الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث، وكاد من كاد لمالك حتى ضربه جعفر بن سليمان والي المدينة، فسخط أهل المدينة على بني العباس وولاتهم، فطلبه أبو جعفر المنصور، واعتذر إليه بأنه لا علم له بذلك، وأكرم وفادته.
وفضل مالك في العلم لا ينكر، قال عبد الرحمن بن مهدي: أئمة الحديث الذين يقتدي بهم أربعة: سفيان الثوري بالكوفة، ومالك بالحجاز، والأوزاعي بالشام، وحماد بن زيد بالبصرة.
ووازن بين الثوري والأوزاعي ومالك فقال: الثوري إمام في الحديث، وليس بإمام في السنة، والأوزاعي إمام في السنة، وليس بإمام في الحديث، ومالك إمام فيهما. وله مساجلات مع العلماء أشهرها ما كان بينه وبين الليث بن سعد.
وذكر بعض العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر به؛ وذلك في حديث الترمذي: "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة". رواه الترمذي في العلم، وقال: حديث حسن. قال عبد الرزاق: كما رواه الترمذي: إنه مالك بن أنس، وقال ابن جريج كذلك: إنه مالك بن أنس، والحديث يشمل بعمومه مالك بن أنس وغيره ولم يؤثر عن مالك أنه رحل إلى طلب العلم كما كان يصنع العلماء، ولعل ذلك يرجع إلى أنه كان يعتقد كما أعتقد غيره من العلماء أن العلم علم أهل المدينة.
رسالة مالك إلى الليث بن سعد:
"من مالك بن أنس إلى الليث بن سعد، سلام الله عليكم؛ فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، أما بعد عصمنا الله وإياك بطاعته في السر والعلانية، وعافنا وإياكم من كل مكروه".
واعلم رحمك الله أنه بلغني أنك تفتي الناس بأشياء مختلفة، مخالفة لما عليه الناس عندنا! وببلدانا الذي نحن فيه، وأنت في أمانتك وفضلك، ومنزلتك من أهل بلدك، وحاجة من قبلك إليك، واعتمادهم على ما جاء منك حقيق بأن تخاف على نفسك، وتتبع ما ترجو النجاة باتباعه؛ فإن الله تعالى يقول في كتابه:
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} 1. وقال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه} 2 فإنما الناس تبع لأهل المدينة، إليها كانت الهجرة، وبها تنزل القرآن، وأحل الحلال وحرم الحرام؛ إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم يحضرون الوحي والتنزيل، يأمرهم فيطيعونه، ويسن لهم فيتبعونه، حتى توفاه الله، واختار له ما عنده، صلوات الله وسلامه عليه ورحمته وبركاته.
ثم قام من بعده أتبع الناس له من أمته ممن ولي الأمر من بعده بما نزل إليهم، فما علموا أنفذوه، وما لم يكن عندهم فيه علم سألوا عنه، ثم أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك في اجتهادهم، وحداثة، وحداثة عهدهم وإن خالفهم مخالف، أو قال امرؤ: غيره أقوى منه وأولى، ترك قوله وعمل بغيره.
ثم كان التابعون من بعدهم يسلكون تلك السبل، ويتبعون تلك السنة؛ فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهرا معمولا به، لم أر لأحد خلافه، للذي في أيديهم من تلك الوراثة التي لا يجوز انتحالها ولا ادعاؤها، ولو ذهب أهل الأمصار يقولون: هذا العمل ببلدنا، وهذا الذي مضي عليه من مضى منا لم يكونوا فيه من ذلك على ثقة، ولم يكن لهم من يجيزه لهم.
فانظر رحمك الله فيما كتبت إليك لنفسك، واعلم أني أرجو ألا يكون قد دعاني إلى ما كتبت به إليك إلا النصيحة لله وحده، والنظر لك والضن بك فأنزل كتابي منزلته؛ فإنك إن تعلمت تعلم أني لم آلك نصحا، وفقنا الله لطاعته وطاعة رسوله في كل أمر، وعلى كل حال، والسلام عليك ورحمة الله".
وقد ورد عليه الليث بن سعد في رسالة طويلة، أثنى عليه فيها، ثم بين له تفرق السحابة في الأمصار، وأنهم اختلفوا في الفتيا، كما اختلف التابعون ومن بعدهم، وذكر له كثيرا من الأمثلة الدالة على ذلك مما فيه مخالفة لأهل المدينة.
1 التوبة: 100.
2 الزمر: 17، 18.