الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد زان علمه بالعفة والديانة والتواضع مع الصيانة والتبصر، حاول بعض أعوان السوء أن يدس له مراسلة في أثناء ما أذن به فردها وعادت إليه بعد أشهر مرات عديدة فأرسل للعدل الذي كتبها بأن مثل ذلك لا يحسن به وأنه هلى بصيرة مما يرد عليه ولم يزده على ذلك. يحضر كل يوم بجامع الزيتونة للتدريس إلا أن أتاه أجله فتوفي ضحوة يوم الأحد الخامس من ذي القعدة الحرام سنة 1262 اثنتين وستين ومائتين وألف، وأرخ وفاته العالم الشيخ محمد بيرم الرابع بقوله:[الطويل]
هوَ الدهر يبري صائبات سهامهِ
…
فيورد نفس المرء حوض حمامهِ
مصابٌ تساوت في تجرّع كأسه
…
نفوسُ الورى من سفّل وكرامه
عجبت لذي لي تيقن أنّه
…
سبيل ويولي الطرفَ طيبَ مقامه
وأولى به أن يرسل الدمع نادماً
…
على سالفٍ أبداه سوء احترامه
ويصرف فيها يثمر الأجرَ عمره
…
ليجنيَ طيب الغرس يوم قيامه
كصاحب هذا الرّمس من لم يفه بما
…
يعاب فلا مفض لخدش مقامه
عليٌّ على الدرويش مفتي للورى ومن
…
له سيرة تقضي برعي ذمامه
هو العالم الأرضى التقي أخو الحجا
…
وذو القصد حتى عن فضول كلامه
إلهي حقق فيه قول مؤرخ:
…
(لقد نال في الفردوس نيل مرامه)
27
الشيخ محمد بن الخوجة
هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن حمودة بن محمد بن علي خوجة شيخ الإسلام، وابن مفتي الأنام، وحفيد العالم الرفيع المقام.
كانت ولادته عام 1204 أربعة ومائتين وألف، ونشأ في خدمة العلم الشريف فقرأ على والده وشيخ الإسلام البيرمي الثاني والشيخ أبي محمد حسن الشريف والشيخ أبي إسحاق إبراهيم الرياحي وأبي العباس أحمد الأبي وغيرهم من علماء جامع الزيتونة. وقدمه والده لمشيخة الشماعية نائباً في الحياة مستقلاً بعد الممات يوم السبت الحادي والعشرين من ثاني الربيعين سنة 1238 ثمان وثلاثين ومائتين، وألف فزان المدرسة والجامع بدروسه وأفياء ظلال معارفه في ساحته، درسه بهجة السامع والناظر، ومجلسه من أجمل المحاضر، أناخ التحقيق رحاله بين يديه، وانتهى تحرير السعد والسيد إليه، جلست بين يدي أعلام العلوم، فاستظلوا بكهف معارفه الشامخ المعلوم، آية الله في الذكاء والتحصيل، وتعضيد النقليات بالمعقول على أصل أصيل، وهو ممن ران الرتبة الأولى في التدريس بجامع الزيتونة عند وقوع الترتيب أول مرة.
ولوع بصحيح البخاري وله أسانيد وبه يتصل سندي المحمدي في الصحيح المذكور، وكان ملازماً لروايته حتى كانت جميع أحاديثه منه على طرف الثمام، فهو حافظ عصره والسلام، ومن ولوعه بالإجازة استجار الشيخ أبا المحاسن يوسف بدر الدين في الشفا للقاضي عياض فأجازه بأبيات نظم فيها سنده في الكتاب المذكور وهي قوله:[الرجز]
حمداً لمولانا القويِّ السند
…
ثم صلاتنا على محمّدِ
وآله وصحبه من شيّدوا
…
أركان ما أتى به وأيّدوا
وبعدُ فالحديث فنٌ معتبرْ
…
وفضله على الفنون مشتهرْ
وكان ممن خصه مولاهُ
…
بضبط هذا العلم واجتباهُ
الفاضلُ العلّامة النحريرُ
…
ومنْ له الإتقان والتحريرُ
محمّدٌ الشهير بابن الخوجةْ
…
أبقى الإله في العلى عروجهْ
سليلُ أحمد الإمام المفتي
…
مجلي دجى الإشكال للمستفتي
تواضعاً منه استجاز في الشفا
…
جمعِ عياضٍ في حقوق المصطفى
وإنّه أولى بأن يجيزا
…
لأنني أرى له التمييزا
لكنّه وصف الكمال حازهْ
…
حتى ارتجى من مثلي َ الإجازة
وفّقه المولى لما يرضاهُ
…
وحفّه باللطف في قضاهُ
وقد أجزته وأنني لفي
…
حيا قصوري وفي هذا أكتفي
كما بخط يده أجازني
…
محدث الشآم ذو لقدر السني
(الكزبريُّ) عن الإمام السند
…
والدهِ شمس العلى (محمد)
عن (المنينيِّ) عن (البصريّ)
…
عبد الإله السَّند المكيّ
عن شيخ بابلٍ (علاء الدين)
…
عن (سالمٍ) تلميذ نجم الدين
عن (زكرياءَ) عن (القيَّاتي)
…
شمسِ الكمال الباهر الآيات
عن (السّراج عمرَ) الملقِّن
…
عن (اللَّواتي) هوَّ يحيى المرتضى
عن (يوسفٍ) هو الدِّلاصيُّ الرّضى
…
عن (اللَّولاتي) هوَّ يحيى المرتضى
عن (ابن ضائعٍ) عن المؤلفِ
…
منشي الشفاءِ الجامع للشرف
أخذته عن شيخنا داريه
…
وجاد له بالإذن الروايهْ
وقد أذنت الفاضل المجازا
…
بأن يجيز من له استجارا
إجازة شاملة محققة
…
مطلقة بكل فن حققه
بشرطها المقرر المعتبر
…
بالاتفاق عند أهل الإثر
وأسألُ الله له أن ينفعا
…
بعلمه جميع من له سعى
والمدنيُّ يوسف ُالمنكسرُ
…
أخو القصور المذنب المفتقرُ
يرجو من الكريم حسن الخاتمهْ
…
بدار من للأنبياء خاتمهْ
صلّى عليه ربنا وسلما
…
والآلِ والصحب ومن له انتمى
وتقدم في جامع محمد باي المرادي إماماً وخطيباً ومدرساً وشيخنا في المدرسة الشماعية بعد وفاة والده، فزان المحراب المنبر فصاحة وتلاوة وخطب من إنشائه واجتمع بين يديه هنالك العلماء للدراية والرواية وأبدع في أختامه غاية الإبداع، على طريقة لا تستطاع.
ثم قدمه الأمير مصطفى باشا لخطة القضاء فزانها نحو الثماني سنين بعلم راسخ، وتيقظ لجميع الشبه ناسخ، مع التضلع بفقه القضاء والتحري والديانة والتثبت الكلي في حقوق الله وحقوق العباد لا تأخذه في الحق لومة لائم وله إخبار في ذلك تدل على كمال خشيته لربه.
ولما توفي شيخ الإسلام البيرمي الثالث ويقدم للمشيخة رابع البيارمة تقدم صاحب الترجمة مفتياً ثانياً من أول وهلة مع وجود من سبقه في الخطة على ما تقدم آنفاً وذلك في التسع والعشرين من ربيع الأول سنة 1256 تسع وخمسين ومائتين وألف فزان خطة الإفتاء بفتاويه ومراسلاته التي أبان بها ما له من العلوم الشرعية من باهر آياته.
ولما توفي شيخ الإسلام البيرمي الرابع قدمه الأمير محمد الصادق باشا باي لمشيخة الإسلام فشمر عن ساع الجد ونهض لها نهوض المجتهد، مات شئت من علم ودين، وفقه متين، وكرم أخلاق، وتثبت في مزالق الحذاق، يخشى الله سراً وجهراً بعيداً عن التصنع متخلقاً بأخلاق الصالحين قضى وأفتى وخطب ودرس وألف، وشكر سعيه في جميع ذلك.
كتب حاشة على مختصر السعد استدرك بها على ثلاثة السعد والسيد وعبد الحكيم بما يشهد له برسوخ القدم بين الأمم، وله شرح لطيف في سياسة الملك على الحكم التي تنسب لأرسطو، وأولها: "العالم بستان سياجه الدولة
…
"، وهو شرح بديع الأسلوب، قرظه شيخ الإسلام البيرمي الثالث بما نصه: "يقول العبد المفتقر إلى رحمة ربه الغني، محمد بن محمد بن محمد بيرم الحنفي، غفر الله ذنبه، وفرج كربه، لما طالعت هذه النقلية الأنيقة، التي هي بالإذعان حقيقة، صنعه البدر الزاهر، الهمام الماهر، أبي عبد الله محمد ابن شيخ الإسلام، عمدة الأنام خاتمة المحققين، كمال العلماء المتأخرين، أبي العباس أحمد بن الخوجة رأيت ما يبهج به الناظر، ويقوم عليه لمجادل والمناظر، من نقول تصحبها متانة وجزالة، ونقود تمتزج بها بلاغة وجلالة، وحسن انسجام، ألذ من لوجدان بعد الإعدام إلى غير ذلك مما تدركه الألباب، ولا يحيط به نطاق الاستيعاب، فحمدت الله سبحانه على التيسير، في مثل هذا الزمن العسير، وابتهلت إليه جل جلاله أن يكثر من أمثاله، ويسهل لهم النسج على منواله، إنه الفعال لما يريد، المالك أزمة التيسير والتسديد، وحين رتع الذهن الكليل في ذلك البستان، وتملأ ناظره من بديع هاتيك الحسان، صار اللسان على قدم الشكر يجول، وحملت الوجد الفادح على أن يقول:[الكامل]
لا تنكروا ولهي وطولَ غرامي
…
ومزيدَ أشواقي لها وهيامي
هذي التي سمح الزمان بوصلها
…
من بعد تسويفي وطول مقامي
نسختْ بطلعتها ونور جمالها
…
ليلَ الشكوك وحيرةَ الأوهام
لا تعجبوا منها فإن مقيلها
…
بيتُ العلوم ومفخرُ الأعلام
بيت إذا حلّ العويص بسائلٍ
…
وافاه ملتمساً لنيلِ مرامِ
لا زال محروس الجناب موفقاً
…
متعطر الأرجاء بحسن ختام