطعنْ أملي وقد وجَّهته
…
يسعى إليك وأنت خيرُ كريم
وقد اتخذتك في الأنام وسيلة
…
وتوسلي بهواك غيرُ فصيم
وجعلت حبَّي عند فضلك ذمّةً
…
وتذممي بعلاك غيرُ ذميم
ورجوت من ربي بفضلك ما أنا
…
أصبحت من معناه غيرَ عديم
يا مسندي يا مقصدي يا سيدي
…
يا منجدي يا موئلي وحميمي
أنت الذي ربي اصطفاك لسرَّه
…
وحباك من فضلٍ عليك عميمِ
فلك الهناءُ فأنت سلطان الورى
…
وليّ الهناءُ بأن تقولَ خديمي
ورسوله أولاك ما اعترفت به
…
لك أهل سرَّ الله بالتقديم
فسلام ربك كلما هّبت صبا
…
يغشاك طيب مزاجه المختوم
فلما أنشدت بين يديه، وقد اعتراه من الحال ما لا يذكر، وأسبل من الدمع ما هو من الوبل أغزر، فقال: هلم بمحبرة وقرطاس، ودفع بخطه المشرف والناس جلاس، يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: جزاك الله عني وعن نفسك خيراً، ولك مني المحبوبية ومن الله جل جلاله واتصل حبك بعروتي لا انفصام له ولك من الله ومني الرضا بما مدحت به خديمي والحق أنك مدحتني لأنه مني وإلي ولك مني الرضا التام ولك بذلك معارف وأنوار وسرور والسلام عليك ورحمة الله.
فكان صاحب الترجمة هو أول من تلقى الطريقة التجانية بحاضرة تونس، وتعلق بها ونشرها، وأقام أورادها، وأسس لذلك زاويته الشهيرة قرب حوانيت عاشور، وارتقى من ذلك إلى معارج الفتح والشغف بالحضرة النبوية، وحسبه من الفخر ما أبدعه وأجاده وهو "النرجسة العنبرية في الصلاة على خير البرية" وهي من أعز الصلوات البليغة التي كلمت بأعز صيغة، ولعزة هاته الصلاة التزمت إثباتها في تاريخ مفاخره المشهورة، وآيات فضله المشكورة وهذا نصها:"الحمد لله فاتح خزائن الجبروت، في حضرة غياهب تجلي اللاهوت، والصلاة والسلام على سيدنا محمد مرآة الذات والأسماء والنعوت، وعلى آله الكارعين في حياض سر الناسوت".
أما بعد فهذه صلوات جيدات أنوارها قد أشرقت فيها من الأسرار ما لا عين رأت ولا أذن سمعت سميتها "النرجسية في الصلاة على خير البرية"، قصدت بذلك خدمة حضرة سيد الوجود، ومعدن الحقائق والشهود، صلى الله عليه وعلى آله جبالي الدين الشوامخ، وأصوله الرواسي الرواسخ.
بسم الله الرحمن الرحيم "إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما".
لبيك اللهم ربي وسعديك، امتثالاً لأمرك، ومحبة لرسولك، وتعظيماً لقدره، وتشبثاً بأذياله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
اللهم إني أسألك يا الله يا الله يا أول يا آخر يا أحد بغيب الهوية الذي استأثرت بعلمه الذي هو اسمك الأعز أن تصلي على مستودع سرك، ومستقر أمرك، كنز الحقائق الحامل لتجليك الأعظم، أول ملب لدعوتك، وأسبق منقاد لأمرك، الحد الأوسك، روح كل كائن، النور الذي به ظهر وجودك، وانصدع فجر ليل الغيب في آفاق التنزلات إلى أن صار الأول آخراً، والباطن ظاهراً، صلاتك التي بدوامها يستمد القلم، ويجري في اللوح بما أنت به أعلم، صلاة بها تنبسط رحمتك التي وسعت كل شيء، على أسرارنا وعقولنا وقلوبنا وأرواحنا ونفوسنا وعلى كل شيء منا حتى نتأهل لرؤيته، ونغرق في بحار محبته، وعلى آله وصحبه.
اللهم يا هو يا هو يا هو أسألك خاضعاً ذليلاً بالهوية التي هي قائمة بكل هوية، بل هي هية، أن تصلي على الحقيقة المحمدية، صلاة خصوصية قدسية، تمتد منها رقائق لطفانية إلى حقيقتي الروحانية، فتردها إلى حقيقتها الأصلية، رجوع البعضية إلى الكلية، حتى نفنى في محاسنها الجمعية، وتلتذ بأذواقها الشهدية الوصلية، وفي مقاماتها الصدقية الشهودية، لا إله ألا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
اللهم مالك يوم الدين المؤمن المهيمن، صلَّ على سيدنا محمد صلاة تملأ الأكوان أنوارها وتمد الأدوار أسرارها، وتنبت المحبة والمعرفة في أراضي قلوبنا الجدبة أمطارها، صلاة من حضرة ذاتك، ونور أسمائك وصفاتك، تنجذب بها إليه رقائقنا انجذاب الحديد للمغناطيس، وتنجلي عن لطائفنا ما غشيها من ظلم الحناديس، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
اللهم يا سميع يا سريع يا سلام، أسألك بسر سيدنا محمد، وبعقل سيدنا محمد، وبروح سيدنا محمد، وبقلبي سيدنا محمد، وبذات سيدنا محمد، وبجسد سيدنا محمد، وبشان سيدنا محمد كله، أن تصلي على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، الصلاة التي أنت أهل إهدائها، وهو أهل قبولها، كما صليت عليه صلاة انتشر به الطي، وصار للوجود بها فيّ، وتدرج في المظاهر إلى ذاته الذي هو عرش استواء الكمال فأعرب بجوامع كلم ليس معها عيّ، ولا ليّ، عن كل شيّ، وسلم تسليما.
اللهم وأسألك يا قريب يا قيوم يا قدير، بما تعلمه من جلالك وجمالك وكمالك، وشأنك كله، أن تصلي على محبوبك الأول، ومحبك الأكمل، الذي اصطفيته لفتح أقفال جودك، واجتبيته لوضع أسرار وجودك، صلاة جمالية أنبساطية تتشعشع في قلوبنا وأرواحنا ونفوسنا أنوارها، وتمتزج بكليتنا وأسرارنا أسرارها، وتنشلنا من الأحوال إلى مرتقى الكمال حقائقها، وتجذب لطائفنا إلى الاستغراق في ذلك الجمال رقائقها، حتى ننصبغ بالفناء في أحدية وجوده، ونستقر خالدين في جنة شهوده، الذي لا ظمأ بعد وروده، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين وعلى آله وسلم تسليما كثيرا.
اللهم وأسألك يا كافيء يا كفيل يا كبير، بكلمتك العليا التي برز عنها كل كائن بل بأحدايتك التي لا ثبوت معها لسواك، إلا من حيث إثباتك، أن تصلي على مجلاك الأتم، المتلقي نور القدم، على ما فيه من الكمال الأعم، بإدامة إفاضة مددك، وعلى آله وصحبه صلاة تحبها يدوم بها جودك، على كل أهل وجودك، ويستقر بها في مركز ظلمانية عوالمنا، وسفلية أطوارنا، جاذب نوراني، ومزعج شوقاني، إلى حيث يبقى الباقي، ويفنى الفاني، لا إله إلا الله يفني العبد ويبقى الله (ثلاثاً) .
اللهم يا حي حين لا حي في ديمومية ملكه وبقائه، ويا حق ويا حكيم أسألك بك، ولا أعظم من سواك بك، أن تزيد الحقيقة المحمدية إمداداً يليق باسمك الجامع، وعطائك الواسع، حتى تتسع فلإفاضة على الأنهار المستمرة، من عذب بحورها الممدة لأشجار العوالم بمعين رحمتك التي وسعت كل شيء، صلاة نستعد بها، لإرواء قلوبنا العطاش من مشاهدة جمال وجهه الكريم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
اللهم وأسألك يا لطيف يا لطيف يا لطيف بلا إله إلا أنت أن تصلي وتسلم على الواسطة في سريان لطفلك في كل عوالمك إذ أنت اللطيف الخبير وعلى آله وصحبه صلاة وسلاما نستحق بهما بمنك وكرمك لطفا يستولي على لطائفنا وكقائفنا حتى لا نشهد إلا إياك كما انه لا وجود لسواك، يا نور النور أنت منور أحلاك العدم بتجلي نورك، فأسرج نورك في سري وعقلي ونفسي وروحي وقلبي وجسدي وكلي وبعضي حتى لا أكون إلا نوراً، وفي نورك الأحدي مغموراً، كي اوحدك توحيد العارفين، وأعبدك عبادة المقربين، والأمر كله بك منك إليك، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
اللهم وأسألك يا علي يا عظيم يا عليم بأحب ما به تسأل وأعظم ما به تجيب أن تصلي علي الحقيقة الكلية أم الحقائق بأسرها التي هي عين العين الجامعة لكل كمال اختصت به أو فصلته في مجاليك وفرعته في عواليك بعد ما أصلته بها فكان كل كائن على سبيل العموم الحقيقي راجعاً إليها ابتداء وانتهاء رجوع المستمد للممد والبعض للكل والفرع للأصل ولذلك كانت حقيقة سيدنا محمد بن عبد اله بن عبد المطلب بن هاشم الذي أرسل رحمة للعالمين، وكان رسوا الله وخاتم النبيين، ونطق بعموم رسالته إلى جميع الناس لسان الكتاب المبين، واستوت ذاته الجامعة على حذافر الخلق العظيم والحسن العزيز والكمال المتين، وجاء بمتسع بحر الشرع الزخار الذي امتدت علومه في جميع الأقطار ليعلم كل أناس مشربهم من عذبه المعين، سبحان الحكيم الذي رمز بالشاهد على الغائب تلطفاً في إقامة البراهين، وعلى آله وصحبه صلاة تعم وتخصنا بمناسبة جزئية للإفاضة من تلك الجمعية، حتى ينظم الشمل المفروق، ويستولي المحبوب على المشوق، وذلك أقصى ما يرجوه المحب الصدوق، وتسلم تسليما كثيراً.
اللهم إني أتوسل إليك بس والقرآن الحكيم وبالم وبالم وبالمص وبالر وبالر وبالر وبالمر وبالر وبالر وبكهيعص وبطه وبطسم وبطس وبطسم وبالم وبالم وبالم وبالم وبص وبحم وبحم وبحم عسق وبحم وبحم وبحم وبحم وبق وبن والقلم وبجميع سور القرآن وأسراره وأنواره ومبانيه ومعانيه وظاهره وباطنه ومطلعه ومقطعه وشانه كله أن تصلي على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه صلاة ينعكس شعاع شمس إمدادها على مرة باطني ويمتد منه إلى ظاهري نوراً أستضيء به في سلوك صراطك المستقيم حتى أكون في جميع أحوالي على بصيرة منك وحتى تتولى أمري بيدك تولي الكرام عليك المحبوبين عندك لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
اللهم سيدي ومولاي أسألك يا صادق الوعد بص والقرآن ذي الذكر وبالصدق الذي توحدت به وكل صدق صادق فإنه به ومنه أن تصدق عليك ظني وتحقق أملي في أن تتجلى عليّ بأكمل الحقائق برقائق سريانية تجلياً يأخذني عني مصحوباً بلطف لطيف يستولي على لطائفي استيلاء يتمحض لك فيه التوحيد الذي ترضاه وترضى به عني ويرتفع به البين الذي اقتضته حكمتك وانتظم به غاض قدرك، فصل اللهم عليه وسلم صلاة وسلاماً يوجبان رضاه الأكمل وعطفه الذي إياه أسأل كما أنهما منك أوجبا له تمام خلقه وخلائقه، فجاء كتاباً ما فرطت فيه من شيء وعالماً بسطت من حقيقته التي هي مادة الأكوان كل عالم ولخصت في ذاته الذي هو مركز سرك الأكبر ما نبسط من حقيقته فكمل بها الجلاء والاستجلاء ثم عرجت بها إلى حيث كان قاب قوسين أو أدنى، فيحق هذا التنزل الخفي والعروج الجلي ارحمني ارحمني بشهودة الذي هو شهودك فإن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله رحمة تغسل باطني من نجاسة الإخلاد إلى أرض النفس وتجلي صدري بالانحياش الكلي إلى حضرة القدس وعلى آله وصحبه يا الله يا هو يا مالك يا سميع يا قادر يا كافي يا حكيم يا لطيف يا عليم يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور يا صادق القيل ومن اصدق من الله قيلا، أنت الملك الذي لا يحتاج إلى وزير، والمدبر الغني عن المعين والمشير، والحاضر الذي كل غيب عنده شهادة والخبير الغني التعبير، أسألك بكمالك الذي لا يعلمه غيرك وبكهيعص وحم عسق أغنني لك عمن سواك وتول أمري يدك بيدك واجمعني بخير عبادك ،' صلى الله عليه وسلم وطهرني بأسرار قدسك حتى أصلح للوصول بعد الفصل وأعطني مع ذلك ما أنت أهله من كل ما لا يعلمه أحد من خلقك فإنك الواسع الموسع القادر المقتدر، وصلي الله على سيدنا محمد وعلة آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً أثيراً إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين.
[الطويل]
على باب خير الخلق أوقفني قصدي
…
لعلمي بأن المصطفى واسعُ الرفدِ
وقد جئته لا علم عندي ولا تقى
…
ولكنَّ كل الخبث يا سيدي عندي
فيا من وجود الكائنات بأسرها
…
به، أترى غني وعندكمُ رشدي؟
ونفحة جود منك يا أجود الورى
…
لعمريَ وجد ما له بعدُ من فقد
توسلت بالصديق خلَّك والذي
…
مراراً أتى التنزيلُ وفق الذي يبدي
وعثمان ذي النورين من حييت له
…
ملائك فاستحييت من وجهه الوري
وحمزة والعباس والصحب كلهم
…
ولا سيما آل خصوصاً ذوي ودَّ
أبا حسنٍ باب العلوم ومن أتىٍ
…
بنوه بحوراً عذبها دائم المد
بهم جئت يا خير الورى متوسلاً
…
أرى أنني ألححت في مطلبي جهدي
وحاشا لهم أني أخيب وقد أتى
…
بأسمائهم نظمي فرائدَ في عقد
أدرت بهم أفلاك أمري كما ترى
…
بروجاً ولكن كلها مطلع السعد
همُ حسن ثمَّ الحسين ونجله
…
علي الذي زان العبادة بالزهد
وباقرُ علم وهو والد جعفر
…
أبي الكاظم القرم الهمام بلا جحد
عليُّ الرضا ثم الجواد محمد
…
غليُّ التقى والعسكريُّ أبو المهدي
وسيدنا المهدي الذي سوف تنجلي
…
به ظلمات الجور والزيغ عن حد
فما أنا مدل يا كريم بجاهم
…
وحاشا لهم أني أقابل بالرد
وصلّى عليك الله ما أنت أهله
…
وسلّم تسليما تقدس عن عد
وآلك والأصحاب طراً وتابع
…
وبعد فذا ذلي لجدواك يستجدي
الصلاة والسلام عليك وعلى آلك وأصحابك وكل من شهد أنك رسول الله إلى جميع الخلق يا سيدنا يا رسول الله من عين الذات حيث لا اسم ولا رسم.
الصلاة والسلام عليك وعلى آلك وأصحابك وأزواجك وذريتك وأنصارك وأشياعك وجميع أمتك يا سيدنا يا رسول الله من الحضرة الجامعة لكل صفة واسم.
الصلاة والسلام عليك وعلى آلك وجميع أمتك يا سيدنا يا رسول الله من حضرة الذات التي هي منقطع الإشارات على حقيقتك التي هي روح حياة الوجود، المستمد منها القلم الأعلى الكاتب بإفاضة حقائق العوالم في اللوح الكلي جميع الرقائق والدقائق، وكل ما خلقه الحق وما هو خالق، ثم سرى ذلك المدد في المراتب على انبساط كثرتها إلى أن اجتمع تفرقه في ذاته الجامع الذي هو سبب الكون إرادة وقصدا، ونتيجته التي نظمت مقدمات العوالم لأجلها عقدا.
إلهي وسيدي ومولاي هب لسيدنا محمد أجلَّ ما تهب من التقريب، وامنحه أكبر ما تمنحه أهل التحبب والتحبيب، وزده مما يليق بواسع عطائك، ما لا يعلمه أحد من ملائكتك وأنبيائك، واجمع البالغة تدق عن أنظار الأذكياء، وقدرتك القاهرة التي لا يتعاصى عليها في الأرض ولا في السماء، إنك على كل شيء قدير.
[الطويل]
وعدتَ الذي يدعو وها أنا سيدي
…
دعوتك مضطرَّا وأنت سميعُ
وحقَّقتُ يأسي من سواك لفقره
…
وجئتك محتاجاً فكيف أضيعُ
وناديت والآمال فيك قويةٌ
…
وقلبيَ من ضرب الذنوب وجيعُ
وفي علمي سقمٌ وعلمي شهوةٌ
…
وفي الصدر روعٌ للحساب مروع
أتطردني عن باب فضلك سيدي
…
وروضك للعافي الفقير مريع؟
وكيفَ يرى ظني لديك مخيباً
…
وعندي على طردي إليك رجوع
وهل لي من مولى سواك أرمه
…
تعاليت، وصلى من سواك قطيع
وأيَّ نوالٍ غير فضلك يرتجى
…
وأي حمى إلَاّ حماك منيع
لئن حجتني عن نوالك زلة
…
تلظت لها مني حش وضلوع
وأخلدني منها إلى الأرض شهوةً
…
وقهقرني وجدٌ بها وولوعُ
فما بيدي حول ولا لي حيلة
…
سوى أنني نحو الدعاء سريع
بإذنك توفيقي، وفضلك واسع
…
إذا لم توفقني فكيف أطيع؟
أسوَّف بالإقلاع قلباً مقلَّباً
…
وعالم حلم منك فيك طموع
وقد صدَّني عن ذاك قلب مغفَّل
…
له كل يوم في هواه وقوع
عسى سعة وافت على حين شدة
…
وقد يرتجى بعد الغروب طلوع
ولم يزل الشيخ إبراهيم بعد سفر الشيخ حرازم لشيخ تربيته الشيخ البشير رضى الله عنهم أجمعين مع ملازمة زيارته والرجوع إليه في قليل الأمر وجليله، ورأى من عناية الله به ما بلغ به أمله وكم له من خواطر ربانية ظهرت عليه، ومن عنوان ذلك قصيدته النومية التي أنشأها في حال منامه وأملاها في يقظته من حفظه وهي قوله:[البسيط المخلع]
الحمد لله وهو حسبي
…
وفاز من حسبه الحسيبُ
يختص منْ شاء لا بشيء
…
إلاّ بجودٍ، لهُ صبيب
ثم الصلاة على المنيا
…
وآدم طينه لزيبُ
والآل والصحب والموالي
…
من كل في الهدى نجيب
وبعد يا خالقي فإني
…
أدعو بكل الذي تجيب
أن تجمع الشمل وهو فرق
…
يجمعه المصطفى الحبيب
الفاتح الخاتم المرجَّى
…
لساعة هولها مشيب
السيد الكامل المعلَّى
…
الطاهر الطَّيبُ المطيب
كنزُ الكمال الذي لكلَّ
…
وإن علا قدره نصيبُ
منْ مدحه في الكتاب يتلى
…
ماذا عسى يمدح الأديب
هو الرؤوف ويا رحيمٌ
…
ما غير وصلك لي طبيب
إن لم تدارك حليف سقم
…
فعيشه بعد ذا غريب
هذا بكاء بدا مديحاً
…
وذا اشتياق وذا نحيب
عليك من ذي العلا صلاةٌ
…
لا ينذوي غصنه الرطيب
وقد كان ملازماً للتدريس غير أن دنياه ضاقت عليه، وسئم سكنى المدرسة وتطلب التزوج فعزم على الخروج من الحاضرة لعله يجد ما يبلغ به أمله في أي أرض من بلاد الله، وعند ذلك تداركه صاحب الخيرات يوسف صاحب الطابع فثبطه عن السفر، وأخذ له داراً جهزها له بجميع ما تحتاج إليه من الأثاث والفرش وزجه وأجرى عليه من عوارفه ما هو أهل له ليبقى زينة للبلاد وبذلك سكن خاطر الشيخ وأقام على بث العلم في صدور الرجال.
ولما وقعت مجاعة سنة سبع عشرة التزم الأمير حمودة باشا أن يستمير السطنة الغربية فتخير وفداً كان الشيخ في أولهم لطلب ذلك من السلطان الشريف مولاي سليمان بن محمد رضى الله عنه، فخرج الشيخ في السفر لما ذكر سنة ثماني عشرة ومائتين وألف واستصحب معه مكتوباً بديعاً إلى وزير الدولة السلطانية من أستاذ العالم الشريف الشيخ عمر المحجوب قاضي الحضرة يومئذ وهذا نصه:
المقام الذي اهتصر من العلوم غصونها، واقتطف من البدائع أزهارها وعيونها، وسام من رياض البلاغة فنونها، وفجر من ينابيع البراعة معينها، الخير الأرضي، العلامة الأحظى، والمحتلي من الفضائل والفواضل بالردائ الأضفى، مقام اخينا في الله الشيخ سيدي عبد القادر بن شقرون، لا زال ميمون الطائر في الحركة والسكون، ولا برح محمود المساعي، مخصب المراعي، ووراء التحية المتعطرة بذكراه، والسلام الذي يفوح لنشره برياه، والبث الذي أعوزه حسن لقياه، لولا التعلل بإطالة محياه، إنا لنحمد إليكم الله تعالى الذي جلت الآؤه، وغمرتنا على كل حال نعماؤه، ونفذ حكمه وقضاؤه، لم نظعن عن معاهد المودة، ولم نبرح عن الثناء على مقامكم من تلك المدة، ونسائل عنكم الركبان القادمين إلينا، ونبحث عن أنبائكم من السفر المجازين علينا، رعياً لأوشاج العلم والأدب، ومبرة للسلسلة التي هي أصح من سلسلة النسب فننثني من أخباركم بما ينشط القلب والألباب، ويستخلص من الحمد والشكر خالص اللباب، وإنكم بحمد الله تعالى على الحالة التي يرتضيها كمالكم، وتبتسم بالإعجاب بها آمالنا وآمالكم، تحت الإيالة التي نسأل الله تعالى أن لا يقلص عن المسلمين ظلالها، وأن يسوغكم زلالها، وإلى هذا نعرفكم عرفكم الله عوارفه، وأسبغ عليكم من الفضل مطارفه، ان حضرة إفريقية حاطها الله بعنايته الكافية، وأسبغ على أهليها رداء العفو والعافية، قد أعوزها الخصب في الأعوام المنفصلة، وتوالى عليها الجدب في سنين متصلة، لا سيما هذه السنة الشهبا، فإنها تلونت لأهلها تلون الحربا، وما كشفت النقاب عن عوارها، ولا أوضحت لهم مكنون إعسارها، لكون الزرع قد استغلظ واستوى على سوقه، ولاحت لهم من الخصب واضحات بروقه، فما راع القوم إلَاّ إخلاف أنوائها، وتجهم أشد من الصحو لسمائها، قضاء من الله تعالى مقدراً، وحكماً سابقاً في أم الكتاب مدبراً، ولم يجد القوم ملاذاً من هذا الأمر، ولا مفزعاً لأن يكشف الله سبحانه عنهم هذا الضر، إلا انهما أنفذوا الأنفار المذكرورين أعلاه للمشهور الأفخم، والنادي الأعظم، حضرة مولانا السلطان الشريف، ذي القدر المنيف، أعز الله سلطانه، وحرس بعين العناية أرجاءه وأركانه، وهؤلاء القوم وإن كان بأيديهم مكتوب من أميرنا الباشي أيده الله تعالى في طلب ابتياع الميرة من ممالك مولانا السلطان نصره الله تعالى إلا انهم في الحقيقة وفد هذا الرعيل من جماعة المسلمين، أوفدهم على حضرة السلطان ممتارين قائلين:"مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين"، ولا جرم أنهم أصابوا المرمى واستبصروا، حين فزعوا لحضرة مولانا السلطان واقتصروا، وبهمته العالية على القحط استنصروا، وأرسلوا الأنفار المذكورين وفداً لطلب الميرة وانتظروا، ونعرفكم بأن الأول منهم هو الفقيه المتفنن البراع أبو اسحق سي إبراهيم الرياحي من نجباء الطلبة الذين أخذوا عنا، وميزه تحصيله بمزيد الوصية عليه منا، ولعلكم إن شاء الله إذا بلوتم نجابته واستنفصتم كنانته تحمدون في العلوم ذكاءه، وترضون توغله في معارجها وارتقاءه، لكنه ربما يتعسر عليه فيما هو بصدد سفارته الإنتاج، ويجهد على علله الأدواء والعلاج، فالمطلوب من مقامكم ووافر عزكم واحترامكم أن تكون لهؤلاء الوفد معيناً، وأن تقر لنا ولهم بمعونتك عيناً، وتهديهم للظفر بالمقصود سواء السبيل، وتوضح لهم كيفية الإنتاج في هذا الأمر على التفصيل، حتى تترتب لهم الأقيسة المنتجة، وتنفتح الأبواب المرتجة، ولكم مزيد الدعاء بألسنة الخصوص والعموم، والثناء بدلالة المنطوق والمفهوم، والثواب الجزيل في اصطناع المعروف، وإغاثة الملهوف، والله تعالى يبقيكم ومن طوارق الزمان يقيكم ولا زال ظل مولانا السلطان ممدوداً، وإرفاده محموداً، وقطره مقصوداً، وبره معموداً مصموداً، بمنه وكرمه والسلام.
ولما بلغ الشيخ إلى حاضرة فاس، لاقى من إقبال فضلائها ما تعطرت له به الأنفاس، وقدم للحضرة العلوية السلطانية قصيدته الشهيرة التي هي من أعز كلمه، وقد وقفت عليها وعلى مواليتها مرقومتين بلسان قلمه فقال:[الكامل]
إنْ عزَّ من خير الأنام مزار
…
فلنا بزورة نجله استبشارُ
أوليس نور المصطفى بجبينه
…
كالشمس يظهر نورها الأقمارُ
فاشف الغليل بقربه فلطالما
…
شط المزار وعاقت الأقدار
واحفظ جفونك من سناه فإنه
…
ببريقه تنخطَّفُ الأبصار
وإذا أنامله اللَّطاف لثمتها
…
فحذار من غرقٍ فهنَّ بحار
وافخر على كل الملوك بلثمها
…
ما بعده للمستقر فخار
شتان بين ابن الرسول وغيره
…
أو يستوي ليلٌ دجا ونهار
هذا يزين الشعر طيبُ حديثه
…
حسناً وذلك تزينه الأشعار
هذا الخليفة وابن أكرم مرسلٍ
…
وسليلُ من فخرت به الإعصار
وخلاصة الأشراف والخلفاء منْ
…
بيت البتول ومن حواه إزار
وأعزّ وارث ملك إسماعيل من
…
بطل شذا أخباره معطار
وأجلُّ سلطان وأكرم مالك
…
شرفت بملك يمينه الأحرار
وأحقُّ من تحت السماء بأن يرى
…
ملكَ البسيطة والورى أنصار
لكن إذا كلُّ القلوب تحبُّه
…
فلغيره الأجسام وهي قفار
هذا سليمان الرضا ابن محمدٍ
…
من أشرقت بجبينه الأنوار
هذا الذي رد الخلافة غضةً
…
وسما به للمسلمين منار
واعز دينَ الله فهو يشكره
…
في أيكها تترنم الأطيار
وحمى حماه بفصله وبنصله
…
وهو الذي يحمي لديه منار
فلسانه يومَ الجدال صوارمٌ
…
وسنانه يوم الكريهة نار
بمعارف وشهامة علوية
…
من قبل أرهف حدها الأخطار
تخشى الضراغمُ بأسه في غابها
…
وتصاغرُ الأبطال وهي كبار
ويخاف صولة عدله الدهرُ الذي
…
مهما يجرْ يوماً فنعم الجار
وهو الذي يرجى لكل ملمّة
…
ضاقت بحمل ضئيلها الأقطار
وهو الذي يسعى إليه إذا دجا
…
ليلُ الخطوب وساءت الأفكار
كمجيئنا نسعى إليه وقد سطا
…
جدب وعم جميعنا إضرار
علماً بأنا الدنيا بمقلة زاهد
…
ودرى بأن جمالها غرَّار
مولى رأى الدنيا بمقلة زاهد
…
ودرى بأن جمالها غرَّار
فرمى بها منتزهاً وكذاك من
…
كانت كرامَ أصوله الأطهارُ
وتخير الأخرى بهمة عارف
…
لم يرضها دون الجنان قرار
فرحت به الأخرى كما صلحت به
…
الدنيا فطاب لأهلها استقرار
عمَّ البريئة حلمه وحياؤه
…
وتواترت بسخائه الأخبار
مع ما له من مستلذ شمائلٍ
…
نمَّتْ بطيب نسيمها الأزهار
إن تلفه لاقيته متهللاً
…
وله إليك هشاشة وبدار
متبسماً يجلو الظلام جبينه
…
مستبشراً تجلى به الأكدار
من عصبة ورثوا العلا وتناسقوا
…
فيها كما انتسقت بها أسطار
وتسابقوا في المكرمات فلن ترى
…
منهم سوى من فضله مدرار
صلحاء أبرارٌ أماجدُ سادةٌ
…
علماء أخيارٌ تلت أخبارُ
خلفاء أشرافٌ كرام قادة
…
سرجٌ بها للمهتدي استبصار
أسدٌ إذا حمي الوغى وإذا دجا
…
ليل بكت لبكائها الأسحار
من كل أحزمَ يتقيه حمامه
…
شاكي السلاحِ له اليقين دثار
درب على طعن الأباهر والكلى
…
وعليه للحرب العوان مدار
قومٌ إلى نهب النفوس إذا سطا
…
فطوال آمال العداء قصار
شد الإله بهم معاقد دينه
…
والله جلّ لدينه يختار
وأعزَّهم بعزيز نصرته التي
…
رعب القلوب أمامها ستَّار
أفما رأيت الكفر ذلَّ لعزهم
…
وسنانه لسواهم خطَّار
تهوى المشارق أن تكون مغاربَّا
…
ليعمها في الملتحين جوار
وتنال من عز الشريف كما رأت
…
إذا كان فيها للخلافة دار
رد الزمان لصدره فكأنما "ال
…
فاروق" بين ظهرونا أمَّار
العدل يبسط والنفوس سوامحُ
…
والدين يظهر والعلوم تدار
والناس في رغد الحياة بجبذضة
…
تجري لهم من تحتها الأنهار
فليذكروا النَّعم التي عمتهمُ
…
الله يعلم أنَّهن عزار
ولنسألِ استمرارها ببقائه
…
فبقاؤه لصلاحنا استمرار
الله يبقى نصره متأيَّدا
…
في عزة خضعت لها الأقدار
ويديمُ أملاك السماء تحوطه
…
بعناية شيدت لها أسرار
والأرضُ قبضة راحتيه وأختها
…
منها له تنتزل الأسرار
ما دمتمُ يا أهل بيت محمد
…
حرماً يطوفُ ببيته الزوار
أو ما ترنم منشدٌ بحلاكم
…
وتزينت بحلاكم الأذكار
ثم الصلاة على النبيْ وآله
…
ما ناف لي بمديحكم مقدار
قال الناظم: "ولما أنشدت بين يديه أيده الله بنصره ارتاب بعض الحاضرين في مجلسه أن يكون ناظمها هو العبد الفقير إذ رأى شدة وقوعها الموقع العزيز من قلب الممدوح زاده الله عزاً ونصراً فجاءني بعض كتابه وأخبرني وقال دفع هذا الريب أن تنظم قصيدة في اتفاق غريب وقع لمولانا السلطان خلد الله ملكه وذلك انه وقف يوماً في إقرائه للتفسير على قوله تعالى: (وأعلموا أنما غنمتم) الآية صباحاً فاتفق أن جاءته غنيمة في مساء ذلك اليوم وتبارت الشعراء في البيان عن هذا الغرض العجيب والاتفاق الغريب، فإذا أحسنت في البيان عن هذا الشأن، ارتفع الريب وحسبت من فرسان هذا الميدان، فقلت معرضاً، ولخيام الشك مقوضاً:[الطويل]
دلائلُ فضل الله فينا تترجم
…
وإن غفلت عنها طوائف نوَّمُ
ومن أكبر النعمى ولايةُ منْ له
…
علينا وفينا حكمة وتحكُّم
تلطف في إخفائها متستَّراً
…
ومن كلمت فيه الولاية يكتم
ولما أراد الله إظهار سرّه
…
جرى الأمرُ في الإظهار من حيث يعلم
ألم تغتنم وقت المساء وغدوةً
…
بدا الوقفُ في التفسير آية: "واعلموا"
ليدري صحيح الذوق أن مليكنا
…
له في طريق الكشف نهج مقوم
وأن لنا فيما قضاه مغانماً
…
فعجَّل ذي بدءا لما هو أعظم
فلا زالت الأيام تخدم سهده
…
ولا زال مثلي في علاه ينظَّمُ
وأنشدت بين يديه أيضاً ولإثر إنشادها وقعت منه أبقاه الله وحفظه العطيةُ الجميلة والجائزة الجليلة، فجزاه الله الرضوان الأكبر الذي لا انقطاع لسببه، وجعل الخلافة كلمة باقية في عقبه". ا. هـ?.
ثم غن المولى السلطان الرشيف أجاب طليبته وقضى حاجته على أحسن حال وحصل من ذلك على الغنيمة الوافرة، وعظمت سعادة سفارته المذكورة بالاجتماع مع القطب الرباني الشيخ احمد التجاني رضي الله عنه فأناله من الأسرار والكرامات ما هو أهل له، وقدمه لطريقته، وعدّ بذلك في أصحاب الشيخ الفائزين بمفازه رضي الله عنهم وعن سائر أولياء الله أجمعين أخبر أنه عند وصوله إلى حاضرة فاس قصد على البديهة دار الشيخ، ولما استفتح الباب سألته خادم: هل أنت إبراهيم التونسي؟ فقال: نعم، فأدخلته، واجتمع هنالك بالشيخ العربي، والشيخ علي التماسيني، والشيخ علي حرازم، وغيرهم ممن فاز بحضرة الشيخ، ثم قدم إليه قدح من لبن فشرب جميعه، ثم أقبل الشيخ من خلوته يعلوه غبار سفر، وبعد أن قبل تحية زائره قال له: عظم الله أجرك في شيخك الشيخ صالح الكواش، فقد كنا الآن في جنازته، فيكون ذلك اليوم هو يوم الاثنين السابع عشر من شوال سنة ثماني عشرة ومائتين وألف، وقد أعلمه الشيخ بعد ذلك بما سيلاقيه من الحضرة العلوية السلطانية وأرشده إلى ما فيه سداده.
ولم يزل يتردد عليه مدة إقامته إلى أنن حصل على جميع آماله، مع نجاح أعماله، وفي آخر مدة إقامته قال له الشيخ، أقم عندنا أحداً وعشرين يوماً أخر، وأنا نبلغك إلى زيارة ضريح سيدي أبي الحسن أبي الحسن الشاذلي رضى الله عنه غير أنه لما قضى أمره الذي توجه فيه لم تمكنه زيادة الإقامة فاعتذر إليه وفاز بمغانمه السرية، والمالية والميرية، التي نالها من هذا السفر، الذي لاقى به كل يمن وظفر، وعظمت بذلك وصلته بالحضرة السلطانية العلوية، ولذلك تلا مديحها أن قام عليه أبناء عمه فظهر النفاق في السلطنة وظفر السلطان بالقائم عليه فهنأه الشيخ إبراهيم الرياحي بقصيدة بديعة وهي قوله:[الكامل]
بشرى الورى بلأمن بعد مخاف
…
وقفوا به في موقف الأعراف
قرت به عينُ الهدى أما الهوى
…
فلحزنه حزنت بنو الإرجاف
أغفت جفون الرشد ثم تنَّبهت
…
بلطائفٍ قد كنَّ تحت سجاف
ما صحّ لولا ذاك في حق امرئٍ
…
رؤيا سليمان بعين خلاف
وهو الذي عمّ البرية فضله
…
فأحاط بالدنيا إحاطة قاف
والدين في عزَّ به والناسُ من
…
بركاته في جنةٍ ألفاف
قل للمغارب: هل جهلت كماله
…
وكماله في الكون ليس بخاف
أضحكت سنَّ الشرق إذا أبكيت في
…
ما قد أتيت مدامع الإنصاف
رمت القياس بغير معنى جامعٍ
…
وغرست لاستثمار غصن خلاف
إنَّ الكواكب في السماء كثيرة
…
لكن ذكاءُ فريدةُ الأوصاف
وكذلك الأشراف كلَّ جوهرٌ
…
وأبو الربيع فريدةُ الأصدافِ
هل عمكم منه التقى فسئمتمُ
…
نعمَّا سوابغ سترهن ضواف؟
أم علمه أم حلمه أم عدله
…
أم وكف كفَّ يمينه المتلاف؟
أم رمتمُ بطراً وكم من قرية
…
بطرت فجرّ بها إلى الإتلاف
فنقضتمُ العهد الذي قد أوثقت
…
كفُّ الشريعة في يد الأسلاف
ونسيتم يومَ الولايةِ وهو في
…
كرهٍ لها والقوم في إلحلاف
لم يرضها لولا صلاحٌ رامه
…
وتضرُّع العلماء والأشراف
حتى إذا استولى كما شاء الهدى
…
وبشمتمُ بالبر والألطاف
قلتم نخالفه وأي فضيلة
…
في منهل عذب الموارد صاف؟
لم يرضني والعالمين بأسرهم
…
إدٌّ أتيتم للرشاد مناف
تستوجبون بذاك لولا حلمه
…
ما استوجبته القوم بالأحقاف
لكن عفا والعفو فيه سجيةٌ
…
واتى بصفحٍ وافرٍ وعفاف
لم يلتفت لنفاذ قدرته التي
…
بالنون مدَّ مديدها والكافِ
وأمدَّ من جند السماء وراثة
…
من جدَّه المختار بالآلاف
لكنَّ طودَ ثباته لم يهتزز
…
بعواصف من غيهم أصناف
ورعى حقوق الله والأرحام في
…
قوم زعانف للضلال خفاف
كرهوا الهدى والحقَّ لما جاءهم
…
جنفا إلى الإهمال والإسراف
ولو إنما اتبع الهدى أهواءهم
…
جاؤوا بسم للأنام زعاف
يا خاتم الخلفاء لا تخفل بهم
…
واصدع بأمر الله صدع مصاف
وأصبر كما صبر الهداة فإنها
…
محنٌ يلدن منائح الإتحاف
فالله حسبك والذين استيقنوا
…
فتصامموا عن ناعق استخفاف
واحلم على المولى (السعيد) فإنه
…
برُّ البنوة صادق الإسعاف
مثل اليزيد جفا فجاء بصارم
…
في فيه للسلطان ذا استعطاف
فأناله بالحلم واسع عطفه
…
عطف الأبوة سابغ الأعطاف
لا تيأس القربى حنانك بعدما
…
فاضت سحائبه على الأطراف
ما همَّمهم نصرٌ له لكنهم
…
نصروا سخائم في النفوس خوافِ
ولك الثناءُ مخلَّدٌ في هذه
…
والفتح والنصر العزيز مواف
يا منْ إذا تليت محاسنُ مدحه
…
طرب النهى من كأسها بسلاف
ومتى يوم مثن عليك بلوغه
…
في الأرض قال له المديح أنافي
دامت حياتك للقلوب مسرةً
…
والله جلّ بنصره لك كاف
خذها جناناً في عيون أجلةٍ
…
ولها لهيبٌ في قلوب سخاف
قصرت نبالي أن تناضل دونكم
…
فبريتُ من نبع الجدال قواف
ترمي العداة بكل معنى مصعقٍ
…
وبكل لفظ مبرق خطَّاف
شكراً لأنعمك التي أسبغتها
…
ولو أنه لعلاك غيرُ مكاف
أهدي إليك تحيةً عطريةً
…
تغشى منازل آل عبد مناف
بعد اختصاص المصطفى بصفيها
…
وتعمُّ نشراً كلَّ من هو قافِ
ولما أن استناب المولى السلطان ابنه العلوي الشريف إبراهيم إلى حج بيت الله الحرام سنة ثمان وعشرين وبلغ الخبر بأنه قاصد المرور على طريق تونس استحضر له الشيخ إبراهيم قصيدة ليتلقاه بها لكن تبين أنه رجع من حجه إلى حاضرة فاس فأرسلها إلى حضرة والده السلطان مولاي سليمان رضي الله عنه وهي قوله:
هذا المنى فانعم بطيب وصال
…
فلطالما أضناك طول مطال
مذا وكم أوليتني يا نخبري
…
بقدومه من منَّةٍ ونوال
بشرتني بحياتي العظمى التي
…
قد كنت احسبها حديث خيال
بشرتني ابن الرسول لو غنما
…
روحي ملكت بذالتها في الحال
بشرتني بسلالة الخلفاء منْ
…
أمداحهم تتلى بكل مقال
من حبُّهمْ فرض الكتاب كما ترى
…
(إلا المودّة) حين يتلو التال
من ضمَّهم شمل العباء وأذهبوا
…
رجساً فيا لك من مقام عال
من قوَّموا أود المكارم بعدما
…
شادوا الهدى بمعارفٍ ونبال
لولاهمُ كان الورى في ظلمة
…
مرَّتْ غياهبها بكل ضلال
آباءك الأطهار أقصدْ يا أبا
…
إسحاق يا نجلَ المليك العالي
يا حبَّه وصفيه من قومه
…
وخياره من سائر الأنجال
لو لم تكن أهلاً لصفو وداده
…
لم يستنبك لجده المفضال
لكن توسم فيك كلَّ فضيلةٍ
…
فحبا يمينك راية الإقبال
وأقام جودك بل وجودك زادَ من
…
يبغي ببيت الله حطَّ رحال
أنت استطاعتهم فما عذرُ الذي
…
ترك الزيارة خيفة الإقلال؟
وبك المشاعر أطربت طرب التي
…
وجدتْ على ولهٍ فقيد فصال
ووصلتها رحماً هناك قطيعة
…
دهراً مضى وبللتها ببلال
وتأنَّس الحرمان منك بطلعة
…
أغنتهما عن وابل هطَّال
كرمٌ لكم أدريه يومَ أفاضه
…
عني سليمانٌ بأي سجال
وهب الألوف وكان أكرمَ منزلٍ
…
يسلي الغريب ببره المتوالي
يوم التشرف لي يلثم يمينه
…
وتمتعي من وجهه بجمال
وتلذذي بخطابه المعسول إذ
…
حفَّتْ به للدرس رجال
لمْ أنسهُ يوماً حسبت نعيمه
…
للذائذ الجنات ضربَ مثال
عجباً له يحي القلوب بعلمه
…
ويميتُ جند الفقر منه بمال
وإذا تقلَّب للوغى فحسامه
…
تعنو الرقاب له بغير قتال
يتلوه بالفتح المبين عساكرٌ
…
قد أرهفت بالنصر حد نصال
تخشى الملوك مقامه ولذكره
…
رعباً، تطير فرائسُ الأبطال
وينال آمله لخفض جناحه
…
ما ليس يخطر قطُّ منه ببال
حتى سقى أصفى مناهله الألى
…
يسعى لمروتهم ذوو الأثقال
وأتت لمغربه الشريف مشارقٌ
…
والشمس تغرب لاقتضاء كمال
لما تخلَّف عاجزٌ فبقلبه
…
يسعى لفعل شعائر الإجلال
أمنية وقعت أشرت لذكرها
…
في مدحها قدماً بصدق مقال
تهوى المشارق أن تكون مغارباً
…
لتنال من جدواه أيَّ منال
يا فخر دين الله منه بناصر
…
وسعادة الدنيا به من وال
لا تفتخر "فاسٌ" ولا "مراكشٌ"
…
بولائه كلُّ الأنامِ موال
أوليسَ في كل البقاع ثناؤه
…
ورد البكور وصحة الآصال؟
أولمْ يشد للدين والعلماء والأ
…
شراف والصلحاء صرحَ معالِ؟
أوليس أحيا سنة العمرين في
…
زمن إلى بدع الهوى ميَّال؟
أولم يعمَّ بجوده أقطارها
…
لا فرق بين جنوبها وشمال؟
أولم تسرْ ركبانها بمحاسنٍ
…
ضاءت لهم سرجاً بجنح ليال؟
شيمٌ يهزُّ الراسياتِ سماعها
…
ويفحنَ في أنفِ الزمان غوال
أوصافُ والدك الإمامِ المرتضى
…
للدين والدنيا بحسن خلال
ذاك الرفيع أبو الربيع ومن به
…
حييَ الهدى وشرائعُ الإفضال
فبه لك الفخر الكبير، وإنْ يكنْ
…
لك في العلا نسجٌ على منوال
كلُّ الكمالِ لهُ وأنتُ مقرُّه
…
والفرع عين الأصل عند مآل
يا بن المليك ابن المليك ابن الملي
…
ك ابن المليك سلالة الأقيال
أنستمُ ذكر العبابسة الآلى
…
زالوا، وما زالوا بعين جلال
لكمُ الفخارُ بأن نسجتُ مديحكم
…
حللاً تجدَّدُ كلَّ شيء بال
ولوَ أنني حاولت مدح سواكمُ
…
عقل القريحة عنه أيُّ عقال
فكأنما طبعي شريفٌ حيثما
…
لا يهتدي لسوى مديح الآل
أو أنَّهُ ورع النظام يكن
…
بذلُ المديحِ لغيركم بحلالِ
أو قدْ درى أنَّ المديحَ تعرُّضٌ
…
وسواكم لا يرضتى لسؤال
أبقاكمُ كهفاً يلاذ بمجده
…
مختاركم لإنالة الآمال
وأدامكم رحمى فإنَّ بقاءكم
…
من فيض رحمة سيد الإرسال
وأدام للإسلام والدك الذي
…
هو رحمة وسعت بغير جدال
وعليكمُ وعلى الذين يهوالكمُ
…
أزكى الرضا من حضرة المتعالي
ما دام ذكركمُ بكل صحيفةٍ
…
تبعاً لأحمدَ سيد الإرسال
صلى عليه مسلماً ربُّ الورى
…
وعلى مقدّم حزبه والتالي
قال الناظم: فأرسل إليّ السلطان مونا سليمان خلد الله بقاءه، وأدام في أوج سعادة الدارين ارتقاءه، جائرة يا لها من جائزة سنية، مع قصيدة أحلتني والله يعلم أني لست بأهل مرتبة علية، وكتاب أطراني فيه بأسحار من البلاغة بابلية، أما القصيدة فهي:[الكامل]
حَّيتْ فأحيتْ قلب صبّ صال
…
كيما تبشره بقرب وصالِ
واستفتحت بعد التحية سورة ال
…
فتح المبين بقصد أخذ الفال
هيفاء ترفل في مطارف سندسٍ
…
من نسج تونسَ لا تسامُ بمال
مخضوبة الكفين والقدمين في
…
طول القنا ملموزة بدلال
بينا نسائل بعض أتراب لها
…
إذ أسفرت عن وجهها المتلالي
فتضاءلت لسناه أقمار الدجى
…
والصبح أصبحَ كالقميص البالي
فحسبتها الدرَّ الثمين ملاحةً
…
أو بنت فكر السيد المفضال
العالم العلم الذي أهدى لنا
…
درر المعاني بل عقود لآل
أدت قريحته وثاقب ذهنه
…
ما أعجزَ البلغا لبعد منال
يا أهل تونسَ حزتمُ شرفاً بما
…
أبديتمُ من صالح الأعمال
يكفيكمُ أنَّ فيكم هذا الذي
…
حلَّتْ بلاغته محلَّ كمال
حتى غدت أمداحه ما بيننا
…
تقرا لدى الغدوات والآصال
فلربما أدى البعيد بأرضه
…
حقاً ولم يحتج إلى ترحال
فله علينا أيُّ فضل أيها الشع
…
راء إنْ أنصفتم في الحال
حيث اهتدى لمقاصد فافتض من
…
أبكارها عذراء ذات جمال
يا حسنها من كامل في كامل
…
أزرت بذات القرط والخلخالِ
يا ما أميلحها تردد قولها
…
هذا المنى فانعم بطيب وصال
فلذا غدت أرواحنا تهتز من
…
طرب استماع نسيبها المتوالي
فكأنما النشواتُ في أشباحنا
…
نشوات سكرٍ لا بخمر دوال
لله در قصيدة حلَّى بها
…
جيدَ البلاغة للمقام العالي
جاءت كأحسن ما رأيت بلاغةً
…
وفصاحةً جمعت ثلاث خصال
حسنَ الصنيع وجودة اللفظ البدي
…
يع ودقَّةَ التفصيل والإجمال
أنستْ بلاغتها قصائد من مضى
…
وبدت بأفق المجد بدر كمال
فاللَّهُ يجزيه جزاء عباده ال
…
أبرار فوق السؤل والآمال
حتى يرى في جنة الفردوس من
…
حزب النبي وصحبه والآل
وأما الكتاب فهذا نصه..
"هذا بحول الله كتاب كريم، يغني روض خطابه عن أزهار الجزاء العميم، من العبد المتوكل على ربه في السر والإعلان، أمير المؤمنين سليمان، عمه الله بالعفو والغفران، إلى الشيخ المجلي في حلبات الأدب، على كل من لأسرار البلاغة انتسب، الشاعر المطبوع، الرابط بحيل أسلوبه البديع بين كل محمول وموضوع، العالم النقاد، السالك على سنن النسام والزهاد، تاج المفرق بالإقليم الإفريقي، أبي سالم السيد إبراهيم الرياحي، لا زالت نافحة محاسنه يضوع عبيرها بأقصى النواحي، ثم عليه من السلام، ما يسمو به في سماء العز سمو بدر التمام.
أما بعد، فقد وصلتنا قصيدتك الرافلة في أذيال البيان، المحتج بدلائل إعجازها على أدباء الزمان، فرقعت منا ومن أدبائنا موقع الاستحسان، حتى خلناها نسجت على طراز حسن، مع إعرابها عن الود الصميم، في جنب أهل البيت الكريم، وبناء مطلعها على الأصل العجيب، لا على ما عسى أن يستحسن من الغزل والنسيب، فلله أنت من عبد شاكر، وحر لما سبق من الوصل ذاكر، إلخ ما تضمنه المكتوب من ذكر العطاء الجزيل، والثناء الجميل، فجزاه الله التمتع بوجهه الكريم، في دار النعيم، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم". أ. هـ?.
ومما اتفق له مدة إقامته بالديار المغربية في تلك السفارة التي أسفرت له عن كل كمال، وأحلته من كل مجلس محل الإقبال والإجلال، أن تحفة أدباء بلد سلا الشيخ محمد القرشي السلاوي، وصف مجلس مولاي عبد السلام أخي السلطان بم طاب وراق، ثم استجاز الشيخ فساجله في ذلك فكانت أبيات الشيخ محمد القرشي، هي قوله:
ومجلسٍ رائقٍ من فضله سقيت
…
أرواحنا برحيق العلمِ والأدب
من فيضِ صنو أمير المؤمنين ومنْ
…
يسمو السُّها منصباً في أرفع الرتب
حتى رأينا غصون الروض مائلة
…
وتلثمُ الأرض أحياناً من الطرب
وكانت إجازة الشيخ إبراهيم الرياحي هي قوله:
والورقُ مقتنَّةُ الألحانِ راقصة
…
والزهرُ مبتسم عن ثغره الشنب
لا غرو أن رقصت أرواحنا طرباً
…
وجر أذيالنا فخراً على الشهب
فإنما نحن عند الطاهر النسب ابن الطاهر النسب ابن الطاهر النسب وقد زاره الشيخ محمد القرشي في منزله فتلقاه بقوله: [البسيط]
قد أنعم السيد القرشي بزورته
…
فيا فؤادي بذاك المنظر ابتهجِ
أما رأيت بدور العلم طالعةً
…
في أفقه بيننا تغني عن السُّرج
فارتجل الشيخ محمد القرشي إجابته بقوله:
قد بشر القلب بالأفراح والفرج
…
والأمن من سطوة الأتراح والحرج
مهما نظرت محيا اللمعيَّ أبي
…
إسحق أغنى عن الأصباح والسَّرج
واتفق أيضاً أن العالم الشيخ محمد بن الفقيه كان إذ ذاك مقيماً ببلاد سلا بمرض الحمى ولم تمكنه زيارة إبراهيم برباط الفتح فكتب من سلا يعتذر إليه بقوله: [الكامل]
اسمع أبا إسحق قولي واعذرِ
…
فلعلَّةٍ قد كان عنك تأخُّري
ألمُ وعافاك الإله يلمُّ بي
…
في كل أسبوع مراراً يعتري
ما دأب مثلي أن يغضّ جفونه
…
عن مثل سؤددك المنيف الأشهر
عندي إلى لقيا الأحبة مثلكم
…
شوقُ الجديب إلى السحاب الممطرِ
لا سيَّما من في العلوم مكانكم
…
يهوى السماك بلوغه والمشتري
وإليهمُ علمُ القريضِ قد انتهى
…
وأناخ فيهم بالرحيب الأبهر
أخلاقكم تحكي النسيم لطافة
…
ووجودكم مثل السحاب المسفر
شوقي إليك وإن نأيت مضاعفٌ
…
لم يحكَ فيه تجلدي وتصبري
مذ راقني درٌ نظمتَ فريده
…
لأجلَّ جيد في الزمان وأفخر
الدر في خدر البيان خردية
…
تختال في حلل البديع الأنور
يربي على حسن الخرائد حسنها
…
وبهن في كل المحافل تزدري
أخريدةٌ لاحت لنا من خدرها
…
في بهجة وتبرَّجٍ وتبخترِ؟
أم روضةٌ مطلولة قد رصَّعت
…
بزبرجدٍ من نورها وبجوهر
من أحمرٍ قان وأبيضناصعِ
…
يققٍ وأصفر فاقعٍ ومعصفر
أرواحها تهدي لناشقها شذا
…
نسرينها وبهارها المتعطر
بل حلة حيكت بأطرزة النهى
…
عن فكرة جادت وحسن تدبر
ما خسرواني الدمقس وعصبه
…
ما حوك صنعاء الأنيق وعبقر
جمعت يواقيت الثناء فأشرقت
…
أنوارها تغشي نواظرَ مبصر
أوصاف ميمونِ النقيبة سيدٍ
…
ورث الخلافة أكبراً عن أكبر
قطب المفاخر والمآثر والنَّدى
…
ومكارم الأخلاق سامي العنصر
سبط الرسول إمامنا العدل الرضا
…
عون الضعيف ونصرة المستنصر
أودعتها سحرَ البلاغةِ كلَّه
…
وقلائدَ العقيان غير مقصر
اابن الحسين بمحسن مهما تلح
…
كلا ولا ابن نباتةٍ والبحتري
لله درك من أمير براعةٍ
…
لسنٍ لدى أهل القريض مصدّر
ليث القريض رئيس زمرة أهله
…
وزعيمهم مهما القرائح تنبري
وإذا بناديهم حللت فإنهم
…
خرسٌ شقاقهم وإن لم تزأرِ
لله تونسك التي بوأتها
…
كم أحرزت بعلاكمُ من مفخر
مني عليك تحيةٌ نفاحاتها
…
تربي على مسكٍ يفوح وعنبر
ما غرَّدتْ قمريةٌ في دوحةٍ
…
وبدا سنا ذاك الجبينِ الأزهر
وتلا محبُّكمُ المخلُ بحقكمْ
…
اسمكعْ أبا اسحق قولي واعذرِ
فأجابه الشيخ ابراهيم الرياحي عن ذلك بقوله: [الكامل]
روحي فداك من الملمِّ المعتري
…
ولوَ أنه يبتاع كنتُ المشتري
وأنا الذي بتخلُّفي أصبحتُ في
…
ندم فيا ويلاه إن لم تغفر
يا خير من حسد العقودُ قريضه
…
فتناثرت منها "صحاح الجوهر"
وأجلّ من ذان القريضُ لطبعه
…
وبنثره سحرَ النهي إن ينثر
وأرق من ساري النسيم إذا انبرى
…
لطفاً وأسوغ من زلال الكوثر
أعني الهمام ابنَ الفقيه محمَّداً
…
شيخَ الهداة وقدوةَ المستبصر
ومن العلومُ بنقده وذكائه
…
تزهو على الحور الحسان وتزدري
الدرسُ لا يهوى سوى تقريره
…
وسواه لا تهوى مراقي المنبر
وإذا لثام الجهل غطَّى مشكلاً
…
كشف اللثامَ عن الجبينِ المسفر
ببراعةٍ من دون نيل أقلّها
…
حربُ البسوس وهولُ يوم المحشر
يا عاذلي في حبه أقصرْ فما
…
أنا عن هواه المستلذِّ بمقصر
ما كنت فيه مقلداً غير الهوى
…
فأطلْ ملامك بعد ذا أوْ قصرِّ
إن كنتَ تسمع ما سمعت فإنَّني
…
من حسنه أبصرتُ ما لم تبصر
تسليك منه فكاهة فكأنَّها
…
راحٌ براحةِ أغيدٍ متبخر