الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تغير الفتوى
المؤلف/ المشرف:
محمد بن عمر بن سالم بازمول
المحقق/ المترجم:
بدون
الناشر:
دار الهجرة - الخبر ̈الأولى
سنة الطبع:
1415هـ
تصنيف رئيس:
أصول فقه
تصنيف فرعي:
فتوى ومفتي ومستفتي
الخَاتمَة
لعلك بعد أن وصلت إلى هذا الموضع من البحث قد أدركت خطأ تفسير بعض الناس
لقول الفقهاء: " لا ينكر تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان ".
حيث قال بعض الناس: إن في هذه القاعدة التي قررها الفقهاء بيان أن المصلحة معتبرة
في تفسير النص لكل زمن بحسبه؛ فالمصلحة مقدّمة على دلالة النص الشرعي، ومراعاتها
هو الأصل!
ولا يخفي أن هذا القول يجرّ الناس إلى التلاعب بنصوص الكتاب والسنة، كما أنه يتعارض مع
جملة من المسلّمات الشرعية.
وقبل أن أبين معارضة هذا التفسير لهذه القاعدة الذي جاء به بعض الناس أقول: إن أهم ما
يستخلص من البحث:
أن قضية (تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان) ليست على ظاهرها بل هي مقيّدة بقيود،
ولعل دقة العبارة في التعبير عن هذه القضية تكون هكذا: الفتوى التي اعتبر فيها للحكم مناطاً،
إذا تغير هذا المناط؛ تغيرت.
وتغيّر الفتوى لتغير مناط الحكم ليس تغييراً في الشرع، بل هو تغير في مناط الحكم أنتج واقعة
جديدة تحتاج إلى فتوى غير الأولى.
وذلك التفسير الجائر لقول الفقهاء: " لا ينكر تغيّر الفتوى بتغير الزمان والمكان ": فوق أنه يجر
إلى التلاعب بنصوص الكتاب العزيز والسنة النبوية، فوق ذلك؛ فإنه يعارض مسلّمات شرعية؛
كما يلي:
1 -
أن هذا التفسير الذي جاؤوا به يتعارض مع قوله تبارك وتعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} [سورة المائدة: 6].
والآية نص على أن جميع ما يدين العبد به ربّه عز وجل قد أكمله الله لنا. فكيف يقال بمصلحة
لم يبينها لنا شرعنا؟!
2 -
أن هذا التفسير يتعارض مع ما قرره أهل العلم من أن الشرع يقوم في نصوصه وما دلت
عليه من أحكام على مراعاة المصلحة والعوائد بحسب الزمان والمكان؛ فلا توجد معارضة أو
مخالفة بين مصلحة ونصوص الكتاب والسنة.
فكيف يقال بتقديم المصلحة على النص أو تفسيره بها؟!
3 -
أن هذا التفسير يجعل المصلحة التي يراها المجتهد وعارضت النص أصلاً معتمداً يرجع
إليه في التشريع، وهذا يتعارض مع حقيقة شرعية: أن أصل الأدلة الشرعية جميعها القرآن
العظيم والسنة النبوية؛ فلا يقبل اجتهاد مع النص!
4 -
كما يتعارض مع مسلمة بدهية شرعية: أن لا شارع إلا الله.
إذ يعطي هذا التفسير للفقيه الحق في تشريع مستقل ولو خالف النص.
قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله (ت 792هـ): ((ليس إلى العلماء من أمر الدين؛ إلا التبليغ
وإيضاح المشكل، وأما أمر التكفير والتفسيق والتحليل والتحريم؛ فإلى الله ورسوله)) اهـ.
قال الشيخ د. عبد الستار فتح الله سعيد حفظه الله تعالى:
" كان المسلمون طوال تاريخهم، يعطون علماءهم أسماء ذات دلالة مقصودة، مثل:
(المجتهد) ، و (الفقيه)، و (القارئ)، و (الحافظ)، وهي كلمات تحمل معاني التبعية لا
الاستقلال في أمر التشريع والأحكام؛ إذ الأمر كله لله تعالى، وليس للناس إلا اتباع حكمه، وبذل
الوسع في تعرف أمره، وتلمس الحق الذي يريده، بما شرع لهم من طرق، وسن لهم من قواعد.
ولهم أجرهم طالما كانوا في دائرة هذا الاجتهاد الصحيح ولو أخطؤوا!
والفقه في معناه العام يُراد به: فهم ومعرفة مقاصد الشريعة وأحكامها، وفي معناه الاصطلاحي
يراد به: استنباط الأحكام الفرعية من أدلتها الشرعية، وكلاهما جهد مبذول للفهم عن الله
ورسوله، وقواعد دينه.
و (القارئ) و (الحافظ) وأمثالهما من الألقاب، تدل جميعاً على استيعاب نصوص هذا الدين،
في مصدري الوحي الإلهي، من كتاب وسنة، ولا تدل على استقلال في أمر الشرائع والأحكام.
ولقد كان المسلمون بهذا متسقين مع عقيدتهم، حتى في الأسماء والألفاظ، ولذلك؛ لم يقر
المحققون من العلماء إطلاق لفظ (الشارع) على غير الله تعالى؛ إلا على سبيل التجوز
والتساهل، لا على سبيل الحقيقة والتحقيق.
يقول الشيخ محمد فرج السنهوري في بحث جامع:
لا حاكم سوى الله سبحانه، ولا حكم إلا ما حكم به، ولا شرع إلا ما شرعه، على هذا اتفق
المسلمون، وقال به جميعهم، حتى المعتزلة
…
الذين يقولون: إن في الأفعال حسناً وقبحاً يستقل
العقل بإدراكهما، وإن على الله أن يأمر وينهي على وفق ما في الأفعال من حسن وقبح؛ فالحاكم
عند الجميع هو الله سبحانه وتعالى، والحكم حكمه، وهو الشارع لا غيره.
وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُطلق عليه اسم الشارع في بعض عبارات العلماء؛ فما كان ذلك إلا تجوزاً؛ مراعاة لأنه المبلغ عنه.
وإذا كان الشاطبي في بعض المواضع قد سمى عمل المجتهد تشريعاً؛ فما كان منه تساهلاً،
أساغه أن عمل المجتهد كاشف عن التشريع، ومظهر له؛ فالسلطة التشريعية هي لله وحده.
والله جلت حكمته لم يفوِّض إلى أحد من عباده؛ لا إلى رسول، ولا نبي، ولا إمام، ولا ولي،
ولا إلى غيرهم: أن يشرع للناس من الأحكام مايريد، أو أن يحكم بينهم بما يراه هو من عند
نفسه، أو كيفما اتفق.
أمّا (العرف)؛ فلا توجد إحالة تشريعية إلى أحكامه، إنما يلجأ إليه في معرفة ما يريده المتكلم
من الأيمان والعقود وما إلى ذلك، وفي معرفة قيم المتلفات وأشباهها، وفي الوقوف على
الشروط التي يصحح العرف اشتراطها في العقود، هذا هو كل ما يلجأ إليه في تكييف الواقعات
والنوازل؛ ليطبق عليها الحكم المعروف في الشريعة، ولا يترك بسببه حكم نص ولا إجماع ولا
حكم فقهي لم يكن مبنيّاً على العرف، وإنما يترك به الحكم الفقهي إذا كان مبنيّاً على عرف ثم
تغير إلى عرف آخر.
فاعتبار العرف في الشريعة الإسلامية ليس من باب الإحالة التشريعية، كما أنه ليس من الأدلة
الإجمالية، ولا يعدو أن يكون قاعدة فقهية.
أما جمهور المسلمين؛ فعلى أنه لا حكم للعقل، وأن حكم الله لا يعرف إلا من قبله، ولا يكون
ذلك إلا من طريق الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (الكتاب والسنة)، الذي أمر بتبليغه
إلى الناس فبلغه.
فالطريق الوحيد إلى ذلك هو تبليغ الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فلا عبرة بالإلهام والمكاشفة
وأشباههما؛ فكل هذا لا يكون طريقاً لمعرفة حكم الله؛ لأنه ليس وحياً، والتبليغ إنما يكون من
الرسول عليه الصلاة والسلام في يقظة المبلغ إليه؛ فلا عبرة بتبليغ الأحلام.
وبهذا اتضح أن الدليل الحقيقي والمصدر الوحيد للتشريع الإسلامي بأجمعه هو الوحي الإلهي،
وأن مرد الإجماع والقياس إليه.
وأن المصادر الأخرى ليست خارجة عن الأربعة، أو هي ليست مصادر الفقه " اهـ.
وبهذا يتم ما أردت تقريره هنا، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وسبحانك اللهم وبحمدك،
أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، وصل اللهم على محمد وعلى آل محمد، كما
صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.