الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاجتهاد في هذا الدور:
أحكام الفقه الإسلامي من حيث مصادرها أربعة أنواع:
1-
أحكام مصادرها نصوص قطعية الثبوت والدلالة.
2-
أحكام مصادرها نصوص ظنية الثبوت والدلالة.
3-
أحكام مصادرها الإجماع.
4 أحكام لم يدل عليها نص ولم ينعقد عليها إجماع.
أما النوع الأول فلا مجال للاجتهاد فيه.
وإنما يكون الاجتهاد في سائر الأنواع ما لم ينعقد الإجماع.
وقد كان الاجتهاد في هذا الدور لدى الصحابة المسلك الذي يلجئون إليه عندما يعوزهم النص في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بالمشاورة التي تصل بهم إلى الإجماع، أو القياس الذي كان يسمى بالرأي، والأمثلة التي ذكرناها من قبل عما اتفق عليه الصحابة في بعض القضايا الكوفة قال له: انظر ما يتبين لك في كتاب الله فلا تسأل عنه أحدا، وما لم يتبين لك في كتاب الله فاتبع فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما لم يتبين لك فيه السنة فاجتهد فيه رأيك.
وكان للصحابة العذر كل العذر في هذا الاجتهاد، لكثرة ما تشعبت إليه المسائل، وما استحدثه الناس من قضايا، ولعلهم فهموا من إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بالاجتهاد في حياته، ومن حديث معاد أن الاجتهاد حيث لا يوجد النص أمر مشروع، وفي كتاب عمر إلى أبي موسى" ثم الفهم فيما أدلى إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عند ذلك، واعرف الأمثال، ثم اعمد فيها ترى إلى أحبها إلى الله، وأشبهها بالحق".
وقد أخذ الصحابة في كثير من المسائل بالقياس الصحيح: فجعلوا العبد على النصف من الحر في النكاح والطلاق والعدة قياسا على ما نص الله عليه من قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} 1
1 النساء: 25.
وقدموا الصديق في الخلافة وقالوا: رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا؟ فقاسموا الإمامة الكبرى على إمامة الصلاة.
وأخذ الصحابة في الفرائض بالعول وإدخال النقص على جميع ذوي الفروض، قياسا على إدخال النقص على الغرماء إذا ضاق مال المفلس عن توفيتهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للغرماء:"خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك". وهذا من أحسن القياس.
وقاسوا حد الشرب على حد القذف، وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاور الناس في حد الخمر، وقال: إن الناس قد شربوها واجترءوا عليها؛ فقال له علي رضي الله عنه: إن السكران إذا ذكر هذى، وإذا هذى افترى، فاجعله حد الفرية، فجعله عمر حد الفرية ثمانين ولم ينفرد على بهذا القياس، بل وافقه عليه الصحابة. والحديث أخرجه مالك في الموطأ مفصلا، ووصله النسائي والطحاوي وتكلم فيه بعض الحفاظ.
ومن مسائل اجتهاد الصحابة بالرأي عند عدم النص ما يأتي:
1-
روى أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل في إملاص المرأة وهو لا يعلم قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه؛ فقال: أذكر الله امرءا سمع من النبي صلى الله عليه وسلم في الجنين شيئا؟ فقام حمل بن مالك بن النابغة قال: كنت بين جارتين لي يعني ضرتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح، فألقت جنينا ميتا، فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة، فقال عمر: إن كدنا أن نقضي في مثل هذا برأينا" وعبر عن الضرتين بالجارتين للمجاورة بينهما، والمسطح: عود من أعواد الخباء والفسطاط، وفسرت الغرة في بعض الروايات بالعبد أو الأمة؛ وإنما تجب الغرة في الجنين إذا سقط ميتا، فإن سقط حيا ثم مات فيه الدية كاملة. فأنت ترى في عبارة عمر:"إن كدنا أن نقضي في مثل هذا برأينا" أنه لو لم يجد قضاء قضي به رسول الله صلى الله عليه وسلم لاجتهد برأيه.
2-
واجتهد عبد الله بن مسعود في المفوضة؛ فقد روى أصحاب السنن "أنه أتى عبد الله بن مسعود في رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقا؛ فمات قبل أن يدخل بها، فأتوا ابن مسعود فقال: التمسوا فعلكم أن تجدوا في ذلك أثرا، فأتوا ابن مسعود فقالوا: قد التمسنا فلم نجد؛ فقال ابن مسعود: أقول فيها برأيي، فإن كان صوابا فمن الله، أرى لها مثل صداق نسائها، لا وكس ولا شطط، وعليها العدة فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة منا يقال لها بروع بنت وأشق بمثل ما قلت، ففرح عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بموافقة قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم".
و"بروع" كجدول؛ فقد أفتى ابن مسعود برأيه بعد أن أعياه الوصول إلى النص، وفرح بتوفيق الله إياه حين وجد النص وفق ما رأي.
3-
وروى البيهقي في السنن الكبرى، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله عن عكرمة أنه قال:"أرسلني ابن عباس إلى زيد بن ثابت أسأله عن زوج وأبوين؛ فقال زيد: للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي، وللأب بقية المال، قال عكرمة: فأتيت ابن عباس فأخبرته فقال: ارجع إليه فقل له: أفي كتاب الله ثلث ما بقي؟ وكان ابن عباس يقول: للأم الثلث كاملا؛ فقال له زيد: "إنما أقول برأيي وتقول برأيك ولا أفضل أما على أب". وفي هذا الحديث مندوحة للاختلاف في الرأي عند عدم النص.
4-
وروى ابن عبد البر في جامع بيان العلم، وأورده ابن القيم في إعلام الموقعين "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقي رجلا فقال له: ما صنعت؟ فقال الرجل: قضى علي وزيد بيننا بكذا في خصومة هي كذا؛ فقال عمر: لو كنت أنا الذي يقضي فيها لقضيت فيها بكذا خلاف هذا القضاء الذي قضى به علي وزيد فقال الرجل: فما يمنعك والأمر إليك؟ قال: لو كنت أردك إلى كتاب الله أو سنة رسول الله لفعلت، ولكني أردك إلى رأيي، والرأي مشترك.
فلم ينقض ما قال علي وزيد: ولم ينقض عمر رأي علي وزيد حيث لا نص عنده من كتاب أو سنة يستند إليه ولكنه اجتهاد نه كاجتهادهما، والاجتهاد لا ينقض بمثله.
5-
وكان موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه من طاعون الشام وعزمه على الرجوع فيما أجاب به أبا عبيدة مستندا إلى الرأي حيث لا نص؛ ولكنه بعد أن بلغه النص الموافق لرأيه حمد الله تعالى.
روى البخاري أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد: أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع في أرض الشام، فاستشار الناس في الرجوع، فلما عزم على الرجوع بالناس إلى المدينة، قال له أبو عبيدة: أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت إن كانت لك إبل هبطت واديا له غدوتان، إحداهما خصيبة، والأخرى جدبة، أليس إن غربت الخصيبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان مغيبا في بعض حاجته فقال: إن عندي في هذا علما، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه، قال: فحمد الله عمر ثم انصرف...." وهذا هو ما يعرف اليوم بالحجر الصحي في الطب الوقائي.
ورواه مسلم بشيء من التفصيل حيث استشار المهاجرين فاختلفوا ثم استشار الأنصار فاختلفوا، ثم استشار مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فلم يختلف عليه رجلان، وقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء.
6-
وحين قتل غلاما امرأة أبيه وخليلها باليمين، وأرسل إلى عمر بن الخطاب في شأن ذلك، تردد عمر في الأمر، حتى قال له علي: يا أمير المؤمنين، أرأيت لو أن نفرا اشتركوا في سرقة جزور، فأخذ هذا عضوا وهذا عضوا أكنت
قاطعهم؟ قال: نعم؛ فأرسل عمر إلى عامله: أن اقتلهما، فلو اشترك فيه أهل صنعاء كلهم لقتلتهم.
أخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "قتل غلام غيلة، فقال عمر: لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم به".
وأورد الصنعاني في سبل السرم عند شرحه لهذا الحديث، ما أخرجه الطحاوي والبيهقي عن ابن وهب قال: حدثني جرير بن حازم أن المغيرة بن حليمة الصنعاني حدثه عن أبيه: "أن امرأة بصنعاء غاب عنها زوجها، وترك في حجرها ابنا له من غيرها غلاما يقال له أصيل؛ فاتخذت المرأة بعد زوجها خليلا فقالت له: إن هذا الغلام يفضحنا فاقتله، فأبى، فامتنعت منه فطاوعها، فاجتمع على قتل الغلام، الرجل ورجل آخر والمرأة وخادمها، فقتلوه، ثم قطعوا أعضاءه وجعلوه في عيبة وعاء من أدم وطرحوه في ركيبة - بئر لم تطو- في ناحية القرية، ليس فيها ماء، ثم كشف الأمر: فأخذ خليلها فاعترف، ثم اعترف الباقون؛ فكتب علي -وهو يومئذ أمير- بشأنهم إلى عمر رضي الله عنه؛ فكتب عمر بقتلهم جميعا، وقال: والله لو أن أهل صنعاء اشتركوا في قتله لقتلتهم أجمعين".
وروى مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب قتل نفرا خمسة أو سبعة برجل واحد، قتلوه قتل غيلة، وقال عمر:"لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا".
وقد وافق عمر في هذا الحكم عليًا والمغيرة بن شعبة، وابن عباس، وبه قال من التابعين سعيد بن المسيب، والحسن، وعطاء، وقتادة، وهو مذهب مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الرأي.
وخالف في ذلك ابن الزبير؛ فقضى بالدية، وهذا قول الزهري، وابن سيرين وربيعة الرأي، وداوود، وابن المنذر، وهو رواية عن أحمد.
وإنما نشأ الخلاف لعدم ورود نص في ذلك؛ حيث لم يحدث في زمن النبي
صلى الله عليه وسلم أن قتل جماعة واحدا، ولم يؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك قضاء؛ فلما كانت الحادثة زمن عمر اجتهد فيها الرأي حيث لا نص، ووافقه كثير من الصحابة على ذلك.
7-
وفي الجد مع الإخوة، عرضت هذه المسألة للصحابة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يكن له فيها قضاء؛ فاعملوا فيها رأيهم، واختلفت أنظارهم.
فرأى أبو بكر وابن عباس وابن الزبير، ومعاذ بن جبل، وأبو موسى الأشعري، وأبو هريرة، وعائشة وعبادة بن الصامت، وجمع من الصحابة - وهو رأي عمر في أول الأمر ثم رجع عنه أن الجد أولى من الإخوة؛ فإذا وجد معهم حجبهم، فلا يبقى لواحد منهم حظ في الميراث؛ لأنه أقرب إلى الميت منهم، لأنه أب، فيحجب الإخوة كما يحجبهم الأب، ولقد سماه القرآن الكريم أبا في كثير من الآيات كقوله تعالى:{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيم} 1.
ورأي عمر وعثمان، وعلي، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنهم، أن الإخوة والجد كليهما يرث؛ لأنهما يتساويان في درجة القرب؛ إذ كلاهما يدلي إلى الميت عن طريق الأب.
وضرب زيد بن ثابت لذلك مثلا قياسيا؛ فشبه الجد بساق الشجرة وأصلها، والأب بعض منها، والإخوة بفرعين تفرعا عن ذلك الغصن، وأحد الغصنين أقرب إلى الآخر منه إلى الشجرة؛ ألا ترى أنه إذا قطع أحدهما امتص الآخر ما كان يمتصه المقطوع، ولم يرجع إلى الساق.
وحين سأل عمر عليا عن هذا ضرب مثلا آخر، فشبه الجد بالنهر الكبير، والأب بالخليج المأخوذ منه، والميت وإخوته بالساقيتين الممتدتين من الخليج،
1 الحج: 78.