الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقصدتُ تتبُّع الألفاظ حتى لا يقعَ طَفَرٌ (1) كما في كثير من كتب المفسرين» (2).
وبهذا الكلامِ أبانَ ابنُ عطية (ت:542) عن شيءٍ من منهجه، وفيه ما أنا بصددِه، وهو التَّفسيرُ اللُّغويُّ، وقد عَقَدَ فصلاً في تفسيرِ القرآنِ والكلامِ على لغتِه والنَّظرِ في إعرابِه ودقائقِ معانيه (3).
وبتتبُّع التَّفسيرِ اللُّغويِّ عند ابن عطية (ت:542) وغيرِه منَ المفسِّرينَ، لا يظهرُ اختلافٌ بينهم في أصولِ مسائِله: من الاستفادةِ من اللُّغةِ وشواهدِها، غير أنَّ التَّميّزَ قد يقع في كثرةِ الاعتمادِ وقِلَّتِه، وطريقةِ الأخذِ باللَّغةِ والتَّرجيحِ بها، وطريقةِ أداءِ معاني القرآن بما يطابقها من لغة العربِ، وهو ما يسميه ابنُ عطيةَ (ت:452) ـ أحياناً ـ بتحريرِ معنى اللَّفظِ في لغةِ العربِ.
وقد سلك ابن عطيَّةَ (ت:542) الطَّريق نفسه الذي سلكه من كان قبله، من تفسير ألفاظ القرآن بدون ذكر الشَّاهدِ اللُّغويِّ، وبذكرِ الشَّاهدِ اللُّغويِّ، وبذكر المحتملات اللُّغويَّةِ، وتوجيه القراءات مختلفاتِ المعنى، والتَّرجيحِ باللُّغةِ.
وسأذكر لهذه الأنواع أمثلةً، مع ذكر ما تميَّز به ابن عطيَّة (542) في تفسيره، واللهُ الموفِّقُ.
أوَّلاً: مفردات ألفاظ القرآن:
يظهرُ في تفسيرِ الألفاظِ عندَ ابن عطية (ت:542)، حرصُه على تحريرِ معنى اللَّفظِ في اللُّغةِ، خصوصاً إذا وردَ تفسيرُ السَّلفِ بغيرِ مطابقِ اللَّفظِ، وله في ذلك براعةٌ وإبداعٌ عجيبٌ.
(1) في القاموس المحيط، مادة (طفر):«الطَّفْرَةُ: الوثبُ في ارتفاعٍ» . والمراد هنا ألَاّ يقفزَ لفظاً إلى لفظٍ فيفسره قبله، أو يتركه بلا تفسيرٍ، واللهُ أعلمُ.
(2)
المحرر الوجيز، ط: قطر (1:10 - 11).
(3)
المحرر الوجيز، ط: قطر (1:25).
ومن ذلك:
1 -
تفسيرُه للفظ «الغيب» في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3]، قال:«والغيب في اللغةِ: ما غاب عنكَ من أمرٍ، ومن مطمئنِّ الأرضِ الذي يغيبُ فيه داخلُه» (1).
وقد ذكر قبل ذلك أقوالَ المفسرينَ، ثمَّ ختمها بهذا البيانِ، فقال: «وقوله: {بِالْغَيْبِ} ، قالت طائفةٌ: معناه: يصدِّقونَ إذا غابوا وخَلَوا، لا كالمنافقينَ الذينَ يؤمنونَ إذا حضروا، ويكفرونَ إذا غابوا.
وقال آخرونَ: يصدقونَ بما غابَ عنهم مما أخبرتْ به الشرائعُ.
واختلفتْ عباراتُ المفسرينَ في تمثيلِ ذلك، فقالت فرقةٌ: الغيبُ في هذه الآيةِ: اللهُ عز وجل.
وقال آخرونَ: القضاءُ والقدرُ.
وقالَ آخرونَ: القرآنُ وما فيه من الغيوبِ.
وقال آخرونَ: الحشرُ والصِّراطُ والميزانُ والجنَّةُ والنَّارُ.
وهذه الأقوالُ لا تتعارضُ، بل يقعُ الغيبُ على جميعِها.
والغيب في اللغةِ: ما غاب عنكَ من أمرٍ، ومن مطمئنِّ الأرضِ الذي يغيبُ فيه داخلُه» (2).
فتراه في هذا المثالِ بيَّنَ المعنى اللُّغويَّ للغيبِ، وبيَّنَ أن تفسيرَ المفسرينَ له بما ذكرَه عنهم إنما هو على سبيلِ المثالِ لنوعٍ من أنواعِ الغيبِ.
2 -
وفي تفسيرِه للفظِ «تفكَّهون» من قوله تعالى: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة: 65]، قال: «و {تَفَكَّهُونَ} ، قال ابن عباسٍ، ومجاهد، وقتادة: معناه: تعجبونَ.
(1) المحرر الوجيز، ط: قطر (1:146).
(2)
المحرر الوجيز، ط: قطر (1:145 - 146).
وقال عكرمةُ: تلاومونَ.
وقال الحسنُ: تندمونَ.
وقال ابن زيدٍ: تتفجَّعونَ.
وهذا كله تفسيرٌ لا يخصُّ اللفظةَ، والذي يخصُّ اللَّفظَةَ هو: تطرحونَ الفكاهة عن أنفسكم، وهي المسرَّةُ والجَذَلُ (1). ورجلٌ فَكِهٌ: إذا كانَ منبسطَ النَّفسِ، غيرَ مكترثٍ بشيءٍ.
وتَفَكَّهَ، من أخواتِ تَحَرَّجَ وَتَحَوَّبَ» (2).
3 -
وفي قوله تعالى: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَياتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125]، قال في تفسيرِ لفظِ {فَوْرِهِمْ}: «والفورُ: النهوضُ المسرعُ إلى الشيءِ، مأخوذٌ من فَورِ القِدْرِ والماءِ ونحوِه، ومنه قوله تعالى:{وَفَارَ التَّنُّورُ} [هود: 40]، فالمعنى: ويأتوكم في نهضتِهم هذه.
قال ابن عباس: {مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} : معناه: من سفرهم هذا.
وقال الحسن، والسُّدِّيُّ: معناه: من وجههم هذا، وقاله قتادة.
(1) في المحرر الوجيز، ط: قطر (14:261): «والجزل» ، وفي ط: المغربية (15:380): «والجدل» ، والصواب: الجَذَلُ، وهو الفرحُ، ينظر: القاموس، مادة (جذل).
(2)
المحرر الوجيز، ط: قطر (1:261).
قال ابن القيم: «
…
وتفكَّهتَ بالشيءِ: إذا تمتَّعْتَ به، ومنه الفاكهةُ التي يُتمتَّعُ بها، ومنه قوله:{فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة: 65]، قيل: معناه: تندمونَ، وهذا تفسيرٌ بلازم المعنى، وإنما الحقيقةُ: تُزيلونَ عنكم التَّفكُّه، وإذا زال التَّفَكُّهُ خلفه ضِدُّه، يقال: تحنَّثَ: إذا زال الحِنثُ عنه، وتحرَّجَ، وتحوَّب، وتأثَّم، ومنه: تفكَّه.
وهذا البناء يقال للداخل في الشيء، وللخارج منه؛ كتحرَّج وتأثَّم». التبيان في أقسام القرآن (ص:169).
وقال مجاهد، وعكرمة، وأبو صالح مولى أمِّ هانئ (1): من غضبِهِم هذا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله تعالى: وهذا تفسيرٌ لا يخصُّ اللَّفظةَ، وقد يكونُ الفورُ لغضبٍ ولطمعٍ ولرغبةٍ في أجرٍ، ومنه الفورُ في الحجِّ والوضوءِ» (2).
فبيَّن هنا أصل لفظِ الفورِ في اللُّغة، ثم بين أنَّ تفسيره بالغضبِ ليس مطابقاً، وإنما هو تفسيرٌ بالسببِ.
وقد يذكر الشَّاهدَ الشِّعريَّ للَّفظِ الَّذي يفسِّره، ومن ذلك:
1 -
في قوله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأنفال: 57]، قال: «و {تَثْقَفَنَّهُمْ} ، معناه: تأسرهم، وتحصلهم في ثقافك، أو تلقاهم في حالِ ضعفٍ تقدِرُ عليهم فيها وتغلبهم، وهذا من لازم اللفظِ؛ لقوله:{فِي الْحَرْبِ} .
وقيلَ: ثقف: أخذ بسرعةٍ، ومن ذلك قولهم: رجلٌ ثَقِفٌ لَقِفٌ (3).
وقال بعضُ الناسِ: معناه: تُصادِفنَّهم، إلى نحو هذا من الأقوالِ التي لا ترتبطُ في المعنى، وذلك أن المصادَفَ قد يُغْلَبُ، فيمكنُ التَّشريدُ به، وقد لا يُغلب.
(1) أبو صالح، باذام، مولى أمِّ هانئ، روى عنها وعن أبي هريرة، وعنه: سفيان الثوري، وهو ضعيف مدلس، وعامة ما يرويه تفسيرٌ، وروايته عن ابن عباس غير مقبولةٍ، خاصة إذا كان الراوي عنه الكلبي. ينظر: الكامل في الضعفاء، لابن عدي (2:501 - 504)، وتقريب التهذيب (ص:163).
(2)
المحرر الوجيز، ط: قطر (3:310 - 311).
(3)
هذا من باب الإتباع والمزاوجة في اللغة، وقد ذكره ابن فارس، فقال:«ومن الاتباع: خفيفٌ ذَفيف، الذفيف: السريع. وهو ثَقِفٌ لَقِفٌ: ذكيٌ» . الإتباع والمزاوجة، لابن فارس، تحقيق: كمال مصطفى (ص:59).
والثقافُ في اللُّغةِ: ما تُشدُّ به القناةُ ونحوُها، ومنه قول الشاعرِ (1):
إنَّ قَنَاتِي لَنَبْعٌ مَا يُؤَيِّسُهَا
…
عَضُّ الثِّقَافِ ولَا دُهْنٌ ولَا نَارُ
وقال آخر (2):
تَدْعُو قُعَيناً وَقَدْ عَضَّ الحَدِيدُ بِهَا
…
عَضَّ الثِّقَافِ عَلَى صُمِّ الأنَابِيبِ» (3)
2 -
وفي قوله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71]، قال: «واستهوته: استفعلته، بمعنى: استدعت هواه وأمالته.
قال أبو عبيدة: ويحتمل هُوِيُّه وهو جِدُّه وركوب رأسه في النزوع إليهم (4).
والهُوِيُّ، من هَوَى يَهْوِي، يُستعملُ في السقوطِ من عُلوٍ إلى أسفلَ، ومنه بيت الشاعر (5):
(1) لم أجده.
(2)
البيت للنابغة الذبياني، وهو في ديوانه، تحقيق: محمد الطاهر بن عاشور (ص:54)، وذكر الطاهر في شرحه: تدعو قعيناً؛ أي: تستعينُ ببني قعين، وهم من بطون أسد. عض الحديد بها؛ أي عضها حديد القيد. الثقاف: آلة من خشب أو حديد تسوى بها قنوات الرماح لإزالة كعوبها الناتئةِ. الأنابيب: جمع أنبوب، وهو كعب في العصا.
(3)
المحرر الوجيز، ط: قطر (6:347).
(4)
الذي في مجاز القرآن (1:196): «وهو الحيران الذي يشبّه له الشياطين، فيتبعها، حتى يهوي في الأرض، فيضلَّ» . وقد يكون النقل عن أبي عبيد القاسم بن سلام، إذ كثيراً ما يقع الخلط بينهما لتقارب كنيتيهما، مع أن أسلوب الكلام ليس من أساليب أبي عبيدة، إذ لا تجد له مثل هذا الأسلوب، وهو حكاية الاحتمال، أما عند أبي عبيد، فكثيرٌ، واللهُ أعلمُ.
(5)
لم أجده.
هَوَى ابْنِي مِنْ ذَرَى شَرَفٍ
…
فَزَلَّتْ رِجْلُهُ وَيَدُهُ
وهذا المعنى لا مدخل له في هذه الآيةِ، إلَاّ أن تُتَأوَّلُ اللَّفظةُ بمعنى: ألقته الشياطينُ في هُوَّةٍ، وقد ذهب إليه أبو عليٍّ (1)، وقال: هو بمعنى أهوى، كما أنَّ استزلَّ، بمعنى أزلَّ (2).
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والتحرير أن العربَ تقولُ: هَوِيَ، وأهواه غيره، واستهواه، بمعنى: طلب منه أن يهويَ هو، أو طلبَ منه أن يُهوِي شيئاً.
ويُستعمل الهُوِيُ أيضاً في ركوبِ الرأسِ في النُّزوعِ إلى الشيءِ، ومنه قوله تبارك وتعالى:{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37]، ومن قول شاعرِ الجنِّ (3):
تَهْوِي إلَى مَكَّةَ تَبْغِي الهُدَى
…
مَا مُؤْمِنُ الجِنِّ كَأنْجَاسِهَا
وهذا هو المعنى الذي يليقُ بالآيةِ» (4).
3 -
وفي قوله: {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج: 16]، قال: «والشَّوى: جِلدُ
(1) الحسن بن أحمد بن عبد الغفار، أبو علي الفارسي، العلامة النحوي، أخذ عن الزجاج، وتتلمذ عليه خلق؛ منهم تلميذه الشهير ابن جني، له مصنفات، منها: الحجة في القراءات، والأغفال على ما أغفله الزجاج في معانيه، توفي سنة (377). ينظر: إنباه الرواة (1:308 - 310)، والبلغة في تراجم أئمة اللغة (ص:80 - 81).
(2)
ينظر هذا النقل في الحجة للقراء السبعة، لأبي علي الفارسي، تحقيق: بدر قهوجي وبشير حويجاتي (3:325).
(3)
البيت في سيرة ابن هشام، تحقيق: مصطفى السقا وآخرون (1:221)، قال: وأنشدني بعض أهل العلم، ثمَّ ساق هذا البيت وبيتاً قبله.
(4)
المحرر الوجيز، ط: قطر (5:242)، وقد قال بعد ذلك:«وقوله: {فِي الأَرْضِ} يحكم بأن {اسْتَهْوَتْهُ} إنما هو بمعنى استدعت هُويَّه الذي هو الجِدُّ في النُّزوعِ» . (5:243).
الإنسانِ، وقيل: جِلدُ الرأسِ والهَامَةِ، قاله الحسنُ، ومنه قول الأعشى (1):
قَالَتْ قُتَيلَةُ مَا لَهُ قّدْ
…
جُلِّلَتْ شَيباً شَوَاتُهُ؟
ورواه أبو عمرو بن العلاء: سَرَاتُهُ، فلا شاهدَ في البيت على هذه الرواية (2).
قال أبو عبيدة: سمعتُ أعرابياً يقول: اقشعرَّت شواتي (3).
والشوى أيضاً: قوائم الحيوان، ومنه: عَبْلُ الشَّوى (4).
والشَّوى أيضاً: كلُّ عضوٍ ليس بمقتلٍ، ومنه: رمى، فأشوى، إذا لم يُصِبْ المقتلَ.
وقال ابن جبير: الشَّوى: العصبُ والعَقِبُ.
فنار لظى تُذهِبُ هذا من ابن آدمَ وتنْزعه» (5).
(1) لم أجده في ديوان الأعشى، وهو من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن، وقد نسبه إلى الأعشى (2:269).
(2)
ذكر ذلك أبو عبيدة في مجاز القرآن (2:269)، قال:«أنشدها أبو الخطاب الأخفش أبا عمرو بن العلاء، فقال له: صحَّفت، إنما هي سراته» .
وهذا النوع من الشواهدِ يحتاجُ إلى دراسةٍ وتقويمٍ لما ذكره المفسرون من شواهدَ يختلفُ بها الاستشهادُ بسبب روايتها، كما ذُكِرَ في رواية بيت الحطيئةِ الذي يستشهدون به عند قوله تعالى:{لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً} ، فقد ورد روايته هكذا:
أغررتني، وزعمت أنك
لا تَنِي بالصيفِ تامُرُ
من وَنَي وأَمَرَ، وبهذا لا يكونُ شاهداً على معنى لاغية، واللهُ أعلمُ.
(3)
مجاز القرآن (2:269).
(4)
قال أبو عبيدة في مجاز القرآن (2:270): «وشوى الفرسِ: قوائمه، ويقال: عَبْل الشَّوى، ولا يكون هذا للرأسِ؛ لأنهم وصفوا الخيل بأسالة الخدين، وعِتق الوجه ورقَّتِه» .
(5)
المحرر الوجيز، ط: قطر (15:96).
والأمثلةُ التي فيها الاستشهادُ بأشعارِ العربِ كثيرةٌ (1)، والمقصود هنا الاستشهادُ لبعضها.
وبمناسبةِ ما ذكره من روايةِ أبي عمرو بن العلاءِ لبيتِ الأعشى، فإنه مما يحسنُ دَرْسُه في بيانِ استشهاداتِ المفسِّرينَ بأشعارِ العربِ: رصدُ آرائهم في بعضِ الشَّواهِدِ الشِّعريَّةِ، وأثرها في تفسيرِ ألفاظِ القرآن الكريم، ومن ذلك:
1 -
ما ذكر في تفسيرِ السَّلوى من قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة: 57].
قال ابن عطية (542): «والسَّلوى طيرٌ، بإجماعٍ من المفسِّرينَ» (2)، ثمَّ قال: «وقد غلطَ الهذليُّ، فقال (3):
وَقَاسَمَهَا بِاللهِ عَهْداً لأنْتُم
…
ألَذُّ مِنَ السَّلْوَى إذَا مَا نَشُورُهَا
ظنَّ السَّلوى العسلَ» (4).
(1) ينظر على سبيل المثال: المحرر الوجيز، ط: قطر (4: 335، 7385 ممم، 416، 431، 448، 470، 519)، (5:15، 22، 56، 99، 102، 134، 140، 156، 162، 201، 223، 238، 240، 288، 290، 434، 456، 459)، (7:97، 111، 112، 114، 126، 138، 173، 183، 184، 194، 203، 204، 206، 284، 197، 306، 327، 334)، (11:140، 146، 169، 170، 171، 184، 191، 195، 207، 237، 264، 268، 269، 270، 278، 280، 281)، (13:397، 438، 445، 451، 463، 478، 479، 487، 498، 500، 501، 510، 532، 534، 536، 538، 551، 566، 568، 573)، وغيرها كثيرٌ جداً.
(2)
المحرر الوجيز، ط: قطر (1:305).
(3)
البيت لخالد الهذلي، ابن أخت أبي ذؤيب، وهو في ديوان الهذليين (1:158)، وجاء في شرحه:«نشورها: نأخذها، والشَّورُ: أخذ العسل من موضعها» .
(4)
المحرر الوجيز، ط: قطر (1:306).
وقدْ دلَّ الشَّاعرُ بقولِه: «نَشُورُهَا» على أنَّ المرادَ به العسلُ؛ لأنه هو الذي يُشَارُ، فكلمة «شَارَ» مختصَّةٌ بِجَنْيِ العسلِ.
وهذا من تغليطِ العربِ، وهو مذهبٌ لبعضِ اللُّغويِّين، وفي هذا المذهبِ نظرٌ ودراسةٌ ليسَ هذا محلُّها، وإنما المراد هنا ذكرُ ما ذهب إليه ابن عطيَّةَ (ت:542) (1).
2 -
وما ذكره في قوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: 147]، قال: «الخطابُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، والمرادُ أمته.
وامترى في الشَّيءِ إذا شكَّ فيه، ومنه المراء؛ لأنَّ هذا يشكُّ في قولِ هذا. وأنشدَ الطَّبريُّ (2) شاهداً على أنَّ الممترينَ شاكُّونَ قولَ الأعشى (3):
تَدُرُّ عَلَى أسْؤُقِ المُمْتَرِيـ
…
ـنَ رَكْضاً إذا مَا السَّرَابُ ارْجَحَنْ
ووهِم في ذلك؛ لأنَّ أبا عبيدةَ وغيره قالوا: الممترين في البيت: هم الذينَ يَمْرُونَ الخيلَ بأرجلِهم هَمْزاً لتجري (4)؛ كأنهم يحتلبون الجريَ منها، فليس في البيت معنًى من الشَّكِّ كما قال الطبريُّ» (5).
(1) ينظر اعتراض القرطبي عليه في الجامع لأحكام القرآن (1:407 - 408).
(2)
ينظر: تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (3:191).
(3)
ديوانه، تحقيق: حنا نصر الحتي (ص:366). وقال في شرح البيت: «يغمز الفرسان الخيول بأرجلهم في شدة القيظ، فتهبُّ ركضاً إذا مال السراب واهتزَّ» .
(4)
لم أجده في مجاز القرآن، وقد تتبعت هذا البيت في كتب اللغة، وكتب التفسير وغيرها مما تقدَّم على ابن عطية، فلم أجد من شرح هذا البيت، واللهُ أعلمُ.
وقد أشار إلى شرحه الطبرسي (548، وقيل 502) في كتابه مجمع البيان في تفسير القرآن (2:21 - 22)، حيث ذكر البيت، ثمَّ قال: «يعني الشَّاكينَ في درورها، لطول سيرها، وقيلَ: المستخرجينَ ما عندها
…
».
(5)
المحرر الوجيز، ط: قطر (1:21 - 22).
وهذا من المشكلات التي تحتاجُ إلى دراسةٍ في الشَّاهدِ الشِّعريِّ الذي يستشهدُ به المفسِّرونَ، ويكونُ ما استشهدوا به في غير محلِّه، كما في هذا المثالِ عند ابن عطيَّةَ (ت:542) (1).
ثانياً: المحتملاتُ اللُّغويَّة:
يُكثِرُ ابن عطيَّةَ (542) من إيرادِ الاحتمالاتِ التَّفسيريَّةِ في الآيةِ، ومن تلكَ الاحتمالاتِ ما يكونُ بسببِ اللُّغةِ، وهو في أغلبِها ينقلُ ما فسَّرَه المفسِّرونَ أو أهلُ اللُّغةِ (2)، ومن ذلكَ:
1 -
قال في قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَاتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات: 28]: «واضطربَ المتأوِّلون في معنى قوله: {عَنِ الْيَمِينِ} ، وعبَّر ابن زيد عنه بطريق الجنَّةِ، ونحو هذا من العبارات التي تُفسِّرُ بالمعنى، ولا تختصُّ بنفسِ اللفظِ.
وبعضهم نحا في تفسيرِ اللفظةِ إلى ما يختصُّها، والذي يتحصَّلُ من ذلك معانٍ؛ منها: أن يُريدَ باليمينِ القوَّة والشِّدَّةُ، فكأنهم قالوا: إنكم كنتم تُغوُوننا بقوَّةٍ منكم، وتحملوننا على طريقِ الضلالةِ بمتابعةٍ منكم في شِدَّةٍ، فعبَّر عن هذه المعاني باليمينِ؛ كقولِ العربِ: بيدينِ ما أوردَ، وكما قالوا: اليد ـ في غير هذا الموضع ـ عن القوة (3).
(1) ردَّ القرطبيُّ في الجامع لأحكام القرآن (2:164) على ابن عطية، فقال: «معنى الشَّكِّ فيه موجودٌ؛ لأنه يحتملُ أن يختبِرَ الفرسَ صاحبُه، هل هو على ما عهده منه من الجري، أم لا؛ لئلا يكون أصابه شيء، أو يكون هذا عند أول شرائه، فيُجريه، ليعلم مقدار جريه
…
».
(2)
ينظر على سبيل المثال: المحرر الوجيز، ط: قطر (4:221)، (7:257)، (11:140).
(3)
في الطبعة المغربية: «وكما قالوا اليد في غير موضعٍ: عن القوة» . (13:228)، والعبارتان فيهما قلق، والمعنى المراد مفهومٌ واللهُ أعلمُ.
وقد ذهب بعض الناس ببيت الشَّمَّاخِ (1) هذا المذهب، وهو قوله (2):
إذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ
…
تَلَقَّهَا عَرَابَةُ بِاليَمِينِ
فقالوا: معناه: بقوة وعزيمة، وإلَاّ، فكلُّ أحدٍ يتلقَّاها بيمينه، لو كانت الجارحة، وأيضاً: لما استعار الرايةَ للمجدِ، فكذا لم يُرِدْ باليمينِ الجارحة.
ومن المعاني التي تحتملها الآية أن يُريدوا: إنكم كنتم تأتوننا من الجِهةِ التي يُحسِّنها تمويهُكم وإغواؤكم، ويظهر فيها أنها جهةُ الرشد والصواب، فتصير عندنا كاليمين الذي يتيمَّنُ بالسانح الذي يجيئنا من قِبَلِها، فكأنهم شبَّهوا أقوال هؤلاء المُغوِينَ بالسَّوانحِ التي هي عندهم محمودة؛ كأن التمويه في هذه الغويات قد أُظهِرَ فيها ما يُوشِكُ أن يُحمدَ به
…
» (3).
2 -
في قوله تعالى: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 6]، قال:«قوله تعالى: {عَرَّفَهَا لَهُمْ}، قال أبو سعيد الخدري، وقتادة، ومجاهد: معناه: بيَّنها لهم؛ أي: جعلهم يعرفون منازلهم منها. وفي نحو هذا المعنى قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: «لأحدكم بمنْزله في الجنة أعرف منه بمنْزله في الدنيا» (4).
(1) معقل بن ضرار، من بني سعد بن ذبيان، الشاعر المعروف بالشَّمَّاخ، مخضرمٌ، أسلم وحسن إسلامه، توفي في غزوة موقان بعد سنة (30)، زمن خلافة عثمان. ينظر: معجم الشعراء المخضرمين والأمويين (ص:205)، ومعجم الشعراء (ص:124).
(2)
البيت في ديوانه، تحقيق: صلاح الدين الهادي (ص:336)، وهي من قصيدة يمدح فيها عرابة الأوسي، وهو من صغار الصحابة.
(3)
المحرر الوجيز، ط: قطر (12:346 - 348)، وقد بقي في كلامه احتمالانِ تركتهما تخفيفاً في النقلِ.
(4)
رواه البخاري بلفظ: «فوالذي نفس محمد بيده، لأحدهم أهدى بمنْزله في الجنة منه بمنْزله كان في الدنيا» . ينظر: فتح الباري، ط: الريان (11:403)، وقد أخرج الحديث: أحمد في مسنده (3:74)، وأبو يعلى في مسنده (2:404)، وابن منده في الإيمان (2:814)، والطبري في تفسيره، ط: الحلبي (14:37 - 38).