الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حجية السنة الصحيحة سواء أكانت متواترة أم آحادا:
والسنة سواء أكانت متواترة أم أحادا إذا كانت صحيحة توافرت فيها العدالة، وتمام الضبط واتصال السند، والسلامة من الشذوذ والعلة، تكون حجة يجب اتباعها والعمل بها.
أما السنة المتواترة فأمرها ظاهر، لأنها قطعية الثبوت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما ستة الآحاد فإنها وإن كانت ظنية الثبوت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن هذا الظن ترجح بما توافر في الرواة من العدالة وتمام الضبط، وغلبة الظن تكفي في وجوب العمل بها، وأكثر الأحكام مبنية على الظن الراجح ولو التزم القطع في كل حكم من الأحكام العملية لتعذر ذلك وأصاب الناس الحرج.
شبه المخالفين في حجية السنة:
1-
زعم قوم في القديم والحديث أن القرآن الكريم، بدلالاته المختلفة، هو مصدر الأحكام، ويجب الاقتصار عليه وحده، واستدلوا على ذلك بمثل قوله تعالى:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا} 1 وقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} 2.
أما ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان باعتباره إماما للمسلمين، يقدر ما تمليه مصلحتهم، فهو اجتهاد منه، يتغير تبعا للمصلحة، وليس تشريعا عاما للمسلمين في جميع الأزمنة والأحوال، ولو كانت السنة تشريعا لأمر رسول الله بتدوينها، كما أمر بذلك في القرآن، وإنما ثبت عنه النهي عن كتابتها حيث قال:"لا تكتبوا عني، ومن كتب غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج ومن كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"3.
فلما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعه قال: "إيتوني بكتاب أكتب
1 المائدة: 3
2 النحل: 89.
3 رواه مسلم.
لكم كتابا لن تضلوا بعده" قال عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله، حسبنا"1.
وبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم للقرآن في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2. يراد به ما تواتر عنه عمليا، كهيئة الصلاة، وكيفة الحج، ونحو ذلك وما عدا هذا مما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير فإنه إن صحت روايتهق يكون من قبيل الاجتهاد الذي يتغير تبعا للمصلحة، وليس تشريعا عاما دائما.
وهذه شبهة واهية، فإن اتباع السنة اتباع للقرآن، حيث أمرنا الله باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا معنى لاتباع رسوله بعد وفاته سوى اتباع ما صدر عنه، وصحت نسبته إليه، وقوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم} أي أكملت لكم ما تحتاجون إليه من أصول الحلال والحرام، والقواعد التي تقوم عليها شئون الحياة في جوانبها المختلفة، ولا يعنى هذا تفصيل الأحكام وكذلك قوله تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} أي إن جماع ما أبانه الله لخلقه، من أصول الدين، وقواعد الأحكام في كتاب الله، ولكن تفصيل ذلك هو ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو معنى قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} ولو لم نأخذ من أحكام الشريعة إلا ما جاء في القرآن لما لزمنا في الصلاة إلا ركعة، ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل، وأخرى عند الفجر، لأن هذا هو أقل ما يقع عليه اسم صلاة:{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} 3 ومن أين لنا معرفة ركعات الصلاة، ومقادير الزكاة، وتفاصيل شعائر الحج، وسائر أحكام العبادات والمعاملات، فإن قالوا: إن السنن العملية المتواترة هي التي يعمل بها ومن ذلك الصلاة ونحوها..
1 رواه مسلم
2 النحل: 44
3 الإسراء: 78.
قلنا: وسنة المسلمين العملية المتواترة من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، هي الاستدلال على الأحكام الشرعية بما صح من السنة، وقد اتفق علماء المسلمين الذين يعتد بهم على أن السنة هي الأصل الثاني للأدلة الشرعية.
2-
وأنكر بعضهم حجية خبر الآحاد، لأنه يفيد الظن، وقالوا: إنه لا يجوز أن يتعبدنا الله بالظن.
وأجيب عن ذلك بأن الدلائل تقطع بوجوب العمل بخبر الواحد. إذا صحت نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أ" يقول تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} 1 والطائفة من الشيء بعضه، وتقع في لغة العرب على الواحد فصاعدا، ولو لم يكن إنذار الطائفة المتفقهة حجة توجب العمل بنذارتها، لما اكتفى الله تعالى بها في الآية، وإذا وجب قبول نذارة العدل النافر للتفقه في الدين، فإنه يجب قبول رواية العدل الحافظ لما تفقه فيه.
ب- والمتواتر المجمل قطعي الثبوت، ولكنه ظني الدلالة، وقد قلتم بوجوب قبوله، وهذا يعني وجوب العمل بالظني، وأن الله تعبدنا به.
جـ- وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رسله آحادا إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، ولو لم تقم بهم الحجة في البلاغ لكان إرسالهم عبثا، والثاني باطل، فبطل ما أدى إليه، وثبتت حجية خبر الآحاد، فكل ما نقله الثقة عن الثقة يبلغ به رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب قبوله واعتقاده والتدين به.
د- ووجوب العمل عند ظن مالصدق معلومفي الشرع، كالحكم بشهادة اثنين، والحكم بالشاهد الواحد مع يمين المدعى، والحكم بيمين المدعى مع نكول المدعى عليه، فكذلك يجب العمل بخبر الواحد عند ظن صدقه.
1 التوبة: 122.
هـ والعمل بخبر الواحد ليس تعبدا للظن، إنما جعل خبر الواحد العدل علامة على صدق ما أخبر به، ولسنا متعبدين بالعلم بصدقه، ولكن بالعمل عند ظن صدقه، كما جعلت رؤية هلال رمضان من الآحاد علامة على وجوب صوم شهر رمضان.
3-
وذهب المستشرقون وعلى رأسهم شيخهم اليهودي المجري "جولد تسيهر" إلى إن السنة لم تدون إلا بعد أن اشتد النزاع بين الأمويين وخصومهم من آل البيت والزبيرين على السواء، فاخترع كل فريق من الأحاديث ما يدعم به رأيه، وما يكون حجة ضد خصمه، واستغل الأمويون بدهائهم الإمام الزهري في ذلك، ولم يقتصر الأمر على وضع أحاديث سياسة لصالح البيت الأموى، بل تعداه في أمور العبادات.
وأجيب عن ذلك بأنه اتهام كاذب للخلفاء الأمويين، ولعلماء الإسلام جميعا، يناقضه الواقع الذي عرف عنهم، فعبد الملك بن مروان، الذي كتب الزهري السنة في عهده ذكر ابن سعد وغيره من أصحاب السير عنه، أنه كان صاحب نسك وتقوى منذ نعومة أظفاره، حتى كان الناس يلقبونه بحمامة المسجد، وفي عهده تمت الفتوحات الإسلامية العظيمة.
والزهري وقرناؤه من العلماء لم يكونوا لعبة في يد حاكم، بل عرف عنهم من التقوى والاعتزاز بالإسلام مايؤكد أن أحدا منهم لم يتخذ مطية لهوى سلطان يكتسب به رضاه ويبوء بسخط من الله.
وكان ابن شهاب الزهري أعلم الناس بالسنة في عصره، قال فيه سفيه بن عيينه: لم يكن في الناس أحد أعلم بالناس من الزهري، وقال يحيى بن سعيد القطان: ما بقي عند أحد من العلم ما بقي عند ابن شهاب، وهو أول من سبق إلى تدوين السنة وجميعها بعد أن كتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله بالمدينة أبي بكر بن حزم، وإلى ولاته بالأمصار أن يجمعوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أبا بكر بن حزم لم يجمع إلا جزءا يسيرا، أما الذي ثابر على الجمع وتوافر عليه وعرف عنه ذلك فهو الزهري.
وأجمع علماء الجرح والتعديسل على توثيقه وأمانته وجلاله قدره في الحديث وما زعمه "جولد تسيهر" من صلته بالأمويين واستغلاله في وضع أحاديث موافقة لأهوائهم محض افتراء لا يليق برجل كالزهرى في أمانته وروعه، فإذا اتصل بالخلفاء أو اتصلوا به فلا يؤثر هذا الاتصال عليه إلا بالقدر الذي يقول به نحوهم من النصح في الدين، والتذكير بحقوق الأمة عليهم، وما ألقاه الله على عاتقهم من واجبات لرعيتهم، وما يقوم به كذلك من تأديب لأولادهم حتى يكونوا أسوة حسنة لغيرهم.
4-
وتحامل بعض الكاتبين ولا سيما المحدثين، كأحمد أمين في كتابه "فجر الإسلام" وأبي رية في كتابه "أضواء على السنة المحمدية" على أبي هريرة، وقالوا: إنه أكثر الصحابةحديثا، ولم يكن يكتب، بل كان يحدث من ذاكرته، وإنه لم يكن يقتصر على ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان يحدث عنه بما سمعه من غيره، وأن بعض الصحابة قد انتقده وشك في صدقه، وإنه كان محتقرا متهما في إسلامة متشيعا لبني أمية.
وأجيب عن هذه الادعاءات:
بأن كثرة مرويات أبي هريرة ترجع إلى ما آل إليه أمره من قوة الذاكرة، فقد كان كما روى أئمة الحديث سيء الحظ حين أسلم، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له:"افتح كساءك" فبسطه، ثم قال له: ضمه إلى صدرك" فضمه، فما نسى حديثا بعده قط، وقال ابن حجر- بعد أن ساق ذلك: والحديث المذكور من علامات النبوة، فإن أبا هريرة كان أحفظ الناس للأحاديث النبوية في عصره.
وكان أبو هريرة أكثر الصحافة ملازمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فاطلع على ما لم يطلع عليه غيره من أقوال الرسول وأعماله، وقال الإمام الشافعي: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره. وقال الحاكم: كان من أحفظ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وألزمهم له صحبة.
وأما أنه لم يكن يكتب الحديث بل كان يحدث من ذاكرته، فذلك شأن عامة الصحابة، إلا القليل منهم كعبد الله بن عمرو بن العاص ممن كان يكتب لنفسه، وقد كان العرب أمة أمية، فاستعاضت عن الكتابة في السطور بالحفظ في الصدور.
وأما أنه كان يحدث عن رسول الله ماسمعه من غيره، فهذا لم ينفرد به أبو هريرة، بل شاركه فيه صغار الصحابة، ومن تأخر إسلامه، فإنهم اسندوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعوه من صحابته، ولم يجدوا حرجا في ذلك، لأن الصحابة عندهم عدول، ولذا ذهب العلماء إلى الاحتجاج بمرسل الصحابي، وأن حكمه حكم المرفوع.
وأما ما روى من نقد لبعض الأحاديث التي رواها، والتشكيك في صدقه، فإنه لم يصح شيء من ذلك، وقد أجمع السلف على تعديل الصحابة، ولم يعرف أن أحدا منهم كان يكذب الآخر أو يشك في صدقه، والذي صح في ذلك إن دل على شيء إنما يدل على التعجب من كثرة ما رواه أبو هريرة من أحاديث وبيان أبي هريرة لسبب ذلك، والتعجب من الأمر لا يكون تكذيبا له، أو تشكيكا في صحته. روى مسلم في صحيحه أن أبا هريرة قال:"إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكان الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم".
وأما ما ذكره أبو رية من أنه كان محتقرا اختلفوا في اسمه، متهما في إسلامه، متشيعا لبني أمية، فإنه محض افتراء وتشويه للحقائق فإن الاختلاف في اسم الرجل لا يحقر من شأنه، فالمرء يقدر بعلمه لا باسمه ولقبه، وقد اختلف المؤرخون في أسماء كثير من الصحابة ولم يغض ذلك من شأنهم، ولم يحط من قدرهم.
وكان إسلام أبي هريرة إسلاما خالصا لله كإسلام الصحابة جميعا، لازم رسول