الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بهدم «1» كل كنيسة استجّدت بعد الهجرة، ولم يبق إلا ما كان قبل الإسلام، وسيّر عروة بن محمد، فهدم الكنائس بصنعاء. وصانع القبط على كنائسهم بمصر، وهدم بعضها، ولم يبق من الكنائس إلا ما كان قبل بعثة النبى، صلى الله عليه وسلم. هذا آخر ما لخصناه من الكتاب المذكور «2» . فلنزجع إلى تتمة حوادث سنة سبعمائة.
ذكر وصول رسل غازان ملك التتار وما وصل على أيديهم من المكاتبة وما أجيبوا به
وفى هذه السنة، فى ذى القعدة، وصل رسل غازان إلى البلاد الشامية «3» ، وهم الأمير ناصر الدين على خواجا، والقاضى كمال الدين موسى بن يونس، ورفيقهما. فوصل البربد من حلب بوصولهم. فرسم بتوجه الأمير سيف الدين كراى المنصورى لإحضارهم. فتوجه على خيل البريد فأحضرهم إلى الأبواب السلطانية. وكان وصولهم إلى قلعة الجبل، فى ليلة الاثنين، خامس عشر ذى الحجة. وأحضروا بين يدى السلطان، فى عشية نهار الثلاثاء. فخطب كمال الدين خطبة فى معنى الصلح، واتفاق الكلمة، ورغب فيه. ثم أخرج كتابا نسخته «4» :
بسم الله الرحمن الرحيم. بقوة الله تعالى، وميامين الملة المحمدية فرمان السلطان محمود غازان.
ليعلم السلطان الملك المعظم الناصر، أنه فى العام الماضى، بعض عساكرهم «1» المفسدة، دخلوا أطراف بلادنا، وأفسدوا فيها، لعناد الله وعنادنا، كماردين ونواحيها، وجاهدوا الله بالمعاصى فيمن ظفروا به من أهلها، وأقدموا على أمور بديعة، وارتكبوا آثما شنيعة، من محاربة الله وخرق ناموس الشريعة. فأنفنا من تهجمهم «2» ، وغرنا من تقحمهم «3» . وأخذتنا الحمية الإسلامية، فحدتنا «4» على دخول بلادهم، ومقاتلتهم على فسادهم. فركبنا بمن كان لدينا من العساكر، وتوجهنا بمن اتفق منهم أنه حاضر. وقبل وقوع الفعل منا، واشتهار الفتك عنا، صلكنا سنن سيد المرسلين، واقتفينا آثار المتقدمين «5» . واقتدينا بقول الله:(لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)
«6» . وأنفذنا صحبة يعقوب السكرجى، جماعة من القضاة والأئمة والثقات. وقلنا:(هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى أَزِفَتِ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ)
«7» .
فقابلتم ذلك بالإصرار، وحكمتم عليهم وعلى المسلمين بالأضرار، وأهنتموهم وسجنتموهم. وخالفتم سنن الملوك فى حسن السلوك. فصبرنا «8» على تماديكم فى غيّكم، وخلودكم إلى بغيكم، إلى أن نصرنا الله، وأراكم فى أنفسكم قضاه. (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ
اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ)
«1» . وظننا أنهم حيث تحققوا كنه الحال، وآل بهم الأمر إلى ما آل، أنهم ربما تداركوا الفارط فى أمرهم، ورتقوا ما فتقوا بغدرهم، وأوجه «2» إلينا وجه عذرهم، وأنهم ربما سيروا إلينا حال دخولهم إلى الديار المصرية، رسلا لإصلاح تلك القضية. فبقينا بدمشق غير متحثحثين، وتثبطنا تثبط المتملكين المتمكنين. فصدهم عن السعى فى صلاح حالهم التوانى، وعلّلوا نفوسهم عن اليقين بالأمانى.
ثم بلغنا، بعد عودنا إلى بلادنا، أنهم القوا فى قلوب العساكر والعوام، وراموا جبر ما أوهنوا من الإسلام، أنهم فيما بعد يلقوننا «3» على حلب أو الفرات.
وأن عزمهم مصر على ذلك لا سواه. فجمعنا العساكر وتوجهنا للقياهم. ووصلنا الفرات مرتقبين ثبوت دعواهم، وقلنا ولعلهم وعساهم «4» . فما طلع لهم بارق، ولا ذرّ شارق. فتقدمنا «5» إلى أطراف حلب، وتعجبنا من بطئهم غاية العجب.
فبلغنا رجوعهم «6» بالعساكر، وتحققنا نكوصهم عن الحرب. وفكرنا فى أنه متى تقدمنا بعساكرنا الباهرة وجموعنا العظيمة القاهرة، ربما أخرب البلاد مرورها، وباقامتهم فيها فسدت أمورها. وعم الضرر العباد، والخراب البلاد. فعدنا بقيا عليها، ونظرة لطف من الله إليها.
وها نحن الآن [أيضا «1» ] مهتمون بجمع العساكر المنصورة، ومشحذون «2» غرار «3» عزماتنا المشهورة، ومشتغلون بصنع المجانيق وآلات الحرب، وعازمون بعد الإنذار (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)
«4» .
وقد سيرنا حاملى هذا الفرمان: الأمير الكبير ناصر الدين على خواجه، والإمام العالم ملك القضاة، كمال الدين موسى بن يونس. وقد حملنا هما كلاما يشافهاهم «5» به. فليثقوا «6» بما تقدمنا به إليهما. فإنهما من الأعيان المعتمد عليهما، لنكون كما قال الله تعالى:(قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ)
«7» .
فيعدوا «8» لنا الهدايا والتحف. فما بعد الإنذار من عاذر. وإن لم يتداركوا الأمر، فدماء المسلمين وأموالهم مطلوله «9» بتدبيرهم، ومطلوبة منهم عند الله على طول «10» تقصيرهم.
قليمعن السلطان لرعيته النظر فى أمره. فقد قال صلى الله عليه وسلم: «من ولاه الله أمرا من أمور هذه الأمة، واحتجب دون حاجتهم وخلّتهم وفقرهم.
احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره» . وقد أعذر من أنذر، وانصف من حذّر.
والسلام على من اتبع الهدى.
كتب فى العشر الأوسط من شهر رمضان سنة سبعمائة بجبال الأكراد، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا [محمد «1» ] المصطفى وآله الطاهرين «2» .
فقرئ كتابه، ورسم بإنشاء جوابه، فكتب. وهو من إنشاء المولى القاضى علاء الدين على ابن المولى المرحوم فتح الدين محمد ابن القاضى المرحوم محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر. وأعاد السلطان رسله، من غير أن تصحبّهم رسولا، بل استحضرهم بمنزلة الصالحية، وأنعم عليهم وجهزهم، فتوجهوا فى سنة إحدى وسبعمائة.
ونسخة الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم، بقوة الله تعالى، وميامين الملة المحمدية.
أما بعد حمد الله، الذى جعلنا من السابقين الأوّلين، الهادين المهتدين، التابعين لسنة سيد المرسلين، بإحسان إلى يوم الدين. والصلاة على سيدنا محمد والسلام على آله وصحبه الذين فضل الله من سبق منهم إلى الإيمان فى كتابه
المكنون: فقال سبحانه وتعالى: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)
«1» بإقبال دولة السلطان الملك الناصر.
كلام محمد بن قلاوون:
«ليعلم «2» السلطان المعظم، محمود غازان، أن كتابه ورد، فقابلناه بما يليق بمثلنا لمثله من الإكرام. ورعينا له حق القصد، فتلقيناه منّا بسلام. وتأملناه تأمّل المتفهم لدقائقه، المستكشف عن حقائقه. فألفيناه قد تضمن مؤاخذت «3» بأمور، هم بالمؤاخذه عليها أحرى، معتذرا فى التعدى بما جعله ذنوبا لبعض، طالب بها الكل. والله تعالى يقول:(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) *
«4» .
أما حديث إغارة من أغار على ماردين من رجّاله بلادنا المتطرفة، وما نسبوه إليهم من [الإقدام على «5» ] الأمور البديعة والآثام «6» الشنيعة، وقولهم: إنهم أنفوا من تهجمهم، وغاروا من تقحمهم، واقتضت الحميّة ركوبهم فى مقابلة ذلك، فقد تلمّحنا هذه الصورة التى أقاموها عذرا فى العدوان، وجعلوها سببا إلى ما ارتكبوه من طغيان. والجواب عن ذلك أن الغارات من الطرفين، لم يحصل من المهادنه [و «7» ] الموادعة، ما يكف يدها الممتدة، ولا يفتر هممها المستعدّة، وقد
كان أباؤكم وأجدادكم على ما علمتم من الكفر والشقاق «1» ، وعدم المصافاة للإسلام والوفاق. ولم يزل ملك ماردين ورعيته «2» منقذين «3» ما يصدر من الأذى للبلاد والعباد عنهم، متولين كبر مكرهم، والله تعالى يقول:(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)
«4» .
«وحيث جعلتم هذا ذنبا، موجّبا للحميّة الجاهلية، وحاملا على الانتصار، الذى زعمتم أن همتكم به مليّة، فقد كان [هذا «5» ] القصد، الذى ادعيتموه «6» ، يتم «7» بالانتقام من أهل تلك الأطراف، التى أوجب ذلك فعلها، والاقتصار على أخذ الثأر ممن ثار اتباعا لقوله تعالى:(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها)
«8» ، لا أن تقصدوا الإسلام بالجموع الملّفقة، على اختلاف الأديان وتطأوا «9» البقاع الطاهرة بعبدة الصلبان، وتنتهكوا حرمة البيت المقدس، الذى هو ثانى بيت الله الحرام، وشقيق مسجد رسول الله، عليه الصلاة والسلام. وإن احتججتم أن زمام الغارة «10» بيدنا «11» ، وسبب تعدّيهم من سنّتنا. فقد أو ضحنا الجواب عن ذلك، وأن عدم الصلح والموادعة، أوجب سلوك هذه المسالك» .
وأما ما ادعوه من سلوك سنن المرسلين واقتفاء آثار المتقدّمين، فى انفاذ الرسل أولا، فقد تلمحنا هذه الصورة، وفهمنا ما أوردوه من الآيات «1» المسطورة. والجواب عن ذلك أن هؤلاء الرسل ما وصلوا إلينا [إلا «2» ] وقد دنت الخيام من الخيام، وناضلت السهام السّهام، وشارف القوم القوم. ولم يبق للقاء إلا يوم أو بعض يوم، وأشرعت «3» الأسنّة من الجانبين، ورأى كلّ خصمه رأى العين. وما نحن ممن لاحت «4» له رغبة راغب، فتشاغل عنها ولهى، ولا ممن يسالم فيقابل «5» ذلك بجفوة النفار «6» ، والله تعالى يقول: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها
«7» . كيف والكتاب بعنوانه. وأمير المؤمنين على بن أبى طالب، رضى الله عنه، يقول:
«ما أضمر إنسان شيئا إلا ظهر، فى صفحات وجهه وفلتات لسانه» .
ولو كان حضور هؤلاء الرسل والسيوف وادعة فى أغمادها، والأسنة «8» مستكنّة فى أعوادها، والسهام غير مفوفة، والأعنة غير مطلقة، لسمعنا خطابهم وأعدنا جوابهم.
وأما ما أطلقوا به لسان قلمهم «1» ، وأبدوه من غليظ كلمهم فى قولهم: فصبرنا على تماديكم فى غيكم، وإخلادكم إلى بغيكم. فأىّ صبر ممن أرسل عنانه إلى المكافحه، قبل إرسال رسل المصالحه، وجاس خلال الديار قبل ما زعمه من الإنذار والأعذار؟ وإذا فمكروا فى هذه الأسباب، ونظروا فيما صدر عنهم من خطاب، علموا «2» العذر فى تأخير «3» الجواب، وما يتذكر «4» إلا أولوا الألباب.
وأما ما تحججوا «5» به «6» مما اعتقدوه من نصره، وظنّوه من أن الله جعل لهم على حزبه الغالب [فى]«7» كل كرة الكرة. فلو تأملوا ما ظنوه ربحا، لوجدوه هو الخسران المبين. ولو أنعموا النظر فى ذلك، لما كانوا به مفتخرين، ولتحقّقوا أن الذى اتفق لهم، كان غرما «8» لا غنما، وتدبروا معنى قوله تعالى، (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً «9»
. ولم يخف عنهم من أبلته «10» السيوف الإسلامية منهم. وقد رأوا عزم من حضر من عساكرنا، التى لو كانت مجتمعه عند اللقاء، ما ظهر خبر عنهم.
فإنا كنا فى مفتتح ملكنا، ومبتدإ أمرنا، حللنا بالشام للنظر فى أمور البلاد والعباد. فلما تحققنا خبركم، وقفونا أثركم، بادرنا «1» نقدّ أديم الأرض سيرا، وأسرعنا لندفع عن المسلمين ضررا وضيرا، ونؤدى من الجهاد السنة والفرض ونعمل بقوله تعالى:(وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ)
«2» فاتفق اللقاء بمن حضر من عساكرنا المنصورة، وثوقا بقوله تعالى:
(كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً)
«3» وإلا فأكابركم «4» يعلمون وقائع الجيوش الإسلامية، التى كم وطئت موطئا يغيظ الكفار. فكتب لها [به «5» ] عمل صالح، وسارت فى سبيل الله، ففتح الله عليها أبواب المناجح. وتعددت أيام نصرتها «6» ، التى لو دققتم الفكر فيها لأزالت ما حصل عندكم من لبس، ولما قدرتم [على «7» ] أن تنكروها، وفى تعب من يجحد ضوء الشمس. وما زال الله لنا نعم المولى ونعم النصير. وإذا راجعتموهم قصّوا عليكم نبأ الاستظهار، ولا ينهتك مثل خبير.
وما زالت تتفق الوقائع بين الملوك والحروب، وتجرى المواقف التى هى بتقدير الله؛ فلا فخر فيها للغالب، ولا عار على المغلوب. وكم من ملك استظهر عليه،
ثم نصر «1» ، وعاوده التأييد. فجبر بعد ما كسر، خصوصا ملوك هذا الدين، فإن الله تكفل لهم بحسن العقبى. فقال سبحانه:(وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) *
«2» .
وأما إقامتهم الحجة علينا، ونسبتهم التفريط إلينا، فى كوننا لم نسيّر إليهم رسولا، عندما حلوا «3» بدمشق فنحن عند ما وصلنا إلى الديار المصرية، لم نزد على أن اعتددنا «4» وجمعنا جيوشنا من كل مكان. وبذلنا فى الاستعداد غاية الجهد والإمكان وأنفقنا جزيل الأموال فى العساكر والجحافل. ووثقنا بحسن الخلف، لقوله تعالى:(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ)
«5» .
ولمّا خرجنا من الديار المصرية، وبلغنا خروج الملك من البلاد، لأمر حال بينه وبين المراد، توقفنا «6» عن المسير، توقف من أغنى رعبه عن حث الركاب، وتثبتتا تثبت الراسيات (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ)
«7» وبعثنا طائفة من العساكر لمقاتلة من أقام بالبلاد، فما لاح لنا منهم بارق ولا ظهر. وتقدمت فتخطفت من حمله على التأخر الغرر؛ ووصلت الفرات فما وقفت للقوم على أثر.
وأما قولهم: أننا ألقينا فى قلوب العساكر والعوام، أنهم فيما بعد يلتقوننا «1» على حلب أو الفرات، وأنهم جمعوا العساكر ورحلوا «2» إلى الفرات وإلى حلب، مرتقبين وصولنا. فالجواب عن ذلك، أنه من حين بلغنا حركتهم، جزمنا، وعلى لقائهم عزمنا «3» ، وخرجنا وخرج أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله، ابن عم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الواجب الطاعة عل كل مسلم، المفترض المبايعة والمتابعة على كل منازع ومسلم، طائعين لله ولرسوله فى أداء فرض «4» الجهاد، باذلين فى القيام بما أمرنا الله تعالى غاية الاجتهاد، عالمين أنه لا يتم أمر دين ولا دنيا إلا بمشايعته. ومن والاه «5» فقد حفظه الله وتولاه. ومن عانده أو عاند من أقامه، فقد أذله الله، فحين وصلنا إلى البلاد الشامية، تقدمت عساكرنا إلى «6» السهل والجبل، وتبلغ بقوة الله تعالى فى النصر الرجاء والأمل. ووصلت أوائلها إلى أطراف حماه وتلك النواحى «7» ، فلم يقدم أحد منهم عليها. ولا جسر أن يمد [حتى «8» ] ولا الطرف إليها. فلم نزل مقيمين، حتى بلغنا رجوع الملك إلى البلاد، وإخلافه موعد اللقاء، والله لا يخلف الميعاد. فعدنا لاستعداد جيوشنا التى لم تزل تندفع فى
ولما اتصل خبر تجريد العسكر بصاحب سيس، جهز رسله إلى الأبواب السلطانية، يستعطف السلطان، ويسأل مراحمه، فلم تجد «1» رسالته نفعا.
ووصلت هذه العساكر إلى حلب. وأردف السلطان هذه العساكر بالأمير علم الدين سنجر الدوادارى، أحد مقدمى العساكر بالديار المصرية، ومضى فيه، فخرج مسرعا، وأدرك الجيش بحلب. وجرد من العسكر الحلبى الأمير علم الدين المعروف بالزغلى و [الأمير علم الدين سنجر الحلبى «2» ] ، ومضافيهما. وتوجهت هذه الجيوش بجملتها إلى بلاد سيس. فلما نزلوا بالعمق، افترقت العساكر فرقتين. فتوجه الأمير بدر الدين بكتاش، أمير سلاح، والأمير حسام الدين أستاذ الدار، والأمير ركن الدين الجالق، والأمير بهاء الدين قرا أرسلان، والعسكر الصفدى من عقبة بغراس إلى باب اسكندرونة، ونازلوا تل حمدون. وتوجه الملك المظفر صاحب حماه، والأمير علم الدين سنجر الدوادارى، والأمير شمس الدين آفسنقر كرتاى «3» ، وبقية الجيش من عقبة المريت «4» . وصار نهر «5» جهان بين الفريقين وكان دخولهم إلى دربند سيس، فى يوم الخميس، رابع شهر رجب.
إلى أحد من المسلمين يد أضراره. هذه سنة أهل الإسلام، وفعل من يريد لملكه الدوام.
وأما ما أرعدوا به وأبرقوا، وأرسلوا به عنان قلمهم وأطلقوا، وما أبدوه «1» من الاهتمام بجمع عساكرهم، وتهيئة المجانيق، إلى غير ذلك مما ذكروه من التهويل، فالله تعالى يقول:(الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)
«2» .
وأما قولهم: وإلا فدماء المسلمين مطلوله، فما كان أغناهم عن هذا الخطاب، وأولاهم بأن [لا «3» ] يصدر إليهم عن ذلك جواب، ومن قصد «4» الصلح والإصلاح، كيف يقول هذا القول، الذى عليه فيه من جهة الله، ومن جهة رسوله أى جناح؟. وكيف يضمر هذه النية، ويتبجح بهذه الطوية؟ ولم يخف مواقع الزلل [من «5» ] هذا القول وخلله، والنبى صلى الله عليه وسلم يقول «نية المرء أبلغ من عمله» . وبأى طريق تهدر دماء المسلمين، التى من تعرض إليها، يكون الله له فى الدنيا والآخرة مطالبا وغريما، ومؤاخذا بقوله تعالى:(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً)
«6» .
وإذا كان الأمر كذلك، فالبشرى لأهل الإسلام، بما نحن عليه من الهمم المصروفة إلى الاستعداد، وجمع العساكر التى يكون لها الملائكة الكرام،
إن شاء الله تعالى من أنجاد، والاستكثار من الجيوش الإسلامية المتوفرة العدد، المتكأثرة المدد، الموعودة بالنصر، الذى يحفها فى الظعن والإفامة، الواثقة بقوله صلى الله عليه وسلم:«لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على عدوهم إلى يوم القيامة» . المبلغة فى نصر دين الله آمالا، المستعدة لإجابة داعى الله إذا قال:(انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا)
«1» .
وأما رسلهم، وهم [فلان وفلان «2» ] ، فقد وصلوا إلينا، ووفدوا علينا، وأكرمنا وفادتهم، وغزرنا لأجل مرسلهم من الإقبال مادتهم، وسمعنا خطابهم، وأعدنا جوابهم هذا، مع كوننا لم يخف علينا انحطاط قدرهم، ولا ضعف أمرهم.
وأنهم ما دفعوا لأفواه الخطوب إلا لما ارتكبوه من ذنوب. وما كان ينبغى أن يرسل مثل هؤلاء لمثلنا من مثله. ولا ينتدب لهذا الأمر المهم إلا من يجمع على فصل خطابه وفضله.
وأماما بالتسموه من الهدايا والتّحف، فلو قدموا من هداياهم حسنة، لعوضناهم بأحسن منها. ولو أتحفونا بتحفة لقابلناهم «3» بأجمل عوض عنها. وقد كان عمّهم الملك احمد «4» ، راسل والدنا السلطان الشهيد وناجاه «5» بالهدايا [والتحف «6» ] من مكان بعيد. وتقرب إلى قلبه بحسن الخطاب، فأحسن له الجواب، وأتى البيوت من أبوابها، بحسن الأدب، وتمسك من الملاطفة بأقوى سبب.
والآن، فحيث انتهت الأجوبة إلى حدها، وأدركت الأنفة من مقابلة ذلك الخطاب غاية قصدها، فنقول: إذا جنح الملك للسلم، جنحنا لها، وإذا دخل فى الملّة المحمدية، ممتثلا ما أمر الله به، مجتنبا ما عنه نهى، وانضم «1» فى سلك الإيمان، وتمسك بموجباته، تمسك المتشرف بدخوله فيه لا المنانّ، وتجنّب التشبه بمن قال الله عز وجل فى حقهم:(قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ)
«2» . وطابق فعله قوله: ورفض الكفار الذين لا يحل له أن يتخذهم حوله، وأرسل إلينا رسولا من جهته يرتّل آيات الصلح ترتيلا؛ ويروق خطابه وجوابه، حتى يتلو كل أحد عند عوده (يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا)
«3» . صارت حجّتنا وحجّته المركبة «4» على من خالف ذلك، وكلمتنا وكلمته قامعة أهل الشرك فى سائر الممالك، ومظافرتنا له تكسب «5» الكافرين هوانا؛ والمشاهد لتصافينا يتلو قوله تعالى:(وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً)
«6» .
وينتظم إن شاء الله تعالى شمل الصلح، أحسن انتظام. ويحصل التمسك من الموادعة والمصافاة «7» بعروة ولا انفصال لها ولا انفصام. وتستقر قواعد الصلح، على ما يرضى الله ورسوله علية أفضل الصلاة والسلام، إن شاء الله تعالى.
كتب فى ثامن وعشرين المحرم سنة إحدى وسبعمائة «1» .
وفى سنة سبعمائة، ولى الأمير الدين البكى الساقى نيابة السلطنة بحمص.
وفيها، توجه الأمير شمس الدين سنقر الأعسر وزير الدولة ومدبّرها، إلى الممالك الشامية لكشفها، ووصل إلى المملكة الحلبية، وعاد إلى الديار المصرية، فى سنة إحدى وسبعمائة، وعزل عن الوزارة فى غيبته «2» .
وفيها، توجه الأمير سيف الدين بكتمر الجو كان دار، أمير جاندار؛ إلى الحجاز الشريف؛ وتصدق بصدقات عظيمة. فيقال إنه أنفق فى هذه السفرة خمسة وثمانين ألف دينار عينا. «3»
وفى هذه السنة، توفى الأمير عز الدين ايدمر الظاهرى؛ وهو الذى ناب عن السلطنة بالشام، فى الدولة الظاهرية والسعيدية. وكانت وفاته برباطه بجبل الصالحية، فى يوم الأربعاء ثانى شهر ربيع الأول ودفن هناك رحمه الله تعالى «4» .
وفيها، توفى الشيخ زين الدين عبد الرحمن ابن الشيخ برهان الدين إبراهيم بن سعد الله بن جماعة، أخو قاضى القضاة بدر الدين. وكانت وفاته بحماه فى سابع