الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فارس الدين البكى، والأمير سيف الدين عزاز «1» . والتقى الجمعان فى الخامسة من النهار المذكور. فحملت الميسرة الإسلامية على ميمنة التتار، فهزمتها أقبح هزيمة، وقتل من التتار خلق كثير. فلما عاين غازان انهزام ميمنته، اعتزل فى نحو ثلاثين فارسا، وعزم على الفرار. فمنعه الأمير سيف الدين قبجاق، وثبته ومناه بالظفر «2» .
وكان قصده بذلك، فيما قال بعد عوده، القبض على غازان عند استمرار الهزيمة بجيوشه.
ثم ركبت فرقة من التتار، كانت لم تشهد الحرب، واجتمعوا كراديس «3» ، وحملوا حملة منكرة. وقصدوا قلب العساكر الإسلامية، وضعفت الميمنة الإسلامية، عن لقاء ميسرتهم. فكان من الهزيمة ما كان، وذلك بعد العصر من اليوم المذكور.
ذكر تسمية من استشهد وفقد، فى هذه الوقعة من المشهورين
كان من استشهد وفقد من الأمراء والمشهورين، فى هذه الوقعة، الأمير سيف الدين كرد، نائب السلطنة بالمملكة الطرابلسية، والأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير عز الدين أيدمر الحلبى، أحد الأمراء بالديار المصرية، والأمير سيف الدين بلبان التقوى، من أمراء طرابلس، والأمير ركن الدين بيبرس الغتمى «4» ، النائب بحصن المرقب، والأمير صارم الدين أزبك، النائب بقلعة
بلاطنس، والأمير بدر الدين بيلبك المنصورى المعروف بالطيار، من أمراء دمشق، قتل فى عوده بعد الوقعة، والأمير سيف الدين نوكيه «1» التتارى، والأمير جمال الدين أقش كرجى الحاجب، والأمير جمال الدين أقش المطروحى، حاجب الشام «2» فقدوا نحو ألف فارس من الحلقة والمماليك السلطانية وأجناد الأمراء ومماليكهم. وهؤلاء الأمراء، منهم من استشهد فى المعركة، ومنهم من أصابته جراحة، فمات بعد انفصال الوقعة فيعد شهيدا «3» ، ومنهم من عدم ولم تتحقق وفاته.
وعدم قاضى القضاة حسام الدين الحنفى الرومى، والقاضى عماد الدين إسماعيل ابن الأثير «4» الموقع. وقتل من التتار فيما قيل نحو أربعة عشر ألف «5» .
ولما تمت الهزيمة، وشاهد غازان من قتل أصحابه وكثرتهم، وقلة من قتل من العساكر الإسلامية، بالنسبة إلى من قتل من التتار، ظن أن هذه الهزيمة مكيدة، واستجرار «6» لعساكره، فتوقف عن اتباع العساكر الإسلامية، حتى تبين له صحة الهزيمة. ثم سار من مكان الوقعة إلى حمص، وبها الخزائن السلطانية،
فسلمها متوليها محمد بن الصارم، من غير ممانعة. ولا مدافعة «1» . ثم رحل عنها إلى جهة دمشق ونزل بالغوطة «2» .
ذكر ما اتفق بدمشق بعد الوقعة ومفارقة العساكر الإسلامية فى مدة استيلاء التتار عليها، إلى أن فارقوا البلاد، وعادوا إلى الشرق كانت «3» الأخبار وصلت إليهم بانهزام الجيوش الإسلامية، وتحققوا فى يوم السبت، مستهل شهر ربيع الآخر. فتوجه من أمكنه السفر إلى الديار المصرية فى هذا اليوم فكان ممن توجه قاضى القضاة إمام الدين الشافعى، وقاضى القضاة جمال الدين الزواوى المالكى، وابن الشيرازى، ومتولى مدينة دمشق، ومتولى برّها، ومحتسب المدينة، وجماعة كبيرة من أهل البلد، ممن قدر على الانتزاح.
وفى ليلة الأحد، أحرق المعتقلون بسجن باب الصغير بابه، وخرجوا منه، وكانوا نحو مائة وخمسين. وتوجهوا إلى باب الجابية، وكسروا الأقفال، وخرجوا منه وبقى البلد لا حامى له، ولا ممانع عنه. فاجتمع أكابر دمشق، فى يوم الأحد الثانى من الشهر، بمشهد علىّ بالجامع الأموى. وانفقوا على أن يتوجهوا إلى الملك غازان، ويسألوا «4» الأمان لأهل البلد. فتوجه قاضى القضاة بدر الدين بن جماعة، وهو الخطيب يومئذ، والشيخ تقى الدين بن تيمية، والشيخ زين الدين الفارقى، والقاضى نجم الدين بن صصرى، والقاضى
شمس الدين الحريرى، والقاضى جلال الدين ابن القاضى حسام الدين، وفخر الدين ابن الشيرجى، وعز الدين بن الزكى، ووجيه الدين بن منجا، والرئيس عز الدين حمزة بن القلانسى، وابن عمه الصدر شرف الدين، وأمين الدين بن شقير الحرانى، والشريف زين الدين بن عدنان، ونجم الدين بن أبى الطيب، وناصر الدين بن عبد السلام، وشريف الدين بن الشيرجى، وشهاب الدين الحنفى، والشيخ محمد ابن قوام البالنى، وجلال الدين أخو القاضى إمام الدين، وجماعة كبيرة من القراء والفقهاء والعدول. وتوجهوا بعد صلاة الظهر، من يوم الاثنين، ثالث الشهر، واجتمعوا بالملك غازان، وهو عند النبك «1» ، وهو سائر. ونزلوا عن مراكيبهم. وقبلّ بعضهم الأرض، فوقف غازان بفرسه لهم. وترجل جماعة من التتار عن خيولهم. وتكلم الترجمان بينهم وبين الملك غازان، وسألوا الأمان لأهل دمشق. وكان المخاطب له عن أهل دمشق، فخر الدين بن الشيرجى.
فقال غازان: الذى حضرتم بسببه «2» من الأمان قد أرسلناه قبل وصولكم. وقدّموا ما كان معهم من المأكول، فلم يكن له وقع عندهم. وأذن لهم فى الرجوع إلى دمشق، فرجعوا. وكان وصولهم بعد صلاة العصر، من يوم الجمعة، سابع الشهر.
ولم يخطب فى هذه الجمعة لسلطان «3» .
وكان قد وصل إلى دمشق، فى يوم الخميس، سادس «4» الشهر أربعة من التتار،
من جهة غازان، ومعهم الشريف القمّى «1» . وكان قد توجه قبل توجه الجماعة، هو وثلاثة من أهل دمشق إلى غازان. فعاد وبيده أمان لأهل دمشق.
ثم وصل بعد صلاة الجمعة، الأمير إسماعيل وجماعة من التتار. فنزلوا بالبستان الظاهرى، بطريق القابون. ثم ركب [الأمير] إسماعيل فى يوم السبت، ودخل إلى دمشق، وجاء إلى مقصورة الخطابة بالجامع الأموى، لقراءة «2» الفرمان «3» .
وقرأه «4» أحد العجم الواصلين صحبة الأمير إسماعيل، وبلّغ عنه المجاهد المؤذن، ومضمونه:- بقوة الله تعالى، ليعلم أمراء التومان «5» والألوف والمائة، وعموم عساكرنا المنصورة، من المغول والتازيك «6» والكرج «7» وغيرهم، ممن هو داخل تحت زبقة
طاعتنا. إن الله لما نوّر قلوبنا بنور الإسلام، وهدانا إلى ملة النبى، عليه أفضل الصلاة والسلام أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ
«1» .
ولما أن سمعنا أن حكام مصر والشام خارجون عن طريق الدين، غير متمسكين بأحكام الإسلام، ناقضون لعهودهم، حالفون بالأيمان الفاجرة، ليس لديهم وفاء ولا ذمام، ولا لأمورهم التئام ولا انتظام، وكان أحدهم إذا تولى، سعى فى الأرض ليفسد فيها، ويهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد. وشاع من شعارهم الحيف على الرعية، ومدّ الأيدى العارية، إلى حرمهم وأموالهم، والتخطى عن جادة العدل والإنصاف، وارتكابهم الجور والإعساف، حملتنا الحمية الدينية، والحفيظة الإسلامية، على أن توجهنا إلى تلك البلاد، لإزالة هذا العدوان، وإماطة هذا الطغيان، مستصحبين الجم الغفير من العساكر.
ونذرنا على أنفسنا، إن وفقنا الله تعالى بفتح تلك البلاد، أزلنا العدوان والفساد، وبسطنا العدل والإحسان فى كافة العباد، ممتثلا للأمر الإلهى:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
«2» . وإجابة لما ندب إليه الرسول، صلى الله عليه وسلم، «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين الدين، يعدلون فى حكهم وأهليهم وما ولوا» . وحيث كانت طويتنا
مشتملة على هذه المقاصد الحميدة والنذور «1» الأكيدة. منّ الله علينا بتبلّج «2» تباشير النصر المبين، والفتح المستبين. وأتمّ علينا نعمته، وأنزل علينا سكينته، فقهرنا العدو الطاغية، والجيوش الباغية، وفوّقناهم أيدى سبا، ومزقناهم كل ممزق، حتى جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا فازدادت صدورنا انشراحا للإسلام، وقويت نفوسنا بحقيقة الأحكام، منخرطين فى زمرة من حبّب إليهم الإيمان، وزينه فى قلوبهم، وكّره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، أولئك هم الراشدون، فضلا من الله ونعمة.
فوجب علينا رعاية تلك العهود الموثفة، والنذور المؤكدة. فصدرت مراسيمنا العالية، أن لا يتعرض أحد من العساكر المذكورة على اختلاف طباقاتها لدمشق وأعمالها، وسائر البلاد الإسلامية الشامية، وأن يكفوا أظفار التعدّى عن أنفسهم وأموالهم وحريمهم، ولا يحوموا حول حماهم بوجه من الوجوه، حتى يشتغلوا بصدور مشروحة، وآمال «3» مفسوحة بعمارة البلاد، وبما هو كل واحد بصدده من تجارة وزراعة وغير ذلك. وكان هذا الهرج العظيم، وكثرة العساكر، فتعرّض «4» بعض نفر يسير من السلاحية وغيرهم، إلى نهب بعض الرعايا وأسرهم،
فقتلناهم ليعتبر الباقون، ويقطعوا أطماعهم عن النهب والأسر، وغير ذلك من الفساد. وليعلموا أنا لا نسامح بعد هذا الأمر البليغ البته، وأن لا يتعرضوا لأحد من أهل الأديان، على اختلاف أديانهم، من اليهود والنصارى والصائبة. فإنهم إنما يبذلون الجزية عنهم، من الوظائف الشرعية، لقول علىّ عليه السلام:«إنما يبذلون الجزية، لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا» . والسلاطين موصّون على أهل الذمة الطيعين «1» ، كما هم «2» موصون على المسلمين، فإنهم من جملة الرعايا.
قال صلى الله عليه وسلم: «الإمام الذى على الناس، راع عليهم وكل راع مسئول عن رعيته» .
فسبيل «3» القضاة والخطباء والمشايخ والعلماء والشرفاء والأكابر والمشاهير وعامة الرعايا، الاستبشار بهذا النصر الهنى والفتح السنى، وأخذ الحظ الوافر من السرور، والنصيب الأكبر من البهجة والحبور، مقبلين على الدعاء لهذه الدولة القاهرة، والمملكة الظاهرة، أناء الليل وأطراف النهار.
وكتب فى خامس ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وستمائة.
ولما قرىء هذا الفرمان، حصل للناس بعض الطمأنينة، وجلس التتار بالمقصورة إلى أن صلوا العصر، وعادوا إلى منزلتهم بالبستان الظاهرى. وأغلق الأمير علم الدين سنجر أرجواش أبواب قلعة دمشق، وامتنع بها فى أول هذه الحادثة.
واجتمع أهل دمشق فى يوم الأحد تاسع الشهر بالقيمرية، واهتموا فى تحصيل الخيل والبغال والأموال، ليرضوا بها التتار، ونزل غازان ملك التتار بالغوطة، فى يوم الاثنين العاشر من الشهر، وأحدقت الجيوش بالغوطة، وقتلوا طائفة من أهل القرى.
ووصل الأمير سيف الدين قبجاق، والأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار، وغيرهما فى هذا اليوم، ونزلوا بالميدان. ولما مروا بالقلعة، خاطبوا الأمير علم الدين سنجر أرجواش، نائب القلعة، وأشاروا عليه بتسليمها، فسبهم أقبح «1» سب.
وفى بكرة نهار الثلاثاء، حادى عشر الشهر، ورد مثال الأمير إسماعيل نائب التتار، يأمر العلماء والمشايخ والرؤساء، أن يتوجهوا إلى القلعة، ويتحدثوا مع نائبها فى تسليمها، وأنه متى امتنع من ذلك، دخل الجيش البلد ونهبها، وسفكت الدماء. فاجتمع جماعة كثيرة إلى باب القلعة، وسألوا الأمير علم الدين [سنجر أرجواش «2» ] ، أن يرسل إليهم رسولا، فامتنع وسبهم أقبح سب. وقال: قد وردت علّى بطاقة من السلطان، أنه جمع الجيوش بغزة، وكسر الطائفة التى اتبعتهم من التتار، والسلطان يصل عن قريب بعساكره «3» .
ثم دخل قبجاق دمشق فى يوم الأربعاء، ثانى عشر الشهر، وجلس بالمدرسة العزيزية، وأمر العلماء والأكابر بمراجعة أرجوش فى تسليم القلعة، فتوجهوا
إليه، فلم يسمع كلامهم. وكتب فى هذا اليوم بالعزيزية فرامانات من شيخ الشيوخ [نظام الدين محمود بن على الشيبانى «1» ] ، ومقدم من مقدمى التتار، ذكر أنه رضيع الملك غازان، ومن قبجاق، فسلم تجد نفعا.
وفى يوم الجمعة رابع عشر الشهر [ربيع الآخر «2» ] خطب لغازان على منبر دمشق، بما رسم لهم به من الألقاب والنعوت وهى «مولانا السلطان، الملك الأعظم، سلطان الإسلام والمسلمين، مظفر الدنيا والدين، محمود غازان» . وصلى بالمقصورة جماعة من المغل. وحضر إلى المقصورة، عقيب الصلاة الأمير سيف الدين قبجاق، وصعد هو والأمير إسماعيل، إلى سدّة المؤذنين. واجتمع جمع كثير من عامة الناس تحت النصر «3» . وقرئ عليهم تقليد بتولية الأمير سيف الدين قبجاق الشام أجمع، وعيّن فيه مدينة دمشق وحلب وحماه وحمص وغير ذلك، من الأعمال والجهات. وجعل إليه، أن يولى القضاة، والحكماء والخطباء، وغيرهم.
ونثر على الناس الذهب والدراهم، فاستبشر الناس بولاية قبجاق، ظنا منهم أنه يرفق بهم. وحضر فى هذا اليوم شيخ الشيوخ نظام الدين محمود بن على الشيبانى، إلى المدرسة العادلية. وأحضرت إليه ضيافة، وأظهر العتب «4» على أهل البلد، كونهم لم يترددوا إليه. وذكر أنه يصلح أمرهم، ويتفق معهم، على ما يفعل، فى أمر القلعة. فقال بعض من حضر [إن]«5» الأمير سيف الدين قبجاق يخبر أمر «6»
متولى القلعة. فقال [شيخ الشيوخ «1» ] : «خمسمائة من قبجاق ما يكونون فى خانمى» ، وعظّم نفسه تعظيما كثيرا.
وفى يوم السبت خامس عشر الشهر. ابتدئ بنهب جبل الصالحية، وما به من الندب والمدارس وغيرها. فتوجه الشيخ تقى الدين بن تيمية إلى شيخ الشيوخ، فركب إليهم فى يوم الثلاثاء. فلما وصل إلى جبل الصالحية، هرب من به من التتار، ودخل أهل الجبل إلى دمشق عرايا فى أسو أحال «2» .
وتوجه التتار إلى قرية المّزة «3» ، فنهبوها وسبوا أهلها. وتوجهوا إلى داريا «4» ، وفعلوا كذلك، وقتلوا جماعة من أهلها، وقتل أهلها جماعة من التتار. فتوجه الشيخ تقى الدين بن تيمية. يوم الخميس إلى الملك غازان، وهو بتل رأهط «5» ، فدخل عليه ليشكو له ما جرى من التتار بعد أمانه، فلم يمكّن «6» من ذلك. وقيل له: إن شكوت إليه أمرا، يقتل «7» بعض المغل. فيكون ذلك سبب الإختلاف، وتدور الدائرة على أهل دمشق. فعدل الشيخ عن الشكوى إلى الدعاء، وفارقه واجتمع بالوزير [ين] سعد الدين، ورشيد الدين، وتحدث معهما. فذكر «8» أن
جماعة من المقدمين الأكابر، لم يصل إليهم من مال دمشق شىء، ولا بد من إرضائهم. وأمر الوزير بإطلاق الأسرى.
ثم اشتد الأمر على أهل دمشق، فى طلب الأموال وحصار القلعة. وجاء منجنيقى، فالتزم بأخذ القلعة. وقرر أن يكون نصب المجانيق عليها بالجامع الأموى. فأجمع أرجواش رأيه، أنه متى نصب المجانيق بالجامع، رمى عليها بمجانيق القلعة. وكان ذلك يؤدى إلى هدم الجامع. فانتدب رجال من أهل القلعة، بعد أن تهيأت أعواد المجانيق، ولم يبق إلا نصبها. وخرجوا بالحمية الإيمانية، وهجموا الجامع، ومعهم المناشير، فأفسدوا ما تهيأ من أعواد المجانيق. ثم جددوا غيرها، واحترزوا عليها. وحضر جماعة من المغل يبيتون بالجامع. فيقال إنهم انتهكوا حرمته، وارتكبوا فيه المحارم، من شرب الحمور والزنا، وطرح القاذورات والنجاسات، وقلّ حضور الناس فيه، حتى أنه لم تقم فيه صلاة العشاء الآخرة، فى بعض الليالى. ونهب التتار سوق باب البريد.
وتحول الناس من حول الجامع، وزهدوا فى قربه لمجاورة التتار. فانتدب رجل من أهل القلعة. وبذل نفسه، والتزم بقتل المنجنيقى. وخرج إلى الجامع، والمنجنيقى بين المغل، وهو فى ترتيب العمل. فتقدم إليه، وضربه بسكّين فقتله. وهجم رجال القلعة، فتفرق المغل عن القاتل، وحماه أصحابه، فلجأ «1» إلى القلعة، وبطل على التتار ما دبروه من عمل المجانيق. واضطر أرجواش إلى هدم ما حول القلعة، من المساكن والمدارس والأبنية ودار السعادة، وطواحين باب
الفرج، وغير ذلك. كل ذلك احترازا على حفظ القلعة، وأن يتطرّق العدوّ إليها. وحصل من إفساد التتار والأرمن وإخرابهم الأماكن، بإفسادهم الصالحية، وحرق «1» جامع التوبة «2» بالعقيبة «3» وغير ذلك، ما بقيت آثاره، بعد ذهاب العدو زمنا طويلا. ثم أعاد المسلمون ذلك، والحمد لله تعالى، إلى أحسن ما كان.
واشتد الأمر على أهل دمشق فى طلب الأموال، فى أواخر شهر ربيع الآخر؛ وأوائل جمادى الأول، وطلب من البلد ما لا يتحمله أهله. وتولى استخراج الأموال، والمطالبة بها من أهل دمشق، صفى الدين السنجارى، وولد الشيخ محمد ابن الشيخ على الحريرى. وغلت الأسعار بدمشق هذه المدة «4» .
ثم رجع غازان إلى بلاد الشرق، فى يوم الجمعة، ثانى عشر جمادى الأولى ونزل قطلو «5» شاه نائبه بدمشق وجماعة كثيرة من التتار معه، وجعل نيابة الشام إلى الأمير سيف الدين قبجاق، ونيابة حلب وحمص إلى الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار، ونيابة صفد وطرابلس والسواحل إلى الأمير فارس الدين البكى ولما توجه غازان، استصحب الوزير معه، من أكابر دمشق بدر الدين
ابن فضل الله، وعلاء الدين على ابن الصدر شرف الدين محمد بن القلانسى، وشرف الدين بن الأثير.
وفى يوم السبت ثالث عشر «1» جمادى الأولى، رسم التتار بإخلاء المدرسة العادلية، ووقف جماعة منهم على بابها يفتشون من يخرج منها، ويأخذون ما أحبوا من أمتعتهم، وعجز أهلها عن نقل أكثر أثاثهم. ودخل التتار إليها، عقيب خروجهم منها، وكسروا أبواب البيوت، ونهبوا ما بها، وأخلى التتار ما حول القلعة، وطلعوا إلى الأسطحة، ورموا منها النشاب على الفلعة. فعند ذلك، أمر أرجواش بإحراق ذلك كما تقدم. وكان إحراق المدرسة العادلية فى الحادى والعشرين من جمادى الأولى.
وفى يوم الجمعة تاسع عشر الشهر، قرىء «2» على سدة الجامع كتابان: أحدهما يتضمن تولية الأمير سيف الدين قبجاق النيابة بالشام «3» ، والثانى يتضمن تولية الأمير ناصر الدين يحيى بن جلال الدين شد الشام. وتضمن أحد الكتابين أن يصرف ما كان لخزائن السلاح، من مال الجامع فى مصالح السبيل إلى الحجاز الشريف. ويتضمن أيضا أن غازان يعود إلى الشام فى فصل الخريف «4» ، ويتوجه إلى الديار المصرية، وأنه توجه [إلى البلاد «5» ] ونزل نائبه قطلوشاه فى ستين ألف فارس لحماية الشام، إلى غير ذلك مما تضمنه.
واستمر قطلوشاه بعد توجه غازان أياما يحاصر القلعة، فلم يتهيأ له منها ما يريد، فجمع له قبجاق مالا من أهل البلد، فأخذه وعاد إلى بلاد الشرق. وكان رحيله فى يوم الثلاثاء «1» الثالث والعشرين من جمادى الأولى. وتوجه الأمير سيف الدين قبجاق لوداعه. وعاد فى يوم الخميس الخامس والعشرين من الشهر، ودخل إلى دمشق، من باب شرقى، وشق البلد، وخرج من باب الجابية، وكانا مغلقين فى مدة مقام التتار، ففتحا له الآن، ونزل بالقصر الأبلق.
وعاد الأمير يحيى بن جلال الدين والصفى السنجارى بجماعة من التتار، وشقوا البلد، وتوجهوا إلى القصر أيضا. ثم نودى فى البلد، فى يوم الجمعة، أن يتوجه الناس إلى ضياعهم وقراهم. وكان قد نودى فى أول هذا النهار، أن لا يخرج أحد إلى الجبل والغوطة «2» ، وأن لا يخاطر بنفسه، ولا يغرر بنفسه.
وفى تاسع عشر جمادى الأولى، دخل الأمير سيف الدين قبجاق، ومن معه إلى المدينة، ونزلوا بدار الأمير سيف الدين بهادر آص، وما يجاورها من الأدر، بقرب مأذنه فيروز.
وفى يوم الثلاثاء، مستهل جمادى الآخرة، وثانيه، نودى فى دمشق بأمر الأمير سيف الدين قبجاق أن يخرج الناس إلى «3» أما كنهم. وانضم إلى قبجاق
جماعة من الجند فى أول هذا الشهر، يركبون فى خدمته، ويترجلون فى ركابه، وفتحت أبواب البلد، إلا ما بجوار القلعة منها.
وفى يوم الجمعة رابع الشهر، ضربت البشائر بالقلعة. وفى يوم الاثنين سابع جمادى الآخرة، أمر الأمير سيف الدين قبجاق، أستاذ داره علاء الدين، وطاجار، وركبا بالشرابيش «1» والطبلخاناة «2» . ثم أمّر ثلاثة فى العشر الأوسط من الشهر، وركبوا بالشرابيش والطبلخاناة. وأمر بإدارة الخمارة بدار ابن جراده، فأظهرت الخمور والفواحش، وضمنت فى كل يوم ألف درهم «3» ، واستمر الحال على على ذلك بقية جمادى الآخرة وبعض شهر رجب.
وكان غازان قد جرد من عسكره عشرين ألف فارس، صحبة بولاى «4» ، وأشبقا «5» وحجك «6» وهو لاجو، فنزلوا بالأغوار. وشنوا الغارات ونهبوا، ووصلت غاراتهم إلى بلد القدس والخليل، ودخلوا إلى غزة، وقتلوا بجامعها خمسة عشر نفرا من