الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مصادر التشريع في هذا العصر
أولا: القرآن الكريم
مدخل
…
مصادر التشريع في هذا العصر:
أولا: القرآن الكريم
قال الراغب في المفردات: القرآن في الأصل مصدر، نحو كفران، ورجحان، قال الله تعالى:{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَه} 1 قال ابن عباس: "إذا جمعناه وأثبتناه في صدرك فاعمل به". وقد خص بالكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فصار له كالعلم، كما أن التوراة أنزلت على موسى، والإنجيل على عيسى عليهما السلام. قال بعض العلماء: تسمية هذا الكتاب قرآنًا من بين كتب الله؛ لكونه جامعًا لثمرة كتبه، بل لجمعه ثمرة جميع العلوم، كما أشار تعالى إليه بقوله:{تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْء} 2، وقوله:{تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء} 3، وقوله:{قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَج} 4.
ومن كلام الراغب يتبين أن القرآن في الأصل مصدر قرأ يقرأ قراءة وقرآنا، ومعناه في اللغة: الجمع والضم، وقد صار علما بالغلبة على الكتاب العزيز في عرف الشرع، وعرف بأنه: كلام الله الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ونقل إلينا تواترا؛ لنتعبد بتلاوته وأحكامه، وكان آية دالة على صدقه فيما ادعاه من الرسالة.
وقد نزل به جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان عربي: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 5، فتحدى به رسول الله العرب وهم أرباب
1 القيامة: 17، 18.
2 يوسف: 111.
3 النحل: 89.
4 الزمر.
5 الشعراء: 192-195.
الفصاحة والبيان، فظهر عجزهم، وبهذا قامت الحجة عليهم {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 1، {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2، {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} 3. {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ، فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِين} 4.
وحيث كانت البشرية في أطوار نموها الأولى لا يبهرها شيء كما تبهرها الخوارق الكونية الحسية التي لا مجال فيها للتفكير والنظر ناسب هذا أن يبعث كل رسول إلى قومه خاصة، وأن تكون معجزته فيما نبغ فيه قومه، خارقة لما ألفوه؛ ليتحقق بعجزهم عنها إيمانهم بأنها من قوة سماوية عليا فوق طاقة البشر.
وظل الناس يستفيدون برسالات الله التي أخذت بأيديهم إلى مدارج الرقي، ووطأت الأكناف لختم النبوة حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالرسالة الخالدة إلى الناس كافة، وكانت معجزتها معجزة العقل البشري في أرقى تطورات نضجه ونموه. فحيث كان تأييد الله لرسله السابقين بآيات كونية تبهر الأبصار ولا سبيل للعقل في معارضتها، كمعجزة اليد والعصا لموسى، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله لعيسى، كانت معجزة محمد صلى الله عليه وسلم في عصر مشرف على العلم معجزةً علميةً تحير العقل البشري وتتحداه إلى الأبد، وهي معجزة القرآن بعلومه ومعارفه، وأخباره الماضية والمستقبلة، فالعقل الإنساني على تقدمه لا يعجز عن معارضته؛ لأنه آية كونية لا قبل له بها، ولكن عجزه لقصوره الذاتي، فيكون هذا اعترافا منه بأنه وحي الله إلى رسوله، وان حاجته إلى الاهتداء له ماسة؛ ليستقيم عوجه وترقى مواهبه. ويهتدي إلى سبيل الرشاد، وهذا المعنى هو ما يشير إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله:"ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله من آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا". رواه البخاري ومسلم.
1 البقرة: 23.
2 هود: 13.
3 الإسراء: 88.
4 الطور: 33، 34.
ومن عنده إلمام قليل بتاريخ العرب وأدب لغتهم يدرك العوامل السابقة لبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم التي رقت بلغة العرب، وهذبت لسانها، وجمعت خير ما في لهجاتها من أسواق الأدب والمفاخرة بالشعر والنثر، حتى انتهى مصب جداول الفصاحة وإدارة الكلام بالبيان في لغة قريش التي نزل بها القرآن، وما كان عليه العرب من صلف، يعلو بأحدهم على أبناء عمومته أنفا وكبرا، مضرب مثل في التاريخ الذي سجل لهم أياما نسبت إليهم؛ لما أحدثوه فيها من معارك دامية، وحروب طاحنة أشعلها شرر من الكبرياء والأنفة..
ومثل هؤلاء مع توافر دواعي اللسان وقوة البيان التي يوقدها حماس القبيلة، ويؤججها أتون الحمية، لو تسنى لهم معارضة القرآن الكريم لأثر هذا عنهم، وتطاير خبره في الأجيال، فالقوم قد تصفحوا آيات الكتاب، وقلبوها على وجوه ما نبغوا فيه من شعر ونثر، فلم يجدوا مسلكا لمحاكاته، أو منفذا لمعارضته، بل جرى على ألسنتهم الحق الذي أخرسهم عفو الخاطر عندما زلزلت آيات القرآن قلوبهم، كما أثر ذلك عن الوليد بن المغيرة، وعندما عجزت حيلتهم رموه بقول باهت فقالوا: سحر يؤثر، أو شاعر مجنون، أو أساطير الأولين. ولم يكن لهم بد أمام العجز والمكابرة إلا أن يعرضوا رقابهم للسيوف، فاستسلموا للموت الزؤام، وبهذا ثبت إعجاز القرآن.
وعَجْز العرب عن معارضة القرآن مع توافر الدواعي عَجْز للغة العربية في ريعان شبابها وعنفوان قوتها.
والإعجاز لسائر الأمم على مر العصور يظل ولا يزال في موقف التحدي شامخ الأنف، فأسرار الكون التي يكشف عنها العلم الحديث ما هي إلا مظاهر للحقيقة العليا التي ينطوي عليها سر هذا الوجود في خالقه ومدبره، وهو ما أجمله القرآن او أشار إليه، فصار القرآن بهذا معجزا للإنسانية كافة، بكل ما يحمله لفظ الإعجاز من معنى.
فهو معجز في ألفاظه وأسلوبه، والحرف الواحد منه في موضعه من الإعجاز
الذي لا يغني عن غيره في تماسك الكلمة، والكلمة في موضعها من الإعجاز في تماسك الجملة، والجملة في موضعها من الإعجاز في تماسك الآية.
وهو معجز في بيانه ونَظْمِهِ، يجد فيه القارئ صورة حية للحياة والكون والإنسان.
وهو معجز في معانيه التي كشفت الستار عن الحقيقة الإنسانية ورسالتها في الوجود.
وهو معجز بعلومه ومعارفه التي أثبت العلم الحديث كثيرا من حقائقها المغيبة.
وهو معجز في تشريعه وصيانته لحقوق الإنسان، وتكوين مجتمع مثالي تسعد الدنيا على يديه.
والقرآن أولا وآخرا هو الذي صير العرب رعاة الشاء والغنم ساسة شعوب وقادة أمم، وهذا وحده إعجاز1.
والقرآن الكريم هو أساس الدين ومصدر التشريع، وحجة الله البالغة في كل عصر ومصر، بلغه رسول الله لأمته امتثالا لأمر ربه:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} 2، واحتوى على الأمر الإلهي الصريح بوجوب اتباعه والعمل بما تضمنه من أحكام في غير موضع وبغير أسلوب واحد؛ قال تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} 3، وقال عز وجل:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 4، وقال سبحانه:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} 5، وقال جلَّ شأنه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ
1 راجع بحث "إعجاز القرآن" في كتابنا: "مباحث في علوم القرآن".
2 المائدة: 67.
3 الأعراف: 3.
4 البقرة: 229.
5 المائدة: 48.
أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 1.
وتلقاه الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلاوةً له وحفظًا ودراسةً لمعانيه وعملًا بما فيه، قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن: عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لا يتجاوزونها حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل. قال: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا2.
وهكذا استمر حفظ المسلمين للقرآن في كل عصر، وتوارثت الأمة نقله بالكتابة على مر الدهور، جيلا بعد جيل، من غير تحريف أو تبديل، وذلك مصداق قوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 3.
وقد اشتمل القرآن الكريم على أصول الشريعة وقواعدها من الحلال والحرام، وجاءت أكثر أحكامه مجملة تشير إلى مقاصد الشريعة، وتضع بيد الأئمة والمجتهدين المصباحَ الذي يستنبطون في ضوئه أحكام جزئيات الحوادث في كل زمان ومكان، وهذا سر خلود الشريعة وشمول قواعدها الكلية ومقاصدها العامة لما يحدث في الناس من أقضيات.
وإنما فصَّل القرآن ما لا بد فيه من التفصيل الذي يجب أن يسمو عن مواطن الخلاف والجدل كما في العقائد وأصول العبادات، أو لأنه يبنى على أسباب لا تختلف ولا تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة، وذلك كما في تشريع المواريث ومحرمات النكاح، وعقوبة بعض الجرائم.
والقرآن الكريم كتاب هداية، يهتدي به من قرأه أو حفظه وتدبر معانيه،
1 المائدة: 49، 50.
2 أخرج عبد الرزاق ما في معناه عن معمر عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي، وأخرجه ابن جرير في مقدمة تفسيره عن عطاء عن أبي عبد الرحمن وصححه أحمد شاكر، فإن أبا عبد الرحمن السلمي تابعي لا يحدث إلا عن الصحابة.
3 الحجر: 9.
واتعظ بما فيه، فتلزمه الحجة، وفي صحيح الحديث:"القرآن حجة لك أو عليك"1. ولذا كان تدبره واجبًا، حتى يفتح مغاليق القلوب، وتستنير به الأفئدة، ويقود الناس إلى الوقوف عند حدوده، والعمل بما فيه {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِه} 2، وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 3. وله من روعة التنزيل وجلال الأحكام والمواعظ ما تتصدع منه الجبال الرواسي، ولكن الله امتَنَّ على عباده، فجعل القرآن ربيع قلوبهم، وجلاء بصائرهم، ونور حياتهم {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّه} 4، وعن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ستكون فتن كقطع الليل المظلم"، قلت: يا رسول الله وما المخرج منها؟ قال: "كتاب الله تبارك وتعالى؛ فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يمله الأتقياء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنتهِ الجن إذ سمعته أن قالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا، من علم علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أُجِر، ومن دعا إليه هُدِيَ إلى صراط مستقيم"5.
وقد نزل القرآن الكريم منجما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، تنزل الآية أو الآيات حسب الوقائع والأحداث، وما يريده الله تعالى من تشريع؛ تثبيتًا لفؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومبالغة في الإعجاز، وتدرجا في التشريع، وتيسيرا لحفظه وفهمه، ودلالة قاطعة على أنه تنزيل من حكيم حميد6.
أما الكتب السماوية الأخرى: التوراة والإنجيل والزبور، فكان نزولها جملة لا مفرقة.
1 أخرجه مسلم.
2 سورة ص: 29.
3 محمد: 24.
4 الحشر: 21.
5 أخرجه الترمذي وفي سنده الحارث بن عبد، وهو متهم.
6 راجع حكمة نزول القرآن منجما في كتابنا: "مباحث في علوم القرآن".