الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم إن الأفكار كانت غير متقاربة بل متباعدة غاية البعد لأن التشكيلة من حيث الفقهاء كما ذكرنا قابلتها تشكيلة أخرى بعيدة عنها كل البعد، وهي تشكيلة سياسية متبصرة في بعض رجالها وهو الوزير خير الدين وتشكيلة أخرى نظرها في السياسة نظر مبني على معرفة قاصرة غير متمكنة من الدين كما أنها غير متمكنة من السياسة التي ظهرت في العالم الحديث.
فالفقهاء موقفهم حرج لأنهم أمام نظريات ليست من صميم الإسلام فلهذا نزعوا أيديهم من المجلس المذكور، فلو أنهم لا يريدون خدمة المصلحة العامة لما دخلوا أول مرة وغنما بدا لهم ما كانوا متخوفين منه.
بدت لي هذه النظرية بأنها هي الداعي الأصلي للانسحاب ثم وجدت ما يؤيدها من قبل الشيخ بيرم الخامس في كتابه صفوة الاعتبار حيث ذكر: ثم عقد الوالي مجلساً رئيسه الوزير مصطفى وزير العمالة وأعضاؤه: مصطفى آغة وزير الحرب.
وخير الدين وزير البحر.
والوزير إسماعيل السني.
والوزير محمد.
وكاتب أسرار الوالي أمد بن أبي الضياف.
وأذنهم باستخراج أحكام سياسة تدور عليها أعمال الحكومة واستخراج أحكام فرعية في الحقوق الشخصية يجري بها الحكم في القطر.
وأذن أن يكون شيخ الإسلام محمد بيرم الرابع أحد أعضائه فامتنع من الحضور دون مشاركة من العلماء الحنفية والمالكية.
واستقر الرأي على إضافة: الشيخ محمد بن الخوجة المفتي الحنفي.
والشيخ احمد بن حسين رئيس الفتوى في المذهب المالكي.
والشيخ محمد البنا المفتي المالكي.
وهؤلاء الأعلام الأربعة هم أكبر علماء العصر إذ ذاك.
فحضروا أولاً ثم امتنعوا بأن كتب كل واحد منهم شرحاً منفرداً على الإحدى عشرة قاعدة المار ذكرها أبدوا فيها الأحكام الشرعية المطابقة لتلك القواعد، واقتصروا على ذلك متعللين بأن الذي بدا لهم من مغزى الجماعة هو الميل البحت للسياسة الساذجة من غير التفات إلى محاذاة الشرع بل ربما عرض ما يصادم القواطع.
وحيث كان عمل المجلس على ما يستقر عليه الرأي الغالب لم يأمنوا أن يسند إلى المجلس ما يخالف الشرع، ويحمل على عاتقهم، وهو الذي تبين لكل من الفريقين فيما بعد ولدت الليالي من أن الصواب في غير مسلكه على ما يتحرر إن شاء الله تعالى في الخاتمة.
حملة في غير موضعها: تبين بما ذكرنا وما نقلنا أن حملة الشيخ الوزير ابن أبي الضياف في غير موضعها.
أما أولاً فلما ذكرنا من أنها مقصورة على بعض أهل العلم وهم قدماء أعضاء المجلس الشرعي وأما غيرهم فانضموا إلى هذا المجلس، بل كان بعض المجلس متركباً منهم دون غيرهم غلا في رئيسه كما أسلفنا.
وأما ثانياً فإن انسحابهم من المجلس الشارح لقواعد عهد الأمان يرجع إلى انهم بدا لهم أن الأغلبية ترمي إلى جعل فصول للحكم في بعضها ما لا يمت إلى الشريعة السمحة.
فاستغلال سماحة الشرع المنيف لا تؤدي إلى تحلل من نصوصه القطعية حتى يكون الحكم بغير ما أنزل الله.
فهم لا يريدون أن يتحملوا تبعة ذلك فلذلك اكتفى رئيسهم شيخ الإسلام بأن يكون في مجلس الأمير هو الغربال لما يقنن من فصول.
عالم الأدباء وقانون عهد الأمان
لو كان العلماء متبرئين من عهد الأمان مغلبين للمصلحة القاصرة على المصلحة العامة أما أنشد العلامة الشريف محمود قابادو قصيدته الشهيرة في عهد الأمان منوهاً به، ومعرفاً بأنه من صميم الدين التي يقول في طالعها:
العدل عهدُ خلافة الإنسانِ
…
ومداد ظل الأمن والعمران
وتمدُّنُ البشر اقتضى إيلافهم
…
فتعاضدوا من دائن ومدان
وتطامحُ الخلطاء لاستبدادهم
…
بالقتل داعيهم إلى العدوان
فتقرُّر السلطان ضربةُ لازب
…
لنظامهم بالعدل والإحسان
افتتح عالم الأدباء الشيخ قابادو قصيدته هذه بهذه الأبيات الأربعة منبهاً على ما ذكر ابن خلدون في مقدمته من أن الإنسان مدني بالطبع، واشتباك المصالح مؤد إلى اعتداء البعض على البعض فلا بد من سلطة تمنع المعتدين وتكف ضراوة الضارين فهي مقدمة لرأيه في عهد الأمان.
وأشار فيها إلى أن السلطان ليس قوة قاهرة بل هو سلطة رحمة وإحسان.
فما أتى به ابن خلدون في مقدمته في الباب الأول من الكتاب الأول في العمران البشري أتى به أديب العلماء بلا منازع العلامة الشريف محمود قابادو في تلك الأبيات النزرة.
وهذا ما يدل على أن الفقهاء من التونسين كانوا على جانب عظيم من علم الاجتماع متأثرين بسلفهم العلامة المؤرخ عبد الرحمن بن محمد المعروف بابن خلدون (-808) فكلهم من فبضه يغترف، ومن مناهله يرتشف، فعلماء تونس الفقهاء كانت معرفتهم الاجتماعية تؤهلهم للنظر البعيد وللتفقه في الدين التفقه الصحيح، فما يرميهم به الرامون غنما هو لمرض في النفوس وحسد كامن في القلوب.
وقصيدته هذه أتى بها المعروف في ديوان محمود قابادو الذي اعتنى بجمعه وطبعه سنتي (1294 و1295 هـ?) .
وقد ضمنها الكثير من إنشاء المجالس لعهد الأمان ومن أبدعها قوله:
قانون عدل صادق عال سمت
…
أساسه رجبا على آسان
1277 ونقل عيونها الشيخ الوزير ابن أبي الضياف في كتابه إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان في الجزء الخامس صفحة 46.
ومن نصيحته الشيخ قابادو لأهل المجلس قوله مخاطباً أعضاء المجالس:
هذي رئاستكم وعزة مجدكم
…
نيطت بكمْ يا معشر الأعيانِ
وإلى أمانتكم وحسن وفائكم
…
وكلتْ وغيرتكم على الأوطان
ولتعلموا أن الوفي لنفسه
…
يوفي ومن ينكث عليها جاني
والله ليس مغيراً إنعامه
…
حتى يغيره ذوو الكفران
وتيقنوا أن الذي غلب الهوى
…
والنفس يغلب كل ذي سلطان
هذا وإن الصادقية دولة
…
خصت بتأييد من الرحمان
لما رأت مصباحَ شرعِ محمد
…
بترعب الهواء ذا خفقان
جعلت له القانون يشبه زجاجة
…
لتقيه هب عواصف الطغيان
فتدارسوه لما علمتم بينكم
…
عودا على بدء بغير توان
والله يشملنا ويشمل جمعكم
…
بالعون والتوفيق والغفران
وبعد أن ذكر الشيخ الوزير صاحب الإتحاف أبياتاً من هذه القصيدة عليها بقوله: وهذه الغانية على طولها أقصر من ليالي الوصال، وأعذب ما سمع من المقال، لو لم يأت بعدها ما ينافيهأن والحر عبد إذا طمع والعبد حر إذا قنع، ومن اعظم الذنوب تحسين العيوب، "والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون" الشعراء 124 125.
يقصد الشيخ الوزير الذي أتى بعد قصيدة الشيخ قابادو في مدح عهد الأمان قصيدته التي هنأ فيها المشير الثالث حين اخمد ثورة علي بن غذاهم.
وهي التي يقول في مطلعها:
سما للعلا يقظانُ عين حديدها
…
فهيهات بعد اليوم تعدى حدودها
أضلّ عقاب الحزم أرجاءها كما
…
أضل عقاب البأس فيمن يكيدها
ويقول فيها:
فيا ويحها من عصبةٍ قد تهافتت
…
على نار بغي ما سواها وقودها
ولا شك انه يقصد قوله فيها:
وإن فداء الكل بالبعض سنةٌ
…
تواتر من شرعٍ وطبعٍ شهودها
وقد كان جلد البعض زجراً وأهدرت
…
نفوس بجلد الزجر فاد جليدها
أليس من التعزيز وهو مناهجٌ
…
تناط إلى رأي الإمام حدودها
وقدماً قضى سحنون في الدين ضارباً
…
مراراً قضى نحبَ المدين عديدها
وأما عقاب المال فهو موسعٌ
…
إذا عودت منه بشيء يعيدها
بحيث إذا لم تمتهن باستلابه
…
رأت شوكة السلطان فلَّت حدودها
على انه قد كان حط من الجبا
…
وإعوازُ بيت المالِ ممَّا يعيدها
فهذه الأبيات فيها تبرير من الشيخ قابادو لأفعال الأمير في التعذيب والمطالب المالية المجحفة التي وضعت على رجال الثورة.
والشيخ قابادو لا أظن أن الحامل له الطمع كما يقال الشيخ الوزير وإنما حمله على ذلك أن هذه الثورة لو تمت لأتت على الأخضر واليابس والبلاد في حال ضنك تشتكي العجز.
فنظرته البسيطة هي التي أدته إلى أن يبرر تلك الفعال، ولو نظر نظرة عميقة مثل نظرة الشيخ الوزير لما برر تلك العمال.
ثم إن تلك الثورة تسبب فيها سوء الإدارة والإسراف المالي المجحف المؤدي إلى نضوب الخزانة المالية مع التصرف الذي لم يكن على قاعدة ومع جولان الأيدي في أموال الحكومة.
وعلى كل فالشيخ قابادو يشيد بعهد الأمان، وإنما يرى أن الفوضى مؤدية إلى الانهيار فموقفه ليس موقف طمع لأنه كان الناس بالزهاد فحياته حياة الذين لا يعتنون بالمال.
وشاركه في الإشادة بعهد الأمان علامة أديب شاعر وهو الشيخ أحمد كريم الذي تولى الإفتاء وكان من مشايخ الإسلام.