الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأفرج السلطان فى هذا اليوم، عن الأمير زين الدين كتبغا المنصورى، وأعاد عليه إمرته، وأنعم عليه إنعاما كثيرا. وكان قد قبض عليه، كما تقدم لما همّ بالمدافعة عن طرنطاى.
ذكر فتوح عكا وصور وصيدا وحيفا
قد ذكرنا أن السلطان الملك المنصور، والد السلطان، كان قد أهمه أمر عكا وتجهز لغزوها. وخرج لذلك، وعاجلته المنية، دون الأمنية. فلما استقر أمر السلطان الملك الأشرف، وخلا وجهه، ممن كان يقصد مناوأته، صرف اهتمامه إلى عكا وغزوها. وندب العساكر من الديار المصرية، وسائر الممالك والحصون. وأمر نواب السلطنة بالممالك الشامية والساحلية، ونواب القلاع والحصون، بتجهيز الزردخانات وأعواد المجانيق والحجارين وغيرهم. وندب الأمير عز الدين أيبك الأفرم، أمير جاندار لذلك. فتوجه من الباب السلطانى، ووصل إلى دمشق، فى سلخ صفر. فجهزت أعواد المجانيق من دمشق، وبرزت إلى ظاهرها فى مستهل شهر ربيع الأول، وتكامل ذلك، فى يوم الخميس ثانى عشر الشهر. وتوجه بها الأمير علم الدين سنجر الدوادارى، أحد الأمراء بالشام، ثم فرقت على الأمراء مقدمى «1» الألوف، فتوجه كل أمير ومضافوه «2» منها، بما أمر بنقله. ثم توجه الأمير حسام الدين لاجين، نائب السلطنة بالشام، فى آخر الجيش «3» ، ببقية العسكر، فى يوم الجمعة، العشرين من شهر ربيع الأول. وندب
السلطان أيضا، الأمير سيف الدين طغريل الايقانى «1» إلى الحصون والممالك يستنجدهم «2» على سرعة تجهيز المجانيق والآلات، فبادر النواب إلى ذلك.
ووصل الملك المظفر صاحب حماه إلى دمشق، فى ثالث عشرين شهر ربيع الأول، بعسكر حماه، وصحبته مجانيق وزردخانات «3» ، ووصل الأمير سيف الدين
بلبان الطباخى، نائب السلطنة بالفتوحات، بعساكر الحصون وطرابلس وما معها، بالمجانيق والزردخانات، فى رابع عشرين الشهر. ووصل سائر النواب، وتوجهوا إلى عكا. هذا ما كان من أمر نواب الممالك الشامية وعساكرها «1» .
وأما السلطان الملك الأشرف، فإنه لما عزم على التوجه إلى عكا، أمر بجمع «2» القراء والعلماء والقضاة والأعيان، بتربة والده السلطان الملك المنصور. فاجتمعوا فى ليلة الجمعة، الثامن والعشرين من صفر، وبانوا بالقبة المنصورية، يقرأون القرآن. وحضر السلطان إلى التربة فى بكرة النهار، وتصدق بجملة من المال والكساوى، ثم عاد إلى قلعة الجبل. واستقل ركابه منها، فى ثالث شهر ربيع الأول. وجهز السلطان آدره العالية «3» إلى دمشق، فوصلوا إلى قلعتها، فى يوم الاثنين، سابع شهر ربيع الآخر. ووصل السلطان إلى المنزلة بعكا، فى يوم الخميس، ثالث شهر ربيع الآخر. ووصلت المجانيق إلى عكا فى اليوم الثانى،
من وصلوه، وهى اثنان وتسعون منجنيقا، [ما بين افرنجى وقرابغا وشيطانى «1» ] ، فنصبت وتكامل نصبها فى أربعة أيام، وأقيمت الستائر.
وكان الفرنج، لما بلغهم اهتمام السلطان وعزمه، كاتبوا ملوك البحر، وسألوهم إنجادهم، فأتوهم من كل مكان. واجتمع بعكا منهم جموع كثيرة، فقويت نفوسهم، ولم يغلقوا أبواب البلد. واستمر الحصار وعملت النقوب، إلى السادس عشر من جمادى الأولى «2» .
فلما كان فى يوم الجمعة السابع عشر من الشهر، أمر السلطان أن تضرب الكوسات جملة واحدة، وكانت [على «3» ] ثلاثمائة جمل. فلما ضربت، هال أهل عكا ما سمعوه منها. وزحف السلطان بالعساكر، قبل طلوع الشمس من هذا اليوم. فما ارتفعت الشمس: إلا والصناجق السلطانية على أسوارها.
ولما أشرف المسلمون على فتح عكا، وتحقق من بها ذلك، خرجت طائفة منهم، نحو عشرة آلاف رجل مستأمنين، فرّقهم السلطان على الأمراء، فقتلوا عن آخرهم. وأرسل السلطان جماعة من الأسرى، إلى الحصون الإسلامية.
وكانت مدة الحصار على عكاء منذحل ركاب السلطان، إلى أن فتحت، أربعة وأربعين يوما. واستشهد من الأمراه على حصارها، الأمير علاء الدين كشتغدى «1» الشمسى، ونقل إلى جلجولية «2» ودفن بها، والأمير عز الدين أيبك المعزى «3» ، نقيب «4» العساكر، والأمير جمال الدين آقش الغتمى «5» ، والأمير بدر الدين بيليك المسعودى، والأمير شرف الدين قيران السكرى، وأربعة من مقدمى «6» الحلقة، وجماعة يسيرة من العسكر.
وكانت عكا بيد الفرنج، منذ استرجعوها من السلطان، الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، فى سنة سبع وثمانين وخمسمائة، وإلى هذا التاريخ، مائة سنة وثلاث سنين، وأمر السلطان الآن بإخرابها، فخربت «7» .
وفتح الله تعالى على يد السلطان، فى بقية الشهر، من المدن المشهورة الساحلية، صور، وصيدا، وحيفا، وعثليث، بغير قتال. وذلك أن الله تعالى،
أوقع فى قلوب أهلها الرعب، لما فتحت عكا، وعلموا أنهم لا يقدرون على حفظها، ففارقوها ونجوا بأنفسهم. فملكها السلطان، فأمر بهدمها جميعها فهدمت. ثم فتجت صيدا وبيروت، على يد الأمير علم الدين الشجاعى، على ما نذكره «1» إن شاء الله تعالى.
وأكثر الشعراء ذكر هذا الفتح. فكان ممن «2» امتدح السلطان، وذكر هذا الفتح من الشعراء، الشيخ الفاضل بدر الدين محمد بن أحمد بن عمر المنيجى «3» التاجر المقيم بالقاهرة، فقال:
بلغت فى الملك أقصى غاية الأمل
…
وفتّ شأو ملوك الأعصر الأول
وحزت رق العلى بالجد مجتهدا
…
وجزت غاياتها سيقا على مهل
ونلت بالحول دون الناس منفردا
…
ما لم ينله ملوك الأرض بالحيل
فطل بدولتك الميمون طائرها
…
فإنها غرة فى أوجه الدول
واسعد بهمتك العليا التى وصلت
…
لك السعود بحبل غير منفصل
فأنت للدين والدنيا صلاحهما
…
وفيهما حمل ضيم غير محتمل
فكم بلغت مرادا بت «4» تأمله
…
بعزمك الباتر العارى من الفلل
وكم فتحت حصونا طالما رجعت
…
لليأس «1» عنها الملوك الصيد فى خجل «2»
حررت «3» من عكة الغراء ما عجزت
…
عنه الملوك بعزم غير منتثل
عقيلة المدن أمست من حصانتها
…
وصونها من ليالى الدهر فى عقل
وقد دعتها ملوك الأرض راغبة
…
وعطفها عنهم بالتيه فى شغل
صدت عن الصيد لا تلوى فلم تطل
…
الأوهام منها إلى وصل ولم تصل
أم لهم «4» برّة كم رام خطبتها
…
بعل «5» سواك، فلم تذعن ولم تنل
حتى أمرك فأمست وهى طائعة
…
بعد الإباء لأمر منك ممتثل
مازال غيرك فيها طامعا وعلى
…
يديك، قد كان هذا الفتح فى الأزل
فتحا «6» تطاول عن نثر «7» يحوط به
…
وصفا، وعن نظم شعر محمد الطّول
قصدتها فأصيبت بعد ما فجعت
…
فى أهلها من أسود الغيل بالغيل
فى جحفل لجب «8» كالليل انجمه
…
تبدو لرائيه من قضب ومن أسل
تمم المهامه من وعر «9» ومن أكم
…
وطبّق الأرض من سهل ومن جبل
تخالهم وجياد الخيل تحتهم
…
لليأس «1» فى الروع آسادا على قلل «2»
لا تنظر العين منهم إن هم لبسوا
…
لا مات حربهم يوما، سوى المقل
صدمتها بجيوش لو صدمت بها
…
صم الجبال، أزالتها ولم تزل
فأصبحت بعد عز الملك خاضعة
…
من ذلة الملك طول الدهر فى سمل
أمست خرابا وأضحى أهلها ومما
…
وسطرتها يد الأيام فى المثل
فسلب «3» بزتها «4» عنها وقد عطلت
…
ألذ للطرف من حلى ومن حلل
ومحو أثارها منها وقد خربت
…
أشبى إلى التفس من زوض الربى «5» الخضل
بالأشرف السيد السلطان «6» زال عنا
…
التثليث وابتهج التوحيد بالجدل
تدبير «7» ذى حكم «8» فى عز منتقم
…
وعمر مقتبل فى رأى مكتهل
راحت وقد سلبت أرواحهم بشبا
…
الهندى أموالهم من «9» جملة النفل
هدمت ما شيدوا، فرقت ما جمعوا
…
نقضت ما ابرموه غير محتفل
وعند ما أصبحت قفرا بلادهم
…
من السواحل بعد الأهل فى العطل «10»
رحلت عنها، ولكن كم أقمت بها
…
من خوف بأسك جيشا غير مرتحل
لازلت ذا رتب فى المجد سامية
…
وسؤدد بنواصى الشهب متصل
وقال المولى شهاب الدين أبو الثنا محمود الحلبى كاتب الانشاء، لما عاين النيران فى جوانب عكا. وقد تساقطت أركانها، وتهدمت جدرانها.
مررت بعكا بعد تخريب سورها
…
وزند أوار النار فى وسطها وار «1»
وعاينتها بعد التنصر قد غدت
…
مجوسية الأبراج تسجد للنار
وقال أيضا:
الحمد لله زالت دولة الصّلب
…
وعزبا لترك دين المصطفى العربى
هذا الذى كانت الأمال لو طلبت
…
رؤياه فى النوم لا ستحيت من الطلب
ما بعد عكا وقد هدت قواعدها
…
فى البحر للشرك عتد البر من أرب
عقيلة ذهبت أيدى الخطوب بها
…
دهرا وشدت عليها كف مغتصب
لم يبق من بعدها للكفر إذ خربت
…
فى البر والبحر ما ينجى سوى الهرب
كانت تخيلها آمالنا فترى
…
إن التفكر فيها أعجب العجب
أم الحروب فكم [قد «2» ] أنشأت فتنا
…
شاب الوليد بها هولا ولم تشب
سوران بر وبحر حول ساحتها
…
دارا، وأدناهما أتأى «3» من القطب
خرقاء «4» أمنع سوريها وأحصنه
…
غلب الكماة، وأقواه على النوب
مصفح مصفاح، حولها شرف
…
من الرماح وأبراج من اليلب «1»
مثل الغمامة «2» تهدى من صواعقها
…
بالنبل أضعاف ما تهدى «3» من السحب
كأنما كل برج حوله فلك
…
من المجانيق يرمى الأرض بالشهب
ففاجأتها جنود الله يقدمها
…
غضبان «4» لله لا للملك والنشب
ليث أبى أن يرد الوجه عن أمم
…
يدعون رب الورى سبحانه بأب
كم رامها ورماها قبله ملك
…
جم الجيوش فلم يظفر ولم يصب
لم يلهه ملكه، بل فى أوائله
…
قال الذى لم ينله الناس فى الحقب
لم ترض همته إلا التى قعدت
…
للعجز عنها ملوك العجم والعرب
فأصبحت وهى فى بحرين مائلة
…
ما بين مضطرم نارا «5» ومضطرب
جيش من الترك ترك الحرب عندهم
…
عار، وراحتهم ضرب من الوصب
خاضوا إليها الردى والبحر فاشتبه ال
…
أمران واختلفا فى الحال والسبب
تسنموها فلم يترك «6» ثباتهم «7»
…
فى ذلك الأفق برجا غير منقلب
تسلموها فلم تخل الرقاب بها
…
من فتك منتقم أو كف منتهب
أتوا حماها فلم تدقع وقد وثبوا
…
عنها مجانيقهم شيئا «1» ولم يثب
يا يوم عكا لقد انسيت ما سبقت
…
من «2» الفتوح وما قد خطّ فى الكتب
لم يبلغ النطق حد الشكر فيك فما
…
عسى يقوم به ذو الشّعر والخطب
كانت تمنى بك الأيام عن أمم
…
والحمد لله شاهدناك عن كتب
أغضبت عباد عيسى إذ أبدتهم «3»
…
لله أى رضى فى ذلك الغضب
وأطلع الله جيش النصر فابتدرت
…
طلائع الفتح بين السمر والقضب
وأشرف المصطفى الهادى البشير على
…
ما أسلف «4» الأشرف السلطان من قرب
فقرّ عينا بهذا الفتح وابتهجت
…
ببشره «5» الكعبة الغراء فى الحجب
وسار فى الأرض مسرى الريح سمعته
…
فالبر فى طرب والبحر فى حرب
وخاضت البيض فى بحر الدماء فما
…
أبدت من البيض إلا ساق مختضب
وغاص «6» زرق الفنا «7» فى زرق أعينهم
…
كأنها شطن يهوى «8» إلى قلب
توقدت وهى تروى فى نحو رهم
…
فزادها الرى فى الإشراق واللهب «9»
أجرت إلى البحر بحرا من دمائهم
…
فراح كالراح «1» إذ غرقاه كالحبب «2»
وذاب من حرّها عنهم حديدهم
…
فقيدتهم «3» به ذعرا يد الرهب «4»
تحكمت فسطت فيهم قواضيها
…
قتلا وعفت لحاويها عن السلب
كم أبرزت بطلا كالطود قد بطلت
…
حواسه فغدا كالمنزل الخرب
كأنه وسنان الرمح يطلبه
…
برج هوى ووراه كوكب الذنب
بشراك يا ملك الدنيا لقد شرفت
…
بك الممالك واستعلت على الوثب
ما بعد عكا، وقد لانت عربكتها
…
لديك شىء تلاقيه «5» على تعب
فانهض إلى الأرض فالدنيا بأجمعها
…
مدت إليك نواصيها بلا نصب
كم قد دعت، وهى فى أسر العدا زمنا
…
صيد الملوك فلم تسمع «6» ولم تجب «7»
لبيتها «8» يا صلاح الدين معتقدا
…
بأن ظنّ صلاح الدين لم يخب
أسلت فيها كما سالت دماؤهم
…
من قبل إحرازها بحرا من الذهب
أدركت ثأر صلاح الدين إذ غضبت
…
منه لعمر «9» طواه الله فى الكتب
وجئتها بجيوش كالسيول على
…
أمثالها «1» بين أجام من القضب «2»
وحطتها «3» بالمجانيق «4» التى وقفت
…
أمام أسوارها فى جحفل لجب
مرفوعة نصبوا أضعافها قبلت «5»
…
للجزم والكسر منها كل منتصب
ورضتها بنقوب ذللت شمما
…
منها وأبدت محياها بلا نقب
وبعد صبحتها بالزحف فاضطربت
…
رعبا وأهوت بخديها «6» إلى الترب
وغنت «7» البيض فى الأعناق فار تقصت «8»
…
أجسادها لعبا منها مع اللعب
وخلّقت بالدم الأسوار فابتهت
…
طيبا ولولا دماء القوم لم تطب «9»
وأبرزت كل خود «10» كاعب نثرت «11»
…
لها الرؤوس وقد زفت بلا طرب
باتت «12» وقد جاورتنا ناشزا وغدت
…
طوع الهوى فى يدى جيرانها الجنب
ظنوا بروج البيوت الشم تعقلهم «13»
…
فاستعقلتهم ولم تطلق ولم تهب
فأحرزتهم ولكن للسيوف لكى
…
لا يلتجى أحد منهم إلى هرب
وجالت «1» النار فى أرجائها وعلت
…
فاطفأت ما بصدر الدين من كرب
أضحت أبا لهب تلك البروج وقد
…
كانت بتعليقها حمالة الحطب
وأفلت «2» البحر منهم من يخبر من
…
يلقاه من قومه بالويل والحرب
وتمت النعمة العظمى وقد ملكت
…
بفتح صور بلا حصر ولا نصب
أختان فى أن كلا منهما جمعت
…
صليبة الكفر لا أختان فى النسب
لما رأت أختها بالأمس قد خربت
…
كان الخراب لها أعدى من الجرب
إن لم يكن ثمّ كون البحر منصبغا
…
بها إليها والألسن اللهب «3»
فالله أعطاك ملك البر وأبتدأت
…
لك السعادة ملك البحر فارتقب
من كان مبدأه «4» عكا وصور معا
…
فالصين أدنى إلى كفيه من حلب «5»
علا بك الملك حتى إن قبته
…
على الثريا غدت ممدودة الطنب
فلا برحت عزيز النصر مبتهجا
…
بكل فتح قريب المنح مقترب
وعمل الشعراء فى هذا الفتح قصائد كثيرة، اقتصرنا «6» منها، على ما أوردناه، فلنذكر خلاف ذلك.