الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صدى حركة الجامعة الإسلامية في المغرب العربي 1876 - 1981م
المؤلف/ المشرف:
التليلي العجيلي
المحقق/ المترجم:
بدون
الناشر:
دار الجنوب - تونس ̈الأولى
سنة الطبع:
2005م
تصنيف رئيس:
دعوة ودعاة
تصنيف فرعي:
مغرب عربي
الخاتمة:
كانت الإمبراطورية العثمانية – في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين – ضحية خطرين فادحين:
ففي الوقت الذي أدت فيه التحولات الاقتصادية والسياسية التي عرفتها بعض الدول الأوربية على إثر الثورة الصناعية إلى موجات استعمارية ذهبت ضحيتها أغلب الإيالات العثمانية في السابق، فإن السياسة العثمانية نفسها، في الجزء الأروبي من الإمبراطورية، إضافة إلى تحريض القوى الاستعمارية لشعوب الجزء المذكور كان وراء تأجج النزعة القومية فيه، وتعدد الحركات الانفصالية التي آلت – في النهاية – إلى فقدان الدولة العثمانية لنفوذها على عدة ولايات وقوميات، خرجت تماما عن سلطتها في الجزء الأوروبي من رقعتها.
لقد دفعت خطورة تلك التورات على مستوى موازين القوى والعلاقات الدولية السلطات العثمانية – حماية لنفسها، ودرءا للأخطار والتحديات الاستعمارية المحدثة بها – إلى استغلال نفوذها الديني على العالم الإسلامي، وتجنيده من حولها.
فكانت سياسة الجامعة الإسلامية التي جعلت من الآستانة (مكة ثانية) غدت قبلة جميع المضطهدين والمهاجرين من جميع أنحاء العالم الإسلامي، فاستقطبت –بذلك- عاصمة الخلافة أغلب الوطنيين والفاعلين على المستوى الفكري والسياسي من عناصر النخبة في البلاد الإسلامية، ولفتت إليها أنظار المسلمين، ولفتهم حولها، ملوحة بتحريك أولئك الذين سقطوا منهم ضحية الاستعمار الغربي ضد مستعمريهم، وإعانتهم على التخلص منهم، واستعادة حرياتهم واستقلالهم، وهي وعود مغرية، وشعارات محفزة زادت من نفوذ الخلافة وسلطتها الروحية والسياسية كقطب، ليس فقط موحد للمسلمين وجامع لكلمتهم، ولكن بالخصوص كَمَرْكز مسؤول عن شؤونهم ومؤتمن عن مصيرهم، لأن حمايتهم والذود عنهم يعد من أبرز مقتضيات الاستخلاف.
ورغم أن كل ذلك لا يعدو أن يكون إلا قولا لعجز الدولة العثمانية عن حماية نفسها فضلا عن حمايتها لغيرها، فإن تلك المعاني روجت لها – على أوسع نطاق – وسائل الدعاية العثمانية، وزادها انتشارا وذيوعا بين المسلمين ما ترسب في أذهانهم –نظريا- عن مؤسسة الخلافة ومستلزماتها، فأزدادوا –دون أن يدركوا حقيقة الأوضاع – تمسكا وولاء لها، وتعويلا عليها في تخليص بلدانهم من الاحتلال الأجنبي، فلا غاربة أن ينخرط العديد من الوطنيين في تيار الجامعة الإسلامية خدمة لقضايا بلدانهم، وتعويلا عليه في إعانتهم على تحررهم الوطني:
ففي الوقت الذي راهنت فيها الدولة العثمانية على ايديولجية الجامعة الإسلامية كخيار استراتيجي لتوحيد المسلمين حولها والاستفادة من وزنهم في حماية نفسها ودفع الأخطار المهددة لها، فإن الوطنيين علقوا من جانبهم الآمال على الإيديولجية المذكورة، معولين على توظيفها في خدمة قضاياهم، فعملوا على جر الدولة العثمانية إلى الاهتمام بها، وحملها على مساعدتهم على التحرر والانعتاق.
ودون الخوض في مسألة من استفاد الأكثر من الآخر، فإن مما لاشك فيه أن تحركات الوطنيين المغاربة ونضالاتهم في إطار الجامعة الإسلامية لم يكن فقط وبالدرجة الأولى خدمة لمصالح الدولة العثمانية وقضاياها تبعا (لوطنيتهم العثمانية)، وإنما كانت في إطار خدمة قضايا بلدانهم في إطار استراتيجية قوامها المراهنة على معاني الأخوة والتضامن الإسلامي الذي يحتم نجدة المسلمين لبعضهم في تصور – رغم عدم واقعيته – يجعلهم متماسكين، متآلفين ومدعوين إلى المسارعة بنصرة بعضهم بعضا، وهي كلها معاني جاءت الجامعة الإسلامية لتجسيدها، واعتبرت أحداث طرابلس الغرب والبلقان أفضل فرصة لتطبيقها، الأمر الذي أعاد إلى الأذهان حيوية وجدوى مؤسسة الخلافة، ودورها في ترسيخ تلك المعاني، خصوصا وأن ظروف التحديات والخطوب التي تأكدت في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين أوجدت لدى المسلمين قابلية لاستيعاب تلك الأطروحات والتعويل على نجاعتها في خدمة الإسلام والمسلمين، بدعوى ما حققته رابطة الملة والدين – في الماضي – من أمجاد وبطولات بالإمكان – دون تقدير منهم للتحولات في الظروف وموازين القوى – تحقيق مثلها في واقع معاصر لا علاقة له البتة بواقع أسلافهم.
لقد جاءت تصفية الوجود الإسلامي بالأندلس على إثر حركة الاسترداد، إضافة إلى التوغلات الإسبانية في سواحل شمال إفريقيا والاستيلاء على عدة ثغور هناك لتعيد إلى الذاكرة الجماعية الحملات الصليبية، والهجمات المسيحية، على العالم الإسلامي، والتي جاء تدخل العثمانيين في كل من الجزائر وتونس في القرن السادس عشر ليضع لها حدا نهائيا، ويخلص مسلمي البلدين من خطر عجزوا على دحره بمفردهم، الأمر الذي جعل ما استهدف له المسلمون في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين وراء شعورهم بالاضطهاد والاستعداء عليهم، وتنامي إحساسهم بالتآمر الغربي جراء تشتتهم وتشرذمهم، وهو مناخ نفسي هيأهم للتقارب والتآزر، وأوجد لديهم قابلية قصوى للتوحد والالتفاف حول الخلافة العثمانية رمز تلك الوحدة وذلك التآزر، خصوصا وأن الأوضاع المذكورة أعادت – بالنسبة إلى مسلمي المغرب العربي – تحديات وأخطار القرن السادس عشر، فلم يجدوا – آنذاك – غير العثمانيين الذين هبوا – كما أسلفنا – لنجدتهم وتخليصهم من الوجود الإسباني، وهي (منة) جاء الاستعمار الفرنسي وسياسته القائمة أساسا على ضرب معالم سيادتهم ورموز هويتهم، فضلا عن إضراره بموارد حياتهم، والمس بمواقعهم الاجتماعية، ليزيد من تمجيد المغاربة للفترة العثمانية في تاريخ بلدانهم، ويساهم في تدعيم ولائهم لهم، والتعويل عليهم مرة أخرى – كما كان الشأن في القرن السادس عشر – في نجدتهم وإعانتهم على التخلص من الاستعمار الجاثم على أوطانهم، فانخرطوا في حركة الجامعة الإسلامية التي كانوا من أبرز رموزها والمروجين لها، والمساهمين – بالتالي – في كسر الجمود والركود الذي يمزق العالم الإسلامي في تاريخه الحديث، وإخراجه من السكونية التي غرق فيها بإيجاد حركية فكرية وثقافية وسياسية رجت النفوس الخاملة، وهزت الهمم المحتقنة، وحررت الطاقة الكامنة والمكبوتة، ووفرت لها أرضية ومجالات للتعبير عما يختلج بداخلها، فَمَثَّل كل ذلك بداية تلمس معالم نهضة حضارية، وحرص على إيجاد موقع قدم يحفظ وجود الذات، ويثبت الكيان، ويخرج المسلمين من موقع المستضعف وخانة المفعول به إلى صف المبادر والفاعل على مستوى الأحداث والتوازنات الدولية، وبذلك نتبين أن الولاء للعثمانيين يجد مبرراته بالأساس في الأوضاع الدقيقة، والظروف الحرجة التي حاقت بالعالم الإسلامي منذ الفترة الوسيطة من تاريخه، والتي لعبوا فيها دورا بارزا ومحددا في الدفاع عن (بيضة الإسلام)، وهي امتيازات أهلتهم (العثمانيون) للظهور – على مسرح الأحداث – كقوة ضاربة أوكلت لها – بعد نهاية العباسين – مسؤولية الدفاع عن المسلمين ومهمة حمايتهم، الأمر الذي خولهم لتولي منصب الخلافة وتقلد الزعامة الروحية للعالم الإسلامي.
لقد كان ذلك الولاء التاريخي، إضافة إلى مستجدات نهاية القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، وراء إلتفاف مسلمي المغرب الغربي حول مركز الخلافة، وتدعم ولائهم له، وهو ولاء لا يمكن البتة اعتباره مندرجا في إطار حرص الوطنيين على استعادة استقلال بلدانهم في ظل الدولة العثمانية – كما كان الشأن في الفترة الحديثة -، وإنما يهدف بالأساس إلى الاستفادة من نفوذ مركز الخلافة وثقله الديني والسياسي في إعانتهم على تحرير بلدانهم.
إن ما يؤكد أهمية الدولة العثمانية في أذهان المسلمين، وقيمة مؤسسة الخلافة في المنظور الإسلامي أن ولاء المسلمين لها لم يكن له أبدا علاقة بضعفها أو قوتها، حتى أن ولاء المغاربة مثلا للدولة العثمانية لم ينقطع بانتهاء الحرب العالمية الأولى، ووجودها في صف المنهزمين، بل إن اندحارها وانكسارها مع حلفائها زاد في انشغال المغاربة بمصير مركز خلافتهم وتلهفهم على تتبع الأحداث والتطورات المتعلقة به، ولا أدل على صدى الأحداث التركية وانعكاساتها المباشرة على الرأي العام المغاربي، من الرجة التي اهتزت لها نفوس المغاربة وخفقت لها قلوبهم من جراء الاحتلال اليوناني – في مارس 1920 – لعاصمة الخلافة.
لقد كانت تلك التطورات وراء ردود فعل شعبية في كل من طرابلس الغرب، وخصوصا في تونس أي تظاهر الطلبة الزيتونيون أمام مقر الإقامة العامة احتجاجا على احتلال جيوش الحلفاء لعاصمة الخلافة، كما تتبعت الصحافة سير المعارك على التراب التركي، بحيث لم تنفرج الأوضاع إلا بورود أنباء انتصارات مصطفى كمال على الجيش اليوناني، فانتظمت الاحتفالات وأبرق التونسيون للكماليين، كما انبرى الشعراء مخلدين تلك الانتصارات المدوية، كما عرفت الجزائر نفس الأجواء الاحتفالية، وتتبع أهالي المغرب الأقصى أصداء الزحف التركي وتحرير البلاد.
إن أهمية الخلافة وقدسيتها – بقطع النظر عن مدى جدوى وفاعلية المؤسسة المذكورة – كان وراء ليس فقط لهفة المسلمين عامة وأهل المغرب العربي خاصة عن مصيرها على إثر اقتحام جيوش الحلفاء للتراب التركي، وإنما بالخصوص سببا لقبولهم بفصل الكماليين بين السلطتين الدينية والدنيوية بجعل الخليفة صاحب منصب ديني وشخصية روحية فقط، مقابل جعل السلطة السياسية من مشمولات الوزراء، ورغم أن الفصل المذكور مخالف تماما للمفهوم التقليدي لمؤسسة الخلافة، فإنه قوبل – في تونس مثلا – بالاستحسان، وتكونت، سنة 1922 – (لجنة الخلافة) برئاسة أحمد توفيق المدني أبرقت إلى الخليفة عبد المجيد!، كما أيد الأمير خالد وبعض الأوساط الدينية الجزائرية ذلك الفصل!.
ورغم إقرارنا بأن قبول المسلمين آنذاك بما ذكر يجد مبرراته في انتصارات الكماليين التي أوجدت لهم – لدى الرأي العام الإسلامي – عذرهم فقبل (تجاوزاتهم) وغض عنها الطرف، فإن السبب الرئيسي في ذلك القبول يعود – في نظرنا – إلى عدم مس الكماليين – إلى حد سنة 1923 – بمؤسسة الخلافة لحساسيتها بالنسبة إلى المسلمين، وخطورة المس بها، والدليل هو أنه لما تجرؤوا (الكماليون) – في مارس 1924 – على إلغائها وطرد الخليفة، صعق المسلمون، واستنكروا التجاوز الخطير الذي لم يعد كل ما أنجزه مصطفى كامل – الذي لقبوه بالغازي – كافيا ولا مبررا للسكوت عنه، وبذلك استهدف الكماليون إلى جملة تشنيع واسعة النطاق، وانبري الشعراء يهاجمون من كانوا – بالأمس القريب – يمدحونهم، كما انقلب عليهم العديدون ممن ناصروهم وساندوهم حتى نهاية سنة 1923.
إن إجلال المسلمين وتقديسهم لمنصب الخلافة، ورفضهم المطلق لزوال مؤسسة ارتبطت بوجودهم، وامتزجت بتاريخهم وحضارتهم جعل التونسيين مثلا يتمسكون ببيعة الخليفة عبد المجيد حتى وهو مبعد في سويسرا!!، بل أن الأيمة استمروا في الجوامع – حتى مطلع الثلاثينات – يخطبون باسم الخليفة العثماني، بل إن الإصرار على ضرورة وجود خليفة كان وراء تهافت العديد من (المترشحين) على الفوز بالمنصب المذكور الذي انعقدت من أجل إحيائه العديد من المؤتمرات في ظرفية بدأت فيها بعض البلدان الإسلامية تعرف بوادر تيارات ثقافية وسياسية ليبرالية وعلمانية!!.
إن كل تلك التطورات والتحولات تحملنا على التساؤل عما إذا كان إلغاء الخلافة قد شكل قطيعة جذرية على مستوى الفكر السياسي في تاريخ العالم الإسلامي بأن حَرَرَهُ من كابوس مؤسسة ضاغطة حالت دون تطوره خصوصا في ظرفية لم تعد فها الثقافة الإسلامية التقليدية هي السائدة، الأمر الذي كان وراء بداية انزياح المعالم الفكرية والثقافية المميزة لفترة تاريخية سادت فيها مفاهيم (أممية) جسدتها في المنظور الإسلامي التقليدي مصطلحات (الأمة) والجامعات الإسلامية، وأشرت – بالتالي – لبداية مرحلة جديدة من النضال السياسي، قوامها الأحزاب والتنظيمات الوطنية، وتكريس القطرية في مفهومها الإقليمي الضيق، الأمر الذي جعل حركات التحرر تعول – في كسبها للمعركة – ليس فقط على الالتصاق بالجماهير الشعبية توسيعا لقاعدتها، وإنما كذلك على دعم ومساندة القوى الحرة المناهضة للاستعمار، والمنافحة عن حق الشعوب في التحرر والانعتاق.