الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عليه، وكان من قبل يفتي للضرورة دون أن يتخذ لنفسه مجلسا يقصده طلاب العلم للأخذ عنه، فلما ذاع ذكره في الآفاق الإسلامية، وقصده الناس للسؤال عن الحديث والفقه، جلس للدرس والإفتاء في المسجد الجامع ببغداد، وكثر الازدحام عليه حتى ذكر بعض الرواة أن عدة من كانوا يستمعون إلى درسه نحو خمسة آلاف مما يدل على مدى ما وصلت إليه مكانته.
والذي جاء في "تاريخ الذهبي" و"المناقب" لابن الجوزي، يدل على أن مجلسه تميز بالوقار والسكينة، وأنه كان يسأل عن الأحاديث المروية في الموضوع، فيتحرى النقل من كتبه غالبا دون أن يعتمد على الحفظ وحده، وأنه كان يرى أن علم الدين هو علم الكتاب والسنة، فلا يسمح بتدوين فتاواه الفقهية، ويعتبر تدوين آراء الناس في الدين من البدع.
محنته:
دعا المأمون الفقهاء والمحدثين إلى القول بخلق القرآن كما يقول أصحابه من المعتزلة، وأراد أن يحمل أحمد على أن يقول مقالته في خلق القرآن، فأبي أن يواقه، وكان ذلك سببا في إيذائه في عصر المأمون، وتوالى هذا الإيذاء بوصية منه في عصر المعتصم والواثق.
والذي يروى أن أول من قال إن القرآن مخلوق هو "الجعد بن درهم" في العصر الأموي، فقتله "خالد بن عبد الله القسري" يوم الأضحى بالكوفة،، وقد أتى به مشدودا في الوثائق عند صلاة العيد، فصلى خالد وخطب، ثم قال في آخر خطبته:"اذهبوا وضحوا بضحاياكم تقبل، فإني أريد أن أضحى بالجعد بن درهم، فإنه يقول: ما كلم الله موسى تكليما، ولا اتخذ الله إبراهيم خليلا، تعالى الله عما يقول علوا كبيرا"، ثم نزل وقتله.
وقال مثل ذلك القول: "الجهم بن صفوان" ولما جاء المعتزلة ونفوا صفات
المعاني، أنكروا أن يكون الله سبحانه وتعالى متكلما، وقالوا: إن الله يخلق الكلام كما يخلق كل شيء، فكانت دعواهم أن القرآن مخلوق لله، واشتد خوض المعتزلة في ذلك، حتى جاء المأمون واتخذ حاشية منهم، وقربهم حيث كان تلميذا لأبي الهذيل من رؤوس المعتزلة.
وقد طلب المأمون من نائبه في بغداد "إسحاق بن إبراهيم" استدعاء الفقهاء والمحدثين ليحملهم على أن يقولوا إن القرآن مخلوق، فأحضرهم ومنهم أحمد بن حنبل، وأنذرهم بالعقوبة الشديدة ولكن الله ربط على قلوب قلة منهم، آثروا الباقية على الفانية، فأصروا على موقفهم وإبائهم، وفي مقدمتهم أحمد بن حنبل، الذي ظل صابرا حتى النهاية، يكبل بالحديد ويحبس ويؤذى حتى مات المأمون ولكن موته لم ينه المحنة بل ابتدأت في دور أقسى وأشد لأنه أوصى أخاه المعتصم بهذه المقالة من بعده، فسيق أحمد مصفدا إليه، بعد أن ولى الخلافة، وضرب بالسياط المرة بعد المرة، إلى أن يغمى عليه، واستمر حبسه نحوا من ثمانية وعشرين شهرا، ثم أطلق سراحه، وعاد إلى بيته وقد أثخنته الجراح، ولما استجم مما ألم به واصل درسه بالمسجد حتى مات المعتصم، وجاء الواثق، فأشار عليه "أحمد ابن أبي دؤاد" زعيم القول بخلق القرآن حينئذ الذي كان يسمى أمثال أحمد حشو الأمة، بألا يضرب أحمد كما فعل المعتصم، لأن هذا زاده منزلة عند الناس، وأن يكتفي بمنعه من الاجتماع والخروج للدرس، فانقطع أحمد عند الدراسة مدة تزيد عن خمس سنوات إلى أن مات الواثق سنة 232هـ "اثنتين وثلاثين ومائتين"، ثم عاد إلى الدرس مكرما عزيزا.
وكان أحمد يرفض عطاء الخلفاء، عرض عليه المتوكل مالا كثيرا بعد انتهاء محنته، وألح في العرض فأصر أحمد على الامتناع، وأن أكره على أخذ شيء فإنه كان يوزعه على الفقراء والمحتاجين، ورضي أحمد طوال حياته بعيشة الكفاف زاهدا تقيا.