الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأسلموا؛ فأنشأ يقول:
بان الشّباب فلم أحفل به بالا
…
وأقبل الشّيب والإسلام إقبالا
وقد أروّى نديمى من مشعشعة «1»
…
وقد أقلّب أوراكا وأكفالا
الحمد لله إذ لم يأتنى أجلى
…
حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
قال وقد قيل: إن البيت الثالث للبيد، قال أبو عبيدة: لم يقل لبيد فى الإسلام غيره، وكان قد عمّر مائة وخمسين سنة.
قال أبو عمر: وقردة هذا هو الذى يقول:
أصبحت شيخا أرى الشّخصين أربعة
…
والشّخص شخصين لمّا مسّنى الكبر
لا أسمع الصّوت حتّى أستدير له
…
وحال بالسّمع دونى المنظر القصر «2»
وكنت أمشى على السّاقين معتدلا
…
فصرت أمشى على ما تنبت الشّجر
إذا أقوم عجنت الأرض متّكئا
…
على البراجم حتّى يذهب النّفر «3»
ذكر وفد نجران وسؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أنزل الله عز وجل فيهم من القرآن
قال محمد بن إسحق: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران ستّون راكبا، فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، وهم: العاقب عبد المسيح، والسّيد وهو الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة، وأوس، والحارث، وزيد، وقيس،
ويزيد، ونبيه وخويلد، وعمرو، وخالد، وعبد الله، ويحنّس. ومن هؤلاء الأربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم، وهم العاقب أمير القوم وذو رأيهم، وصاحب مشورتهم، والذى لا يصدرون إلا عن رأيه، واسمه عبد المسيح.
قال محمد بن سعد: هو رجل من كندة والسّيد ثمالهم «1» ، وصاحب رحلهم ومجتمعهم، واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أحد بكر بن وائل أسقفهم «2» وحبرهم وإمامهم، وصاحب مدراسهم «3» .
قال ابن سعد: وكان من الأربعة عشر كوز وهو أخو الحارث بن علقمة، وأوس أخو السّيد.
قال: فتقدمهم كوز وهو يقول:
إليك تعدو قلقا وضينها
…
معترضا فى بطنها جنينها «4»
مخالفا دين النّصارى دينها
وقدم على النبى صلى الله عليه وسلم، ثم قدم الوفد بعده، فدخلوا [عليه «5» ] المسجد، عليهم ثياب الحبرة «6» وأردية مكفوفة بالحرير، فقاموا يصلّون فى المسجد نحو الشّرق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«دعوهم» ، ثم أتوا النبىّ صلى الله عليه وسلم، فأعرض عنهم ولم يكلّمهم، فقال لهم عثمان: ذلك من أجل زيّكم هذا، فانصرفوا يومهم ذلك، ثم غدوا عليه، بزىّ الرّهبان فسلّموا عليه فردّ عليهم.
قال محمد بن إسحق: وكان أبو حارثة قد شرف فيهم، ودرس كتبهم، حتى حسن علمه فى دينهم، فكانت ملوك الرّوم من أهل النّصرانية قد شرّفوه وموّلوه وأخدموه، وبنوا له الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات؛ لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده فى دينهم، فلما وجّهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نجران، جلس أبو حارثة على بغلة له، وإلى جنبه أخوه كوز،- ويقال فيه كرز «1» - فعثرت بغلة أبى حارثة، فقال كوز: تعس الأبعد، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو حارثة: بل أنت تعست. فقال: ولم يا أخى؟ قال: والله إنّه للنبىّ الذى كنا ننتظره. فقال له كوز: فما يمنعك منه وأنت تعلم هذا؟ قال: ما صنع بنا هؤلاء القوم؛ شرّفونا وموّلونا وأكرمونا، وقد أبوا إلّا خلافه، فلو فعلت نزعوا منا كل ما ترى. فأضمر عليها منه كوز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك، فكان يحدّث عنه هذا الحديث.
قال أبو محمد عبد الملك بن هشام: وبلغنى أنّ رؤساء نجران كانوا يتوارثون كتبا عندهم، فكلما مات رئيس منهم وأفضت الرياسة إلى غيره، ختم على تلك الكتب خاتما مع الخواتم التى قبله ولم يكسرها، فخرج الرئيس الذى كان على عهد النبى صلى الله عليه وسلم يمشى فعثر، فقال ابنه: تعس الأبعد- يريد النبىّ صلى الله عليه وسلم فقال له أبوه: لا تفعل فإنه نبىّ واسمه فى الوضائع- يعنى الكتب- فلما مات لم يكن لابنه همّة إلا أن كسر الخواتم، فوجد فى الكتب ذكر النبىّ صلى الله عليه وسلم، فأسلم وحسن إسلامه فحجّ، وهو الذى يقول:
إليك تعدو قلقا وضينها
قال ابن إسحق: ولما قدموا صلّوا فى المسجد نحو الشّرق، وكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الثلاثة نفر: العاقب، والسيّد، وأبو حارثة، وهم من النصرانية على دين الملك، مع اختلاف من أمرهم، يقولون فى المسيح: هو الله، ويقولون:
هو ابن الله، ويقولون: هو ثالث ثلاثة، فهم يحتجّون فى قولهم: هو الله بأنه كان يحيى الموتى، ويبرئ من الأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طائرا، ويحتجون فى قولهم إنه ابن الله بأنهم يقولون:
لم يكن له أب يعلم، وقد تكلم فى المهد، [وهذا «1» ] شىء لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله.
ويحتجون فى قولهم إنه ثالث ثلاثة، بقول الله فعلنا، وأمرنا، وخلقنا، وقضينا، فيقولون: لو كان واحدا ما قال إلا فعلت وقضيت وأمرت وخلقت، ولكنه هو، وعيسى، ومريم.
قال: فلما كلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبران قال لهما: «أسلما» ، قالا:
قد أسلمنا قبلك. قال: «كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعا كما لله ولدا، وعبادتكما الصّليب، وأكلكما الخنزير» قالا: فمن أبوه يا محمد؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهما، فأنزل الله تعالى عليه فى اختلاف أمرهم كلّه صدر سورة آل عمران، إلى بضع وثمانين آية منها.
فقال تعالى: (الم. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)
قال «2» : افتتح السورة بتنزيه نفسه عما قالوا وتوحيده، ليس معه شريك فى أمره:«الحىّ» أى الذى لا يموت، وقد مات عيسى وصلب فى قولكم. «القيّوم» القائم على مكانه من سلطانه
فى خلقه لا يزول، وقد زال عيسى. ثم قال تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ
أى بالصدق فيما اختلفوا فيه وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ. مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ
أى الفصل بين الحقّ والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى وغيره، ثم قال:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ
أى إنّ الله منتقم ممن كفر بآياته بعد علمه بها ومعرفته. إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ
أى قد علم ما يريدون وما يكيدون وما يضاهون بقولهم فى عيسى؛ إذ جعلوه إلها وعندهم من علمه غير ذلك. هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ
أى قد كان عيسى ممن صوّر فى الأرحام لا يدفعون ذلك ولا ينكرونه، كما صوّر غيره من ولد آدم، فكيف يكون إلها وقد كان بذلك المنزل.
ثم قال تعالى تنزيها لنفسه وتوحيدا لها: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
أى «العزيز» فى انتصاره ممّن كفر به إذا شاء «الحكيم» فى حجته وعذره إلى عباده.
ثم قال: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ
أى فيهنّ حجة الربّ وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لهنّ تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه. وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ
أى لهنّ تصريف وتأويل، ابتلى الله فيهنّ العباد، كما ابتلاهم فى الحلال والحرام، ألا يصرفن إلى الباطل ولا يحرّفن عن الحق.
قال الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ
أى ميل عن الهدى. فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ
أى ما تصرّف منه؛ ليصدّقوا به ما ابتدعوا وأحدثوا لتكون لهم حجّة وشبهة على ما قالوا «1» . ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ
أى اللّبس وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ
أى تأويل ذلك على
ماركبوا من الضلالة فى قولهم: خلقنا وقضينا. يقول تعالى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا
فكيف يختلف وهو قول واحد، من ربّ واحد. يقول: وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ
أى فى مثل هذا.
ثم قال تعالى: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ
«1» . ثم قال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ
يشهدون بذلك. قائِماً بِالْقِسْطِ
أى بالعدل لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ
أى ما أنت عليه يا محمد من التوحيد للربّ والتصديق للرسل. قال تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ
أى العلم الذى جاءك أنّ الله الواحد الذى ليس له شريك. ثم قال:
وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ
يقول تعالى: فَإِنْ حَاجُّوكَ
أى فيما يأتون به من الباطل من قولهم: خلقنا وفعلنا وأمرنا، فإنما هى شبهة باطل قد عرفوا ما فيها من الحقّ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ
أى الذين لا كتاب لهم أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ.
ثم جمع تعالى أهل الكتابين من اليهود والنصارى فيما أحدثوا وابتدعوا، فقال:
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ
إلى قوله: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ
أى ربّ العباد والملك الذى لا يقضى فيهم غيره. تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
أى
لا يقدر على هذا غيرك بسلطانك وقدرتك تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ
أى بتلك القدرة. وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ
أى لا يقدر على ذلك غيرك ولا يصنعه إلّا أنت، أى إن كنت سلّطت عيسى على الأشياء التى بها يزعمون أنه إله، من إحياء الموتى، وإبراء الأسقام، والخلق من الطّين، والإخبار عن الغيوب؛ لأجعله به آية للناس، وتصديقا له فى نبوّته التى بعثته بها إلى قومه، فإن من سلطانى وقدرتى ما لم أعطه؛ «1» من إيلاج الليل فى النهار والنهار فى الليل، وإخراج الحىّ من الميّت، وإخراج الميت من الحىّ؛ ورزق من شئت من برّ أو فاجر بغير حساب، فكلّ ذلك لم أسلّط عيسى عليه، ولم أملّكه إياه، أفلم يكن لهم فى ذلك عبرة وبينة! أن لو كان إلها كان ذلك كلّه إليه، وهو فى قولهم يهرب من الملوك ويتنقل منهم فى البلاد، من بلد إلى بلد.
ثم وعظ المؤمنين وحذّرهم فقال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
أى ما مضى من كفركم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ
يقول: أطيعوا الله والرسول فأنتم تعرفونه وتجدونه فى كتابكم، فَإِنْ تَوَلَّوْا
أى على كفرهم.
ثم استقبل أمر عيسى عليه السلام، وكيف كان بدء ما أراد الله تعالى به فقال: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
. ثم ذكر أمر امرأة عمران فقال: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً
أى جعلته عتيقا يعبد الله عز وجل، لا ينتفع به لشىء من الدنيا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِ
إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى
[أى ليس الذكر كالأنثى لما جعلتها محرّرا لك نذيرة «1» ] وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ
. يقول الله تعالى: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا
أى كفلها بعد أبيها وأمها؛ يذكرها باليتم، ثم قصّ خبرها وخبر زكريا، وما دعا به وما أعطاه؛ إذ وهب له يحيى، ثم ذكر مريم، وقول الملائكة لها، فقال تعالى: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ
قال الثعلبىّ: القائل من الملائكة جبريل وحده، «اصطفاك» بولادة عيسى عليه السلام من غير أب، «وطهّرك» من مسيس الرجال. وقيل:
كانت مريم عليها السلام لا تحيض و «اصطفاك» بالتحرير فى المسجد «على نساء العالمين» قال: على عالمى زمانها، ولم تحرّر أنثى غيرها. يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ
قال الثعلبى: قوله «اقنتى» أطيعى وأطيلى الصلاة لربك، قال: كلّمتها الملائكة شفاها. قال الأوزاعىّ: لما قالت لها الملائكة ذلك، قامت فى الصلاة حتى ورمت قدماها وسالتا دما وقيحا.
ثم قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ
قال ابن إسحق: كفلها ها هنا جريج الراهب رجل من بنى إسرائيل نجّار، خرج السّهم عليه فحملها، وكان زكريّا قد كفلها قبل ذلك، فأصابت بنى إسرائيل أزمة شديدة، فعجز زكريا عن حملها، فاستهموا عليها، فخرج السّهم على جريح الراهب فكفلها. يقول تعالى: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ
أى ما كنت معهم إذ يختصمون فى كفالتها، فخبّره تعالى
بخفىّ ما كتموا منه من العلم عندهم؛ لتحقيق نبوّته، والحجة عليهم بما يأتيهم به مما أخفوا منه.
ثم قال تعالى: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
أى هكذا كان أمره، لا كما يقولون فيه. وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ
«وجيها» أى شريفا ذا جاه وقدر «ومن المقرّبين» عند الله وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ
يخبرهم بحالاته التى يتقلب فيها فى عمره؛ كنقلب بنى آدم فى أعمارهم صغارا وكبارا، إلّا أنّ الله تعالى خصّه بالكلام فى مهده آية لنبوّته وتنزيها لأمّه. وقوله:«وكهلا» قال مقاتل: إذا اجتمع «1» قبل أن يرفع إلى السماء. وقال الحسين بن الفضل: «كهلا» بعد نزوله من السماء. وقال ابن كيسان:
أخبرها أنه يبقى حتى يكتهل. وقيل: يكلّم الناس فى المهد صبيّا وكهلا؛ بشّرها بنبوته، فلأمه فى المهد معجزة وفى الكهولة دعوة. وقال مجاهد:«وكهلا» أى حليما «2» .
قال تعالى إخبارا عن مريم: قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
ثم أخبرها بما يريد به فقال تعالى: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ
قوله «الكتاب» أى الكتابة والخطّ. «والحكمة والتّوراة» التى كانت فيهم من عهد موسى قبله «والإنجيل» كتابا آخر أنزله الله إليه، لم يكن عندهم إلّا ذكره أنه كائن. يقول تعالى: وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
أى يحقّق بها نبوّتى أنّى رسول منه إليكم. أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ
قال الثعلبىّ: قراءة العامة بالجمع؛ لأنه خلق طيرا كثيرة، وقرّاء أهل المدينة «طائرا» ذهبوا إلى أنه نوع واحد من الطّير؛ لأنه لم يخلق غير الخفّاش، قال: وإنما خصّ الخفّاش لأنه أكمل الطير خلقا؛ ليكون أبلغ فى القدرة؛ لأن لها ثديا وأسنانا وهى تحيض وتطير، قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا؛ ليتميز فعل الخلق من فعل الله عز وجل؛ وليعلم أن الكمال لله. وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ
«الأكمه» الذى يولد أعمى وجمعه كمه. وقيل:
هو الأعمى وهو المعروف من كلام العرب؛ قال سويد بن أبى كاهل:
كمهت عيناه حتّى ابيضّتا
…
فهو يلحى نفسه حتى نزع «1»
والأبرص الذى فيه وضح، قال: وإنما خصّ هذين؛ لأنهما عياءان وكان الغالب على زمن عيسى عليه السلام الطّب؛ فأراهم الله تعالى المعجزة من جنس ذلك.
قال وهب: ربما اجتمع على عيسى عليه السلام من المرضى فى اليوم الواحد خمسون ألفا، من أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق أتاه عيسى عليه السلام، وإنما كان يداويهم بالدعاء، على شرط الإيمان. وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ
قال الثعلبىّ: أحيا أربعة أنفس العازر وكان صديقا له، فأرسلت أخته إلى عيسى:
إنّ أخاك العازر يموت فأته، وكان بينه وبينه مسيرة ثلاثة أيام، فأتاه هو وأصحابه، فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيام، فقال لأخته: انطلقى بنا إلى قبره.
فانطلقت معهم إلى قبره وهو فى صخرة مطبقة، فقال عيسى عليه السلام:«اللهمّ ربّ السموات السّبع، إنك أرسلتنى إلى بنى إسرائيل أدعوهم إلى دينك، وأخبرهم أنى أحيى الموتى بإذنك، فأحى العازر» ، قال: فقام عازر وودكه يقطر، فخرج من قبره وبقى وولد له. وأحيا ابن العجوز، مرّ به ميتا على عيسى عليه السلام،
وهو يحمل على سرير، فدعا الله تعالى عيسى، فجلس على سريره، ونزل عن أعناق الرجال، ولبس ثيابه، وحمل السّرير على عنقه، ورجع إلى أهله، فبقى وولد له، وابنة العاشر «1» قيل له: أتحييها وقد ماتت بالأمس؟ فدعا الله عز وجل فعاشت وبقيت وولدت، وسام بن نوح عليهما السلام، ودعا عيسى باسم الله الأعظم، فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه، فقال: قد قامت القيامة؟ قال: لا، ولكنّى دعوتك باسم الله الأعظم، ثم قال له: مت، قال: بشرط أن يعيذنى الله من سكرات الموت، فدعا الله سبحانه ففعل.
قال الكلبىّ: كان يحيى الأموات ب «يا حىّ يا قيّوم» .
قال [تعالى «2» ] : وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
أى آية لكم أنى رسول من الله إليكم.
يقول [تعالى] : وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ
أى لما سبقنى منها.
وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ
أى أخبركم أنه كان عليكم حراما فتركتموه، ثم أحلّه لكم تخفيفا عنكم، فتصيبون يسره وتخرجون من تباعته «3» .
يقول [تعالى] : وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ
أى هذا الهدى قد حملتكم عليه وجئتكم به. يقول تعالى: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ
فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ
أى هكذا كان قولهم وإيمانهم، لا كما يقول هؤلاء الذين يحاجّونك، ثم ذكر تعالى رفعه عيسى إليه حين اجتمعوا لقتله، فقال: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ
قال أهل المعانى: المكر السّعى بالفساد فى ستر ومداجاة. وقال الفرّاء: المكر من المخلوقين الخبّ والخديعة والحيلة، وهو من الله استدراجه العباد. ثم أخبرهم تعالى، وردّ عليهم فيما أقرّوا به لليهود من صلبه، وأنّ الله عصمه منهم، ورفعه إليه، فقال تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ. وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ
قال الثعلبىّ: اختلفوا فى معنى التوفى ها هنا؛ فقال كعب والحسن والكلبىّ ومطر الورّاق ومحمد بن جعفر بن الزبير وابن جريح وابن زيد: معناه إنى قابضك ورافعك من الدنيا إلىّ من غير موت. قال: وعلى هذا القول تأويلان: أحدهما- إنى رافعك إلىّ وافيا لم ينالوا منك شيئا؛ من قولهم توفّيت هذا، واستوفيته أى أخذته تامّا.
والآخر- إنى مسلّمك؛ من قولهم توفّيت منه كذا أى تسلّمته. وقال الربيع ابن أنس: معناه إنى منيمك ورافعك إلىّ فى نومك؛ ويدل عليه قوله تعالى:
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ
أى ينيمكم؛ لأنّ النوم أخو الموت. وقوله تعالى:
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ
الآية. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: إنى مميتك.
ويدل عليه قوله تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ
وقوله: أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ*
قال: وله على هذا القول تأويلان: أحدهما- ما قال وهب: توفّى الله تعالى
عيسى عليه السلام ثلاث ساعات من النهار ثم رفعه إليه. وقال ابن إسحق:
النصارى يزعمون أنّ الله تعالى توفاه سبع ساعات من النهار، ثم أحياه ورفعه.
والآخر- ما قال الضحاك وجماعة من أهل المعانى: إنّ فى الكلام تقديما وتأخيرا، معناه إنّى رافعك إلىّ ومطهّرك من الذين كفروا، ومتوفّيك بعد أن أنزلك من السماء. وقال أبو بكر بن محمد بن موسى الواسطىّ: معناه «إنّى متوفّيك» عن شهواتك وحظوظ نفسك. قال: وذلك أنه لمّا رفع إلى السماء صار حاله حال الملائكة. وقوله: «ورافعك إلىّ» قال البنانىّ والشّيبانىّ: كان عيسى عليه السلام على طور زيتا فهبّت ريح، فهرول عيسى، فرفعه الله عز وجل فى هرولته، وعليه مدرعة من شعر. وقيل: معناه ورافعك بالدرجة فى الجنة، ومقرّبك إلىّ بالإكرام.
وقوله: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
أى مخرجك من بينهم ومنجيك منهم.
وقوله: وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ
قال قتادة والربيع والشّعبىّ ومقاتل والكلبىّ: هم أهل الإسلام الذين اتبعوا دينه وسنّته من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، فو الله ما اتبعه من دعاه ربّا. «فوق الّذين كفروا» ظاهرين قاهرين بالعزّ والمنعة والدليل والحجّة. وقال الضحاك وعلىّ ومحمد بن أبان:
يعنى الحواريين فوق الذين كفروا. وقيل: هم الرّوم. وقال ابن زيد: وجاعل النصارى فوق اليهود، فليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق اليهود، واليهود مستدلّون مقهورون. قال: وعلى هذين القولين يكون معنى الاتباع: الادّعاء والمحبة لا اتباع الدّين والملّة. ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ
أى فى الآخرة. فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
أى من الدّين وأمر عيسى.
قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا
بالقتل والسّبى والجزية والذّلّة. وَالْآخِرَةِ
بالنار. وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ
. قوله: وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
الآية ظاهرة المعنى. قوله: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ
أى هذا الذى ذكرته لك، قال النبىّ صلى الله عليه وسلم:«هو القرآن» . وقيل:
هو اللّوح المحفوظ، وهو معلّق بالعرش، من درّة بيضاء، و «الحكيم» هو المحكم من الباطل؛ قاله مقاتل. وقال ابن إسحق: أى القاطع الفاصل، الحقّ الذى لا يخالطه الباطل، من الخبر عن عيسى، وعما اختلفوا فيه من أمره، فلا تقبلنّ خبرا غيره. فقال: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ
أى قد جاءك الحقّ فلا تمترينّ فيه، وإن قالوا خلق عيسى من غير [ذكر «1» ] ، فقد خلقت آدم [من تراب «2» ] بتلك القدرة من غير أنثى ولا ذكر؛ فكان لحما ودما وعظما وشعرا وبشرا، كما كان عيسى، فليس خلق عيسى من غير ذكر بأعجب من هذا.
ثم قال تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ
أى من بعد ما قصصت عليك من خبره فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ
قوله: «نبتهل» أى نتضرع فى الدعاء. وقيل: نخلص فى الدعاء. وقيل: نجتهد ونبالغ فنقول لعن الله الكاذب منّا ومنكم. قال ابن إسحق: إِنَّ هذا
الذى جئت به من الخبر عن عيسى لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ
من أمره. وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. فَإِنْ تَوَلَّوْا
أى إن أعرضوا عن الإيمان فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ
أى الذين يعبدون غير الله تعالى، ويدعون الناس إلى عبادة غير الله.
ثم قال تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ
فدعاهم إلى النّصف، وقطع عنهم الحجّة، قال:
فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله عز وجل عن عيسى، والفصل من القضاء بينه وبينهم، وأمره به من ملاعتهم إن ردّوا ذلك عليه، دعاهم إلى ذلك؛ فقالوا: يا أبا القاسم، دعنا ننظر فى أمرنا، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه، فانصرفوا عنه، ثم خلوا بالعاقب، فقالوا: يا عبد المسيح، ما ترى؟ فقال: والله يا معشر النّصارى لقد عرفتم أنّ محمدا لنبىّ مرسل، لقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم ما لا عن قوم نبيّا قطّ فبقى كبيرهم، ولا نبت صغيرهم، وأنه الاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم، والإقامة على ما أنتم عليه من القول فى صاحبكم، فوادعوا الرجل، ثم انصرفوا إلى بلادكم. فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، قد رأينا ألّا نلاعنك، وأن نتركك على دينك، ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك، ترضاه لنا، يحكم بيننا فى أشياء اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ائتونى العشيّة أبعث معكم القوىّ الأمين» فكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول: ما أحببت الإمارة قطّ حبّى إياها يومئذ رجاء أن أكون صاحبها، فخرجت إلى الظّهر مهجّرا «1» ، فلمّا صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر، سلّم ثم نظر عن يمينه ويساره، فجعلت أتطاول له ليرانى، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجرّاح فدعاه له، وذلك قبل الهجرة.
فقال: «اخرج فاقض بينهم بالحقّ فيما اختلفوا فيه» قال عمر: فذهب بها أبو عبيدة. هذا ما رواه ابن هشام عن ابن إسحق.
وقال محمد بن سعد فى طبقاته: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرض عليهم المباهلة انصرفوا عنه، ثم أتاه عبد المسيح ورجلان من ذوى رأيهم، فقال:
قد بدا لنا ألا نباهلك، فاحكم علينا بما أحببت نعطك ونصالحك. فصالحهم على ألفى حلّة: ألف فى شهر رجب، وألف فى صفر، أو قيمة كل حلّة من الأواقى، وعلى عارية ثلاثين درعا، وثلاثين رمحا وثلاثين بعيرا، وثلاثين فرسا: إن كان باليمن كيد «1» .
ولنجران وحاشيتهم جوار الله وذمة محمد النبىّ رسول الله، على أنفسهم وملّتهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وبيعهم، لا يغيّر أسقف من سقّيفاه «2» ، ولا راهب من رهبانيّة، ولا واقف من وقفانيّته «3» ، وفى بعض الروايات لا يغيّر «4» وافه من وفهيّته، ولا قسيس من قسّيسيّته. والوافه: قيّم الكنيسة.
قال: وأشهد على ذلك شهودا. منهم أبو سفيان بن حرب، والأقرع بن حابس والمغيرة بن شعبة، ورجعوا إلى بلادهم، فلم يلبث السيّد والعاقب إلّا يسيرا حتى رجعا إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم، فأسلما وأنزلهما فى دار أبى أيوب الأنصارىّ،
وأقام أهل نجران على ما كتب لهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبضه الله تعالى. ثم ولّى أبو بكر فكتب بالوصاة بهم عند وفاته، ثم أصابوا ربا فأخرجهم عمر بن الخطاب من أرضهم، وكتب لهم:
«هذا ما كتب عمر أمير المؤمنين لنجران. من سار منهم إنه آمن بأمان الله، لا يضرّهم أحد من المسلمين؛ وفاء لهم بما كتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر- أما بعد- فمن وقعوا «1» به من أمراء الشام وأمراء العراق فليوسعهم من جريب «2» الأرض، ما اعتملوا من ذلك فهو لهم صدقة، وعقبة لهم بمكان أرضهم، لا سبيل عليهم فيه لأحد ولا مغرم- أمّا بعد- فمن حضرهم من رجل مسلم فلينصرهم على من ظلمهم، فإنهم أقوام لهم الذّمّة. وجزيتهم عنهم متروكة أربعة وعشرين شهرا بعد أن يقدموا، ولا يكلّفوا إلّا من ضيعتهم «3» ، غير مظلومين ولا معنوف «4» عليهم.
شهد عثمان بن عفان ومعيقيب بن أبى فاطمة.
قال: فوقع ناس منهم بالعراق، فنزلوا النّجرانيّة التى هى ناحية الكوفة.
وحيث ذكرنا وفادات العرب، فلا بأس أن نصل هذا الفصل بما يناسبه من خبر الجنّ فى إسلامها، ونلحق ذلك بما يتعلق به من إخبار الجنّ أصحابهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أسلم بسبب ذلك، فإنا عند ذكرنا للمبشّرات برسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكرنا من ذلك طرفا، وأخّرنا بقيته لنذكره فى هذا الفصل، ونبهنا عليه هناك.