الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جبريل إياه على ذلك، وإعلامه عند نزول كل آية أن هذه الآية تكتب عقب آية كذا في سورة كذا.
ولم يجمع في مصحف عام حيث كان الوحي ينزل تباعا، فيحفظه القراء، ويكتبه الكتبة، ولم تدع الحاجة إلى تدوينه في مصحف واحد.
إجتهاد الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لقد أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا على الاجتهاد فيما لم يجد فيه نصا عن الله ورسوله، فعن أناس من أصحاب معاذ عن معاد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن، قال:"كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ " قال: أقضى بما في كتاب الله، قال:"فإن لم يكن في كتاب الله؟ " قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أجتهد رأيي لا آلوا. قال: وضرب عليه الصلاة والسلام صدري، ثم قال:"الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله، إلى ما يرى رسول الله" صلى الله عليه وسلم.
وأصحاب معاذ وإن لم يسموا، فإنهم من أفاضل المسلمين وخيارهم، وشهرتهم بالعلم والدين والفضل، بالمحل الذي لا يخفي، ولا يعرف منهم متهم، وقد جاء ما ينفي الجهالة في رواية عبادة بن أنس عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ وهذا إسناد متصل مثل:"لا وصية لوارث" هو الطهور ماؤه الحل ميتته" "الداية على العاقلة" وإن كانت هذه الأحاديث لم تثبت من جهة الإسناد.
وقد نقل أهل العلم هذا الحديث، واحتجوا به على جواز اجتهاد الصحابة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما لا نص فيه من كتاب أو سنة.
ووردت حوادث تدل على أنهم كانوا يجتهدون في زمن النبي صلى الله عليه
وسلم في كثير من الأحكام ولم يعنفهم منها ما كانت في غيبته ومنها ما كان في حضرته:
1-
ما كان في غيبته:
هناك حوادث كثيرة اجتهد الصحابة فيها بغيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم نذكر منها ما يلي:
أ- قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة" وذلك في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم، فاجتهد بعضهم وصلاها في الطريق حين أدركتهم الصلاة، وقال: لم يرد منا التأخير، وإنما أراد سرعة النهوض والتعجيل بالمسير، فنظروا إلى المعنى، واجتهد آخرون وأخروها إلى بني قريظةن فصلوها ليلا، ونظروا إلى اللفظ.
قال ابن القيم تعليقا على هذا في إعلام الموقعين: وهؤلاء سلف أهلف الظاهر، وأولئك سلف أصحاب المعاني والقياس.
ب- ولما كان على رضي الله عنه باليمين أتاه ثلاثة نفر يختصمون في غلام، فقال كل واحد منهم: هو ابني، فجعل على رضي الله عنه يخيرهم واحدا واحدا، أترضى أن يكون الولد لهذا؟ فأبوا، فقال: أنتم شركاء متشاكسون، فأقرع بينهم، فجعل الولد للذي خرجت له القرعة، وجعل عليه للرجلين الآخرين ثلثي الدية، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فضحك حتى بدت نواجذه من قضاء على رضي الله عنه، روى ذلك الخطيب البغدادي في كتاب الفقيه والمتفقه.
وقد اعتبر على في هذا الحكم أنه بالنسبة للقارع بمنزلة الإتلاف للآخرين كما أتل رقيقا بينه وبين شريكين له، فإنه يجب عليه ثلثا القيمة لشريكيه، فإتلاف الولد الحر بحكم القرعة كإتلاف الرقيق الذي بينهم.
جـ- ومسألة الزبية مشهورة عن على كذلك: روى أن قوما من أهل اليمن حفورا زبية للأسد، فاجتمع الناس على رأسها، وتدافعوا حولها، فهوى واحد، فجذب ثانيا، فجذب الثاني الثالثن ثم جذب الثالث رابعا، فقتلهم الأسد، فرفع ذلك إلى على كرم الله وجه فقال: للأول ربع الدية، لأنه هلك فوقه ثلاثة، وللثاني ثلث الدية، لأنه هلك فوقه اثنان، وللثالث نصف الدية، لأنه هلك فوقه واحد، وللرابع كمال الدية، ثم جعل الدية على عاقلة من ازدحموا على رأس الزبية. فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"هو كما قال". رواه أحمد والبزار والبيهقي من حديث حنش بن المعتمر عن علي.
قال الشوكاني في نيل الأوطار: "وقد استدل بهذا القضاء الذي قضى به أمير المؤمنين وقرره رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن دية المتجاذبين في البئر تكون على الصفة المذكورة، فيؤخذ من قوم الجماعة الذين ازدحموا على البئر وتدافعوا ذلك المقدار، ثم يقسم على تلك الصفة، فيعطي الأول من المتردين ربع الدية، ويهدر من دمه ثلاثة أرباع لأنه هلك بفعل المتزاحمين وبفعل نفسه، وهو جذبه لمن بجنبه، فكأن موته وقع بمجموع الازدحام ووقوع الثلاثة الأنفار عليه، ونزل الازدحام منزلة سبب واحد من الأسباب التي كان بها موته، ووقوع الثلاثةي عليه منزلة ثلاثة أسباب، فهدر من ديته ثلاثة أرباع، واستحق الثاني ثلث الدية لأنه هلك بمجموع الجذب المتسبب عن الازدحام ووقوع الاثنين عليه، ونزل الازدحام منزلة سبب واحد، ووقوع الاثنين عليه منزلة سببين، فهدر من دمه الثلثان، لأن وقوع الاثنين عليه كان بسببه، واستحق الثالث نصف الدية لأنه هلك بمجموع الجذب ممن تحته المتسبب عن الازدحام، وبوقوع من فوقه عليه، هو واحد، وسقط نصف ديته، ولزم نصفها، والرابع كان هلاكه.
بمجرد الجذب له فقط فكان مستحقا للدية كلها".
وكانت الدية على عاقلة المتزاحمين دون عاقلة الجاذبين لأن الجاذب لم ييباشر الإهلاك، وإنما كان سببا إليه، أما الحاضرون، فكان تزاحمهم سببا! وهذا التسبب منهم أقوى من تسبب الجاذب، لأن الجاذب ألجيء إلى جذب من يليه.
د- وخرج رجلان من الصحابة في سفر فحضرت، وليس معهما ماء، فيتيمما صعيدا طيبا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الوضوء للصلاة، ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال للذي لم يعد:"أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك" وقال للذي توضأ وأعاد "لك الأجر مرتين" رواه النسائي وأبو داود وغيرهما، فقد صوب الرسول الله صلى الله عليه وسلم هذين الصحابين في اجتهادهما، وبين ما لك واحد منهما من أجر.
هـ- وعن عمار قال: "أجنبت فلم أصب الماء، فتمعكت في الصعيد وصليت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إنما يكفيك هكذا" وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه". رواه البخاري ومسلم.
و إقراره صلى الله عليه وسلم من رقي بالفاتحة على أخذ الأجر. روى البخاري عن أبي سعيد الخدري، قال: "انطلق نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها، حتى نزلوا على حي من أحياء العرب فاستضافوهم، فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء، لا ينفعه شيء فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعله أن يكون عندهم بعض الشيء؟ فأتوهم فقالوا: إن سيدنا لدغ، فهل عند أحدكم شيء؟ فقال بعضهم: نعم.
ولكن لا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلا، فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يقرأ عليه "الحمد لله رب العالمين" فكأنما أنشط "1" من ‘قال، فانطلق يمشي وما به علة، فأوفوهم جعلهم، فقال بعضهم: أقسموا، فقال الذي رقي: لا تفعلوا حتى نأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا، فقدموا، فذكروا ذلك له صلى الله عليه وسلم، فقال: وما يدريك أنها رقية؟ ثم قال: قد أصبتم، اقسموا واضربوا لي معكم سهما، وضحك صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ ابن حجر: في رواية: أنهم أعطوهم ثلاثين شاة، وكان عدد الركب ثلاثين رجلا وقوله:"الحمد لله": أي فاتحة الكتاب. وقوله: "وما يدريك" زاد في رواية، فقلت: يا رسول الله: شيء ألقي في روعي. قال الحافظ: وهو ظاهر من أنه لم يكن عنده علم متقدم بمشروعية الرقي بالفاتحة، أي فيكون قد فعل ذلك اجتهادا منه.
2-
ما كان في حضرته:
وهناك حوادث أخرى اجتهد الصحابة فيها بحضرته صلى الله عليه وسلم نذكر منها ما يلي:
أ- اجتهد سعد بن معاذ في بني قريظة، وحكم فيهم باجتهاده في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، وصوبة النبي صلى الله عليه وسلم في حكمة، فعن أبي سعيد الخدري أن أهل قريظة نزلوا على حكم سعد ابن معاذ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد، فأتاه على
1 قال ابن الأثير في "النهاية": نشط من عقال: أي حل.... وأنشطت البعير من عقاله: "أطلقته".
حمار، فلما دنا قريبا من المسجد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قوموا إلى سيدكم -أو خيركم-" فقعد عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن هؤلاء نزلوا على حكمك، قال: فإني أحكم أن تقتل مقاتلتهم، ونسبي ذراريهم، فقال: لقد حكمت بما حكم به الملك" وفي لفظ: "قضيت بحكم الله عز وجل". رواه البخاري ومسلم وفي رواية "لقد حكمت اليوم فيهم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبمع سموات".
وقد استدل الخطيبس البغدادي في كتاب الفقيه والمتفقه بهذا الحديث على جواز الاجتهاد بالرأي، لاجتهاد سعد بالرأي في بني قريظة، وإقرا النبي صلى الله عليه وسلم له، كما استدل به ابن القيم في إعلام الموقعين.
ب- وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال:"جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خصمان يحتكمان، فقال لعمرو، اقض بينهما يا عمرو، فقال: أنت أولى بذلك مني يا رسول الله، قال: وإن كان، قال: فإذا قضيت بينهما فما لي؟ قال: إن أنت فضيت بينهما فأصبت القضاء فلك عشر حسنات، وإن أنت اجتهدت فأخطأت فلك حسنه".
جـ- وفي حديث أم عطية الأنصارية رضي الله عنها الذي يرويه الجماعة، قالت: "دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته، فقال: اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن، بماء وسدر، واجعلن في الأخيرة كافورا، أو شيئا من كافور، فإذا فرغتن فآذنني، فلما فرغنا آذناه، فأعطانا حقوه، فقال: أشعرنها إياه - يعني إزاره.
فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "إن رأيتن" الأمر فيه إلى اجتهادهن ورأيهن في زيادة عدد الغسلات.
د- وروى البخاري ومسلم عن أبي قتادة، قال:"خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين فلما التقينا كانت للمسلمين جولةن قال: فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين، فاستدرت إليه حتى آتيته من ورائه، فضربته على حبل عاتقه، وأقبل على فضمني ضمة وجدت فيها ريح الموت، ثم أدركه الموت فأرسلني، فلحقت عمر بن الخطاب، فقال: ما للناس؟ فقلت: أمر الله، ثم إن الناس رجعوا، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه، قال: فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، ثم قال: مثل ذلك، فقال: فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، ثم قال ذلك الثالثة. فقمت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك يا أبا قتادة؟ فقصصت عليه القصة، فقال رجل من القوم: صدق يا رسول الله سلب ذلك القتيل عندي فأرضه من حقه. وقال أبو بكر الصديق: لا ها الله1 إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق، فأعطه إياه، فأعطاني".
قال النووي: "وفي هذا الحديث فضيلة ظاهرة لأبي بكر الصديق في إفتائه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، واستدلاله لذلك. وتصديق النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. وفيه منقبة ظاهرة.
1 في بعض الروايات: "لا ها الله ذا" بغير ألف في أوله، وهو الي رجحه الخطابي، و "ها". بمعنى الواود التي يقسم بها فكأنه قال: لا والله ذا.. أي: ذا يميني أو ذا قسمي.
لأبي قتادة فإنه سماه أسدا من أسد الله تعالى، يقاتل عن الله وعن رسوله، وصدقه النبي صلى الله عليه وسلم.
ومما تجدر الإشارة إليه أن اجتهاد الرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا العهد، أو إذنه لصحابته في الاجتهاد، أو إقراره لهم على اجتهادهم، كان من باب النظر في التطبيق بالجزئيات ولا يعتبر هذا مصدرا من مصادر التشريع، حيث كان اجتهاده صلى الله عليه وسلم عند الحاجة، وتأخر نزول الوحي، فلا يلبث الوحي أن ينزل فيقره على اجتهاده، أو يبين له وجه الخطأ فيه، فيكون المصدر في المآل هو الوحي.
وكان اجتهاد الصحابة بحضرته إقرارا منه لهم....
وكذلك كان اجتهاد الصحابة عند غيبتهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم حيث لا يتمكنون من الرجوع إليه، فإذا ما رجعوا إما أن يقرهم الرسول على ما رأوا، وإما أن يبين لهم خطأهم، فيرجع التشريع إلى السنة ببيان الرسول لهم.
فهذه الحوادث ونظائرها رجع الحكم فيها إلى الوحي من الكتاب والسنة.
وبذلك يتضح أن الاجتهاد ليس من مصادر التشريع في هذا العصر، ويكون مصدر التشريع في عهد النبوة قاصرا على الكتاب والسنة لا غير.
وإنما كان اجتهاد الصحابة في قضايا جزئية معينة، لا في أحكام عامة، فإن هذا لم يقع من أحد من الصحابة ألبتة في حضوره صلى الله عليه وسلم.