الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رسالة المسجد في الإسلام
المؤلف/ المشرف:
عبدالعزيز بن محمد اللميلم
المحقق/ المترجم:
بدون
الناشر:
بدون ̈الأولى
سنة الطبع:
1407هـ
تصنيف رئيس:
دعوة ودعاة
تصنيف فرعي:
مساجد - دورها
خاتمة: والآن وقد ألقينا نظرة فاحصة على المسجد في الإسلام ودوره العلمي والسياسي منذ أسس النبي صلى الله عليه وسلم مسجده في المدينة المنورة إلى يومنا هذا، ورأينا كيف كان المسجد ولا يزال عبر القرون والأجيال مصدر إشعاع علمي وثقافي، وكيف كانت له مع مرور الشهور والأعوام رسالته الخالدة في خدمة العلم والدين. كما أن مهمته لم تنحصر في اتخاذه مكانا للعبادة؛ بل إنه كان ولا يزال يعتبر معقلا من معاقل الهداية والإرشاد، ومركزا من مراكز التعليم والتوجيه لما ينفع الناس في الدنيا والآخرة، ومدرسة لتقويم سلوك الإنسان وتقوية إرادته، ودفعه إلى الاستقامة والخير، ترعرعت محافل العلماء بين عمده ومحاريبه، وتخرجت قوافل القادة والزعماء من ميادين أفنيته. كان المسجد هو أول المنشآت التي عني بإقامتها المسلمون، يمارسون فيه عبادة خالقهم، ويوجهون فيه حياتهم في كل اتجاه، كما يعتبر المسجد هو فاتحة التاريخ الحضاري للمسلمين، وأول الثمار لتمكين الله لهم في الأرض، فمن المسجد انطلقت جحافل المسلمين، مكبرة مهللة لافتتاح أقطار واسعة شاسعة وإدخالها في حوزة الإسلام، وفي المسجد تتجلى المساواة بأجلى مظاهرها، فأية مساواة أفضل من تلك المساواة التي تحققها الصلاة؟ {صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} [سورة البقرة:138]، وأية وسيلة لتعليم المسلم خلق التواضع كتلك الوسيلة؟ هذا المظهر من المساواة الذي يتمثل في الصلاة لا فرق بين غني وفقير، وكبير وصغير، وعبد وحر، هذا المظهر الذي يقضي على جميع الفوارق وقف أمامه العديد من الأجانب والمستشرقين مشدوهين، ومن بين هؤلاء "رينان الفيلسوف الفرنسي" الذي يقول:"إنني لم أدخل مسجدا من مساجد المسلمين من غير أن أهتز خاشعا وأن أشعر بشيء من الحسرة على أنني لم أكن مسلما". ويقول سير توماس أرنولد أيضا عن الصلاة في المسجد: "هذا الفرض المنظم من عبادة الله، هو من أعظم الأمارات المميزة للمسلمين عن غيرهم في حياتهم الدينية، فكثيرا ما لاحظ السائحون وغيرهم في بلاد الشرق ما لكيفية أدائه من التأثير في النفوس".
وتأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يجلس في المسجد لتعليم الناس أمور دينهم ودنياهم، فقد ارتبط المسجد بتاريخ التربية الإسلامية، وأصبح المنارة التي تشع في المجتمع الإسلامي بنور العلم والمعرفة، وإذا عرفنا أن المسجد في عصور الإسلام الزاهرة كان مركزا للتوجيه الفكري والأخلاقي والأدبي والاجتماعي. وإذا كان المسجد يتخذ مكانا للتعبد، ومعهدا للتعليم ودارا للقضاء وساحة لتجمع الجيوش وتعيين القواد، وتسليم الألوية، وتوجيه المجاهدين، وموضعا لاستقبال السفراء، وميدانا للتدريب الحربي، إذا عرفنا ذلك كله أدركنا الرسالة العلمية والثقافية والاجتماعية والسياسية التي يضطلع بها المسجد في المجتمع الإسلامي على مر العصور.
ولو طالعنا صفحات التاريخ الإسلامي البشري لوجدنا أن الأعمال الكبرى التي تمت فيه قد بدأت الدعوة إليها في أغلب الأحيان من المسجد ففي المسجد صدرت كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والحكام وفيه كتب كتاب الوحي كتاب الله بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه كانت توضع الخطط وترسم المناهج ويعين الولاة وأمراء الجيوش، كما كانت تتقبل فيه البيعة من الناس ومنه يعلن الخليفة سياسته للمسلمين، بل أكثر من هذا نرى أن المسجد قد استخدم لأغراض أخرى غير ما ذكر، حيث خصص جزءاً منه مستشفى يعالج فيه المصابون، كما حصل في غزوة الأحزاب وكما حصل في جامع أحمد بن طولون في مصر حينما خصص جزء منها بيمارستاناً يعالج فيه المرضى بالإضافة إلى صيدلية يصرف منها العلاج. كما كان يتخذ مجالا للتعليم والتقويم الاجتماعي. وعلى الإجمال فإن رسالة المسجد تستمد رسالتها وجوهرها من رسالة سيد الأنام محمد صلى الله عليه وسلم، ورسالته عليه الصلاة والسلام كانت رسالة شاملة تهدف إلى إصلاح العبد فيما بينه وبين ربه، وإصلاحه فيما بينه وبين نفسه، كما كانت تهدف إلى إصلاح طبقات المجتمع والرفع من شأنها، والدفع بها في ميدان العمل الصالح البناء ليصبح المجتمع الإسلامي مجتمعا مثاليا، حتى يتحقق فيه وينطبق عليه ما أراده الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة من أن تكون خير أمة أخرجت للناس، يقول الله تبارك وتعالى {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [سورة آل عمران:110]؛ ففي المسجد يشعر المؤمن بكرامته التي كرمه الله بها، وأنه متساو في الحقوق والواجبات مع جميع من يجلسون معه، سواء كانوا حكاما أو محكومين، أغنياء أو فقراء، جهالا أو علماء فهم واحد من كل ولا ميزة لأي واحد إلا بالتقوى يقول تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [سورة الحجرات:13]، ويقول عليه الصلاة والسلام:((لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى)). ومن المسجد أيضا تنطلق الدعوة إلى الله صارخة هادفة موضحة مبينة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [سورة الأنفال:24]، نعم لقد أدى المسجد في الإسلام دورا خطيرا في التوجيه والإرشاد والدعوة وإصلاح البشر وتربيتهم، وتقوية الشعور الديني، وتدريب المصلين من المؤمنين على الأعمال الجماعية التي يدعو إليها الإسلام، والحفاظ على الوحدة الإسلامية حقيقة ومظهرا، وما صلاة الجماعة التي تعقد خمس مرات في اليوم والليلة في المسجد ويحضرها كل من وجبت عليه في الحي إلا دليلا حيا على ذلك.
وعلى المسلم أن لا يعيش لنفسه، وإنما يجب عليه أن يتعاون مع إخوانه فيما يخدم الصالح العام للأمة الإسلامية، إذ يقول تبارك وتعالى:{وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة:2]، وليس من شك في أن المسجد هو الأساس لكل نهضة وإصلاح، في إطار الأمة الإسلامية التي أشرقت على الدنيا من خلال المسجد، شمس هداية ونور معرفة، ورائد حضارة منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، وهي مؤهلة اليوم وفي كل يوم إذا ما عرفت كيف تعيد إلى هذا المنطلق قوته وتأثيره في البعث والتجديد والقيادة الصحيحة للبشرية قاطبة، بعد أن أوردتها الحضارة الغريبة موارد الدمار والهلاك والضياع، وإن نظرة واحدة فاحصة إلى مراحل الدعوة الإسلامية تاريخيا تبين بما لا يقبل الشك والجدل أهمية دور المسجد ورسالته العظمى في بناء الأمة بناء قويا سليما يضطلع عن جدارة واستحقاق بأعباء المسيرة وإيصالها إلى الهدف المنشود، وهو سعادة الدارين، فلقد كان بناء المسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة أول أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وصوله مهاجرا إليها لأن المسجد هو بيت الله تعالى {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [سورة الجن:18]، وهو بيت المسلمين أيضا. هو بيت الله؛ إذ لا يذكر فيه معه أحد ولا ينسب إلا له عز وجل. وهو بيت المسلمين؛ لأنه مستقرهم وحرمهم ومأمنهم وطمأنينتهم، ففيه وحدة صفتهم ورأيهم ومشورتهم، وفيه اجتماعهم، والمسجد ليس حجارة ترفع وأعمدة تشاد وتعلو، أو زينة تملأ الجدران، بل قلوبا متعاطفة عامرة بالإيمان وعقولا نيرة تنعم بالعلم والمعرفة، وأرواحا تصقل وتهذب، وجنودا يعبّأون لرسالة الحق.
من كل هذا: نريد عودة المسجد بصورته الأصلية المشرقة، ورسالته السامية النظيفة، ودوره الصحيح السليم، كي تتفاعل معه حياتنا علما وفهما وتطبيقا، فنستعيد مركزنا القيادي في الوجود البشري، والواقع الحضاري الإنساني، وبغير المسجد علما وتعلما وتأثرا لن نصل إلى ما نريد لأن المسجد من حيث الرسالة هو الإسلام، والإسلام وحده هو باب الحياة الفاضلة. إذا فمن واجب المسلمين أن يعيدوا إلى المسجد وظيفته ومهابته وحيويته حتى يصبح مصدر إشعاع يرشد فيعلم ويهدي فيقوم ويحض على المكرمات ويعلم الناس كيف يعملون لدنياهم كأنهم يعيشون أبداً ويعملون لآخرتهم كأنهم يموتون غدا. فرسالة المسجد إذا ضخمة متشعبة الجهات، متنوعة الأهداف، فيها الخير كل الخير للدين والخلق والثقافة، وسلامة الأبدان، وتقويم ما اعوج من شئون المجتمع إذا أحسن أداؤها.
لهذا نرى أنه من الواجب علينا أن نستجيب لهذه الأصوات التي تنبعث من هذه المساجد كل يوم خمس مرات، تدعو الناس إلى الصلاة، ثم تدعوهم بعد ذلك إلى الفلاح، ولن يكون هناك فلاح بمعناه الحقيقي لأمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا إذا أعادت للمساجد رسالتها العظيمة في خدمة العلم والدين، فتصبح المساجد معابد يذكر فيها اسم الله، وتقام بين جنباتها شعائر الدين واللغة العربية وفي وجوب العودة إلى ما كانت عليه المساجد في العهود السابقة يقول البعض في هذا أثناء حديثه في مؤتمر رسالة المسجد.
أيها الأخوان عودوا بالمساجد إلى ما كانت عليه في عهود أسلافكم الأمجاد، أعيدوا إليها الحياة العلمية. وضعوا لها المناهج الدراسية، وأعدوا لها المدرسين والوعاظ والمحاضرين، ولا يعني ذلك أن تنقل إليها الدراسة التي بالمدارس والمعاهد الثقافية، ولا أن تكون بديلا عنها وعن الجامعات، فلكل طريقه في الحياة العلمية والعملية، ولا أن تبخس حظها من ذلك أو تهضمه حقوقها، إن للدراسة بها روحانية توثق الصلة بين العلم والعمل، فاجعلوها مصدر بلاغ وبيان، ومبعث حياة للقلوب ونور للبصائر، وتهذيب للنفوس والأخلاق، يكتب الله لكم القوة والنصر، ويتم عليكم نعمته.
ترى هل في استطاعة مسلمي اليوم أن يعيدوا إلى المسجد رسالته ومكانته العلمية التي فقدها منذ قرون أم ليس في استطاعتهم ذلك؟ الإجابة في نظري على هذا التساؤل سهلة وميسرة؛ فإذا تمكن المسلمون من إعداد نماذج طيبة من الدعاة الحقيقيين المخلصين الذين يحملون كفاءة علمية وفكرية وروحية وخلقية دعاة إلى الله بكل ما تحمل هذه العبارة من معنى ثم حملوا هذه الأمانة بكل صدق وإخلاص نبراسهم في هذا تحقيق قول الله تعالى فيهم: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ} [سورة آل عمران:110]، إذا تحقق هذا كله فإنه سيتبدل خوفهم أمنا، وضعفهم قوة، وهزائمهم نصرا، وسيعود المسلمون كما كانوا من قبل، ليكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليهم شهيدا.
وقبل هذا كله فإن المسلمين إن أخلصوا دينهم لله، واجتمعت كلمتهم على الحق، وترسموا خطى النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، وعاشوا في ضوء هدايته، فإن باستطاعتهم أن يعيدوا إلى المسجد عظمته وبهاءه التي تمتع بها قرونا عديدة. وليس مؤتمر رسالة المسجد الذي عقد في مكة المكرمة في عام 1395هـ، والقرارات والتوصيات التي اتخذها المؤتمرون إلا بادرة خير أريد بها إعادة المجد والعزة للمسجد في عصوره الأولى التي فقدها {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [سورة الروم: 4 - 5].
هذه دراسة أقدمها للقارئ الكريم أرجو أن أكون قد وفقت في عرض بعض الحقائق عن الأدوار التي اضطلع بها المسجد في عصور الإسلام المتتالية، في جوانب متعددة، سواء العلمي منها أو السياسي أو الاجتماعي بالإضافة إلى الديني.
ولا يعني هذا أنني أدعي الوصول إلى الكمال في هذا البحث، وإنما أعتقد أنه ما زال بحاجة ماسة إلى معالجة ولكن هذه لبنة أضيفها إلى لبنات تحدث عنها من سبقني في هذا الموضوع. تلك الدراسة ما هي إلا مجرد نافذة أفتحها لمن يريد أن يطرق هذا الموضوع ويحاول فتح نوافذ جديدة يصل من خلالها إلى كثير من الحقائق التي لم يكشف عنها بعد.
والله أسأل مخلصا له الدين، أن يجعل عملنا خالصا لوجهه، وأن يمن علينا بالتوفيق والسداد، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه.