الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طرق الكشف عن مقاصد الشارع
المؤلف/ المشرف:
نعمان جغيم
المحقق/ المترجم:
بدون
الناشر:
دار النفائس - عمان ̈الأولى
سنة الطبع:
1422هـ
تصنيف رئيس:
أصول فقه
تصنيف فرعي:
مقاصد الشريعة
الخاتمة
تبين من خلال البحث أن العمدة في التعرف على مقاصد الشارع هي نصوصه، والمقصود بالنص هنا معناه العام الذي يشمل منظوم النص ومنطوقه، وفحواه ومفهومه، ومعقوله المقتبس من روحه التي بني عليها وهي العلل التي أقيمت عليها الأحكام؛ ذلك أن النصوص هي الواسطة بين الشارع والعباد، وهي المعبرة عما يريده منهم. والقول بمرجعية النص يقتضي الأخذ بعين الاعتبار كل عنصر من العناصر أو عامل من العوامل المعينة على حسن فهمه واستجلاء مكنونه والتعرف على المقصود منه؛ فينبغي النظر في ظواهر النصوص، وعللها وحكمها، وأسباب نزولها إن كانت قرآنا وأسباب ورودها إن كان أحاديث، والنظر في السياق الذي جاءت فيه – سواء السياق الخاص أو السياق العام الذي يتضمن مجموع النصوص الشرعية – والنظر في الملابسات والظروف التي صاحبت صدور النص الشرعي والقرائن التي حفت به، وتحقيق المناط في الواقعة التي يراد تطبيق النص عليها، والنظر في مآلات ذلك التنزيل هل تتفق مع ما قصده الشارع منها أم لا؟ كل هذا في منهج علمي متكامل شعاره البحث عن الحق مجردا عن الهوى، واتباع الدليل الأقوى والأقرب إلى معهود الشارع.
وقد يقول قائل: إن هذه خلاصة مفادها إعطاء سلطة مطلقة للنص! والجواب: نعم للنص سلطة، وإذا لم تكن له سلطة فما جدوى إنزاله إذا؟
إن الناس أمام النصوص الشرعية صنفان: صنف يعترف بكون النبي محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله صدقا، وأن القرآن وحي من الله تعالى، وأن هذه النصوص إنما أنزلت لغرض هو أن تكون مرجعا للمؤمنين بها، يهتدون بهديها، ويحتكمون إليها، وصنف ينكر ذلك. أما من ينكر كونها كذلك فلا حديث معه هنا، فهو لا يعترف لتلك النصوص بمرجعية أصلا. أما إذا اعترفنا بكون هذه النصوص إنما أنزلت لتكون مرجعا للمؤمنين بها، فلابد من الاعتراف بأن لها سلطة، وإلا آل الآمر إلى إنكار مرجعيتها؛ إذ ما القيمة المرجعية لنص لا سلطة له؟ والقول بعدم إلزامية هذه النصوص لكل الأجيال ومن ثم حرية التصرف فيها إثباتا وإسقاطا وتفسيرا من غير ضوابط معتبرة قول بإسقاط مرجعيتها، ولا فرق بين عدم الاعتراف بمرجعية النص وتبديل معناه بما يجعله مخالفا لما قصده منه صاحبه؛ إذ كلاهما عدم اعتراف بمرجعيته وإسقاط لسلطته.
والغريب أن الناس يعترفون لنصوص القوانين الوضعية والعقود والاتفاقيات والمعاهدات، بل وللكلام العادي بينهم بالسلطة المطلقة، ثم يسعى بعضهم إلى نفي تلك السلطة عن النصوص الشرعية! هل لأن سلطة النص الوضعي أقوى من سلطة النص الديني؟ أم لأن عقوبة مخالفة النصوص الوضعية ناجزة أما عقوبة إهدار النصوص الدينية – بحكم غياب سلطة تحميها – فهي في حكم الغيب؟!
وبعد إثبات سلطة النصوص الشرعية يقال: إن المرجع في فهم تلك النصوص – مع مراعاة كل العناصر المعينة على فهمها كما سبقت الإشارة – هو أن تفهم على معهود العرب في لغتهم. والقصد من القول بفهم النصوص الشرعية على معهود العرب في لغتهم هو:
أولاً: وضع معيار موحد لضبط طريقة فهم النصوص؛ إذ مع غياب المعيار الضابط يستحيل فهم النصوص فهما معقولا؛ إذ يستطيع كل إنسان أن يدعي أي معنى لأي لفظ أو نص من النصوص! ولنتصور عند ذلك الفوضى التي تعم بين الناس إذا طبقنا ذلك على المخاطبات العادية بينهم! أما فيما يخص نصوص الشارع فإن النتيجة الحتمية لذلك هي إعدام النصوص الشرعية وإلغاؤها تماما، وإيجاد شرائع جديدة تتعدد بتعدد الأفهام والأشخاص، وهو ما وقع فيه الباطنية.
وثانيا: لأن طبيعة الاتصال بين الناس وطبيعة اللغة يقتضيان وجود قواعد ومعايير يحتكم إليها في فهم وسائل الخطاب، وما دامت النصوص الشرعية قد جاءت باللغة العربية فلا طريق إلى فهمها فهما سليما إلا بالخضوع لقواعد تلك اللغة وأساليبها كما عرفها أهلها الأصلاء.
ثم بعد النصوص يأتي الاستقراء، ومع أن الاستقراء نفسه يعتمد على النصوص بمنطوقها ومفهومها ومعقولها، فإن فائدته أنه يوفر لنا النظرة الكلية المتكاملة لمقاصد الشارع، فهو الذي يكشف لنا عن الناظم الذي ينظم الجزئيات المتناثرة، فيكشف عن الكليات الشرعية والمقاصد العامة، فتستخلص الكليات من خلال تتبع الجزئيات، وتفهم الجزئيات بعد ذلك في ضوء تلك الكليات، فيعلم ما ينضوي منها تحت تلك الكليات، وما هو مستثنى منها استثناء يعتد به، وما هو معارض لها يلغى في مقابلتها طبقا لقواعد التعارض والترجيح.
لقد أحدث الاطلاع على الدراسات اللغوية والألسنية عند الغربيين في القرن الأخير انبهارا لدى بعض الباحثين من أبناء المسلمين الذين غلبت عليهم الثقافة الغربية، فظنوا ذلك اكتشافا غير مسبوق، وراحوا يدعون إلى إعادة قراءة النصوص الشرعية بناء عليها، وصارت نظرية السياق – عندهم – كشفا جديدا حرمت منه الدراسات الشرعية، وغاب عنهم أن ما يتحدثون عنه هو جزء مما بنيت عليه النظريات الأصولية التي تمثل المنهج الإسلامي في فهم النصوص الشرعية وتفسيرها واستنباط الأحكام منها. وبغض النظر عما قدمه علماء اللغة – كالجرجاني – في ذلك فإن الإشارة هنا مقصورة على علم أصول الفقه لكونه يمثل منهج تفسير النصوص الشرعية، ولبيان أن مراعاة السياق بأطره المختلفة لم يكن أمرا غائبا عن الأصوليين في فهم النصوص الشرعية وتفسيرها، وأن تلك النصوص قد قرئت وفق منهج دقيق لم يكن ينقصه ما ظنه هؤلاء كشفا جديدا في عالم الدراسات اللغوية والألسنية.
لقد قسم الأصوليون طرق دلالة اللفظ على المعنى إلى ثلاثة أقسام: النظم، والمفهوم، والمعقول، فاللفظ إما أن يدل على معناه بصيغته ومنظومه، أو بفحواه ومفهومه، أو بمعناه ومعقوله. وبنوا مباحث دلالات الألفاظ – وهي صلب علم أصول الفقه – على نظرية السياق والقرائن. فمباحث التخصيص، والتقييد، والحقيقة والمجاز، والتأويل، وتقسيم دلالة اللفظ إلى منطوق ومفهوم عند الجمهور، وتقسيم الحنفية لطريق دلالة اللفظ على المعنى إلى: عبارة النص، وإشارة النص، ودلالة النص، واقتضاء النص، كلها مباحث قائمة على السياق والقرائن.
وهذا موضوع يحتاج إلى بحث مستفيض تبرز فيه معالم نظرية السياق في علم أصول الفقه وامتداداتها في مباحثه المختلفة.
ومن الموضوعات التي تحتاج إلى مزيد من البحث موضوع أسباب ورود الحديث، فإنه – على عكس ما هو واقع في أسباب النزول التي لقيت حظها من البحث – لم يجد العناية الكافية على أهميته في فهم نصوص السنة النبوية وتوجيه المشكل منها.