الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رضى الدين أبى القاسم مخلوف ابن الشيخ تاج الدين أبى المعالى ناهض النويرى المالكى، وهو يومئذ ناظر الخزانة السلطانية. وكان فى ابتداء ترقيه بلى أمانة الحكم العزيز بالقاهرة. فاتفق أن السلطان الملك المنصور، فى حال إمرته، ابتاع منه، من تركة بعض الأمراء، عدة بجملة، كانت الغبطة فيها للأيتام.
فطالبه القاضى زين الدين بالمال، فتوقف عن أدائه، وقصد ردما ابتاعه.
وتحدث فى ذلك مع القاضى زين الدين فامتنع عن رده. واقتضى الحال ان شكاه للملك الظاهر، والزم بالقيام بالثمن. فبقى ذلك فى خاطر السلطان. فلما ملك، انتفع بذلك عنده غاية النفع، ورتبه فى الخزانة، ووثق به، وتمكن عنده تمكنا عظيما. ثم فوض إليه القضاء، وأقره «1» معه على الخزانة. واستمر فى القضاء إلى أن توفى، على ما نذكره، إن شاء الله تعالى، فى أخبار الدولة الناصرية.
ذكر وفاة قاضى القضاة بهاء الدين بن الزكى وشىء من أخباره
وفى هذه السنة، فى يوم الاثنين، حادى عشر ذى الحجة، توفى بدمشق قاضى القضاة بهاء الدين أبو الفضل يوسف، ابن قاضى القضاة محيى الدين أبى الفضل يحيى، ابن قاضى القضاة محيى الدين أبى المعالى محمد، ابن قاضى القضاة، ركن الدين أبى الحسن على ابن قاضى القضاة، مجد الدين أبى المعالى محمد ابن قاضى القضاة ركن الدين أبى الفضل يحيى بن على بن عبد العزيز العثمانى الأموى القرشى، المعروف بابن الزكى، قاضى قضاة الشافعية بدمشق. اجتمع فيه وله ما لم يجتمع فى غيره، ولا له. كان من أحسن الناس صورة،
وأكملهم قواما، وهيئة وهيبة. وكان من العلماء الفضلاء فى المذهب وعلم الأصولين «1» والعربية، والمنطق، وعلم الكلام، والحساب، والفرائض، والنظم، وعلم البيان، وحل «2» المترجم، والكتابة الجيدة الحسنة، مع الذكاء المفرط. وكان له دنيا عريضة من المال والعقار. وكانت داره بباب البريد، من أحسن الدور بدمشق وبستانه بالسهم الأعلى من أصح الغوطة وأطيبها هواء. وضيعته الملك قرية الميدانية، من غوطة دمشق. [وكانت «3» ] زوجته من أحسن النساء صورة و [كان «4» ] أولاده تامّين الصورة. وجمع له من المدارس بدمشق أجلها، وهى العزيزية والتقوية والفلكية والعادلية والمجاهدية والكلّامسة وغيرها. وأنظار أوقاف كثيرة، وقضاء قضاة دمشق وسائر أوقافها. فلما كمل له ذلك. أتاه الموت الذى لا حيلة فيه ولا دافع له، رحمه الله تعالى.
وفيها، توفى الأديب الفاضل، الشاعر المجيد، شهاب الدين أبو عبد الله محمد بن عبد المنعم بن يوسف بن أحمد الأنصارى اليمنى المحتد «5» المصرى الدار والمولد، الشافعى الصوفى، المعروف بابن الخيمى، الشاعر المشهور، المبرز على نظرائه. وكانت وفاته بالقاهرة المعزية، بمشهد الحسين، فى التاسع والعشرين من شهر رجب الفرد، سنة خمس وثمانين وستمائة. ومولده تخمينا «6» فى سنة اثنتين
وستمائة. روى عن ابن باقا، وسمع من ابن البنا وغيره، وحدّث. وكان يعانى الخدم الديوانية، وله نظم كثير جيد. فمنه قصيدته المشهورة البائية، التى ادعاها الشيخ نجم الدين بن اسرائيل. وقد رأينا أن نذكر هذه القصيدة، وما وقع فى أمرها، وما قيل فى وزنها ورويها، وكيف حكم بها للمذكور. وأول «1» القصيدة:
يا مطلبا ليس لى فى غيره أرب
…
إليك آل التقصى وأنتهى الطلب
وما طمحت لمرأى «2» أو لمستمع
…
إلا لمعنى إلى علياك ينتسب
وما أرانى «3» أهلا أن تواصلنى
…
حسبى علوا، بأنى فيك مكتيب
لكن ينازع شوقى تارة أدبى
…
فأطلب الوصل، لما يضعف الأدب
ولست أبرح فى الحالين ذا قلق
…
باد وشوق له فى أضلعى لهب
وناظر كلما كفكفت أدمعه
…
صونا لحبك يعصينى وينسكب
ويدعى فى الهوى دمعى مقاسمتى
…
وجدى وحزنى ونجوى وهو مختضب «4»
كالطرف يزعم توحيد الحبيب ولا
…
يزال «5» فى ليله للنجم يرتقب
يا صاحبى قد عدمت المسعدين فما
…
عدنى على وصبى لا مسّك الوصب
بالله إن جزت «1» كثبانا بذى سلم
…
قف بى عليها، وقل لى هذه الكتب
ليقضى الخد فى أجراعها وطرا
…
من تربها وأؤدى بعض ما يجب
ومل إلى البان من شرقى كاظمة
…
فلى إلى البان من شرقيها طرب
وخذ يمينا لمغنى «2» تهتدى بشذا
…
نسيمه «3» الرطب إن ضلت بك النجب
حيث الهضاب «4» وبطحاها يروضها
…
دمع المحبين لا الأنداء والسحب
اكرم به منزلا تحميه هيئته
…
عنى وأنواره لا السمر والقضب
دعنى أعلل نفسا عزّ مطلبها في
…
هـ، وقلبا لعذر «5» ليس ينقلب
ففيه عاهدت قدما حب من حسنت
…
به الملاحة واعتزت به الرتب
دان وأدنى وعز الحسن يحجبه
…
عنى وذلى والإجلال والرهب
أحيا إذا مت من شوق لرؤيته
…
لأننى لهواه فيه منتسب
ولست أعجب من حبى «6» وصحته
…
من صحتى إنما سقمى هو العجب
يا لهف نفسى «7» لو يحدى تلهفها
…
عونا ووا حربا «8» ، لو ينفع الحرب
يمضى الزمان وأشواقى مضاعفة
…
يا للرجال ولا وصل ولا سبب
هبت لنا نسمات من ديارهم
…
لم يبق فى الركب من لا هزه الطرب
كدنا نطير سرورا من تذكرهم
…
حتى لقد رقصت من تحتنا النجب
يا بارقا بأعالى «1» الرقمتين بدا
…
لقد حكيت ولكن فانك الشنب «2»
أما خفوق «3» فؤادى فهو عن سبب
…
وعن خفوقك «4» قل لى ما هو السبب
ويا نسيما سرى من جو كاظمة
…
بالله قل لى كيف البان والعذب
وكيف جيرة ذاك الحى هل حفظوا
…
عهدا أراعيه إن شطوا وإن قربوا
أم ضيعوا ومرادى منك ذكرهم
…
هم الأحبة إن أعطوا وإن سلبوا
إن كان يرضيهم ابعاد عبدهم
…
فالعبد منهم بذاك البعد مقترب
والهجر إن كان يرضيهم بلا سبب
…
فإنه من قبيل الوصل محتسب
ولما بلغت هذه القصيدة نجم الدين محمد بن إسرائيل، ادعاها لنفسه.
فاجتمع هو وابن الخيمى بعد ذلك بحضرة جماعة من الأدباء، وجرى الحديث فى ذلك، فأصر ابن إسرائيل على أنهاله. فتحا كما إلى الشيخ شرف الدين عمر ابن الفارض، رحمه الله، وكان يومئذ هو المشار إليه فى معرفة الأدب ونقد الشعر. فأشار أن ينظم كل واحد منهما أبياتا على الوزن والروى فنظم ابن الخيمى:
لله قوم بجرعاء الحمى غيب
…
جنوا علىّ، ولما أن جنوا عتبوا
يا قوم «1» هم أخذوا قلبى فلم سخطوا
…
وانهم غصبوا عيشى هام غضبوا
هم العريب بنجد مذ عرفتهم
…
لم يبق لى معهم مال ولا نسب
شاكون للحرب لكن من قدودهم
…
وفاترات اللحاظ السمر والقضب
فما ألموابحى «2» أو ألم «3» بهم
…
إلا أغاروا على الأبيات وانتهبوا
عهدت فى دمن «4» البطحاء عهد هوى
…
إليهم وتمادت «5» بيننا حقب
فما أضاعوا قديم العهد بل حفظوا
…
لكن لغيرى ذاك العهد قد نسبوا
من منصفى من لطيف فيهم غنج
…
لدن القوام لاسرائيل ينتسب «6»
مبدل القول ظلما لا يفى بموا
…
عيد الوصال ومنه الذنب والغضب
فى لثغة الراء منه صدق نسبته
…
والمّن منه برور الوعد والكذب
موحد فيرى كل الوجود له
…
ملكا ويبطل ما يقضى به النسب
فعن عجائبه حدث ولا حرج
…
ما ينتهى فى المليح المطلق العجب
بدر ولكن هلالا لاح اذهو
…
بالوردىّ «7» من شفق الخدين منتقب
فى كاس مبسمه من حلو ريقته
…
خمر ودر ثناياه بها حبب
فلفظه أبدا سكران «1» يسمعنا
…
من معرب اللحن ما ينسى له الأدب
تجنى «2» لواحظه فينا ومنطقه
…
جنايه يجتنى من مرّها الضرب
قد أظهر السحر «3» فى أجفانه سقما
…
البرء منه إذا ما شاء والعطب
حلو الأحاديث وألفاظ ساحرها
…
تلقى «4» إذا نطق الألواح والكتب
لم يبق منطقه قولا يروق لنا
…
لقد شكت ظلمه الأشعار والخطب
فداؤه «5» ما جرى فى الدمع من مهج «6»
…
وما جرى فى سبيل الحب محتسب
ويح المتيم شام بارق من أضم
…
فهزه كاهتزاز البارق الحرب
واسكن البرق من وجد ومن كلف
…
فى قلبه فهو فى أحشائه لهب
فكلما لاح منه بارق بعثت
…
قطر المدامع من أجفانه سحب
وما أعادت نسيمات الغوير له
…
أخبار ذى الأثل إلا هزهّ الطرب
واها له أعرض الأحباب عنه وما
…
أجدت وسائله الحسنى ولا القرب
ونظم الشيخ نجم الدين محمد بن اسرائيل [رحمه الله تعالى «7» ] .
لم يقض من حبكم بعض الذى يجب
…
قلب متى ما جرى تذكاركم يجب
ولى، وفىّ لرسم الدار بعدكم
…
دمع متى جاد ضنت «1» بالحيا السحب
أحبابنا والمنى تدنى مزاركم «2»
…
وربما حال من دون المنى الأدب «3»
ما رابكم من حياتى بعد بعدكم
…
وليس لى فى حياة بعدكم أدب
قاطعتمونى فأحزانى مواصلة
…
وحلتم «4» فحلالى فيكم التعب
[رحتم بقلبى وما كادت لتسلبه
…
لولا قدودكم الخطّية السلب «5» ]
يا بارقا ببراق «6» الحزن لاح لنا
…
أأنت أم أسلمت أقمارها النقب
ويا نسيما سرى والعطر يصحبه
…
أجزت «7» حين مشين الخرد «8» العرب
أقسمت بالمقسمات الزّهر يحجبها»
سمر العوالى والهندية القضب
لكدت تشبه يرقا من ثغورهم
…
مادر «10» دمعى لولا الظلم والشنب
وجيرة جار فينا حكم معتدل
…
منهم ولم يعتبوا لكنهم عتبوا
ما حيلتى قربونى من محبتهم
…
وحال دونهم التقريب والخبب «1»
وعرضتا على الشيخ شرف الدين بن الفارض. فأنشد مخاطبا لابن اسرائيل عجز بيت من أبيات ابن الخيمى:
لقد حكيت ولكن فاتك الشنب
وحكم بالقصيدة لابن الخيمى. واستحسن بعض من حضر المجلس من الأدباء أبيات ابن اسرائيل، وقال: من ينظم مثل هذه الأبيات، ما الحامل له على ادعاء ما ليس له؟. فقال ابن الخيمى: هذه سرقة عادة، لا سرقة حاجة.
وانفصل المجلس. وفارق الشيخ نجم الدين بن إسرائيل من وقته الديار المصرية، وتوجه إلى الشام. ولما بلغت هذه الواقعة القاضى شمس الدين أحمد بن خلكان وهو إذ ذاك يتولى نيابة الحكم بالقاهرة، خلافة عن قاضى القضاة بدر الدين السنجارى، رحمهما الله تعالى، أرسل إلى الشيخ شهاب الدين ابن الخيمى، يطلب منه الأبيات التى نظمها، وادعاها ابن اسرائيل، فذيلها بأبيات وهى:
إن كان يرضيهم إبعاد عبدهم
…
فالعبد منهم بذاك البعد مقترب
والهجر إن كان يرضيهم بلا صبب
…
فإنه من لذيذ الوصل محتسب
وإن هم احتجبوا عنى فإن لهم
…
فى القلب مشهور حسن ليس يحتجب
قد نزه «1» اللطف والإشراق بهجته
…
عن أن تمنعها «2» الأصتار والحجب
لا ينتهى نظرى منهم إلى رتب
…
فى الحسن إلا ولاحت فوقها رتب
وكلما لاح معنى من جمالهم
…
لبّاه شوق إلى معناه منتسب
أظل «3» دهرى ولى من حبهم طرب
…
ومن أليم اشتياقى نحوهم حرب
فالقلب يا صاح منى بين ذاك وذا
…
قلب لمعروف شمس الدين منتهت
إن الحديث شجون فاستمع عجبا
…
حديث ذا الحبر «4» حسنا كله عجب
وشرع فى مدحه وذكر أوصافه. إلى نهاية سبعة وثلاثين بيتا، تركنا ايراد بقيتها اختصارا «5» . وشعره، رحمه الله تعالى، كثير جيد مشهور. فلنرجع إلى سياق أخبار الدولة المنصورية.