الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما بقية الأويرانية، فإن السلطان كتب إلى الأمير علم الدين سنجر الدوادارى أن يتوجه بهم إلى الساحل فينزلهم به، فتوجه بهم. ولما مرّوا بدمشق، أنزلهم بالمرج، ولم يمكّن أحدا منهم من دخول المدينة. ورسم بإخراج الأسواق إليهم للبيع والشراء بالمرج، إلى الكسوة والصنمين «1» . وفعل ذلك فى كل منزلة إلى أن وصل بهم إلى أراضى عثليث، وامتدوا «2» فى بلاد الساحل.
ورسم «3» السلطان باقامة الأمير علم الدين [سنجر]«4» الدوادارى معهم، إلى أن يحضر السلطان إلى الشام، ومات منهم خلق كثير. وأخذ الأمراء أولادهم الشباب للخدمة، وكانوا من أجمل الناس، وتزوج الجند وغيرهم من بناتهم. ثم انغمس من بقى منهم فى العساكر، وتفرقوا فى الممالك الإسلامية، ودخلوا فى دين الإسلام.
وبقاياهم فى الخدمة إلى وقتنا هذا «5» .
ذكر وفاة قاضى القضاة تقى الدين عبد الرحمن بن بنت الأعز وتفويض القضاء للشيخ ابن دقيق العيد
.
وفى هذه السنة، فى يوم الخميس، سادس عشر جمادى الأولى، توفى
قاضى القضاة، تقى الدين أبو القاسم عبد الرحمن ابن قاضى القضاة تاج الدين أبى محمد عبد الوهاب بن بنت الأعز، قاضى القضاة الشافعى، بالديار المصرية، ودفن بالقرافة، فى تربة والده، رحمهما الله. وفى يوم وفاته، توفى كاتبه نور الدين بن السوسى، وكان خصيصا به. وحملت جنازتاهما «1» معا.
وقد قدمنا من ذكر أخبار قاضى القضاة تقى الدين هذا وولاياته القضاء والوزارة ونظر الخزائن، ما نستغنى الآن عن إعادته، رحمه الله تعالى. ولما مات، فوّض السلطان قضاء القضاة بالديار المصرية، لشيخنا «2» الإمام العلامة، تقى الدين بقية المجتهدين أبى الفتح محمد ابن شيخ الإسلام مجد الدين على بن وهب بن مطيع القشيرى، المعروف بابن دقيق العيد. وكانت ولايته فى يوم السبت ثامن عشر الشهر المذكور. ولما ولى القضاء كان كثير التطلع إلى أخبار نوابه بالأعمال «3» البرانية. وكان يذكرهم بكتبه المشتملة على المواعظ والتحذيرات، من عواقب الغفلة والإهمال. فكان مما كتب به، إلى بعض نوابه، فى سنة سبع وتسعين.
وقيل إنه كتب إلى جميع النواب مثل ذلك. وكان مضمون كتابه الذى نقلت «4» نسخته هذه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الفقير إلى الله تعالى، محمد بن على.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ
عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ)
«1» .
هذه المكاتبة إلى، فلان، وفقه الله لقبول النصيحة، وأتاه لما يقربه قصدا صالحا، ونية صحيحة. أصدرناها إليه، بعد حمد الله الذى (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ)
«2» ، ويمهل حتى ينتبس الإمهال بالإهمال على المغرور، تذكّره بأيام الله، (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)
«3» . وتحذره «4» صفقة من باع الآخرة بالدنيا، فما أحد سواه مغبون. عسى أن يرشده بهذا التذكار وينفعه وتأخذ هذه النصائح بحجزته عن النار، فإنى أخاف أن يتردى، فيجز من ولاه، والعياذ بالله، معه.
والمقتضى لإصدارها ما لمحناه «5» من الغفلة المستحكمة على القلوب، ومن تقاعد الهمم عن القيام بما يحب الرب على المربوب، ومن أنسهم بهذه الدار وهم يزعجون عنها، ومن علمهم بما بين أيديهم من عقبة كؤود، وهم لا يتحققون «6» منها، ولا سيما القضاة الذين يحملون عبء «7» الأمانة، على كواهل ضعيفة، وظهروا بصور كبار، وهمم «8» نحيفة. والله إن الأمر العظيم، وإن الخطب لجسيم، ولا
أرى مع ذلك أمنا ولا قرارا، ولا راحة، اللهم [إلا]«1» رجلا «2» نبذ الآخرة وراءه، واتخذ إلهه هواه، وقصر همّه وهمته على حظ نفسه من دنياه، فغاية مطلبه «3» الحياة والمنزلة فى قلوب الناس وتحسين الزى «4» والملبس، والركبة والمجلس، غير مستشعر «5» خيبة حاله، ولا ركاكة مقصده، فهذا لا كلام معه، فإنك لا تسمع الموتى، وما أنت بمسمع من فى القبور. فاتق الله الذى يراك حين تقوم؛ واقصر أملك عليه، فالمحروم من أمله غير مرحوم. وما أنا وأنتم أيها النفر، إلا كما قال حبيب العجمى، وقد قال له قائل: ليتنا لم نخلق فقال قد وقعتم فاحتالوا. وإن خفى عليك بعض هذا الخطر، وشغلتك الدنيا، أن تقضى من معرفته الوطر. فتأمل [من]«6» كلام النبوة القضاة ثلاثة، وقوله صلى الله عليه وسلم لمن خاطبه مشفقا عليه: لا تأمرن على اثنين، ولا تليّن مال اليتيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم «7» .
وما أنا والسير فى متلف
…
يبرح بالذّكر الضابط
هيهات جف القلم، ونفذ أمر الله، ولا راد لما حكم. ومن هناك شمّ الناس فى الصّديق رضى الله عنه، راتحة الكبد المشوى. وقال الفاروق: ليت أم عمر
لم تلده. واستسلم عثمان وقال من أغمد سيفه، فهو حر. وقال علىّ:- والخزائن بين يديه مملوءة- من يشترى منى سيفى هذا، ولو وجدت ما اشترى به رداء ما بعته. وقطع الخوف نياط قلب عمر بن عبد العزيز، فمات من خشية العرض.
وعلق بعص السلف فى بيته سوطا، مؤدب به نفسه إذا فتر. أفترى ذلك سدى؟
أو وضح إنا نحن المقربون وهم البعداء؟ وهذه أحوال لا توجد فى كتاب السلم ولا الإجارة «1» ولا الجنايات. نعم إنما تنال بالخضوع والخشوع، وبأن تظمأ وتجوع، وتحمى عينك الهجوع. ومما يعينك على الأمر الذى دعوت إليه، ويزوّدك فى سيرك إلى الغرض «2» عليه، أن تجعل لك وقتا تعمره بالفكر والتدبير، وأناة تجعلها معدة لجلاء قلبك. فإنه [إن]«3» استحكم صدأه، صعب تلا فيه «4» .
واعرض عنه من هو أعلم بما فيه، واجعل أكثر همومك لاستعداد المعاد، والتأهب لجواب الملك الجواد. فإنه يقول (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)
«5» .
ومهما وجدت من همتك قصورا، واستشعرت من نفسك عما بدا إليها نفورا، فاجأر إليه وقف ببابه واطلب منه، فإنه لا يعرض عمن صدق، ولا تعزب «1» عن علمه «2» خفايا الضمائر، ألا يعلم من خلق وهذه نصيحتى إليك، وحجتى بين «3» يدى الله، إن فرّطت، عليك، اسأل الله لى ولك، قلبا واعيا، ولسانا ذاكرا، ونفسا مطمئنة، بمنّه وكرمه.
وفى هذه السنة، عزل القاضى جمال الدين بن الشريشى نفسه من نيابة الحكم بدمشق، عن قاضى القضاة بدر الدين [بن جماعة «4» ] ، وذلك فى الجمعة، رابع عشرين شهر رجب. فوقع اختيار قاضى القضاة، بدر الدين [بن جماعة «5» ] فى النيابة عنه، على القاضى جمال الدين سليمان بن عمر بن سالم الأذرعى «6» ، المعروف بالزرعى قاضى زرع «7» . فاحضره منها واستنابه بدمشق، وذلك فى يوم الاثنين تاسع عشر شوال من السنة.
وفيها، قدمت والدة الملك العادل بدر الدين سلامش ابن السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس من بلاد الأشكرى «8» ، إلى دمشق. وكان وصولها
فى حادى عشر رمضان. ونزلت بدار الحديث الظاهرية بدمشق.
وأرسل إليها نائب السلطنة الأمير عز الدين أيبك الحموى الظاهرى، التحف والهدايا والألطاف، وخدمها أتم خدمة. ثم توجهت من دمشق إلى القاهرة فى عشية الجمعة، ثامن عشر رمضان.
ذكر توجه السلطان الملك العادل وعزل نائب السلطنة بدمشق الأمير عز الدين الحموى، وتولية الأمير سيف الدين أغرلوا «1» العادلى وغير ذلك
وفى هذه السنة، توجه السلطان الملك العادل إلى الشام بجميع العساكر.
وكان استقلال ركابه من قلعة الجبل، فى يوم السبت سابع عشر شوال، بعد الزوال. ووصل إلى دمشق فى الساعة الخامسة من يوم السبت، خامس عشر ذى القعدة، والأمير بدر الدين بيسرى حامل الجتر «2» على رأسه. وحضر فى خدمته نائب السلطنة، الأمير حسام الدين لاجين، والصاحب فخر الدين بن الخليلى ونزل
الوزير بدار الملك الزاهر. وفى يوم وصوله إلى دمشق، توجه إلى زيارة قبر والده، الشيخ مجد الدين بجبل الصالحية. فلقيه القاضى تقى الدين سليمان الحنبلى، وسلّم عليه، فعرّف به. فأمر أن يركب بغلته الجنيب، فركبها، وحضر معه إلى تربة والده.
فلما فرغ من القراءة، ولّاه الصاحب قضاء القضاة على مذهبه، فقبل. وخلع عليه فى بكرة النهار، وعلى بقية القضاة. وكان قاضى الحنابلة قبله، القاضى شرف الدين الحسن ابن الشيخ شرف الدين عبد الله بن محمد بن قدامة المقدسى قد توفى، وكانت وفاته فى أول ليلة الخميس، الثانى والعشرين من شوال، ودفن ضحى يوم الخميس، رحمه الله تعالى «1» .
ولما استقر السلطان بدمشق، خلع على الأمراء والمقدمين، وعلى الصاحب تقى الدين توبة، والشيخ نجم الدين بن أبى الطيب، وولّاه وكالة بيت المال، وعلى شهاب الدين الحنفى.
ثم شرع الصاحب فخر الدين فى مصادرات الولاة والمباشرين. ورسّم على الأمير شمس الدين الأعسر شاد الدواوين [بدمشق «2» ] ، وعلى الأمير سيف الدين استدمر كرجى «3» والى البر، وعزله عن ولاية البر. وولّى الأمير علاء الدين ابن الجاكى عوضه، وطلب منهما الأموال، ورسّم على سائر المباشرين، وطلب من كل منهم جامكية سنة. واستخرج من شهاب الدين بن السلعوس ثمانين ألف درهم، وكان الأمير شمس الدين سنقر الأعسر باقيا على ولايته، وهو الذى تولّى
المستخرج من المصادرين، استدمر وغيره. وهو مع ذلك يحمل ما تقرر عليه من الأموال «1» .
وفى يوم الاثنين رابع عشر ذى القعدة، وصل الملك المظفر صاحب حماه إلى خدمة السلطان بدمشق، فتلقاه السلطان وأكرمه. ثم جرد السلطان جماعة من العسكر المصرى، وعسكر دمشق إلى جهة حلب «2» .
وفى يوم الجمعة، ثامن عشرين ذى القعدة، حضر السلطان إلى جامع بنى أمية وصلى به الجمعة. وخلع على الخطيب قاضى القضاة بدر الدين [بن جمامة «3» ] ، وزار مصحف عثمان.
وفى يوم الاثنين مستهل ذى الحجة، حضر الأمير عز الدين الحموى الظاهرى، نائب السلطنة بدمشق، إلى خدمة السلطان. فأنكر عليه سوء اعتماده، وطمع نفسه، وما بلغه عنه من بسط يده فى أخذ المصانعات «4» . وأخذ السلطان خيوله المسوّمة وأمواله وأقمشته، ثم عزله عن النيابة، وفوضها لمملوكه الأمير سيف الدين أغرلوا العادلى، وباشر النيابة من يومه. ثم خلع بعد ذلك على الأمير عز الدين الحموى، وأنعم عليه بإقطاع أغرلوا بالديار المصرية. وانتقل الحموى عند عزله من دار السعادة، ونزل بداره المعروفة بالجيشى التى بالقصاعين.
وفيها، فى ثامن ذى الحجة، فوض السلطان وزارة الشام، لوكيله شهاب الدين الحنفى، عوضا عن تقى الدين توبة، وكان قبل ذلك يلى الحسبة بدمشق. وخلع عليه خلعة الوزارة فى يوم عيد الأضحى. ثم توجه السلطان فى ثامن [عشر]«1» ذى الحجة، إلى جهة حمص، وتصيّد فى تلك الجهة. ودخل حمص فى تاسع عشر ذى الحجة، وحضر إليه نائب السلطنة بحلب، وبقية النواب. وانسلخت السنة، والسلطان بمخيمه على جوسيه «2» ، وهى قرية من قرى حمص، كان قد اشتراها.
وفى هذه السنة، توفى الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحى، أمير جاندار.
وكانت وفاته بمصر، فى يوم الأربعاء، السادس والعشرين من صفر سنة خمس وتسعين وستمائة. ودفن بتربته بالرصد وكان رحمه الله تعالى، كثير الخير والإحسان إلى خلق الله تعالى. وعمّر المدارس والمساجد والجوامع، وله بإسنا من عمل قوص، مدرسة موقوفة على طائفة الشافعية. وبقوص مدرسة على ساحل البحر كذلك، وبجوار المدرسة مسجد له، يجتمع فيه الفقراء الأعجام القرندلية «3» فى شهر رمضان من كل سنة، ويذبح لهم فى كل يوم رأس غنم،
وما يحتاجون إليه من التوابل «1» والخبز. وله بمصر مدرسة، وبكرسى الجسر جامع، وبالرصد جامع، وغير ذلك من الأماكن الشريفة المبرورة. ووقف عليها الأوقاف المبرورة الوافرة، رحمه الله تعالى.
وتوفى أيضا بالديار المصرية جماعة من الأمراء، منهم الأمير بدر الدين بيليك الحسنى أبو شامة، وهو الذى كان يندب إلى الكشف بالوجه القبلى بالديار المصرية، فى الدولة المنصورية، وما بعدها، رحمه الله تعالى «2» .