الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر مقتل السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصورى ونائبه منكوتمر
كان مقتلهما فى ليلة يسفر «1» صباحها عن يوم الجمعة، الحادى عشر من شهر ربيع الآخر، سنة ثمان وتسعين وستمائة. وسبب ذلك، أن السلطان كان قد فوض الأمور إلى مملوكه نائبه الأمير سيف الدين منكوتمر، وقصد التخلى والراحة والدعة، وعزم على أنه إذا خلى وجهه من الأمراء، وقبض على من يخشى غائلته منهم، فوّض إليه أمر السلطنة، واحتجب هو، على قاعدة الخلفاء.
وإنما كان يمنعه من ذلك، وجود أكابر الأمراء، الذين لا يوافقونه «2» على الرأى هذا. فلما قبض على من ذكرنا من أكابر الأمراء، وأبعد من بقى منهم بالتجريد إلى جهة الشام، استخف حينئذ منكوتمر، بمن بقى منهم، واستبد بالأمر. وآخر ذلك، أن السلطان رسم له أنه إذا كتب مرسوم سلطانى بإنعام أو غيره، بغير إشارته، يقطعه بعد العلامة السلطانية. فثقلت وطأته على الناس، وأنفت نفوس الأمراء من ذلك، وكرهوا بقاء الدولة، وأحبوا زوالها بسببه، مع إحسان السلطان إلى كثير منهم «3» . وكان الأمير سيف الدين كرجى، أحد الأمراء المماليك السلطانية، قد اختص بخدمة السلطان، وتقدم عنده، وجعله مقدما على المماليك السلطانية، على ما كان عليه الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى، فى الدولة الأشرفية. فبقى كرجى هو الساعى فى مصالح المماليك
السلطانية والمتلقى لمصالحهم، فانضموا إليه ودخلوا تحت طاعته، وقويت شوكته بهم، وشوكتهم به. فثقل ذلك على منكوتمر، وعمل على إبعاده.
وحسّن إلى السلطان أن يبعثه إلى نيابة السلطنة بالفتوحات ببلاد سيس «1» .
وكان قد تقدم من الأمراء، قبل كرجى، الأمير سيف الدين تمربغا، فعمل عليه منكوتمر وأبعده وأخرجه إلى الكرك. ثم نقله من الكرك إلى طرابلس، فى جملة الأمراء، فمات بها. فلما اتصل الخبر بكرجى، حضر إلى بين يدى السلطان، وتضرر واستعفى من هذه الولاية فأعفاه السلطان، وشرع فى العمل على منكوتمر. وأتفق أن الأمير سيف الدين طقطاى، أحد الأمراء الخاصكية، وهو نسيب الأمير سيف الدين طقجى، خاطب منكوتمر فى أمر فأغلظه فى القول، وسبّه، فشكا ذلك إلى الأمير سيف الدين طقجى «2» ، فأسّرها فى نفسه.
واجتمع هؤلاء الأمراء، وتشاكوا فيما بينهم، وذكروا سوء سيرة منكوتمر فيهم، وقبح فعله واستخفافه بهم، وعلموا أنهم لا يتمكنون «3» منه، مع بقاء السلطان مخدومه، فاجتمع رأيهم على اغتيال السلطان.
فلما كان فى هذه الليلة المذكورة، جلس السلطان يلعب الشطرنج مع إمامه [نجم الدين] بن «4» بن العسال، وكان قد تقدم عنده، وعنده قاضى القضاة
حسام الدين الحنفى «1» ، وكانت له عادة بالمبيت عند السلطان فى بعض الليالى.
فدخل عليه كرجى على عادته، فسأله السلطان عما فعل. فقال: قد أغلقت على الصبيان فى أماكن مبيتهم، وكان قد رتب بعضهم فى أماكن من الدهاليز. فشكره السلطان، وأثنى عليه. وذكر للقاضى حسام الدين خدمته للسلطان، وملازمته الخدمة. فقبّل كرجى الأرض، ثم تقدم لإصلاح الشمعة التى بين يدى السلطان، فأصلحها وألقى فوطة خدمة كانت بيده على نمجاة «2» السلطان. وكان سلاح دار النوبة قد وافقه وباطنه على قتل السلطان. ثم قال كرجى للسلطان: ما يصلى مولانا السلطان العشاء، فقال نعم، وقام للصلاة. فأخذ السلاح دار النمجاه من تحت الفوطة. فعند ذلك، جرد كرجى سيفه، وضرب السلطان به على كتفه، فأراد السلطان أخذ النمجاه فلم يجدها. فقبض على كرجى، ورماه تحته، فضربه السلاح دار بالنمجاه على رجله، فقطعها. فانقلب [السلطان]«3» على ظهره، وأخذته السيوف، حتى قتل. وهرب ابن العسال الإمام إلى خزانة، وصرخ قاضى القضاة حسام الدين عند ضرب السلطان، لا يحل [هذا لكم «4» ] ، فهم كرجى بقتله. ثم تركه، وأغلق كرجى الباب عليه، وعلى السلطان.
ثم خرج [كرجى]«1» . إلى الأمير سيف الدين طقجى، وقد استعد هو أيضا، وهو ينتظر ما يفعله كرجى، فأعلمه بقتل السلطان. ثم توجهوا إلى دار النيابة، وقد أغلقت. فطرق كرجى الباب، واستدعى الأمير سيف الدين منكوتمر برسالة السلطان، فأنكر حاله، واستشعر السوء، وامتنع من الإجابة. ثم قال له:
كأنكم فتلتم السلطان، فقال: نعم قتلناه، وسبّه. فعند ذلك ذلّ منكوتمر، وضعفت نفسه، واستجار بالأمير سيف الدين طقجى، فأجاره وحلف له أنه لا يؤذيه، ولا يمكن من أذاه، فاطمأن ليمينه وخرج إليهم. فأرسلوه إلى الجب، وأنزلوه إليه، فلما رآه الأمراء، قاموا إليه، وظنوا أن السلطان نقم عليه، وسألوه عن الخبر. فأخبرهم بقتل السلطان، فسبوه، وذكّروه بسوء فعله، وقصدوا قتله، ثم تركوه.
ثم رجع كرجى بعد اعتقال منكوتمر إلى مجلسه. وقال لطقجى: نحن ما قتلنا السلطان لإساءة صدرت منه إلينا، وإنما قتلناه بسبب منكوتمر، ولا يمكن ابقاءه. ثم قام، وتوجه إلى الجب، وأخرجه وذبحه من قفاه على باب الجب «2» .
فكانت مدة سلطنة الملك المنصور حسام الدين لاجين، منذ فارق الملك العادل الدهليز، وحلف الأمراء له بمنزلة العوجا، فى يوم الاثنين الثامن والعشرين من المحرم سنة ست وتسعين وستمائة، وإلى أن قتل فى هذه الليلة، سنتين وشهرين وثلاثة عشر يوما، ومنذ خلع الملك العادل نفسه بدمشق، وحلف له، واجتمعت الكلمة عليه بمصر والشام، فى يوم السبت رابع عشرين صفر من السنة
المذكورة إلى هذا التاريخ الذى قتل فيه، سنتين وشهرين إلا ثلاثة عشر يوما.
ودفن بتربته بالقرافة، ودفن نائبه منكوتمر بالتربة أيضا.
وكان رحمه الله تعالى ملكا عادلا، يحب العدل ويعتمده، ويرجع إلى الخير ويميل إليه، ويقرب أهله. وكان حسن العشرة، يجتمع بجماعة من المتعممين والعوام، ويأكل طعامهم. وكان أكولا، ولم يكن فى دولته وأيامه ما يعاب وينكر، إلا انقياده إلى مملوكه نائبه منكوتمر، والرجوع إلى رأيه، وموافقته على مقاصده حتى كان عاقبة ذلك قتلهما. واثرت موافقته له، من الفساد على العباد والبلاد وسفك دماء المسلمين، ما لم يستدرك. وذلك أن الأمراء الذين فارقوا الشام، وتوجهوا إلى التتار خوفا منه، أوجب توجههم إلى قازان، وصوله إلى الشام وخراب البلاد، وسفك الدماء، على ما نذكره بعد فى موضعه إن شاء الله تعالى.
وبلغنى أن الملك المنصور هذا مازال يستشعر القتل، منذ قتل السلطان الملك الأشرف، وأنه فى يوم الخميس بعد العصر، العاشر من شهر ربيع الآخر، وهو اليوم الذى قتل فيه عشيته، أحضر إليه ندب نشاب «1» ميدانى، من السلاح خاناة السلطانية. فجعل يقلبه فردة فردة، ويقتل كل فردة منها، ويقول عند قتلها، من قتل قتل، وكرر هذا القول مرارا. فقتل بعد أربع ساعات من كلامه أو نحوها. وأجرى الله هذا الكلام على لسانه، والنفوس حساسة فى بعض الأحيان.
وحكى لى بعض من أثق به، عن الأمير بدر الدين بكتوت العلائى حكاية عجيبة تتعلق به، وبالسلطان الملك الأشرف، أحبيت ذكرها فى هذا الموضع، فالشىء بالشىء يذكر.
قال بكتوت العلائى: كنت فى خدمة السلطان الملك الأشرف فى الصيد، وأنا يومئذ والأمير حسام الدين لاجين سلاح دارية، نحمل السلاح خلف السلطان. فاجتمعنا بحلقة صيد، وكانت النوبة فى حمل السلاح «1» خلف السلطان للأمير حسام الدين. وقد تقدمت إليه أنا، فى مكان من الحلقة، وإذ أنا بلاجين قد أدركنى، وأعطانى سلاح السلطان. وقال: خذ السلاح، وتوجه إلى السلطان، فإنه قد رسم بذلك. فأخذت السلاح، وتوجهت إلى خدمة السلطان. وساق لاجين فى مكانى الذى كنت به من الحلقة. فلما انتهيت إلى السلطان، وجدته وهو على فرسه، وقد جعل طرف عصا المقرعة على رأس النمازين «2» ، والطرف بجهته، وكأنه فى «3» غيبة من حسه. فلما جئت قال لى: يا بكتوت والله، التفت إلى ورائى، فرأيت لاجين خلفى، وهو حامل سلاحى، والسيف فى يدّه. فخّيل إلىّ أنه يريد أن يضر بنى به، فنظرت إليه، وقلت له يا أشقر «4» ، أعط السلاح لبكتوت يحمله، وتوجه أنت مكانه. قال بكتوت العلائى: فقلت للسلطان، أعيذ مولانا السلطان بالله، أن يخطر هذا بباله، ولاجين أقل من هذا، وأضعف نفسا أن يخطر هذا بباله، فضلا [عن]«5» أن يقدم عليه، وهو