الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واقعية التشريع الإسلامي وآثارها
المؤلف/ المشرف:
زياد بن صالح لوبانغا
المحقق/ المترجم:
بدون
الناشر:
عمادة البحث العلمي - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ̈بدون
سنة الطبع:
1426هـ
تصنيف رئيس:
أصول فقه
تصنيف فرعي:
تشريع - حكمته وأسرار الشريعة
الخاتمة:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، أشكره تعالى على ما أنعم علي من إتمام هذا البحث وإكماله، وأسأله تعالى أن ينفعني به والمسلمين أجمعين. أما بعد:
فقد كان هذا البحث متضمناً للنتائج التي تزيد في جلاء الإسلام وشريعته الكاملة، والتي يزداد بها المؤمن إيماناً، ويستطيع من خلالها غير المسلم أن يستبين صوراً من عظم هذا الدين في تنظيم الحياة الإسلامية. وإليك أبرز هذه النتائج مجملة دون تفصيل:
1 -
مصطلح (الواقعية) من المصطلحات التي جرى تداولها واستخدامها حديثاً، واشتهر بمناداتها المذاهب والفلسفات الفنية لدى الغرب، وكانوا يعنون به ما يقع تحت الحس والشهادة، حتى يتمكنوا من مواجهة الفكر الكنسي، والتيار المثالي، اللذين ظلا مرتكزين على الأمور الروحية والعقلية، بعيدين عن الأمور الحسية والواقعية. وهؤلاء في ذلك عنوا ما عني به الفلاسفة الأقدمون، من الاحتفاء بالمادة، ورفع كل ما من شأنه قبول المشاهدة والتجربة، وراحوا ينكرون كل ما يمت إلى الروح بصلة، مما لا تدركه حواسهم، ولا تطيق تجربته أدواتهم.
أما بعد ما استخدم المسلمون هذا المصطلح، فقد تغير مفهومه تبعاً لتغير الفكر المستخدم فيه، إذ الإسلام يختلف عن جميع الأنظمة في رؤيته للحقائق، وإقراره لها، سواء كانت مادية، أو معنوية، فصار هذا المصطلح يطلق على ما يلاحظه الإسلام من واقع الأشياء الحسية، وما يقرره من حقيقة الأمور الغيبية، وأن الأشياء المادية كما لها واقع يتناسب مع مجاله الدائر فيه، فكذلك الحقائق الغيبية لها واقع يتناسب مع وضعها وحالتها. وأحسب أن هذا المعنى للواقعية، كان خافياً على بعض الباحثين المسلمين، الذين رفضوا وصف الإسلام وأنظمته بالواقعية، حتى لا يختلط بما عناه فلاسفة الغرب.
2 -
راعت الشريعة الإسلامية بواقعيتها فطرة الإنسان وظروفه، فأصبحت بذلك سهلة يسيرة، لأي امرئ امتثالها أينما كان، وكيفما وجد، فهي شريعة شاملة لم تراع حالة واحدة يتعرض لها الإنسان فقط، كالصحة مثلاً، أو الغنى فحسب، بل شملت مراعاتها جميع أحوال الإنسان وظروفه، صغره وكبره، شبابه وشيخوخته، صحته ومرضه، غناه وفقره، علمه وجهله، تذكره ونسيانه، عمده وخطأه، اختياره وإكراهه، ونحو ذلك من أحواله المتعددة، ورتبت على كل حالة منها أحكاماً تتناسب مع طبيعة الإنسان، وتتفق مع قدرته وطاقته. فالغني الواجد يطالب بالعبادات المالية كالزكاة والصدقة والوقوف ونحوه، ما دام قادراً على أدائها، ومالكاً لها ملكاً تاماً، والرجل الصحيح الجسم يطالب بأداء العبادات على تمامها، بكامل شروطها وأركانها ما دام يملك القدرة على ذلك، ولا يلجأ إلى الرخصة إلا إذا عجز عن ذلك: لأنه حينئذ يعد مضطراً تقدر ظروفه وضرورته قدرها.
3 -
دعم التشريع الإسلامي الأخلاق لهدفين بارزين:
أ- هدف مادي، يضمن بقاء الحياة البشرية، ويحافظ على النوع الإنساني. إذ التاريخ البشري قد شهد عواقب وخيمة للأمم التي استهانت بالأخلاق، وانحلت من القيم والفضائل، فما أن استبدلت السيئات بالصالحات، والمنكرات بالحسنات، حتى أذن الله لهم بالهلاك، لما أودع في السيئات قوة الهدم والتدمير، وما تجنيه للمجتمعات من الزوال والاضمحلال، وهذا ما دل عليه قوله تعالى:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]، ولا يأذن الله تعالى لقوم بالهلاك إلا الذين لم يأخذوا بأسباب النجاة والفلاح، وتنصلوا من مسئولية الرقابة والتوجيه لأفراده، وخاصة الذين يقع منهم التفريط والتقصير، وتجافوا عن الاستقامة والرشاد، فإذا ما انتبهوا لذلك واعتنوا بالإصلاح كتب الله لهم بالبقاء، وأورثهم أرضه بما رحبت، وهذا مقرر في القرآن في قوله تعالى:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]، وقوله تعالى:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117].
ب- هدف معنوي يحرك الهمم والنفوس، ويجذبه نحو التحلي بالأخلاق الفاضلة، والتخلي عن الرذائل، حتى يكون التحلي بهذه، والتخلي عن تلك، سبباً لنيل المعالي والدرجات في الدنيا والآخرة. فخلق (الإنفاق) مثلاً: إضافة إلى تحرير النفس من الشح والبخل، ونشره للألفة بين الناس؛ إذ النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها، وكره من أساء إليها، فإنه يجلب رضا الله تعالى وعظيم أجره للشخص المنفق. وخلق (العفو) عن الناس، إضافة إلى نزعه للإحن والأحقاد من النفوس، وزرعه للمحبة والمودة فيها، فإنه يستعطف رضوان الله تعالى، وجزيل ثوابه لمن عفا وتجاوز. وهذا ما قرره قوله تعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133، 134].
4 -
نحا التشريع الإسلامي منحى الاعتدال والتوازن في تلبية حاجات الإنسان وإشباع غرائزه، من أجل أن تتحقق له مصلحتان عظيمتان:
أ- تجدد الحياة واستمرارها، دون تعثر أو توقف، وذلك أن الإنسان إذا لبيت حاجاته المادية، ومطالبه الروحية باتزان، استطاع أن يمضي قدماً في أداء رسالته، والقيام بدوره المنوط به بين الكائنات، وما مثل هذا التوازن في الأهمية والقيمة، إلا كمثل التنفس هو عبارة عن حركة تعادل بين الشهيق والزفير، حيث لو اختل التوازن فيهما، بأن طال الشهيق أكثر مما يجب، فطغى على الزفير: أو امتد الزفير أكثر مما ينبغي، فجار على الشهيق، اختل معه التنفس، فإذا تساويا وتعادلا، بقي التنفس مستمراً في حركته وأدائه، وكذلك الإنسان، تتعطل حياته وتتعثر إذا لم يوازن المرء حاجات جسده وروحه.
ب- الانسجام مع الفطرة والكون، فتوازن المرء في إشباع جسده وروحه، انسجام حقيقي مع الفطرة، وتناسق كبير مع الكون والحياة.
أما انسجامه مع الفطرة؛ فلأن الإنسان السوي يتقبل التوازن في إرواء حاجاته، ولا يستسيغ إطلاق العنان لها، كما لا يستمرئ كبتها وحرمانها.
وأما انسجامه مع الكون كله؛ فلأن مخلوقات الله تعالى التي تسيح في الأرض، أو التي تسبح في الفضاء، تخضع جميعها لنظام التوازن، فمنها ما توازنه مصمم في دورته بين السرعة والبطء، ومنها ما توازنه مركوز في حركته بين الزيادة والنقصان، ومنها ما توازنه مركوز في طبيعته وتكوينه البيولوجي والكيميائي، فكل هذه الكائنات ينسجم معها الإنسان في نظام توازنها، بل إن توازنها لمما يدعوه إلى الاستمساك به، حتى يقدر على القيام بواجباته الفطرية نحو ربه ومجتمعه وما يحيط به من الكائنات.
5 -
نوَّع التشريع الإسلامي الشعائر والشرائع، مراعاة لأمور ثلاثة:
أ- احتواء الحاجات البشرية، فالبشر تتعدد حاجاتهم، وتتنوع مطالبهم، وتختلف رغباتهم، فكان لابد من تنوع الشرائع حتى يسع الحياة كلها، ويلبي حاجات الناس ومطالبهم.
ب- مرعاة الفطرة الإنسانية، فإن الإنسان سرعان ما يتسرب إليه الملل والسآمة من الحياة، إذا كانت على وتيرة واحدة. مثال ذلك: ما وقع للنصارى من ابتداع الرهبانية، وجعلها أسلوباً واحداً للحياة، فقد اتجهوا صوب المعنويات وحدها، واستهانوا بالأمور المادية، إلى درجة أنهم حاولوا الامتناع عن الشعور بها، لكنهم في النهاية سئموا من هذه الحياة الرتيبة، وعجزوا عن الالتزام برهبانيتهم التي ابتدعوها، حتى سجل ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى:{ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حتى رعايتها} ، فقد راح رجال الكنيسة يتنافسون في جمع المادة والمال، وفرضوا على الناس عشر أموالهم، وجابوا الضرائب من كل مكان، وباعوا صكوك الغفران لكل مخطئ.
ج- الرحمة بالإنسان الضعيف، إذ تعتريه نقائص وعيوب، وتميل به الأهواء والشهوات، فتنويع تلك الشرائع نعمة له ورحمة، إذ هي بجملتها تكمله إذا نقص، وتصوبه إذا أخطأ، وترفعه إذا هبط، وترشده إذا ضل سواء السبيل، حتى إنها لتصل به إلى المستوى الذي يؤهله للخلافة في الأرض، ونيل رضوان الله تعالى ومغفرته في الدنيا والآخرة.
6 -
تشريع الرخص في الشريعة الإسلامية، إنما جاء تفادياً لضررين:
أ- الانقطاع عن التكاليف والإعراض عنها، وذلك بأن تمل منها النفوس وتكرهها، إذ العمل الشاق يوقع الضرر على نفسه أو عقله أو ماله بعمل يتحرج به، أمسك عنه، وتجاوزه إلى غيره.
ب- التقصير في بعض الأعمال، وخاصة إذا كثرت وتزاحمت، فالإنسان الموغل في العمل الشاق، ربما قطعه عن غيره، ولاسيما حقوق الغير التي تتعلق به، فيكون عمله الداخل فيه قاطعاً عما كلفه الله به من سائر الأعمال، فيفرط فيها ويقصر، ويصبح ملوماً لا معذوراً.
7 -
انتقى التشريع الإسلامي (الزواج) مما سواه طريقاً أمثل لإشباع غريزة الجنس؛ لانسجامه مع الفطرة، إذ به يسمو الإنسان عن إشباع حاجته بالطرق الدنيئة، ويضمن استقرار نفسه، وسكون قلبه، وقضاء وطره. أضف إلى ذلك أنه نظام كوني، يسير عليه كل شيء في الكون؛ لأن الزوجية – التي جعلها الله تعالى في مخلوقاته – عبارة عن أن يكون شيء متصفاً بالفعل، وآخر متصفاً بالقبول والانفعال، ويكون في أحدهما التأثير وفي الآخر التأثر، وهذا وذلك هو علاقة الزوجية بينهما، وهي أساس تركيب الأشياء في هذا الكون، وعليه يجري نظام الكون، فكل شيء في الكون يرتبط – من حيث المبدأ والأصل – بهذه العلاقة الزوجية، التي يكون أحدهما فاعلاً، والآخر قابلاً ومنفعلاً، ولا ريب أن تختلف هذه العلاقة باختلاف طبقات المخلوقات وتنوعها. فمن المزاوجة ما يوجد بين العناصر والجواهر، ومنها ما يكون بين المركبات غير النامية، وآخر تراه بين الأجسام النامية، ونوع تعهده في أنواع الحيوان، وكل هذه الأنواع من المزاوجة تختلف في نوعيتها وكيفيتها، ومقاصدها الفطرية، ولكنها تتفق في أصل المزاوجة وجوهرها، ولتحقيق مقصود الفطرة الرئيس، لابد أن يكون أحد زوجيه متصفاً بقوة الفعل، والآخر بقوة الانفعال.
8 -
أوجب التشريع الإسلامي تقديم حكم الله مطلقاً لعدة أمور، منها:
أ- حكم الله تعالى مشتمل على الحق والعدل المطلق دون حكم غيره، ذلك أن الله تعالى وصف نفسه بالحق، ووصف كلماته بالصدق والعدل، وكلها صفات تقتضي مطابقة الحق والعدل، كما أن مقتضى عدل الله سبحانه أن يكون بريئاً من العواطف والنزعات، سالماً من التحيز لفئة، منزهاً عن الرغبات والشهوات، فهو سبحانه وتعالى لا يظلم في الحكم أحداً من الناس كائناً من كان؛ لأنه لا يحقق مصلحة فئة دون فئة، ولا يؤثر جنساً على آخر، بل هو رب الجميع وخالقهم ورازقهم وحاكمهم، ومن كان هذا شأنه لا ينحاز في الحكم أبداً، بل حكمه فيهم عدل مطلق.
ب- حكم الله تعالى ذو هيبة ومكانة عالية في النفوس، يجله الأصاغر والأكابر، ويحترمه الرعاة والرعية، وذلك لما ركز في فطرهم أن الله تعالى كامل في ذاته، منزه عن كل نقص وعيب، سواء كان ذلك في نفسه، أو في فعله، أو في قوله، أو شرعه، وما دام الناس يعتقدون ذلك، ويعرفون أن التشريع من عند الله تعالى، وأنه الصيغة النهائية للتكليف الرباني، فإن له في نفوسهم شأناً عظيماً، وإجلالاً كبيراً، يظهر ذلك من شدة حرصهم على تنفيذه حسب ظروفهم وأحوالهم، حتى لو كان أحدهم في مكان بعيد عن أعين الناس لا يطلع عليه أحد؛ لأنه يعلم أنه – وإن اختفى عن الناس- لكنه لا يختفي عن الله تعالى، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
ج- حكم الله تعالى ثابت ومستقر، لا يتغير بتغير الحكام وتبدل الحكومات، فيستوي فيه أن تكون الهيئة الحاكمة محافظة، أو مجددة، ويستوي فيه أن يكون الحكم جمهورياً أو ملكياً، أو أي شكل من أشكال الحكم، فإن ذلك لا يؤثر عليه؛ لأنه لا يرتبط بهيئة الحكم ولا بجهازه، وإنما يرتبط بنظام الحكم ومنهجه.
9 -
التكافل الاجتماعي الذي أقره الإسلام، أنسب حل وأمثل منهج للقضاء على المشكلة الاقتصادية، فهي إما أن تكون ناشئة عن العجز وعدم الطاقة على العمل، وقد يكون العجز جسدياً أو عقلياً، أو تكون ناشئة عن قلة المصادر الطبيعية وندرتها، بحيث لا تكون كافية لإشباع حاجات البشر إشباعاً كافياً، فالتكافل الاجتماعي المقر بنوعيه المادي والأدبي، يلعب دوراً رئيساً في القضاء على هذه المشكلة، حيث يجعل آحاد الناس الأثرياء في كفالة جماعتهم الفقراء، فالقادر المطيق كفيل للعاجز المعدم، والغني الموسر ضامن للفقير المعسر، حتى تظل القوى البشرية متلاقية في جلب المصالح والمنافع، ودفع المفاسد والمضار.
10 -
أقر التشريع الإسلامي العقوبة لأنها تحمل الناس على امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، فهي التي تجعل الأمر منقاداً ومتبوعاً، والنهي متروكاً ومهجوراً، والفساد مخفياً ومستوراً، إذ المرء مجبول على حب ذاته، حريص على حمايتها من كل أذى ومكروه، والعقوبة تحتوي على أكبر الأذى الذي يحمل المرء على اتقاء أسبابها؛ لأنه يعلم أن صدور ذلك منه سيعود وباله عليه، فكما اكتوى الناس بنار إجرامه وإساءته، سيكتوي هو بنار عقابهم وتأديبهم، ومتى شعر بذلك راجع نفسه كثيراً قبل الإقدام على الجريمة، وحاسبها حساباً شديداً يقيها من وطأة العقاب، بإبعادها عن كل ذريعة تؤدي إليه، ولهذا قيل: إن العقوبات موانع قبل الفعل، وزواجر بعده.
11 -
جدوى العقوبة وكفايتها مدركة بأربعة أمور:
أ- اشتمال العقوبة على الردع والتخويف، وذلك بأن تكون كفيلة لردع كل مجرم عن تكرار الإجرام واعتياده، وتخوف غيره من أن تسول له نفسه سلوك مثله؛ لأن ما يعود عليه من ضرر العقاب، يفوق ما يجنيه من نفع الجريمة.
ب- قدرتها على الإصلاح والتأديب؛ لأن العقوبة لم تقر انتقاماً من المجرم، أو امتهاناً لشخصيته، ولكنها شرعت وأقرت لقدرتها على إصلاح الخلل الكامن في نفسه، وتطهيره مما اقترفته جوارحه من الإثم والعدوان.
ج- تناسبها مع الجريمة حجماً ومقداراً، فقد وضعت العقوبات على قدر الجرائم، ونوعت بحسب تفاوتها في القوة والضعف، وما تحدثه من الضرر والفساد.
د- سريانها على جميع الأشخاص، وذلك بأن تكون العقوبة مطبقة على كل من ارتكب جريمة، دون أن يعفى منها أحد لمركزه أو جاهه، أو أي سبب آخر؛ لأن العقوبة مرتبطة بنوع الإجرام لا بشخصية المجرم.
12 -
إنما كان التشريع الإسلامي صالحاً لحكم الأجيال كلها لأمرين:
أ- يسر تكاليفه وسهولتها، ذلك أن أحكام الإسلام ومبادئه كلها سهلة يسيرة، لا تخرج عن مكنة الإنسان وطاقته، ولا تستعصي على الامتثال والتطبيق، فالشارع الحكيم عندما سن هذه الأحكام والتكاليف، لم تغب عنه طبيعة الإنسان وطاقته المحدودة، بل وضع هذا الأمر في سلم الاعتبار والاهتمام، ولهذا وجد من التكاليف ما أسقط عن الإنسان لمنافاتها لوسعه، وخروجها عن طاقته، كما وجد منها ما خفف عليه كيلا يكون عليه حرج في أدائه.
ب- تلبيته لضرورات الحياة ومطالبها، ذلك أن الإنسان مهما أوتي من رزانة العلم والمعرفة، وسداد العقل والرأي، لا يمكنه أن يضع نظاماً ومنهجاً شاملاً؛ يلبي كافة حاجاته وضرواته، ويعالج جميع شئونه وقضاياه، وإنما القادر على ذلك هو الله تعالى وحده، الذي أحاط بالإنسان وبكل شيء علماً وخبرة وقدرة، فهو العليم بحاجات الإنسان ومصالحه كلها، ولهذا لما رضي له الإسلام ديناً ومنهجاً للحياة، جعله قادراً على تلبية كل ما تمس إليه حاجته، وتقضي بها مصلحته من الضرورات الخمس، التي هي الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال.
12 -
ظروف العصر الحالي تدعو إلى التطبيق العلمي للإسلام، وذلك لأمور ثلاثة:
أ- حاجة البشرية كلها إلى نظام شامل ومتكامل، وذلك أن البشرية في كل زمان ومكان تحتاج إلى الرقي المادي والمعنوي معاً، أما في الآونة الأخيرة، فقد تحقق لها رقيها المادي، وبلغت فيه شأواً بعيداً استطاعت أن تعرج إلى بعض الأجرام السماوية، وتنسمت الحياة عليها، ولكنها ظلت جوعى إلى رقيها الأدبي والمعنوي، لتعيش حياتها بطبيعتها الإنسانية، المكونة من الجسد والروح، بحيث لا يكون ثمة تجاوز على الروح لصالح الجسد، أو تضييق على الجسد لصالح الروح، بل يعطي كل جوهر منها حقه بالقسطاس المستقيم، وما عرف نظام على وجه الأرض غير الإسلام، يقدر أن يحقق للبشرية هذا التوازن والاتزان بين هذين الجوهرين، إذ لا يهمل شقها المادي، ولا يغفل جانبها المعنوي، وإنما يوائم بينهما، حتى ترتقي البشرية بشقيها، دون أن يهبط جانب منها، وتتقدم بكل قواها وطاقتها دون أن يتخلف جزء منها.
ب- اتساع التشريع الإسلامي لكل حادث ونازل، وذلك بفضل ما يمتاز به من الثبات والمرونة، فثباته منصب على الأمور الخالدة خلود الجبال الراسيات، والتي تدوم وتبقى بقاء الأرض والسماء، كالكليات، والجواهر، والأهداف، والغايات، والأركان، والواجبات، ومرونته مرتكزة على الأمور المتغيرة والمتبدلة تبدل الليل والنهار، وتغير الظروف والأحوال، كالفروع والجزئيات، والوسائل والأساليب. فبثباته على الجواهر والكليات، استعصى على الذوبان والخضوع لكل تطور صالح وفاسد، وبالمرونة في الفروع والجزئيات، استطاع أن يواجه كل بيئة وظرف، ويعالج كل حادث ونازل، ويتصدى لكل تغير وتطور، فيقر منه ما كان نافعاً ومفيداً، ويتفق مع اتجاهه ولا يخالفه، ويرد منه ما كان فاسداً وضاراً.
ج- قدرته على إصلاح ما أفسدته النظم البشرية، ذلك أن النظم الوضعية التي صنعتها يد الإنسان، لا توصف بالصحة المطلقة، والاستقامة الكاملة، فيكتفى بها عن بديل آخر، ولهذا وجدت ثمة مفاسد وأضرار احتوت عليها هذه النظم، وعجزت هي نفسها عن إدراكها وتفاديها، بينما أدركها الإسلام ودفعها منذ أربعة عشر قرناً؛ إذ لم تكن لتخفى عليه مصلحة راجحة من المرجوحة، أو مفسدة غالبة من اليسيرة، وهو صادر عن الله تعالى الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
توصيات:
1 -
موضوع (واقعية التشريع الإسلامي) كبير جداً، من الصعب أن تستوعب كافة جوانبه في رسالة مختصرة، إذ ما من نظام من أنظمة الإسلام المختلفة، وأهدافه، سواء كان عقيدة أو عبادة أو معاملة، وما تناولته في هذا البحث يعد مجرد إلمام للموضوع، أشبه بمن يغترف من ماء البحر.
2 -
لابد من مضاعفة الجهد في دراسة مزايا الإسلام وخصائصه الكبرى؛ لأن ذلك يجعل الإسلام أكثر نصاعة ووضوحاً، ويزيد المرء يقيناً بأن هذا المنهج أحق بالاحتذاء والامتثال مما سواه، وهذا ليس لسبقه المتميز في كل مجال، بل أيضاً لبلوغه رتبة الكمال في النظر والتطور، وسلامة مبادئه كلها من التناقض والتضاد، الذي اشتملت عليه النظم البشرية فهدمت آخرها ما بناه أولها، فما كان حراماً بالأمس أصبح حلالاً اليوم، وكذا العكس.
3 -
بما أن ظاهرة الانحراف من الظواهر التي ترتفع نسبتها في أكثر من مجتمع، رغم وجود الوسائل المانعة منها، فإن ذلك لا يرجع إلى صعوبة تلك الظواهر في القضاء عليها، والحد منها، وإنما ذلك راجع إلى عدم جدوى هذه الوسائل، وفقدانها القوة الضرورية الكافية للحد منها، ووضع الخناق عليها، بينما وسائل الإسلام بواقعيتها استطاعت أن تقضي على الجرائم قضاء مبرماً طيلة أربعة عشر قرناً؛ لما فيها من قوة الكبت والمنع ما يبطل الدوافع إلى الإجرام والبواعث لها، فهي بحق زواجر قبل الإجرام، ومانع بعدها، ومن هنا وجب على المسلمين المصير إليها، والالتزام بها؛ ليتحقق لهم ما يصبون إليه من الأمن والأمان في الأنفس والآفاق.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آهل وصحبه أجمعين.