الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والقول الثاني: وهو أنَّ المرادَ بالبيوتِ المرأةَ، فيه بُعْدٌ في التَّأويلِ، وليس لقائلِ هذا القولِ مُعْتَمَدٌ سوى أنَّ العربَ تُطلقُ لفظ البيتُ، وتريد به المرأةِ، منْ غيرِ أنْ ينظرَ إلى صحةِ هذا الإطلاقِ في هذا السِّياقِ.
وهذه الأقوالُ وأشباهُها في التَّفسيرِ فيها ضعفٌ؛ لأنها تعتمدُ اللُّغةَ فقط، دونَ النَّظرِ في المصادر الأخرى التي هي مقدَّمةٌ على مجرَّدِ اللُّغةِ.
وهذا لا يعني أنَّ الأقوالَ الصَّحيحةَ في فهم الآيةِ ليست من التَّفسيرِ اللُّغويِّ، بل قد تكون منه، لكنها اعتمدت مصدراً آخرَ معه؛ كسبب النُّزولِ، وإجماعِ الحُجَّةِ من أهلِ التَّأويلِ، وسياقِ الآياتِ، وهذه هي التي رجَّحَتِ المعنى اللُّغويَّ المقبولَ دونَ غيرِه، واللهُ أعلمُ.
الصنف الثاني: أهل البدع:
لقدْ كانَ نظرُ أهلِ البدَعِ إلى اللُّغةِ تابعاً للمُعْتَقَدِ الذي يعتقدونَه. والأصلُ عندَهم بدعتُهم، ثمَّ يبحثونَ في سَعَةِ لغةِ العربِ عمَّا يدعمُها، وإنْ كانوا يحرصونَ على إبرازِ أنَّ تأويلاتِهم لا تخرجُ عن اللُّغةِ، كما قالَ الخَيَّاطُ المعتزليُّ (ت: بعد300) في ردِّه على ابنِ الرَّاونْدِيِّ الملحدِ (ت:298): «فهذه تأويلاتُ المعتزلةِ لِمَا تَلا منَ الآياتِ (1)، وكلُّها واضحٌ قريبٌ غيرُ خارجٍ منَ اللُّغةِ ولا مُسْتَكْرَهُ المعنى» (2).
وقال القاضي عبدُ الجَبَّارِ (ت:415)(3): «وهكذا طريقتُنا في سائرِ
(1) يقصد الآيات التي استشهد بها ابن الراوندي.
(2)
الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد (ص:183).
(3)
عبد الجبار بن أحمد الهمذاني، المعتزلي، الشافعي، القاضي، صاحب التصانيف، منها: متشابه القرآن، وتنْزيه القرآن عن المطاعن، والمغني في أبواب العدل والتوحيد، توفي سنة (415)، ينظر: تاريخ بغداد (11:113 - 115)، وسير أعلام النبلاء (17:244 - 245).
المتشابهِ: أنه لا بُدَّ منْ أنْ يكونَ لهُ تأويلٌ صحيحٌ يخرجُ على مذهبِ العربِ، منْ غيرِ تكلُّفٍ وتعسُّفٍ» (1).
وهذا يدلُّ على حرصِهم على إظهارِ مساعدةِ اللُّغةِ لمذاهبِهِم، بل جعلَ ابنُ جِنِّي (ت:392) في كتابه (الخصائص) باباً يخدمُ هذهِ المذاهبَ الباطلةَ، وسمَّاه:(باب ما يُؤْمِنُهُ علمُ العربيَّةِ منَ الاعتقاداتِ الدينيَّةِ)(2)، وأدخلَ فيه نفيَ الظاهرِ والحقيقةِ مما أثبتَه اللهُ لنفسِه من الصِّفاتِ، وعَمَدَ فيها إلى المجازِ، وجعلَ هذه التأويلاتِ من سَعَةِ العربيَّةِ، فقالَ: «ولو كانَ لهمْ أُنْسٌ بهذه اللُّغةِ الشَّريفةِ، أو تَصرُّفٌ فيها، أو مُزَاوَلَةٌ لها، لَحَمَتْهُمْ السعادةُ بها، وما أصارتْهُم الشِّقْوَةُ إليه بالبُعْدِ عنها (3)، وسنقولُ في هذا ونحوه ما يجب مثلُه
…
وطريقُ ذلكَ أنَّ هذه اللُّغة أكثرُها جارٍ على المجازِ، وقلَّما يخرجُ الشَّيءُ منها على الحقيقةِ، وقدْ قدَّمنَا ذِكْرَ ذلكَ في كتابِنا هذا (4) وفي غيرِه.
فلمَّا كانتْ كذلكَ، وكانَ القومُ الذينَ خوطبوا بها أعرفَ النَّاسِ بِسَعَةِ مذاهبِها، وانتشارِ أنحائها، جرى خطابُهم بها مجرى ما يألفونَهُ، ويعتادونَهُ منها، وفَهِمُوا أغراضَ المخاطِبِ لهم بها على حَسْبِ عُرْفِهم وعادتِهم في استعمالِها
…
» (5).
(1) إعجاز القرآن، للقاضي عبد الجبار، من كتابه: المغني (16:380).
(2)
ينظر: الخصائص (3:248 - 258).
(3)
يقصد مثبتي الصفات، وإن كان ذكر ألفاظاً من ألفاظ أهل التجسيم التي لا يوافق عليها أهل السنة الذين يثبتون ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم دون تمثيل، كما يفعله أهل التجسيم، ولا تعطيل، كما يفعله أهل التأويل الذين هم باسم التحريف أولى، وهذا إمَّا لأنه لا يفهم مذهب السلف، وإمَّا أنَّه أراد أن يشنِّع هذا المذهب بذكر هذه الألفاظ التي لا يرضاها الناس إذا سمعوا بها، لينفروا عن أصحاب هذا المذهب.
(4)
ينظر: الخصائص (2:449 - 459).
(5)
الخصائص (3:249 - 250).
ومن الأمثلةِ التَّطبيقيَّةِ التي ذكرَها لهذه المسألةِ التي نظَّرَ لها، قولُه: «وقوله: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، إنْ شئتَ جعلتَ اليَمِينَ هنا الجارحةَ، فيكونُ على ما ذهبنَا إليه منَ المجازِ والتَّشبيهِ؛ أي: حصلتِ السَّمَاواتُ تحتَ قَدرتِهِ حصولَ ما تُحيطُ اليدُ به في يمينِ القابضِ عليه، وذُكِرتِ اليمينُ هنا دونَ الشِّمَالِ؛ لأنها أقوى اليدينِ، وهو منْ مواضِعِ ذِكْرِ الاشتمالِ والقُوَّةِ.
وإن شئتَ جعلتَ اليمينَ هنا القُوَّةُ؛ كقولِهِ (1):
إذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ
…
تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ
أي: بِقُوَّتِهِ وقُدْرتِهِ.
ويجوزُ أنْ يكونَ أرادَ بيدِ عَرَابَةَ (2): اليُمْنَى. على ما مَضَى» (3).
والمقصودُ أنَّ الأصلَ عندهم بدعتُهم، فإنْ وجدوا ما يدعمُهم منْ لغةِ العرب قالوا به، وإلَاّ استنكرُوه، ومنْ ذلكَ ما رُويَ في سؤالِ عمرِو بنِ عُبيدٍ المعتزليِّ (ت:144) أبا عمرِو بنِ العلاءِ (ت:145) في الوعدِ والوعيدِ (4).
(1) البيت للشماخ، وهو في ديوانه (ص:336).
(2)
هو عرابة بن أوس القَيظي، صحابي، شَهِدَ يومَ أُحُد، فاستُصغِر ورُدَّ، وأُجيزَ يوم غزوةِ الخندق، المعارف (ص:330)، والطبقات (4:369 - 370).
(3)
الخصائص (3:252).
(4)
قال ابن درستويه في كتابه: تصحيح الفصيح (ص:313 - 315): «وأما قوله: وعدت الرجل خيراً وشراً، فإذا لم تذكر الشر قلت: أوعدته، ووعدته بكذا وكذا؛ يعني: الوعيد. فهو ليس يحتاج ـ إذا قيل: وعدت الرجل ـ إلى ذكر خير أو شرِّ، وإن كان يحتمل معناه كل واحد منهما، إلَاّ أن يخاف اللبس فيذكر الذي يعني
…
فأما أوعدته بالألف، فلا يكون إلَاّ للشرِّ خاصَّة وللتهديد، فلذلك استغنى معه عن ذكر الشرِّ، إلَاّ أن تذكر الوعيد الذي تهددته به فتقول: أوعدته بالقتل، أو بالصلب، أو بالقيد، أو بالحبس، أو بكذا وكذا، مفسِّراً للشر الذي لا يُعلَم بقول: أوعدته، وقال الشاعر في الوعد والإيعاد:
إذا وعدوا أنجزوا وعدهم
…
وإن أوعدوا خاب من أوعدوا =
قال الأصمعيُّ (ت:215): «جاءَ عمرُو بنُ عُبَيدٍ إلى أبي عمرِو بنِ العلاءِ، فقالَ: يا أبا عمرو، يُخلِفُ اللهُ وَعْدَهُ؟
قالَ: لا!
قال: أفرأيتَ إنْ وَعَدَهُ على عملٍ عقاباً، يُخلِفُ وَعْدَهُ؟
فقال أبو عمرٍو: منَ العُجمةِ أُتِيتَ يا أبا عثمانَ. إنَّ الوعدَ غيرُ الوعيدِ، إنَّ العربَ لا تَعُدُّ خُلفاً ولا عاراً أن تَعِدَ شراً ثمَّ لا تفعلُه، ترى ذلكَ كرماً وفضلاً، وإنما الخُلْفُ أنْ تَعِدَ خيراً ثُمَّ لا تفعَلُهُ.
قالَ: فأوجدني هذا في كلامِ العربِ.
قالَ: أما سمعتَ إلى قولِ الأوَّلِ:
لا يَرْهَبُ ابنُ العَمِّ ما عِشْتُ صَولَتِي
…
وَلَا أخْتَشِي مِنْ خِشْيَةِ المُتَهَدِّدِ
وإنِّي إذَا أَوْعَدْتُهُ وَوَعَدْتُهُ
…
لَمُخْلِفُ إيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي» (1)
ووردتْ هذه الحادثةُ في (طبقاتِ المعتزلةِ) وجاء فيها بعد ذلك: «قال
= يمدهم بذلك؛ لأن من الكرم والفضل تناسي الوعيد، وأنشدنا أبو العباس وغيره من البصريين عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء: أنه احتج على عمرو بن عبيد في الوعد والوعيد من الله عز وجل بقول الشاعر:
وإني إذا وعدته أو أوعدته
…
لأخلف إيعادي وأنجز موعدي»
(1)
تاريخ بغداد (12:175 - 176). وقد وردت هذه الحكاية في كثير من كتب التراجم والأدب على هذا النحو، ووجدت في كتاب طبقات المعتزلة للقاضي عبد الجبار (ص:293 - 294)، زيادة في صحتها شكٌّ، وقد جاءت بصيغة التمريض: «يقال إنَّ عمرو بن عبيد قال لأبي عمرو: شغلك الإعراب عن معرفة الصواب. إن الله يتعالى عن الخُلْفِ، والشاعر يقول الشيء وخلافه، فهلَاّ قلت في إنجاز الوعيد ما قال الشاعر:
إنَّ أبا ثابت لمجتمع
…
الرأي شريف الإباء والبيت
لا يخلف الوعد والوعيد ولا
…
يبيت من ثاره على فوت
فسكت أبو عمرو». وقد بحثت عن هذين البيتين، فلم أجدهما، والشَّكُّ قائم في توليدهما لأجل نُصرة مذهبهم في الوعد والوعيد.
أبو علي (1) لأبي خليفة (2): أجابه بالمسكت، قال له: إنَّ الشَّاعر قد يكذب ويصدق» (3).
فهذا عمرُو بنُ عبيدٍ (ت:144) لم يجدْ بعدَ الاستدلالِ عليه بلغةِ العربِ إلَاّ هذه الحجَّةَ التي ذكرَها أبو عليٍّ الجُبَّائيِّ (ت:303)، وليستْ هذه غريبةً على منهجه، إنْ صحَّ النقلُ عنه، إذ رُوِيَ عنه ما هو أشنعُ منْ ذلكَ (4).
والعقلُ هو الأصلُ المقدَّمُ عند أهلِ البدعِ من المتكلِّمينَ، فما رأوه بعقولِهم ذهبوا إلى لغةِ العربِ واستنطقوها لإثباتِ بدعتِهم، واستخدموا في ذلكَ مجازاتِ اللُّغةِ.
قال ابن تيميةَ (ت:728): «
…
ثم يجتهدون في تأويل هذه الأقوال إلى ما يوافق رأيهم بأنواع التأويلات التي يحتاجون فيها إلى إخراج اللغات عن طريقتها المعروفة، وإلى الاستعانة بغرائب المجازات والاستعارات
…
» (5).
وقال: «
…
والذي اقتضى شهرةَ القولِ عنْ أهلِ السُّنَّةِ بأنَّ المتشابهَ: لا يعلمُ تأويلَه إلَاّ اللهُ، ظهورُ التَّأويلاتِ الباطلةِ منْ أهلِ البدعِ؛ كالجهميَّةِ، والقدريَّةِ من المعتزلةِ وغيرِهم، فصارَ أولئكَ يتكلمونَ في تأويلِ القرآنِ برأيهم
(1) هو الجُبَّائي.
(2)
ورد اسمه في كتاب المنية والأمل (ص:70)، وهو نفس المصدر: أبو حنيفة، وفي بداية الرواية: «رويَ أن أبا علي ناظر بعضهم في الإرجاء، وأبو خليفة الزبير حاضران، فقال أبو خليفة: إن أبا عمرو بن العلاء لقي عمرو بن عبيد
…
» القصة.
(3)
طبقات المعتزلة، للقاضي عبد الجبار (ص:293 - 294). من كتاب: فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، إخراج: فؤاد السيد.
(4)
قال في حديث الصادق المصدوق: «إنَّ أحدكم ليُجمع خلقُه في بطن أمِّه أربعين يوماً
…
» الحديث: «لو سمعت الأعمش يقول هذا، لكذَّبته، ولو سمعته من زيد بن وهب، لما صدَّقته، ولو سمعت ابن مسعود يقوله، ما قبلته، ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله يقول هذا، لقلت: ليس على هذا أخذت ميثاقنا» لسان الميزان (3:278). وله شنائع غير ذلك، أسأل الله السلامة.
(5)
درء تعارض العقل والنقل (1:12).
الفاسدِ، وهذا أصلٌ معروفٌ لأهل البدعِ: أنهم يفسرونَ القرآنَ برأيهم العقليِّ، وتأويلِهم اللُّغويِّ
…
» (1).
وقال الدَّارميُّ (ت:280) في ردِّه على بِشرٍ المِرِّيسيِّ (ت:219): «ونحنُ قد عرفنا ـ بحمد اللهِ ـ منْ لُغَاتِ العربِ هذه المجازاتِ التي اتخذتُمُوها دُلْسَةً وأغلوطةً على الجُهَّالِ، تنفونَ بها عن اللهِ تعالى حقائقَ الصِّفاتِ بِعِلَلِ المجازاتِ، غيرَ أنَّا نقولُ: لا يُحكَمُ للأغربِ منْ كلامِ العربِ على الأغلبِ، ولكنْ نصرفُ معانيها إلى الأغلبِ، حتى يأتوا ببرهانٍ أنه عَنَى بها الأغرب، وهذا هو المذهبُ الذي إلى الإنصافِ والعدلِ أقربُ، لا أنْ نعترضَ صفات اللهِ المعروفةَ المقبولةَ عندَ أهلِ البَصَرِ فنصرفَ معانيَهَا بِعِلَّةِ المجازاتِ إلى ما هو أنكرُ، وتُرَدُّ على الله بداحضِ الحججِ وبالتي هي أعوجِ» (2).
ومنِ اطَّلعَ ـ على سبيلِ المثالِ ـ على كتابِ (تلخيص البيانِ في مجازاتِ القرآنِ) للشَّريف الرَّضِيِّ (ت:406)(3)، وكتابِ (متشابهِ القرآنِ) للقاضي عبدِ الجبارِ الهمذانيِّ المعتزليِّ (ت:415) وكتاب (غرر الفوائدِ ودرر القلائد) المسمى: أمالي الشَّريفِ المُرْتَضَى (ت:436)، وغيرِها منْ تفاسيرِ المعتزلةِ = ظهرَ له أنَّ الأصلَ عند هؤلاءِ ما تقرَّرَ لهم في عقولِهم، وأنَّ النصوصَ تؤوَّلُ إذا خالفت أصلهُم العقليَّ.
ومن ذلكَ:
1 -
قولُ القاضي عبدِ الجبارِ (ت:415) ـ في التعليقِ على من أثبتَ الاستواءَ بقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ
(1) تفسير سورة الإخلاص (ص:201).
(2)
الرد على بشر المريسي (ص:197).
(3)
محمد بن الحسين العلوي الرافضي، نقيب الطالبيين في بغداد، كان شاعراً، عالماً بالأدب والنَّحو، وكان ذكيًّا سريع الخاطر، له كتاب مجازات القرآن، ومعاني القرآن توفي سنة (406)، ينظر: تاريخ بغداد (2:246 - 247)، وإنباه الرواة (3:114 - 115).
اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس: 3]ـ: «قد بينا أنَّ المرادَ بالاستواء: هو الاستيلاءُ والاقتدارُ، وبيَّنَا شواهدَ ذلك في اللُّغةِ والشِّعْرِ، وبيَّنا أنَّ القولَ إذا احتملَ هذا والاستواءَ الذي هو بمعنى الانتصاب، وجبَ حملُه عليه؛ لأنَّ العقلَ قد اقتضاه، منْ حيثُ دَلَّ على أنَّه تعالى قديمٌ
…
» (1).
2 -
وتجدُه في قولِه تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 101، 102] يذكرُ قولَ المخالفينَ له في أنَّ هذه الآيةِ تدلُّ على خَلْقِ أفعالِ العبادِ، ثُمَّ يجيبُ بقولِه: «والجوابُ عن ذلك: أنَّ ظاهرَ {وَخَلَقَ} يقتضي أنَّه قدَّر ودبَّر، ولا يُوجِب في اللغةِ أنَّه فعلَ ذلكَ وأحدثَهُ، ولذلك قالَ الشاعرُ (2):
ولأنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْـ
…
ـضُ القَومِ يَخْلُقُ ثُمَّ لا يَفْرِي
فأثبته خالقاً من حيثُ قدَّر ودبَّر، وإن لم يَفْرِ الأديمَ، ومتى حُمِلَ الكلامُ على هذا الوجهِ كانَ حقيقتُهُ: أنَّه تعالى، وإن لم يُحْدِثْ أفعالَ العبادِ فقدْ قدَّرها ودبَّرها، وبين أحوالها
…
» (3).
ثُمَّ ذكرَ أجوبةً أخرى غيرَه، ثمَّ عقَّبَ بقوله: «وبعد، فلو كانَ ظاهرُه يقتضي ما قالوه، لوجبَ بدلالةِ العقلِ صرفُه إلى ما ذكرناه؛ لأنه يختص بالحُسْنِ، ولأنه تعالى لا يجوزُ أنْ يكونَ خالقاً لِسَبِّ نفسِه وسوءِ الثَّناء عليه
…
» (4).
فتراه في هذا نفى دلالةَ لفظِ الخَلْقِ على الإبداعِ والتقديرِ والإحداثِ، الذي هو المعنى المرادُ هنا، وحملَ الآيةَ على المعنى الآخر من معانيه في
(1) متشابه القرآن (1:315)، وينظر:(1:72 - 75).
(2)
البيت لزهير، وهو في شرح ديوانه لثعلب، تحقيق: حنا نصر (ص:96).
(3)
متشابه القرآن (1:251 - 252).
(4)
متشابه القرآن (1:254).
اللُّغةِ؛ لأنه يوافقُ مذهبَه في أنَّ أفعالَ العبادِ غيرُ مخلوقةٍ للهِ. ثمَّ إنَّ هذا الظاهرَ من دلالةِ اللَّفظِ، لو صحَّ عنده، فإنه سيصرفُه عنْ ظاهرِهِ لأجل دلالةِ عقلِهِ.
3 -
وفي تفسيرِ قولِه تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]، قالَ الشَّريفُ المُرْتَضَى الرَّافِضِيُّ المعتزليُّ (ت:436) ـ بعدَ أن نفى دلالةَ ظاهرِ الآيةِ على خَلْقِ اللهِ لأفعالِ العبادِ ـ: «ولو لم يكنْ في الآيةِ شيءٌ مما ذكرناه مما يوجبُ العدولَ عنْ حَمْلِ قولِه: {وَمَا تَعْمَلُونَ} على خَلْقِ نفسِ الأعمالِ لوجبَ أن نَعْدِلَ بها عن ذلك، ونحملَها على ما ذكرناه بالأدلةِ العقليَّةِ الدَّالَّةِ على أنه تعالى لا يجوزُ أنْ يكونَ خالقاً لأعمالِنا، وإن تصرُّفَنا مُحْدَثٌ بنا، ولا فاعلَ له سِوَانا» (1).
4 -
وقالَ في موضعٍ آخرَ: «مسألةٌ: ما وردَ في القرآنِ منْ معاتباتِ الرسولِ عليه السلام مع عصمتِه وطهارتِه، وكونه الحجةُ على الخلقِ أجمعينَ.
الجوابُ: أنه إذا ثبتَ بالدليلِ عصمةُ الأنبياءِ عليهم السلام (2) فكلُّ ما وردَ في القرآنِ مما له ظاهرٌ ينافي العِصْمَةَ، ويقتضي وقوعَ الخطأ منهم، فلا بدَّ من صرفِ الكلامِ عن ظاهرِه، وحملِه على ما يليقُ بأدلةِ العقولِ؛ لأنَّ الكلامَ يدخلُه الحقيقةُ والمجاز، ويعدِلُ المتكلمُ به عن ظاهرِه، وأدلةُ العقولِ لا يصحُّ فيها ذلك، ألا ترى أنَّ القرآنَ قد ورد بما لا يجوزُ على الله تعالى من الحركةِ والانتقالِ؛ كقوله تعالى:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]، وقولِه
(1) غرر الفوائد ودرر القلائد، المعروف بأمالي الشريف المرتضى (2:240).
(2)
الدليل عنده هو العقل، فقد قال في موضع آخر (1:477): «إذا ثبت بأدلة العقول التي لا يدخلها الاحتمال والمجاز ووجوه التأويلات: أنَّ المعاصي لا تجوز على الأنبياء عليهم السلام، صرفنا كل ما ورد ظاهره بخلاف ذلك في كتاب وسنة إلى ما يطابق الأدلة ويوافقها، كما نفعل مثل ذلك فيما يَرِدُ ظاهره مخالفاً لما تدلُّ عليه العقول من صفاته تعالى، وما يجوز عليه، أو لا يجوز» .
تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَاّ أَنْ يَاتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} [البقرة: 210]. ولا بدَّ ـ مع وضوحِ الأدلةِ على أنَّ الله تعالى ليس بجسمٍ، واستحالةِ الانتقالِ عليه، الذي لا يجوزُ إلَاّ على الأجسامِ ـ من تأوُّلِ هذه الظواهرِ والعدولِ عما يقتضيه صريحُ ألفاظِها؛ قَرُبَ التأويلُ أو بَعُدَ» (1).
إذاً، فالمسألةُ عندَ هؤلاءِ مبنيةٌ على دلالةِ العقلِ، ولا حُجَّةَ في اللُّغةِ إذا دلَّت على ما يخالفُ مذهبَهم.
وقد ظَهَرَ انحرافُ المبتدعةِ في التَّفسيرِ اللُّغويِّ في ثلاثةِ أمورٍ، هي:
1 -
ما يتعلقُ باللهِ تعالى وصفاتِه.
2 -
ما يتعلقُ ببعضِ المغيباتِ؛ كبعضِ أمورِ الآخرةِ، وما نُسِبَ للمخلوقاتِ الغيبيةِ والجماداتِ منْ إحساسٍ أو غيرِه من الأمورِ التي وُصِفَ بها العقلاءُ.
3 -
ما يتعلقُ بعصمةِ الأنبياءِ عليهم الصلاةُ والسلامُ.
وقدْ كانتْ آلَتُهُمُ اللُّغويةُ في إثباتِ بدعتِهم دلالةَ الألفاظِ، وأساليبَ الخطابِ، ودلالةَ الصيغِ، وقد طوَّعُوا اللُّغةَ لهم، حتى كأنَّها لا تخدمُ إلَاّ مذهبَهم، وإنْ لم يجدوا في قريبِ اللُّغةِ ومُتبَادرها ما يسعفُهم، عَمَدُوا إلى غريبها وشاذِّها لإثباتِ بدعتِهم، والتَّدليلِ بها على صِحَّةِ ما ذهبوا إليه.
أمَّا ما يتعلق بالألفاظ، فإن كان للَّفظِ أكثرُ من مدلولٍ أخذوا بما يوافقُ مذهبَهم، وإنْ لم يسعفْهم في ذلك السِّياق والمعنى.
فإن لم يجدوا في اللَّفظِ دلالات متعددةً، حَرَفُوه إلى مدلولِ ما يشابهه في الرَّسم، وإن خالفه في المعنى، فإن لم يجدوا ذلك، أحدثوا له دلالة غيرَ معروفةٍ في لغةِ العربِ.
(1) أمالي الشريف المرتضى (2:399)، وفي كلامه مخالفات ظاهرة لا تخفى على ذي علم بمذهب السلف الصالح من أهل السنة والجماعة.
وأمَّا ما يتعلق بالأساليب، فإنها كثيرة، ومنها: المجاز، والحذف والإضمار، والكناية، وغيرها.
وأمَّا ما يتعلقُ بدلالةِ الصيغِ، فمنها دلالةُ صيغةِ (أَفْعَل).
وقد يدَّعون في المثالِ الواحدِ: تَعَدُّدَ الدلالةِ، والمجازِ، وغيرِها؛ أي: أنهم يستدلونَ لمذهبِهم بأكثرَ من دليلٍ لغويٍّ، بزعمِهِمْ، وسأذكرُ أمثلةً لهذه الأمورِ التي أوردتها:
الأول: دلالةُ الألفاظِ:
لهم في دلالةِ الألفاظِ ثلاثةُ تدرجاتٍ، وهي:
أولاً: أنْ يكونَ للَّفظِ في لغةِ العربِ أكثرُ من استعمالٍ؛ كاليدِ، تطلقُ على: اليدِ الجارحةِ، والنعمةِ، والقدرةِ، والنُّصرَةِ، فيختارونَ منها ما يوافقُ مذهبَهم المقرَّرَ عندَهم، ولا ينظرونَ إلى صحةِ إطلاقِه في هذا السِّياقِ من عدمِه، بل يتمحَّلونَ له أيَّما تمحُّل، مكتفين في ذلك التَّفسيرِ بهذا الورودِ عن العربِ.
ومن أمثلتِه ما يأتي:
1 -
ذَكَرَ ابنُ قتيبةَ (ت:276) عنْ بعضِ المؤولة الذين فسَّروا القرآن بأعجبِ تفسيرٍ، يريدون رَدَّهُ إلى مذاهبِهم، وحَمْلَ التأويلِ على نِحَلِهم = بعضَ الأمثلةِ، ومنها: «وقالوا في قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء: 125]؛ أي: فقيراً (1)، وجعلوه من الخَلَّةِ ـ بفتحِ الخاءِ ـ استيحاشاً منْ أن يكونَ اللهُ تعالى خليلاً لأحدٍ منْ خلقِهِ، واحتجوا بقولِ زُهَيرٍ (2):
وإِنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَومَ مَسْأَلَةٍ،
…
يَقُولُ: لا غَائبٌ مَالِي ولا حَرِمُ
(1) جوَّز الزجاج هذا التفسير في معانيه (2:112 - 113)، وذكره المرتضى في أماليه (2:185).
(2)
البيت في ديوانه، تحقيق: حنا نصر (ص:192).
أي: إن أتاه فقيرٌ» (1).
والخُلَّةُ: كمالُ المحبةِ التي لا خللَ فيها، وهي المرادةُ هنا، أمَّا الخَلَّةُ بمعنى: الفقرِ، فلا محلَّ لها في هذا الآية.
وإنما ذهبوا لذلك؛ لأنه تقرَّرَ عندهم في عقولِهم التي هي الحَكَمُ على ألفاظِ الشَّرْعِ، أنَّ الباريَ سبحانَهُ منزَّهٌ عن هذه الصفاتِ التي تدلُّ على الحدوثِ، بزعمهم، فلما كان هذا ثابتاً عندهم، تأوَّلوا هذا اللفظَ على ذلك المعنى فِرَاراً من إثباتِ ما أثبتَهُ اللهُ لنفسِه، وأكرمَ به نبيَّهُ إبراهيمَ عليه السلام.
2 -
وفي قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، فسَّروا اليدين بأنهما: نِعْمَتَاهُ، قال القاضي عبدُ الجبَّارِ (ت:415): «والمرادُ بذلك: أنَّ نعمتيه مبسوطتانِ على العبادِ، وأراد به نعمةَ الدينِ والدنيا، والنَّعمةَ الظاهرةَ والنَّعمةَ الباطنةَ، وقد يُعبَّرُ باليَدِ عن النِّعمةِ، فيقالُ: لفلانٍ عندي يدٌ وأيادٍ ويدٌ جسيمةٌ» (2).
وإنَّما دعاهُ إلى ذلك تنْزيهُ اللهِ عنِ الجِسْمِيَّةِ (3)، بزعمِهِ، وساعدَه في ذلك سَعَةُ إطلاق اليدِ في العربيَّةِ على معانٍ، منها ما ذَكَرَهُ.
وقدْ رَدَّ هذا التأويلَ الذي يذهبُ باللَّفظِ إلى غيرِ حقيقتِهِ أعلامُ السُّنَّةِ؛
(1) تأويل مختلف الحديث (ص:83)، وقد قال معقِّباً:«فأية فضيلة في هذا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم؟ أما تعلمون أن الناس جميعاً فقراء إلى الله تعالى، وهل إبراهيم في «خليل الله» إلَاّ كما قيل: موسى كليم الله، وعيسى روح الله». وينظر: الاختلاف في اللفظ (ص:36).
(2)
متشابه القرآن (1:231)، وينظر تأويل بشر المريسي في الرد عليه للدارمي (ص:38، 39). وعلى هذا سار جمهور المؤوِّلة من معتزلة وأشاعرة وغيرهم. وقد نقد الزمخشري ـ وهو معتزلي ـ هذا التأويل، فقال:«والتفسير بالنعمة، والتمحُّلُ للتثنية من ضيق العطن، والمسافرة عن علم البيان مسيرة أعوام» . الكشاف (2:530)، واللفظة لم تسلم عنده، بل جعلها من المجاز، ولا ثَمَّ حقيقة، وينظر:(1:628).
(3)
هذا اللفظ من ألفاظ المبتدعة لتشنيع القول بالصفات الإلهية، وإلَاّ فأهل الحقِّ لا يجيزون مثل هذا الوصف ولا يقولون إلَاّ بالوارد عن الشارع.
كالدَّارمِيِّ (ت:280) الذي قالَ: «قد عَلِمتَ أيها المريسي أنَّ هذه تفاسيرُ مقلوبةٌ، خارجةٌ عن كُلِّ معقولٍ، لا يعقِلُهُ إلَاّ كلُّ جهولٍ. فإذا ادَّعَيتَ: أن اليَدَ قد عُرِفتْ في كلامِ العربِ أنها نعمةٌ وقُوَّةٌ. قلنا لكَ: أجلْ، ولسنا بتفسيرِها منك أجهلَ، غيرَ أنَّ تفسيرَ ذلك يستبينُ في سياقِ كلامِ المتكلمِ حتى لا يحتاجُ له من مثلِكِ إلى تفسيرٍ.
إذا قالَ الرَّجُلُ: لفلانٍ عندي يَدٌ أكافئه عليها. عَلِمَ كُلُّ عالمٍ بالكلامِ أنَّ يَدَ فلانٍ ليستْ ببائنةٍ منه موضوعةً عند المتكلمِ، وإنما يرادُ بها النِّعْمَةُ التي يشكرُ عليها.
وكذلكَ إذا قالَ: فلان له يدٌ أو عَضُدٌ أو ناصرٌ، عَلِمْنَا أنَّ فلاناً لا يمكنُه أنْ يكونَ نفسَ يَدِهِ عُضْوُهُ أو عَضُدُهُ، فإنما عَنَى به النُّصْرَةَ والمعونة والتَّقويةَ.
فإذا قالَ: ضربني فلانٌ بيدِهِ، وأعطاني الشَّيءَ بيدِه، وكتبَ لي بيدِهِ، استحالَ أنْ يقالَ: ضربني بنعمتِهِ. وعَلِمَ كُلُّ عالمٍ بالكلامِ أنها اليَدُ التي بها يضربُ، وبها يكتبُ، وبها يُعْطِي، لا النِّعمةُ
…
ولا يجوزُ لك أيها المريسي أن تَنْفِيَ اليَدَ التي هي اليَدُ، لما أنَّه وُجِدَ في كلامِ العربِ أنَّ اليَدَ قدْ تكونُ نعمةً وقوَّةً» (1).
3 -
وفي قولِه تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، حُكِيَ عن بعضِ المعتزلةِ أنَّه منَ الكلْمِ، ويكون المعنى:«وجَرَّح اللهُ موسى بأظافرِ المِحَنِ ومخالبِ الفتنِ» (2).
وإنما جَعَلَ هذا المحرِّفُ اللَّفظ من مادة الكَلْمِ لا الكلامِ، هروباً من
(1) الرد على بشر المريسي (ص:39).
(2)
ينظر: الكشاف، وحاشية ابن المنير (1:582)، والتفسير الكبير، للرازي (11:87)، ونسبه ابن القيم إلى الجهمية، ينظر: الصواعق المرسلة (1:217).
إثباتِ صفةِ الكلامِ للهِ سبحانَهُ، وقدْ قالَ عنه الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزليُّ (ت:538): «ومنْ بِدَعِ التفاسيرِ: أنه من الكَلْمِ، وأن معناه: وجَرَّحَ اللهُ موسى بأظفارِ المِحَنِ ومخالبِ الفِتَنِ» (1).
4 -
وفي قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24]، أخرجَ قومٌ هَمَّ يوسف عليه السلام إلى غرائب لا يَقْبَلُهَا سياقُ الآية، وما حَمَلَهُمْ على ذلكَ إلَاّ دعوى العِصْمَةِ التي أثبتوا أمورَها بعقولِهم، فأوَّلوا كلَّ ما يخالفُ ما قرَّروه مما أثبته الله عليهم، فقال بعضُهم: هَمَّ بالفرارِ منها، وقال بعضُهم: همَّ بضربها، وَحَمَلَهُ آخرونَ على التَّقديمِ والتَّأخيرِ، وقالوا: لم يَهِمَّ أصلاً؛ لأنَّ المعنى: لولا أنْ رأى برهانَ ربه لهمَّ بها.
وقدْ أشارَ ابنُ قتيبةَ (ت:276) إلى أصحابِ هذه التَّأويلاتِ الغريبةِ، فقال:«يستوحشُ كثيرٌ من النَّاسِ منْ أنْ يُلحِقُوا بالأنبياءِ ذُنُوباً، ويحمِلُهُم التَّنْزِيهُ لهم صلواتُ اللهِ عليهم على مخالفةِ كتاب اللهِ جَلَّ ذِكْرُهُ، واستكرَاهِ التَّأويلِ، وعلى أن يَلْتَمِسُوا لألفاظِهِ المخارجَ البعيدةَ بالحِيَلِ الضعيفةِ التي لا تُخِيلُ عليهم أو على من عَلِمَ منهم أنها ليستْ لتلك الألفاظِ بشَكْلٍ، ولا لتلكَ المعانِي بِلفْقٍ» (2).
وقدْ نصَّ على قاعدةِ المبتدعةِ في التَّأوِيلِ في مسألةِ العصمةِ الشَّريفُ المُرْتَضَى (ت:436)، فقالَ: «إذا ثبتَ بأدلَّةِ العقولِ التي لا يدخلُها الاحتمالُ والمجازُ ووجوهُ التَّأويلاتِ: أنَّ المعاصي لا تجوزُ على الأنبياءِ عليهم السلام، صَرَفْنَا كُلَّ ما وردَ ظاهرُهُ بخلافِ ذلك منْ كتابٍ أو سُنَّةٍ إلى ما يطابقُ الأدلَّةَ ويوافقُها
…
» (3).
(1) الكشاف (1:582). ونقده هذا لا يعني أنه يُثبتُ صفة الكلامِ، بل ينفيها، لكنه لم يرتضِ هذا التأويل الاعتزاليَّ.
(2)
تأويل مشكل القرآن (ص:402)، اللِّفق: الملاءمة.
(3)
أمالي المرتضى (1:477).
وهذا الذي ذهبَ إليه غيرُ سديدٍ، بلِ القاعدةُ في ذلك أنْ يُثْبَتَ ما أثبتَهُ اللهُ، فلا يُخَالَفُ ذلكَ بسببِ أدلَّةِ العقولِ التي يزعمها المبتدعةُ، وهي أدلة لا ثباتَ فيها، ولا اتفاق، والله أعلم.
وليسَ في وقوعِ الهَمِّ منه عليه السلام ما يوجبُ التَّشْنِيعَ عليه في نُبُوَّتِهِ ولا أنَّ في ذلك خَلَلاً منه، بلْ كانَ ذلكَ منه حَسْبَ الطبيعةِ البشريَّةِ التي هي جُزْءٌ منَ النَّبيِ صلى الله عليه وسلم لا تنفكُّ عنه، ولكنَّ الله عَصَمَهُ منَ الوقوعِ في المعصيةِ، لا مِنَ الهَمِّ بها (1).
والحديثُ في هذه الآيةِ يَطُولُ، ويكفي ذِكْرُ بعضِ أقوالِ أهلِ العلمِ في ردِّ مثلِ هذه التأويلاتِ، فمنْ ذلكَ قولُ أبي عبيدِ (ت:224): «وقدْ زَعَمَ منْ يَتَكَلَّمُ في القرآن برأيه أنَّ يوسفَ صلى الله عليه وسلم لم يَهِمَّ بِها، يذهبُ إلى أنَّ الكلامَ انقطعَ عند قوله:{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} ، قال: ثمَّ استأنفَ فقال: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} ، بمعنى: لولا أنْ رَأَى برهانَ ربِّهِ لَهَمَّ بها، واحتجَّ بقوله: {ذَلِكَ
(1) مفهوم العصمةِ من الأمورِ الشَّائكةِ التي خاضت فيها عقولُ المتكلِّمينَ، ولما لم يكن من قواعدهم الأخذُ بالنصوصِ، فأنَّهم قرَّروا مفهوماً للعِصمةِ، ثمَّ حكَّموه في النصوصِ، فما خالفَ مفهومها عندهم ردُّوه أو تأوَّلوه، وقد سبق نقل قول الشريف المرتضى، وفيه ما يدلُّ على ما ذكرتُ.
والصوابُ في هذا الموضوع وغيره مما يتعلَّقُ بأخبار الأنبياءِ وأحوالِهم أن تُستنطقَ النُّصوصُ الشرعيَّةُ، فيُثبتُ ما أثبتته فلا يُرَدَّ، ويُنفى ما نفتْهُ فلا يُثبتُ.
وإذا تأمَّلتَ حالَ النَّبي صلى الله عليه وسلم، ظهرَ لك أنَّه معصومٌ في التَّبليغِ، إذ لم يردْ البتَّة أنَّ الله أمرَه بأمرٍ، فقال لأمتِه خلاف ما أمره الله، كما يظهرُ لك أنَّ اللهَ لا يُقرُّه على ما يقع منه من الخطأ، وهذا ظاهرٌ في معاتبات الله له.
كما أنَّك تجدُ الله يقولُ: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ *الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح: 2، 3]، ويقول:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِيناً} {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [الفتح: 1، 2]. فلا يصحُّ بحالٍ أنْ تنفيَ ما أثبتَه اللهُ، وإنْ ذهبتَ تتمحَّلُ في التأويلِ، فلا فرقَ بينكَ وبينَ من يعتقدُ الرأي، ثم يستدلُّ له، ويحكِّمُه على ظاهر النصوص. وهذا الموضوع يحتاجُ بسطاً أكثرَ من هذا، وليس هذا محلُّه، والله الموفِّقُ، والهادي إلى سواءِ السبيلِ.
لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} [يوسف: 52]، وبقوله:{وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} [يوسف: 25]. وابنُ عباسٍ ومنْ دونَهُ لا يختلفونَ في أنَّه هَمَّ بها، وهُم أعلمُ باللهَ، وبتأويلِ كتابِهِ، وأشدُّ تعظيماً للأنبياءِ، منْ أنْ يتكلَّمُوا فيهم بغيرِ علمٍ» (1).
وقالَ أبو جعفرَ النَّحَّاسُ (ت:338): «وكلامُ أبي عبيدٍ هذا كلامٌ حَسَنٌ بيِّنٌ لمنْ لَمْ يَمِلْ إلى الهَوَى
…
» (2).
وقال أبو بكرٍ بنِ الأنباريِّ (ت:328): «والذي نذهبُ إليه ما أجمعَ عليه أصحابُ الحديثِ وأهلِ العلمِ، وَصَحَّتْ به الروايةُ عن عليِّ بن أبي طالبٍ رضوانُ اللهِ عليه، وابنِ عباس رحمه الله، وسعيدِ بنِ جبيرٍ، وعكرمةَ، والحسنِ، وأبي صالحٍ، ومحمدِ بنِ كعبٍ القُرَظَيِّ، وقتادةَ، وغيرِهم، منْ أنَّ يوسفَ عليه السلام هَمَّ هَمًّا صحيحاً على ما نَصَّ اللهُ عليه في كتابِهِ، فيكونُ الهَمُّ خطيئةً من الخطايا وقعت من يوسف عليه السلام كما وقعتِ الخطايا من غيرِه منَ الأنبياءِ.
ولا وَجْهَ لأنْ نُؤَخِّرَ ما قَدَّمَ اللهُ، ونُقَدِّمَ ما أخَّرَ الله، فيقالُ: معنى: وَهَمَّ بها: التأخيرُ مَعَهُ (3) قولُ اللهِ عز وجل: {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} ، إذ كانَ الواجبُ علينا واللازمُ لنا أنْ نَحْمِلَ القرآنَ على لفظِهِ، وألَاّ نُزِيلَهُ عنْ نَظْمِهِ، إذا لم تَدْعُنَا إلى ذلكَ ضَرُورَةٌ، وما دَعَتْنَا إليه في هذه الآيةِ ضَرُورَةٌ.
فإذا حَمَلْنَا الآيةَ على ظاهرِها ونَظْمِهَا كانَ {وَهَمَّ بِهَا} معطوفاً على {هَمَّتْ بِهِ} و {لَوْلَا} حرفٌ مبتدأٌ، جوابُهُ محذوفٌ بعدَهُ، يُرادُ به: لولا أنْ رأى برهانَ ربِّه لَزَنَا بها بعد الهَمِّ، فلمَّا رأى البرهانَ زَالَ الهَمُّ وَوَقَعَ الانصرافُ عنِ العَزْمِ.
(1) معاني القرآن، للنحاس (3:413).
(2)
معاني القرآن، للنحاس (3:413)، ولكلامه تتمة.
(3)
قال محقق الكتاب محمد أبو الفضل إبراهيم: «كذا في الأصل، ولعلَّ الصواب: عن» .
ينظر: الأضداد، لابن الأنباري (ص:413).
وقدْ خبَّرَ اللهُ جَلَّ وعَزَّ عنْ أنبيائِهِ بالمعاصي التي غفرَهَا وتجاوزَ عنهم فيها، فقالَ تبارك وتعالى:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121]، وقال لِنَبِيِّه محمدٍ عليه السلام:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ *وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ *الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح: 1 - 3]، وخبَّر بمثلِ هذا عنْ يُونُسَ وَدَاوُدَ عليهما السلام، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما من نبي إلَاّ قد عصى الله، إلَاّ يحيى بن زكريا (1).
وقال أبو عبيدٍ: قال الحسنُ: إنَّ الله جلَّ وعزَّ لم يقصصْ عليكم ذنوبَ الأنبياء تعييراً منه لهم، ولكنه قصَّها عليكم لئلا تقنطوا من رحمتِه.
قال أبو عبيدٍ: يذهبُ الحسنُ إلى أنَّ الحُجَجَ من اللهِ جلَّ وعزَّ على أنبيائه أوكدُ، ولهم ألزمُ، فإذا قَبِلَ التوبةَ منهم، كان إلى قبولِها منكم أسرعُ.
وإلى مذهبِنا هذا كان يذهبُ علماءِ اللُّغةِ: الفرَّاءُ، وأبو عبيدٍ، وغيرُهما» (2).
ثانياً: إنْ لم يُسْعِفْهُمْ في اللَّفظِ تعدُّدُ استعمالِه، عَمَدُوا إلى تفسيرِه
(1) أخرج هذا الأثر جماعة من أهل العلم، منهم: الطبري في تفسيره، تحقيق: شاكر (6:377، 378)، وابن أبي حاتم في تفسيره، تحقيق: أسعد الطيب (2:643)، وقال ابن كثير ـ بعد ذكر الأثر عن عبد الله بن عمرو ـ:«فهذا موقوف، وهو أقوى إسناداً من المرفوع، بل وفي صحة المرفوع نظر، والله سبحانه وتعالى أعلم» . تفسير القرآن العظيم، تحقيق: السلامة (2:38).
(2)
الأضداد، لابن الأنباري (ص:412 - 414).
وينظر: الوسيط، للواحدي (2:608)، فقد نقل كلام ابن الأنباري، وفيه عبارات أخرى، ولعل الواحديَّ نقل عنه من غير كتاب الأضداد؛ ككتابه في مشكل القرآن الذي ردَّ به على كتاب ابن قتيبة: تأويل مشكل القرآن، والله أعلم.
والعجيب أنَّ محققي تفسير الواحدي ردُّوا الوارد عن السلف وجعلوه من الباطل الذي يجب تنْزيه الكتب منه، وأنه من الرفث، ولم يقدموا برهاناً علمياً على قولهم سوى أنه منافٍ للعصمة الثابتة بالدلائل القطعية، ولم يبينوا هذه الدلائل القطعية، وردُّهم هذا عاطفيُّ خطابيُّ، والحقائق والمناقشات العلمية لا تردُّ بهذا الأسلوب، والله المستعان.
بمدلولِ لفظٍ يشابهه في الرَّسمِ، وإنْ اختلفَ عنه في الحركاتِ، التي ينتجُ عنها اختلافُ المدلولِ، وهذه الطَّريقةُ قليلةٌ، ولكَّنها واردةٌ في بعضِ الأمثلةِ، ومنها:
1 -
في قوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] قالوا: «أي: بَشِمَ منْ أَكْلِ الشَّجرةِ، وذهبوا إلى قَولِ العربِ: غَوِيَ الفَصِيلُ: إذا أكثرَ منَ اللَّبَنِ حتى يَبْشَمَ» (1).
فانظرْ، كيفَ حرَّفوا اللفظَ، وجعلوه من غَوِيَ، ونَصُّ القرآنِ «غَوَى» ؟!
وإنما دعاهم إلى هذا التَّحريفِ مفهومُ العِصْمَةِ عندهم، وأنَّ النَّبِيَّ لا يجوزُ عليه الخطأُ، وقد يكونُ هذا القولُ بالعصمةِ مبنيًّا على مسألةِ أصحابِ الكبائرِ والقولِ بتخليدِهم في النَّارِ عندَ المعتزلةِ، فيحرِّفون أيَّ نصٍّ وردَ فيه خطأٌ من نبيٍّ؛ لئلَاّ يَخْرِمُوا ما قرَّرُوهُ في هذا المبدأ، فَيُخَرِّجُونَ أخطاءَ الأنبياءِ بأسمجِ التَّخْرِيجَاتِ؛ كهذا التخريجِ.
ولو وجدوا أيضاً في «عَصَى» مثلَ هذا السَّنَنِ لَرَكِبُوه، وليسَ في «غَوَى» شيءٌ إلَاّ ما في «عَصَى» منْ معنى الذَّنْبِ؛ لأنَّ العاصي للهِ التَّاركِ لأمرِهِ غاوٍ في حالِهِ تلكَ، والغاوي: عاصٍ. والغَيُّ ضِدُّ الرَّشَدِ، كما المعصيةُ ضِدُّ الطاعةِ (2).
قالَ ابنُ قتيبةَ (ت:276): «وقدْ أكلَ آدمُ صلى الله عليه وسلم منَ الشَّجرةِ التي نُهِيَ عنها، باستزلالِ إبليسَ وخدائعِهِ إياه باللهِ، والقَسَمِ به إنه لمنَ النَّاصحينَ، حتى دَلَاّه بغرورٍ. ولم يكنْ ذنبُهُ عن إرصادٍ وعداوةٍ وإرهاصٍ كذنوبِ أعداءِ اللهِ.
(1) ينظر: تأويل مشكل القرآن (ص:402)، والاختلاف في اللفظ (ص:36). وقد جعله الكرماني في كتابه «غرائب التفسير» من العجيب الذي فيه أدنى خلل ونظر (1:731).
(2)
ينظر: تأويل مشكل القرآن (ص:403).
فنحن نقولُ: عصى وغَوَى، كما قالَ اللهُ تعالى، ولا نقولُ: آدمُ عاصٍ وغاوٍ؛ لأن ذلك لم يكنْ عن اعتقادٍ مُقَدَّمٍ ولا نيَّةٍ صحيحةٍ.
كما تقولُ لرجلٍ قَطَعَ ثَوباً وخَاطَهُ: قدْ قَطَعَهُ وَخَاطَهُ، ولا تقلْ: خائطٌ ولا خَيَّاطٌ، حتى يكونَ مُعَاوِداً لذلكَ الفعلِ، معروفاً به» (1).
2 -
وفي تفسيرِ لفظِ الصُّورِ في مثلِ قولِه تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الكهف: 99].
قالوا: الصُّورُ: جمعُ صُورَةٍ (2).
وهذا فيه إنكارٌ لتفسيرِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم الذي فَسَّرَ الصُّورَ بأنه: البوقُ الذي يَنْفُخُ فيه إسرافيل عليه السلام، كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في عدَّةِ أحاديثَ رواها عنه أهل الحديث (3).
وإذا عورضَ حديثُ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم، ودلالاتُ الشَّرعِ التي جاء بها، رُدَّ هذا الاعتراضُ ولمْ يُقبلْ، كائناً من كانَ قائلُه.
(1) تأويل مشكل القرآن (ص:403).
(2)
قال بهذا التفسير أبو عبيدة في مجاز القرآن (1:416)، قال:«واحدتها: صورة، خرجت مخرج سورة المدينة، والجميع: سور المدينة» . وقد ردَّ عليه أبو الهيثم اللغوي هذا التأويل، فقال:«وكأن أبا عبيدة أراد أن يؤيد قوله في الصور: أنه جمع صورة، فأخطأ في الصُّور والسُّور، وحرَّف كلام العرب عن صيغته، وأدخل فيه ما ليس منه؛ خذلاناً من الله لتكذيبه بأن الصور: قرن خلقه الله للنفخ فيه حتى يُمِيتَ الخلق بالنفخة الأولى، ثَمَّ يحييهم بالنفخة الثانية، والله حسيبه» تهذيب اللغة (13:50). وله بقية في الردِّ فيها طول، وهي تتعلق بتصريف اللفظتين وبيان عدم اتفاقهما، وهي قبل هذا النقل.
(3)
ينظر: مسند الإمام أحمد (2:192، 326)، وسنن أبي داود (4:326)، وسنن الترمذي (برقم: 2431)، ومستدرك الحاكم (4:560)، وقد قال ابن كثير عن روايةٍ عند الإمام أحمد في المسند (1:326): «وقد روي هذا من غير وجه، وهو حديث جيدٌ» . تفسير القرآن العظيم، تحقيق: السلامة (2:171).
والأصلُ في ذلك: أنه إذا ثبتَ النَّصُّ، طاحَ ما دونَه، فلا يُحكمُ باللغةِ على اصطلاحِ الشَّريعةِ.
قال أبو الهيثم (1): «اعترضَ قومٌ فأنكروا أنْ يكونَ الصُّورُ قَرْناً، كما أنكروا العَرْشَ والميزانَ والصِّراط (2): وادَّعوا أنَّ الصُّورَ: جمعُ الصُّورَةِ (3)، كما أن الصُّوفَ جمعُ الصُّوفَةِ، والثُّومَ جمعُ الثُّومَةِ، ورَوَوا ذلكَ عنْ أبي عُبَيدَةَ.
قالَ أبو الهيثمِ: وهذا خَطأٌ وتحريفٌ لكَلِمِ الله عن مواضِعِها؛ لأنَّ الله جلَّ وعزَّ قال: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64] بفتْح الواوِ، ولا نعلمُ أحداً من القُرَّاءِ قرأها: فأحسنَ صُورَكم. وكذلك قال الله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الكهف: 99، وغيرها] فمنْ قَرَأها: ونُفِخَ فِي الصُّوَرِ، أو قرأ: فأحسن صُوْرَكم، فقدِ افترى الكذبَ وبَدَّلَ كتابَ اللهِ، وكانَ أبو عبيدةَ صاحبَ أخبارٍ وغريبٍ، ولم يكنْ له معرفةٌ بالنَّحْوِ» (4).
(1) اشتهر أبو الهيثم بكنيته، وكان عالماً بالعربية، دقيق النظر، وكان ورعاً، صاحب سنة، لازمه المنذري، وقرأ عليه الكتبَ، وله مؤلفات منها: زيادات معاني القرآن للفراء، توفي سنة (226). ينظر: نزهة الألباء (ص:118)، وإنباه الرواة (4:188).
(2)
قال الإمام أبو علي الحسن بن أحمد البنَّا الحنبلي: «وأما القدرية والمعتزلة وأنواعهم، فينكرون الصراط والميزان والكرسي ..» . ينظر كتابه: المختار في أصول السنة، تحقيق: عبد الرزاق البدر (ص:87).
(3)
ممن قال بذلك: أبو القاسم عبد الله بن أحمد البلخي المعتزلي (319)، كما ذكر عنه ابن الوزير المغربي في كتابه «المصابيح في تفسير القرآن» عند قوله تعالى:{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} [الأنعام: 73]، وقد ردَّ عليه، فقال:«وأخطأ إنما جمع صورة صورة [كذا] والصور: القرن الذي ينفخ فيه المَلَكُ، فيكون فيه الصوت الذي يصعق أهل السموات والأرض» . مخطوط المصابيح في تفسير القرآن (آية: 73 من سورة الأنعام/ورقة 104أ).
(4)
تهذيب اللغة (12/ 228). وقد عقَّب الأزهري، فقال: «قد احتجَّ أبو الهيثم فأحسن الاحتجاج، ولا يجوز عندي غير ما ذهب إليه، وهو قول أهل السنة والجماعة، والدليل على صحة ما قالوا: أنَّ الله ـ جلَّ وعزَّ ـ ذكر تصوير الخلق في الأرحام قبل =
في هذا المثالِ تراهم جعلوا الصُّورَ جمعاً مُفْرَدُهُ الصُّورَةُ، والصحيحُ أنه اسمٌ مفردٌ للقَرْنِ الذي يُنْفَخُ فيه، لا جمعاً للصُّورةِ التي يأتي جمعُها متحرِّكَ الواوِ، فيقالُ: الصُّوَر.
ثُمَّ لو صَحَّ أنَّ الصُّوْرَ جمعُ صُورَةٍ، وأنَّ فتحَ الواوِ فيه سُهِّل إلى السُّكُونِ، فإنَّ ذلك مخالفٌ لمعناهُ المرادِ في النُّصُوصِ، ولذا لا يصحُّ حَمْلُ هذا المعنى على هذه الآياتِ الواردةِ في الصُّورِ، والله أعلم.
3 -
في قوله تعالى: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] ذُكِرَ تفسيرٌ عجيبٌ فيه تحريفٌ للفظِ {نَاظِرَةٌ} ، قالَ الشَّرِيفُ المُرْتَضَى (ت:436): «وهاهنا وجهٌ غريبٌ في الآيةِ ـ حُكِيَ عنْ بعضِ المتأخرينَ (1) ـ لا يفتقرُ مُعْتَمِدُهُ عنِ العدولِ عنِ الظاهرِ، أو إلى تقديرِ محذوف، ولا يحتاجُ إلى منازعتِهم في أنَّ النَّظَرَ يحتملُ الرؤيةَ أو لا يحتملُها، بلْ يَصِحُّ الاعتمادُ عليه، سواءٌ كانَ النَّظَرُ المذكورُ في الآيةِ هو الانتظارُ بالقلبِ، أو الرؤيةُ بالعينِ، وهو أنْ يُحْمَلَ قولُه تعالى:{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} على أنَّه أرادَ به: نِعْمَةَ رَبِّهَا؛ لأنَّ الآلاءَ النِّعَمُ، وفي واحدِها أربعُ لغاتٍ: ألَا، مثلُ: قَفَا، وأَلْيٌ، مثلُ: رَمْيٌ، وإلَىً، مثلُ: مِعَىً، وإِلْيٌ، مثلُ: حِسْيٌ، قال أعشى بكرِ بنِ وائلٍ (2):
= نفخ الروح، وكانوا ـ قبل أن صوَّركم ـ نُطَفاً، ثمَّ علقاً، ثم مُضَغاً، ثمَّ صوَّرهم تصويراً.
فأما البعث، فإنَّ الله ـ جلَّ وعزَّ ـ ينشئهم كيف يشاء، ومن ادَّعى أنه يصوِّرهم، ثمَّ ينفخ فيهم، فعليه البيان، ونعوذ بالله من الخذلان» تهذيب اللغة (12:229).
(1)
ورد في حاشيةَ نسختين من مخطوط الأمالي أن القائل: الصاحب بن عباد، ينظر (1:36 - 37، حاشية6)، وقد راجعت كتاب المحيط في اللغة، للصاحب في مادة (نظر)، ولم يذكر هذا التأويلَ، وإنما ذكر تأويل قوله تعالى:{وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} [آل عمران: 77]، قال:«أي: لا يرحمهم» . وفي مادة (إلى) أورد أنْ معنى الإلى: النعمة، وجمعه الإلاء والآلاء، ولم أجد هذا التأويل، والله أعلم بصحةِ نسبته إليه.
(2)
البيت في ديوانه، تحقيق حنا نصر (ص:267).
أبْيَضٌ، لا يَرْهَبُ الهُزَالَ، وَلا
…
يَقْطَعُ رَحِماً، ولا يَخُونُ إلَى
أرادَ أنه لا يخونُ نعمةً، فأراد بـ {إِلَى رَبِّهَا}: نعمةَ رَبِّهَا، وأسقطَ التنوينَ للإضافةِ
…
» (1).
فانظرْ إلى هذا التَّحريفِ العجيبِ الذي يسلكُهُ هؤلاءِ لإثباتِ مذهبِهم الذي ذهبوا إليه في أنَّ الله لا يُرَى، فذهبوا إلى كُلِّ عجيبٍ منَ القَولِ لِنَفْيِ ما ثبتَ من ظاهرِ النُّصوصِ الشَّرعيةِ، فجعلوا حرف الجرِّ في الآية اسماً، وفسَّروه على الاسمية بما رأيت، وقد عزَّز الشَّريفُ المرتضى (ت:436) تفسيرَه بموافقته الظاهرَ، مما يدلك على أنَّ التفسيرات الأخرى فيها خروج عن هذا الظاهر (2)، وإنما كان ذلك هروباً من أنَّ اللهَ سبحانَه يُرَى يوم القيامةِ بالأبصارِ.
ثالثاً: فإنْ لم يجدوا إلى ذلكَ سبيلاً، أحدثوا للَّفظِ مدلولاً جديداً (3)، وقد يستحدثون له شاهداً ينسبونَه للغةِ العربِ (4).
ومن الأمثلة التي ذُكِرَتْ في هذا الباب: تفسيرُ الاستواءِ في مثلِ قولِه تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] بأنَّ معناه: استولى (5)،
(1) أمالي الشريف المرتضى (1:36 - 37)، وقد ذكر المحقق اعتراضاً على هذا التفسير، وهو موجود في حاشية نسختين من الكتاب (1:37، حاشية4).
(2)
ينظر في هذه التفسيرات أمالي المرتضى (1:36).
(3)
يدخلُ في ذلكَ كثير من تفاسيرِ الرافضة والصوفية والباطنية والفلاسفة وغيرهم ممن يورد مصطلحاتٍ يفسِّرُ بها القرآن وهي ليست من لغة العربِ، وستأتي الإشارةُ إلى ذلك.
(4)
ذكر الرافعي في كتابه: تاريخ آداب العرب (1:373): أن من أسباب وضع الشعر: توليدها من قِبَلِ بعض المتكلمين للاستشهاد بها على مذاهبهم، وقد نقله عنه ناصر الدين الأسد في كتابه: مصادر الشعر الجاهلي (ص:378).
(5)
فسَّره بعض الأشاعرة بالغلبة والقهر، واستدلَّ لذلك بالبيت الذي استشهد به المعتزلة، وجعل دلالة الاستواء في البيت بمعنى القهر والغلبة. ينظر: الأسماء والصفات للبيهقي: (ص:519). وجعله الزمخشري: كناية عن المُلْكِ، ينظر: الكشاف (2:530). =
ويستشهدون لصحَّةِ ما ذهبوا إليه ببيتٍ من الشعر، وهو:
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى العِرَاقِ
…
مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ ودَمٍ مُهْرَاقِ
وقالوا: استوى في هذا البيتِ: استولى.
وقد قال بهذا التفسير الجهمية (1)، والحرورية (2)، والمعتزلة (3)، وتبعهم عليه جملة من المتكلمين من متأخري الأشاعرة (4)، والرافضة، والزيدية، وغيرهم ممن تأثر بهم في هذا التفسير (5).
وقدْ سأل ابن أبي دؤاد المعتزليِّ (ت:240)(6) ابنَ الأعرابيِّ اللغويِّ (ت:231)، فقالَ: «أتعرفُ في اللُّغةِ استوى بمعنى: استولى؟
فقالَ: لا أعرفُ» (7).
كما وقعَ لابنِ الأعرابيِّ (ت:231) مناظرةٌ معَ رجلٍ سألَه: «ما معنى قولِ الله عز وجل: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]؟
فقالَ: هو على عرشِهِ كما أخبرَ.
فقالَ: يا أبا عبدِ اللهِ، ليسَ هذا معناه، إنما معناه: استولى.
= وقد ردَّ ابن القيم على هذه الانحرافات وغيرها في تأويل الاستواء، ينظر: مختصر الصواعق المرسلة (ص:320 - 326).
(1)
بيان تلبيس الجهمية (2:342)، نقلاً عن صاحب الحيدة.
(2)
ينظر: الإبانة عن أصول الديانة (ص:120).
(3)
ينظر مثلاً: قول البلخي من المعتزلة في بيان تلبيس الجهمية (2:335).
(4)
ينظر مثلاً: تفسير الرازي (22:7)، وغرائب القرآن (8:135).
(5)
ينظر مثلاً: تفسير الماتريدي (1:85)، وتفسير النسفي (2:114)، (3:185).
(6)
أحمد بن أبي دؤاد القاضي المعتزلي، رأس في فتنة خلق القرآن، كان فصيحاً مفوَّهاً، جواداً مُمَدَّحاً، أصيب في آخر عمره بالفالج، وغضب عليه المتوكل وصادر أمواله، توفي سنة (240)، شذرات الذهب (2:93).
(7)
أصول اعتقاد أهل السنة، للالكائي (1:399).
قال: أُسْكُتْ. ما أنت وهذا؟ لا يقالُ: استولى على الشَّيءِ إلَاّ أنْ يكونَ له مُضَادٌّ، فإذا غَلَبَ أحدُهما، قيل: استولى، أما سمعتَ النَّابغةَ (1):
ألا لِمِثْلِكَ أوْ مَنْ أنْتَ سَابِقُهُ
سَبْقَ الجَوَادِ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى الأمَدِ» (2)
وهذا احتجاجٌ عقليٌّ يَرُدُّ به ابنُ الأعرابيِّ (ت:231) على هذا الذي زعمَ أنَّ معنى استوى: استولى.
والمقصودُ أنَّ هذا المعنى الذي اخترعَه مخترعٌ ليسَ من لغةِ العربِ، ولا يجوزُ أنْ يُفَسَّرَ به القرآنُ.
ولذا أنكرَ العلماءُ العارفونَ هذا المعنى، ونَصَّ بَعضُهم على أنَّ البيتَ مما لا يصحُّ الاحتجاجُ به؛ كالخطابي (ت:388) الذي قالَ: «وزعم بعضُهم: أنَّ استوى هاهنا بمعنى: الاستيلاءِ، ونَزَعَ إلى بيتٍ مجهولٍ لم يقلْه شاعرٌ معروفٌ يصحُّ الاحتجاجُ بقولِه. ولو كانَ الاستواءُ هاهنا بمعنى: الاستيلاءِ، لكانَ الكلامُ عديمَ الفائدةِ؛ لأنَّ الله تعالى قد أحاطَ علمُه وقدرتُه بكلِّ شيءٍ وكلِّ قُطْرٍ وبقعةٍ من السَّموات والأرضينَ وتحتَ العرشِ، فما معنى تخصيصُه العرشَ بالذِّكرِ. ثمَّ إنَّ الاستيلاء إنما يتحقَّقُ معناه عندَ المنعِ منَ الشَّيءِ، فإذا وقعَ الظَّفَرُ به قيل: استولى عليه، فأيُّ منعٍ كانَ هناكَ حتى يُوصَفَ الاستيلاءُ بعدَه؟» (3).
(1) زياد بن معاوية، المعروف بالنابغة الذبياني، شاعر جاهلي، صاحب أحد المعلقات، وكان شاعراً في بلاط الغساسنة والمناذرة، واختص بأبي قابوس النعمان بن المنذر، توفي (نحو 18 ق هـ). ينظر: معجم الشعراء الجاهليين (ص:356 - 359)، ومعجم الشعراء (ص:266 - 267).
والبيت في ديوانه، تحقيق: محمد الطاهر بن عاشور (ص:82)، والأمد: نهايةُ السِّباق.
(2)
أصول اعتقاد أهل السنة (1:399)، وقد رواه علي بن مهدي الطبري صاحب الأشعري، عن نفطويه، عن أبي سعيد، عن ابن الأعرابي، ينظر في بيان تلبيس الجهمية (2:336).
(3)
مختصر الصواعق المرسلة (ص:321).
وقالَ ابنُ تيميَّةَ (ت:728): «لم يثبتْ أنَّ لفظَ استوى في اللُّغةِ بمعنى: استولى، إذِ الذينَ قالوا ذلكَ عمدتُهم البيتُ المشهورُ:
ثُمَّ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى العِرَاقِ
…
مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَلَا دَمٍ مِهْرَاقِ
ولم يثبتْ نقلٌ صحيحٌ أنَّه شعرٌ عربيٌّ، وكانَ غيرُ واحدٍ من أئمةِ اللُّغةِ أنكروه، وقالوا: إنَّه بيتٌ مصنوعٌ، لا يُعْرَفُ في اللُّغةِ، وقدْ عُلِمَ أنَّه لو احتجَّ بحديثِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لاحتاجَ إلى صِحَّتِهِ، فكيفَ ببيتٍ منَ الشِّعرِ لا يُعْرَفُ إسنادُهُ؟! وقدْ طعنَ فيه أئمةُ اللُّغةِ، وذُكِرَ عنِ الخَلِيلِ (1)، كما ذكرَهُ أبو المظَفَّرِ (2) في كتابِه: الإفصاحِ، قالَ: سُئِلَ الخليلُ: هلْ وجدتَ في اللُّغةِ استوى بمعنى: استولى؟ فقالَ: هذا ما لا تعرفُهُ العربُ، ولا هو جائزٌ في لغتِها. وهو إمامٌ في اللُّغةِ على ما عُرِفَ من حالِه، فحينئذٍ: حملُه على ما لا يُعْرَفُ حَمْلٌ باطلٌ» (3).
وقالَ ابنُ القَيِّمِ (ت:751): «هذا البيتُ مُحَرَّفٌ، وإنما هو هكذا:
بِشْرٌ قَدِ اسْتَوَلى عَلَى العِرَاقِ
…
........
هكذا لو كانَ البيت معروفاً منْ قائلٍ معروفٍ، فكيفَ وهو غيرُ معروفٍ في شيءٍ منْ دواوينِ العربِ وأشعارِها التي يُرجَع إليها» (4).
2 -
وفي قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 74] = ذُكِرَ
(1) هو الخليلُ بن أحمد.
(2)
يحيى بن هبيرة، أبو المظفر، الوزير، الحنبلي، كان زاهداً ورعاً متمسكاً بالسنة، شرح صحيح البخاري ومسلم، وسمى كتابه: الإفصاح عن معاني الصحاح، توفي سنة (560)، شذرات الذهب (4:191 - 197)، آثار الحنابلة في القرآن (ص:86).
(3)
فتاوى شيخ الإسلام (5:146).
(4)
مختصر الصواعق المرسلة (ص:326).
عن أبي عليٍّ الجُبَّائيِّ (ت:303) أنَّه فسَّرَ الحجارةَ بالبردِ الذي يهبطُ من السحابِ تخويفاً من الله تعالى لعباده، ليزجُرَهم به (1).
قال الإمامُ ابن كثيرٍ (ت:774): «قال القاضي الباقلَاّنيُّ (2): وهذا تأويلٌ بعيدٌ (3)، وتبعه في استبعاده فخر الدِّين الرَّازي (4)، وهو كما قالا، فإنَّ هذا خروج عن ظاهر اللَّفظِ بلا دليلٍ، والله أعلم» (5).
ولستَ تجدُ في لغةِ العربِ أنَّه يطلقُ على الحجارة البَرَدُ أو العكس (6)، ولمَّا كانَ أبو عليٍّ الجُبَّائيِّ (ت:303) لا يرى وجودَ الإحساسِ في الجماداتِ،
(1) ينظر: مفاتيح الغيب (3:121)، وتفسير ابن كثير (1:204 - 205)، وقال عنه الماوردي:«وهذا قول تفرَّد به بعض المتكلمين» . النكت والعيون (1:146)، وكذا حكاه الوزير المغربي عند الآية نفسها في كتابه المصابيح في تفسير القرآن، ورقة: 19، وجعله الكرماني من العجيب. غرائب التفسير (1:151).
(2)
محمد بن الطيب بن محمد، أبو بكر الباقلاني، القاضي الأشعري المتكلم، وكان سريع البديهة، له قصص في ذلك مشهورة، منها ما كان من إرساله إلى ملك الروم، وقد صنَّف في الردِّ على الرافضة والمعتزلة والخوارج وغيرهم، ومن كتبه: إعجاز القرآن، توفي سنة (403)، ينظر: تاريخ بغداد (5:379 - 383)، شذرات الذهب (3:168 - 170).
(3)
نقله عن الرازي في تفسير مفاتيح الغيب (3:121).
(4)
لم ينصَّ الرازي على استبعاده، إلَاّ أن قلتَ: إنَّ نقله قولَ القاضي وعدم الاعتراضِ عليه دليلُ على اتباعه له، والله أعلم.
والرَّازي: محمد بن عمر بن الحسين، المعروف بالفخر الرازي، الأصولي، كان أشعريًّا فيلسوفاً، ثمَّ ترك هذه العقائد آخر عمره، وله وصية مشهورة في ذلك، وقد كان كثير التصنيف، ومن تصانيفه كتاب التفسير الكبير، المسمى: مفاتيح الغيب. توفي سنة (606)، ينظر: سير أعلام النبلاء (21:500 - 501)، والوافي بالوفيات (4:248 - 259).
(5)
تفسير القرآن العظيم، تحقيق: السلامة (1:305).
(6)
ينظر مثلاً: الروايات الواردة عن السلف في تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (2:239 - 241)، وينظر: مادة (حجر) ومادة (برد) في لسان العرب وتاج العرس، فإنه لم يرد فيها هذا المعنى الذي ذكره الجبَّائي.
ذهبَ إلى هذا التأويلِ الغريبِ الذي لم يُذكرْ عن أحدٍ قبلَهُ. وجعلَ معنى خشيةِ اللهِ؛ أي: من إخشاءِ اللهِ الناسَ بذلك؛ كقوله: {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الرعد: 12]؛ أي: للإخافة والإطماع (1).
الثاني: أساليبُ الخطابِ العربيةِ:
ومنْ أمثلةِ انحرافهم بسببِ الأساليبِ العربيَّةِ في الخطابِ:
قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]، وهذه الآيةُ منْ أشهرِ الآياتِ التي سَلَّطَ عليها المبتدعةُ أسلوبَ الحذفِ، والقاعدةُ المقرَّرَةُ في هذا الأسلوبِ: أنه لا يُحْذَفُ إلَاّ ما دَلَّ المقامُ عليه، وأنَّ حذفَهُ لطلبِ الاختصارِ والبلاغةِ في الكلامِ.
وقدْ جعلوا قولَه تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22] منْ حذفِ المضافِ، وقدَّرُوهُ عِدَّةَ تقديراتٍ لا يَدُلُّ عليها السِّياقُ، بلْ هي هروبٌ منْ إثباتِ ظاهرِ النَّصِّ إلى التَّنْزِيهِ المزعومِ عندَهم، وهو تعطيلُ صفات اللهِ، ومنْ أشهرِ هذه التَّقديراتِ: جاءَ أمرُ ربكَ بالمحاسبةِ والجزاءِ (2).
وليسَ هناكَ سببٌ لهذا الحذفِ عندَهم سوى الدلائلِ العقليَّةِ المزعومةِ التي رتَّبوها، قال الرَّازيُّ (ت:606): «واعلمْ أنَّه ثبتَ بالدليلِ العقليِّ أنَّ الحركةَ على الله تعالى محالٌ؛ لأنَّ كُلَّ ما كان كذلك، كانَ جِسْماً (3)، والجسمُ
(1) ينظر: غرائب التفسير، للكرماني (1:151).
(2)
ينظر على سبيل المثال: متشابه القرآن، للقاضي عبد الجبار (2:689)، وأمالي الشريف المرتضى (2:311)، وتفسير الرازي (31:158)، وذكر الرازي تقديرات أخرى، ومن أعجب ما ذكره في الآية الوجه السادس، قال:«وسادسها: أن الربَّ هو المربي، ولعل ملَكاً هو أعظم الملائكة هو مُرَبٍّ للنبي صلى الله عليه وسلم جاء، فكان هو المراد من قوله: {جَاءَ رَبَّهُ}» .
ولست أدري ما الفرق بين هذا التأويل وتأويلات غلاة الرافضة والباطنية؟!
(3)
لفظ الحركة والجسم من الألفاظ التي يهوِّش بها المبتدعة لنفي صفات الباري سبحانه، وهذه من الألفاظ البدعية التي ليس فيها من تنزيه الله شيء، بل الصواب =
يستحيلُ أنْ يكونَ أزلياً، فلا بدَّ فيه منَ التَّأويلِ، وهو منْ بابِ حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مقامَهُ
…
» (1).
وقد جرى هؤلاءِ على هذا المبدأ في الآياتِ التي تثبتُ لغيرِ العقلاءِ تمييزاً؛ كالسُّجودِ والتَّسبيح والقَولِ وغيرِها، فحملوها على الحذفِ أو المجازِ، ولم تسلمْ آيةٌ في هذا الموضوعِ من تسليطِ أسلوبِ الحذفِ أو المجازِ عليها، ومنَ أمثلةِ الآياتِ التي أثبتَ اللهُ فيها للجماداتِ شيئاً من الإحساسِ:
1 -
أولُ آيةٍ وردَ فيها إثباتُ التَّمييزِ للجماداتِ، قوله تعالى:{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 74]، وقدْ ذهبَ المعتزلةُ بهذه الآيةِ إلى المجازِ، ونَفَوا أنْ يكونَ من الحجارةِ خشيةٌ للهِ تعالى، قالَ الشَّريفُ الرَّضيُّ (ت:406): «هذه استعارةٌ، والمرادُ: ظهور الخضوعِ فيها لتدبيرِ الله تعالى بآثارِ الصَّنعةِ وإعلامِ الصِّبغةِ» (2).
وقالَ الزَّمخشريُّ (ت:538): «والخشيةُ: مجازٌ عن انقيادِها لأمرِ اللهِ وأنها لا تمتنعُ على ما يُرادُ فيها، وقلوبُ هؤلاءِ لا تنقادُ ولا تفعلُ ما أُمِرَتْ به» (3).
وهذا الذي قالوه خلافٌ لظاهرِ الآيةِ، وأقوالُ المفسِّرينَ من السَّلفِ تدلُّ
= إثبات ما أثبته الله العليم بنفسه لنفسه، دون الدخول في كيفيات صفاته بدلائل العقول المخذولة.
(1)
مفاتيح الغيب، للرازي (31:158).
(2)
تلخيص البيان في مجازات القرآن (ص:16).
(3)
الكشاف (1:291).
وقد حكى السَّمرقندي تأويلاً آخر نسبهُ إلى المعتزلة، فقال:«وقال بعضهم: هو على وجه المثال؛ يعني: لو كان له عقل لهبط من خشية الله تعالى، وهو قول المعتزلة، وهو خلاف أقاويل أهل التفسير» . بحر العلوم (1:130).
على حصولِ التَّمييزِ للحَجَرِ، ووقوعِ الهبوطِ من خشيةِ الله حقيقةً لا مجازاً (1)، وما ذهبَتْ إليه المعتزلةُ ليسَ بشيءٍ؛ لأنه ليسَ شيءٌ إلَاّ أثرُ الصَّنْعَةِ فيه، وإنما هبطَ الحجرُ لوجودِ التَّمييزِ فيه؛ كما قالَ تعالى:{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21]، وكما قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج: 18] ولو كان يراد بذلك أثرُ الصَّنعةِ لم يقلْ: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} ؛ لأنَّ أثرَ الصَّنعةِ شاملٌ للمؤمنِ وغيرِه (2).
قالَ البَغَوِيُّ (ت:516)(3): «فإنْ قيلَ: الحجرُ جمادٌ لا يفهمُ، فكيفَ يَخشى؟
قيلَ: الله يُفْهِمُه ويُلهِمُهُ فيخشى بإلهامِهِ، ومذهبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ أنَّ لله تعالى عِلْماً في الجماداتِ وسائرِ الحيواناتِ، سوى العقلاء، لا يقفُ عليه غيرُ اللهِ، فلها صلاةٌ وتسبيحٌ وخشيةٌ (4)؛ كما قالَ جلَّ ذِكْرُهُ:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]، وقال: {وَالطَّيْرُ صَآفَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ
(1) تنظر أقوالهم في تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (2:240 - 241).
(2)
ينظر: معاني القرآن وإعرابه، للزجاج (1:157 - 158)، ورسالة في قنوت الأشياء كله لله، لابن تيمية، ضمن جامع الرسائل، تحقيق: محمد رشاد سالم (1:43 - 45).
(3)
الحسين بن مسعود بن محمد الفراء، المعروف بالبغوي، شافعي مفسر، كان صاحب سنة، له مصنفات، منها: معالم التنزيل، توفي سنة (516)، ينظر: التحبير في المعجم الكبير، للسمعاني (1:213 - 214)، وسير أعلام النبلاء (19:439 - 443).
(4)
قال الرازي ـ مبيناً سبب إنكار المعتزلة لهذا المعنى الحقيقي في هذه الجمادات ـ: «وأنكرت المعتزلة هذا التأويل لما أن عندهم البنية واعتدال المزاج شرط قبول الحياة والعقل، ولا دلالة لهم على اشتراط البنية إلَاّ مجرد الاستبعاد، فوجب ألَاّ يلتفت إليهم» . مفاتيح الغيب (3:120).
وإن صحَّ هذا الإخبار عنهم، فإنه يدلُّ على أن هؤلاء يعتقدون، ثم يحرفون الكتاب إلى ما يوافق مقرراتهم السابقة، ولا شكَّ أن هذا المنهج يقود إلى التحريف دائماً.
وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41]، وقال:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [الحج: 18] الآية، فيجبُ على المرءِ الإيمانُ به، ويَكِلُ عِلْمَهُ إلى اللهِ سبحانه وتعالى
…
» (1).
2 -
قوله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44]، وقد قالوا فيها بالمجازِ، وأنَّ هذه المخلوقاتِ لا يَقَعُ منها تسبيحٌ قوليٌّ، بل إنَّ معنى تسبيحها: ما فيها منْ أثرِ الصَّنْعَةِ الدَّالِّ على الخالقِ سبحانه؛ أيْ أنَّ تسبيحَهَا حاليٌّ، وليسَ مقاليًّا، قال الزَّمَخْشَرِيُّ (ت:538): «والمرادُ أنها تسبِّحُ له بلسانِ الحَالِ، حيثُ تَدُلُّ على الصَّانعِ وعلى قدرتِه وحكمتِه، فكأنها تَنْطِقُ بذلك، وكأنها تُنَزِّهُ اللهَ عز وجل مما لا يجوزُ عليه منَ الشُّرَكَاءِ وغيرها.
فإن قلتُ: فما تصنعُ بقوله: {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} ، وهذا التسبيحُ مَفْقُوهٌ معلومٌ؟
قلتُ: الخطابُ للمشركينَ، وهمْ وإنْ كانوا إذا سُئلوا عن خالقِ السَّمواتِ والأرضِ، قالوا: اللهُ، إلَاّ أنهم لما جعلوا معه آلهةً مع إقرارِهم، فكأنهم لم ينظروا ولم يُقِرُّوا؛ لأنَّ نتيجةَ النَّظرِ الصَّحِيحِ والإقرارِ الثَّابتِ خلافُ ما كانوا عليه، فإذاً لم يفقهوا التَّسبيحَ، ولم يستوضحوا الدلالةَ على الخالقِ.
فإنْ قلتَ: منْ فيهنَّ يُسَبِّحُونَ على الحقيقةِ، وهم الملائكةُ والثَّقلانِ، وقد عُطِفُوا على السَّمواتِ والأرضِ، فما وَجْهُهُ؟
قلتُ: التَّسبيحُ المجازيُّ حاصلٌ في الجميعِ، فوجبَ الحملُ عليه، وإلَاّ كانتِ الكلمةُ الواحدةُ في حالةٍ واحدةٍ محمولةً على الحقيقةِ والمجازِ» (2).
(1) معالم التنْزيل (1:85 - 86)، وقد ذكر بعد هذا عِدَّة أحاديث فيها ذكرٌ لتمييز بعض الجمادات؛ كحديث:«هذا جبل يحبنا ونحبه» ، وحديث تسبيح الحصى بيد النبي صلى الله عليه وسلم، وحنين الجذع، وغيرها. وينظر: تفسير السمعاني (1:96).
(2)
الكشاف (2:451).
وقدْ حَمَلَ الرَّازيُّ (ت:604) التَّسبيحَ على أنه حاليٌّ مجازيٌّ، وزعمَ أنَّ التَّسبيحَ المقاليَّ لا يحصلُ إلَاّ مع الفَهْمِ والعلمِ والإدراكِ والنُّطْقِ، وكلُّ ذلك في الجمادِ مُحَالٌ، فلم يَبْقَ حصولُ التَّسبيحِ بِحَقِّهِ إلَاّ بطريقِ الحالِ، ثمَّ قالَ:«واعلمْ أنَّا لو جوَّزْنَا في الجمادِ أنْ يكونَ عالماً متكلماً، لَعَجَزْنَا عن الاستدلالِ بكونِه عالماً قادراً على كونِه حَيًّا، وحينئذٍ يفسدُ علينا بابُ العِلمِ بكونِه حَيّاً، وذلكَ كُفْرٌ. فإنَّه يقالُ: إذا جازَ في الجماداتِ أنْ تكونَ عالمةً بذاتِ اللهِ وصفاتِه وتسبيحِه، مع أنها ليستْ بأحياءَ، فحينئذٍ لا يلزمُ منْ كَونْ الشَّيءِ عالماً قادراً متكلماً، كونُه حيّاً، فلم يلزمْ منْ كونِه تعالى عالماً قادراً كونُه حيّاً، وذلكَ جَهلٌ وكفرٌ؛ لأنَّ من المعلومِ بالضرورةِ: أنَّ منْ ليسَ بِحَيٍّ، لم يكنْ عالماً قادراً متكلماً، وهذا القولُ الذي أطبقَ العلماءُ المُحَقِّقُونَ عليه» (1).
وإنما جَسَّرَ الرَّازيَّ (ت:604) على حملِ اللَّفظِ على مجازِه هذه الشُّبهةُ التي أوردَها، وهي إشكالٌ يَرِدُ على من ليسَ عندَه إلَاّ هذا الدليلُ لإثباتِ حياةِ اللهِ سبحانه، وليسَ هناكَ ما يضطرُّ إلى هذا المجازِ، بل التَّسبيحُ حقيقيٌّ، وهو كما قال الله سبحانه:{وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} فنثبتُ ما أثبته الله لهذه المخلوقات حقيقة، ونؤمن بظاهر اللفظ، هذا مع وُرُودِ عِدَّةِ آياتٍ وأحاديثَ تدلُّ على حصولِ السجود والتسبيح وغيرها من الإحساسات للجماد، مما يجعل تكاثر هذه النصوص مبعداً لها عن المجاز إلى الحقيقة. وإذا أضفت ما ورد في السُّنَّة من حنين الجذع، وشكوى البعير، وتكلم الكتف المسموم، وغيرها، أيقنتَ أن هذه التصرفات لها على الحقيقة لا المجاز، والله أعلم.
وهذا القول خلاف ما ورد عن السلف الذين جعلوا التسبيح حقيقياً (2)،
(1) تفسير الفخر الرازي (20:175).
(2)
ينظر: تفسير الطبري، ط: الحلبي (15:92 - 93)، وبحر العلوم، للسمرقندي (2:270)، ومعالم التنْزيل، للبغوي (3:116 - 117)، وتفسير القرآن، للسمعاني (3:244 - 245)، وغيرها.
هذا مع أن ما ذهبوا إليه من أن الخطاب في قوله تعالى: {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} للكفار، وما بنوا على ذلك من نتيجة، مخالفٌ للواقع؛ لأن الذين خوطبوا بهذا مقرُّون بأن الله خالقُهم وخالقُ السموات والأرض ومن فيهن، فكيف يجهلون الخِلْقَةَ، وهم عارفون بها (1).
3 -
وفي قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} [الأحزاب: 72] تقديراتٌ تُخْرِجُ اللفظَ عن ظاهرِه، وكلُّ ذلك بسببِ مقدماتٍ عقليةٍ بحتةٍ في إحساسِ الجمادِ وعَقْلِهِ، وأنه مما لا يَقَعُ عليه التَّكليفُ، ولا يَصْدُرُ منه ما يختصُّ بالمخيَّرِ المُكَلَّفِ؛ كالتسبيحِ، والسجودِ، والقولِ، وغيرِها.
ومن التأويلاتِ التي ذَكَرَوها في هذه الآية:
* أنَّ في الآيةِ حذفاً، وتقديرُه: إنَّا عرضنا الأمانةَ على أهلِ السمواتِ والأرضِ والجبالِ (2).
* قال ابنُ الأنباريِّ (ت:328): «قال بعضُ الناسِ: لو كانتِ الأمانةُ يجوزُ أنْ تُعْرَضَ على السمواتِ والأرضِ والجبالِ، لكانتْ تَابَى تَحَمُّلَها، ولكنَّها مَوَاتٌ لا تعقلُ، والأمانةُ لا تُعْرَضُ على ما لا يعقلُ.
وقال: هذا من بابِ المجازِ؛ كقولِ العربِ: شكا إليَّ بعيري طولَ
(1) ينظر: معاني القرآن وإعرابه، للزجاج (3:242).
وقد أبعد قوم في التَّأويل، فقالوا: تسبيحه: حَمْلُه غيرَه على التَّسبيح إذا تأمَّل فيه وتدبَّر. غرائب التفسير، للكرماني (1:628)، وينظر: النكت والعيون للماوردي (3:245).
وهذا فيه بُعدٌ ظاهرٌ، وغرابةٌ لا تخفى على من اطَّلع على تفسير القرآن الميسَّر للفهم.
(2)
ينظر: الأضداد، لابن الأنباري (ص:391)، وتلخيص البيان في مجازات القرآن، للشريف الرضي (ص:221)، ومتشابه القرآن، للقاضي عبد الجبار، فقد ذكره عن الجبائي (2:567)، وأمالي الشريف المرتضى (2:309).
السَّيرِ؛ معناه: لو كانَ يعقلِ لَشَكَا، ولكنَّه لا يعقلُ ولا يَشْكُو» (1).
فانظرْ إلى هذه التأويلاتِ العجيبةِ التي تُخرجُ النَّصَّ عن ظاهرِه! اللهُ سبحانه يقول: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ} وهؤلاء يقولون: عَرَضَهَا على أهلِهَا، والآخرونَ يقولونَ: لم يَعْرِضْهَا، وقدْ صَرَّحَ بعضُهم بهذا، فقالَ:«ما عرضَ اللهُ ـ جلَّ ذِكْرُهُ ـ الأمانةَ على السمواتِ والأرضِ قَطُّ، وإنما هو من المجازِ على قولِ العربِ: عَرَضْتُ الحِمْلَ على البعيرِ، فَأَبَى أنْ يَحْمِلَهُ؛ أيْ: وجدتُ البعيرَ لا يصلحُ للحَمْلِ وللعَرْضِ، فكذلك السَّمواتُ والأرضُ والجبالُ لا تصلحُ للأمانةِ ولا لِعَرْضِهَا عليها» (2).
وَتَجِدُهم في هذا المثالِ استخدموا أساليبَ العربِ وتوسُّعَها في الكلامِ لإخراجِ الكلامِ عن حقيقتِهِ إلى هذهِ التأويلاتِ المنكرةِ، لعدم استيعاب عقولهم الضيقة لهذا، ولو كان ما قالوه صحيحاً، فما فائدةُ هذا الخطابِ إذاً؟!.
أمَّا السَّلفُ فقد حملوا الكلامَ على حقيقتِه (3)، وجعلوا الأمانةَ معروضةً على السَّمواتِ والأرضِ والجبالِ حقيقةً، وهو الصَّوابُ، إذ هذا الكلامُ لو كان يحتملُ المجازَ والحقيقةَ، لقُدِّمتِ الحقيقةُ على المجازِ؛ لأنها الأصلُ، كيف وهو لا يحتمل المجازَ في هذا الموضعِ، بدلالةِ تفسيرِ السَّلفِ له على الحقيقةِ، والله أعلم.
4 -
في قوله تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30] تأويلاتٌ للمبتدعةِ، منها.
* أنَّ في الآيةِ حَذْفَ مضافٍ، والمعنى: يومَ نقولُ لِخَزَنَة جهنَّمَ
…
ويقولُ خَزَنَةُ جهنَّمُ، فحذفَ الخَزَنَةَ وأقامَ جهنَّمَ مقامَهُم، كما تقولُ العربُ:
(1) الأضداد، لابن الأنباري (ص:388)، واختار هذا التأويل الشريف المرتضى في أماليه (2:309).
(2)
الأضداد لابن الأنباري (ص:392).
(3)
ينظر: تفسير الطبري، ط: الحلبي (22:53 - 56).
اسْتَتَبَّ المجلسُ، وهم يريدون أهلَ المجلسِ (1).
* أنَّ هذا من الاستعارةِ؛ لأنَّ الخطابَ للنَّارِ والجوابَ منها في الحقيقةِ لا يَصِحَّانِ، وإنما المرادُ: أنها فيما ظَهَرَ مِنِ امتلائها، وبَانَ مِنِ اغْتِصَاصِهَا بأهلِها بمنْزلةِ النَّاطقةِ بأنَّه لا مزيدَ فيها ولا سَعَةَ عندَها، وذلكَ كقولِ الشَّاعِرِ (2):
امْتَلأ الحَوْضُ وَقَالَ قِطْنِي
…
مَهْلاً رُوَيْداً قَدْ مَلأتُ بَطْنِي
ولم يكنْ هناكَ قولٌ مِنَ الحوضِ على الحقيقةِ، ولكنَّ المعنى أنَّ ما ظهرَ من امتلائِه في تلك الحال جارٍ مجرى القولِ منه، فأقامَ الأمرَ المُدْرَكَ بالعينِ مقامَ القولِ المسموعِ بالأُذُنِ (3).
وهذانِ القولانِ أخرجا الخطابَ عن الحقيقةِ، والصوابُ أنَّ الله الذي أنطقَ كُلَّ شَيءٍ يقولُ لجهنَّم قولاً، وجهنَّمُ ترد عليه قولاً، ولا مجالَ لإخراج الكلامِ عن حقيقتِهِ إلَاّ عندَ أصحابِ العقولِ الضَّيِّقَةِ التي لا تَقْدُرُ الله حَقَّ قدرِهِ، وتستبعدُ أنْ يجعلَ الجماداتِ منْ أهلِ المقالِ والإحساسِ، وقدْ حملَ العلماءُ هذا الخطابَ وأمثالَه على الحقيقةِ، قالَ الكرمانيُّ (ت: بعد500) (4): «وجُلُّ المفسرينَ على أنَّ القولَ في الآيةِ حقيقةٌ» (5)، وهذا هو الصواب الذي
(1) ينظر: الأضداد، لابن الأنباري (ص:194)، وتلخيص البيان في مجازات القرآن، للشريف الرضي (ص:265)، وغرائب التفسير، للكرماني (2:1133).
(2)
الرجز من الشواهد المشهورة في كتب اللغة، وهو بلا نسبة، ينظر مثلاً: لسان العرب وتاج العروس، مادة (قطط).
(3)
تلخيص البيان في مجازات القرآن، للشريف الرضي (ص:265). وينظر: متشابه القرآن، للقاضي عبد الجبار (1:108)، وغرائب التفسير، للكرماني (2:1133)، والكشاف، للزمخشري (4:9)، ومجمع البيان للطبرسي (26:112).
(4)
محمود بن حمزة الكرماني، تاج القراء، كان عجباً في الفهم وحسن الاستنباط، له تصانيف كثيرة؛ منها: لباب التفسير، والبرهان في متشابه القرآن، توفي بعد (500). ينظر: معجم الأدباء (19:125)، وغاية النهاية (2:291).
(5)
غرائب التفسير (2:1133)، وينظر: الأضداد، لابن الأنباري (ص:195)، =
عليه السلفُ (1)، واللهُ أعلمُ.
الثالث: دلالةُ الصِّيَغِ:
المرادُ بها البناءُ الذي تقومُ عليه الكلماتُ العربيَّةُ، فتجتمعُ فيه جملةٌ من الألفاظِ، يكونُ فيها معنى مشتركٌ يدلُّ دلالةً غيرَ دلالةِ اللفظِ المفردِ المعجميَّةِ، فمن الألفاظِ ما يجيء على صيغةِ «تفاعل» ، وهي تدلُّ على حدوث الأمر من اثنينِ متقابلين؛ كتصافح، وتحارب، وتمازح، وغيرِها، فدلالة هذه الألفاظِ متباينةٌ، وإن كانت اشتركتْ في مدلولِ هذه الصِّيغةِ (2).
وقد يكونُ أصلُ اللفظِ واحداً، ولكن تختلفُ صيغته، فيختلفُ معناه، فمعنى: قَبَرَ فلانٌ فلاناً: أي: باشرَ دفنَه بنفسِه، كما قال الأعشى (3):
لَوْ أَسْنَدَتْ مَيتاً إلَى نَحْرِهَا
…
عَاشَ وَلَمْ يُنْقَلْ إلَى قَابِر
ومعنى: أقبرَ فلانٌ فلاناً: أمرَ له بالقبرِ، ومنه قوله تعالى:{ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21]. فاختلفت دلالة الفعل المشتقِّ من مادة قَبَرَ التي تدلُّ على سترٍ في الشَّيء وغموضِه، وذلك بسبب اختلافِ صيغَتِه في النُّطقِ.
وقد استخدمَ أهلُ البدعِ دلالةَ الصِّيَغِ كاستخدامهم دلالة الألفاظِ، ومنْ أمثلةِ ذلك:
1 -
تحريفُ بعضِ المعتزلةِ لصيغةِ «أفْعَل» حيثُ أحدثوا لها دلالةً،
= الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال، لابن المنيِّر، بحاشية الكشاف (4:10)، وغيرها.
(1)
ينظر: تفسير الطبري، ط: الحلبي (26:169 - 171).
(2)
ممن كتبَ في دلالة الصيغ وأبنية الألفاظِ العربية: سيبويه في الكتاب، وابن قتيبة في أدب الكاتب، والفارابي في ديوان الأدب، ونشوان الحميري في شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم، وغيرها كثيرٌ.
(3)
ديوان، تحقيق: حنا نصر (ص:179).
وجعلُوها تدلُّ على معنى: سَمَّاه، وإنما ذلك في صيغة «فَعَّل» (1)، وقدْ جاءَ ذلكَ عنهم في الإضْلالِ الذي نَسَبَهُ اللهُ سبحانه وتعالى إلى نَفسِهِ في مثلِ قولِه تعالى:{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26]، وقوله تعالى:{أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} [النساء: 88](2)، وقوله تعالى:{وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23]، حيث قالَ بعضُ المعتزلةِ في تفسيرِ هذا النَّظمِ وأشباهِه:«سَمَّاهم ضُلَاّلاً» (3).
(1) قال سيبويه: «فأمَّا خطَّاتُه، فإنَّما أردت: سمَّيته مخطئاً، كما أنك حيث قلت: فسَّقته وزنَّيته؛ أي: سمَّيته بالزنا والفسق» الكتاب، ط: بولاق (2:235). ولم يذكر في معاني أبنية أفعل: سميته كذا.
وأقرب معاني هذه الصيغة لما قالوه: الوجدان، تقول: أحمدته، وجدته مستحقاً للحمد.
ينظر: الكتاب، ط: بولاق (2:236)، وأدب الكاتب (ص:447)، وديوان الأدب (2:337).
وقد حمل ابن جني المعتزلي قوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف: 28] على معنى هذه الصيغة، فقال:«ولن يخلو «أغفلنا» من أن يكون من باب أفعلتُ الشيء؛ أي: صادفته ووافقته كذلك؛ كقوله:
.......
…
وأهْيَجَ الخَلْصَاءَ من ذَاتِ البُرَق
أي: صادفها هائجة النبات
…
حكى الكسائي: دخلت بلدة فأعمرتها؛ أي: وجدتها عامرة، ودخلت بلدة فأخربتها؛ أي: وجدتها خراباً، ونحو ذلك.
أو يكون ما قاله الخصم: أنَّ معنى: أغفلنا قلبه: منعناه وصددناه
…
وإذا لم يكن عليه، كان معنى: أغفلنا قلبه عن ذكرنا؛ أي: صادفناه غافلاً، على ما مضى، وإذا صودف غافلاً، فقد غفل لا محالة، فكأنه ـ والله أعلم ـ ولا تطع من غفل قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً؛ أي: لا تطع من فعل كذا وفعل كذا
…
». الخصائص (3:256 - 258).
(2)
ويلحقُ بها ما كان في حُكْمِها من الأفعالِ التي نسبها اللهُ إلى نفسه، في مثل قوله تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وغيرها.
(3)
نسبه الرازي في التفسير الكبير (2:130) إلى قطرب وكثير من المعتزلة، وينظر: رسائل العدل والتوحيد (2:84)، فقد جعله يحيى بن الحسين الزيدي المعتزلي بمعنى يوقع عليهم اسم الضلال. =
وإنما كانَ سببَ هذا التَّأويلِ زعمُهم الفاسدُ في العَدْلِ، وأنَّ الله لا يظلمُ أحداً، فلا يُتصوَّرُ أن يُضِلَّه، وإلَاّ كانَ ذلكَ قبيحاً منه، واللهُ مُنَزَّهٌ عن فِعْلِ القبيحِ، وهذا الكلام صحيح، ولكن المرادَ بالقبيحِ وتحديدُه هو الذي يخالَفُ فيه هؤلاء.
وقد ردَّ عليهم هذا التَّأويلَ جماعةٌ من العلماءِ؛ كابنِ قتيبة (ت:276)(1)، والأشعريِّ (ت:324) (2)، وابنِ حَزْمٍ (ت:458) (3)، وابنِ القيِّمِ (ت:751) (4)، وغيرهم.
ومن الرُّدُودِ عليهم في قولهم في دلالة صيغة «أفعل» ما يأتي:
* قال ابن قتيبة (ت:276)، فقال: «وذهبَ أهلُ القَدَرِ في قولِ الله عز وجل: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93، فاطر: 8] إلى أنه على جهةِ التَّسميةِ والحكمِ عليهم بالضلالةِ، ولهم بالهدايةِ.
وقالَ فريقٌ منهم: يُضِلُّهُم: ينسبُهم إلى الضلالةِ، ويهديهم: يبينُ لهم ويرشدُهم.
فخالفُوا بينَ الحُكْمَينِ، ونحن لا نعرفُ في اللُّغةِ أفْعَلْتُ الرَّجلَ: نَسَبْتُهُ.
= وقد ذكر المرتضى أحد وجوه تفسير قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ
…
} [الأعراف: 146]، فقال: «وسادسها: أن يكون الصرف هاهنا الحكم والتسمية والشهادة، ومعلوم أن من شهد على غيره بالانصراف عن شيء جائز أن يقال: صرفه عنه، كما يقال: أكفره وكذَّبه وفسَّقه
…
». أمالي الشريف المرتضى (1:312).
وفي نسخة مذكورة في الحاشية: «كفّره وكذّبه وفسَّقه» . والصيغة مخالفة لصيغة اللفظ «أصرف» الذي يُفسِّرُه.
(1)
الاختلاف في اللفظ (ص:14 - 15).
(2)
الإبانة، تحقيق: حماد الأنصاري (ص:192 - 194).
(3)
الفصل في الملل والأهواء والنحل (3:49 - 50).
(4)
شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (ص:144 - 148).
وإنما يقالُ إذا أردتَ هذا المعنى: فَعَّلْتُ، تقول: شَجَّعْتُ الرجلَ، وجَبَّنْتُهُ، وسَرَّقْتُهُ، وخَطَّاتُهُ، وكَفَّرْتُهُ، وضَلَّلْتُهُ، وَفَسَّقْتُهُ، وفَجَّرْتُهُ، ولَحَّنْتُه
…
» (1).
* وقالَ أبو الحسنِ الأشعريُّ (ت:324): «ويقالَ لهم: ما معنى قولِ اللهِ عز وجل: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27]؟
فإنْ قالوا: معنى ذلك: أنه يُسَمِّيهم ضَالِّينَ، ويَحْكُمُ عليهم بالضَّلالِ.
قيل لهم: أليسَ خاطب الله العربَ بلغتِها، فقال:{بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195]، وقال:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4]؟ فلا بُدَّ مِنْ نَعَم.
فيقالُ لهم: فإذا كانَ أنزلَ اللهُ القرآنَ بلسانِ العربِ، فمِن أينَ وجدْتم في لغةِ العربِ أنْ يقالَ: أَضَلَّ فلانٌ فلاناً؛ أي: سَمَّاهُ ضَالًّا؟.
فإنْ قالوا: وجدْنا القائلَ يقولُ إذا قالَ رَجُلٌ لرجلٍ ضَالٍّ: قدْ ضَلَّلْتُهُ.
قيل لهم: قد وجدنا العربَ يقولون: ضَلَّلَ فلانٌ فلاناً: إذا سَمَّاه ضالًّا، ولم نجدْهُم يقولون: أضَلَّ فلانٌ فلاناً بهذا المعنى.
فلمَّا قالَ اللهُ عز وجل: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27] لم يَجُزْ أنْ يكونَ ذلكَ معنى ذلكَ الاسمِ.
والحُكمُ، إذا لم يَجُزْ في لغةِ العربِ أنْ يقالَ: أَضَلَّ فلانٌ فلاناً: إذا سَمَّاه ضالًّا، بَطَلَ تأويلكُم إذا كانَ خلافَ لسانِ العربِ» (2).
2 -
في قوله تعالى: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257] قال الأخفش (ت:215): «وأما قوله: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} ، فيقول:
(1) تأويل مشكل القرآن، لابن قتيبة (ص:123 - 124).
(2)
الإبانة عن أصول الديانة (192 - 193).
يَحْكُمُ بأنهم كذلك، كما تقولُ: قد أخرجكم الله من ذا الأمر. ولم تكنْ فيه قَطُّ، وتقولُ: أخرجني فلانٌ من الكتبةِ، ولم تكنْ فيها قَطُّ؛ أي: لم يجعلْني من أهلِها ولا فيها» (1).
وفي هذا هروبٌ منْ أنَّ اللهَ سبحانه خَلَقَ الإيمانَ في قَلْبِ العَبْدِ؛ لأنَّ المعتزلَة لا يرون ذلك (2). وعلى هذا التَّأوُّلِ لا يكونَ ثَمَّ خَلْقٌ للإيمانِ، وفيه خروجٌ بدلالةِ أَفْعل إلى معنى الوجودِ، وهذه الدِّلالةُ، وإنْ كانتْ مِنْ دَلَالَاتِ أفْعَل، إلَاّ أنَّ هذا الموضعَ لا يحتمِلُها، بلِ الصَّوابُ جعلُها على ظاهِرها.
قال الزَّجاج (ت:311): «أي: يُخرجُهم مِنْ ظلماتِ الجَهَالَةِ إلى نُورِ الهُدى؛ لأنَّ أمرَ الضَّلالةِ غيرُ بَيِّنٍ، وأمرَ الهدى واضحٌ كبيانِ النُّورِ.
وقدْ قالَ قومٌ: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} : يحكمُ لهم بأنهم خارجونَ من الظلماتِ إلى النُّورِ، وهذا ليسَ قولٌ أهلِ التَّفسيرِ، ولا قولُ أكثرِ أهلِ اللُّغةِ، إنما قالَه الأخفشُ وَحْدَهُ» (3).
3 -
ومن التحريفِ في الصِّيغِ، ما نُقِلَ عن أبي مسلمٍ محمدِ بنِ بَحْرٍ الأصفهانيِّ المعتزليِّ (ت:322) (4) في تفسير قولِه تعالى: {زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122]، حيثُ جعل «زُيِّنَ» في مثل هذا لا يحتاجُ إلى فاعلٍ؛ كالأفعالِ المذكورةِ في باب فُعِلَ مما لا يحتاجُ إلى فاعلٍ؛ كأُعجِبَ وجُنَّ وزُهِيَ وعُنِيَ، وغيرها مما في هذا البابِ (5).
(1) معاني القرآن، للأخفش (1:196).
(2)
ينظر: متشابه القرآن، للقاضي عبد الجبار (1:133)، وأمالي الشريف المرتضى (2:14)، ولهم في الآية توجيهات أخرى.
(3)
معاني القرآن وإعرابه (1:339).
(4)
محمد بن بحر، أبو مسلم الأصفهاني، الكاتب المعتزلي، عالم بالتفسير وغيره من صنوف العلم، وله في التفسير: جامع التأويل لمحكم التنْزيل، توفي سنة (322)، ينظر: معجم الأدباء (18:35 - 38)، ومعجم المفسرين (2:498).
(5)
غرائب التفسير، للكرماني (1:383).
وحَمْلُهُ لفظ «زُيِّنَ» على هذا البابِ ادِّعاءٌ على العربية، إذْ لم يذكرِ العلماءُ هذا الفعلِ منَ الأفعالِ التي تلازمُ البناءَ للمفعولِ، وهذه الأفعالُ لا يكونُ منها مَبْنِيًّا للمعلومِ، وهي أفعالُ معروفةٌ محصورةٌ عند أهل العربيَّةِ (1)، أمَّا هذا الفعلُ فقد وردَ مَبْنَيًّا للمعلومِ مما يدلُّ على أنه ليسَ منْ بابِ ما لا يَحْتَاجُ إلى فاعلِ، ومما وَرَدَ فيه، قولُ اللهِ تعالى:{كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: 108] وقولُه: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} [النمل: 4]. وغيرُها من الآياتِ.
وإنما دعاه لذلكَ مذهبُ العدلِ المعتزليِّ، لكي لا يُقدَّرَ فاعل «زُيِّنَ» بأنه الله سبحانه. وذلك التقديرُ خلافُ العدلِ عندَه؛ لأنه لا يرى أنه يقعُ منَ اللهَ سبحانَه تَزْيينُ الشَّهواتِ للعبدِ، فَحَرَّفَ دلالةَ هذا الفعلِ الذي جاءَ على صيغةِ الْمَبْنِيِّ للمفعولِ إلى ما جاءَ على هذه الصِّيغَةِ منَ الأفعالِ التي لا تحتاجُ إلى تقديرِ فاعلٍ.
(1) هذا الباب الذي جعل لفظ «زُيِّنَ» منه، قال فيه سيبويه:«هذا باب ما جاء فُعِلَ منه على غير فَعَلْتُهُ، وذلك نحو: جُنَّ وسُلَّ وزُكِمَ ووُرِدَ، وعلى ذلك قالوا: مجنون ومسلول ومزكوم ومحموم ومورود، وإنما جاءت هذه الحروف على جَنَنْتُهُ وسَلَلْتُه، وإن لم يستعمل في الكلام، كما أن يدع على ودعت ويذر على وذرت، وإن لم يستعملا، استغني عنهما بتركت، واستغني عن قَطِعَ بِقُطِعَ، وكذلك استغني عن جَنَنْتُ ونحوها بأفعلتُ، فإذا قالوا: جُنَّ وسُلَّ، فإنما يقولون: جُعِلَ فيه الجنون والسلُّ، كما قالوا: حُزِنَ وفُسِلَ ورُذِلَ، وإذا قالوا: جُنِنْتَ، فكأنهم جعلوا فيك جنون، كما أنه إذا قال: أقبرته، فإنما يقول: وهبتُ له قبراً، وجعلتُ له قبراً، وكذلك أحزنته وأحببته، فإذا قلتَ: محزون محبوب، جاء على غير أحببتُ. وقد قال بعضهم: حَبَبْتُ فجاء به على القياس» الكتاب، ط: بولاق (2:238).