الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقاصد الشريعة عند الإمام العز بن عبدالسلام
المؤلف/ المشرف:
عمر بن صالح بن عمر
المحقق/ المترجم:
بدون
الناشر:
دار النفائس- الأردن ̈الأولى
سنة الطبع:
1423هـ
تصنيف رئيس:
أصول فقه
تصنيف فرعي:
مقاصد الشريعة
الخاتمة
في ختام جولتي مع هذا الرجل العملاق في علمه وورعه وجهاده أقف معه وقفتين توديعيتين حتى ألقاه في جنات الخلد إن شاء الله.
الوقفة الأولى: بعض نقاط الجديد عند الإمام العز.
ليس المراد بالتجديد تغيير حقائق الدين الثابتة القطعية لتلائم أوضاع الناس وأهواءهم ولكنه تصحيح للمفاهيم المترسبة في أذهان الناس عن الدين وتعديل لأوضاعهم وسلوكهم وفقا لتعاليمه وإرجاعه غضا طريا بعد أن تراكم عليه البدع والانحرافات.
وكل هذا ينطبق على إمامنا العز – رحمه الله – فقد أمات البدع، وأحيا السنن، كما حارب التقليد وأحيا الاجتهاد ومارس دور العالم المجاهد في قيادة الأمة فالتف الناس حوله واتخذوه إماما بدون منازع – كما مر معنا في ترجمته - وهو جدير بذلك فقد كان يدافع عن مصالح الأمة بيده وبلسانه وبقلمه ويحفظ حقوقها ويدرأ عنها كل المافسد.
ومن نقاط التجديد عند الإمام ما يلي:
- النقطة الأولى: سعي الإمام لتقنين أصول الفقه.
يظهر سعي الإمام لتقنين أصول الفقه فيما نلاحظه أثناء دراسة كتابه قواعد الأحكام في مصالح الأنام من تفريعات واستثناءات وشواهد وضوابط انظر مثلا حديثه عن النسيان وما يتعلق به وما يسقط به وما لا يسقط به وضابطه
وكذلك في حديثه عن المشقة وأنواعها وضوابطها
وكل ما يحتاج إلى ضابط فإن الإمام يغفل عن تجديد ضابطه فها هو يقول مثلا: "والضابط أن اختلال الشرائط والأركان إذا وقع لضرورة أو حاجة فإن لم يختص وجوبه بالصلاة كالستر فإن كان في قوم يعمهم العري فلا قضاء عليه لما فيه من مشقة
…
ويواصل في تحديد ضابط ما يتدارك إذا فات بعذر وما لا يتدارك مع قيام العذر.
وهكذا توجهت همة الإمام إلى تجديد بناء العقلية الإسلامية بالتأكيد على العقلية الأصولية التي لا ينبغي أن تغرق في الجزئيات وإنما اختصرها في كليات وضبطها في قواعد لمواجهة مستجدات الحياة مهما تعقدت وتشبعت ويبدو هذا جليا في الثروة الهائلة من القواعد التي خلفها لنا الإمام – رحمه الله – متناثرة في كتبه هذه القواعد التي تتوجه بالهمم والأنظار نحو المستقبل لتواكب تطور الحياة عن وعي وإدراك وتلبي احتياجات العصر المتغيرة عبر الزمان والمتنوعة عبر المكان أما الفروع فغالبا ما تعني بالماضي لتحكم له أو عليه.
والقواعد التي ذكرها الإمام كثيرة أقتصر على نماذج منها تمهيدا لبحثها بحثا مستقلا بإذن الله تعالى.
- أولاً القواعد الفقهية:
1ـ تحصيل مصلحة الواجب أولى من دفع مفسدة المكروه
2ـ تصرف الولاة ونوابهم بما هو الأصلح للمولي عليه
3ـ لا يقدم في أي ولاية إلا أقوم الناس بمصالحها ودرء مفاسدها
4ـ لا يجوز تعطيل مصالح صدقها الغالب خوفا من وقوع مفاسد كذبها النادر
5ـ حفظ البعض أولى من تضييع الكل
6ـ حفظ الموجود أولى من تحصيل المفقود
7ـ تحمل أخف المفسدتين دفعا لأعظمهما
8ـ دفع الضرر أولى من جلب النفع
9ـ الأصل في الأموال التحريم ما لم يتحقق السبب المبيح
ويمكن القول بأن الإمام قد ألقى أوسع ما يمكن من الضوء على قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد وأظهر باستقرائه جريانها في مسائل لا تحصى وأحكام لا تعد أصليها وفرعيها حتى استطاع أن يرجع الفقه كله إلى هذه القاعدة الشاملة الجامعة الأصيلة " اعتبار المصالح ودرء المفاسد"
ب ـ في مراعاة التخفيف ورفع الحرج:
1ـ لا يسقط المقدور عليه بالمعجوز عنه
2ـ الأشياء إذا ضاقت اتسعت
3ـ قد وسع الشرع في النوافل ما لم يوسعه في الفرائض
4ـ الضرورات مناسبة لإباحة المحظورات جلبا لمصلحتها
5ـ ما أحل لضرورة يقدر بقدرها ويزول بزوالها
ج ـ في المقاصد والوسائل:
1ـ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب
2ـ كل ما كان أقرب إلى تحصيل المقصود من العقود كان أولى بالجواز لقربه إلى تحصيل المقصود
3ـ لا تقدم التتمات والتكملات على مقاصد الصلاة
4ـ الوسائل تسقط بسقوط المقاصد
5ـ كل تصرف تقاعد عن تحصيل مقصوده فهو باطل
6ـ إذا كان المطلوب محرما فسؤاله حرام
7ـ يجوز في التابع ما لا يجوز في المتبوع
د ـ في مقاصد المكلفين:
1ـ مقاصد الألفاظ على نية اللافظين ويستثنى من ذلك اليمين فإنه على نية المستحلف
2ـ من أطلق لفظا لا يعرف معناه لم يؤاخذ بمقتضاه
3ـ العقود مبنية على مراعاة المقصود دون صور الأعواض
الأغلب على الناس هو الجزم
هـ ـ في أمور متفرقة:
1ـ المتوقع كالواقع
2ـ ما لا يمكن ضبطه [يجب] الحمل على أقله
3ـ القليل يتبع الكثير في العقود
4ـ من لا يملك تصرفا لا يملك الإذن فيه وذكر لهذه القاعدة مستثنيات
5ـ من ملك الإنشاء ملك الإقرار
ثانيا: القواعد الأصولية:
أـ في الأحكام التكليفية:
1ـ لا تكليف بما لا يتعلق به قدرة ولا إرادة
2ـ لا يجوز تأخير حق يجب على الفور لأمر محتمل
إذا كان المطلوب محرما فسؤاله حرام
4ـ لا يترك الحق لأجل الباطل
ب ـ في تعليل الأحكام:
1ـ الأصل أن تزول الأحكام بزوال عللها
2ـ الضرورات مناسبة لإباحة المحظورات جلبا لمصلحتها
ج ـ في العموم والخصوص:
دلالة العادات وقرائن الأحوال بمنزلة صريح الأقوال في تخصيص العموم وتقييد المطلق
د ـ في الدلالات:
1ـ تقدير ما ظهر من القرآن أولى في بابه من كل تقدير
2ـ يقدر من المحذوفات أخفها وأحسنها وأفصحها وأشدها موافقة للغرض
3ـ الكلام الصريح لا يفتقر إلى نية لأنه بصراحته منصرف إلى ما دل عليه
هـ في سد الذرائع:
1ـ يحتاط لدرء مفاسد الكراهية والتحريم كما يحتاط لجلب مصالح الندب والإيجاب ولهذه القاعدة مستثنيات
2ـ تنزيل الموهوم (من المصالح والمفاسد) منزلة المعلوم
وـ في العرف والعادة:
1ـ دلالة العادات وقرائن الأحوال بمنزلة صريح الأقوال في تخصيص العموم وتقييد المطلق وقد تقدم ذكرها قريبا في العموم والخصوص.
2ـ ينزل الاقتضاء العرفي الاقتضاء اللفظي
3ـ دلالة العرف كدلالة اللفظ
ز ـ في الاستصحاب:
1ـ استصحاب الأصول مثاله من لزمه طهارة أو .. ثم شك في أداء ذلك .. لزمه ذلك لأن الأصل بقاؤه في عهدته
2ـ الأصل براءة الذمة مثاله من شك هل لزمه شيء .. لا يلزمه شيء من ذلك لأن
الأصل براءة ذمته
ج ـ في الخروج من الخلاف:
الخروج من الخلاف مستحب
ط ـ في الاجتهاد:
الاجتهاد لا ينقض
ويعد الإمام أول من فتح باب التأليف في القواعد ثم تبعه من جاء بعده
النقطة الثانية: من تجديدات الإمام: ربط الأصول بأهدافها الحيوية وإعادة دمج ثمارها في واقع الحياة فقد اتجه الإمام بأصول الفقه اتجاها عمليا بعيدا عن التكلف النظري إذ إنه لا يؤمن بأن هناك قضايا فلسفية لذا نجده يكثر من التمثيل والتطبيقات الفقهية في قواعد الأحكام ومصالح الأنام خاصة مما يخرج تلك القواعد من الجمود النظري إلى التطبيق الفقهي.
ـ النقطة الثالثة: تقسيم المصالح والمفاسد تقسيمات كثيرة الواقف على كلام العز في كتابه قواعد الأحكام يجده أفاض في المصلحة (وكذلك المفسدة) تقسيما وتمثيلا وأتى في هذا الموضوع بما لم يأت به غيره ممن تكلموا فيها بل كثير منهم اتخذوه قدوة ورائدا في هذا الشأن
ومما راعاه الإمام في تقسيمه عظم المصلحة وشر المفسدة فقدم من المصالح ما هو أعظم خيرا للمكلف وأبعد من المفاسد ما هو أكثر شرا للمكلف فجاء ترتبيه حسب نفع المكلف من حيث الإقدام على المصالح والإحجام عن المفاسد فدفع الكفر – في أعلى المراتب،
ودفع القتل بعده ثم تترتب فضائل الدفع بمراتب المدفوع في سوئه وقبحه وعد هذا معروفا بالعقل قبل ورود الشرع ومن أراد أن يعرف المصالح والمفاسد راجحها من مرجوحها فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به
ـ النقطة الرابعة: إبراز الوسائل وتنوعها لتحقيق مقاصد الشريعة حتى لا يصيب المكلف ملل ولا ضيق أو يعتريه فتور في تحقيق والمحافظة عليها.
النقطة الخامسة: كثرة الطرق الموصلة إلى معرفة المصالح الدنيوية عند الإمام.
النقطة السادسة: النظرة الشاملة من الإمام لتحقيق المقاصد العامة إذ يرى إصلاح القلوب وتزكية النفوس والتخلق بصفات الله والاتصاف بها عامل مهم في تحقيق المقاصد المكلفة لقصد الشارع.
ـ النقطة السابعة: تحريره تحريرا شافيا كافيا لمسألة الثواب في المصائب فكان بذلك أستإذا لمن جاء بعده كالشاطبي
ـ النقطة الثامنة: اتسام منهج الإمام التغييري بالشمولية بحيث نجده يتراوح بين اللين والشدة وبين الموعظة والقتال ذلك بأن الإمام ينظر إلى كل الظروف التي يحتمل أن تواجه الداعية في دعوته لتطبيق شرع الله وتحقيق مقاصده.
الوقفة الثانية: أهم النتائج المتوصل إليها.
ـ أولا: الاعتراف بجهود هذا الإمام ولفت الأنظار إلى فضله العظيم في تأسيس علم
المقاصد واهتمامه بها الأمر الذي مهد الطريق للذين جاؤوا من بعده.
ويمكن القول بأن مشروعه تجديديا إحيائيا لترميم تصدعات الحياة الإسلامية ولكن لم تتهيأ له الأجواء السياسية والثقافية والاجتماعية ليعطي ثماره الحضارية تجديدا ونهضة ذلك بأن عصره – كما مر معنا في ترجمته – عصر انقسامات واستعانة بالكفار وإعانة لهم على المسلمين.
ومن حقنا أن نتساءل عن المصير الذي قدر لهذا المشروع منذ نهاية القرن السابق مرورا بالشاطبي وابن عاشور إلى يومنا هذا ولعل همم بعض طلاب العلم تجعل هذا التساؤل رسالة علمية كما أنني لست بمبالغ عند اعتبار أن الفكر الإسلامي اليوم في أمس الحاجة إلى الاستنارة بمثل أفكار هذا الإمام العالم ذي الشخصية العلمية الفذة وإلى كل من آرائه واجتهاداته هذه الآراء والاجتهادات التي أعلت من شأن أصول الفقه بأن فتحت له بابا جديدا وهو فن مقاصد الشريعة.
وأن ما في هذا الرسالة من اجتهادات الإمام وآرائه لا تغني عن الرجوع إلى مؤلفاته والنهل من نبعها الصافي.
ثانيا: الاعتراف بجهود الإمام في محاربة التقليد والركود والجمود ودعوته إلى الاجتهاد المتعمق الذي يستوعب كل الحياة بجميع تطوراتها ومتغيراتها الاجتماعية والسياسية ولا يتوصل إلى ذلك إلا بالتعمق في فهم النصوص الشرعية في أبعادها الأصولية والفقهية والمقاصدية.
ثالثا: المقاصد العامة ثابتة لا تتغير ولا تختلف باختلاف الأمم والعوائد والأزمنة وإن اختلفت بعض مصالح الناس باختلاف الأزمان والأعراف ومن هنا كانت دعوة ابن عاشور لصهر مسائل أصول الفقه وإعادة ذوبها في بوتقة التدوين وتسميتها بمقاصد الشريعة
ـ رابعا: تعد مقاصد الشريعة الركن الثاني من أركان أصول الفقه – وركنه الأول هو:
الفهم الذي يقوم على جانب الاستكشاف والتجريد والتعميم – وهي بمثابة تنزيل الأحكام المجردة على واقع الأحداث ومستجدات الأمور بمعطياتها الزمانية والمكانية وملابساتها الشخصية فـ "مثل ما يتوقف استنباط الأحكام الشرعية على الألفاظ فإنه يتوقف على مقاصد اللافظ
ومع كون المقاصد مبحثا أصوليا إلا أنه يكاد يكون مفقودا في كتب الأصول كمبحث مستقل قائم الذات إلا من بعض الإشارات في مباحث العلة أو المناسبة أو الاستصلاح
…
وإذا اعتبرنا أصول الفقه قانونا يتوصل به إلى استنباط الأحكام وكيفية التطبيق السليم فإن الاهتمام اليوم بالمقاصد أكثر من ذي قبل يعد خطوة نحو تلبية متطلبات الحياة ومسايرة قضاياها المستجدة لاستيعاب جميع متغيراتها.
ومن المعلوم أن التشريع وليد الحاجة فما قام تشريع في أمة ولا نشر فيها قانون إلا وقد قام في البلاد قبلهما حاجة تدعو إليهما فيأتي التشريع ويصاغ القانون على قدر تلك الحاجة الداعية والقوانين في جميع أنحاء العالم لا تلبث بعدة مدة من وضعها أن تصبح غير وافية بالنسبة لبعض الأحداث فالاهتمام بالمقاصد يساعد على إيجاد الحلول المناسبة لما استجد من القضايا في إطار من الضوابط قد سبق بيانها في أثناء الرسالة حتى لا يكون لأهواء الناس مدخل في استنباط الأحكام أو تطبيقها.
وقد بين ابن عاشور شدة حاجة الفقيه إلى معرفة المقاصد في مثل هذه الحالة " فاحتياجه فيها ظاهر وهو الكفيل بدوام الشريعة الإسلامية للعصور والأجيال التي أتت بعد عصر الشارع والتي تأتي إلى انقضاء الدنيا "
ـ خامسا: المقاصد متداخلة لا يكاد ينفك بعضها عن بعض ولقد تبين فيما سبق
أنها خادمة لبعضها فقد يكون المقصد وسيلة مفضية إلى مقصد أعلى منه كما أن المقاصد الجزئية للأحكام تندرج بدورها في دوائر تنتهي إلى المقاصد الكلية التي تنتهي بدورها إلى المقصد الأعلى وهو تحقيق مصالح العباد في الدنيا والمعاد.
سادسا: المقاصد العامة معان حقيقية تهدف الشريعة إلى تحقيقها في واقع الحياة حتى تكون على تلبية حاجيات المسلمين وساعية نحو الأفضل في تنظيم مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وإلى تحقيق كل ما ينفع الأفراد والأمة من خير يعود على خدمة الضروريات والحاجيات والتحسينيات.
سابعا: المقاصد العامة مع الفطرة وهي أساس هام بني عليه هذا الدين قال تعالى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (30) سورة الروم
ومما يؤكد عليه الإمام أن تقديم الأصلح فالأصلح ودرء الأفسد فالأفسد مركوز في طبائع العباد نظرا لهم من رب الأرباب
ثامنا: ينبغي أن تكون الاجتهادات الفردية أو الجماعية المؤقتة أو الدائمة مرتبطة بواقع الحياة وبمقاصد الشريعة الإسلامية كضابط لهذه الاجتهادات من الزيغ والانحراف وليكون أقرب ما تكون إلى الصواب وأجدر بالتطبيق العلمي في الحياة.
الضابط الأول: ارتباط الاجتهاد بواقع الحياة.
الارتباط كما نعيشه من ناحية ويشمل جميع مجالات هذا الواقع من ناحية أخرى نتفادى الثغرات – إن لم نقل الفراغ – الذي نعيشه في عدد غير قليل من مرافق التنظيم الاجتماعي الذي ما تزال مبادئ التشريع فيها معتمدة على حضارة وفلسفة أجنبيتين.
لذا كان لزاما على العالم أن تكون علاقته بالمجتمع الذي نعيشه علاقة وطيدة – كعلاقة إمامنا العز بمجتمعه – حتى تكون آراؤه آراء عالم خبير بأحوال النفوس دارس لها متعمق في
دراستها فاحص لأحوال عصره عارف بظروفه ذلك بأن هذه الآراء والفتاوى مواقف يتحرك بها المجتمع نحو التغيير ولا يقتصر ضررها على الفرد بل يتجاوزه إلى الأمة وكل خطأ في تقدير الموقف محسوب على توجهات المجتمع وسلامته.
الضابط الثاني: انبناء الاجتهاد على مقاصد الشريعة.
ويبدو ارتباط الاجتهاد فيما قرره الإمام من أن المقاصد مرجوع إليها
وأن كل غافل عنها في حكمه أو فتواه يلزمه أن ينقض حكمه ويرجع عن فتواه وأما من أفتى على ما تقتضي قواعد الشريعة وإقامة مصالحها فكيف يحتاج إلى نقل جزئي مخصوص من كلي اتفق على إطلاقه من غير استثناء
وأكد الشاطبي هذا المعنى بقوله: " فمن أخذ بنص في جزئيه معرضا عن كليه فقد أخطأ وكما أن من أخذ بالجزئي معرضا عن كليه فهو مخطئ"
1ـ إضفاء صفتي الشمولية والاستمرارية على الشريعة فلا تعرف حدودا للزمان ولا للمكان.
2ـ استعمال الأقيسة المعتبرة والاستنتاجات العقلية السليمة بشكل يتلاءم مع واقع الناس ويراعي ظروفهم دون إبطال للنص أو تحريف له.
3ـ تطلع المتعاملين فيما بينهم إلى أعلى مثل العدل والإحسان والتعاون لبلوغ المصلحة الشرعية من التعامل فيتوفر بذلك جو من الثقة والنية الحسنة بين الناس ويؤمن الغش والاحتكار وأكل مال الغير بالباطل.
4ـ الحد من الخلافات المذهبية بين المسلمين التي منشؤها – في الغالب – سوء فهم مقاصد الشريعة أو عدم فهمها على الإطلاق وتوحيد المسلمين مقصد من مقاصد هذا الدين وضرورة من ضروراته.
5ـ تحديد مفاهيم الحقوق وتعيين مواقعها حتى لا يبقى للحق الشخصي المطلق ولا للأنانية الفردية البغيضة مكان في نفوس الناس ذلك بأن المقاصد العامة بحيث تندرج في مضمونها كافة الحقوق ما كان منها ذا مضمون ديني أو خلقي أو سياسي أو اقتصادي وما إلى ذلك مما يتعلق بجميع نواحي الحياة ماديا ومعنويا فكانت كل الحقوق الجديدة التي لم يعرفها العالم الغربي إلا في هذا العصر مقررة في الشريعة الإسلامية فيما رسم من مقاصدها وغاياتها وشرع من وسائل علمية لتحقيقها وتنميتها والمحافظة عليها.
6ـ تنظيم حياة المجتمع البشري والموازنة بين حاجيات الناس فلا تطغى حاجة إنسان على آخر ولا تصطدم حريته مع حرية غيره.
7ـ إيجاد الحلول لكثير من المسائل الطارئة في حياتنا المعاصرة.
ـ تاسعا: علم المقاصد علم دقيق لا يخوض فيه إلا من لطف ذهنه واستقام فهمه لذا أكد الإمام على ضرورة الفهم السليم، والطبع المستقيم
ـ عاشرا: لا يزال فن المقاصد مهمة مطروحة تنتظر من ينجزها فعليا ويتوغل فيها إلى أقصى دلالاتها فهي مادة ثرية لا غنى عنها لباحث أو مجتهد إلا أن هذا الإنجاز يتطلب شيئا من الإحاطة بثقافة العصر وقيمه خاصة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ـ حادي عشر: ضرورة معرفة المقاصد وإيضاحها في نسق عقلي ومنهج علمي سليم وأن يجعل منها مادة تربوية علمية يُربى عليها أبناء الأمة وتقام على أساسها كياناتهم النفسية وغذائهم الفكري ووضوح المقاصد يوفر لنا أمرين:
1ـ الوضوح في أولويات العمل الإسلامي – اليوم – لتطبيق شرع الله في أرضه وإعلاء كلمته.
2ـ القضاء على الغبش والتخبط مما لا يدع مجالا ولا موضعا يعتد به للنظر الجاهل بالنصوص وأولوياتها وغايتها.
ـ ثاني عشر: الالتفات إلى المصلحة في الاجتهاد مطلوب إلا أن تقديمها على النصوص أمر خطير يؤدي إلى تعطيل الشريعة من أساسها ولو جاز أن تقل الأمة هذا الرأي على إطلاقه في تشريعها وتسمح به لرجال الحقوق والقضاء في اجتهادهم لسادت الفوضى في العمل بالشريعة فمن تراءت له مصلحة في أمر ما وزينها له هواه عمل به وإذا تصور أن فيه مفسدة نبذة وذلك منتهي الاضطراب والتخبط.
ثالث عشر: الشريعة تعمل على تحقيق المقاصد العامة والمحافظة عليها فهي:
1ـ تحافظ على المصلحة أبدا وفق نظام ثابت لا يتأثر بوجود شخص أو موته قال تعالى: {أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (144) سورة آل عمران] وسواء كانت هذه المصلحة عامة أم خاصة صغيرة أم كبيرة حفظا للحق العام والحق الخاص في آن واحد حتى إن الإنسان لا يعتبر حرا في نفسه وأعضائه فلا يحق له أن يتصرف فها إلا وفق ما يرضي الله " لأن الحق في ذلك مشترك بينه وبين ربه" على حد قول الإمام
ومن هنا يمكن القول بأن المصالح متداخلة فالمحافظة على المصلحة العامة محافظة لمصلحة الأفراد بحيث يستطيع كل من يتمكن من الانتفاع بها أن ينتفع بها وفقا للوجوه المعروفة شرعا.
وكذلك القول في المصلحة الخاصة: بها يتحقق صلاح المجتمع تبعا فحفظ مال اليتيم – مثلا – حتى سن الرشد فيه نفع لليتيم عند رشده إذ يجد ماله كاملا غير منقوص وفيه نفع لغيره سواء كان وارثا أم غير وارث بما يحققه ذلك المال من نفع عام بإقامة مشاريع أو صدقات خاصة أو عامة ولعل هذا هو معنى قوله تعالى {وَلَا تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً} (5) سورة النساء] فعد أموال اليتيم كأنها أموال من يرعاها.
وكذلك في حفظ النفس فإنها مصلحة خاصة ولكن المحافظة عليها على النظام العالمي.
وإذا نزلت بالأمة نازلة أو طرأت بعض الطوارئ وجب اعتبار مصالح هذه الأمة كلا متكاملا لا كدويلات متفرقة " وطريق المصالح أوسع طريق يسلكه الفقيه في تدبير أمور الأمة عند نوازلها ونوائبها إذا التبست عليه المسالك" كما قال ابن عاشور
وتداخل المصالح يستدعي إيجاد قواعد وخطط تشريعية يلتزمها المجتهد لإعطاء كل ذي حق حقه فلا يظلم أحد. وأساس هذه القواعد هي: الموازنة بين ما يعود على صاحب الحق من نفع مشروع وبين ما يلحق الغير من ضرر لازم أو فساد ممنوع.
وفي هذه الموازنة يتفاوت نظر النظار وتتعارض فيه الخواطر والأفكار لذا أكد الإمام على الفهم السليم والطبع المستقيم.
ولقد استطاع أن يستنبط من استقرائه للشريعة سلما للمصالح يتدرج بحسب آثارها في دنيا الناس فتحدث عن الضروري والحاجي والتحسيني وبنى على ذلك مواقف عملية حتى يتمكن الناس من الموازنة بين المصالح وترتيبها فلا يقعوا أمام طريق مسدود يجعلهم مخيرين بين مصالح الدنيا أو الآخرة.
ولو وضع المسلمون هذا السلم نصب أعينهم قبل اتخاذ بعض القرارات أو تبني بعض المواقف لسملت الأمة – الآن – من كثير مما هي فيه من المشاكل
2ـ كما أنها تراعي التخفيف والتيسير وترفع الحرج عن الناس باعتبارها شريعة عملية واقعية تسعى إلى أن تكون واقعا حيا في نفوس أتباعها ولا يتم ذلك إلا بسلوك الرفق والتيسير ذلك بأن اليسر من الفطرة والنفوس مجبولة على حب الرفق والنفور من الشدة والإعنات ومن هنا كان الحرج مرفوعا والمشقة منفية وليس المراد بنفي المشقة أن لا مشقة ولا كلفة في شيء من التكاليف الشرعية أصلا بل المراد أن تكون المشقة في حدود طاقة المكلفين.
كما أن الدعوة إلى التيسير ليست على إطلاقها بل المراد أن يكون التيسير بقدر لا يفضي إلى انخرام مقاصد الشريعة وإلا لزم ارتفاع جميع التكاليف أو أكثرها.
3ـ وتقيم العدل وتدعو إلى أن تكون إقامة العدل عن إدراك وتفهم عميق لأبعاده ومراميه وللمسالك والوسائل المفضية إليه فمن راعى ذلك وفق إلى جني ثماره إذ لا ثمرة تجنى دون تصور سليم وتنفيذ واع حكيم.
كما بينت الشريعة أن عاقبة العدل كريمة وعاقبة الظلم وخيمة ولهذا يرى أن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة
ـ رابع عشر: شرعت الشريعة من الوسائل ما يتلائم مع تحقيق مقاصدها ويحافظ عليها ولولا ذلك لفات الكثير منها ولذا كان اعتناؤها بالوسائل كاعتنائها بالمقاصد إلا أن العناية بالمقاصد أولىواعتبرت الوسائل بمثابة التتمات والتكملات وصارت كل وسيلة تخدم مقصدا مطلوبة التحصيل وكل وسيلة لا تؤدي إلى ذلك مطلوبة الترك مع أنه قد تتعد الوسائل إلى المقصد الواحد فيقدم أقواها تحصيلا للمقصد المتوسل إليه بحيث يحصل كاملا ميسورا يقدم على ما هو دونه في هذا التحصيل.
هذا ما وفقني الله إليه وآخر دعواي أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى من اهتدى بهديه إلى يوم الدين.