الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما خلقه صلى الله عليه وسلم
فقد قال الله عز وجل فيه مخاطبا له صلى الله عليه وسلم: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ»
«1» قالت عائشة رضى الله عنها: كان خلقه القرآن يرضى برضاه ويسخط بسخطه، وقال صلى الله عليه وسلم:«بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق» قال علىّ وأنس رضى الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا. وكان صلى الله عليه وسلم فيما ذكره المحققون- مجبولا على ذلك فى أصل خلقته وأوّل فطرته، لم يحصل ذلك له باكتساب ولا رياضة، إلا بجود إلهى وخصوصيّة ربانيّة، ومن طالع سيرته منذ صباه وإلى آخر عمره، حقّق ذلك وكذلك سائر الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه.
وأما حلمه واحتماله وعفوه
مع القدرة، والصبر على ما يكره، فقد جعلوا بين هذه الألقاب فرقا، فقالوا:
الحلم حالة توقير وثبات عند الأسباب المحرّكات، والاحتمال حبس النفس عند الآلام والمؤذيات، ومثله الصبر، ومعانيها متقاربة، وأما العفو فهو ترك المؤاخذة، وهذا كله مما أدّب الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم فقال:«خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ «2» »
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه هذه الآية سأل جبريل عن تأويلها فقال له: حتى أسأل العالم، ثم ذهب فأتاه فقال:«يا محمد إن الله يأمرك أن تصل من قطعك وتعطى من حرمك وتعفو عمن ظلمك» . وقال تعالى مخاطبا له صلى الله عليه وسلم: «وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ
مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ «1» »
وقال: «فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ «2» »
. وقد روى فى حلمه واحتماله وعفوه وصبره أحاديث كثيرة وقصص مشهورة، قد تقدم منها فى أخباره، فى أثناء هذه السيرة جملة كافية، ونحن نشير الآن فى هذا الموضع إليها، وننبّه فى هذه الترجمة عليها، منها قصة أحد حين ناله من أذى كفار قريش ما ناله مما قدمنا ذكره، فشق ذلك على أصحابه، وقالوا: يا رسول الله، لو دعوت عليهم، فقال:«إنى لم أبعث لعّانا ولكنّى بعثت داعيا ورحمة اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون» روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، أنه قال فى بعض كلامه:
بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد دعا نوح على قومه فقال:«ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين»
ديّارا» ولو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا، فلقد وطئ ظهرك وأدمى وجهك وكسرت رباعيتك، فأبيت أن تقول إلا خيرا، فقلت:«اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» . ومنها قصتا غورث «4» بن الحارث، ودعثور بن الحارث حين أرادا أن يفتكا به، وأظفره الله بهما، وأمكنه منهما فعفا عنهما، كما تقدم ذكر ذلك فى غزوتى غطفان وذات الرّقاع، ومنها عفوه عن الذين هبطوا عليه فى عمرة الحديبية، وأرادوا قتله فأخذوا فأعتقهم صلى الله عليه وسلم، ومنها صفحه عن قريش حين أمكنه الله منهم يوم الفتح، وهم لا يشكون فى استئصال شأفتهم وإبادة خضرائهم؛ لما تقدم من أذاهم له، فمازاد على أن عفا وصفح، وقال:«ما تقولون إنى فاعل بكم» قالوا: خيرا؛ أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: «أقول كما قال أخى
يوسف «لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ»
«1» . ومما لم نذكره فيما أتينا عليه من سيرته صلى الله عليه وسلم، ما ورد فى الحديث الصحيح من قول الرجل له: اعدل فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. فلم يزده صلى الله عليه وسلم فى جوابه إلا أن بين له ما جهله، ووعظ نفسه وذكّرها بما قال له، فقال:«ويحك فمن يعدل إن لم أعدل خبت وخسرت إن لم أعدل» ونهى من أراد قتله من أصحابه. ومنه ما روى عن أنس رضى الله عنه قال: كنت مع النبى صلى الله عليه وسلم وعليه برد غليظ الحاشية، فجبذه أعرابىّ بردائه جبذة شديدة حتى أثّرت حاشية البرد فى صفحة عاتقه. ثم قال: يا محمد، احمل لى على بعيرىّ هذين من مال الله الذى عندك، فإنك لا تحمل لى من مالك ولا من مال أبيك، فسكت النبىّ صلى الله عليه وسلم ثم قال:«المال مال الله وأنا عبده» ثم قال: «ويقاد «2» منك يا أعرابى ما فعلت بى» ؟ قال: لا، قال «لم» ؟ قال:
لأنك لا تكافئ بالسّيئة السّيئة، فضحك النبى صلى الله عليه وسلم، ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير وعلى الآخر تمر.
ومنه خبر زيد بن سعنة «3» حين أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل إسلامه، وكان من أحبار يهود، فجاءه يتقاضاه دينا عليه، فجبذ ثوبه عن منكبه، وأخذ بمجامع ثيابه وأغلظ له، ثم قال: إنكم يا بنى عبد المطلب مطل «4» فانتهره عمر بن الخطاب رضى الله عنه وشدّد له فى القول، والنبى صلى الله عليه وسلم يتبسّم، فقال رسول الله