الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تجديد المنهج في تقويم التراث
المؤلف/ المشرف:
طه عبدالرحمن
المحقق/ المترجم:
بدون
الناشر:
المركز الثقافي العربي – المغرب ̈الثالثة
سنة الطبع:
2007م
تصنيف رئيس:
ثقافة عامة
تصنيف فرعي:
منهجية وموضوعية وأسس تفكير
خاتمة الكتاب:
لقد اتبعنا في الاشتغال بمسالك تقويم التراث منهجية تستمد أوصافها الجوهرية من المبادئ التي قامت عليها الممارسة التراثية الإسلامية العربية؛ فكانت، في مقصها منهجية آلية لا مضمونية: فلم تنظر في مضامين الإنتاج التراثي بقدر ما نظرت في الآليات التي تولدت بها هذه المضامين وتفرعت تفرعاً، عملاً بمبدأ تراثي، مقتضاه (أن اعتبار المعاني لا يستقيم حتى يستند إلى اعتبار المباني)؛ كما كانت، في منطلقها، منهجية عملية لا مجردة: فلم تعتمد معرفة نظرية منقولة ومقطوعة عن الضوابط المحددة والقيم الموجهة للممارسة التراثية، بل استندت إلى أساليب التبليغ العربي في خصوصيتها، وإلى معاني العقيدة الإسلامية في شموليتها، وإلى مضامين المعرفة الإسلامية العربية في موسوعيتها، عملاً بمبدأ تراثي ثان، مقتضاه (أن المعرفة لا تثمر حتى تكون على قدر عقول المخاطبين بها)؛ وكانت في مسلكها، أخيراً منهجية اعتراضية لا عرضية: فلم تكن تقرر الأحكام تقريراً وترسلها في عموم التراث إرسالا، وإنما كانت تفتح باب السؤال، فتورد ما جاز من الاعتراضات على ما ادعاه بعض من تعاطوا لتقويم التراث من أقوال، بل على ما جئنا به نحن من دعاوى، حتى تمحصها كما ينبغي وتقومها بالوجه الذي ينبغي، عملاً بمبدأ تراثي ثالث، مقتضاه (أن الظفر بالصواب لا يكون إلا بمعونة الغير).
وإذا صح أن منهجنا مأخوذ من التراث، فليس يصح أننا تركنا العمل بموجب العقل العلمي الصحيح كما قد يتوهم ذلك من يجعل كل مأخوذ من التراث خارجاً عن مقتضى العقل والعلم؛ فقد سلكنا فيما أخذنا مسلكاً لا يتساهل فيما يجب على الناظر في التراث استيفاؤه من دقيق الشرائط المنطقية ومن صارم المقررات المنهجية وراسخ الضوابط المعرفية؛ والشاهد على ذلك ما قضينا به على أنفسنا من التزام أقصى، بل أقسى القيود المنهجية، حتى ندفع عن دعاوينا أشد الاعتراضات المحتملة، فيكون لنا في دفعها غناء عن دفع ما هو دونها.
وقد أثمرت هذه المنهجية الآلية في مقصدها والعملية في منطلقها والاعتراضية في مسلكها عشر نتائج مدللة، نهض بعضها بالمعارضة، وقام بعضها الآخر بواجب التأسيس.
أما النتائج المعارضة، فقد اختصت بالكشف عن آفات النظرة التجزيئية إلى التراث، وهي ثلاث:
أولاها: أن الاشتغال بمضامين التراث وحدها يفضي إلى اتخاذ موقف تجزيئي من التراث فيبطل بذلك ادعاء الجمع بين الاجتزاء بالمضامين التراثية والأخذ بالنظرة التكاملية، فضلاً عن بطلان فائدة التوسل بأدوات العقلانية المجردة والفكرانية المسيسة في هذا الاشتغال.
والثانية: أن الاشتغال بالآليات المنتجة للتراث قد يكون اشتغالاً بالخطاب التراثي الذي دار على هذه الآليات، وليس اشتغالاً بها هي ذاتها، فيقع الباحث في النظر في المضامين حيث يظن أنه ينظر في الآليات كما يقع في الأخذ بالنظرة التفاضلية حيث يظن أنه يأخذ النظرة التكاملية.
والثالثة: أن التوسل بالآليات المنقولة في تقويم التراث قد يكون توسلاً قلقاً لا يحيط بدقائقها، فيؤدي بالباحث إلى السقوط في نظرة تجزيئية ظاهرة التهافت.
أما النتائج المؤسسة، فقد اختصت بالكشف عن فوائد النظرة التكاملية إلى التراث وانقسمت قسمين: أحدهما، النتائج المتعلقة بالتكامل التداخلي؛ والثاني، النتائج المتعلقة بالتكامل التقريبي.
أما نتائج التكامل التداخلي، فهي ثلاث:
إحداها: أن الاشتغال بالآليات المنتجة للمضامين التراثية يؤدي إلى اتخاذ موقف تكاملي من التراث، مما يدل على أن التوجه الآلي راسخ رسوخاً في الممارسة التراثية وأنه مانع منعاً من المفاضلة بين عناصرها المختلفة.
والثانية: أن التداخل الذي يقع بين علمين أصليين يوجب أن يكون العلم الذي يدخل في غيره أكثر العلوم حظاً في النسبة إليه وفي إفادته له، وأن يكون أقربها إلى مجال التداول باعتبار هذه النسبة والإفادة، فيكون علم الأخلاق عندئذ أنسب العلوم للتداخل مع علم أصول الفقه.
والثالثة: أن دخول علم مأصول في علم منقول يوجب أن يكون العلم المأصول أنسب العلوم الأصلية له، استشكالاً واستدلالاً، وأن يكون أقربها إلى مجال التداول باعتبار هذه المناسبة الاستشكالية والاستدلالية، فيكون علم الكلام حينئذ أنسب العلوم للتداخل مع الإلهيات.
وأما نتائج التكامل التقريبي، فهي أربع:
أولاها: أن المجال التداولي الإسلامي العربي ينبني على أصول لغوية وعقدية ومعرفية تضبطها قواعد تقوم بوظائف تداولية مخصوصة، وتؤدي مخالفتها إلى آفات تداولية تختلف درجة ضررها باختلاف أنواع هذه القواعد وعددها.
والثانية: أن تقريب العلوم المنقولة إلى مجال التداول الإسلامي العربي يوجب تخريجها على مقتضيات أصوله الثلاثة: اللغة والعقيدة والمعرفة، فتأخذ بالاختصار في العبارة مكان التطويل، وبتشغيل المعقتد بدل تعطيله، وبتهوين الفكرة بدل تهويلها.
والثالثة: أن تقريب علم المنطق يوجب إخراجه عن وصفه التجريدي إلى وصف عملي يجعل عبارته راسخة في الاستعمال العادي، وأدلته مستخرجة من النصوص الشرعية، ونتائجه موصولة بأسباب التطبيق النافع للغير نفعه للذات.
والرابعة: أن تقريب علم الأخلاق يوجب إخراجه عن وصفه التجريدي إلى وصف عملي يجعل مفاهيمه موصلة بالمدلولات اللغوية المستعملة، وأحكامه مستمدة من الأحكام الأخلاقية المبثوثة في الشرع، ويجعل هذه المفاهيم والأحكام جميعاً تدخل حيز التحقيق النافع في الآجل نفعه في العاجل.
وبفضل هذه النتائج التي توصلنا إليها، نكون قد طرقنا آفاقاً في الممارسة التقويمية للتراث تحمل على الاهتمام بكلية التراث وجمعية دوائره من غير حذف ولا استثناء، كما تجدد الاعتبار لجوانب من الممارسة التراثية تعرضت للتشنيع الباطل، وتحيي النظر في جوانب منها تعرضت للإهمال الفاحش، فضلاً عن أنها تفتح باب استئناف عطاء التراث من غير انتحال آليات منقولة تنزل عليه إنزالاً.
والراجح أن يتخذ عطاء التراث مسالك مخصوصة غير المسالك التي تتبعها الآليات المستحدثة المنقولة؛ فقد يتطلب التقيد بالعمل الحي حيث تتطلب هذه الآليات الاكتفاء بالنظر المجرد، وقد يستلزم منفعة الغير حيث تقتصر هي على منفعة الذات، وقد يشترط المنفعة الآجلة حيث تنحصر هي في المنفعة العاجلة؛ ولا تقل مسالك التراث في العطاء عن المسالك المنقولة استيفاء لمقتضيات العقل والعلم، إن لم تعل عليها علواً؛ فعقل التراث عقل واسع يجمع، إلى النظر في الأسباب، النظر في المقاصد، وعلمه علم نافع يجمع، إلى النظر في الأسباب والمقاصد، العمل بها وفق ما يفيد الغير ويفيد الآجل، بينما عقل الآليات المنقولة عقل ضيق يقطع الأسباب عن مقاصدها، وعلمها علم مشبوه، لا يوجب العمل ويحتمل الضرر؛ وشتان ما بين العقلين وما بين العلمين!