الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تاريخ تشريع بعض الأحكام:
سبق أن أشرنا إلى أن التشريع المكي جاء بالأصول والقواعد التي بني عليها التشريع المدني، وأن المدني جاء بتفصيل الأحكام المبنية على المكي - وإليك تاريخ تشريع بعض هذه الأحكام:
أولا - في العبادات:
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا، إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} 1 ثم قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} 2 فذهب بعض العلماء إلى أن الصلاة كله كانت مفروضة، ثم نزل التخفيف بعد ستة عشر شهرا، بما جاء في آخر السورة {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ....} بفرض قيام بعض الليل.
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم: أن فرض قيام الليل كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة وأنه صلى الله عليه وسلم مكث على هذه الحال عشر سنين، يقوم الليل كما أمره الله، وكان طائفة من أصحابه يقومون معه، فأنزل الله تعالى عليه بعد عشر سنين، {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} إلى قوله:{وَأَقِيمُوا الصَّلاة} فخفف الله عنهم بعد عشر سنين، ثم نسخ ذلك بما فرضه الله ليلة الإسراء والمعراج من الصلوات الخمس.
1 المزمل: 1- 6.
2 المزمل: 20.
وقيل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في أول البعثة ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، وعلى هاتين الصلاتين تحمل الآيات المكية التي ورد فيها ذكر الصلاة، كآية {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُون} 1.
وقد اتفق العلماء على أن فرض الصلوات الخمس كان ليلة الإسراء والمعراج قبل الهجرة بسنة، وأنها كانت خمسين، ثم خففت وصارت خمسا، كما روى في حديث الإسراء والمعراج.
وصح عن عائشة رضي الله عنها: أن الصلوات الخمس فرضت ركعتين، ثم زيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر.
2-
أما أوقات الصلوات الخمس فقد جاءت مجملة في قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} 2 وجاء في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمني جبريل عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر في الأولى منهما حين كان الفيء مثل الشراك، ثم صلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله، ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم. ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى الفجر حين بقرق الفجر وحرم الطعام على الصائم. وصلى في المرة الثانية الظهر حين صار ظل كل شيء مثله لوقت العصر بالأمس، ثم صلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله، ثم صلى المغرب لوقت الأولى، ثم صلى العشاء الأخيرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين أسفرت الأرض، ثم التفت إلى جبريل وقال: يا محمد، هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين "[رواه أبو داوود وابن ماجه والترمذي وقال: هذا حديث حسن، وأصله في الصحيحين] .
1 المؤمنون: 1، 2.
2 الروم: 17، 18.
3-
وأصل مشروعية الطهارة كان بمكة وفي سورة المدثر - وهي أول سورة نزلت بعد "أقرأ"{وَثِيَابَكَ فَطَهِّر} 1 والتطهير لفظ عام يتناول الطهارة الحسية والطهارة المعنوية كما ذكر المفسرون، وهذا أصل في طهارة الثوب والبدن والمكان، وفي القرآن الكريم المكي {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} 2 وثبت عند أهل السير قصة إسلام عمر، وأن أخته منعته من مس الصحيفة حتى اغتسل، وهذا أصل في الغسل لموجبه، وجماع هذه النصوص يدل على وجوب إزالة النجاسة.
أما الوضوء فكان قريبا لفرض الصلاة، إذ لا يتأتي صلاة بدون وضوء. فيكون فرض الوضوء قبل الهجرة عقب فرض الصلاة وذهب ابن حزم أن الوضوء لم يشرع إلا بالمدينة محتجا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ
…
} 3 فإنه الآية مدنية لذكر التيمم فيها.
وذهب بعضهم إلى أن الوضوء قبل الهجرة كان مندوبا ثم فرض بالمدينة، وبهذا بمكن الجمع بين الرأيين.
4-
وفرضت صلاة الجمعة قبل الهجرة، فإنه بعد أن كانت بيعة العقبة وبايع القوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث معهم مصعب بن عمير، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين، فكان يسمى المقريء بالمدينة. وكان نزوله على أسعد بن زرارة كان يصلي بهم. واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الجمعة فأذن له. فأقامها في المدينة قبل الهجرة، وأخرج الطبراني أن أول من جمع بالمدينة مصعب بن عمير.
1 المدثر: 4.
2 الواقعة: 79.
3 المائدة: 6
وأخرج أبو داود وابن ماجه وابن حبان والبيهقي أن أول من جمع بهم أسعد بن زرارة.
وجمع الحافظ ابن حجر الروايتين بأن أسعد كان أميرا ومصعبا كان إماما.
أما آية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} 1فهي مدنية، وقد نزلت بعد فرضية الجمعة لتأكيد ما أثبتته السنة بالقرآن، والتنصيص على ترك البيع وقتها.
قال ابن كثير في تفسيره، وإنما سميت الجمعة جمعة لأنها مشتقة من الجمع، فإن أهل الإسلام يجتمعون فيه كل أسبوع مرة بالمعابد الكبار، وفيه كمل جميع الخلائق، فإنه اليوم السادس من الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض، وفيه خلق آدم. وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها. وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه، كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحيحة، وثبت أن الأمم قبلنا أمروا به فضلوا عنه، واختار اليهود يوم السبت الذي لم يقع فيه خلق آدم، واختار النصارى يوم الأحد الذي ابتدئ فيه الخلق، واختار الله لهذه الأمة يوم الجمعة الذي ابتدئء الخليقة، كما أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم إن هذا يومهم الذي فرض الله عليه فاختلفوا فيه فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا والنصارى بعد غد".
وعلى هذا فتسمية يوم الجمعة إسلامية، وقيل سماه بها كعب بن لؤي في الجاهلية.
5-
ومشروعية الخطبة كانت في السنة الأولى من الهجرة، كما روى ابن إسحاق، وأورد أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قام فيهم
1 الجمعة: 9
فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: "أما بعد: أيها الناس قدموا لأنفسكم، تعلمن والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس راع، ثم ليقولن له ربه وليس ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه.... " قال إبن إسحاق: ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس مرة أخرى، فقال:"إن الحمد لله، أحمده وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له....".
وقيل: كان هذا في في المسجد النبوي لأول بنائه، وقيل بقباء، ومن ذلك الحين شرعت الخطب في الإسلام.
6-
كما شرع الأذان في السنة الأولى من الهجرة، وهو اللفظ المعلوم المشروع في أوقات الصلوات للإعلام بوقتها، فإنهم كانوا يتحينون وقت الصلاة فيجتمعون لها، فلما كثروا شاورا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فيما يتخذ للإعلام بدخول الوقت، فأشار بعضهم باتخاذ الناقوس كالنصارى، وبعضهم بالبوق كاليهود، وبعضهم بإيقاد النار، فرأى عبد الله بن زيد بن عبد ربه الخزرجي رؤياه التي قصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا رؤيا حق، فأمر بلالا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة. ورأي عمر مثل رؤيا عبد الله كذلك.
والأصل في مشروعية الأذان ما رواه ابن إسحاق بسنده، عن عبد الله بن زيد، وأخرجه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح: قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل ليضرب به الجمع الناس للصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسا في يده، فقلت: يا عبد الله. .. أتبيع الناقوس؟ فقال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت له: بلين فقال: تقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي
على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. قال: ثم استأخر عني غير بعدي، ثم قال: تقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت، فقال: إنها رؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت، فليؤذن به، فإنه أندى صوتا منك: فقمت مع بلال، فجعلت ألقيه عليه، ويؤذن به، فسمع ذلك عمر بن الخطاب منك فقمت مع بلال، فجعلت ألقيه عليه، ويؤذن به، فسمع ذلك عمر بن الخطابس رضي الله عنه وهو في بيته فخرج يجر رداءه، فقال: يا رسول الله.... والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي رأي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فلله الحمد".
7-
وشرعت صلاة العيدين في السنة الثانية من الهجرة، حيث قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كما روى أبوداد والنسائي ولهم يومان يلعبون فيهما. فقال:"أبد لكم الله تعالى بهما خيرا منهما: يوم الفطر ويوم الأضحى" وتبع ذلك مشروعية الأضحية، وفيما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث جابر قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيد الأضحى، فلما انصرف أتي بكبش فذبحه فقال:"بسم الله والله أكبر. اللهم إن هذا عني وعن من لم يضح من أمتي" وروى أحمد عن أبي رافع: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ضحى اشترى كبشين سيمنين أقرنين أملحين. فإذا صلى وخطب الناس أتى بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدينة، ثم يقول: اللهم هذا عن أمتى جميعا، من شهد لك بالتوحيد، وشهد لي بالبلاغ، ثم يؤتي بالآخر فيذبحه بنفسه ويقول: هذا عن محمد وآل محمد، فيطعمهما جميعا المساكين، ويأكل هو وأهله منهما، فمكثنا سنين ليس لرجل من بني هاشم يضحى، قد كفاه الله المؤنة برسول الله صلى الله عليه وسلم والغرم".
8-
وفي السنة الثانية الهجرة كان تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت وكان يكثري النظر إلى السماء ينتظر أمر الله، فأنزل الله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي
السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} 1 وكانت أول صلاة صلاها إلى الكعبة صلاة العصر، وقد ارتاب من ذلك اليهود وأهل النفاق وقالوا:{مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} ؟ فأنزل الله {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِب} 2. وأنزل {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} 3.
9-
وكانت بداية مشروعية الصيام عقب الهجرة حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسم المدينة فصام يوم عاشوراء قبل أن يفرض صيام رضمان فقد أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدين’ فرأي اليهود تصوم عاشوراء فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، نجي الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم، فصامه، وقال:"أنا أحق بموسى منكم" فصامسه وأمر بصيامه.
وفي رواية فقال لهم: "ما هذا اليوم الذي تصومون؟ " قالوا: هذا يوم عظيم أنجي الله فيه موسى وقومه، وغرق فيه فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا، فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فنحن أحق وأولى بموسى منكم" فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه.
ثم فرض صيام شهر رمضان في العام الثاني من الهجرة وأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 4.
1 البقرة: 144.
2 البقرة: 142.
3 البقرة: 115.
4 البقرة: 183- 185.
فلما فرض رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه" أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عمر.
10-
وشرعت زكاة الفطر على الأبدان في السنة الثانية من الهجرة قبل أن تفرض زكاة الأموال. لما رواه النسائي عن قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا ولم ينهنا، ونحن نفعله".
واختلفوا في حكمها:
فذهب الجمهور إلى أنها فرض لحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين".
وقال الحنفية بالوجوب دون الفرضية بناء على قاعدتهم في التفرقة بين الفرض والواجب، إذ لا يوجد دليل قاطع تثبت به الفرضية.
وقال أشهب من المالكية، وابن اللبان من الشافعية، وأهل الظاهر: إنها سنة مؤكدة.
11-
واختلفوا في الوقت الذي فرضت فيه زكاة الأموال:
فذهب أكثر العلماء إلى أن ذلك كان بعد الهجرة.
وقال ابن خزيمة: إنها فرضت قبل الهجرة.
واختلف الأولون:
فقال النووي: إن ذلك كان في السنة الثانية من الهجرة، وعليه أكثر العلماء.
وقال ابن الأثير: إنها فرضت في التاسعة، قال ابن حجر في الفتح: وفيه نظر، لأنها ذكرت في حديث ضمام بن ثعلبة المتفق عليه، وقدوم ضمام كان سنة خمس، وفي عدة أحاديث، وكذا في مخاطبة أبي سفيان مع هرقل، وكانت في أول السابعة، وقال فيها: يأمرنا بالزكاة.
ولعل مراد ابن الأثير من أنها في التاسعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث العمال لقبضها في هذه السنة، فهو الذي تأخر إلى التاسعة.
وحديث ضمام بن ثعلبة في البخاري ومسلم عن أنس بن مالك قال: "نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية فقال: يا محمد
…
أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك، قال: صدقن قال: من خلق السماء؟ قال: الله، قال: فمن خلق الأرض؟ قال: الله. قال فمن نصب هذه الجبال، وجعل فيها ما جعل؟ قال: الله. قال: فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال آلله أرسلك؟ قال: نعم. قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا. قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قال: وزعم رسولك أن علينا الزكاة في أموالنا، قال: صدق، قال: فبالذي أرسك الله أمرك بهذا؟ قال نعم: قال: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا، قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك الله آمرك بهذا؟ قال: نعم، قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا، قال: صدق: قال: ثم ولى، قال: والذي بعثك بالحق لا أريد عليهن ولا أنقص منهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لئن صدق ليدخلن الجنة" وهذا اللفظ لمسلم.... والرجل الذي جاء من أهل البادية اسمه ضمام بن ثعلبة كما جاء مسمى في رواية البخاري وغيره، ففي رواية البخاري:"فقال الرجل: آمنت بما جئت به" وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر".
12-
واختلفوا في قصر الصلاة في السفر:
فذهب جماعة إلى أن قصر الصلاة هو الأصل، ثم زيد في صلاة الحضر، فصارت أربعا عدا صلاة الفجر لطول القراءة فيها، والمغرب لكونها وترا للنهار، وأقرت صلاة السفر على ما كانت عليه، وفي حديث عائشة المتفق عليه بألفاظ منها:"فرضت الصلاة ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر".
وذهب آخرون إلى أن قصر الصلاة في السفر وصلاة الخوف شرعا معا في السنة الرابعة في غزوة ذات الرقاع، وقد نزل قول الله تعالى:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} 1.
وذهب أكثر أهل السير إلى أن غزوة ذات الرقاع "2" كانت بعد بني النضير وقيل خيبر، وقبل الخندق سنة أربع. وذكر بعضهم أنها كانت بعد بني قريطة والخندق سنة خمس.
13-
وشرع التيمم في السنة الرابعة من الهجرة لفاقد الماء حقيقة أو حكما بدلا عن الغسل والوضوء، وذلك في غزوة المريسيع، حيث فقدت عائشة رضي الله عنها عقدها، أخرج البخاري وغيره عن عائشة قالت:"خرجنا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقدي، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر. وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي فلا يمنعنى من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم، فتيمموا. فقال أسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر؟ قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فأصبنا العقد تحته".
1 النساء: 101.
2 ذات الرقاع: قال النووي: هي غزوة معروة كانت سنة خمس من الهجرة بأرض غطفان من نجد، سمت ذات الرقاع لأن أقدام المسلمين نقبت من الحفاء فلفوا عليها الحزق، وقيل غير ذلك.
والمراد بآية التيمم الآية التي في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} 1 أما آية المائدة فإنها متأخرة النزول، لأن المائدة من أواخر ما نزل.
14-
وكانت العمرة، كما كان الحج، مشروعين منذ شرعة إبراهيم عليه السلام، وأول عمرة اعتمرها برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة كانت عمرة الحديبية سنة ست، حيث صده المشركون عن البيت، فنحر البدن، وحلق هو وأصحابه رؤوسهم، وحلوا من إحرامهم، ورجع من عامه إلى المدينة.
ثم كانت عمرة القضية في العام المقبل سنة سبع، فدخل مكة وأقام بها ثلاثا، ثم خرج بعد إكمال عمرته.
واختلف، هل كانت قضاء للعمرة التي صد عنها في العام الماضي أو عمرة مستأنفة؟ على قولين للعلماء: أحدهما أنها قضاء، والثاني أنها ليست بقضاء.
احتج الأولون بأنها سميت عمرة القضاء، وهذا الاسم تابع للحكم.
واحتج الآخرون بأنها المقاضاة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضي أهل مكة عليها، وليست من قضي يقضي قضاء، والذين صدا عن البيت كانوا ألفا وأربعمائة، وهؤلاء كلهم لم يكونوا معه في عمرة القضية، ولو كانت قضاء لم يتخلف منهم أحد، ولم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان معه بالقضاء. ثم كانت عمرته الثالثة من الجعرانة سنة ثمان لما خرج إلى حنين، ثم رجع إلى مكة، فإنه اعتمر من الجعرانة داخلا إليها.
1 النساء: 43.
ثم كانت عمرته صلى الله عليه وسلم الرابعة التي قرنها مع حجته، فإنه كان قارنا في أصح الأقوال، وذلك سنة عشر.
واختلفوا في مشروعية الحج في الإسلام:
فقيل: شرع في السنة السادسة عام الحديبية حين نزلت الآية: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه} 1 ولقد نزلت بالحديبية سنة ست.
وأجيب عن ذلك بأن الآية ليس فيها ابتداء فرض الحجن وإنما فيها الأمر بإتمامه إذا شرع فيه، وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء.
وقيل: شرع الحج في السنة الرابعة، لأن قوله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} 2 نزل عام الوفود، وهو العام الرابع من الهجرة، وقد نزل صدر سورة آل عمران في وفد نجران.
وقيل: شرع الحج في أواخر سنة تسع، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على الحج، وأمره أن يؤذن في الناس: ألا لا يحج بعد العام مشرك. ولا يطوف بالبيت عريان، ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه، بعلي رضي الله عنه، وأمره أن يؤذن بصدر سورة براءة، لينبذ إلى كل ذي عهد عهده، وكان ذلك توطئة لحج رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة حتى لا يقترن حجة بشائبة من شوائب الشرك.
وقيل: شرع الحج في السنة العاشرة فبادر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحج، وما كان له أن يؤخر الحج بعد فرضه.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: اختلفوا في وقت ابتداء فرضه: فقيل: قبل الهجرة، وهو شاذ، وقيل بعدها، ثم اختلف في سنته، فالجمهور على أنها سنة ست، لأنها نزل فيها قوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه} وهذا ينبني على أن المراد بالإتمام ابتداء الفرض، ويؤيده قراءه علقمة ومسروق وإبراهيم النخعي
1 البقرة: 196.
2 آل عمران: 97.
بلفظ: "وأقيموا" أخرجه الطبري بأسانيد صحيحة عنهم، وقيل: المراد بالإتمام الإكمال بعد الشروع، وهذا يقتضي تقدم فرضه قبل ذلك. وقد وقع في قصة ضمام ذكر الأمر بالحج، وكان قدومه على ما ذكر الواقدي سنة خمس، وهذا يدل إن ثبت - على تقدمه على سنة خمس أو وقوعه فيها".
ورجع ابن القيم في زاد المعاد أن يكون فرض الحج سنة تسع أو عشر.
أما أحكام المحصر فقد كانت في السنة السادسة عام الحديبية حين حال المشركون بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والوصول إلى البيت، وفي ذلك نزل قوله تعالى:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} 1.
كما كانت حرم مكة في السنة الثامنة عند الفتح:
أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "لا هجرة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا" وقال يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها. ولا يختلي خلاه" فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر، فإنه لقينهم وبيوتهم، فقال:"إلا الإذخر".
15-
وشرع وجوب ستر العورة في السنة التاسعة، فقد روى مسلم وغيره عن ابن عباس قال: كانت المرأة تطوف بالبيت عريانة وتقول: من يعيرني تطوافا؟ تجعله على فرجها، وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله
…
وما بدا منه فلا أحله.
فنزلت هذه الآية: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِد} 2.
1 البقرة: 196.
2 الأعراف: 31.
وصح أن العرب كانت تطوف بالبيت عراة إلا الحمس1 والحمس قريش وما ولدت، وكان سائر العرب يطوفون بالبيت عراة لاعتقادهم أن ثيابهم مدنسة، وأن ثياب قريش طاهرة، فإذا لم يعطهم الحمس ثيابا طافوا عراة، حتى نزلت الآية:{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا يطوف بالبيت عريان" كما منع المشركون من دخول مكة بنزول سورة براءة.
16-
وشرعت صلاة الكسوف في السنة العاشرة يوم مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن المغيرة بن شعبة قال: انكسفت الشمش على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم، فقال الناس: انكسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فادعو الله وصلوا، حتى ينكشف"[متفق عليه] .
وفي رواية بلفظ: "إن الشمس والقمر لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته. ولكنهما آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، فإذا رأيتموها فافزعوا إلى الصلاة" ثم صلى بهم جماعة صلاة الكسوف على الكيفية المذكورة في كتب السنة، وإنما قالوا: إنها كسفت لموت إبراهيم لأنها كسفت في غير يوم كسوفها المعتاد، فإن كسوفها كما قال أبو داوود كان في اليوم العاشر أو الرابع من شهر ربيع الأول، والمعتاد أن يكون كسوفها في الرابع عشر، فلذا قالوا: إنما هو لأجل هذا الخطب العظيم، فرد عليهم صلى الله عليه وسلم ذلك. وأخبرهم أن كسو الشمس وخسوف القمر علامتان من العلامات الدالة على وحدانية الله تعالى وقدرته، وعلى تخويف عباده من بأسه وسطوته: قال تعالى {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} 2.
1 الحمس: جمع أحمس، سموا حمسا لأنهم تشددوا في دينهم، والحماسة، الشجاعة.
2-
الإسراء: 59.
وقوله: "لحياته" مع أنهم لم يدعوا ذلك لبيان أنه لا فرق بين الأمرين، فكما أنهم لا يقولون بكسوفهما لحياة أحد كذلك لا يكسفان لموته.
ثانيا- في المعاملات:
1-
كان تحريم التطفيف في الكيل والوزن من أول ما نزل في المعاملات بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة: أخرج النسائي وابن ماجه عن طريق على بن الحسين بن واقد متصلا عن ابن عباس قال: "لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وكانوا من أخبث الناس كيلا أنزل الله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِين} 1 فحسنوا الكيل بعد ذلك" والتطفيف: البخس في المكيال والميزان إما بالازدياد إن اقتضى من الناس، وإما بالنقصان إن قضاهم، وبهذا فسره الحق تبارك وتعالى:{الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} 2.
2-
وشرع للحاكم العادل في السنة الرابعة من الهجرة أن يقطع بعض الأفراد من الأرض الميتة والمعادن والمياه ما دامت هناك مصلحة، أما أن يقطعهم محاباة لهم بغير حق ولا مصلحة - كما يفعل بعض الحكام اليوم - فإنه جور لا يجوز.
وقد دلت الآثار على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع أقواما، وأن الخلفاء من بعده أقطعوا، ورأي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاح فيما فعل من ذلك، إذ كان فيه تأليف على الإسلام، وعمارة للأرض، وكذلك الخلفاء إنما أقطعوا من رأوا أن له غناء في الإسلام، ونكاية للعدو، ورأوا أن الأفضل ما فعلوا.
أخرج أبو داود عن ابن عمر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير حضر فرسه، فأجرى فرسه حتى قام، ثم رمى بسوطه فقال: أعطوه من حيث بلغ السوط"3.
1 المطفقين: 1.
2 المطففين: 2، 3.
3 الحضر: بضم الحاء المهملة وسكون الضاد المعجمة فراء: العدو. وحضر فرسه: أي قدر ما تعدو عدوة واحدة "حتى قام" أي وقف فرسه ولم يقدر أن يمشي.
وفي البخاري عن أسماء بنت أبي بكر قالت: "كنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه الرسول صلى الله عليه وسلم على رأسي، وهو مني على ثلثي فرسخ".
قال في سبل السلام: وأخرجه أحمد من حديث أسماء بنت أبي بكر وفيه أن الإقطاع كان من أموال بني النضير.
وإنما يقطع الحاكم من أجل المصلحة، فإذا لم تتحقق بأن لم يعمرها من أقطع له ولم يستثمرها فإنها تنزع منه إن تركها ثلاث سنين كما جاءت بذلك الآثار.
عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع لأناس من مزينة أو جهينة - أرضا فلم يعمروها فجاء قوم فعمروها، فخاصمهم الجهينون - أو المزينون - إلى عمر بن الخطاب فقال: لو كانت مني أو من أبي بكر لرددتها، ولكنها قطيعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: من كانت له أرض ثم تركها ثلاث سنين فلم يعمرها فعمرها قوم آخرون فهم أحق بها".
3-
وكانت مشروعية الوقف في السنة السابعة من الهجرة بعد أن قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة خيبر، واصاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه سهما منها، فاستشار عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في سهمه، فأشار عليه بحبسه في سبيل الله.
أخرج ابن أبي شيبة" أن أول حبس في الإسلام صدقة عمر".
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "أصاب عمر أرضا بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله
…
إني أصبت أرضا بخيبر، لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه، فقال:"إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها". فتصدق بها عمر، وأنه لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب، فتصدق بها في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقا غير متمول مالا" [متفق عليه] .
4-
وشرعت المساقاة والمزارعة في السنة السابعة حين عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود خيبر.
عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع"[متفق عليه] وفي رواية لهما: فسألوه أن يقرهم بها على أن يكفوا عملها ولهم نصف الثمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نقركم بها على ذلك ما شئنا" فقروا بها حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه ولمسلم: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم ولهم شطر ثمنها".
والجمهور على جواز المساقاة والمزارعة خلافا للحنفية، ووافقهم أبو يوسف ومحمد ابن الحسن: قال ابن القيم في زاد المعاد: في قصة خيبر دليل على حواز المساقاة والمزارعة بجزء من الغلة من ثمر أو زرع، فإنه صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على ذلك. واستمر على ذلك إلى حين وفاته ولم ينسخ البتة، واستمر عمل خلفائه الراشدين عليه، وليس هذا من باب المؤاجرة في شيء، بل من باب المشاركة، وهو نظير المضاربة سواء، فمن أباح المضاربة وحرم ذلك فقد فرق بين متماثلين، فإنه صلى الله عليه وسلم دفع إليهم الأرض على أن يعتملوها من أموالهم، ولم يدفع إليهم البذر، ولا كان يحمل إليهم البذر من المدينة قطعا، فدل هذا على أن هديه عدم اشتراط كون البذر من رب الأرض وأنه يجوز أن يكون من العامل، وهذا كان هديه صلى الله عليه وسلم وهدى الخلفاء الراشدين من بعده، وكما أنه هو المنقول فهو الموافق للقياس، فإن الأرض بمنزلة المال في المضاربة، والبذر يجري مجرى سقي الماء، ولهذا يموت في الأرض ولا يرجع إلى صاحبه، ولو كان بمنزلة رأس المال في المضاربة لا شتراط عوده إلى صاحبه، وهذا يفسد المزارعة، فعلم أن القياس الصحيح هو الموافق لهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين".
5-
وكان تحريم بيع الخمر والميتةوالخنزير والأصنام في السنة الثامنة من الهجرة حيث فتحت مكة.
روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة: "إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام"، فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلي بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال:"لا، هو حرام"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك:"قاتل الله اليهود، إن الله عز وجل لما حرم عليهم شحومها أجملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه".
6-
وشرعت أكثر أحكام العقود والمعاملات في السنة العاشرة من الهجرة، فنزلت سورة المائدة -وهي من أواخر ما نزل- وجاء في صدرها الأمر بالوفاء بالعقود {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} 1 وقد نزل قبل ذلك النهي عن أكل أموال الناس بالباطل في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} 2 وقوله: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 3.
وشرع تحريم الربا بعد غزوة خيبر التي كانت في المحرم سنة سبع، ثم نزل في القرآن الكريم تحريم الربا المضاعف، ثم نزل حل البيع وتحريم الربا القليل منه والكثير في سورة البقرة. ولما كانت حجة الوداع وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ربا الجاهلية تحت قدميه. وأكد حرمة الدماء والأموال والأعراض.
روى مسلم في صحيحه عن علي بن رباح اللخمي قال: سمعت فضالة ابن عبيد الأنصاري يقول: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بقلادة فيها خرز وذهب، وهي من المغانم تباع، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب وزنا بوزن".
1 المائدة: 1
2 النساء: 29.
3 البقرة: 188.
وروى مسلم كذلك عن فضالة بن عبيد قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر نبايع اليهود الوقية الذهب بالدينارين والثلاثة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن". ونزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 1.
ثم نزلت الآيات الأخيرة من سورة البقرة: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} 2 ثم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ،} 3.
وفي حجة الوداع خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بعرفة كما جاء في رواية أبي داود وغيره فقال: "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم إياس ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل. وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله".
ثالثا - في شئون الأسرة "الأحوال الشخصية":
1-
نزل القرآن المكي بحفظ الفروج، وأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكحة الجاهلية، ورغب الإسلام في الزواج، ونهى عن التبتل، وفي أوائل العهد المدني شرعت أحكام النكاح، وجاء كثير منها في سورة النساء:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا، وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} 4.
1 آل عمران: 130، 131.
2 البقرة: 275.
3 البقرة: 278.
4 النساء: 3، 4.
2-
وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار بعد الهجرة. فكانوا يتوارثون بذلك إرثا مقدما على القرابة، يرث المهاجري الأنصاري، والأنصاري المهاجري، ونزل في السنة الثانية من الهجرة قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 1 فكانت ولاية نصرة وإرث. ثم نزل قوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} 2 فكان الإرث بين ذوي الأرحام.
وفي السنة الثالثة بعد غزوة أحد نزلت آيات الفرائض.
روى أحمد وأصحاب السنن وصححه الحاكم عن جابر قال: "جاءت امرأة سعد بن الربيع الأنصاري فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك في أحد، وإن عمهما أخذ مالهما، قال: يقضي الله في ذلك، فنزلت آية الميراث، فأرسل إلى عمهما فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، فما بقي فهو لك".
وآية الميراث هي قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}
…
إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيم} 3.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس: "كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} 4.
نسخت، ثم قال:{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُم} 4 من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث، ويوصي له".
1 الأنفال: 72.
2 الأطفال: 75.
3 النساء: 11، 12.
4 النساء: 33.
وقوله: "موالي" أي أولياء ورثة، وقوله:{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُم} المراد مولى اليمين وهو الحليف.
وروى البخاري عن ابن عباس كذلك: "كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين، فنسخ الله من ذلك ما أحب، وجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للوالدين لكل واحد منهما السدس والثلث، وجعل للمرأة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع".
والمراد يقول ابن عباس: "كان المال للولد" ما كان عليه العرب في الجاهلية، فإنهم كانوا لا يورثون البنات، فأنزل الله تعالى قوله:{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} 1.
3-
وشرع الله الطلاق والرجع والخلع والعدة في السنة الثالثة من الهجرة، حيث نزلت سورة الطلاق، وأيات الطلاق والعدة في سورة البقرة، وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة عن أنس قال:"طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة فأتت أهلها، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنّ} 2 فيل له: راجعها فإنها صوامة قوامة، وهي من أزواجك ونسائك في الجنة".
ورواه ابن جرير عن قتادة مرسلا.
وأخرج أبو داوود والنسائي وابن ماجه وأحد "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها" وليس فيه أن ذلك كان سبب نزول أول الطلاق.
وعن ابن عمر رضي الله الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:"مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء"[متفق عليه] .
1 النساء: 7.
2 الطلاق: 1.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: "يا رسول الله، ثابت بن قيس، ما أعيب عليه في خلق ولادين، ولكني أكره الكفر في الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتردين عليه حديقته؟ فقالت: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقبل الحديقة، وطلقها تطليقة"[رواه البخاري] .
4-
وشرع الاستئذان والحجاب باديء ذي بدء في السنة الخامسة بآية الحجاب الخاصة بزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة الأحزاب، وهي مما وافق تنزيلها قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما ثبت ذلك في الصحيحين.
عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "وافقت ربي عز وجل في ثلاث: قلت: يا رسول الله: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فأنزل الله {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى} 1 وقلت: يا رسول الله.... إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرت نساءك أن يحتجبن، فأنزل الله آية الحجاب. وقلت لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لما تمالأن عليه في الغيرة {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} 2 فنزلت كذلك.
وروى البخاري عن أنس بن مالك قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله
…
يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب".
والمراد بآية الحجاب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} 3.
قال ابن كثير: وكانت وقت نزولها في صبيحة عرس رسول الله صلى الله عليه
1 البقرة: 125.
2 التحريم: 5.
3 الأحزاب: 53.
وسلم بزينب بنت جحش، التي تولى الله تعالى تزويجها بنفسه، وكان ذلك في ذي العقدة من السنة الخامسة في قول قتادة والواقدي وغيرهما.
روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: فلما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون، فإذا هو يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأي ذلك قام، فلما قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقوا، فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل فذهبت أدخل، فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} 1 الآية
ورواه مسلم والنسائي من طرق آخرآ
ثم نزل في السنة نفسها آيات الاستئذان والحجاب التي في سورة النور:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا
…
} إلى قوله تعالى: {
…
وَمَا تَكْتُمُون} 2
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
…
} 3 الآيتان.
{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ
…
} 4.
5-
وشرع الإيلاء في السنة الخامسة من الهجرة كذلك حيث نزل قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ
1 الأحزاب: 53.
2 النور: 27، 29.
3 النور: 58، 59.
4 النور: 30، 31.
5 النور: 60.
غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 1 فأبطل الله بهذا ما كان عليه أهل الجاهلية من إطالة مدة الإيلاء، إذا كان الرجل في الجاهلية يولي من امرأته سنة وسنتين، وأنظر المولى أربعة أشهر، فإما أن يفيء أو يطلق.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين فوقت الله أربعة أشهر فإن آلى أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء"[أخرجه البيهقي والطبراني] .
6-
وكان الظهار طلاقا في الجاهلية، وتحريما للزوجة، حتى شرع الظهار في السنة السادسة من الهجرة، ونزل صدر سورة المجادلة.
أخرج أحمد والنسائي، وابن ماجه وابن أبي حاتم، وابن جرير - واللفظ لابن أبي حاتم - عن عائشة قالت: "تبارك الذي أوعى سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفي على بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول: يا رسول الله
…
أكل مالي، وأفنى شبابي، ونشرت له بطنى، حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ظاهر مني، اللهم إني أشكوك إليك، قالت: فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الأية: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} 2 قالت: وزوجها أوس بن الصامت".
وأخرج الإمام أحمد، عن خويلة بنت ثعلبة قالت: "في والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة قالت: كنت عنده وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه، قالت، فدخل على يوما فراجعته بشيء، فغضب، فقال: أنت على كظهر أمي، قالت: ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة ثم دخل على فإذا هو يريدني عن نفسي، قالت: قلت: كلا والذي نفس خويلة بيده لا تخلص إلى وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه، قالت: فواثبني، فامتنعت منه، فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف فألقيته عني، قالت: ثم خرجت
1 البقرة: 226، 227.
2 المجادلة: 1.
إلى بعض جاراتي فاستعرت منها ثيابان ثم خرجت حتى جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلست بين يديه فذكرت له ما لقيت منه، وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه، قالت: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا خويلة: ابن عمك شيك كبير، فاتقى الله فيه، قالت: فوالله ما برحت حتى نزل في قرآن، فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه، ثم سرى عنه، فقال لي: يا خويلة.... قد أنزل الله فيك وفي صاحبك قرآنا، ثم قرأ على {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير} إلى قوله تعالى:{ِوَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيم} 1 قالت: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: مريه فليعتق رقبة، قالت: فقلت: يا رسول الله ما عنده ما يعتق، قال: فليصم شهرين متتابعين، قالت: فقلت: والله إنه لشيخ كبير ما له من صيام، قال: فليطعم ستين مسكينا وسقا من تمر، قالت: فقلت: والله يا رسول الله ما ذاك عنده، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنا سعنينه بفرق من تمر، قالت: فقلت: يا رسول الله، وأنا سأعينه بفرق آخر، قال: قد أصبت وأحسنت، فاذهبي فتصدقي به عنه. ثم استوصى بابن عمك خيرا، قالت: ففعلت".
ورواه أبو داوود في كتاب الطلاق من سننه من طريقين، وعنده خولة بنت ثعلبة، ويقال فيها خولة بنت مالك بن ثعلبة، وقد تصغر فيقال خويلة، قال ابن كثير في تفسيره: ولا منافاة بين هذه الأقوال، فالأمر فيها قريب، والله أعلم.
7-
وكان نكاح المتعة ويسمى الزواج المؤقت - مباحا لضرورة الغزو والسفر، ثم نهى عنه في غزوة خيبر، ثم أبيح، ثم نهى عنه في غزوة الفتح، ثم أبيح في غزوة أوطاس بعدها ثلاثة أيام ثم منع، وكان ذلك سنة ثمان.
عن ابن مسعود قال: "كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس معنا نساء، فقلنا: ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا بعد أن ننكح المرأة
1 المجادلة 1- 4.
بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد الله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} 1 الآية" [متفق عليه] .
وعن علي رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر" وفي رواية: "نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الإنسية"[متفق عليهما]
وعن سلمة بن الأكوع قال: "رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في متعة النساء عام أو طاس ثلاثة أيام ثم نهى عنها"[رواه أحمد ومسلم] .
وعن سبرة الجهني "أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة، قال: فأقمنا بها خمسة عشرة، فأذن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في متعة النساء" وذكر الحديث إلى أن قال: "فلم أخرج حتى حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس، إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء، فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا" [رواهن أحمد ومسلم]
وفي لفظ عن سبرة قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكة، ثم لم تخرج منها حتى نهانا عنها"[رواه مسلم] .
وفي رواية عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع نهى عن نكاح المتعة".
وما حكى عن ابن عباس أو غيره من إباحة المتعة فإنه معارض بالرجوع عن ذلك، ثم أجمع السلف والخلف على تحريمها إلا من لا يلتفت إليه من الروافض، قال الشوكاني: وعلى كل حال فنحن متعبدون بما بلغنا عن الشارع. وقد صح لنا عنه التحريم المؤبد.
1 المائدة: 87.
8-
وكانت الوصية واجبة بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} 1 ثم نسخ ذلك، واختلفوا في الناسخ، فقيل: آية الفرائض: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْن....} إلى قوله تعالى: {.... وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيم} 2 وقيل: حديث: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث"[رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه، وصححه الترمذي] وقيل: دل الإجماع على ذلك وإن لم يتعين دليله.
وقيل: الآية مخصوصة وليست منسوخة، لأن الأقربين أعم من أن يكونوا وارثين أم لا؟ فكانت الوصية واجبة لجميعهم، وخص منها الوارث بآية الفرائض وبالسنة الصحيحة، وبقي حق من لا يرث من الأقربين من الوصية على حاله.
وفي السنة العاشرة منعت الوصية بأكثر من الثلث في قصة سعد بن أبي وقاص عندما مرض في مكة بحجة الوداع.
عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: "جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني من وجع اشتد بي، فقلت: يا رسول الله: إني قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال، لا قلت: فالشطر يا رسول الله؟ قال: لا قلت: فالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير أو كبير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس"[متفق عليه] وكان هذا في مكة، في حجة الوداع.
9-
وروى الشيخان عن البراء بن عازب قال: آخر آية نزلت: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
…
1 البقرة: 180.
2 النساء: 11، 12.
الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 1
وقد نزلت بسبب جابر، قال جابر بن عبد الله: "مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يعوداني ماشين، فأغمى على، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صب على من وضوئه، فأفقت، فقلت: يا رسول الله.. كيف أقضي في مالي؟ فلم يرد على شيئا حتى نزلت آية الميراث: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [رواه مسلم] وتسمى آية الصيف، لأنها نزلت في زمن الصيف.
روى ابن ماجه عن عمر قال: "إني والله لا أدع شيئا أهم إلى من أمر الكلالة، وقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فما أغلظ في شيء ما أغلظ لي فيها، حتى طعن بإصبعه في جنبي أو في صدري - ثم قال: يا عمر
…
ألا تكفيك آية الصيف التي أنزلت في آخر سورة النساء"
وهذه الآية في الإخوة أو الأخوات الأشقاء أو لأب عند عدم الأشقاء، وقد نزل قبلها في الإخوة لأم قوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} 2.
رابعا- في الجنايات:
1-
كانت مشروعية الرجم في الزنا عند الإحصان في السنة الرابعة من الهجرة بما جاء في قضية اليهودي واليهودية اللذين زنيا فرجمهما النبي صلى الله عليه وسلم.
عن ابن عمر: "أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم برجل وامرأة منهم قد زنيا، فقال: ما تجدون في كتابكم، فقالوا: تسخم وجوهمها ويخزيان3 قال:
1 النساء: 176.
2 النساء: 12.
3 تسخم: تطلي بالسواد، والسخم محركة: السواد وسخم وجهه: سوده، ويخزيان: أي يفضحان ويشهران.
كذبتم، إن فيها آية الرجم، فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فجاءوا بالتوراة، وجاءوا بقاريء لهم، فقرأ حتى إذا انتهى إلى موضع منها وضع يده عليه، فقيل له: ارفع يدك، فرفع يده فإذا هي تلوح، فقال: أو قالوا -: يا محمد.... إن فيها الرجم، ولكنا كنا نتكاتمه بيننا، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما، قال: فلقد رأيته يجئنا عليها1 يقيها الحجارة بنفسه" [متفق عليه] .
روى أحمد ومسلم من حديث جابر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم رجلا من أسلم، ورجلا من اليهود وامرأة".
والأحاديث تدل على أن حد الزنا يقام على الكافر كما يقام على المسلم، ولا يشترط في الإحصان الموجب للرجم الإسلام، وهو مذهب الجمهور.
وقد أجاب من اشترط الإسلام عن هذه الأحاديث بأنه صلى الله عليه وسلم إنما أمضي حكم التوراة على أهلها، ولم يحكم عليهم بحكم الإسلام، وقد كان ذلك عند مقدمة المدينة، وكان إذ ذاك مأمورا باتباع حكم التوراة، ثم نسخ ذلك الحكم بقوله تعالى:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} 3.
1 يجنأ عليها: أي يتحنى عليها، يقال: جئنا عليه كجعل وفرح جنوءا وجنأ: أكب.
2 المائدة: 41.
3 النساء: 15.
قال الشوكاني: ولا يخفي ما في هذا الجواب من التعسف، ونصب مثله ي مقابلة أحاديث الباب من الغرائب، وكونه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك عند مقدمة المدينة لا ينافي ثبوت الشرعية، فإن هذا حكم شرعه الله لأهل الكتاب وقرره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا طريق لنا إلى ثبوت الأحكام التي توافق أحكام الإسلام إلا بمثل هذه الطريق، ولم يتعقب ذلك في شرعنا ما يبطله، ولا سيما وهو مأمور بأن يحكم بينهم بما أنزل الله، ومنهي عن اتباع أهوائهم كما صرح بذلك القرآن، وقد أتوه صلى الله عليه وسلم يسألونه عن الحكم، ولم يأتوه ليعرفهم شرعهم فحكم بينهم بشرعه، ونبههم على أن ذلك ثابت في شرعهم كثبوته في شرعه، ولا يجوز أن يقال: إنه حكم بينهم بشرعهم مع مخالفته لشرعه، لأن الحكم منه عليهم بما هو منسوخ عنده لا يجوز على مثله، وإنما أراد بقوله:"فإني أحكم بينكم بالتوراة" كما وقع في رواية من حديث أبي هريرة - إلزامهم الحجة، وأما الاحتجاج بقوله تعالى:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُم} فغاية ما فيه أن الله شرع هذا الحكم بالنسبة إلى نساء المسلمين، وهو مخرج على الغالب كما في الخطابات الخاصة بالمؤمنين والمسلمين، مع أن كثيرا منها يستوي فيه الكافر والمسلم بالإجماع، ولو سلمنا أن الآية تدل بمفهومها على أن نساء الكفار خارجات والمسلم بالإجماع، ولو سلمنا أن الآية تدل بمفهومها على أن نساء الكفار خارجات عن ذلك الحكم، فهذا المفهوم قد عارضه منطوق حديث ابن عمر المذكور في البابن فإنه مصرح بأنه صلى الله عليه وسلم رجم اليهودية مع اليهودي
وكان حكم الزنا في ابتداء الإسلام الحبس بالنسبة إلى المرأة، والإيذاء بالنسبة إلى الرجل، قال تعالى:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} 1 ثم نسخ ذلك برجم الثيب وجلد البكر.
أخرج مسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "كان نبي الله.
1 النساء: 15، 16.
صلى الله عليه وسلم إذا أنزلت عليه كرب لذلك وتربد وجهه، قال: فأنزل عليه ذات يوم فلقي كذلك فلما سرى عنه قال: خذو عني، خذوا عني، فقد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكرش جلد مائة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" وأخرجه كذلك أحمد وأبو داود والترمذي.
وقال تعالى: في سورة النور: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 1
قال النووي في شرح مسلم: أما قوله صلى الله عليه وسلم "فقد جعل الله لهن سبيلا" فأشار إلى قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا،} فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا هو ذلك السبيل، واختلف العلماء في هذه الآية، فقيل: هي محكمة، وهذا الحديث مفسر لها، وقيل: منسوخة بالآية التي في أول سورة النور، وقيل: إن آية النور في البكرين، وهذه الآية في الثيبين، وأجمع العلماء على وجوب جلد الزاني البكر مائة، ورجم المحصن وهو الثيب ولم يخالف في هذا أحد من أهل القبلة إلا ما حكى القاضي عياض وغيره عن الخوارج وبعض المعتزلة كالنظام وأصحابه، فإنهم لم يقولون بالرجم.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: "البكر بالبكر" والثيب بالثيب" فليس هو على سبيل الاشتراط، بل حد البكر الجلد والتغريب سواء زنى ببكر أم ثيب، وحد الثيبس الرجم سواء زنى بثيب أم بكر، فهو شبيه بالتقييد الذي يخرج على الغالب.
واعلم أن المراد بالبكر من الرجال والنساء من لم يجامع في نكاح صحيح وهو بالغ عاقل، سواء جامع بوطء شبهة أو نكاح فاسد أو غيرهما أم لا، والمراد بالثيب من جامع في دهره مرة في نكاح صحيح وهو بالغ عاقل حر. والرجل والمرأة في هذا سواء، وسواء في هذا كله المسلم والكافر، والرشيد والمحجور عليه لسفه.
1 النور: 2.
2 وفي السنة الرابعة كذلك شرع حد القذف في أعقاب حديث الإفك، ونزل قول الله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1
3-
وكان تحريم الخمر على مراحل حتى نزل تحريمها القطعي في المرحلة الأخيرة:
وتحريم الميسر والأنصاب والأزلام في السنة السادسة من الهجرة، كما في حديث سعد بن أبي وقاص، قال: وضع رجل من الأنصار طعاما فدعانا، فشربنا الخمر قبل أن تحرم حتى انتشينا فتفاخرنا، فقالت الأنصار: نحن أفضل، وقالت قريش: نحن أفضل، فأخذ رجل من الأنصار لحي جزور فضرب به أنف سعد ففزره2، وكانت أنف سعد مفزوزة، فنزلت:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} 3.
4-
وشرع حد الحرابة في السنة السادسة أو السابعة:
روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك: "أن نفرا من عكل وعرينة ثمانية قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام، فاستوخموا المدينة، وسقمت أجسامهم، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال: "ألا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبوا من أبوالها وألبانها؟ " فقالوا: بلي، فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها فصحوا، فقتلوا الراعي، وطردوا الإبل، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلسم، فبعث في آثارهم، فادركوا، فجيء بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسملت أعينهم، ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا" وعند البخاري، قال أبو قلابة: "فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم.
1 النور: 4، 5.
2 فزره: شقه.
3 المائدة: 90، 91.
وحاربوا الله ورسوله" وفي رواية لمسلم عن أنس قال: "إنما سمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة" وفي رواية "وصلبهم" قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ،} 1.
ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة بعد ذلك.
5-
وكانت مشروعية القصاص في النفس والأطراف في السنة الثامنة من الهجرة، وأبطل الإسلام ما كان في الجاهلية من تفاوت بين الأشخاص في القصاص، لتفاوتهم حسبا ونسبا، وأمر الله بالعدل والمساواة.
أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} 2 قال: يعني إذا كان عمدا الحر بالحر، وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، فكان بينهم قتل وجراحات حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا ألا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا بالحر منهم، والمرأة منا الرجل منهم، فنزل فيهم {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} 2.
1 المائدة: 33، 34.
2 البقرة: 178.
3 المائدة: 45.
6-
وشرع في السنة الثامنة كذلك حد السرقة، ونزل قول الله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ،} 1.
وفي الصحيحين - واللفظ لمسلم- عن عائشة أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجتريء عليه إلا أسامة ابن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه فيها أمامة بن زيد، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"أتشفع في حد من حدود الله عز وجل؟ فقال أسامة: استغفر لي يا رسول الله، فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختطب فأنثى على الله بما هو أهله ثم قال: "أما بعد، فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، إني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها، قالت عائشة: فحسنت توبتها وتزوجت، وكانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وورد في السنة حد الردة: "من بدل دينه فاقتلوه" رواه البخاري وأبو داود والنسائي والترمذي:
7-
وكانت مشروعية اللعان في السنة التاسعة لحديث عويمر العجلاني المتفق عليه، حيث قال: يا رسول الله: أرأيت لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة كيف يصنع؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك. قال: فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه. فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه إبتليت به، فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات في سورة النور:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ} إلى قوله: {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِين} 2 فتلاها عليه ووعظه وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من
1 المائدة: 38.
2 النور: 6- 9.
عذاب الآخرة، فقال: لا والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها، ثم دعها فوعظها وأخبرها أن عذاب الدينا أهون من عذاب الآخرة، فقالت: لا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب، فبدا بالرجل فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم ثنى بالمرأة، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غذب الله عليها إن كان من الصادقين، ثم فرق بينهما.
وفي رواية "أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "البينة وإلا حد في ظهرك" فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، فلينزلن الله ما يبريء ظهري من الحد، فنزل جبريل وأنزل عليه {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُم} فقرأ حتى بلغ {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِين}
قال ابن حجر في الفتح: وقد اختلف الأئمة في هذا الموضع: فمنهم من رجح أنها نزلت في شأن عويمر، ومنهم من رجح أنها نزلت في شأن هلال، ومنهم من جمع بينها بأن أول من وقع له ذلك هلال وصادف مجيء عويمر أيضا، فنزلت في شأنهما معا في وقت واحد، وقد جنح النووي إلى هذا.... ولا مانع من أن يتعدد القصص ويتحد النزول.... ويحتمل أن النزول سبق بسبب هلال، فلما جاء عويمر ولم يكن علم بما وقع لهلال أعلمه النبي صلى الله عليه وسلم بالحكم، ولهذا قال في قصة هلال:"فنزل جبريل" وفي قصة عويمر: "قد أنزل الله فيك".
خامسا - في الجهاد والسير "العلاقات الدولية":
1-
شرع الإذن بالقتال عقب هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الأولى، وذلك بنزول قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ
عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} 1
روى الحاكم في مستدركه عن ابن عباس قالك "لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا بينهم، إنا لله وإنا إليه راجعون، ليهلكن القوم، فأنزل الله عز وجل {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} وهي أول أية نزلت في القتال".
2-
ثم كان أمر المسلمين بقتال من قاتلهم حماية للدعوة، ودفاعا عن حوزة الدين، والنهي عن القتال في الحرم إلا إذا قاتل المشركون فيه، قال تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين} 2.
3-
وكانت سرية عبد الله بن جحش في السنة الثانية من الهجرة كما روى ابن أبي حاتم وأصحاب السير، حيث بعث رسول الله سبعة نفر عليهم عبد الله بن جحش، وكتب له كتابا وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه، فيمضي لما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحدا، فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فيه، فإذا فيه:"إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها قريشا، وتعلم لنا من أخبارهم" فلما قرأ الكتاب، قال: سمعا وطاعة، ثم أخبر أصحابه بما فيه فمضى ومضى معه أصحابه، وفي الطريق أصل اثنان منهم بعيرا لهما كانا يعتقبانه، فتأخرا في طلبه ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل نخلة، فمرت به عير لقريش تحمل طعاما وتجارة. فيها عمرو بن الحضرمي وآخرون فقتلوا ابن الحضرمي وأسروا أسيرين واستولوا على العير ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو من جمادي. وأقبل عبد الله.
1 الحج: 39- 41.
2 البقرة: 190- 191.
ابن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال المشركون للمسلمين قتلتم في الشهر الحرام، فأنزل الله:{يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} 1
4-
وكانت غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة، وفيها نزلت سورة الأنفال.
"أ" فكان في السنة الثانية أحكام النفل والغنائم وتخميسها بنزول قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2.
ب- وكان في السنة الثانية في بدر كذلك بداية التشريع في حكم الأسرى قبل أن يشتد ساعد المسلمين، إذا استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته في أسرى بدر، فاشار عمر رضي الله عنه بقتلهم، وأشار أبو بكر رضي الله عنه بالعفو عنهم وقبول الفداء منهم، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي أبي بكر، فنزلت الآيات:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 4.
كما نزل قوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} 5.
1 البقرة: 217.
2 الأنفال: 1
3 الأنفال: 41.
4 الأنفال: 67، 68.
5 محمد: 4.
ج- وفرض الله على المسلمين أن لا يفر واحد من عشرة، ثم جاء التخفيف، روى البخاري عن ابن عباس قال: "لما نزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} 1
ثقل على المسلمين وأعظموا أن يقاتل عشرون مائتين ومائة ألفا، فخفف الله عنهم فنسخها بالآية الأخرى فقال:{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} الآية2 فكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوهم لم يسغ لهم أن يفروا من عدوهم، وإذا كانوا دون ذلك لم يجب عليهم قتالهم، وجاز لهم أن يتجوزوا عنهم".
5-
ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام:
قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحاربوه ولا يظاهروا عليه، ولا يوالوا عليه عدوه، وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم، وهم اليهود.
وقسم حاربوه ونصبوا له العدواة وهم المشركون.
وقسم تاركوه، فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل أظهروا أنهم معه، وأبطنوا العدواة له، وهؤلاء هم المنافقون.
فعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم كا طئافة من هؤلاء بما أمره به ربه تبارك وتعالى.
فصالح يهود المدينة وكتب بينهم وبينه كتاب أمن، وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة: بني قينقاع، وبنى النضيرن وبني قريظة.
"أ" وكان بنو قينقاع أول من نقض العهد من اليهود بعد انتصار المسلمين في بدر، وكانوا حلفاء عبد الله بن أبي بن سلول رئيس المنافقين، فتوجه إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس جند الله في نصف شوال من السنة الثانية.
1 الأنفال: 65.
2 الأنفال: 69.
للهجرة، وحاصرهم خمس عشرة ليلة، إلى هلال ذي القعدة، وكلم حليفهم عبد الله بن أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، ثم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرجوا من المدينة فخرجوا إلى أذرعات بالشام، وفيهم نزل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} إلى قوله: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} 1.
ب- ثم نقض العهد بنو النضير في السنة الرابعة من الهجرة، حين خرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه ليعينوه في دية القتيلين اللذين قتلهما عمرو من أمية الضمري من بني عامر، للجوار الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد لهما، وكان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف، فلما أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية ذينك الرجلين القتيلين قالوا: نعم يا أبا القاسم، ثم تأمروا على إلقاء صخرة عليه وهو يستند إلى جدار من بيوتهم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعا إلى المدينة، ولحقه أصحابه، فأخبرهم بما همت يهود به، وبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخرجوا من المدينة، وأمهلهم عشرا. فأبو وتحصنوا بحصونهم. فنهض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صحابته وحاصرهم، وقطع نخيلهم وحرق، وقذف الله في قلوبهم الرعب حتى سألوه أن يجيلهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح، ففعل. فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، وكان الرجل منهم يهدم بيته ويحمل على ظهر بعيره بابه، فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، وفيهم نزلت سورة الحشر، وكانت مشروعية قسمة الفيء {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} الآيات2.
جـ- ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة الخندق جاء حيي
1 المائدة: 51، 56.
2 الحشر: 2 وما بعدها.
ابن أخطب رئيس بني النضير إلى بني قريظة في ديارهم سنة خمس من الهجرة، وظل يحرضهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قريش وغطفان حتى استجابوا له، ونقضوا العهد. فما كاد ينتهي من غزوة الأحزاب حتى جاءه الوحي بالمسير إلى بني قريظة، فقال لصحابته:"لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة" فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صحابته، وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرسل إلينا أبا لبابة ابن عبد المنذر نستشيره وكانوا حلفاء الأوس فلما رأوه قاموا في وجهه يبكون، وقالوا: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محم؟ قال: نعم: وأشار بيده إلى حلقه يقول إنه الذبح قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي من مكانها حتى عرفت أني خنت الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمدة وقال: لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله على مما صنعت، فتاب الله عليه، ثم إنهم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقامت إليه الأوس، فقالوا: يا رسول الله.. قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت، وهم حلفاء إخواننا الخزرج، وهؤلاء موالينا، فأحسن فيهم فقال ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى، قال: فذاك إلى سعد بن معاذ، قالوا: قد رضينا: فأرسل إلى سعد بن معاذ وكان في المدينة لم يخرج معهم لجرح كان به، فأركب حمارا، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل الأوس يقولون له: يا سعد
…
أجمل إلى مواليك فأحسن فيهم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حكمك فيهم، لتحسن فيهم، وهو ساكت لا يرد عليهم شيئا، فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لوة لائم، فلما سمعوا ذلك منه رجع بعض من كان معه من قومه إلى المدينة، فنعى إليهم رجال بني قريظة قبل أن يصل سعد إليهم، فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قوموا إلى سيدكم" فأما المهاجرون من قريش فيقولون: إنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار، وأما الأنصار، وأما الأنصار فيقولون: قد عم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاموا إليه، فلما أنزلوه قالوا: يا سعد.... إن هؤلاء القوم قد نزلوا على حكمك: وحكمي نافذ عليهم؟ قالوا: نعم، قال: وعلى المسلمين؟
قالوا: نعم، قال: وعلى من ههنا؟ في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبي الذراري والنساء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات" وفيهم نزل قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا، وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} 1.
6-
ثم كان نزول سورة براءة سنة تسع من الهجرة، وفيها الإعلام بانتهاء كل قوم إلى عهدهم، وقتال المشركين حيث وجدوا، وضرب الجزية على أهل الكتاب {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 3.
1 الأحزاب: 26، 27.
2 الأنفال: 55- 58.
3 التوبة: 29.