الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفيها، فنيت الأبقار بالديار المصرية فناء، لم يسمع بمثله. وحكى لى أن بعض مشايخ البلاد بأشموم طناح، كان يملك ألف رأس وأحد وعشرين رأسا من بقر الخيس «1» ، فمات منها ألف رأس وثلاثة وعوس، وبقى له ثمانية عشر رأسا، وغلت الأبقار بعد هذا الفناء، حتى كادت تعدم. وبيع الثور منها بألف درهم وما يقارب هذا الثمن. واستعمل الناس فى السواقى بالديار المصرية لإدارتها، الخيل والجمال والحمير «2» .
ذكر خبر أهل الذمة وتغيير لباسهم وما تقرر فى ذلك، والسبب الذى أوجبه
فى هذه السنة، وصل وزير بلاد المغرب «3» إلى الديار المصرية، بسبب الحج.
وتكلم مع الأمراء فى أمر أهل الذمة، وذكر ما هم فيه من الذل والصغار ببلاد المغرب، وأنهم لا يمكنونهم «4» من ركوب الخيل والبغال، ولا يستخدمونهم «5» فى المناصب، وذكر أشياء كثيرة من هذا القول. فرسم أن يعقد مجلس بحضور الحكام، وندب لذلك قاضى القضاة شمس الدين السروجى الحنفى، فجلس بالمدرسة الصالحية.
وحضر القاضى مجد الدين بن الخشاب، وكيل بيت المال، وجماعة من الفقهاء، وأحضر بطرك النصارى «6» وجماعة من أساقفتهم، وأكابر قسيسيهم، وأعيان ملتهم
وديان اليهود وأكابر ملتهم، وسئلوا عما أقروا عليه فى خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، من عقد الذمة. فلم يأتوا عن ذلك بجواب.
وبحث الفقهاء فى ذلك، فاقتضت المباحث الشريفة بين العلماء، أن يميز النصارى بلبس العمائم الزرق غير الشعرى «1» ، واليهود بلبس العمائم الصفر. وتميز نساء أهل كل ملة كذلك بعلامة تظهر. ولا يركبون «2» الخيول ولا يحملون «3» سلاحا، ويركبون الخيول الحمر بالأكف «4» عرضا من غير تربين لها ولا قيمة، ويتجنبون «5» أوساط الطرق للمسلمين فى مجالسهم «6» عن مراتبهم، ولا يرفعون «7» أصواتهم على أصوات المسلمين. ولا يعلو بناؤهم على بناء المسلمين، ولا يظهرون «8» شعانيهم «9» ، ولا يضربون «10» بالنواقيس. ولا ينّصرون مسلما ولا يهودونه. ولا يشترون من
الرقيق مسلما ولا من سباه مسلم، ولا من «1» جرت عليه سهام المسلمين. ومن دخل منهم الحمام يميز نفسه بعلامة عن المسلمين، بجرس فى حلقه. ولا ينقشون «2» فصوص خواتيمهم بالعربية «3» ، ولا يعلمون «4» أولادهم القرآن، ولا يستخدمون «5» فى أعمالهم الشافة مسلما، ولا يرفعون «6» النيران. ومن زنى منهم بمسلمة قتل.
وقال بطرك النصارى بحضرة جماعة العدول: «حرّمت على أهل ملتى وأصحابى مخالفه ذلك، والعدول عنه» . وقال رئيس اليهود وديانهم: «أوقعت الكلمة على أهل ملتى وطائفتى فى مخالفة ذلك، والخروج عنه «7» » .
ونظمت المكاتيب بذلك، ورسم بحمل الأمراء «8» على حكمها. وكتب إلى سائر أعمال الديار المصرية بإجرائهم على ذلك. وكتب إلى [أمراء «9» ] الشام بذلك، فالتزموا به فى شعبان من السنة.
وتقرر بدمشق أن تلبس النصارى العمائم الزرق، واليهود العمائم الصفر، والسامرة العمائم الحمر. واستقر ذلك فى سائر المملكة. إلا بالكرك، فإن النائب بها الأمير جمال الدين آقش الأشرفى، رأى إبقاءهم على حالتهم. واعتذر أن أهل
الكرك نصارى، وأن المسلمين بها قليل، وأن هذا القدر «1» يؤدى إلى ظهور كثرتهم للغريب، وما أشبه هذه الأعذار. فاستقر ذلك بالكرك والشوبك إلى الآن «2» .
وأخبرنى الأمير سيف الدين بلبان الجوكندار المنصورى فى سنة إحدى وسبعمائة وهو يؤمئذ أستاذ الدار السلطانية وشاد الدواوين بدمشق، قال: ركبت فى الموكب مع الأمير جمال الدين آقش الأفرم، نائب السلطنة بها، فمر بنا طائفة من أهل الذمة، بالأقمشة النفيسة والعمائم اللانس «3» . قال: فشق ذلك علىّ كونهم لم يتميزوا بعلامة. فذكرت ذلك لنائب السلطان، وقررت معه أن يأمر بتغيير هيأتهم، وأن تلبس النصارى العمائم الزرق، واليهود العمائم الصفر، والسامرة «4» العمائم الحمر. وتقرر أن يطالع فى ذلك، فورد مثال السلطان بذلك، قبل وصول المطالعة إليه، ووافق تاريخ تلبيسهم بالديار المصرية، التاريخ الذى حدثت نائب السلطان فيه بسببه. ولما منعوا من الاستخدام بالديار المصرية، أسلم جماعة كثيرة من أعيانهم، لأجل مناصبهم. فاستمروا بعد إسلامهم على ما كانوا عليه «5» .
وقد وقفت على كتاب «الدر الثمين فى مناقب المسلمين ومثالب المشركين» ، تصنيف محمد بن عبد الرحمن بن محمد الكاتب «1» . وهو كتاب خدم به السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، رحمه الله تعالى «2» .
وقد رأيت أن أذكر منه نبذة فى هذا الموضع، لتعلفه به، فالشىء بالشىء يذكر. جاء «3» فى الكتاب المذكور، فى صدره، بعد تفويض السلطان الملك الناصر المشار إليه. نثرا، والاستشهاد بأبيات من الشعر فى معناه. ثم قال: وكان مولانا الملك الناصر، خلد الله ملكه، وأبقى دولته، لما ملكه الله الديار المصرية والشامية وما قاربها. ووعده على لسان عدله، أن يفتح على يديه مشارق الأرض ومغاربها. انتصر لله، وتعصب لدينه، واجتهد فى رضاه، والعمل بحكم كتابه، وسنة نبيه، ولحقته الحميّة الإسلامية، وسار السيرة العمرية. وأمر بصرف الذمة وأن لا يتصرفوا ما بقيت هذه الأمة. وسطرها الكاتبان «4» فى صحائف حسناته.
وأثبتها المؤرخون فى محاسن سيرته، ونظمها الشعراء فى مدائح عقد مدائحه.
وشغله النظر فى مصالح الإسلام، عن تميم هذا الاهتمام، والأعمال بخواتيمها.
ونرجو من الله، أن يبادر بتكميلها وتتميمها. ولقد قيل إن الشريف مسعود بن المحسن المعروف بالبياضى، رؤى فى المنام بعد موته، فقيل له ما فعل الله بك.
قال: غفر لى بأبيات قلتها، وكتبت بها إلى الراضى وهى:
يا ابن الخلائف من قريش والاؤلى
…
طهرت أصولهم من الأدناس
قلدت أمر المسلمين عدوهم
…
ما هكذا فعلت بنو العباس
حاشاك من قول الرعية أنه
…
ناس لقاء الله أو متناسى
ما العذر إن قالوا غدا هذا الذى
…
ولّى اليهود على رقاب الناس
أتقول كانوا وفّروا أموالهم
…
قبيوتهم قفر بلا آساس
لا تذكرن إحصاءهم ما وفّروا
…
ظلما وتنسى محصى الأنفاس
وخف القضاء غدا إذا وافيت ما
…
كسبت يداك اليوم بالقسطاس
فى موقف ما فيه إلا شاخص
…
أو مهطع أو مقنع للراس
أعضاؤهم فيه الشهود وسحتهم
…
نار وخازنهم شديد الباس
إن عطل اليوم الديون مع الغنى
…
فغدا يؤديها مع الإنلاس.
لا تعتذر عن صرفهم بتعذر الم
…
تصرّفين الحذّق الأكياس
ما كنت تفعل بعدهم لو أهلكوا
…
فافعل وعّد القوم فى الأرماس،
ثم قال المصنف محمد بن عبد الرحمن: قرأت أن النصيحة من الدين.
وقرأت: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ
«1» . ثم ذكر ما ورد فى كتاب الله تعالى
من التحذير، فبدأ بقوله تعالى: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
«1» وقوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ
«2» وقوله تعالى: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ
«3» .
ثم ذكر نسخة كتاب كتب إلى عمر بن الخطاب، عن أهل الذمة، فقال:
قال عبد الرحمن بن عثمان: كتبنا إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، فى نصارى أهل الشام ومصر ما نسخته:
«هذا كتاب لعبد الله عمر، أمير المؤمنين، من نصارى أهل الشام ومصر.
لما قدمتم علينا، سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا، وأهل ملّتنا.
وشرطنا على أنفسنا، أن لا نحدث فى مدائننا، ولا فيما حولها، ديرا ولا كنيسة، ولا قلاية «4» ، ولا صومعة لراهب «5» . ولا نجدد «6» ما خرب منها، ولا ما كان فى خطط
المسلمين، وأن نوسع «1» للمارة ولبنى السبيل. وأن تنزل «2» من مربّنا من المسلمين ثلاث ليال، نطعمهم. ولا نأوى فى كنائسنا ولا فى منازلنا جاسوسا، ولا نكتم عينا على المسلمين. «3» ولا نعلم أولادنا القرآن، ولا نظهر شرعنا، ولا ندعو إليه أحدا.
ولا نمنع أحدا من ذوى قرابتنا الدخول فى دين الإسلام، إن «4» أراد. وأن نوقّر المسلمين، ونقوم لهم فى مجالسنا، إذا أرادوا الجلوس. ولا نتشبه بهم فى شىء من ملابصهم، فى قلنسوة، ولا عمامة ولا نعلين، ولا فرق شعر. ولا نتسمى بأسمائهم، ولا نتكنى بكناهم. ولا نركب بالسروج «5» ، ولا نتقلد السيوف «6» ، ولا نتخد شيئا من السلاح ولا نحمله. ولا ننقش على خواتمنا «7» بالعربية. وأن «8» نجز مقادم رؤوسنا. ونلزم زيّنا حيث كنا، وأن نشد الزنانير على أوساطنا، وأن لا نظهر صلياننا، ولا نفتح كتبنا «9» فى طرق «10» المسلمين ولا أسواقهم. ولا نضرب بنواقيسنا، فى كنائسنا، فى شىء من حضرة المسلمين. ولا نخرج [فى «11» ] شعانيننا، ولا طاغوتنا. ولا نرفع
أصواتنا مع موتانا. ولا نوقد النيران فى طرق المسلمين ولا أسواقهم. ولا نجاورهم بموتانا. ولا نتخذ «1» من «2» الرقيق، من جرت عليه سهام المسلمين. ولا نطلع [عليهم]«3» فى منازلهم، ولا تعلو منازلنا منازلهم. فلما أتيت أمير المؤمنين عمر بالكتاب زاد فيه:«ولا نضرب أحدا من المسلمين» .
شرطنا ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا، وقبلنا عليه الأمان. فإن نحن خالفنا فى شىء مما اشترطناه لكم علينا، وضمناه عن أنفسنا، وأهل ملتنا، فلا دية لنا عليكم، وقد حل بنا ما حل بغيرنا، من أهل المعاندة والشقاق. فكتب عمر رضى الله عنه: امض ما سألوه، والحق فيه حرفين، اشترطهما «4» عليهم، مع ما شرطوه، أنه من ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده «5» .
قال عبد الرحمن بن عثمان: وأجمع العلماء بعد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، على أنه متى نقض الذمى عهده، بمخالفة شرط من هذه الشروط
المأخوذة عليهم، فالإمام مخيّر فيه بين القتل والأسر. ويلزمهم مع ذلك أن يتميزوا عن المسلمين فى اللباس والزى، ولا يتشبهون بهم «1» فى أمر من أمور زيهم. ويشدّون الزنانير «2» فى أوساطهم. ويكون فى رقابهم خواتم رصاص أو نحاس أو جرس، يدخل معهم فى الحمام. وليس لهم أن يلبسوا العمائم والطيلسان.
وأما المرأة فتشد الزنار من تحت الإزار، وقيل من فوق الإزار وهو الأولى.
ويكون فى عنقها خاتم رصاص، يدخل معها الحمام. ويكون أحد خفيها أسود، ليبقى مشتهرا ظاهرا، والآخر أبيض.
ويركبون الحمير بالأكف، ولا يركبون بالسروج. ولا يتصدرون فى المجالس ولا يبدأون بالسلام. ويلجأون إلى أضيق الطرق. ويمنعون أن يعلو بناؤهم على ابنية المسلمين، وتجوز المساواة، وقيل لا تجوز، بل يمنعون. ويجعل الإمام عليهم رجلا يكتب أسماءهم وحلاهم، ويستوفى عليهم ما يؤخذون «3» به من هذه الشرائط. وإن زنى منهم أحد بمسلمة، أو أصابها بنكاح، برئت منه الذمة.
وقال أبو هريرة: أمر أمير المؤمنين عمر بن خطاب، رضى الله عنه،