الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة
المؤلف/ المشرف:
صديق حسن خان القنوجي
المحقق/ المترجم:
مجموعة من الأساتذة بدون ̈الأولى
سنة الطبع:
1411هـ
تصنيف رئيس:
سياسة شرعية
تصنيف فرعي:
إمامة عظمى وخلافة واستخلاف
في حكم الاتصال بالسلاطين
اعلم أن كثيراً من القاصرين يعتقد أن من طلب ما يقوم بما يغنيه ومن يعول، ودخل في الأسباب التي يتحصل منها ذلك، خارج عن طريق الصالحين، مخالف لهدي المرسلين، مباين لمسلك الزاهدين، وهو وهم عظيم وجهل كبير، فإنه قد طلب ذلك سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وسأل ربه الغنى كما في الصحيحين وغيرهما أنه كان يقول:(اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى)(1) والأحاديث في هذا كثيرة جداً، وامتن الله سبحانه عليه بالغنى، فقال:(ووجدك عائلاً فأغنى)(2) وثبت في الصحيحين وغيرهما أنه دعا لخادمه أنس بالغنى، وثبت في الصحيح أنه قال:(اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع)(3) وقال: (حبب إلي الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة)(4) وهو حديث صحيح. وثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه: (ما جاءك من هذا المال وأنت غير مستشرف ولا سائل فخذه، ومالا فلا تتبعه نفسك)(5). وثبت في أحاديث صحيحة النهي عن المسألة إلا للسلطان، ومن ذلك ما حكاه الله سبحانه عن موسى عليه السلام أنه قال:(رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير)(6) وما حكاه الله سبحانه أن يوسف عليه السلام قال لعزيز مصر: (اجعلني على خزائن الأرض)(7)، وقال أيوب عليه السلام لما رأى جراداً من ذهب تسقط عنده فجعل يلتقطها فقال الله عز وجل له: ألم أغنك عن هذا؟ فقال: بلى، ولكن لا غنى لي عن بركتك، كما في الحديث الثابت في الصحيح، وقال عيسى عليه السلام فيما حكاه الله عنه:(وارزقنا وأنت خير الرازقين)(8) ومن ذلك سؤال حسنة الدنيا كما في قوله عز وجل: (ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب)(9) وقوله عز وجل: (وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب)(10).
(1) رواه مسلم (2721) في الذكر والدعاء، والترمذي (3484) في الدعوات.
(2)
الضحى: 8.
(3)
أخرجه أبو داود (1547)، والنسائي 8/ 263. وهو حديث حسن.
(4)
أخرجه النسائي 7/ 61 في عشرة النساء، ورواه أحمد في المسند 3/ 128 و199 و285.
(5)
أخرجه النسائي 5/ 103 في الزكاة، وإسناده صحيح.
(6)
القصص: 24.
(7)
يوسف: 55.
(8)
المائدة: 114.
(9)
البقرة: 201 - 202.
(10)
الصف: 13.
والحاصل أن طلب الرزق كائن من غالب العباد؛ الأنبياء والعلماء والزاهدين، بل لو قال قائل: إنهم كلهم طالبون لرزق الله عز وجل لم يكن بعيداً، فإنهم يسألون من الله عز وجل الأمطار وصلاح الثمار والبركة في الأرزاق، وهذا هو من طلب الرزق وهو كائن من جميع بني آدم، والمتورع منهم يقيد سؤاله بأن يكون ذلك من وجه حلال. والدعاء هو من جملة السعي في تحصيل الرزق وكذلك جميع الأسباب المحصلة له على اختلاف أنواعها وتباين طرقها، ومن أنكر هذا فقد أنكر ما هو معلوم لكل فرد من أفراد بني آدم، انظر ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم في أيام النبوة فإن كل واحد منهم يتعلق بسبب من أسباب الرزق كائناً ما كان، ومن عجز عن ذلك قبل ما يصل إليه، كأهل الصفة فإن وقوفهم فيها هو من طلب الرزق، وهكذا بعد أيام النبوة فإن الخلفاء الراشدين يجعلون لأنفسهم نصيباً من بيت المال يقوم بما يحتاجون إليه لأنفسهم ولمن يعولون على وجه العدل وعلى طريقة الزهد وهم أزهد العباد في الدنيا وفي الاشتغال بها، كذلك من كان منهم بعد انقضاء خلافة النبوة التي يقول فيها الصادق المصدوق:(الخلافة بعدي ثلاثون عاماً، ثم يكون ملكاً عضوضاً)(1) فإن هذه المدة انقضت بخلافة الحسن السِّبط رضي الله عنه ثم كانت من بعده ملكاً عضوضاً وفيها- أعني المدة التي بعد انقضاء مدة الخلافة- القيام بحفظ بيضة الإسلام وجهاد الكفار وفتح ما لم يكن قد فتح من الأقطار، وكان الصحابة رضي الله عنهم يقصدون من بيده أمر المسلمين ويطلبون منه مالهم فيه حق من بيوت الأموال التي بيده، وذلك هو من طلب الرزق ويقبلون منه ما يعطيهم من غير كشف عن حقيقة الحال، وهكذا من بعدهم من التابعين. وكان هذا حال خير القرون ثم الذين يلونهم كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة. وكان من أهل هذين القرنين من يلي للقائمين بالأمر الأعمال من قضاء وإمارة على بعض البلاد وإمارة على جيش ولا ينكر هذا منكر ولا يخالف فيه مخالف، وهذا هو نوع من أنواع طلب الرزق وإن كان العمل قربة كالقاضي وأمير جيش الجهاد فإنه لا ينافي ما هو فيه من القربة أخذ ما يحتاج إليه من بيت مال المسلمين، وما زال عمل المسلمين على هذا منذ قامت الملة الإسلامية إلى الآن مع كل ملك من الملوك، فجماعة يلون لهم القضاء، وجماعة يلون لهم الإفتاء، وجماعة يلون لهم على البلاد التي إليهم، وجماعة يلون لهم إمارة الجيش، وجماعة يدرسون في المدائن الموضوعة لذلك وغالب جراياهم من بيت المال، فإن قلت: قد يكون في الملوك من هو ظالم جائر، قلت: نعم، ولكن هذا المتصل بهم لم يتصل بهم ليعينهم على ظلمهم وجورهم بل ليقضي بين الناس بحكم الله أو يفتي بحكم الله أو يقبض من الرعايا ما أوجبه الله أو يجاهد من يحق جهاده أو يعادي من يحق عداوته، فإن كان الأمر هكذا فلو كان الملك قد بلغ من الظلم إلى أعلى درجاته لم يكن على هؤلاء من ظلمه شيء، بل إذا كان لأحدهم مدخل في تخفيف الظلم ولو أقل قليل وأحقر حقير كان مع ما هو فيه من المنصب مأجوراً أبلغ أجر لأنه قد صار مع منصبه في حكم من يطلب الحق ويكره الباطل ويسعى بما تبلغ إليه طاقته في دفعه، ولم يعنه على ظلمه ولا سعى في تقرير ما هو عليه أو تحسينه أو إيراد الشبه في تجويزه، فإن أدخل نفسه في شيء من هذه الأمور فهو في عداد الظلمة وفريق الجورة ومن جملة الخونة، وليس كلامنا فيمن كان هكذا إنما كان كلامنا في من قام بما وكل إليه من الأمر الديني غير مشتغل بما هم فيه إلا ما كان من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو تخفيف ظلم أو تخويف من عاقبته أو وعظ فاعله بما يندفع منه بعض شره.
(1) تقدم في الصفحة (103).
وكيف يظن بحامل علم أو بذي علم أن يداخل الظلمة فيما هو ظلم، وقد تبرأ الله سبحانه إلى عباده من الظلم فقال:(وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)(1) وقال: (وما ربك بظلام للعبيد)(2)، وقال:(ولا يظلم ربك أحداً)(3) وقال: (إن الله لا يظلم الناس شيئاً)(4) وقال: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة)(5) وقال: (وما الله يريد ظلماً للعباد)(6) وقال: (وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين)(7)، وغير ذلك من الآيات القرآنية. وقال في الحديث القدسي:(يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً لا تظالموا)(8) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته)(9) ثم قرأ: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد) وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الظلم ظلمات يوم القيامة)(10) وأخرج نحوه مسلم وغيره من حديث جابر. وفي الصحيح من حديث أبي هريرة (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه)(11) وفي لفظ: (لا يظلمه ولا يخذله).
والأحاديث الواردة في تحريم الظلم وذم فاعله وما يستحقه من العقوبة كثيرة جداً وقد أجمع المسلمون على تحريمه ولم يخالف في ذلك مخالف وأجمع العقلاء على أنه من أعظم ما تستقبحه العقول، ثم قد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا في مداخله الظلمة ما هو القول الفصل والحكم العدل، فقال في حديث صحيح -أخرجه الترمذي في موضعين من سننه- وأوضح ذلك أتم إيضاح وبينه أكمل بيان:(من غشي أبوابهم وصدقهم في كذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولا أنا منه ولا هو وارد علي الحوض يوم القيامة، ومن لم يغشهم ولم يصدقهم في كذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وهو وارد علي الحوض يوم القيامة)(12) وقد ثبت في الصحيح في ذكر أئمة الجور ومداخلتهم، فقال صلى الله عليه وسلم:(ولكن من رضي وتابع) فنقرر لك بهذا أن المداخل لهم إذا لم يصدقهم في كذبهم ولا أعانهم على ظلمهم ولا رضي ولا تابع فهو من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فكانت هذه مرتبة عالية وفضيلة جليلة فكيف إذا جمع بين عدم وقوع ذلك منه والسعي في التخفيف أو في الموعظة الحسنة.
(1) النحل: 118.
(2)
فصلت: 46.
(3)
الكهف: 49.
(4)
يونس: 44.
(5)
النساء: 40.
(6)
غافر: 31.
(7)
الزخرف: 76.
(8)
تقدم في الصفحة (316).
(9)
تقدم في الصفحة (318).
(10)
تقدم في الصفحة (318).
(11)
تقدم في الصفحة (101).
(12)
أخرجه الترمذي (614) والنسائي 7/ 160.
ولا يخفى على ذي عقل أنه لو امتنع أهل العلم والفضل والدين من مداخلة الملوك لتعطلت الشريعة المطهرة لعدم وجود من يقوم بها، وتبدلت تلك المملكة الإسلامية بالمملكة الجاهلية في الأحكام الشرعية من ديانة ومعاملة، وعم الجهل وطم وخولفت أحكام الكتاب والسنة جهاراً لا سيما من الملك وخاصته وأتباعه وحصل لهم الغرض الموافق لهم وخبطوا في دين الإسلام كيف شاؤوا، وخالفوه مخالفة ظاهرة، واستبيحت الأموال واستحلت الفروج، وعطلت المساجد والمدارس وانتهكت الحرم، وذهبت شعائر الإسلام، ولا سيما الملوك الذين لا يفعلون ذلك إلا مخافة على ملكهم أن يسلب وعلى دولتهم أن تذهب وعلى أموالهم أن تنهب وعلى حرمتهم أن تنتهك وعلى عزهم أن يذل ووجدوا عظيم السبيل إلى التخلص عن أكثر الأحكام الإسلامية قائلين: جهلنا، لم نجد من يعلمنا، لم نلق من يبصرنا، فرّ عنا العارفون بالدين وهرب منا العلماء العاملون. وفي الحقيقة أنهم معدون ذلك فرصة انتهزوها وشدة أطلقت عن أعناقهم وعزيمة إسلامية ذهبت عنهم، ومع هذا فلم يختصوا بهذه الوسيلة التي فرحوا بها والذريعة التي انقطعت عنهم، بل الشيطان الرجيم أشد فرحاً بذلك وأعظم سروراً منهم، فإنه قد خلي بينه وبين السواد الأعظم، يتلاعب بهم كيف شاء ويستعبدهم كيف أراد، وهذه فرصة ما ظفر من أهل الإسلام بمثلها ولا كان في حسابه أن يسعفه دهره بأقل منها.
وسبب هذا البلاء العظيم والخطب الوخيم والرزء للإسلام وأهله الذي لا يقادر قدره ولا يتهيأ مدى الدهر مثله صنفان من الناس: الصنف الأول: جماعة زهدوا بغير علم وعبدوا بغير فهم وتورعوا بغير إدراك للمصالح الشرعية والشعائر الدينية وما يفضي إلى تعطل الأحكام وذهاب غالب دين الإسلام، فتصدروا للمواعظ والإرشاد للعباد، وبالغوا في ذلك ومقصدهم حسن وصورة فعلهم جميلة، ولكنهم لما لم يكن لهم من العلم ما يوردون به الأشياء مواردها ويصدرونها مصادرها جعلوا لقصورهم أهل المناصب الدينية التي لا يتم أمرها ولا ينفذ حكمها إلا بسلطان الأرض وملك البلاد من جملة أنواع الظلم وجعلوا صاحبها من جملة أعوان الظلمة وسمع ذلك منهم عامة رعاع يغشون مجالس مثلهم من القصاص مع خلو هؤلاء السامعين عن الورع، وتعطلهم عن علم الشرع، فأخذوا تلك المواعظ على ظاهرها وقبلوها حق قبولها، بخلوِّ أذهانهم عن وازع الشرع والعقل والورع، فطار بين هذين النوعين من الجهل ما يملأ الخافقين ولأمر ما كان كثير من السلف يمنعون الذين كانوا يقصون على الناس ويتصدرون لوعظهم وتذكيرهم لما هم عليه من جهل الشريعة، ولما يرتكبونه من إيراد الأحاديث المكذوبة والقصص الباطلة وكان عليهم أن يقصروا عن ذلك ويكلوا ذلك إلى علماء الكتاب والسنة الذين يدعون الناس إلى حق هو معلوم لديهم، وشرع هو صحيح عندهم.
والصنف الثاني: جماعة لهم شغلة بالعلم وأهلية له، وأرادوا أن يكون لهم من المناصب التي قد صارت بيد غيرهم ما ينتفعون به في دنياهم، فأعوزهم ذلك وعجزوا عنه، فأظهروا الرغبة عنه وأنهم تركوه اختياراً ورغبة وتنزهاً عنه وضربت ألسنتهم بسب أهل المناصب الدينية وثلب أعراضهم والتنقص بهم، وأظهروا أنهم إنما تركوا ذلك لأن فيه مداخلة للملوك وأخذ بعض من بيوت الأموال وأن أهل المناصب قد صاروا أعواناً للظلمة ومن الآكلين للسحت ولا حامل لهم على ذلك إلا مجرد الحسد والبغي والتحسر على أن يكونوا مثلهم، فوضعوا أنفسهم موضع التعفف عن ذلك والتورع عنه بنيات فاسدة كاسدة مع ما في ذلك من الدخول في خصلة من خصال النفاق والوقوع في معرة بلية الرياء، والولع بالغيبة المحرمة لغير سبب وبغير حق، وأدخلوا أنفسهم في هذه المصائب والمثالب والمعاصي والمخازي والجرائم والمآثم على علم منهم بتحريمها، وكما قال القائل:
يدعوا وكل دعائه ........... ما للفريسة ما تقع
عجل بها ياذا العلى .......... إن الفؤاد قد انصدع
وقد عرفنا من هذا الجنس جماعات وانتهت أحوالهم إلى بليات، وعرفنا منهم من ظفر بعد استكثاره من هذه البليات بمنصب من المناصب فكان أشر أهل ذلك المنصب، وبلغ في التكالب على الحطام والتهافت على الحرام إلى أبلغ غاية.
ومنهم من جالس بعد مزيد التعفف وكثرة التأفف ملكاً أو قريب ملك أو صاحب ملك، فصار يطريهم بما يستحل بعضه فضلاً عن كله من له أدنى وازع من دين، بل أدنى زاجر من عقل، بل عرفنا من صار منهم نماماً وضعه من يتصل به لنقل أخبار الناس إليه ففعل، ولكن لم يقتصر على نقل ما سمع بل جاوز ذلك إلى التزيد عليه بالزور والبهت حتى يجعل ذلك الذي وضعه للنقل عدواً عظيماً لمن لا ذنب له، ولا قال بعض ما كذب به عنه فضلاً عن كله.
والجملة ما جربنا واحداً من هذا الصنف إلا وكشفت الأيام عن باطن يخالف ما كان يظهره وقول وفعل ينافي ما كان يشتغل به أيام تعطله، فليأخذ المتحري لدينه حذره منهم، ولا يركن إليهم في شيء من الأعمال الدينية كائن من كان.
فإن قلت: إذا ظهروا ظهوراً بيناً أن بعض المداخلين يعينه على ظلمه بيده أو لسانه أو يسوغ له ذلك، أو يظهر من الثناء عليه ما لا يجوز إطلاقه على مثله؟ قلت: من كان هكذا فهو من جنس الظلمة وليس من الجنس الذي قدمنا ذكرهم من المداخلين لهم، والظلم كما يكون باليد يكون باللسان وبالقلم وقد يكون ذلك أشد، وكلامنا فيمن يتصل بهم غير معين لهم على ما لا يحل ولا مشارك لهم بيد ولا لسان، بل يكون جل مقصده بالاتصال بهم الاستعانة بقوتهم على أحكام الله عز وجل وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بحسب الحال وبما تبلغ إليه الطاقة، مثلاً إذا كان العالم ينكر ما يراه من المنكرات على الرعايا ولا يقدر على ذلك إلا إذا كان له يد من السلطان يستعين بها على ذلك، فهذا خير كبير وأجر عظيم، وكذلك إذا كان لا يقدر على فصل الخصومات وإرشاد الناس إلى الطاعات إلا باليد من السلطان فذلك مسوغ صحيح أيضاً، وهكذا إذا كان لا يقدر على تخفيف بعض ما يفعله وزراء السلطان وأمراؤه وأهل خاصته من الظلم إلا باتصاله بالسلطان، فهو أيضاً مسوغ صحيح، وهكذا إذا كان السلطان يصغي في الموعظة منهم في بعض الأحوال وينزجر عن فعل المنكرات، أو يخفف ذلك شيئاً ما، فهذا مسوغ صحيح.
واعلم أن أحوال السلاطين كما قال بعض السلف لهم طاعات كثيرة ومعاصي كبيرة، وصدق هذا القائل فمن طاعتهم تأمين السبل وتأمين الضعفاء من الأقوياء والحيلولة بينهم وبين ما يريدون من ظلمهم، وجهاد أهل الكفر والبغي والمتجارين على نهب الضعفاء وهتك حرمهم وتخويفهم ومغالبتهم على ما تحت أيدهم من أملاكهم، وإقامة الحدود الشرعية والقصاص، وإقامة شعائر الإسلام، والقيام من رعاياهم بواجباته ونصب القضاة لفصل الخصومات بالطريق الشرعية، وأهل الحسبة بالقيام بوظيفة الحسبة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجمع الجيوش وتأمير الأمراء لقهر أعداء الدين والقيام بما يحتاجونه من بيوت الأموال، وإحياء مدار العلم بنصب المدرسين والمفتين، وإمساك أهل الجسارة عما يريدونه من الفساد في الأرض بهيبة السلطان ومخافة الإيقاع بهم، فإن كثيراً بل الأكثر لولا مخافة السلطان لكان له من الأفاعيل مالم يكن في حساب ولهذا ترى من لا سلطان عليه في جميع البلاد يفعل ما ترجف منه القلوب وتذرف منه الدموع. ورحم الله الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز فإنه قال: إن الله ليزع بالسلطان مالم يزع بالقرآن. وصدق فما قاله هو الحق الذي يعلمه كل عاقل، فإن غالب الناس لولا مخافة عقوبة السلطان له لترك الواجبات إلا النادر، وفعل من المنكرات مالا يأتي عليه الحصر. وأما أهل المخافة من الله عز وجل الذين يفعلون الواجب لكونه أوجبه الله عليهم ويتركون المنكرات لكون الله عز وجل نهاهم عنها فهم أقل قليل. ومن أنكر شيئاً من هذا فليبحث عن حقائق الأمور وينظر في مصادرها ومواردها وأحوال الفاعلين لها حتى يتضح له أن الأمر كما قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
وأما كون للسلاطين معاصي كبيرة فإنه قد تأخذه النفس العصبية فيسفك الدماء ويستحل الأموال المحترمة وقد يهلك أهل قرية بسبب شذوذ فرد منهم عن طاعته، وقد تشره نفسه إلى ما في أيدي الرعايا فيأخذ منها لا على قانون الشريعة المطهرة، وينصب لذلك شباك الحيل وذرائع الظلم، وقد يطاوع نفسه الشهوانية فيفعل ما تشتهيه ويرتكب محرمات الله عز وجل ويفعل ما يريده لعدم نفوذ قول قائل عليه، إذا لا سلطان عليه إلا من عصم الله وقليل ماهم. حكي عن بعض سلاطين الإسلام أنه كان يجتمع مع من يجالسه على كثير من اللهو والفسوق وكان في المدينة التي هو منها رجل صالح ينكر ما يبلغه من المنكرات، وإذا رأى إناء فيه خمر كسره، فمر يوماً من تحت دار السلطان فقال للسلطان بعض جلسائه: هذا فلان الذي إذا رأى إناء من الخمر بيد أحد من الناس كسره، وإذا رأى منكراً غيره، فأمر من يدخله إلى مجلسه ثم قال له: أنت تنكر على الضعفاء من الناس ما تراه من المنكرات وتكسر ما تراه عندهم من أواني الخمر، وهذه عندنا من الأواني ما تراه فهل تستطيع أن تغير ذلك علينا؟ فقال له: أنا ضعيف أنكر على مثلي من الضعفاء لقدرتي على ذلك؛ وأما أنت يا سلطان فكما قال الله عز وجل: (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً)(1) فبكى السلطان وقال: وأنا أيضاً فأنكر علي وقم ارم بهذه الأواني من هذه الطاقات، فقام ورمى بها وتاب السلطان فلم يعد إلى شيء مما كان عليه، فإذا عرفت أن للسلاطين تلك المحاسن وتلك المساويء ونظرت إلى ذلك بعين الصواب علمت أن فيه من خصال الخير ما نفعه لك ولغيرك أكثر من الضر، وقد عرفت ما يقوله أهل الفقه وغيرهم أن محبته بخصال خير فيه مما لا بأس به، فإذا كانت هذه المحبة جائزة فكيف لا يجوز ما هو دونها من الاتصال به لأحد الأسباب المتقدم ذكرها مع كون المتصل به على الرجاء بأن تقبل منه موعظة أو يترك بعض ما يقارفه حياءً منه، فإن منزلة العلم والفضل لها من المهابة في صدور كل أحد، والتعظيم لها والحشمة منها مالا يخفى إلا على بهيمي الطبع ولا ينكر ذلك إلا مسلوب الفهم. وعلى كل حال فمواصلته لتلك الأسباب لا يتردد أحد في جوازها بل قد يكون في بعضها حسناً، بل قد يكون واجباً إذا لم يتم الواجب إلا به أولم يندفع المحرم إلا به، وهذا لا يخفى على أدنى الناس علماً وفهماً. والممنوع هو مواصلته لا لمصلحة دينية تعود على فرد من أفراد المسلمين أو أفراد إذا ترتب على ذلك مفسدة، فكيف وقد ثبت في الكتاب العزيز الأمر بطاعة أولي الأمر وجعل الله أولي الأمر وطاعتهم بعد طاعة الله سبحانه وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتواتر في السنة المطهرة في الأمهات وغيرها أنها تجب الطاعة لهم والصبر على جورهم، وفي بعض الأحاديث الصحيحة المشتملة على الأمر بالطاعة لهم أنه قال صلى الله عليه وسلم:(وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك) وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أعطوهم الذي لهم واسألوا الله الذي لكم) وصح في السنة المطهرة أنها تجب الطاعة لهم ما أقاموا الصلاة وفي بعضها ما لم يظهر منهم الكفر البواح، فإذا أمروا أحداً من الناس أن يتصل بهم لم يحل له أن يمتنع على فرض أنه لم يكن في اتصاله شيء من تلك الأسباب المتقدمة، وعليه أن لا يدع ما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا تمكن من ذلك، وإلا فهو معذور، ولا إثم عليه إلا إذا حصل منه الرضا والمتابعة، كما تقدم في الحديث الصحيح.
(1) طه: 105 - 107.
وأخرج ابن ماجة والحاكم وصححه والبزار واللفظ له من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (السلطان ظل الله في أرضه، يأوي إليه كل مظلوم من عباده، فإن عدل كان له الأجر وعلى الرعية الشكر وإن جار أو حاف أو ظلم كان عليه الوزر وعلى الرعية الصبر)(1) وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة) قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: (لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)(2).
فإن قلت: ما حكم ما بأيديهم من بيوت الأموال مع وقوع ما فيه من ظلم على الرعية ولو في بعض الأحوال هل يجوز قبول ما يجعلونه منه لأهل المناصب؟ قلت: نعم، للحديث السابق أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر:(ما أتاك من هذا المال وأنت غير مستشرف ولا سائل فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك)(3) وثبت أنه صلى الله عليه وسلم فرض الجزية على أهل الكتاب وكانت من أطيب المال وأحله مع أن في أموالهم ما هو من أثمان الخمر والخنزير والربا، فإنهم يتعاملون به، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه استقرض من يهودي طعاماً ورهنه درعه، فيأخذ من له جراية من بيت مال المسلمين ما يصل إليه منه من غير كشف عن حقيقته إلا أن يعلم أن ذلك هو الحرام بعينه، على أن هذا الحرام الذي أخذه السلطان من الرعية على غير وجهه قد صار إرجاعه إلى مالكه مأيوساً، وصرفه في أهل العلم والفضل واقع في موقعه ومطابق لمحله، لأنهم مصرف للمظالم بل من أحسن مصارفها ثم هذا المزري على من يتصل بسلاطين الإسلام من أهل العلم والفضل قد لزمه لزوماً بيناً أن يتناول هذا الطعن كل من اتصل بسلاطين الإسلام منذ انقراض خلافة النبوة إلى الآن، فإنه لا بد في كل زمان من طعن طاعن ولا بد أيضاً من صدور ما ينكر من أهل الولايات وإن كثر منهم ما يعرف، ولهذا يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم:(الخلافة بعدي ثلاثون عاماً ثم يكون ملكاً عضوضاً)(4) كما تقدم ولا بد للملك العضوض من أن يصدر عنه ما ينكر ولو نادراً ولهذا لم تتفق الكلمة من جميع الناس على براءة ملك مكن ملوك الأرض من تلبسه بنوع من أنواع الجور واتصافه بالعدل المطلق الذي لم تشبه شائبة ولا قدحت فيه قادحة إلا على عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه.
ولا يمكن حصر عدد من يتصل من أهل العلم والفضل بسلاطين قرن من القرون بل بسلاطين بعض القرون في جميع الأرض، ونحن نعلم علماً يقينياً أنه لا بد لكل ملك - وإن كانت ولايته خاصة بمدينة من مدائن الإسلام فضلاً عن قطر من الأقطار فضلاً عن كثير من الأقطار- أن يكون معه جماعة ممن يلي المناصب الدينية وإلا لم يستقم له أمر ولا تمت له ولاية ولا حصلت له طاعة، ولا انعقدت له بيعة، يعلم هذا كل عاقل من المسلمين فضلاً عن أهل العلم منهم، وإذا كان الأمر هكذا فكم لهذا الطاعن المشؤوم من خصوم قد لا يعدل أحقرهم قدراً وأقلهم علماً وفضلاً، وهو لا يخرج عن قسمين: إما أن يكون من قسم المغتابين أو من قسم الباهتين، ولهذا يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم:(إن كان فيه ما تقوله فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)(5) فهو واقع في المأثم العظيم والذنب الوخيم على كل تقدير، وفي كل حالة.
(1) تقدم في الصفحة (323).
(2)
تقدم في الصفحة (12).
(3)
تقدم في الصفحة (349).
(4)
تقدم في الصفحة (103).
(5)
تقدم في الصفحة (327).
ثم هذا المزري على من يتصل بسلاطين الإسلام من أهل العلم والفضل القائمين بالمناصب الدينية قد وقع في إساءة الظن بجميع من اتصل بهم على الصفة التي بيناها من دخول جميع هذا الجنس تحت سوء ظنه وباطل اعتقاده وزائف خواطره وفاسد تخيلاته وكاسد تصوراته، وفي هذا ما لا يخفى من مخالفة هذه الشريعة المحمدية والطريقة الإيمانية، ومع هذا فالمتصل بهم من أهل المناصب الدينية قد يفضي في بعض الأحوال عن شيء من المنكرات لا يرضى به بل لكونه قد اندفع بسعيه ما هو أعظم منه ولا يتم له ذلك إلا بعدم التشديد فيما هو دونه، وهو يعلم أنه لو شدد في ذلك الدون لوقع هو وذلك الذي هو أشد منه وأشنع وأفظع، كما يحكى عن بعض أهل المناصب الدينية أن سلطان وقته أراد ضرب عنق رجل لم يكن قد استحق ذلك شرعاً فما زال ذلك العالم يدافعه ويصاوله ويجادله حتى كان آخر الأمر الذي انعقد بينهما على أن ذلك الرجل يضرب على شريطة اشترطها السلطان وهو أن يكون الذي يضربه العالم فأخرج الرجل إلى مجمع الناس الذي في مثل ذلك للفرجة فضربه ضربات فتفرق ذلك الجمع وهم يشتمونه أقبح شتم وهم غير ملومين لأن هذا في الظاهر منكر فكيف يتولاه من هو المرجو لإنكار مثل ذلك، ولو انكشفت لهم الحقيقة واطلعوا على أنه بذلك أنقذه من القتل وتفاداه بضرب العصا عن ضرب السيف لرفعوا أيديهم بالدعاء والترضي عنه، ويظن الجهول قد فسد الأمر وذاك الفساد عين الصلاح، ومن هذا القبيل ما حكاه صاحب الشقائق أن سلطان الروم أمر بقتل جماعة كثيرة من أهل الأسواق لكونهم لم يمتثلوا ما أمر به من تسعير بعض البضائع فخرج السلطان وقد صفوا للقتل، فقام بعض العلماء وقرب من السلطان وهو راكب فقال: هؤلاء لا يسوغ قتلهم في الشريعة، فذكر له السلطان أنهم خالفوا أمره وأنه لا عذر عن قتلهم، فقال العالم: هم يذكرون أنهم لم يبلغهم ما عزم عليه السلطان، فوقف السلطان مركوبه وقد ظهر عليه من الغضب ما ظهر أثره ظهوراً بيناً وقال: ليس هذا من عهدتك، فقال: لا، هو من عهدتي لأن فيه حفظ دينك وهو من عهدتي فأطلقهم السلطان وسلموا من القتل، فانظر هذا العالم وبصره في إنكار المنكر فإنه لو قال له ابتداء: إن مخالفة أمرك لا توجب عليهم القتل لكان هذا القول مما يوبقهم لا مما يطلقهم، ولو سكت عند قول السلطان: ليس هذا من عهدتك لقتلوا، لكنه جاء بوسيلة مقبولة تؤثر في النفس أعظم تأثير ولا شك أن مساعدته في مخالفة أمر السلطان وعدوله إلى أنه لم يبلغهم الأمر إذا سمعها من لا يعرف الحقائق أنكر عليه وقال: وكيف يكون أمر السلطان في تسعير بضاعة أو نحو ذلك موجباً لقتل من لم يمتثل وعد ذلك من المداهنة وعدم التصميم على الحق ولو عقل ما عقله ذلك العالم الصالح لعلم أنه قد جارى السلطان مجاراة كانت سبباً لسلامة جماعة كثيرة من المسلمين، ولو لم يفعل ذلك لقتلوا جميعاً.
إذا عرفت هذا وتبين لك أن الأفعال المخالفة للشريعة في بعض الحالات وكذلك الأقوال التي تكون ظاهرة المخالفة قد تكون على خلاف ما يقتضيه الظاهر وتبين أنها من أعظم الطاعات وأحسن الحسنات، فكيف بما كان منها محتملاً، هل ينبغي لمسلم أن يسارع بالإنكار ويقتحم عقبه المحرم من الغيبة والبهت، وهو على غير ثقة من كون ما أنكره منكراً وكون ما أمر به معروفاً وهل هذا إلا الجهل الصراح أو التجاهل البواح، دع هذا وانتقل منه إلى شيء لا يحمل عليه الجهل بل مجرد الحسد أو المنافسة كما هو الغالب على ما تقدم بيانه، فإن أهل المناصب الدينية من القضاة ونحوه إذا اشتغل صاحبه بما وكل إليه وتجنب ما فيه عمل الملوك وأعوانهم من تدبير المملكة وما يصلحها وما يحتاج إليه ويقوم بجندها وأهل الأعمال فيها إلا إذا اقتضى الحال الكلام معهم فيما يوجبه الشرع من أمر بمعروف أو نهي عن منكر والقيام في ذلك بما تبلغ إليه الطاقة ويقتضيه طبع الوقت، فهل مثل هذا حقيق من عباد الله الصالحين بالدعوات المتكررة بالتثبت والتسديد واستمداد الإعانة له من رب العالمين أم هو حقيق بالثلب والاغتياب خطأ وجزافاً وحسداً ومنافسة؟ وهل هذا شأن الصالحين من المؤمنين أم شأن إخوان الشياطين؟ كما قيل:
إن يسمعو الخير يخفوه وإن سمعوا ........ شراً أذاعوا وأن لم يسمعوا كذبوا
وكما قيل: إن يسمعوا سُبَّةً طاروا بها فرحاً ..... عني وما سمعوا من صالح دفنوا
فكيف إذا كانوا لا يسمعون إلا خيراً ولا يعدد المعدون إلا مناقباً؟ فما أحق من كان ذا عقل ودين أن لا يرفع إلى مخرقتهم رأساً ولا يفتح بخزعبلاتهم أذناً كما قلت من أبيات:
فما الشم الشوامخ عند ريح ........ تمر على جوانبها تمود
ولا البحر الخضم يعاب يوماً ....... إذا بالت بجانبه القرود
اجتمعت في أيام الطلب بجماعة من أهل العلم، فسمعت من بعض أهل العلم الحاضرين ثلباً شديداً لوزير من الوزراء، فقلت للمتكلم: أنشدك الله يا فلان، أن تجيبني عما أسألك عنه وتصدقني قال: نعم، قلت له: هذا الثلب الذي جرى منك هل هو لوازع ديني تجده من نفسك لكون هذا الذي تثلبه أرتكب منكراً أو اجترأ على مظلمة أو مظالم؟ أم ذلك لكونه في دنيا حسنة وعيشة رافهة؟ ففكر قليلاً ثم قال: ليس ذلك إلا لكون الفاعل ابن الفاعل يلبس الناعم من الثياب ويركب الفاره من الدواب، ثم عدد من ذلك أشياء، فضحك الحاضرون. وقلت له: أنت إذن ظالم له تخاطب بهذه المظلمة بين يدي الله وتحشر مع الظلمة في الأعراض، وذلك أشد من الظلم في الأموال عند كل ذي نفس حرة ومريرة مرة (1)، ولهذا يقول قائلهم:
يهون علينا أن تصاب جسومنا ......... وتسلم أعراض لنا وعقول
وبالجملة فإني أظن أن الظلمة في الأعراض أجرأ من الظلمة في الأموال، لأن ظالم المال قد صار له وازع على الظلم وهو المال الذي به قيام المعاش وبقاء الحياة، ثم قد حصل له من مظلمته ما ينتفع به في دنياه، وإن كان سحتاً بحتاً حراماً، وظالم الأعراض لم يقف إلا على الخيبة والخسران مع كونه فعل جهد من لا له جهد وذلك مما تنفر عنه النفوس الشريفة وتستصغر فاعله الطبائع العلية والقوى الرفيعة.
(1) أي عزة النفس والعزيمة.
فائدة: اعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما أعظم أساطين الدين وأحكم قناطر الإسلام وأهم أحكام هذه الشريعة المطهرة بل هما إذا كانا قائمين كان الدين على أتم قيام وأكمل نظام وإن لم يكونا قائمين في العباد ولم يوجد في البلاد ما يقوم بهما خولفت الشرائع الإسلامية وتعطلت الشعائر الإيمانية، وقال من يشاء من أهل الخسارة ما شاء، وفعل من لم يكن له زاجرٌ ديني ما أراد، لعدم وجود من يأخذ على أيديهم من القائمين بحجة الله في عباده، ولهذا وردت الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة في الحث على ذلك والمدح العظيم لفاعلها والزجر الوخيم لتاركها، فمن قدر على ذلك فقد حمل العبء الكبير وقام بالأمر الجليل الخطير، ولا يزال يزداد قوة وتمكناً وثباتاً حتى يتم له مالم يكن له في حساب، ولا خطر له على بال، ولا مر له على خيال، وصار رأساً للفرقة التي قال فيها الصادق المصدوق:(لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين)(1) وكان من القائمين بحجة الله في بلاده على عباده وفاز بالأجر العظيم الذي وعد الله به عباده الصالحين القائمين بما قام به، وإن أدرك في النفس الأمارة بعض جبن في بعض الأحوال، وآنس من طبيعته خوراً وضعفاً في بعض المقامات فليعلم أن ذلك من وسوسة الشيطان الرجيم لأنه أشد عليه من القائمين في مقامات العبادة والقاعدين في مقاعد الزهد والورع والمستكثرين من طاعة الله عز وجل، والعازفين نفوسهم عن معاصيه، وذلك أن كل واحد من هؤلاء صار يجاهد الشيطان عن نفسه ويدفعه عن حوضه ويصارفه عن عشه وبيضه، ويذوده عن أن يتعرض لشيء من طاعاته بالتشكيك عليه أو الوسوسة، وهذه مصلحة خاصة بنفس هذا الرجل الصالح المشتغل بمراضي الله عز وجل المجتنب لمعاصيه. وأما القائم بما أمر الله به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو قائم لإصلاح عباد الله بعد إصلاحه لنفسه فلا يزال زاجراً لهم عن المنكرات مرغباً لهم في أنواع الطاعات محذراً لهم من مكر الشيطان الرجيم مبيناً لهم ما ينصبه من حبائل الخذلان لعباد الله وما يزينه لمن لم ترسخ قدمه في الإيمان، ومن هذه الحيثية كان مقامه عام النفع ومصلحته شاملة للجميع، فهو في حكم المصادر للشيطان عن عباد الله سبحانه المجادل لهم عندما يريد الإغواء بالأهواء والاستدراج بشهوات الأنفس من التنعم باللذات والتمتع بالمحرمات والتلذذ بالموبقات، فهو العدو الأكبر لفريق الشياطين والقائم في كل مواطنه بالمحاربة لهم عن أن يتم كيدهم على أحد من عباد الله الصالحين، والمصاولة لهم عن أن يتسلطوا على أحد من المؤمنين أجمعين، وبهذا تعلم أنه قد أسفر الصبح لذي عينين بأن بين المقامات مسافات تنقطع فيها أعناق الإبل، ومفاوز تنبت دونها سوابق المطي، بل بين المقامين ما بين السماء والأرض، ولا بد أن ينتهي أمر هذا القائم بحجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى التمام على ما يطابق المرام، ويوافق رضاء الملك العلام، لأنه قام هذا المقام لتكون كلمة الله هي العليا، وذو الحق غلاب بنصوص السنة والكتاب، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الرجل يقاتل حمية وشجاعة وليرى موضعه، أيهم في سبيل الله؟ فقال:(من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)(2)
(1) رواه البخاري 13/ 249 في الاعتصام، ومسلم (1921) في الإمارة.
(2)
تقدم في الصفحة (155) ..
فهذا القائم بحجة الله عز وجل هو في أعظم الجهاد وهو في سبيل الله عز وجل، لأنه لم يفعل ذلك لغير هذا القصد، فإنه إن لم ينجز عمله ويحصل أمله بسرعة، حصل ولو بعد حين، كما وعد الله سبحانه به عباده، ويتصور عند قيامه في هذا المقام تصفية النية عن كدورات الرياء والمقاصد التي ليست من الدين، ويتصور ما أمر الله عز وجل به من الإخلاص وحث عباده عليه، ويستحضر قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم:(إنما الأعمال بالنيات) فإنها قضية كلية جامعة مانعة نافعة، لا سيما بعد ضم ما ضمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الجملة من قوله:(وإنما لكل امرئ ما نوى) ثم تصوير ذلك وتمثيله منه صلى الله عليه وسلم بقوله: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله كانت هجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها كانت هجرته إلى ما هاجر إليه)(1) فإن فارق الإخلاص ولو بمسافة يسيرة فقد لا يتم له ما يريد بهذا السبب لا بسبب خلل في المقام الذي قامه، فإنه مقام المرسلين والعلماء العاملين وعباد الله الصالحين ورويت في كتب التواريخ قصة لبعض القائمين في هذا المقام؛ وهو أنه وقف على آنية من الخمر وقد حمل من بعض المواضع ممن خمرها لبعض الملوك ورأى الحاملين له وقد أخرجوها من المركب إلى خارج البحر ليحملوها على الدواب بعد أن حملوها على السفن البحر، فأخذ عوداً ثم ما زال يكسرها حتى بقيت واحدة منها فوقف عندها قليلاً ثم تركها ورمى بالعصا، فأخذه الواصلون بها وقد اجتمع عليه جمع وما شكوا أن الملك يقتله فلما وصل إلى الملك وقد اشتد غضبه فقال: ما حملك على ما فعلت من الاستخفاف بنا والإقدام على متاعنا؟ فقال: لم أستخف بك بل فعلت ما أمرني الله به وأخذه علي من النهي عن المنكر، فقال: فما سبب تركك لواحد منها؟ قال: أدركت نزغة من نزغات العجب قد أوقعها الشيطان في قلبي فتركت كسر ذلك الواحد منها لئلا أكسره على غير نية صحيحة مخلصة لله عز وجل، فلما سمع ذلك الملك خلى سبيله ولم يكن له عليه سبيل.
وفي هذا المقدار كفاية.
انتهى ما في (الفتح الرباني فتاوى الشوكاني)، والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
(1) تقدم في الصفحة (175).