الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التشريع في مكة:
العقيدة هي لب الأديان السماوية، والأصل الذي ترتكز عليه دعائم الشريعة، ولن يقبل الناس الشريعة إلا إذا صلحت عقيدتهم وآمنوا بالله عز وجل وبوحدانيته في ألوهيته وربوبيته، وأسمائه وصفاته، وأفعاله، واستيقنوا بعالم الغيب والدار الآخرة، وما فيها من حساب وجزاء وجنة ونار، وإذا رسخت العقيدة في النفس أمكن بناء المجتمع الذي يلتزم في حياته شرع الله في علاقته بربه، وعلاقته بالإنسان، وعلاقته بالكون والحياة، ولهذا كانت العقيدة أول ما دعا إليه الرسل:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 1.
وقد اتجه التشريع طوال العصر المكي -قرابة ثلاثة عشر عامًا- إلى إصلاح العقيدة وتعميق جذورها والحفاظ على تطهيرها، وجعل الإسلام الشهادتين "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله" عنوانا لتحقيق العقيدة. ومفتاحا يدخل به الإنسان في الإسلام وتجري عليه أحكامه.
فالشهادة بوحدانية الله تتضمن كمال العقيدة في الله وتنزيهه عما لا يليق به والشهادة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم تتضمن التصديق بالملائكة والرسل والكتب واليوم الآخر، وتقتضي وجوب المتابعة {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} 2. {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} 3.
1 الأنبياء 25.
2 البقرة:285.
3 البقرة: 177.
ومنهج الإسلام في الدعوة إلى تلك العقائد يعتمد على الحجة العقلية وذلك بلفت أنظار الناس إلى التفكير في الكون، وتدبر ما فيه من دلائل القدرة وبديع الخلق، وكيف تسير عوالمه المختلفة على نسق محكم، يدل دلالة قاطعة على وجود خالق مدبر لهذا الكون، إذ لا يتأتى أن يكون هذا الإحكام وليد الصدفة، وإذا صح الإيمان بالله تبع ذلك الإيمان بملائكته وكتبه ورسله اليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره.
والقرآن المكي بسورة وآياته يمثل هذا الاتجاه في إرشاد الناس إلى التفكير في الكون، والنظر في أرضه وسمائه، وما أودع الله فيه من أسراره، وما اشتمل عليه من دقة وإحكام، في وحدة متناسقة لا يعتريها خلل أو اضطراب، مما يوجب التصديق القلبي بوحدانية الخالق المدبر، والإيمان بأن هذا الكون سائر بتدبيره إلى الغاية التي حددها له سبحانه بعلمه وحكمته، وعندئذ يفعل به ما يشاء، مما أشارت إليه كتبه وآياته البينات، ووحيه المنزل، من ظواهر الانحلال والفناء، حيث تكون الدار الآخرة.
والقرآن الكريم في العصر المكي يعالج هذه الجوانب، فيخاطب المشركين بالمنطق الفطري في آيات قصيرة المقاطع ناصعة الحجة، تتصل اتصالا وثيقا بمظاهر بيئتهم.
{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ، أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ، قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ، بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ، أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ، وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ
1 الغاشية: 17-20.
تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ، وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ، وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ، رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} 1.
{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ}
…
الآيات2.
وإلى جانب هذا، نزل القرآن الكريم في مكة بإبطال ما توارثته الجاهلية من عقائد فاسدة وتقاليد باطلة، وحثهم على مكارم الأخلاق، وتطهير النفس، وبيَّن لهم الأصول الكلية في الحلام والحرام أمرًا ونهيًا.
فحرم وأد البنات وقتل النفس.
{وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} 6.
{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} 7، وهذا يتعلق بحفظ النفس.
1 سورة ق: 1-11.
2 النبأ: 1-5.
3 الانشقاق: 1-4.
4 الانفطار: 5.
5 التكوير: 1-14.
6 التكوير: 8، 9.
7 الأنعام: 151.
وورد المكي من القرآن بتحريم الزنا، والأمر بحفظ الفروج إلا على الأزواج أو ملك اليمين.
وهذا يتعلق بحفظ النسل.
وورد فيه تحريم الظلم، وأكل مال اليتيم، والإسراف، والبغي، ونقص المكيال أو الميزان، والفساد في الأرض، وما دار بهذا المعنى {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْط} 2.
وهذا يتعلق بحفظ المال.
وشرعت الصلاة في مكة، كما ورد الأمر بالإنفاق والإحسان، وإن لم تشرع الزكاة إلا في المدينة، وأصل مشروعية الصيام كان بمكة؛ حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ويتحنث، ثم صام يوم عاشوراء بعد الهجرة، حتى فرض صوم رمضان بالمدينة.
وهذه هي أصول العبادات.
ونهى القرآن المكي عن الذبح لغير الله، والتقرب إلى الشركاء، وندد بما حرموه على أنفسهم وخصوا به آلهتهم، وأمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه.
{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 3.
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} 4.
وهذا أصل في المطاعم.
قال الشاطبي في الموافقات:
"اعلم أن القواعد الكلية هي الموضوعة أولا، والتي نزل بها القرآن على النبي
1 المؤمنون: 5-7.
2 الأنعام: 152.
3 الأنعام: 118، وما بعدها.
4 الأنعام: 136 وما بعدها.
صلى الله عليه وسلم بمكة، ثم تبعها أشياء بالمدينة كملت بها تلك القواعد التي وضع أصلها في مكة، وكان أولها الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، ثم تبعه ما هو من الأصول العامة كالصلاة وإنفاق المال وغير ذلك، ونهى عن كل ما هو كفر أو تابع للكفر، كالإفتراءات التي افتروها من الذبح لغير الله وللشركاء الذين ادعوهم افتراء على الله، وسائر ما حرموه على أنفسهم، أو أوجبوه من غير أصل، مما يخدم أصل عبادة غير الله، وأمر مع ذلك بمكارم الأخلاق كلها، كالعدول والإحسان، والوفاء بالوعد، وأخذ العفو، والإعراض عن الجاهلين، والدفع بالتي هي أحسن، والخوف من الله وحده، والصبر والشكوى ونحوها، ونهى عن مساوئ الأخلاق من الفحشاء والمنكر، والبغي، والقول بغير علم، والتطفيف في المكيال والميزان، والفساد في الأرض، والزنا، والقتل، والوأد، وغير ذلك مما كان سائرا في دين الجاهلية.
وإنما كانت الجزئيات المشروعة بمكة قليلة، والأصول الكلية كانت في النزول والتشريع أكثر".
وكثر ذكر قصص الأنبياء في القرآن المكي؛ تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ عبرةً للمكذبين، ودعمًا لأصول الدين التي جاءت بها الرسالات السماوية؛ ليفيء المشركون إلى الله ويستجيبوا لدعوة رسوله.